26 Oct 2008
باب ما جاء في كثرة الحلف
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ فِي كَثْرَةِ الْحَلِفِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ}[الْمَائِدَةُ:89].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ، مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ)) أَخْرَجَاهُ. فِيهِ مَسَائِلُ:
وَعَنْ سَلْمَانَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((ثَلاَثَةٌ
لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ؛
أُشَيْمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ
بِضَاعَتَهُ؛ لاَ يَشْتَرِي إِلاَّ بِيَمِينِهِ وَلاَ يَبِيعُ إِلاَّ
بِيَمِينِهِ)) رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ.
وَفِي (الصَّحِيحِ) عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، قَالَ عِمْرَانُ:
فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ
إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ،
وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيَنْذُرُونَ وَلاَ يُوفُونَ،
وَيَظْهَرُ فِيهِمُ السِّمَنُ)).
وَفِيهِ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((خَيْرُ
النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُمْ، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ شِهَادَةُ أَحَدِهِمْ
يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)).
قَالَ إِبْرَاهِيمُ: (كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ وَنَحْنُ صِغَارٌ).
الأُولَى: الْوَصِيَّةُ بِحِفْظِ الأَيْمَانِ.
الثَّانِيَةُ: الإِخْبَارُ بِأَنَّ الْحَلِفَ مَنْفَقَةٌ لِلسِّلْعَةِ مَمْحَقةٌ لِلْبَرَكَةِ.
الثَّالِثَةُ: الْوَعِيدُ الشَّدِيدُ فِيمَنْ لاَ يَبِيعُ وَلاَ يَشْتَرِي إِلاَّ بِيَمِينِهِ.
الرَّابِعَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى أَنَّ الذَّنْبَ يَعْظُمُ مَعَ قِلَّةِ الدَّاعِي.
الْخَامِسَةُ: ذَمُّ الَّذِينَ يَحْلِفُونَ وَلاَ يُسْتَحْلَفُونَ.
السَّادِسَةُ: ثَنَاؤُهُ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْقُرُونِ الثَّلاَثَةِ أَوِ الأَرْبَعَةِ، وَذِكْرُ مَا يَحْدُثُ بَعْدَهُمْ.
السَّابِعَةُ: ذَمُّ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ.
الثَّامِنَةُ:كَوْنُ السَّلَفِ يَضْرِبُونَ الصِّغَارَ عَلَى الشَّهَادَةِ وَالْعَهْدِ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ مَا جَاءَ في كَثْرَةِ الْحَلِفِ) أيْ: من النَّهيِ عنه والوَعيدِ.
(4) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وقولِ اللهِ تعالَى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}[المائدة:89].
قالَ ابنُ جَريرٍ: (لا تَتْرُكوها بغيرِ تَكفيرٍ) وذَكَرَ غيرُهُ من الْمُفَسِّرِينَ عن ابنِ عَبَّاسٍ (يريدُ: لا تَحْلِفوا).
وقالَ آخرونَ: (احْفَظُوا أَيمانَكم عن الْحِنْثِ فلا تَحنَثُوا) والْمُصَنِّفُ أَرادَ من الآيَةِ المعنَى الذي ذَكَرَهُ ابنُ عبَّاسٍ، فإنَّ
القوْلَيْنِ مُتلازِمانِ، فيَلْزَمُ منْ كَثرةِ الْحَلِفِ كَثرةُ
الحِنْثِ، معَ ما يَدُلُّ عليهِ من الاستخفافِ وعَدَمِ التعظيمِ للهِ،
وغيرِ ذلكَ مِمَّا يُنافِي كَمالَ التوحيدِ الواجبَ، أوْ عَدَمُهُ.
(5) قَالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ: سَمِعْتُ
رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
((الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ لِلْسِّلْعةِ مَمْحَقَةٌ لِلْكَسْبِ))أَخْرَجَاهُ. أي: البخاريُّ ومسلِمٌ، وأَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ والنَّسائيُّ، والمعنَى:
أنَّهُ إذا حَلَفَ علَى سِلْعَتِهِ أنَّهُ أُعْطِيَ فيها كذا وكذا؛ أوْ
أنَّهُ اشْتَرَاها بكذا وكذا، وقدْ يَظُنُّهُ الْمُشْتَرِي صادقًا فيما
حَلَفَ عليهِ فيَأْخُذُها بزيادةٍ علَى قِيمتِها، والبائعُ كذَّابٌ وحَلَفَ
طَمَعًا في الزيادةِ، فيَكونُ قدْ عَصَى اللهَ تعالَى؛ فيُعاقَبُ بِمَحْقِ
البَرَكَةِ؛ فإذا ذَهَبَتْ بَركةُ كَسْبِهِ دَخَلَ عليهِ من النَّقْصِ
أَعظَمُ مِنْ تِلكَ الزيادةِ التي دَخَلَتْ عليهِ بسبَبِ حَلِفِهِ،
ورُبَّما ذَهَبَ ثَمَنُ تلكَ السِّلْعَةِ رأسًا.
وما عندَ اللهِ لا يُنالُ إلاَّ بطاعتِهِ وإنْ تَزَخْرَفَت الدنيا للعَاصِي فعَاقِبَتُها اضْمِحلالٌ وذَهابٌ وعِقابٌ.
(6) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعَنْ سَلمانَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((ثَلاَثَةٌ
لاَ يُكلِّمُهُمُ اللهُ، ولا يُزَكِّيهِمْ، وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ:
أُشَيْمِطٌ زَانٍ، وَعَائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ، وَرَجُلٌ جَعَلَ اللهَ
بِضَاعَتَهُ؛ لاَ يَشْتَري إلاَّ بِيَمِينِهِ، وَلاَ يَبِيعُ إِلاَّ
بِيَمِينهِ)) رَوَاهُ الطَّبَرانيُّ بسَنَدٍ صحيحٍ).
وسَلْمانُ لَعلَّهُ سَلمانُ الفارسيُّ أبو عبدِ اللهِ؛ أَسلَمَ عندَ مَقْدَمِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ المدينةَ، وشَهِدَ الْخَنْدَقَ؛ روَى عنه أبو عُثمانَ النَّهديُّ، وشُرحبيلُ بنُ السمْطِ، وغيرُهما، قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سَلْمَانُ
مِنَّا أَهْلَ البَيْتِ، إِنَّ اللهَ يُحِبُّ مِنْ أَصحابِي أَربَعَةً:
عَلِيًّا؛ وَأبا ذَرٍّ، وَسَلْمَانَ، وَالْمِقْدَادَ)) أَخْرَجَهُ التِّرمذيُّ، وابنُ مَاجَه، قالَ الْحَسَنُ: (كان سَلمانُ أميرًا علَى ثلاثينَ ألفًا يَخْطُبُ بهم في عَباءةٍ يَفْتَرِشُ نِصْفَها ويَلْبَسُ نِصْفَها، تُوفِّيَ في خِلافةِ عُثمانَ).
قال أبو عُبيدةَ: (سنةَ سِتٍّ وثلاثين عنْ ثلاثِمائةٍ وخَمسينَ سنةً) ويُحْتَمَلُ أنَّهُ سَلمانُ بنُ عامِرِ بنِ أَوْسٍ الضَّبِّيُّ.
قولُهُ: ((ثَلاثَةٌ لا يُكلِّمُهُمُ اللهُ))
نَفْيُ كلامِ الرَّبِّ تعالَى وتَقَدَّسَ عنْ هؤلاءِ العُصاةِ دَليلٌ علَى
أنَّهُ يُكلِّمُ مَنْ أَطَاعَهُ، وأنَّ الكلامَ صِفَةٌ منْ صِفاتِ
كَمَالِهِ، والأدِلَّةُ علَى ذلكَ من الكتابِ والسنَّةِ أَظْهَرُ شيءٍ
وأَبْيَنُهُ، وهوَ الذي عليهِ أهلُ السنَّةِ والجماعةِ من الْمُحَقِّقِينَ
قِيامُ الأفعالِ باللهِ سُبحانَهُ، وأنَّ الفِعْلَ يَقَعُ بمشيئتِهِ تعالَى
وقُدرتِهِ شيئًا فشيئًا، ولم يَزَلْ مُتَّصِفًا بهِ.
فهو حادِثُ الآحادِ قديمُ النَّوْعِ، كما يَقولُ ذلكَ أَئِمَّةُ أصحابِ الحديثِ وغيرُهم منْ أصحابِ الشافعيِّ، وأحمدَ، وسائرِ الطوائفِ؛ كما قالَ تعالَى: {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ}[يس:82]، فأتَى بالحروفِ الدَّالَّةِ علَى الاستقبالِ، والأفعالِ الدالَّةِ علَى الحالِ والاستقبالِ أيضًا، وذلكَ في القرآنِ كثيرٌ.
قالَ المُصَنِّفُشيخُ الإِسلامِ: (فإذا
قالوا لنا - يعني النُّفاةَ -: فهذا يَلْزَمُ أن تكونَ الحوادثُ قائمةً
بهِ؛ قلنا: ومَنْ أَنْكَرَ هذا قَبْلَكم من السلَفِ والأَئِمَّةِ؟ ونُصوصُ
القرآنِ والسُّنَّةِ تَتَضَمَّنُ ذلكَ معَ صَريحِ العقلِ، ولفظُ:
(الحوادثِ) مُجْمَلٌ، فقدْ يُرادُ بهِ الأَعراضُ والنقائصُ، واللهُ تعالَى
مُنَزَّهٌ عنْ ذلكَ، ولكن يَقومُ بهِ ما يَشاءُ منْ كلامِهِ وأفعالِهِ
ونحوِ ذلكَ: مِمَّا دَلَّ عليهِ الكتابُ والسنَّةُ، والقولُ الصحيحُ: هوَ
قولُ أهلِ العلْمِ الذينَ يَقولون: لَمْ يَزَل اللهُ متكلِّمًا إذا شاءَ،
كما قالَ ابنُ المبارَكِ، وأحمدُ بنُ حَنْبَلٍ، وغيرُهما منْ أَئِمَّةِ السُّنةِ) انتهَى.
قلتُ: ومعنَى قِيامِ الحوادثِ بهِ تعالَى: قُدرتُهُ عليها، وإيجادُهُ لها بمشيئتِهِ وأَمْرِهِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: ((ولاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ)) لَمَّا عَظُمَ ذَنبُهم عَظُمَتْ عُقُوبتُهم، فعُوقِبُوا بهذه الثلاثِ التي هيَ أَعْظَمُ العُقوباتِ.
قولُهُ: ((أُشَيْمِطٌ زَانٍ))
صَغَّرَهُ تَحقيرًا لهُ؛ وذلكَ لأنَّ داعيَ الْمَعْصِيَةِ ضَعُفَ في
حَقِّهِ، فدلَّ علَى أنَّ الحاملَ لهُ علَى الزِّنا مَحَبَّةُ
الْمَعْصِيَةِ والفُجورِ، وعَدَمُ خوفِهِ من اللهِ، وضَعْفُ الداعي إلَى
المعصيَةِ معَ فِعْلِها يُوجِبُ تَغليظَ العُقوبةِ عليهِ؛ بخِلافِ الشابِّ،
فإنَّ قُوَّةِ داعي الشهوةِ منهُ قدْ يَغْلِبُهُ معَ خَوْفِهِ من اللهِ،
وقدْ يَرْجِعُ علَى نفسِهِ بالندَمِ، ولَوْمِها علَى المعصيَةِ فيَنْتَهِي
ويُرَاجِعُ.
وكذا العائلُ المستكْبِرُ
ليسَ لهُ ما يَدعوهُ إلَى الكِبْرِ؛ لأنَّ الداعيَ إلَى الكِبْرِ في
الغالبِ كَثْرَةُ المالِ والنِّعَمِ والرِّياسةِ، و(العائلُ) الفقيرُ لا
دَاعِيَ لهُ إلَى أن يَستكْبِرَ، فاستكبارُهُ معَ عَدَمِ الداعِي إليهِ
يَدُلُّ علَى أنَّ الْكِبْرَ طَبيعةٌ لهُ، كامِنٌ في قَلْبِهِ، فعَظُمَتْ
عُقوبتُهُ لعَدَمِ الداعِي إلَى هذا الْخُلُقِ الذميمِ الذي هوَ منْ
أَكْبَرِ المعاصِي.
قولُهُ: ((وَرَجُلٌ جَعلَ اللهَ بِضاعَتَهُ))
بنصْبِ الاسمِ الشريفِ؛ أي الْحَلِفَ بهِ، جَعَلَهُ بِضاعَتَهُ
لِمُلازَمَتِهِ لهُ وغَلَبَتِهِ عليهِ، وهذه أعمالٌ تَدُلُّ علَى أنَّ
صاحبَها إنْ كان مُوَحِّدًا فتَوحيدُهُ ضَعيفٌ، وأعمالُهُ ضَعيفةٌ،
بِحَسَبِ ما قامَ بقلبِهِ، وظَهَرَ علَى لِسانِهِ وعَمَلِهِ، منْ تلكَ
المعاصِي العظيمةِ علَى قِلَّةِ الداعِي إليها.
نَسألُ اللهَ السلامةَ والعافيَةَ، ونَعوذُ باللهِ منْ كلِّ عَمَلٍ لا يُحِبُّهُ رَبُّنا ولا يَرْضَاهُ.
(7) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ عِمرانَ بنِ حُصَيْنٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((خَيْرُ أُمَّتِي قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ - قَالَ عِمْرَانُ:
فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعْدَ قَرْنِهِ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا -
ثُمَّ إِنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ،
وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ، وَيُنْذِرُونَ وَلاَ يُوفُونَ،
وَيَظْهَرُ فِيهُمُ السِّمَنُ)).
قولُهُ: (وفي الصَّحيحِ) أيْ: (صحيحِ مسلمٍ) وأَخْرَجَهُ أبو دَاوُدَ، والتِّرمذيُّ، ورواهُ البخاريُّ بلفظِ: ((خَيْرُكُمْ)).
قولُهُ: ((خَيْرُ أُمَّتي قَرْنِي))
لفضيلةِ أهلِ ذلكَ القَرْنِ في العِلْمِ والإِيمانِ والأعمالِ الصالحةِ
التي يَتنافَسُ فيها المتنافِسونَ، ويَتفاضَلُ فيها العامِلونَ، فغَلَبَ
الخيرُ فيها وكَثُرَ أهلُهُ، وقَلَّ الشرُّ فيها وأَهْلُهُ، واعْتَزَّ فيها
الإِسلامُ والإِيمانُ؛ وكَثُرَ فيها العِلْمُ والعلماءُ ((ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ))
فُضِّلُوا علَى مَنْ بَعْدَهم لظهورِ الإِسلامِ فيهم، وكَثرةِ الداعي
إليهِ، والراغبِ فيهِ، والقائمِ بهِ، وما ظَهَرَ فيهِ من الْبِدَعِ
أُنْكِرَ واستُعْظِمَ وأُزِيلَ، كبِدعةِ الخوارجِ، والقَدَرِيَّةِ،
والرافِضَةِ، فهذه الْبِدَعُ وإن كانتْ قدْ ظَهَرَتْ فأهلُها في غايَةِ
الذُّلِّ والْمَقْتِ والْهَوانِ والقتْلِ فيمَنْ عانَدَ منهم ولم يَتُبْ.
قولُهُ: (فَلاَ أَدْرِي أَذَكَرَ بَعدَ قرْنِهِ مَرَّتينِ أوْ ثلاثًا) هذا شَكٌّ منْ راوي الحديثِ عِمرانَ بنِ حُصَيْنٍ، والمشهورُ
في الرواياتِ: أنَّ القُرونَ الْمُفَضَّلَةَ ثلاثةٌ، الثالثُ دونَ
الأَوَّلَيْنَ في الفَضْلِ، لكَثرةِ ظُهُورِ البِدَعِ فيهِ، لكنَّ
العُلماءَ مُتوافِرونَ، والإِسلامُ فيهِ ظاهِرٌ والْجِهادُ فيهِ قائمٌ.
ثمَّ ذَكَرَ ما وَقَعَ بعدَ القُرونِ الثلاثةِ من الْجَفاءِ في الدِّينِ، وكَثْرَةِ الأهواءِ فقالَ: ((ثُمَّ إنَّ بَعْدَكُمْ قَوْمًا يَشْهَدُونَ وَلاَ يُسْتَشْهَدُونَ)) لاستخفافِهم بأَمْرِ الشهادةِ وعَدَمِ تَحرِّيِهم للصِّدْقِ، وذلكَ لقِلَّةِ دِينِهم، وضَعْفِ إسلامِهم.
قولُه: ((وَيَخُونُونَ وَلاَ يُؤْتَمَنُونَ)) يَدُلُّ علَى أنَّ الْخِيانةَ قدْ غَلَبَتْ علَى كثيرٍ منهم أوْ أَكْثَرِهم، قولُهُ: ((وَيُنْذِرُونَ وَلاَ يُوفُونَ)) أيْ: لا يُؤَدُّون ما وَجَبَ عليهم؛ فظُهورُ هذه الأعمالِ الذَّميمةِ يَدُلُّ علَى ضَعْفِ إسلامِهم، وعَدَمِ إيمانِهم.
قولُهُ: ((وَيَظْهَرُ فِيهُمُ السِّمَنُ)) لرَغبتِهم في الدنيا، ونَيْلِ شَهواتِهم والتَّنَعُّمِ بها، وغَفْلَتِهم عن الدارِ الآخِرَةِ والعملِ لها.
وفي حديثِ أَنَسٍ: ((لاَ يَأْتِي زَمَانٌ إِلاَّ وَالَّذِي بَعْدَهُ شَرٌّ مِنْهُ، حَتَّى تَلْقَوْا رَبَّكُمْ)) قَالَ أَنَسٌ: (سَمِعتُهُ مِنْ نَبيِّكُمْ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )
فما زالَ الشَّرُّ يَزيدُ في الأُمَّةِ حتَّى ظَهَرَ الشرْكُ والبِدَعُ في
كثيرٍ منهم، حتَّى فيمَنْ يَنْتَسِبُ إلَى العِلْمِ ويَتَصَدَّرُ للتعليمِ
والتصنيفِ.
(8) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وفيهِ عن ابنِ مَسْعُودٍ، أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((خَيْرُ
النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذِينَ
يَلُونَهُم، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُم، ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ تَسْبِقُ
شَهَادَةُ أَحَدِهِمْ يَمِينَهُ وَيَمِينُهُ شَهَادَتَهُ)) (قال إبراهيمُ: (كانوا يَضْرِبونَنَا عَلَى الشَّهادةِ والْعَهْدِ وَنحنُ صغارٌ).
قلتُ: وهذه
حالُ مَنْ صَرَفَ رَغبتَهُ إلَى الدنيا ونَسِيَ الْمَعَادَ، فخَفَّ أمرُ
الشهادةِ واليمينِ عندَهُ تَحمُّلاً وأَداءً؛ لقِلَّةِ خَوْفِهِ من اللهِ،
وعَدَمِ مُبالاتِهِ بذلكَ، وهذا هوَ الغالِبُ علَى الأَكْثَرِ، واللهُ
الْمُستعانُ، فإذا كان هذا قدْ وَقَعَ في الصَّدْرِ الأَوَّلِ ففي ما
بَعْدَهُ أكثرُ بأَضعافٍ، فكُنْ مِن الناسُ علَى حَذَرٍ.
(9) قولُهُ: قَالَ إِبْرَاهِيمُ النَّخَعِيُّ: (كَانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلَى الشَّهَادَةِ والعَهْدِ وَنَحْنُ صِغَارٌ).
وذلكَ
لكَثرةِ عِلْمِ التابعينَ، وقُوَّةِ إيمانِهم ومَعرِفَتِهم برَبِّهِم،
وقِيامِهم بوَظيفةِ الأَمْرِ بالمعروفِ، والنهيِ عن الْمُنْكَرِ؛ لأنَّهُ
منْ أَفْضَلِ الْجِهادِ، ولا يَقومُ الدِّينُ إلاَّ بهِ، وفي هذا رَغبةٌ في
تَمرينِ الصِّغارِ علَى طاعةِ ربِّهم، ونَهْيِهم عمَّا يَضُرُّهم، وذلكَ
فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ، واللهُ ذو الْفَضْلِ العظيمِ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((2) أصلُ اليمينِ إنما شُرِعَت تأكيدًا للأمرِ المحلوفِ عليه،وتعظيمًا للخالقِ، ولهذا وَجَبَ أنْ لا يُحلَفَ إلا باللهِ، وكانَ الحَلِفُ بغيرِه مِن الشِّرْكِ.
ومِن تَمَامِ هذا التعظيمِ أنْ لا يَحْلِفَ باللهِ إلاَّ صَادِقًا.
ومِن تمامِ هذا التعظيمِ أنْ يحتَرِمَ اسْمَه عن كثرةِ الحَلِفِ، فالكَذِبُ وكثرةُ الحَلِفِ تُنافي التعظيمَ الذي هو رُوحُ التوحيدِ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ((13) الحَلِفُ
هو: اليمينُ، والقَسَمُ، وهو تأكيدُ الشيءِ بذكْرِ معظَّمٍ، بصيغَةٍ
مخصوصةٍ بأحدِ حروفِ القَسَمِ، وهي: الباءُ والواوُ والتاءُ.
ومناسبةُ البابِ لكتابِ التَّوحيدِ:
أنَّ
كثرةَ الحلفِ باللهِ يدلُّ على أنَّه ليس في قلبِ الحالفِ من تعظيمِ اللهِ
ما يقتضي هيبةَ الحلفِ باللهِ، وتعظيمُ اللهِ -تعالى- من تمامِ
التَّوحيدِ. الجوابُ: نَعَم، ولذلِك أدلَّةٌ كثيرةٌ، منها: قولُ المُجَامِعِ في نهارِ رمضانَ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ: ((واللهِ مَا بَيْنَ لابَتَيْها أهلُ بيتٍ أفقرُ مِنِّي)) لكنْ إنْ حلَفْتَ على مسْتَقْبَلٍ بناءً على غلبةِ الظَّنِّ ولم يحصلْ فقيلَ: تلزمُكَ كفَّارةٌ. إذن قولُه: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ} بعدَ أنْ ذكَرَ اليمينَ، والكفَّارةَ والحنثَ، فـما المرادُ بحفظِ اليمينِ؟ وكذلك: مِنْ حفظِ اليمينِ عدمُ الحنثِ فيها، وهذا فيه تفصيلٌ؛ لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم قال لعبدِ الرَّحمنِ بنِ سَمُرةَ:((إِذا حَلَفْتَ عَلَى يَمِينٍ فَرأَيْتَ غَيْرَها خَيرًا مِنْها فَكفِّرْ عَنْ يَمينِكَ وائْتِ الَّذِي هُوَ خَيرٌ)). مثالُ ذلك: رجلٌ قال: واللهِ لا أكلِّمُ فلانًا. والكفَّارةُ: إطعامُ عشرةِ
مساكينَ من أوسطِ ما تُطْعِمون أهليكم، أو كسوتُهُم، أو تحريرُ رقبةٍ،
وهذا على سبيلِ التَّخييرِ، فمَن لم يجدْ فصيامُ ثلاثةِ أيّامٍ، وفي قراءةِ
ابنِ مسعودٍ: {متتابعةٍ}. الأول: حفظُها ابتداءً، وذلك بعدمِ كثرةِ الحلفِ، ولْيَعْلَمْ أنَّ كثرةَ الحلِفِ تُضعِفُ الثقةَ بالشخصِ، وتوجبُ الشكَّ في أخبارِه. الثاني: حفظُهَا وسطًا، وذلك بعدمِ الحنثِ فيها، إلا ما اسْتُثْنِي كما سبقَ. الثالث: حفظُها انتهاءً في إخراجِ الكفَّارةِ بعدَ الحنثِ. قولُه:
(مَنْفَقةٌ للسِّلْعةِ) أي: ترويجٌ للسِّلعةِ، مأخوذةٌ من النِّفَاقِ وهو
مُضِيُّ الشَّيءِ ونَفَاذُهُ، والحلفُ على السِّلعةِ قد يكونُ حلفًا على
ذاتِهَا أو نوعِهَا أو وصفِهَا أو قيمتِهَا. ومثال الصَّفةُ: كأنْ يحلفَ أنَّها طيِّبةٌ، وهي رديئةٌ. ومثال القيمةُ: كأنْ يحلفَ أنَّ قيمَتَها بعشرةٍ، وهي بثمانيةٍ.
(14) قولُه تعالى: {وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ}
هذه الآيةُ ذكَرَها اللهُ في سياقِ كفَّارةِ اليمينِ، وكلُّ يمينٍ لها
ابتداءٌ وانتهاءٌ ووسطٌ، فالابتداءُ الحلفُ، والانتهاءُ الكفَّارةُ،
والوسطُ الحِنْثُ، وهو أن يفعلَ ما حلَفَ على تركِهِ، أو يَتْرُكَ ما حلَفَ
على فعلِهِ، وعلى هذا كلُّ يمينٍ على شيءٍ ماضٍ فلا حِنْثَ فيه، وما لا
حنثَ فيه فلا كفَّارةَ فيه، لكن إن كانَ صادقًا فقد بَرَّ، وإلا فهو آثِمٌ؛
لأنَّ الكفَّارةَ لا تكونُ إلا على شيءٍ مستقبلٍ.
وهل يجوزُ أنْ يَحْلِفَ على ما في ظنِّهِ؟
وهو الصَّحيحُ، كما لو حلَفْتَ على ماضٍ.
هل هو الابتداءُ أو الانتهاءُ أو الوسطُ؟
أي: هل المرادُ: لا تُكْثِرُوا الحلفَ باللهِ؟
أو المرادُ: إذا حَلَفْتُم فلا تَحْنَثُوا؟
أو المرادُ: إذا حَلَفتُمْ فحنِثْتُمْ فلا تَتْرُكُوا الكفَّارةَ؟
الجوابُ: المرادُ كلُّها، فتشملُ أحوالَ اليمينِ الثَّلاثةَ،ولهذا جاء المؤلِّفُ بها في هذا البابِ؛ لأنَّ من معنى حفظِ اليمينِ عدمَ كثرةِ الحلفِ، وإليك قاعدةً مهمَّةً في هذا، وهي
أن النصَّ من قرآنٍ أو سنَّةٍ إذا كانَ يَحْتَمِلُ عدةَ معانٍ لا يُنَافِي
بعضُها بعضًا، ولا مُرجِّحَ لأحدِهَا، وجَبَ حملُه على المعاني كلِّها.
وهو من المؤمنين الّذين يَحْرُمُ هجرُهُم، فهذا يجبُ أن يحنثَ في يمينِهِ ويُكَلِّمَه، وعليه الكفارةُ.
مثالٌ آخرُ: رجلٌ قال: (واللهِ لأُعينَنَّ فلانًا على شيءٍ محرَّمٍ).
فهذا يجبُ الحنثُ فيه والكفارةُ، ولا يُعِينُه؛ لقولِه تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}. وإذا كانَ الأمرُ مُتَسَاوِيًا والحِنْثُ وعدمُهُ سواءٌ في الإثمِ، فالأفضلُ حفظُ اليمينِ.
كذلك: مِن حفظِ اليمينِ إخراجُ الكفَّارةِ بعدَ الحنثِ.
(15) قولُهُ: (الحَلِفُ) المرادُ به الحلفُ الكاذبُ كما بيَّنَتْه روايةُ
أحمدَ: ((اليَمينُ الكَاذِبَةُ)) أمَّا الصّادقةُ فليس لها عقوبةٌ، لكن لا يُكْثِرُ منها كما سبَقَ.
فمثال الذَّاتُ: كأن يحلفَ أنَّها من المصنعِ الفلانيِّ المشهورِ بالجودةِ، وليست منه.
(16) قولُه: (ثَلاثَةٌ) مبتدأٌ، وسوَّغَ الابتداءَ بها أنَّها أفادت التَّقسيمَ. قولُه: (لا يُكَلِّمُهُم اللهُ) التَّكليمُ:
هو إسماعُ القولِ، وأمَّا ما يُقَدِّرُهُ الإنسانُ في نفسِهِ، فلا
يُسَمَّى كلامًا على سبيلِ الإطلاقِ، وإن كانَ يُسَمَّى قولاً بالتَّقييدِ
بالنَّفسِ، كقولِه تعالى: {وَيَقُولُونَ فِي أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا اللهُ} وقال عمرُ رَضِيَ اللهُ عَنْه في قصَّةِ السّقيفةِ:(زَوَّرْتُ في نفسي كلامًا) أي: قدَّرْتُه.
والاستكبارُ: التّرفُّعُ والتّعاظمُ، وهو نوعان:
الأول: استهانتِهِ باللهِ عزّ وجلّ.
فالكلامُ عندَ الإطلاقِ لا يكونُ إلا بحرفٍ وصوتٍ مسموعٍ.
قولُه: (يُزَكِّيهِمْ) التَّزكيةُ بمعنى التَّوثيقِ، والتّعديلِ، فيومَ القيامةِ لا يُوَثِّقُهم، ولا يُعَدِّلُهُم ولا يَشْهَدُ لهم بالإيمانِ؛ لِمَا فعلوه من هذه الأفعالِ الخبيثةِ.
قولُهُ: (وَلَهُم عَذابٌ أليمٌ) عذابٌ: عقوبةٌ، وأليمٌ: أي: شديدٌ مُوجِعٌ مُؤْلِمٌ.
قوله: (أُشَيْمِطٌ) هو
الَّذي اختلطَ سوادُ شَعَرِهِ ببياضِهِ لكِبَرِ سنِّه، وكبيرُ السِّنِّ قد
برَدَتْ شهوتُهُ، وليس فيه ما يدعوه إلى الزِّنا، ولكنَّه زنا ممَّا دلَّ
على خُبْثٍ في إرادتِهِ، ولأنَّه عادةً قد بلَغ أشُدَّه واسْتَوَى وعَرَفَ
الحكمةَ، وملَكه عقلُهُ أكثرَ من هواه، فالزِّنا منه غريبٌ، إذ ليس عن
شهوةٍ مُلِحَّةٍ، ولكن عن سوءِ نيَّةٍ وقصدٍ وضعفِ إيمانٍ باللهِ، فصارَ
السَّببُ المقتضي لزناه ضعيفًا، والحكمةُ الَّتي نالها ببلوغِ الأَشُدِّ
كبيرةً، وكان تقادُمُ سنِّه يَسْتَلْزِمُ أن يُغَلِّبَ جانبَ العقلِ،
ولكنَّه خالفَ مقتضى ذلك، ولهذا صغَّرَه تحقيرًا لشأنِهِ فقال:
(أُشَيْمِطٌ) تصغيرُ أشمطَ.
قولُه: (زانٍ) صفةٌ لـ
(أُشَيْمِط) وهو مرفوعٌ بضمَّةٍ مقدَّرةٍ على الياءِ المحذوفةِ، والحركةُ
الَّتي على النّونِ ليست حركةَ إعرابٍ.
والزِّنا : فعلُ الفاحشةِ في قُبُلٍ أو دُبُرٍ، وقد نَهَى اللهُ عنه وبيَّن أنّه فاحشةٌ، فقال: {وَلاَ تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً}.
قولُه: ((وعائِلٌ مُسْتَكْبِرٌ)) أي: فقيرٌ، قال تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلاً فَأَغْنَى}، فالمُقابلةُ هنا في قولِهِ: {فَأَغْنَى} بيَّنَتْ أنَّ معنى عائلاً: فقيرًا.
والثاني: استكبارٌ على الخلْقِ باحتقارِهِم واستذلالِهِم،كما قال النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((الكِبْرُ بَطَرُ الْحَقِّ وغَمْطُ النَّاسِ)).
فالفقيرُ داعي الاستكبارِ عندَه ضعيفٌ، فيكونُ استكبارُهُ دليلاً على ضعفِ إيمانِهِ، وخُبْثِ طَوِيَّتِه، ولذلك كانت عقوبتُهُ أشدَّ.
قولُه: ((ورَجُلٌ جَعلَ اللهَ بِضاعَتَهُ؛ لا يَشْتَري إلا بيَمينِهِ ولا يبيعُ إلا بِيَمينهِ))
أيْ: جعَلَ الحلفَ باللهِ بضاعةً له، وإنَّما ساغ التَّأويلُ هنا؛ لأنَّ
النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ هو الَّذي فسَّره بذلك حيثُ قال: ((لا يَشْتَري إلا بيَمينِهِ..)) وإذا كانَ المتكلِّمُ هو الَّذي أخرجَ كلامَهُ عن ظاهرِهِ فهو أعلمُ بمرادِهِ، وهذا كما في الحديثِ القدسيِّ: ((عَبْدِي اسْتَطْعَمْتُكَ فَلَمْ تُطْعِمْني، اسْتَسْقَيْتُكَ فَلَمْ تَسْقِني)) فبيَّنَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ بقولِه: ((عَبْدِي فُلانٌ جاعَ فَلَمْ تُطْعِمْهُ، استَسْقاكَ فَلَمْ تَسْقِهِ)).
فقولُه: ((لا يَشْتَرِي إلا بيمينِهِ، ولا يبيعُ إلا بيمينِهِ)) استئنافيَّةٌ تفسيريَّةٌ لقولِه:((جَعلََ اللهَ بِضاعَتَهُ)) ومعناها: أنه كلما اشترى حلَف، وكلَّما باع حلَف طلبًا للكَسْبِ.
واستحقَّ هذه العقوبةَ العظيمةَ؛ لاستهانتِهِ باللهِ، فإنْ كانَ كاذبًا جمَعَ بيْنَ أربعةِ أمورٍ محذورةٍ:
الثالث: أكلِه المالَ بالباطلِ.
الرابع: أنَّ يَمينَه يَمينُ غَموسٍ، وقد ثبَت عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أنَّه قال: ((مَنْ حَلَفَ عَلَى يمِينٍ هُوَ فِيهَا فَاجِرٌ يَقْتَطِعُ بِها مَالَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَقِيَ اللهَ وَهُوَ عَلَيْهِ غضْبانُ)).
وكلُّ ما في هذا الحديثِ
يجبُ الحذرُ منه والبعدُ عنه؛ لأن هذا هو ما يُرِيدُه النبيُّ صلَّى اللهُ
عليه وسلَّمَ من الإخبارِ بِهِ، وإلاَّ فما الفائدةُ مِن سماعِنَا له إِذَا
لمْ تَظْهَرْ مُقْتَضَياتُ النّصوصِ على مُعْتَقَدَاتِنَا وأقوالِنا
وأفعالِنَا؟
فنحن والجاهلُ سواءٌ، بلْ
نحن أعظمُ، ولذلك لا ينبغي أن تَمُرَّ علينا بلا فائدةٍ فنَعْرِفَ معناها
فقط، بل يجبُ أن نعرفَ معناها ونعملَ بمقتضاها، ثمَّ يجبُ علينا أيضًا
بوصفِنَا ممَّن آتاهم اللهُ العلمَ أن نُحَذِّرَ النَّاسَ منه لنكونَ
وارثين للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم، فالنَّبيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وسلَّم كانَ عالِمًا عاملاً داعيًا، أمَّا طالبُ العلمِ فإنَّه ليس
وارثًا للرَّسولِ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ حتَّى يقومَ بما قام به من
العملِ والدَّعوةِ، فعلينا أن نُحَذِّرَ إخوانَنَا المسلمين في هذا العملِ
الكثيرِ بينَ النَّاسِ، وهو جعلُ اللهِ بضاعةً لهم، لا يبيعون إلا
بأيْمانِهِم، ولا يَشْتَرُون إلا بأيمانِهِم.
أنَّ مَن جعلَ اللهَ بضاعَتَه فإنَّ الغالبَ أنَّه يُكْثِرُ الحلفَ باللهِ عزَّ وجلَّ.
(17) قولُه: (وفي الصَّحيحِ) أي: (الصَّحيحين) وانْظُرْ كلامَنَا في بابِ (تفسيرِ التوحيدِ وشهادةِ أنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ).
قولُه: ((خَيْرُ أُمَّتي قَرْني)) (خَيْرُ) مبتدأٌ، و(قرني) خبرٌ.
وفي لفظِ البُخاريِّ: ((خَيْرُكُمْ قَرْني)) وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ عندَ البخاريِّ: ((خَيْرُ النَّاسِ قَرْني))وهذا
هو المرادُ؛ إذ المرادُ بالخيريَّةِ هنا الخيريَّةُ المضافةُ إلى النَّاسِ
عمومًا، وليس للأمَّةِ فقط، ولهذا ثبَت عنه صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ
أنَّه قال: ((بُعِثْتُ مِنْ خَيْرِ قُرونِ بَنِي آدَمَ)).
وعليه فالخيريَّةُ في القرنِ الأوَّلِ خيريَّةٌ عامَّةٌ على جميعِ النَّاسِ، وليس على هذه الأمَّةِ فقط.
وأمَّا قولُه: ((خيرُ أُمَّتي))
فإنَّه يُقالُ: إنَّ الخيريَّةَ إذا كانت مضافةً إلى عمومِ النَّاسِ دخَل
فيها هذه الأمَّةُ، لكن إذا خصَّصْناها بهذه الأمَّةِ خرَج بقيَّةُ
النَّاسِ، والأخذُ بالعمومِ الدَّاخلِ فيه الخاصُّ أَوْلَى، وقد يُقالُ:
إنَّ معنى اللفظين واحدٌ؛ فإنَّ هذه الأمَّةَ خيرُ الأممِ، فإذا كانَ
الصَّحابةُ خيرَ قرونِهَا لزِم أن يكونوا خيرَ النَّاسِ.
والقرنُ : مأخوذٌ من الاقترانِ، والمرادُ الطَّائفةُ الْمُقتَرِنون بشيءٍ من الأشياءِ كالملَّةِ، أو السِّنِّ وما أشْبَهَ ذلك.
- فمنهم من حَدَّهُ بأربعين.
- ومنهم من حَدَّه بثمانين.
- ومنهم مَن حدَّه بمائةٍ.
- ومنهم مَن حدَّه بمائةٍ وعشرين سنةً.
فمعنى الأولِ: يكون معنى: ((خَيْرُ أُمَّتي قَرْني))
خيرُ أمّتي الصَّحابةُ، سواءٌ بلَغوا مائةَ سنةٍ أم لا، والمعروفُ أنَّ
آخرَ مَن مات من الصَّحابةِ مات سنةَ مائةٍ وعشرةٍ وهذا القرنُ الأوَّلُ،
أمَّا التَّابعون فإنَّ آخرَهُم مات سنةَ مائةٍ وتسعين، فيكونُ بينَهم
وبينَ الصَّحابةِ سبعون سنةً، وأمَّا تابعو التَّابعين فإنَّ آخرَهُم مات
سنةَ مائتين وعشرين، وهذا مُنْتَهَى القرنِ الثَّالثِ.
قولُه: ((أُمَّتِي)) المرادُ أمَّةُ الإجابةِ؛ لأنَّ أمَّةَ الدَّعوةِ إذا لم يُؤْمِنُوا فليسَ فيهم خيرٌ.
قولُه: (فَلا أَدْرِي أَذَكَرَ بَعدَ قرْنِهِ مرَّتينِ أوْ ثلاثًا) وإذا كانَ عِمْرَانُ لا يَدْرِي فالأصلُ أنَّه ذكَرَ مرَّتين، فتكونُ القرونُ الْمُفَضَّلةُ ثلاثةً، وهذا هو المشهورُ.قولُه: ((ثُمَّ إنَّ بَعدَكُمْ قَوْمٌ)) وفي روايةِ البخاريِّ:((ثُمَّ إنَّ بعْدَكُمْ قَوْمًا)) بنصبِ ((قومًا)) وهذا لا إشكالَ فيه، لكن في هذه الرِّوايةِ برفعِ ((قوم))فيه إشكالٌ؛ لأنَّ ((قومٌ))اسمُ إنَّ، وقد اختلف العلماءُ في هذا: فقيل: على لغةِ ربيعةَ الَّذين لا يَقِفون على المنصوبِ بالألفِ، فلم يُثْبِت الكاتبُ الألفَ، فصارَتْ ((قومٌ)).
وهذا جوابٌ ليس بسديدٍ؛ لأنَّ الرّوايةَ ليست مكتوبةً فقط، بل تُكْتَبُ وتُقْرَأُ باللفظِ عند أخذِ التَّلاميذِ الرِّوايةَ من المشايخِ، ولأنَّ هذا ليس محلَّ وَقْفٍ.وقيل: إنَّ (إنَّ) اسمُها ضميرُ الشَّأنِ محذوفٌ، فألحقَهَا بـ (إنْ) المُخَفَّفَةِ؛ لأنَّ (إنْ) المخفَّفَةَ تَعْمَلُ بِضَميرِ الشَّأنِ، قال الشَّاعرُ:
.............. وَإن مالكٌ كانت كرامَ المعادنِ
فـ
(إنَّ) المشدَّدةُ هنا حُمِلَتْ على (إنْ) المخفَّفةِ فاسمُهَا ضميرُ
الشَّأنِ محذوفٌ، وعليه يكون (بعدَكم) خبرًا مقدَّمًا، و(قوم) مبتدأً
مؤخَّرًا والجملةُ خبرُ (إنَّ).
وقيل: (إن) هنا بمعنى (نعم)فيكونُ المعنى: ثمَّ نعم بعدَكُم قومٌ، وهذا فيه تكلُّفٌ.
فقيل: ((وَلا يُسْتَشْهَدُونَ)) أي: لا يُطْلَبُ منهم تحمُّلُ الشَّهادةِ، فيكونُ المرادُ الَّذين يشْهَدُون بغيرِ علمٍ.
وقيل: لا يُطلَبُ منهم أداءُ الشَّهادةِ، فيكونُ
المرادُ أداءَ الشَّهادةِ قبلَ أن يُدْعَى لأَدائِهَا، فيكونُ ذلك دليلاً
على تسرُّعِهِم في أداءِ الشَّهادةِ وعدمِ اهتمامِهِم بها.
وبعضُ العلماءِ رجَّح حديثَ عمرانَ؛ لأنَّه في (الصَّحيحين) على حديثِ زيدِ بنِ خالدٍ؛ لأنَّه في (مسلمٍ).
ولكن إذا أمكَنَ الجمعُ فلا يجوزُ التَّرجيحُ، والجمعُ هنا ممكنٌ كما تقدَّمَ.
قولُه: ((وَيَخُونُونَ وَلا يُؤْتَمَنونَ)) هذا هو الوصفُ الثَّاني لهم، أي: أنَّهم أهلُ خيانةٍ وليسوا أهلَ أمانةٍ، وليس المعنى أنَّه تقعُ منهم الخيانةُ بعدَ الائتمانِ حتَّى يُقالَ لماذا لم يقلْ: يُؤْتَمَنونَ ويَخُونُونَ؛ فكأنَّ الخيانةَ طبيعةٌ لهم، فلخيانتِهِم لا يُؤْتَمنون.
الخيانةُ: الغدرُ والخداعُ في موضعِ الائتمانِ، وهي مِن الصِّفاتِ المذمومةِ بكلِّ حالٍ.
وأمَّا الخيانةُ فلا يوصَفُ بها أبدًا، ولهذا كانَ قولُ العامَّةِ: (خانَ اللهُ من خانَهُ) حرامًا؛ لأنَّهم وصَفوا اللهَ بما لا يَصِحُّ أن يُوصَفَ به، قال اللهُ تعالى: {وَإِن يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ} ولم يقلْ: فخانَهُم.
قولُه: ((ولا يُؤتَمنون))
أي: ليسوا أهلاً للأمانةِ، فلا يؤتمنون على الدِّماءِ، ولا الأموالِ، ولا
الأعراضِ، ولا أيِّ شيءٍ، والظَّاهرُ: أنَّ هذا في القرنِ الرَّابعِ، فما
بالُكَ بالقرنِ الخامسَ عشرَ، وفي حديثٍ آخرَ: ((وَيَفْشُو بَيْنَهُم الكَذِبُ)).
النَّذرُ : إلزامُ الإنسانِ نفسَهُ بالشَّيءِ، وقد يكونُ للآدميِّ، وهذا بمعنى العهدِ الَّذي يُوقِعُه الإنسانُ بينَه وبينَ غيرِهِ، وقد يكونُ للهِ كنذرِ العبادةِ يجبُ الوفاءُ به، فهم يَنْذِرون للهِ ولا يُوفُون له، ويُعاهِدون المخلوقَ ولا يُوفُونَ له، وهذا من صفاتِ النِّفاقِ.
قولُه: ((ويَظهَرُ فيهمُ السِّمَنُ)) هذا هو الوصفُ الرَّابعُ لهم.السِّمنُ: كثرةُ الشَّحمِ واللحمِ، وهذا الحديثُ مُشْكِلٌ؛ لأنَّ ظهورَ السِّمنِ ليس باختيارِ الإنسانِ، فكيف يجعلُهَا صفةَ ذمٍّ؟
قال أهلُ العلمِ: (المعنى أنَّ هؤلاء يَعْتَنُونَ بأسبابِ السِّمَن من المطاعمِ والمشاربِ، فيكونُ همُّهُم إصلاحَ أبدانِهِم وتسمينَهَا).
أمَّا السِّمنُ الَّذي لا
اختيارَ للإنسانِ فيه فلا يُذَمُّ عليه، كما لا يُذَمُّ الإنسانُ على
كونِهِ طويلاً أو قصيرًا، أو أسودَ أو أبيضَ، لكن يُذَمُّ على شيءٍ يكونُ
هو السَّببَ فيه.
(18) قولُه: (وفيه) أي: في الصحيحِ، وقدْ سبَقَ الكلامُ على مثلِ هذه العبارةِ من المؤلِّفِ رحِمَه اللهُ في بابِ
(تفسيرِ التوحيدِ وشهادةِ أنْ لا إلهَ إلا اللهُ). قولُه:
(خيرُ النّاسِ) دليلٌ على أنَّ قرنَهُ خيرُ النَّاسِ، فصحابتُه صَلَّى
اللهُ عَلَيهِ وسلَّم أفضلُ من الحَوارِيِّين الَّذين هم أنصارُ عيسى، وأفضلُ من النُّقَباءِ السَّبعين الَّذين اختارَهُم موسى صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم.
والظَّاهرُ: أنَّ الَّذي يَضْرِبُهم وليُّ أمرِهِم.
قولُه: ((ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ)) أي: بعدَ القرونِ الثَّلاثةِ.
قولُه: ((تَسْبِقُ شَهادةُ أَحَدِهِم يَمينَهُ وَيَمينُهُ، شَهَادَتَهُ)) يَحْتَمِلُ ذلك وجهين:
الأوَّلُ: أنَّه لقلَّةِ الثِّقةِ بهم لا يَشْهَدون إلا بيمينٍ، فتارةً تَسْبِقُ الشَّهادةُ، وتارةً تَسْبِقُ اليمينُ.
والمعنيان لا يَتَنافيان، فيُحْمَلُ عليهما الحديثُ جميعًا.
وقولُهُ: ((ثُمَّ يَجِيءُ قَوْمٌ)) يدلُّ على أنَّه ليس كلُّ أصحابِ القرنِ على هذا الوصفِ؛ لأنَّه لم يَقُلْ: ثمَّ يكونُ النَّاسُ، والفرقُ واضحٌ.
وهذه الأفضليَّةُ أفضليَّةٌ من حيثُ العمومُ والجنسُ، لا
من حيثُ الأفرادُ، فلا يعني أنَّه لا يوجَدُ في تابعي التَّابعين مَن هو
أفضلُ من التَّابعين، أو لا يوجَدُ في التَّابعين مَن هو أعلمُ من بعضِ
الصَّحابةِ، أمّا فضلُ الصُّحْبَةِ فلا ينالُه أحدٌ غيرُ الصَّحابةِ، ولا
أحدَ يَسْبِقُهم فيه، وأمَّا العلمُ والعبادةُ فقد يكونُ فيمَن بعدَ
الصَّحابةِ مَن هو أكثرُ مِن بعضِهِم علمًا وعبادةً.
تنبيهٌ: ساقَ المؤلِّفُ -رحِمَه اللهُ- الحديثَ في بعضِ النسخِ بتَكرارِ قولِه: ((ثمَّ الذين يلونَهُم)) ثلاثَ مراتٍ وهو في (الصحيحين) بتَكرارِها مرتينِ.
(19) قولُه: ((وقال إِبْرَاهيمُ)) هو إبراهيمُ النَّخَعيُّ من التَّابعين، ومن فقهائِهِم.
قولُه: (كانوا يَضْرِبوننا عَلى الشَّهَادةِ، ونَحْنُ صِغَارٌ) في نسخةٍ: (عَلَى الشَّهادَةِ والعَهْدِ).
وقولُه: (عَلى الشَّهادةِ)
أي: يَضْرِبوننا عليها إن شَهِدْنَا زُورًا، أو إذا شَهِدْنا ولم نَقُمْ
بأدائِهَا، ويَحْتَمِلُ أن المرادَ بذلك ضربُهم على المبادرةِ بالشهادةِ
والعهدِ، وبه فسَّرَه ابنُ عبدِ البرِّ.
قولُه: (وَالعَهْدِ) أيْ: إذا تَعَاهَدُوا يَضْرِبُونهم على الوفاءِ بالعهدِ.
قولُه: (وَنَحْنُ صِغارٌ) الجملةُ حاليَّةٌ، وإنَّما يَضْرِبُونهم وهم صِغارٌ للتَّأديبِ.
ويُستفادُ من كلامِ إبراهيمَ أنَّ الصَّبيَّ تُقبَلُ منه الشَّهادةُ؛ لأنَّ قولَهُ: (وَنَحْنُ صِغارٌ) أي: لم يَبلُغُوا، وهذا محلُّ خلافٍ بينَ أهلِ العلمِ:
فقال بعضُهُم: يُشترَطُ لأداءِ الشَّهادةِ أن يكونَ بالغًا، فإذا تَحَمَّل، وهو صغيرٌ، لم تُقْبَلْ منه حتَّى يَبْلُغَ.
وقال بعضُهُم: تُقبَلُ شهادةُ الصِّغارِ بعضِهِم على بعضٍ إن شهِدوا في الحالِ؛لأنَّه
بعدَ التَّفرُّقِ يَحْتَمِلُ النِّسيانَ، أو التَّلقينَ، ولا يَسَعُ
العملُ إلا بهذا، وإلا لَضاعَتْ حقوقٌ كثيرةٌ بينَ الصِّبيانِ.
ويُستفادُ من هذا الأثرِ جوازُ ضربِ الصَّبِيِّ على الأخلاقِ إذا لم يتأدَّبْ إلا بالضَّربِ.
فيُؤخذُ منه تعظيمُ شأنِ
العهدِ والشهادةِ وضربُ الصغارِ على ذلك، ويُؤخذُ منه أيضًا عنايةُ السلفِ
بتربيةِ أولادِهِمْ وأنَّ مِن منهجِهِم الضربَ على تحقيقِ ذلك.
قال في (قرة عيون الموحدين) (ص:246): (هكذا
حال السلف الصالح محافظة منهم على دينهم الذي أكرمهم الله به، فلا يتركون
شيئاً مما يكره إلا أنكروه، وفيه تمرين الصغار على دينهم بالتعليم) .
(21) الثانِيَةُ: (الإِخبارُ بأنَّ الحلفَ مَنْفَقةٌ للسِّلعةِ مَمْحَقةٌ للبركةِ) تؤخذُ من قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((الْحَلِفُ مَنْفَقَةٌ للسِّلْعَةِ...))إلخ.
(22) الثَّالثةُ: (الوعيدُ الشَّديدُ لِمَن لا يَبِيعُ ولا يَشْتَري إلا بيَمينِه)تؤخذُ من قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((ورَجُلٌ جَعلََ اللهَ بِضَاعَتَهُ، لا يَشْتَري إلا بيَمينِهِ.. إلخ))في ضمنِ الثلاثةِ الذين لا يُكَلِّمُهم اللهُ ولا يُزَكِّيهم.
(23) الرَّابعةُ: (التَّنبيهُ على أنَّ الذَّنبَ يَعْظُمُ مع قِلَّةِ الدَّاعي)تؤخذُ من حديثِ سلمانَ، حيثُ
ذكَرَ الأُشَيْمِطَ الزَّانيَ، والعائلَ المُسْتَكْبِرَ، وغلَّظ في
عقوبتِهِم؛ لأنَّ الدَّاعيَ إلى فعلِ المعصيةِ المذكورةِ ضعيفٌ عندَهما.
(24) الخامِسَةُ: (ذمُّ الَّذين يَحْلِفونَ ولا يُسْتَحْلَفونَ) لقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((ورَجُلٌ جَعَلََ اللهَ بِضاعَتَهُ، لا يَشْتَري إلاَّ بيَمينِهِ..)).
ولكن
هذا ليس على إطلاقِهِ، بل النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم حلَفَ،
ولم يُسْتَحْلَفْ في مواضعَ عديدةٍ، بل أمرَهُ اللهُ سبحانَهُ أن يَحْلِفَ
بقولِهِ: {وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي}.
وقولِهِ: {زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَن لَّنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ}، وقولِه: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ}.
وعليه فإنَّ الحلفَ إذا
دعَت الحاجةُ إليه، أو اقْتَضَته المصلحةُ فإنَّه جائزٌ، بل قد يكونُ
مندوبًا إليه كحلفِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم في قصَّةِ الْمخزومِيَّةِ حيثُ قال: ((وايْمُ اللهِ لَوْ أنَّ فاطِمةَ بِنتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يدَها)).
فقد وقَع مَوْقِعًا عظيمًا من هؤلاء القومِ الَّذين أهَمَّهم شأنُ المخزوميَّةِ، وممَّنْ يأتي بعدَهُم.
(25) السَّادسةُ:
(ثناؤُهُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على القرونِ الثَّلاثَةِ أو الأربعةِ
وذكرُ ما يَحْدُثُ بعدَهم) تؤخذُ من قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((خيرُ النَّاسِ قَرْنِي..)).
وقولُه: ((وَذِكْرُ ما يَحْدُثُ))
لو جُعِلَتْ هذه مسألةً مستقلَّةً لكان أبينَ وأوضحَ؛ لأنَّ الإخبارَ عن
شيءٍ مُستقبلٍ ووُقوعِهِ كما أخبرَ دليلٌ على رسالتِهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيهِ وسلَّمَ.
(26) السَّابعةُ:
(ذمُّ الَّذين يَشْهَدونَ ولا يُسْتَشْهَدونَ) تؤخذُ من حديثِ عِمْرانَ،
وكذا ذمُّ الَّذين يخونون ولا يُؤْتَمَنون، ويَنْذِرون ولا يُوفُون،
والَّذين يَتَعَاطَوْن أسبابَ السِّمَنِ يَغْفُلون عن سِمَنِ القلبِ
بالإيمانِ والعلمِ.
(27) الثَّامنةُ: (كوْنُ السَّلفِ يَضْرِبونَ الصِّغارَ على الشَّهادةِ والعهْدِ) تؤخذُ من قولِ إبراهيمَ النَّخَعِيِّ: ((كانُوا يَضْرِبُونَنَا عَلى الشهادةِ والعَهْدِ)).
الأوَّلُ: أنْ يكونَ الصغيرُ قابِلاً للتأديبِ، فلا يُضرَبُ مَن لا يعرِفُ المرادَ بالضربِ.
الثاني: أنْ يكونَ التأديبُ مِمَّنْ له ولايةٌ عليه.شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (هذا باب ما جاء في كثرة الحَلِف
ومن الظاهر والبين أنَّ
القلب المعظم لله جل جلاله، الذي إذا ذُكر الله وجل قلبه، أنه لا يستعمل
الحلف، وكثرة الحلف لا تجامع كمال التوحيد، فإن مَنْ كَمُلَ التوحيد في
قلبه، أو قارب الكمال، لا يكون جاعلاً لله جل وعلا في أيمانه، يجعل الله جل
وعلا في يمينه، إذا تكلم تكلم بالحلف، وإذا باع باع بالحلف، وإذا اشترى
اشترى بالحلف ونحو ذلك، فإن هذا ليس مِن التعظيم الواجب لله جل وعلا؛ فإن
الواجب على العبد أنْ يعظم الله جل وعلا، وأن لا يكثر اليمين. وسبب ذلك: أنه نوع عقوبة،
أنَّ هذا الذي يبيع بالحلف، فإنه تنفق سلعته ولكن كسبه يمحق؛ لأن محق
الكسب يكون نوع عقوبة؛ لأجل أنه لم يفعل الواجب من تعظيم الله جل وعلا. - يكون استكباراً في الذات. فهذا يكون فعله كبيرة من الكبائر العظيمة، ويدخل في هذا الحديث ولهذا قال: ((وعائلٌ مستكبر)) لأن العائل - وهو: الفقير الكثير العيال -
ليس عنده من الصفات، ما يكون الاستكبار شبهة عنده، أو لأجل تلك الصفات، أو
يكون ثَمَّ فتنة عنده؛ إلا لما قام في نفسه الخبيثة من الكبر. قال: ((ورجلٌ جعل الله بضاعته، لا يشتري إلا بيمينه ولا يبيع إلا بيمينه))
وهذا موطن الشاهد من الحديث وهو ظاهر في أنه مذمومٌ، وأنه صاحب كبيرة؛
لأنه جعل الله بضاعته، ويبيع باليمين، ويشتري باليمين، وهذا لا يجامع كمال
التوحيد، بل لا يجامع تعظيم الله جل وعلا التعظيم الواجب؛ فيكون مرتكباً
لمحرم، والحديث الذي بعده واضح وكذلك الذي بعده.
فمناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة:
وهي: أن تحقيق التوحيد وكمال التوحيد لا يجامع كثرة الحلف، فكثرة الحلف منافية لكمال التوحيد، والحلف هو - كما ذكرنا -: تأكيد الأمر بمعظَّمٍ وهو الله جل جلاله،
فمن أكدّ وعقد اليمين بالله جل وعلا، وأكثر من ذلك، وأكثر؛ فإنه لا يكون
معظماً لله جل جلاله، إذ الله سبحانه وتعالى يجب أنْ يُصان اسمه، ويصان
الحلف به، واليمين به؛ إلا عند الحاجة إليها.
أما كثرة ذلك، وكثرة مجيئه على اللسان؛ فهو ليس من صفة أهل الصلاح.
ولهذا أمر الله جل وعلا بحفظ اليمين، فقال: {واحفظوا أيمانكم} وهذا الأمر للوجوب؛ لأنه وسيلة لتحقيق تعظيم الله جل وعلا، وتحقيق كمال التوحيد.
فقوله: {واحفظوا أيمانكم}
هذا إيجاب بأن يحفظ العبد يمينه؛ فلا يحلف عاقداً اليمين؛ إلا على أمر
شرعي بيّن، أما أن يحلف دائماً، ويجعل الله جل وعلا في يمينه؛ فهذا ليس من
تعظيم أسماء الله جل جلاله.
قال: عن أبي هريرة رضي الله عنه سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب)).
والصفة الثانية قال: ((عائلٌ مستكبر)) هذا النوع الثاني: وهو من جنس الأول، فإن الاستكبار كما قال العلماء:
استكبار للذات، واستكبار للصفات،
فإذا كان استكباراً للصفات فهذا محرم، ولكنه أهون، كمن يكون ذا جاهٍ
ورفعة؛ فيتكبر لأجل ما لَه من الجاه والرفعة، فهذا لا يجوز، لكن عنده ما
يوقع في قلبه الشبهة، والفتنة بالتكبر، أو الاستكبار، أو يكون ذا مال، أو
يكون ذا جمال، أو يكون ذا سمعة ونحو ذلك، فعنده سبب يجعله يتكبر، وهذا يكثر
في أهل الغنى.
فإن أهل الغنى يكون كثيراً
عندهم نوع تكبّر على مَنْ كانوا من أهل الفقر، أو ليسوا من أهل الغنى،
فهذا عنده وصف جعله يتكبر، لكن الأعظم أنْ يكون تكبره في الذات، بأن ليس عنده صفة تجعله متكبراً، وهذا هو النوع الأول وهو استكبار للذات، يرى نفسه كبيراً ويتعاظم، وهو ليس عنده شيء من الصفات يجعله كذلك.
وآخره قول إبراهيم النخعي،(قال إبراهيم: كانوا يضربوننا على الشهادة، والعهد، ونحن صغار) هذا فيه تأديب السلف لأولادهم، ولذراريهم على تعظيم الله جل وعلا.
فإن الشهادة والعهد، واجبٌ أنْ تكون:
- مع التعظيم لله جل وعلا.
العناصر
مناسبة باب (ما جاء في كثرة الحلف) لكتاب التوحيد
بيان أهمية باب (ما جاء في كثرة الحلف)
شرح ترجمة الباب (ما جاء في كثرة الحلف)
- معنى الحلف
- الحكمة في النهي عن الحلف إلا بالله
- بيان أن من تعظيم الله ألا يحلف به إلا صادقاً، وألا يكثر الحلف
تفسير قوله تعالى: (واحفظوا أيمانكم)
- معنى حفظ اليمين في قوله: (واحفظوا أيمانكم)
- بيان أن لكل يمين ابتداء، وانتهاء، ووسطاً
- حكم الحلف بناء على غلبة الظن
- هل تلزم الكفارة بالحلف بناء على غلبة الظن على أمر مستقبل لم يحصل
شرح حديث أبي هريرة: (الحلف منفقة للسلعة ممحقة للكسب)
- المراد بالحلف في قوله: (الحلف منفقة للسلعة)
- معنى قوله: (ممحقة للكسب)
شرح حديث سلمان: (ثلاثة لا يكلمهم الله ولا يزكيهم ...)
- مناسبة حديث سلمان (ثلاثة لا يكلمهم الله) لباب ما جاء في كثرة الحلف
- ترجمة سلمان الفارسي
- معنى قوله: (ثلاثة لا يكلمهم الله)، وبيان معنى الكلام عند الإطلاق
- مذهب أهل السنة في كلام الله تعالى
- ما يفيده نفي تكليم هؤلاء العصاة
- معنى قوله: (ولا يزكيهم ، ولهم عذاب أليم)
- معنى قوله: (أشيمط زان، وعائل مستكبر)، وبيان الحكمة من تخصيصهما بالذكر
- معنى قوله: (ورجل جعل الله بضاعته...) الحديث، وبيان سبب استحقاقه العقوبة
- معنى قوله: (خير أمتي قرني ثم الذين يلونهم...) الحديث، والجمع بينه وبين قوله: (خير الناس قرني)
- المراد بالأمة في قوله: (خير أمتي قرني)
- فضل القرون الثلاثة الأولى
- شك الراوي في دخول القرن الرابع في الخيرية
- توجيه رواية الرفع (ثم إن بعدكم قوم)
- بيان أنه ما من زمان إلا والذي بعده شر منه
- معنى قوله: (يشهدون ولا يستشهدون)
- معنى قوله: (يخونون ولا يؤتمنون)
- معنى قوله: (وينذرون ولا يوفون)
- معنى قوله: (ويظهر فيهم السمن)
- الجمع بين حديث الباب (يشهدون ولا يستشهدون) ، وحديث (ألا أخبركم بخير الشهداء، الذي يأتي بالشهادة قبل أن يسألها)
شرح حديث ابن مسعود (خير الناس قرني...) الحديث
- بيان أن المراد بالأفضلية في قوله: (خير الناس قرني) من حيث الجنس، لا الأفراد
شرح أثر إبراهيم النخعي: (كانوا يضربوننا على الشهادة والعهد ونحن صغار)
- بيان وجوب تربية الصغار على طاعة الله تعالى
- شروط جواز ضرب الصبي
- اختلاف العلماء في قبول شهادة الصبي