26 Oct 2008
باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ فِي ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ نَبِيِّهِ
وَقَوْلِهِ: {وَأَوْفُواْ
بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا وقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيكُم كَفِيلاً إنَّ اللهَ يَعلَمُ
مَا تَفْعَلُونَ}[النَّحْلُ:91]. وَعَنْ بُرَيْدَةَ قَالَ: (كَانَ
رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى جَيْشٍ
أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ فِي خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ، وَبِمَنْ مَعَهُ
مِنَ الْمُسْلِمِينَ خَيْرًا، فَقَالَ: ((اغْزُوا
بِسْمِ اللهِ، قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللهِ مَنْ كَفَرَ بِاللهِ، اغْزُوا
وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا
وَلِيدًا، وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فَادْعُهُمْ
إِلَى ثَلاَثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلاَلٍ - فَأَيَّتُهُنَّ مَا أَجَابُوكَ
فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى الإِسْلاَمِ
فَإِنْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحَوُّلِ
مِنْ دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وَأَخْبِرْهُم أَنَّهُمْ
إِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا
عَلَى الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أَبَوْا أَنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا
فَأَخْبِرْهُمْ أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسْلِمِينَ يَجْرِي
عَلَيْهِمْ حُكْمُ اللهِ تَعَالَى، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ
وَالْفَيْءِ شَيْءٌ إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ
هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُمُ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ
مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ
وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ
تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ
ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ
وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ إِنْ تَخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وَذِمَّةَ
أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ مِنْ أَنْ تَخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ
نَبِيِّهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ
تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ،
وَلَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ فَإِنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ
فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أَمْ لاَ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ. فِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: الْفَرْقُ بَيْنَ ذِمَّةِ اللهِ وَذِمَّةِ نَبِيِّهِ، وَذِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ.
الثَّانِيَةُ: الإِرْشَادُ إِلَى أَقَلِّ الأَمْرَيْنِ خَطَرًا.
الرَّابِعَةُ: قَوْلُهُ:((قَاتِلُوا مَنْ كَفَرَ بِاللهِ)).
الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ:((اسْتَعِنْ بِاللهِ وَقَاتِلْهُمْ)).
السَّادِسَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ حُكْمِ اللهِ وَحُكْمِ الْعُلَمَاءِ.
السَّابِعَةُ: فِي كَوْنِ الصَّحَابِيِّ يَحْكُمُ عِنْدَ الْحَاجَةِ بِحُكْمٍ لاَ يَدْرِي أَيُوَافِقُ حُكْمَ اللهِ أَمْ لاَ؟
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ ما جاءَ في ذِمَّةِ اللهِ وذِمَّةِ رَسولِهِ) وقولِ اللهِ تعالَى: {وَأَوْفُوا
بِعَهْدِ اللهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ
تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللهَ
يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ}[النحل:91].
قالَ العِمادُ ابنُ كثيرٍ: (وهذا
مِمَّا يَأْمُرُ اللهُ تعالَى بهِ وهوَ الوَفاءُ بالعُهودِ
والْمَوَاثِيقِ؛ والْمُحافَظَةُ علَى الأَيْمانِ الْمُؤَكَّدَةِ؛ ولهذا
قالَ: {وَلاَ تَنقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}، ولا تَعَارُضَ بينَ هذا وقولِهِ: {وَلاَ تَجْعَلُوا اللهَ عُرْضَةً لأَِيْمَانِكُمْ}[البقرة: 224]، وبينَ قولِهِ: {ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}[المائدة: 89]، أيْ: لا تَتْرُكوها بلا تَكفيرٍ، وبينَ قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الصحيحين: ((إِنِّي
وَاللهِ إنْ شَاءَ اللهُ لاَ أَحْلِفُ عَلَى يَمينٍ فَأَرَى غَيْرَها
خَيْرًا إِلاَّ أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيرٌ مِنْهَا وَتَحَلَّلْتُها - وفي روايَةٍ: وَكَفَّرْتُ عَنْ يَمِينِي))، لا تَعارُضَ بينَ هذا كُلِّهِ وبينَ الآيَةِ المذكورةِ هنا وهيَ قَوْلُهُ: {وَلاَ تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا}؛ لأنَّ هذه الأيمانَ المرادُ بها الداخلةُ في العُهودِ والْمَواثيقِ، لا الأيْمانُ الواردةُ علَى حثٍّ أوْ مَنْعٍ، ولهذا قالَ مُجاهِدٌ في الآيَةِ: يَعْنِي الْحَلْفَ أيْ حَلْفَ الجاهليَّةِ، ويُؤَيِّدُهُ ما رواهُ الإِمامُ أحمدُ، عنْ جُبيرِ بنِ مُطْعِمٍ قالَ: قال رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ حِلْفَ فِي الإِسْلاَمِ؛ وَأَيُّمَا حِلْفٍ كَانَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ لَمْ يَزِدْهُ الإِسْلاَمُ إِلاَّ شِدَّةً))، وكذا رواهُ مسلِمٌ، ومعناهُ:
أنَّ الإِسلامَ لا يُحتاجُ معه إلَى الْحِلْفِ الذي كان أهلُ الجاهليَّةِ
يَفعلونه؛ فإنَّ في التَّمَسُّكِ بالإِسلامِ حِمَايَةً وكِفايَةً عَمَّا
كانوا فيهِ.
وقولُهُ: {إِنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ} تَهديدٌ ووَعيدٌ لِمَنْ نَقَضَ الأيْمَانَ بعدَ تَوْكِيدِها).
(2) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وعَنْ بُرَيْدَةَ
قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ إذا أَمَّرَ
أميرًا عَلَى جَيْشٍ أوْ سَرِيَّةٍ أوْصاهُ في خَاصَّتِهِ بِتقْوَى اللهِ،
وبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسلِمينَ خَيْرًا، فَقَالَ: ((اغْزُوا
بِسْمِ اللهِ، قاتِلُوا في سَبيلِ اللهِ مَنْ كفَرَ باللهِ، اغْزُوا وَلاَ
تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا، وَلاَ تقْتُلُوا
وَلِيدًا، وإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشرِكِينَ فادْعُهُمْ إلَى
ثَلاَثِ خِصَالٍ - أَوْ خِلاَلٍ - فأَيَّتَهُنَّ مَا أَجَابُوكَ فاقبَلْ
منهُمْ، وكُفَّ عنْهُم، ثُمَّ ادْعُهُمْ إلَى الإِسْلاَمِ، فإِنْ
أَجَابُوكَ فاقْبَلْ مِنْهُمْ، ثُمَّ ادْعُهُمْ إِلَى التَّحْوُّلِ مِنْ
دَارِهِمْ إِلَى دَارِ الْمُهَاجِرِينَ، وأَخْبِرْهُمْ أنَّهُم إِنْ
فَعَلُوا ذَلِكَ فَلَهُمْ مَا لِلْمُهَاجِرِينَ، وَعَلَيْهِمْ مَا عَلَى
الْمُهَاجِرِينَ، فَإِنْ أبَوْا أنْ يَتَحَوَّلُوا مِنْهَا فَأَخْبِرْهُمْ
أَنَّهُمْ يَكُونُونَ كَأَعْرَابِ الْمُسلِمِينَ، يَجْرِي عَلَيْهِمْ
حُكْمُ اللهِ تَعَالَى، وَلاَ يَكُونُ لَهُمْ فِي الْغَنِيمَةِ وَالْفَيْءِ
شَيْءٌ، إِلاَّ أَنْ يُجَاهِدُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ هُمْ
أَبَوْا فاسْأَلْهُمْ الْجِزْيَةَ، فَإِنْ هُمْ أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ
مِنْهُمْ وكُفَّ عَنْهُمْ، فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْتَعِنْ بِاللهِ
وَقَاتِلْهُمْ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ
تَجْعَلَ لَهُمْ ذِمَّةَ اللهِ وذِمَّةَ نَبِيِّهِ فَلاَ تَجْعَلْ لَهُمْ
ذِمَّةَ اللهِ وذِمَّةَ نَبِيِّهِ، وَلَكِنِ اجْعَلْ لَهُمْ ذِمَّتَكَ
وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ، فَإِنَّكُمْ إنْ تَخْفِرُوا ذِمَمَكُمْ وذِمَّةَ
أَصْحَابِكُمْ أَهْونُ مِنْ أنْ تَخْفِرُوا ذِمَّةَ اللهِ وَذِمَّةَ
نَبِيِّهِ، وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ
تُنْزِلَهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ فَلاَ تُنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِ اللهِ،
ولَكِنْ أَنْزِلْهُمْ عَلَى حُكْمِكَ، فَإنَّكَ لاَ تَدْرِي أَتُصِيبُ
فِيهِمْ حُكْمَ اللهِ أمْ لاَ))رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
قولُهُ: (عَنْ بُرَيدةَ) هوَ ابنُ الْحُصيبِ الأَسْلَمِيُّ، وهذا الحديثُ منْ روايَةِ ابنِهِ سُليمانَ عنه، قالَهُ في (الْمُفْهِمِ).
قولُهُ: (كَانَ رَسُولُ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَمَّرَ أَمِيرًا عَلَى
جَيْشٍ أَوْ سَرِيَّةٍ أَوْصَاهُ في خَاصَّتِهِ بِتَقْوَى اللهِ تَعَالَى)
فيهِ من الفِقهِ تأميرُ الأمراءِ ووَصِيَّتُهم.
قالَ الحربيُّ: (السَّرِيَّةُ: الخيلُ تَبلغُ أربعَمائةٍ ونحوَها، والجيْشُ ما كان أكثرَ منْ ذلكَ).
(وتَقْوَى اللهِ) التَّحَرُّزُ بطَاعتِهِ منْ عُقوبتِهِ. قلتُ: وذلكَ بالعملِ بما أَمَرَ اللهُ بهِ، والانتهاءِ عَمَّا نَهَى اللهُ عنه.
وقولُهُ: (فَأَيَّتَهُنَّ
مَا أَجَابُوكَ فَاقْبَلْ مِنْهُمْ وَكُفَّ عَنْهُمْ) قَيَّدْنَاهُ عَمَّنْ
يُوثَقُ بعِلْمِهِ، وتَقييدُهُ بنَصْبِ (أَيَّتَهُنَّ) علَى أن يَعْمَلَ
فيها (أَجَابُوكَ)، لا علَى إسقاطِ حَرْفِ الْجَرِّ، و(مَا) زائدةٌ، ويكونُ
تقديرُ الكلامِ: فإلَى أَيَّتِهِنَّ أَجابُوكَ فاقْبَلْ منهم، كما تَقولُ:
أجَبْتُكَ إلَى كذا أوْ في كذا، فيُعَدَّى إلَى الثاني بحَرْوفِ الجَرِّ. وقولُهُ:
(ثُمَّ ادْعُهُم إِلَى التَّحَوُّلِ مِنْ دَارِهِم إِلَى دَارِ
الْمُهَاجِرِينَ) يعني المدينةَ، وكان هذا في أَوَّلِ الأمْرِ وَقْتِ
وُجوبَ الْهِجرةِ إلَى المدينةِ علَى كلِّ مَنْ دَخَلَ في الإسلامِ، وهذا
يَدُلُّ علَى أنَّ الْهِجرةَ واجبةٌ علَى كلِّ مَنْ آمَنَ مِنْ أهلِ
مَكَّةَ وغيرِها.
قولانِ: وقالَ الشافعيُّ: (فيهِ دِينارٌ علَى الْغَنِيِّ والفقيرِ). وقـاتـِلْ يـَهـودًا والـنَّصـارَى وعـُصـْبَةَ الْ مـَجُوسِ فإنْهُمْ سَلَّمـوا الْجِزْيَةَ اصْدُدِ
قولُهُ: (وَمَنْ مَعَهُ
مِنَ الْمُسلِمينَ خَيْرًا) أيْ: ووَصَّاهُ بمَنْ معه منهم أن يَفعلَ معهم
خيرًا: مِنَ الرِّفْقِ بهم، والإِحسانِ إليهم، وخَفْضِ الْجَناحِ لهم؛
وتَرْكِ التعاظُمِ عليهم.
وقولُهُ: (اغزوا بِسْمِ اللهِ) أي: اشْرَعُوا في فِعْلِ الغزْوِ مُستعينينَ باللهِ مُخْلِصِينَ لهُ.
قلتُ: فتكونُ الباءُ في (بِسْمِ اللهِ) هنا للاستعانةِ والتوَكُّلِ علَى اللهِ.
وقولُهُ: (قاتِلوا مَنْ
كفَرَ باللهِ) هذا العُمومُ يَشمَلُ جميعَ أهلِ الكُفْرِ المحارِبينَ
وغيرَهم، وقدْ خُصِّصَ منهم مَنْ لهُ عَهْدٌ والرُّهْبَانُ والنِّسْوَانُ،
ومَنْ لم يَبْلُغ الْحُلُمَ، وقدْ قالَ مُتَّصِلاً بهِ: (وَلاَ تَقْتُلُوا
وَلِيدًا) وإنما نَهَى عنْ قَتْلِ الرُّهبانِ والنِّسوانِ؛ لأنَّهُ لا
يكونُ منهم قِتالٌ غالبًا، وإنْ كان منهم قِتالٌ أوْ تَدبيرٌ قُتِلوا.
قلتُ: وكذلكَ الذَّرَارِيُّ والأولادُ.
قولُهُ: (وَلاَ تَغُلُّوا، وَلاَ تَغْدِرُوا، وَلاَ تُمَثِّلُوا) الغُلولُ: الأخْذُ من الغَنيمةِ منْ غيرِ قِسْمَتِها.
والغَدْرُ : نَقْضُ العهدِ، والتمثيلُ هنا:
التشويهُ بالقتيلِ، كقَطْعِ أَنْفِهِ وأُذُنِهِ، والعَبَثِ بهِ، ولا
خِلافَ في تَحريمِ الغُلولِ والْغَدْرِ، وفي كَراهيَةِ الْمُثْلَةِ.
وقولُهُ: (وَإِذَا لَقِيتَ عَدُوَّكَ مِنَ الْمُشرِكينَ فَادْعُهُمْ إِلَى ثَلاَثِ خِلاَلٍ - أَوْ خِصَالٍ)) الروايَةُ بـ(أوْ) للشَّكِّ، وهوَ منْ بَعضِ الرُّواةِ، ومعنَى الْخِلالِ والْخِصالِ واحدٌ.
قلتُ: فيكونُ في ناصبِ (أَيَّتَهُنَّ) وَجهان: ذَكَرَهما الشارحُ.
الأَوَّلُ: مَنصوبٌ علَى الاشتغالِ.
قولُهُ: (ثُمَّ ادْعُهُم إِلَى الإِسْلامِ) كذا وَقَعَت الروايَةُ في جَميعِ نُسَخِ كِتابِ
(مسلمٍ) (ثُمَّ ادْعُهُمْ) بزيادةِ (ثُمَّ)، والصوابُ إسقاطُها، كما رُوِيَ في غيرِ كِتابِ (مسلمٍ) كمُصَنَّفِ أبي دَاوُدَ، وكتابِ (الأموالِ)لأبي عُبيدٍ؛ لأنَّ ذلكَ هوَ ابتداءُ تفسيرِ الثلاثِ الْخِصالِ.
قولُهُ: (فَإِنْ أَبَوْا
أَنْ يَتَحَوَّلُوا) يعني: أنَّ مَنْ أَسْلَمَ ولم يُجَاهِدْ ولم يُهاجِرْ
لا يُعْطَى من الْخُمُسِ ولا مِن الْفَيْءِ شيئًا، وقدْ أَخَذَ الشافعيُّ بالحديثِ
في الأعرابِ، فلم يَرَ لهم من الفَيْءِ شيئًا، وإنما لهم الصَّدَقَةُ
المأخوذةُ منْ أغنيائِهم فَتُرَدُّ علَى فُقرائِهم، كما أنَّ أهلَ
الْجِهادِ وأَجنادَ المسلمينَ لا حَقَّ لهم في الصَّدَقَةِ عندَهُ؛
ومَصْرِفُ كلِّ مالٍ في أَهْلِهِ.
وسَوَّى مالِكٌ وأبو حَنيفةَ بينَ المالَيْنِ، وجَوَّزَ صَرْفَهما للضعيفِ.
وقولُهُ: (فَإِنْ هُمْ أَبَوْا فَاسْأَلْهُم الجِزْيَةَ) فيهِ حُجَّةٌ لمالِكٍ وأصحابِهِ والأوزاعيِّ في أَخْذِ الْجِزْيَةِ منْ كلِّ كافرٍ، عَربيًّا كان أوْ غيرَهُ، كِتابيًّا كان أوْ غيرَهُ.
وذَهَبَ أبو حَنيفةَ إلَى أنَّها تُؤْخَذُ من الجميعِ إلاَّ مِنْ مُشْرِكِي العرَبِ ومَجُوسِهم، وقالَ الشافعيُّ: (لا تُؤخَذُ إلاَّ مِنْ أهلِ الكِتابِ عَرَبًا كانوا أوْ عَجَمًا) وهوَ قولُ الإمامِ أحمدَ في ظاهِرِ مَذهبِهِ، وتُؤْخَذُ من الْمَجُوسِ.
قلتُ: لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَها منهم، وقالَ: ((سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ)).
وقد اخْتُلِفَ في القَدْرِ المفروضِ من الْجِزْيَةِ، فقالَ مالِكٌ: (أربعةُ دنانيرَ علَى أهلِ الذهَبِ، وأربعونَ دِرهمًا علَى أهلِ الوَرِقِ).
وقالَ أبو حَنيفةَ والكوفِيُّونَ: (علَى الغَنِيِّ ثمانيَةٌ وأربعون دِرهمًا، والوَسَطِ أربعةٌ وعِشرون دِرهمًا، والفقيرِ اثنا عَشَرَ دِرْهَمًا) وهوَ قولُ أحمدَ بنِ حَنْبَلٍ.
قالَ يَحْيَى بنُ يُوسُفَ الصرصريُّ الحنبليُّ:
علَى الأدْوَنِ اثنَيْ عشْرَ دِرْهمًا افْرُضَنْ وأربــعــةًمــنْ بــــعــــدِ عــــِشـرين زَيِّدِ
لأَوْســَطـِهـمحـالاً ومـَنْ كـان مــُوســِرًا ثـمـــانـــيـــَةٌ مـــــَعْ أَربــعــيــــنَ لـتُنـــــْقَدِ
وتــَسـْقـُطُعـنْ صـِبـيـانـِهـم ونــِسـائِهـم وشــيــخٍ لــهــم فـانٍ وأَعـْمـًى ومــُقْعـَدِ
وذي الفـَقـْرِ والــمَجنونِ أوْ عبدِ مُسْلــِمٍ ومـَنْ وَجـَبـَتْمــِنـهـم عـلـيـهِ فيَهـْتـَدِي
وعندَ مالِكٍ وكافَّةِ العُلماءِ علَى الرِّجالِ الأحرارِ البالغينَ العُقلاءِ دونَ غيرِهم ؛ وإنما تُؤْخَذُ مِمَّنْ كان تَحْتَ قَهْرِ المسلمينَ لا مِمَّنْ نَأَى بِدَارِهِ، ويَجِبُ تَحويلُهم إلَى بلادِ المسلمينَ أوْ حَرْبُهم.
وقولُهُ:
(وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ) الكلامُ إلَى آخِرِهِ، فيهِ حُجَّةٌ
لِمَنْ يَقولُ من الفُقَهاءِ وأَهلِ الأصولِ: إنَّ الْمُصيبَ في مَسائلِ
الاجتهادِ واحدٌ، وهوَ المعروفُ منْ مَذْهَبِ مالِكٍ وغيرِهِ،
ووَجْهُ الاستدلالِ لأنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدْ نَصَّ
علَى أنَّ للهِ تعالَى حُكْمًا مُعَيَّنًا في الْمُجْتَهَداتِ ومَنْ
وافَقَهُ فهوَ الْمُصيبُ ومَنْ لم يُوافِقْهُ مُخْطِئٌ.
قولُهُ: (وَإِذَا حَاصَرْتَ أَهْلَ حِصْنٍ فَأَرَادُوكَ أَنْ تَجْعَلَ لَهُم ذِمَّةَ اللهِ) الحديثَ، الذِّمَّةُ:
العَهْدُ، وتُخْفِرُ: تَنْقُضُ، يُقالُ: أَخْفَرْتُ الرَّجُلَ: نَقَضْتُ
عَهْدَهُ، وخَفَرْتُهُ أَجَرْتُهُ، ومعناهُ أنَّهُ خَافَ منْ نَقْضِ مَنْ
لم يَعْرِفْ حَقَّ الوَفاءِ بالعَهْدِ، كجَهَلَةِ الأعرابِ، فكأنَّهُ
يَقولُ: إن وَقَعَ نَقْضٌ مِنْ مُتَعَدٍّ كانَ نَقْضُ عَهْدِ الْخَلْقِ
أَهونَ منْ نَقْضِ عَهْدِ اللهِ تعالَى، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: (وقولُ نافعٍ، وقدْ سُئِلَ عن الدعوةِ قبلَ القِتالِ) ذَكَرَ فيهِ: أنَّ مَذْهَبَ مالِكٍ يَجْمَعُ فيهِ بينَ الأحاديثِ في الدَّعوةِ قبلَ القِتالِ؛ قالَ: وهوَ أنَّ مالِكًا قالَ: (لا
يُقاتَلُ الكُفَّارُ قبلَ أنْ يُدْعَوْا، ولا تُلْتَمَسُ غِرَّتُهُم إلاَّ
أن يَكونُوا بَلَغَتْهم الدعوةُ، فيَجوزُ أنْ تُلْتَمَسَ غِرَّتُهم)
وهذا الذي صارَ إليهِ مالِكٌ وهوَ الصحيحُ؛ لأنَّ فائدةَ الدَّعوةِ أن
يَعْرِفَ العَدُوُّ أنَّ المسلمينَ لا يُقاتِلون للدُّنيا ولا
للعَصَبِيَّةِ، وإنما يُقاتِلونَ للدِّينِ، فإذا عَلِمُوا بذلكَ أَمْكَنَ
أنْ يكونَ ذلكَ سَببًا مُمِيلاً لهم إلَى الانقيادِ إلَى الْحَقِّ، بخِلافِ
ما إذا جَهِلُوا مَقصودَ المسلمينَ، فقدْ يَظُنُّونَ أنَّهُم يُقاتِلونُ
للممالِكِ وللدنيا فيَزِيدُونَ عُتُوًّا وبُغْضًا، واللهُ أَعلمُ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((1) المقصودُ مِن هذه التَّرْجَمَةِ البُعْدُ والحَذَرُ مِن التعرُّضِ للأَحْوالِ الَّتي يُخشَى مِنها نَقْضُ العهودِ،
والإِخلالُ بها، بعدَمَا يُجْعلُ للأعداءِ المعاهَدِين ذِمَّةُ اللهِ
وذِمَّةُ رسولِه؛ فإنَّه مَتَى وَقَعَ النَّقْضُ في هذه الحالِ كانَ
انْتِهَاكًا مِن المسلمين لذمَّةِ اللهِ وذمَّةِ نبِيِّهِ، وتَرْكًا
لتعظيمِ اللهِ، وارْتِكَابًا لأكبرِ المفسدَتَيْنِ كما نبَّه عليْهِ صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وفي ذلِكَ أيضًا تهوينٌ للدينِ والإِسلامِ،
وتزهيدٌ
للكفَّارِ بِهِ، فإنَّ الوَفَاءَ بالعهودِ خصوصًا المُؤَكَّدَةَ بأَغْلَظِ
المواثيقِ مِن مَحَاسِنِ الإِسلامِ الداعِيَةِ للأعداءِ المُنْصِفِين إلى
تفضيلِهِ واتِّباعِهِ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ((1) قولُه: (ذمَّةِ اللهِ وذمَّةِ نبيِّه صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) الذِّمَّةُ: العهدُ، وسُمِّي بذلك؛ لأنَّه يُلتزَمُ به كما يَلْتَزِمُ صاحبُ الدَّينِ بدينِهِ في ذمِّتِهِ.
واللهُ له عهدٌ على عبادِهِ: أن يعبدوه ولا يُشْرِكُوا به شيئاً.
وللعبادِ عهدٌ على اللهِ، وهو: أن لا يعذِّبَ مَن لا يُشرِكُ به شيئاً، قال اللهُ تعالى:
{وَلَقَدْ
أَخَذَ اللهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثْنَيْ
عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ اللهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ
الصَّلاَةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي
وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً} فهذا عهدُ اللهِ عليهم، ثمَّ قال: {لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأَُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ} وهذا عهدُهُم على اللهِ. قولُه: {وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ}
وللنَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم عهدٌ على الأمَّةِ وهو أن
يَتَّبِعوه في شريعتِهِ ولا يبتدعوا فيها، وللأمَّةِ عليه عهدٌ وهو أن
يبلّغَهُم ولا يكتُمَهُم شيئاً.
قولُه: {إِذَا عَاهَدتُمْ} فائدتُهَا التَّوكيدُ والتَّنبيهُ على وجوبِ الوفاءِ، أيْ: إذا صدَرَ منْكم العهدُ فإنَّه لا يليقُ منكم أنْ تَدَعُوا الوفاءَ ثمَّ أكَّدَ ذلك بقولِهِ: {وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} نقضُ الشَّيءِ هو حَلُّ إحكامِهِ، وشبَّه العهدَ بالعُقدةِ؛ لأنَّه عَقْدٌ بينَ المتعاهدين. واضحةٌ جدّاً؛ لأنَّ اللهَ قال: {أَوْفُواْ بِعَهْدِ اللهِ} وقال: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} والعهدُ: الذِّمَّةُ.
قولُه: (أو سَرِيَّةٍ) هذه
ليسَتْ للشَّكِّ، بلْ للتَّنويعِ؛ فإنَّ الجيشَ ما زادَ على أربعِمائةِ
رجلٍ، والسَّرِيَّةَ ما دونَ ذلِكَ. الأول: قسمٌ يُنفَذُ مِن البلدِ، وهذا ظاهِرٌ ويُقَسَّمُ ما غَنِمَه كقسمةِ ما غَنِمَ الجيشُ.
وهذا الذي تُعطَاهُ السَّرِيَّتان راجعٌ إلى اجتهادِ الإمامِ؛ إن شاءَ أعْطَى وإنْ شاءَ مَنَعَ، حسبَمَا تقتضيه المصلَحَةُ.
قولُه: (بِتقْوى اللهِ) التَّقوى هي: امتثالُ أوامرِهِ واجتنابُ نواهيه على علمٍ وبصيرةٍ، وهي مأخوذةٌ من الوقايةِ، وهي اتّخاذُ وقايةٍ من عذابِ اللهِ، وذلك لا يكونُ إلا بفعلِ الأوامرِ واجتنابِ النَّواهي، وقالَ بعضُهُم:(التَّقوى:
أن تعملَ بطاعةِ اللهِ على نورٍ من اللهِ ترجو ثوابَ اللهِ، وأن تتركَ ما
نهى عنه اللهُ على نورٍ من اللهِ تخشى عقابَ اللهِ).
- ويَحتملُ أنَّه أراد أن يفتتحَ الغزوَ باسمِ اللهِ.
والعملُ أن يكونَ الغزوُ في إطارِ دينِهِ وشريعتِهِ، فيكونُ حسْبَمَا رسمَه الشَّارِعُ. - الجحودِ.
قولُه: (وَلا تَغُلُّوا) الغُلولُ: أن يكتُمَ شيئاً من الغنيمةِ يختصُّ به، وهو من كبائرِ الذّنوبِ، قالَ تعالى: {وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} أي: معذَّباً به فهو يعذَّبُ بما غلَّ يومَ القيامةِ ويُعزَّرُ في الدنيا. الحالُ الأولى: أن لا يكونَ بينَنا وبينَهم عهدٌ؛فيجبُ قتالُهم بعدَ دعوتِهم إلى الإسلامِ وإبائِهم عنه وعن بذلِ الجزْيةِ، بشرطِ قدرتِنا على ذلك.
ووردَ في أحاديثَ أخرى:
أَنَّه لا يُقتَلُ راهِبٌ ولا شَيْخٌ فانٍ ولا امْرَأةٌ، إلا أن يقاتِلوا،
أو يُحَرِّضوا على القتالِ، أو يكونَ لهم رأيٌ في الحربِ كما قُتِلَ دُرَيدُ بنُ الصِّمَّةِ في غزوةِ ثَقيفٍ مع كِبَرِهِ وعماه.
قولُه: (خصالٍ -أَوْ خِلال-) بمعنًى واحدٍ، وعليه فـ(أو) للشَّكِّ في اللَّفْظِ ، والمعنى لا يتغيرُ. فعندَ الإمامِ أحمدَ لهم حقٌّ في الفيءِ مطلقاً، ولهم حقٌّ في الغنيمةِ إن جاهدوا.
والقاعدةُ عندَنا إذا اختلَفَ النَّحويُّون في مسألةٍ: أن نتَّبعَ الأسهلَ ، والأسهلُ -هنا- إعرابُ الكوفيِّين.
قولُه: (الجِزْية) (فِعْلةٌ) من (جَزَى، يَجزي) وظاهرٌ فيها أنَّها مكافأةٌ على شيءٍ، وهي: عبارةٌ عن مالٍ مدفوعٍ من غيرِ المسلمِ عوضاً عن حمايتِهِ وإقامتِهِ بدارِنَا.
وقيلَ: {عَنْ يَدٍ}أنْ يعطيَكَ إيَّاه فتأخذَهَا بقوَّةٍ بأن تجرَّ يدَهُ حتَّى يتبيَّنَ له قوَّتُك، وهذا لا حاجةَ إليه.
قولُه: (فاستَعِنْ باللهِ
وقاتِلْهُم) بَدَأ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم بطلبِ العونِ من
اللهِ؛ لأنَّه إذا لم يُعِنْك في جهادِ أعدائِهِ فإنَّك مخذولٌ، والجملةُ
جوابُ الشرطِ.
وقد أخبَر النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أنَّه ما من نبيٍّ إلا كان حقّاً عليه أن يدُلَّ أمَّتَه على ما هو خيرٌ.
والمرادُ بالعهدِ هنا: ما
يكونُ بينَ المتعاقدين في العهودِ كما كانَ بينَ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وسلَّمَ وأهلِ مكَّةَ في صلحِ الحديبيةِ.
(2) قولُه: {وَأَوْفُواْ}أمرٌ من الرُّباعيِّ من (أوْفى: يُوفي) والإيفاءُ إعطاءُ الشَّيءِ تامّاً، ومنه إيفاءُ المكيالِ والميزانِ.
قولُهُ: {بِعَهْدِ اللهِ}
يصلُحُ أن يكونَ من بابِ إضافةِ المصدرِ إلى فاعلِهِ أو إلى مفعولِهِ، أي:
بِعَهدِكم اللهَ، أو بعهدِ اللهِ إيَّاكُم؛ لأنَّ فاعلَ الفعلِ يقتضي
المشاركةَ من الجانبيْن مثلَ قاتلٍ ودافعٍ.
قولُه: {بَعْدَ تَوْكِيدِهَا} توكيدُ الشَّيءِ بمعنى تثبيتِهِ، والعهودُ تُوَكَّدُ، يُقالُ: (وَكَّدَ الأمرَ وأَكَّده تأكيداً وتَوْكِيداً) والواوُ أفصحُ من الهمزةِ.
قولُهُ: {وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً} الجملةُ حاليَّةٌ فائدتُهَا قوَّةُ التَّوبيخِ على نقضِ العهدِ واليمينِ.
ووجهُ جعلِ اللهِ كفيلا ً: أنَّ الإنسانَ إذا عاهدَ غيرَهُ قالَ: أُعاهِدُكَ باللهِ، أيْ: أنَّه جعلَ اللهَ عليه كفيلاً.
(3) قولُه: (إذا أَمَّرَ) أيْ: جَعَلَه أميراً، والأميرُ في صدرِ الإسلامِ يتولَّى التَّنفيذَ والحكمَ والفتوى والإِمَامةَ.
الثالث: قسمٌ يُنفذُ في الرَّجعةِ وذلك بعدَ رجوعِ الجيشِ.
وقد
فرَّقَ العلماءُ بينَهما من حيثُ الغنيمةُ، فلسريَّةِ الابتداءِ الرُّبُعُ
بعدَ الْخُمُسِ؛ لأنَّ الجيشَ وراءها فهو رِدْءٌ لها وسيلحقُ بها،
ولسريَّةِ الرَّجعةِ الثُّلثُ بعدَ الخمسِ، لأنَّ الجيشَ قد ذهب عنها
فالخطرُ عليها أشدُّ.
وهذه التَّعريفاتُ كلُّها تؤدِّي معنىً واحداً.
وأجمعها أن يقال هي: اتخاذ العبد وقاية بامتثال خطاب الشرع وكانَت
الوصيَّةُ بالتَّقوى لأميرِ الجيشِ؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ الأميرَ يكونُ معه
ترفُّعٌ يُخْشَى منه أن يُجانِبَ الصَّوابَ من أجلِهِ، ولأنَّ تقواه سببٌ
لتقوى مَن تحتَ ولايتِهِ.
قولُه: (وبِمَنْ مَعَهُ مِنَ الْمُسْلِمينَ خَيْراً) أي: أوصاه أن يعملَ بِمَن معه من المسلمين خيراً
في أمورِ الدّنيا والآخرةِ، فيسلُكَ بهم الأسهلَ ويطلُبَ لهم الأخْصبَ إذا
كانوا على إبلٍ أو خيلٍ، ويمنَعَ عنهم الظّلمَ، ويأمرَهم بالمعروفِ
وينهاهم عن المنكرِ، وغيرَ ذلك ممَّا فيه خيرُهُم في الدُّنيا والآخرةِ.
ويُستفادُ من هذا الحديثِ: أنَّه يَجِبُ على مَن تولَّى أمراً من أمورِ المسلمين أن يَسْلُكَ بهم الأخيَرَ، بخلافِ عملِ الإنسانِ بنفسِهِ فإنَّه لا يُلزَمُ إلا بالواجبِ.
والأوَّلُ أظهرُ، والثَّاني أيضاً محتمِلٌ؛ لأنَّ بعثَ الجيوشِ من الأمورِ ذاتِ البالِ ، وكلُّ أمرٍ لا يُبدأُ فيه باسمِ اللهِ فهو أبترُ.
قولُه: (في سَبِيلِ اللهِ) متعلّقٌ بـ (اغزوا) وهو تنبيهٌ من الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم على حسنِ النِّيةِ والقصدِ؛
لأنَّ الغُزَاةَ لهم أغراضٌ، ولكنَّ الغزوَ النَّافعَ الَّذي تحصُلُ به
إحدى الْحُسْنَيين ما كان خالصاً للهِ، وذلك بأن يقاتلَ لتكونَ كلمةُ اللهِ
هي العليا لا لِحَمِيَّةٍ أو شجاعةٍ أو لِيُرَى مكانُهُ أو لطلبِ دنيا.
فإنْ قاتَلَ لأجلِ الوطنِ: فمَن
قاتَلَ؛ لأنَّه وطنٌ إسلاميٌّ تجبُ حمايتُهُ وحمايةُ المسلمين فيه فهذه
نيَّةٌ إسلاميَّةٌ صحيحةٌ، وإن كان للقوميَّةِ أو الوطنيَّةِ فقط فهو
حميَّةٌ، وليس في سبيلِ اللهِ.
قولُه: (قاتِلوا مَنْ كفَرَ باللهِ) قاتلوا:فعلُ أمرٍ وهو للوجوبِ، أي: يجبُ علينا أن نقاتلَ مَن كفرَ باللهِ، قالَ تعالى: {يأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}.
- وقالَ تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ} فإذا قاتَلْنَا الَّذين يلونَنَا فأسلَموا نقاتِلُ مَن وراءَهم، وهكذا إلى أنْ نَخلُصَ إلى مشارقِ الأرضِ ومغارِبِها.
أي: استكبارٍ عن طاعتِهِ، أو جحودٍ لما يجبُ قبولُهُ وتصديقُهُ.
قولُه: (اغزوا) تأكيدٌ، وأتى بها ثانيةً كأنَّه يقولُ: لا تَحْقِروا الغزوَ واغْزُوا بجدٍّ.
قال أهلُ العلمِ:
(يُعَزَّرُ الغالُّ بإحراقِ رَحلهِ كلِّهِ إلا المصحفَ لِحُرمتِهِ،
والسّلاحَ لفائدتِهِ، وما فيه روحٌ؛ لأنَّه لا يجوزُ تعذيبُهُ بالنَّارِ).
قولُه: (ولا تَغدِروا) الغدرُ الخيانةُ،
وهذا هو الشَّاهدُ من الحديثِ، وهذا إذا عاهَدْنا فإنَّه يحرُمُ الغدرُ،
أمَّا الغدرُ بلا عهدٍ فلنا ذلك؛ لأنَّ الحربَ خُدعةٌ، وقد ورد أنَّ عليَّ بنَ أبي طالبٍ خَرَج إليه رَجُلٌ مِنَ الْمُشرِكين لِيُبارِزَهُ فلمَّا أقبل الرّجلُ على عليٍّ قال عليٌّ: ما خَرَجْتُ لأُبارزَ رَجُلين، فالتفت المشركُ يظنُّ أنَّه جاء أحدٌ من أصحابِهِ ليساعدَه فقتلَهُ عليٌّ رَضِيَ اللهُ عَنْه.
الحالُ الثالثةُ: أنْ يكونَ بينَنَا وبينَهُم عهدٌ نخافُ خيانَتَهم فيه،فهنا يجبُ أنْ نَنبِذَ إليهم العهدَ ونخبرَهم أنَّه لا عهدَ بينَنا وبينَهم؛ لقولِه تعالى: {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانْبُذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْخَائِنِينَ} قولُه: (ولا تُمثِّلوا) التَّمثيلُ: التَّشويهُ بقطعِ بعضِ الأعضاءِ، كالأنفِ واللِّسانِ وغيرِهِما، وذلك عندَ أسْرِهِم؛ لأنَّه لا حاجةَ إليه، لأنَّه انتقامٌ في غيرِ محلِّه.
قولُه: (وَلا تَقْتُلوا وَلِيداً) أي: لا تَقْتُلُوا صغيراً؛ لأنَّه لا يقاتِلُ، ولأنَّه ربَّما يسلِمُ.
واسْتُدِلَّ بهذا الحديثِ
أنَّ القتالَ ليس لأجلِ الإسلامِ ولكنَّه لحمايةِ الإسلامِ بدليلِ أنَّنا
لا نقتُلُ هؤلاء، ولو كانَ من أجلِ الإسلامِ لقتلْنَاهُم إذا لم يسلِموا،
ورجَّحَ شيخُ الإسلامِ هذا القولَ، وله رسالةٌ في ذلك اسمُهَا (قِتالُ الكُفَّارِ).
قولُه: (وإذا لَقِيتَ
عدوَّكَ) أي: قابلتَهُ أو وجدْتَه، وبدأ بذكرِ العداوةِ تَهييجاً
لقتالِهِم؛ لأنَّك إذا علمتَ أنَّهم أعداءٌ لك فإنَّ ذلك يدعوك إلى
قتالِهِم، ولهذا قالَ تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} وهذا أبلغُ من قولِهِ في آيةٍ أخرى: {لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ} لكنْ خَصَّ في هذه الآيةِ باليهودِ والنصارى؛ لأن المقامَ يقْتَضيه.
والعدوُّ ضدُّ الوليِّ، والوليُّ مَن يتولَّى أمورَكَ ويعتني بك بالنَّصرِ والدِّفاعِ وغيرِ ذلكَ، والعدوُّ يخذُلُكَ ويبتعدُ عنك ويعتدي عليكَ ما أمكنهُ.
قولُه: (فأَيَّتُهُنَّ ما أجابوكَ) (أيتهنَّ) اسمُ شرطٍ مبتدأٌ، (ما) زائدةٌ وهي تُزادُ بالشَّرطِ تأكيداً للعمومِ، كقولِهِ تعالى: {أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى}
والكافُ مفعولٌ به، والعائدُ إلى اسمِ الشَّرطِ محذوفٌ، والتَّقديرُ:
فأيَّتُهنَّ ما أجابوك إليه فاقبَلْ منهم وكُفَّ عنهم، فلا تقاتِلْهُم.
قولُهُ: ((ثمَّ ادعُهُمْ))((ثمَّ)) زائدةٌ كما في روايةِ أبي داودَ، ولأنَّه
ليس لها معنىً، ويمكنُ أن يُقالَ: إنَّها ليسَتْ مِن كلامِ الرَّسولِ
صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم بل مِن كلامِ الرَّاوي، على تقديرِ:(ثمَّ قالَ ادعُهُم).
وقولُه: (إلى الإِسلامِ)
أي: المتضمِّنِ للإيمانِ؛ لأنَّه إذا أُفرِدَ شَمِلَ الإيمانَ، وإذا اجتمعا
افترَقَا كمَا فرَّقَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ بينَهما في
حديثِ جبريلَ.
والإيمانُ عند أهلِ السُّنّةِ تدخُلُ فيه الأعمالُ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((الإِيمانُ
بِضْعٌ وَسَبْعونَ شُعْبَةً، أَعْلاها قَوْلُ لا إلَهَ إلاّ اللهُ،
وَأَدْناها إِمَاطَةُ الأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ، وَالْحَياءُ شُعْبَةٌ مِنْ
الإِيمانِ)).
فإن أجابوا للإسلامِ فهذا ما يريدُهُ المسلمون، فلا يحِلُّ لنا أنْ نُقَاتِلَهُم ولهذا قال النَّبِيُّ صلَّى اللهُ علَيْه وسَلَّمَ: ((فَاقْبَلْ مِنْهم)).
قولُه: (ثُمَّ ادْعُهُم
إلى التّحوُّلِ مِنْ دارِهِم إلى دارِ الْمُهاجرِينَ) هذه الجملةُ تشيرُ
إلى أنَّ الَّذين قُوتِلوا أهلُ باديةٍ فإذا أسْلَمُوا طَلَبَ منهم أن
يتحوَّلوا إلى ديارِ المهاجرين ليتعلَّمُوا دينَ اللهِ؛ لأنَّ الإنسانَ في
باديتِهِ بعيدٌ عن العلمِ، قالَ تعالَى: {الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ} وهذا أصلٌ في تَوْطينِ البَوَادي.
وقولُه: (إِلى دارِ الْمُهاجرِينَ) يحتمِلُ أنَّ المرادَ بها العينُ، أي: المدينةُ،
ويحتمِلُ أنَّ المرادَ بها الجنسُ، أي: الدَّارُ الَّتي تصلُحُ أن
يُهاجَرَ إليها لكونِهَا بلدَ إسلامٍ، سواءٌ كانَت المدينةَ النبويَّةَ أو
غيرَهَا.
ويُقوِّي الاحتمالَ الثَّانِيَ -وهو أنَّ المرادَ بها الجنسُ- أنه لو كانَ المرادُ المدينةَ لكانَ الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم يعبِّرُ عنها باسمِهَا، ولا يأتي بالوصفِ العامِّ.
ويُقوِّي الاحتمالَ الأوَّلَ أنَّ دارَ المهاجرين الأولى هي المدينةُ، والظَّاهرُ الاحتمالُ الثَّاني.
قولُه: (فَلَهُمْ مَا
لِلمُهاجِرينَ، وعَلَيهِم مَا عَلَى الْمُهاجِرينَ) وهذا تمامُ العدلِ، ولا
يُقالُ: إنَّ الحقَّ لصاحبِ البلدِ الأصليِّ، فلهم ما للمهاجرين من
الغنيمةِ والفيءِ، وعليهم ما عليهم من الجهادِ والنُّصرةِ.
قولُه: (وَلا يَكُونُ
لَهُمْ في الغَنيمةِ وَالفَيْءِ شَيءٌ إِلا أَنْ يُجَاهِدوا مَعَ
الْمُسلمينَ) يعني: إذا لم يتحوَّلُوا إلى دارِ المهاجرين فليسَ لهم في
الغنيمةِ من شيءٍ، والغنيمةُ: ما أُخِذَ من أموالِ الكفَّارِ بقتالٍ أو ما أُلْحِقَ به، والفيءُ ما يُصْرَفُ لبيتِ المالِ، كخُمُسِ خُمُسِ الغنيمةِ، والجزيةِ، والخَراجِ، وغيرِها.
وقولُه: (إِلاّ أَنْ يُجَاهِدوا مَعَ الْمُسلمينَ) يفيدُ أنَّهم إنْ جاهدوا مع المسلمين استحقُّوا من الغنيمةِ ما يستحِقُّه غيرُهم.
فـإذا أسلموا فلهم ثلاثُ مراتبَ:
الأولى: التَّحوُّلُ إلى دارِ المهاجرين، وحينَئذٍ يكونُ لهم ما للمهاجرين وعليهم ما على المهاجرين.
الثانية: البقاءُ في أماكنِهِم معَ الجهادِ فلهم مَا للمُجاهِدين من الغنيمةِ،وفي الفيءِ الخلافُ.
الثالثة: البقاءُ في أماكنِهِم معَ تركِ الجهادِ، فليسَ لهم من الغنيمةِ والفيءِ شيءٌ.
قولُه:
(فإنْ هُم أبَوا) (هم) عندَ البصريِّينَ توكيدٌ للفاعلِ المحذوفِ مع فعلِ
الشّرطِ، والتَّقديرُ: فإن أَبَوْا هُمْ، وعندَ الكوفيّين: مبتدأٌ خبرُهُ
الجملةُ بعدَهُ.
والذِّميُّ معصومٌ مالُهُ ودمُهُ وذريَّتُهُ مقابلَ الجزيةِ، قالَ تعالى: {حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} أيْ:يسلِّموها بأيديهم، لا يُقبَلُ أن يُرسِلَ بها خادمَهُ أو ابنَهُ، بل لا بدَّ أن يأتيَ بها هو.
قولُه: (وإذا حاصَرْتَ أهْلَ حِصْنٍ فأرادوكَ) الحصرُ: التَّضييقُ، أيْ: طوَّقتَهُم وضيَّقْتَ عليهم بحيثُ لا يخرجون من حصنِهِم ولا يدخلُ عليهم أحدٌ.
والحِصنُ : كلُّ ما يُتَحَصَّنُ به من قصورٍ، أو أحواشٍ وغيرِهَا.
قولُه: (فلا تَجْعلْ لهُم ذِمَّةَ اللهِ وذمَّةَ نبيِّهِ) الذِّمَّةُ: العهدُ، فإذا
قالَ أهلُ الحِصنِ المحاصَرُون: نريدُ أنْ ننزِلَ على عهدِ اللهِ
ورسولِهِ، فإنَّه لا يجوزُ أن يُنْزِلَهُم على عهدِ اللهِ ورسولِهِ،
وعلَّلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم ذلك بقولِه: ((فإنَّكم أَنْ تُخْفِروا ذِمَمَكُم وَذِمَّةَ أَصْحَابِكُمْ أَهْوَنُ..)).
قولُه: (أَهْوَنُ مِنْ أنْ تُخفِروا ذِمَّةَ اللهِ وذِمَّةَ نبيِّهِ) لأنَّ الغدرَ بذمَّةِ اللهِ وذمَّةِ نبيِّهِ أعظم.
وقولُه: (أهْوَنُ) من بابِ اسمِ التَّفضيلِ الَّذي ليس في الْمُفَضَّلِ ولا في المفضَّلِ عليه شيءٌ من هذا المعنى؛
لأنَّ قولَهُ: (أَهْوَنُ) يقتضي اشتراكَ المفضَّلِ والمفضَّلِ عليه
بالهونِ، والأمرُ ليس كذلك؛ لأنَّ إخفارَ الذِّممِ سواءٌ كان لذمَّةِ اللهِ
وذمَّةِ رسولِهِ، أو ذمَّةِ المجاهدين ، كلُّهُ ليس بهيِّنٍ، بل هو صعْبٌ،
لكنَّ الهونَ هنا نسبيٌّ وليسَ على حقيقتِهِ.
فهنا أرادوا أنْ
يَنْزِلُوا على العهدِ بدونِ أن يُحْكَمَ عليهم بشيءٍ بل يُعاهَدون على
حمايةِ أموالِهِم وأنفسِهِم ونسائِهِم وذريَّتِهِم فنعطيهم ذلك.
وقولُه: (وإذا حَاصَرْتَ) أي: ضَرَبْتَ حِصَاراً.. بِمَنْعِهِم مِن الخروجِ مِن مكانِهِم.
قولُه:
(ولَكِن أَنزِلْهم على حُكْمِكَ) فإذا أرادوا أن يَنْزِلوا على حكمِ اللهِ
وحكمِ رسولِهِ، فإنَّهم لا يُجابون؛ فإنَّا لا ندري أنصيبُ فيهم حكمَ
اللهِ أم لا؟
وقال: (أَنزِلْهم على حُكْمِكَ) ولم يقُلْ: وحكمِ أصحابِكَ؛ لأنَّ الحكمَ في الجيشِ أو السَّريَّةِ للأميرِ، وأمَّا الذِّمَّةُوالعهدُ فهي من الجميعِ، فلا يحِلُّ لواحدٍ من الجيشِ أن ينقُضَ العهدَ.
وقولُه: (لا تَدري) أيْ: لاَ تعلَمُ أتصيبُ فيهم حكمَ اللهِ أم لا؟ وذلك لأنَّ الإنسانَ قد يخطِئُ حكمَ اللهِ تعالى.
والفرقُ أنَّه جَعلَ ذمَّةَ اللهِ وذمَّةَ نبيِّه للمُحاصَرِين مُحرَّمةً، جعَل ذمَّةَ المحاصِرين -بكسر الصادِ- ذمَّةً جائزةً.
(5) الثانيةُ: (الإرشادُ إلى أقَلِّ الأمرينِ خطراً) لقولِه: ((وَلَكِن اجْعَلْ لهم ذمَّتَكَ وَذِمَّةَ أَصْحَابِكَ..)) إلخ، وهذه قاعدةٌ مهمَّةٌ، وتُقالُ على وجهٍ آخرَ وهو: ارتكابُ أدنى الْمَفْسَدَتَيْنِ لدفعِ أعلاهما، وقد دلَّ عليها الشَّرعُ، قالَ تعالى: {وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللهِ فَيَسُبُّواْ اللهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ} فسبُّ آلهةِ المشركين مطلوبٌ، لكن إذا تضمَّنَ سبَّ اللهِ -عزَّ وجلَّ- صار منهيّاً عنه؛ لأنَّ سبَّ اللهِ أعظمُ من السُّكوتِ عن سبِّ آلهتِهِم، وإن كانَ في هذا السُّكوتِ شيءٌ من المفسَدَةِ، ولكن نَسْكُتُ؛ لئلاَّ نَقَعَ في مفسدةٍ أعظمَ، وأيضاً العقلُ دلَّ عليها.
وفيه قاعدةٌ مقابلةٌ وهي: جلبُ أعلى المصلحتين بتركِ أدناهما، فإذا اجتمعَتْ مصلحتان فخُذْ بأعلاهما، وإذا اجتمعَتْ مفسدتان فخذْ بأدناهما.الأول: أنَّ حكمَ اللهِ مصيبٌ بلا شكٍّ،وحكمَ العلماءِ قد يُصيبُ وقد لا يُصيبُ.
الثاني: تنزيلُ
أهلِ الحصنِ على حكمِ اللهِ ممنوعٌ، إمَّا في عهدِ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وسلَّمَ فقطْ أَوْ مُطلَقاً، وأمَّا على حكمِ العلماءِ ونحوِه فهو
جائِزٌ.
(10) السابعةُ:في كونِ الصَّحابيِّ يَحْكُمُ عندَ الحاجةِ بحكمٍ لا يَدْرِي أَيُوافِقُ حكمَ اللهِ أم لا؟ وهذا ليسَ خاصّاً بالصَّحابةِ، بل حتَّى مَنْ بعدَهُم؛ فإنَّ له أن يَحْكُمَ بما يَرَى أنَّه حكمُ اللهِ عندَ الحاجةِ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (هذا بابٌ عظيم من الأبواب الأخيرة في هذا الكتاب، وهو
باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه صلى الله عليه وسلم - وفي سؤاله. - وأنْ لا يخفر عهده وذمته. - وقال جل وعلا: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود} فالعقد والعهد بمعنى، فلهذا فسر: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم} بأنها العقود التي تكون بين الناس.
فإن تعظيم الله جل وعلا في:
- مناجاته.
- وفي التعامل مع الناس.
هذا كله من كمال التوحيد، وهذا الباب من جهة التعامل مع الناس، كما جاء في الباب الذي قبله؛ فالباب الذي قبله وهو
(باب ما جاء في كثرة الحلف) متعلق بتعظيم الله جل وعلا، حين التعامل مع الناس، و(باب ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه) متعلق بالتعامل مع الناس، في الحالات العسرة الصعبة، وهي حال الجهاد،
فنبّه بذلك على أنَّ تعظيم الرب جل وعلا، يكون في التعامل، ولو كان ذلك
التعامل في أعصب الحالات وهي الجهاد، فإن العبد يكون موقراً لله، مجلاًّ
لله معظماً؛ لأسمائه وصفاته.
ومن ذاك أن يعظم ذمة الله،
وذمة نبيه، والذمة بمعنى العهد، وذمة الله يعني عهد الله وعهد نبيه، فإنه
إذا كان يعطي بعهد الله، ثم يخفر؛ فقد خفر عهد الله جل وعلا، وفَجَرَ في
ذلك، وهذا مناف لكمال التوحيد الواجب؛ لأن الواجب على العبد:
- أنْ يُعظم الله جل جلاله.
لهذا كان إعطاء مثل هذه
الكلمة مثل: كثرة الحلف، فلا يجوز أنْ تجعل في العهد ذمة الله، وذمة نبيه
صلى الله عليه وسلم، كما لا يجوز كثرة الأيمان؛ لأن في كل منهما نقصاً في
تعظيم الرب جل جلاله.
قال: وقوله تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها} العهد في قوله: {وأوفوا بعهد الله}فُسِّر بالعقد، وفسر باليمين، فالعهد بمعنى العقد، كما قال جل وعلا: {وأوفوا بالعهد إنَّ العهد كان مسؤولاً}.
- ومقام أولياء الله الصالحين.
فأنْ يتعلم طالب العلم مسائل التوحيد، ثم لا تظهر على لسانه، أو على جوارحه، أو على تعامله، لا شك أن هذا يرجع ولو لم يشعر، يرجع إلى اتهام ذلك الذي حمله من التوحيد، أو من العلم الذي هو علم الأنبياء والمرسلين عليهم الصلاة والسلام.- أنك تحمل سُنَّة.
- تحمل توحيداً.
العناصر
مناسبة باب (ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه) لكتاب التوحيد
شرح ترجمة الباب (ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه)
- بيان عهد الله على عباده، وعهد العباد على الله
- بيان عهد الرسول على الأمة، وعهد الأمة على الرسول
تفسير قوله تعالى: (وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها...)الآية
- مناسبة قوله تعالى: (وأوفوا بعهد الله...) لباب (ما جاء في ذمة الله وذمة نبيه)
شرح حديث بريدة رضي الله عنه: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أمر أميراً ...)
- معنى قوله: (إذا أمر أميرا على جيش أو سرية أوصاه بتقوى الله)
- أقسام السرايا
- معنى قوله: (وبمن معه من المسلمين خيراً)
- معنى قوله: (اغزوا في سبيل الله، قاتلوا من كفر بالله)
- معنى الغلول، والغدر، والتمثيل في قوله: (ولا تغلوا، ولا تمثلوا، ولا تغدروا)
- بيان المنهي عن قتلهم من الكفار
- معنى قوله: (وإذا لقيت عدوك)
- معنى قوله: (فأيتهن ما أجابوك فاقبل منهم، وكف عنهم)
- التحقيق في زيادة (ثم) في قوله: (ثم ادعهم إلى الإسلام)
- بيان أن الإسلام إذا أفرد دخل فيه الإيمان، وأن الأعمال من الإيمان
- حكم قتال الكفار قبل أن يدعوا
- إعراب قوله: (فإن هم)
- معنى قوله: (ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين)، وبيان أن الهجرة واجبة
- معنى قوله: (فلهم ما للمهاجرين، وعليهم ما على المهاجرين)
- الخلاف في إعطاء المجاهد من الصدقة، ومن لم يهاجر أو يجاهد من الفيء والخمس
- الفرق بين سؤال الإعطاء، وسؤال الاستفهام
- معنى الجزية
- ممن تؤخذ الجزية؟
- حكم من يدفع الجزية، ومعنى قوله تعالى: (حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون)
- الخلاف في مقدار الجزية
- معنى قوله: (فاستعن بالله وقاتلهم)
- معنى قوله: (فأرادوك أن تجعل لهم ذمة الله، وذمة نبيه، فلا تجعل لهم...) الحديث
- معنى الحصار، والحصن
- معنى قوله: (أرادوك)
- الحكمة من النهي عن إعطاء ذمة الله وذمة رسوله
- بيان أحوال العهود التي بيننا وبين الكفار، وحكم كل حالة
- الخلاف في الحكمة من النهي عن إنزالهم على حكم الله وحكم رسوله، وما يترتب عليه
- معنى قوله: (ولكن أنزلهم على حكمك)
- وجه الاقتصار على قوله: (أنزلهم على حكمك)، ولم يقل: وحكم أصحابك
- وجه الدلالة من قوله: (فإنك لا تدري أتصيب حكم الله فيهم أم لا؟) على أن المصيب في مسائل الاجتهاد واحد
شرح مسائل باب (ما جاء في ذمة الله، وذمة نبيه)