الدروس
course cover
باب ما جاء في المصورين
26 Oct 2008
26 Oct 2008

4156

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم العاشر

باب ما جاء في المصورين
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

4156

0

0


0

0

0

0

0

باب ما جاء في المصورين

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ فِي الْمُصَوِّرِينَ

عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم:((قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلِيَخْلُقُوا ذَرَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً أَوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً))أَخْرَجَاهُ.

وَلَهُمَا عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللهِ)).

وَلَهُمَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:((كُلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ يُعَذَّبُ بِهَا فِي جَهَنَّمَ)).

وَلَهُمَا عَنْهُ مَرْفُوعًا: ((مَنْ صَوَّرَ صُورَةً فِي الدُّنْيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ وَلَيْسَ بِنَافِخٍ)).
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ أَبِي الْهَيَّاجِ قَالَ:(قَالَ لِي عَلِيٌّ): (أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم؟أَنْ لاَ تَدَعَ صُورَةً إِلاَّ طَمَسْتَهَا، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: التَّغْلِيظُ الشَّدِيدُ فِي الْمُصَوِّرِينَ.

الثَّانِيَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى الْعِلَّةِ وَهِيَ تَرْكُ الأَدَبِ مَعَ اللهِ لِقَوْلِهِ:((وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي)).
الثَّالِثَةُ: التَّنْبِيهُ عَلَى قُدْرَتِهِ وَعَجْزِهِمْ لِقَوْلِهِ:((فَلِيَخْلُقُوا ذَرَّةً أوْ حَبَّةً أَوْ شَعِيرَةً)).
الرَّابِعَةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُمْ أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا.

الْخَامِسَةُ: أَنَّ اللهَ يَخْلُقُ بِعَدَدِ كُلِّ صُورَةٍ نَفْسًا يُعَذِّبُ بِهَا الْمُصَوِّرَ فِي جَهَنَّمَ.

السَّادِسَةُ: أَنَّهُ يُكَلَّفُ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ.

السَّابِعَةُ: الأَمْرُ بِطَمْسِهَا إِذَا وُجِدَتْ.

هيئة الإشراف

#2

2 Nov 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: عَنْ أَبِي هُريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ:((قَالَ اللهُ تَعَالَى: وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقِي، فَلْيَخْلُقُوا ذَرَّةً، أوْ لِيَخْلُقُوا حَبَّةً، أوْ لِيَخْلُقُوا شَعِيرَةً)) أَخْرَجَاهُ.

ولَهُما عَنْ عائِشَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ قَالَ:((أَشَدُّ النَّاسِ عَذَابًا يَومَ الْقِيامةِ الَّذِينَ يُضَاهِئُونَ بِخَلْقِ اللهِ)).

ولَهُما عنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ:((كلُّ مُصَوِّرٍ فِي النَّارِ يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَهَا نَفْسٌ يُعَذَّبُ بِهَا فِي جَهَنَّمَ)).

ولَهُمَا عَنهُ مَرْفُوعًا: ((مَنْ صَوَّرَ صُورةً في الدُّنيَا كُلِّفَ أَنْ يَنْفُخَ فِيهَا الرُّوحَ، ولَيْسَ بِنَافِخٍ)).

قولُهُ: (بابُ ما جاءَ في الْمُصَوِّرينَ) أيْ: منْ عِظَمِ عُقوبةِ اللهِ لهم وعَذابِهِ.

وقدْ ذَكَرَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العِلَّةَ: وهيَ الْمُضَاهَاةُ بخَلْقِ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى لهُ الْخَلْقُ والأَمْرُ، فهوَ رَبُّ كلِّ شيءٍ ومَليكُهُ، وهوَ خالِقُ كلِّ شيءٍ، وهوَ الذي صَوَّرَ جَميعَ المخلوقاتِ؛ وجَعَلَ فيها الأَرواحَ التي تَحْصُلُ بها الحياةُ، كما قالَ تعالَى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلاَلَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلاً مَا تَشْكُرُونَ}[السجدة:7-9] فالْمُصوِّرُ لَمَّا صَوَّرَ الصُّورةَ علَى شَكْلِ ما خَلَقَهُ اللهُ تعالَى منْ إنسانٍ أوْ بَهيمةٍ صارَ مُضاهِيًا لِخَلْقِ اللهِ، فصارَ ما صَوَّرَهُ عَذابًا لهُ يومَ القِيامةِ، وكُلِّفَ أنْ يَنْفُخَ فيها الرُّوحَ وليسَ بنَافِخٍ، فكانَ أَشَدَّ الناسِ عَذابًا؛ لأنَّ ذَنْبَهُ منْ أَكْبَرِ الذنوبِ.
فإذا كان هذا فيمَنْ صَوَّرَ صُورةً علَى مِثالِ ما خَلَقَهُ اللهُ تعالَى من الحيوانِ؛ فكيفَ بِحَالِ مَنْ سَوَّى المخلوقَ برَبِّ العالمينَ وشَبَّهَهُ بخَلْقِهِ، وصَرَفَ لهُ شيئًا من العِبادةِ التي خَلَقَ اللهُ الخلْقَ ليَعْبُدوهُ وَحْدَهُ بما لا يَسْتَحِقُّهُ غيرُهُ منْ كلِّ عملٍ يُحِبُّهُ اللهُ من العَبْدِ ويَرضاهُ، فتَسويَةُ المخلوقِ بالخالِقِ بِصَرْفِ حَقِّهِ لِمَنْ لا يَسْتَحِقُّهُ منْ خَلْقِهِ؛ وجَعْلِهِ شَريكًا لهُ فيما اخْتَصَّ بهِ تعالَى وتَقَدَّسَ؛ هوَ أَعْظَمُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ تعالَى بهِ؛ ولهذا أَرْسَلَ رُسلَهُ وأَنزَلَ كُتُبَهُ لبيانِ هذا الشرْكِ والنَّهْيِ عنه، وإخلاصِ العِبادةِ بجميعِ أنواعِها للهِ تعالَى.
فنَجَّى تعالَى رُسلَهُ ومَنْ أَطاعَهم، وأَهْلَكَ مَنْ جَحَدَ التوحيدَ واسْتَمَرَّ علَى الشِّرْكِ والتنديدِ، فما أَعْظَمَهُ منْ ذنبٍ {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}[النساء:48].
{وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} [الحج:31].

(2) ولِمُسْلِمٍ، عنْ أَبِي الهَيَّاجِ قَالَ: قَالَ لِي عَلِيٌّ: (أَلاَ أبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَنِي عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ ((أنْ لاَ تَدَعَ صُورَةً إِلاَّ طَمَسْتَهَا، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ)) ).

قولُهُ: (ولِـمُسْلِمٍ عنْ أبي الهَيَّاجِ الأَسَدِيِّ حَيَّانَ بنِ حُصَيْنٍ قالَ: قالَ لي عليٌّ) هوَ أميرُ المؤمنين عليُّ بنُ أبي طالِبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

قولُهُ: (أَلاَ أَبْعَثُكَ عَلَى مَا بَعَثَني عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟ أَنْ لاَ تَدَعَ صُورَةً إِلاَّ طَمَسْتَهَا، وَلاَ قَبْرًا مُشْرِفًا إِلاَّ سَوَّيْتَهُ) فيهِ تَصريحٌ بأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ عَلِيًّا لذلكَ، أمَّا الصُّوَرُ فلِمُضَاهَاتِها لِخَلْقِ اللهِ، وأمَّا تَسويَةُ القُبورِ فلِمَا في تَعلِيَتِها مِنَ الفِتْنةِ بأربابِها وتَعْظِيمِها، وهوَ مِنْ ذَرائعِ الشرْكِ ووسائلِهِ، فصَرْفُ الْهِمَمَ إلَى هذا وأمثالِهِ منْ مَصالِحِ الدِّينِ ومَقَاصِدِهِ ووَاجباتِهِ، ولَمَّا وَقَعَ التساهُلُ في هذه الأُمورِ وَقَعَ الْمَحْذُورُ؛ وعَظُمَت الْفِتْنَةُ بأَربابِ القُبورِ، وصارَتْ مَحَطًّا لِرِحَالِ العابدينَ الْمُعَظِّمينَ لها؛ فصَرَفُوا لها جُلَّ العِبادةِ: من الدُّعاءِ، والاستعانةِ، والاستغاثةِ؛ والتضَرُّعِ لها، والذَّبْحِ لها، والنُّذورِ؛ وغيرِ ذلكَ منْ كلِّ شِرْكٍ مُحَرَّمٍ مَحظورٍ.
قالَ العَلاَّمَةُ ابنُ القيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ومَنْ جَمَعَ بيْنَ سُنَّةِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في القُبورِ وما أَمَرَ بهِ، وما نَهَى عنه، وما كان عليهِ أصحابُهُ؛ وبينَ ما عليهِ أَكْثَرُ الناسِ، رأَى أحدَهما مُضادًّا للآخَرِ، مناقضًا لهُ بحيث لا يَجتمعانِ أبدًا.
فنَهَى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الصلاةِ إلَى القُبورِ، وهؤلاء يُصَلُّون عندَها وإليها، ونَهَى عن اتِّخاذِها مَساجِدَ، وهؤلاءِ يَبْنُونَ عليها الْمَساجِدَ، ويُسَمُّونَها مَشاهِدَ مُضاهاةً لبُيوتِ اللهِ، ونَهَى عنْ إيقادِ السُّرُجِ عليها، وهؤلاءِ يُوقِفون الوُقوفَ علَى إيقادِ القَناديلِ عليها، ونَهَى أنْ تُتَّخذَ عِيدًا، وهؤلاءِ يَتَّخِذُونها أعيادًا ومَنَاسِكَ؛ ويَجْتَمِعون لها كاجتماعِهِم للعِيدِ أوْ أكثرَ، وأَمَرَ بتَسوِيَتِها كما روَى مسلِمٌ في (صحيحِهِ) عنْ أبي الهياجِ الأسديِّ - فذكَرَ حديثَ البابِ - وحديثَثُمامةَ بنِ شُفَيٍّ وهوَ عندَ مسلِمٍ أيضًا قال: (كُنَّا مَعَ فَضالَةَ بنِ عُبيدٍ بِأَرْضِ الرُّومِ بِرودس، فُتُوُفِّيَ صاحبٌ لنا، فَأَمَر فَضالَةُ بِقبْرِهِ فَسُوِّيَ، ثُمَّ قال: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَأمُرُ بِتَسوِيَتِها)وهؤلاءِ يُبالِغُون في مُخالَفَةِ هذين الحديثينِ، ويَرفعونَها من الأرْضِ كالبيتِ؛ ويَعْقِدون عليها القِبابَ، ونَهَى عنْ تَجصيصِ القبْرِ والبِناءِ عليهِ، كما روَىمُسلِمٌ في (صَحيحِه)عنْ جابِرٍ قالَ: (نَهَى رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عنْ تَجصِيصِ القَبْرِ وَأَنْ يُعْقَدَ عَلَيْهِ، وَأَنْ يُبْنَى عَلَيْهِ)ونَهَى عن الكتابةِ عليها، كما روَى أبو دَاوُدَ في (سُنَنِهِ) عنْ جابِرٍ:(أنَّ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَهَى عَنْ تَجصِيصِ القُبورِ، وأنْ يُكْتَبَ عَلَيها) قالَ التِّرْمِذِيُّ:(حديثٌ حسَنٌ صحيحٌ) وهؤلاءِ يَتَّخِذونَ عليها الألواحَ، ويَكْتُبُونَ عليها القُرآنَ وغيرَهُ، ونَهَى أن يُزادَ عليها غيرُ تُرابِها، كما روَى أبو دَاوُدَ عنْ جابِرٍ أيضًا:(نَهَى أَنْ يُجَصَّصَ القَبْرُ، أَوْ يُكْتَبَ عَلَيْهِ، أَوْ يُزَادَ عَلَيْهِ)وهؤلاءِ يَزيدونَ عليهِ الآجُرَّ والأحجارَ والْجِصَّ، قالَ إبراهيمُ النَّخَعِيُّ: (كانوا يَكْرَهون الآجُرَّ علَى قُبورِهم).
والمقصودُ: أنَّ هؤلاءِ الْمُعَظِّمينَ للقُبورِ، الْمُتَّخِذينَها أعيادًا؛ الْمُوقِدينَ عليها السُّرُجَ؛ الذينَ يَبْنُونَ عليها المساجِدَ والقِبابَ مُناقِضُون لِمَا أَمَرَ بهِ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُحادُّون لِمَا جاءَ بهِ، وأَعْظَمُ ذلكَ اتِّخاذُها مساجِدَ، وإيقادُ السُّرُجِ عليها وهوَ من الكبائرِ، وقدْ صَرَّحَ الفُقهاءُ منْ أصحابِ أحمدَ وغيرِهم بتحريمِهِ.
قالَ أبو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ: (ولوْ أُبيحَ اتِّخاذُ السُّرُجِ عليها لم يُلْعَنْ مَنْ فَعَلَهُ؛ ولأنَّ فيهِ إفراطًا في تَعظيمِ القُبورِ أَشْبَهَ تعظيمَ الأصنامِ).

قالَ: ولا يَجوزُ اتِّخاذُ المساجِدِ علَى القُبورِ لهذا الْخَبَرِ؛ ولأنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:

((لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؛ اتَّخذُوا قُبُورَ أنْبِيَائِهِم مَسَاجِدَ)) يُحَذِّرُ مَا صَنَعُوا، متَّفَقٌ عليهِ؛ ولأنَّ تَخصيصَ القُبورِ يُشْبِهُ تَعظيمَ الأصنامِ بالسُّجودِ لها والتَّقَرُّبِ إليها؛ وقدْ رُوِّينَا أنَّ ابتداءَ عِبادةِ الأصنامِ تَعظيمُ الأمواتِ باتِّخاذِ صُوَرِهم، والتَّمسُّحِ بِها، والصلاةِ عندَها)انتهَى.

وقدْ آلَ الأَمْرُ بهؤلاءِ الضُّلاَّلِ الْمُشْرِكينَ إلَى أن شَرَعُوا للقُبورِ حَجًّا، ووَضَعُوا لها مَناسِكَ حتَّى صَنَّفَ بعضُ غُلاتِهم في ذلكَ كتابًا وسَمَّاهُ (مناسِكُ حَجِّ الْمَشَاهِدِ) مُضاهاةً منهُ بالقبورِ للبيتِ الحرامِ؛ ولا يَخْفَى أنَّ هذا مُفارَقةٌ لدِينِ الإسلامِ، ودُخولٌ في دِينِ عُبَّادِ الأصنامِ، فانظُرُوا إلَى هذا التبايُنِ العظيمِ بينَ ما شَرَعَهُ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقَصَدَهُ، من النَّهْيِ عَمَّا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في القُبورِ، وبينَ ما شَرَعَهُ هؤلاءِ وقَصَدُوهُ.

ولا رَيبَ أنَّ في ذلكَ من الْمَفاسِدِ ما يُعْجَزُ عنْ حَصْرِهِ:

فمنها: تَعْظيمُها الْمُوقِعُ في الافتِتَانِ بها.
ومنها: اتِّخاذُها أعيادًا.
ومنها: السفَرُ إليها.
ومنها: مُشابَهَةُ عُبَّادِ الأصنامِ بما يُفْعَلُ عندَها من العُكوفِ عليها، والمجاوَرَةِ عندَها، وتَعليقِ السُّتُورِ عليها، وسَدَانَتِها، وعُبَّادُها يُرَجِّحونَ المجاوَرَةَ عندَها علَى المجاوَرَةِ عندَ المسجِدِ الحرامِ؛ ويَرَوْنَ سَدَانَتَها أَفْضَلَ منْ خِدمةِ المساجِدِ، والوَيْلُ لِقَيِّمِها ليلةَ يُطفِئُ الْقِنْدِيلَ الْمُعلَّقَ عليها.
ومنها: النَّذْرُ لها ولسَدَنَتِها.
ومنها: اعتقادُ الْمُشرِكينَ بها أنَّ بها يُكْشَفُ البَلاءُ، ويُنْصَرُ علَى الأعداءِ، ويُستَنْزَلُ غَيْثُ السماءِ؛ وتُفَرَّجُ الكُروبُ، وتُقْضَى الحوائجُ، ويُنْصَرُ المظلومُ، ويُجارُ الخائفُ، إلَى غيرِ ذلكَ.
ومنها: الدُّخولُ في لعنةِ اللهِ ورسولِهِ باتِّخاذِ المساجِدِ عليها، وإيقادِ السُّرُجِ عليها.
ومنها: الشرْكُ الأكبرُ الذي يُفْعَلُ عندَها.
ومنها: إيذاءُ أصحابِها بما يَفْعَلُهُ الْمُشْرِكون بقُبورِهم؛ فإنَّهُم يُؤْذِيهِم ما يُفعَلُ عندَ قُبُورِهم، ويَكْرَهونَهُ غايَةَ الكَراهيَةِ، كما أنَّ الْمَسيحَ عليهِ السلامُ يَكرَهُ ما يَفعلُ النَّصارَى عندَ قَبْرِهِ، وكذلكَ غيرُهُ من الأنبياءِ والأولياءِ والْمَشايِخِ يُؤذِيهِم ما يَفعلُهُ أَشباهُ النَّصَارَى عندَ قُبورِهم، ويومَ القِيامةِ يَتَبَرَّءُون منهم، كما قالَ تعالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَا أَن نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَـكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا}[الفرقان:17،18] قالَ اللهُ للمُشْرِكينَ: {فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ}[الفرقان:19]، وقالَ تعالَى: {وَإِذْ قَالَ اللهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَـهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ} الآيَةَ [المائدة:116]
وقالَ تعالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلاَئِكَةِ أَهَـؤُلاَءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (.4) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْـثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ}[سبأ:40،41].
ومنها: إماتَةُ السُّنَنِ، وإحياءُ البِدَعِ.
ومنها: تفضيلُها علَى خيرِ البِقاعِ وأَحَبِّها إلَى اللهِ،فإنَّ عُبَّادَ القُبورِ يَقْصِدونَها معَ التعظيمِ والاحترامِ والْخُشوعِ ورِقَّةِ القَلْبِ، والعُكوفِ بالْهِمَّةِ علَى الْمَوْتَى بما لا يَفعلونَهُ في الْمَساجِدِ، ولا قَريبًا منهُ.
ومنها: أنَّ الذي شَرَعَهُ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عندَ زِيارةِ الْقُبُورِ إنما هوَ تَذَكُّرُ الآخِرَةِ، والإِحسانُ إلَى الْمَزُورِ بالدعاءِ لهُ؛ والتَّرَحُّمِ عليهِ، والاستغفارِ لهُ، وسؤالِ العافيَةِ؛ فيكونُ الزائرُ مُحْسِنًا إلَى نَفْسِهِ وإلَى الْمَيِّتِ، فقَلَبَ هؤلاءِ المشرِكونَ الأَمْرَ، وعَكَسُوا الدِّينَ، وجَعَلوا المقصودَ بالزيارةِ الشرْكَ بالْمَيِّتِ، ودُعاءَهُ والدُّعاءَ بهِ، وسؤالَهُ حوائجَهم، واسْتِنْزَالَ الْبَرَكَةِ منهُ، ونَصْرَهُ لهم علَى الأعداءِ، ونحوَ ذلكَ، فصارُوا مُسيئينَ إلَى أَنْفُسِهم وإلَى الْمَيِّتِ، وكان رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قدْ نَهَى الرجالَ عنْ زِيارةِ القُبورِ سدًّا للذَّرِيعَةِ، فلَمَّا تَمَكَّنَ التوحيدُ في قلوبِهم أَذِنَ لهم في زيارتِها علَى الوَجْهِ الذي شَرَعَهُ، ونَهَاهُم أن يَقولوا هُجْرًا، ومِنْ أَعْظَمِ الْهُجْرِ: الشرْكُ عندَها قَولاً وفِعْلاً.
وفي (صحيحِ مسلِمٍ) عنْ أبي هُريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((زُورُوا الْقُبُورَ؛ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ)) وعن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: مَرَّ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِقُبورِ الْمَدينَةِ؛ فَأقْبَلَ عليهِمْ بِوجْهِهِ فَقَالَ:((السَّلاَمُ عَلَيْكُم يَا أَهْلَ القُبُورِ، يَغْفِرُ اللهُ لَنَا وَلَكُمْ، أَنْتُمْ سَلَفُنا وَنَحْنُ بِالأَثَرِ)) رواهُ أحمدُ، والتِّرمذِيُّ وحَسَّنَهُ.
فهذه الزيارةُ التي شَرَعَها رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُمَّتِهِ، وعَلَّمَهم إيَّاها، هلْ تَجِدُ فيها شَيئًا مِمَّا اعْتَمَدَهُ أهلُ الشرْكِ والْبِدَعِ؟
أمْ تَجِدُها مُضادَّةً لِمَا هم عليهِ منْ كلِّ وَجْهٍ؟
وما أَحْسَنَ ما قالَ مالِكُ بنُ أَنَسٍ رَحِمَهُ اللهُ: (لَنْ يُصْلِحَ آخِرَ هَذهِ الأُمَّةِ إِلاَّ مَا أَصْلَحَ أَوَّلَها) ولكن كُلَّما ضَعُفَ تَمَسُّكُ الأُمَمِ بعُهودِ أنبيائِهم، ونَقَصَ إيمانُهم، عَوَّضُوا عنْ ذلكَ بما أَحْدَثُوهُ من البِدَعِ والشرْكِ.
ولقدْ جَرَّدَ السلَفُ الصالِحُ التوحيدَ وحَمَوْا جانِبَهُ؛ حتَّى كان أحدُهم إذا سَلَّم علَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثمَّ أَرادَ الدعاءَ اسْتَقْبَلَ القِبلةَ، وجَعَلَ ظَهْرَهُ إلَى جِدارِ القَبْرِ ثمَّ دَعَا، ونَصَّ علَى ذلكَ الأئِمَّةُ الأربعةُ: أنَّهُ يَسْتَقْبِلُ القِبلةَ وقتَ الدُّعاءِ حتَّى لا يَدْعُوَ عندَ القَبْرِ، فإنَّ الدعاءَ عِبادةٌ، وفي (التِّرمذيِّ) وغيرِهِ مَرْفُوعًا: ((الدُّعاءُ هُوَ الْعِبادَةُ)) فجَرَّدَ السلَفُ العِبادةَ للهِ ولم يَفعلوا عندَ القُبورِ منها إلاَّ ما أَذِنَ فيهِ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِن الدُّعاءِ لأصحابِها، والاستغفارِ لَهُم، والترحُّمِ عليهمْ.
وأَخْرَجَ أبو دَاوُدَ، عَنْ أبي هُريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((لاَ تَجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قُبُورًا، وَلاَ تَجْعَلُوا قَبْرِيَ عِيدًا، وَصَلُّوا عَلَيَّ، فَإِنَّ صَلاَتَكُم تَبْلُغُنِي حَيْثُ كُنْتُمْ)) وإسنادُهُ جَيِّدٌ، ورُواتُهُ ثِقاتٌ مَشاهيرُ.
وقولُهُ: (ولاَ تَجْعَلوا بيوتَكُمْ قُبُورًا) أيْ: لا تُعَطِّلُوها مِن الصلاةِ فيها والدعاءِ والقِراءةِ؛ فتكونَ بِمَنْزِلَةِ القُبورِ، فأَمَرَ بتَحَرِّي النافلةِ في البيوتِ، ونَهَى عنْ تَحَرِّي العِبَادَةِ عندَ القُبورِ، وهذا ضِدُّ ما عليهِ الْمُشْرِكون من النَّصَارَى وأَشْبَاهِهِم.
ثم إنَّ في تعظيمِ القُبورِ، واتِّخاذِها أعيادًا من الْمَفاسِدِ العظيمةِ التي لا يَعْلَمُها إلاَّ اللهُ ما يَغْضَبُ لأجْلِهِ كلُّ مَنْ في قَلْبِهِ وَقارٌ للهِ، وغَيْرَةٌ علَى التوحيدِ، وتَهْجِينٌ وتَقبيحٌ للشِّرْكِ؛ ولكنْ ما لِجُرْحٍ بِمَيِّتٍ إيلامُ.
فمن مَفَاسِدِ اتِّخاذِها أَعيادًا: الصلاةُ إليها، والطوافُ بها، وتَقبيلُها واستلامُها، وتَعفيرُ الْخُدودِ علَى تُرابِها، وعِبادةُ أصحابِها، والاستغاثةُ بهم، وسؤالُهم: النصْرَ، والرزْقَ، والعافيَةَ، وقَضاءَ الدُّيُونِ، وتَفريجَ الكُرُباتِ، وإغاثَةَ اللهَفَاتِ، وغيرَ ذلكَ منْ أنواعِ الطَّلِبَاتِ التي كان عُبَّادُ الأوثانِ يَسْأَلُونَها أَوْثَانَهم.
فلوْ رأيتَ غُلاةَ الْمُتَّخِذينَ لها عِيدًا، وقدْ نَزَلُوا عن الأكوارِ والدَّوابِّ إذا رَأَوْها منْ كلِّ مكانٍ بَعيدٍ، فوَضَعُوا لها الْجِباهَ، وقَبَّلُوا الأرضَ، وكَشَفُوا الرءوسَ، وارْتَفَعَتْ أصواتُهم، بالضجيجِ، وتَبَاكَوْا حتَّى تَسْمَعَ لهم النَّشيجَ، ورَأَوْا أنَّهُم قدْ أَرْبَوْا في الرِّبْحِ علَى الحجيجِ؛ فاستَغَاثُوا بِمَنْ لا يُبْدِئُ ولا يُعِيدُ، ونَادَوْا ولكن منْ مَكانٍ بعيدٍ، حتَّى إذا دَنَوْا منها صَلَّوْا عندَ القَبْرِ رَكعتينِ، ورَأَوْا أنَّهُم قدْ أَحْرَزُوا من الأَجْرِ، ولا أَجْرَ مَنْ صَلَّى إلَى القِبلتينِ!! فتَرَاهُمْ حولَ القَبْرِ رُكَّعًا وسُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً من الْمَيِّتِ ورِضوانًا، وقدْ مَلأَُوا أَكُفَّهُمْ خَيْبَةً وخُسْرَانًا.
فلغيرِ اللهِ -بلْ للشيطانِ- ما يُراقُ هناكَ من العَبَرَاتِ، ويَرتفِعُ من الأصواتِ، ويُطْلَبُ من الْمَيِّتِ من الحاجاتِ، ويُسألُ منْ تَفريجِ الكُرُبَاتِ، وإغناءِ ذوي الفَاقَاتِ، ومُعافاةِ ذَوِي العاهاتِ والْبَلِيَّاتِ، ثُم انْثَنَوْا بعدَ ذلكَ حولَ القبرِ طائفينَ، تَشبيهًا لهُ بالبيتِ الحرامِ الذي جَعَلَهُ اللهُ مبارَكًا وهُدًى للعالمينَ.

ثمَّ أَخَذُوا في التقبيلِ والاستلامِ، أَرَأَيْتَ الْحَجَرَ الأسودَ وما يَفْعَلُ بهِ وَفْدُ البيتِ الحرامِ؟ ثمَّ عَفَّروا لَدَيْهِ تلكَ الْجِباهَ والخدودَ التي يَعلمُ اللهُ أنَّها لم تُعفَّرْ كذلكَ بينَ يَدَيْهِ في السجودِ، ثمَّ كَمَّلُوا مَناسِكَ حَجِّ القَبْرِ بالتقصيرِ هناكَ والْحِلاقِ، واستَمتَعُوا بِخَلاقِهم مِنْ ذلكَ الْوَثَنِ؛ إذْ لم يكنْ لهم عندَ اللهِ مِنْ خَلاقٍ، وقدْ يُعْطي لذلكَ الَوَثَنِ القَرابينَ، وكانت صَلاتُهم ونُسُكُهُم وقُرباتُهم لغيرِ اللهِ ربِّ العالمينَ، فلوْ رَأَيْتَهم يُهَنِّئُ بعضُهم بعضًا ويقولُ: أَجْزَلَ اللهُ لنا ولكم أَجْرًا وافرًا وحظًّا، فإذا رَجَعُوا سألَهم غُلاةُ الْمُتَخَلِّفينَ أن يَبيعَ أحدُهم ثوابَ حَجَّةِ القَبْرِ بحَجِّ الْمُتَخَلِّفِ إلَى البيتِ الحرامِ، فيقولُ: لا، ولا بِحَجِّكَ كلَّ عامٍ.

هذا، ولم نَتجاوَزْ فيما حَكَيْنَا عنهم، ولا اسْتَقْصَيْنا جَميعَ بِدَعِهم وضَلالِهم؛ إذ هيَ فوقَ ما يَخْطِرُ بالبالِ، أوْ يدورُ في الخيالِ، وهذا مَبْدَأُ عِبادةِ الأصنامِ في قَوْمِ نُوحٍ كما تَقَدَّمَ.
وكلُّ مَنْ شَمَّ أَدْنَى رائحةٍ من العِلْمِ والفِقْهِ يَعلمُ أنَّ أهمَّ الأمورِ سَدُّ الذَّرِيعةِ إلَى هذا المحظورِ، وأنَّ صاحبَ الشرْعِ أَعْلَمُ بعاقِبَةِ ما نَهَى عنه، وما يَؤُولُ إليهِ، وأَحْكَمُ في نَهْيِهِ عنه وتَوَعُّدِهِ عليهِ، وأنَّ الخيْرَ والْهُدَى في اتِّباعِهِ وطَاعتِهِ، والشرَّ والضَّلالَ في مَعصِيَتِهِ ومُخَالَفَتِهِ. انتهَى كلامُهُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى.

هيئة الإشراف

#3

2 Nov 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1) وهذا مِن فروعِ البابِ السَّابِقِ، أنَّه لا يَحِلُّ أنْ يُجْعَلَ للهِ ندٌّ في النيَّاتِ، والأقوالِ، والأفعالِ.

والنِّدُّ: المُشابِهُ ولو بوجْهٍ بعيدٍ.

فاتِّخاذُ الصُّوَرِ الحيوانِيَّةِ تَشَبُّهٌ بِخَلْقِ اللهِ، وكَذِبٌ على الخِلْقَةِ الإِلَهِيَّةِ، وتمويهٌ وتزويرٌ، فلذلك زَجَرَ الشارِعُ عنه.

هيئة الإشراف

#4

2 Nov 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) قولُهُ: (بابُ ما جاءَ في الْمُصَوِّرينَ) يعني: من الوعيدِ الشّديدِ.

ومناسبةُ هذا البابِ للتَّوحيدِ:

أنَّ في التَّصويرِ خَلْقًا وإبداعًا يكونُ به المصوِّرُ مشارِكًا للهِ في ذلك الخلقِ والإبداعِ.
(2) قولُهُ في الحديثِ: ((وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقي)) ينتهي سندُ هذا الحديثِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، ويُسمَّى حديثًا قدسيًّا.

قولُهُ: (وَمَنْ أظْلَمُ) (مَن) اسمُ استفهامٍ، والمرادُ به النَّفيُ، أي: لا أحدَ أظلمُ، وإذا جاء النَّفيُ بصيغةِ الاستفهامِ كانَ أبلغَ من النَّفيِ المجرَّدِ أو المحضِ؛ لأنَّه يكونُ مُشْرَبًا معنى التَّحَدِّي والتَّعجيزِ.

قولُهُ: (يَخْلُقُ) حالٌ من فاعلِ ذهبَ، أيْ: ممَّنْ ذهَب خالقًا.
والخلقُ في اللغةِ: التَّقديرُ، قالَ الشَّاعرُ:

وَلأَنْتَ تَفْري ما خَلَقْتَ وَبع ضُ النَّاسِ يَخلُقُ ثُمَّ لا يَفْرِي

(تَفري) أي: تَفْعَلُ.

و(ما خَلَقْتَ) أي: ما قَدَّرْتَ.

ويُطلَقُ الخلقُ على الفِعلِ بعدَ التَّقديرِ، وَهذا هُو الغالِبُ، والخلْقُ بالنّسبةِ للإنسانِ يكونُ بَعْدَ تَأمُّلٍ ونَظَرٍ وتقديرٍ، وأمَّا بالنّسبةِ للخالقِ فإنَّه لا يحتاجُ إلى تأمُّلٍ ونظرٍ؛ لكمالِ علمِهِ، فالخلقُ بالنّسبةِ للمصوِّرِ يكونُ بمعنى الصّنعِ بعدَ النَّظرِ والتّأمّلِ.
قولُهُ:((يَخْلُقُ كَخَلْقي)) فيه جوازُ إطلاقِ الخلقِ على غيرِ اللهِ، وقد سبق الكلامُ على هذا والجوابُ عنه في أوَّلِ الكتابِ.
قولُهُ: ((فليَخْلُقوا ذرَّةً)) اللامُ للأمرِ، والمرادُ به التَّحدِّي والتَّعجيزُ، وهذا من بابِ التَّحدِّي في الأمورِ الكونيَّةِ، وقولُهُ تعالى: {فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ} من بابِ التَّحدِّي في الأمورِ الشَّرعيَّةِ.
والذَّرَّةُ: واحدةُ الذَّرِّ، وهي النَّمْلُ الصِّغارُ.

قولُه: ((أَوْ لِيخْلُقُوا حَبَّةً))((أو)) للتَّنويعِ، أي: انْتَقَلَ من التَّحدِّي بخلقِ الحيوانِ ذي الرُّوحِ إلى خلقِ الحبَّةِ الَّتي هي أصلُ الزَّرعِ، وليس لها رُوحٌ.

قولُهُ: ((أوْ لِيَخْلُقوا شَعيرةً)) يَحْتَمِلُ أنَّ المرادَ شجرةُ الشَّعيرِ، فيكونُ في الأوَّلِ ذِكْرُ التَّحدّي بأصلِ هذه الشَّجرةِ وهي الحبَّةُ، ويَحْتَمِلُ أنَّ المرادَ الحبَّةُ من الشَّعيرِ، ويكونُ هذا من بابِ ذكرِ الخاصِّ بعدَ العامِّ؛ لأنَّ حبَّةَ الشعيرِ أخصُّ مِن الحبِّ.
أو تكونُ ((أو)) شكًّا من الرَّاوي.
فاللهُ تحدَّى الخلْقَ إلى يومِ القيامةِ أن يَخْلُقوا ذرَّةً، أو يَخْلُقوا حبَّةً أو شعيرةً.
ويُستفادُ من هذا الحديثِ

-وهو ما ساقَهُ المؤلِّفُ من أجلِهِ-: تحريمُ التَّصويرِ؛ لأنَّ المصوِّرَ ذَهَبَ يخلُقُ كخلقِ اللهِ.

والتَّصويرُ له أحوالٌ:

الحالةُ الأولى: أن يصوِّرَ الإنسانُ ما له ظلٌّ -كما يقولون- أي: ما له جسمٌ، على هيكلِ إنسانٍ، أو بعيرٍ، أو أسدٍ، أو ما أشبَهَهَا، فهذا أجمعَ العلماءُ فيما أعلمُ على تحريمِهِ، والمضاهاةُ لا يُشترطُ فيهَا القَصدُ وهَذا هُوَ سرُّ المَسأَلةِ فمَتى حَصلت المُضاهاةُ ثبتَ حُكمهَا.

الحالةُ الثَّانيةُ: أن يُصَوِّرَ صورةً ليس لها جسمٌ،بل بالتَّلوينِ والتَّخطيطِ، فهذا محرَّمٌ؛ لعمومِ الحديثِ، ويدلُّ عليه حديثُ النُّمْرُقةِ حيثُ أقبلَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم إلى بيتِهِ فلمَّا أرادَ أنْ يدخلَ رأَى نمرقةً فيها تصاويرُ، فَوَقَفَ وتأثَّر، وعُرِفَت الكَراهَةُ في وجهِهِ، فقالت عائشةُ رَضِيَ اللهُ عَنْها: (ما أذْنَبْتُ يا رسولَ اللهِ)
فقالَ: ((إنَّ أَصْحابَ هَذِهِ الصُّوَرِ يُعَذَّبون يومَ القيامةِ، يُقالُ لَهُمْ: أَحْيُوا مَا خَلَقْتُمْ)).
فالصّورُ بالتَّلوينِ كالصّورِ بالتَّجسيمِ، وقولُهُ في (صحيحِ البخاريِّ): ((إِلا رَقْمًا في ثَوْبٍ)).
إنْ صحَّتِ الرّوايةُ هذه فالمرادُ بالاستثناءِ ما يَحِلُّ تصويرُهُ من الأشجارِ ونحوِهَا.
الحالةُ الثَّالثةُ: أن تُلْتَقَطَ الصّورُ التقاطًا بأَشِعَّةٍ معيّنةٍ بدونِ أيِّ تعديلٍ، أو تحسينٍ من المُلْتَقِطِ، فهذا محلُّ خلافٍ بينَ العلماءِ المعاصرين:
فـالقولُ الأوَّلُ: إنَّه تصويرٌ،وإذا كانَ كذلك فإنَّ حركةَ هذا الفاعلِ للآلةِ يُعَدُّ تصويرًا؛ إذ لولا تحريكُهُ إياها ما انطبعَتْ هذه الصّورةُ على هذه الورقةِ، ونحن متّفقون على أنَّ هذه صورةٌ، فَحَرَكَتُهُ تُعتبرُ تصويرًا، فيكونُ داخلاً في العمومِ.
القولُ الثَّاني: إنَّها ليست بتصويرٍ؛لأنَّ التَّصويرَ فعلُ المصوِّرِ، وهذا الرّجلُ ما صوَّرَها في الحقيقةِ، وإنَّما التقطَهَا بالآلةِ، والتَّصويرُ من صنعِ اللهِ، ويُوضِّحُ ذلك لو أدخلْتَ كتابًا في آلةِ التّصويرِ، ثمَّ خرج من هذه الآلةِ، فإنَّ رسمَ الحروفِ من الكاتبِ الأوَّلِ لا من المحرِّكِ، بدليلِ أنَّه قد يُشَغِّلُهَا شخصٌ أمِّيٌّ لا يعرفُ الكتابةَ إطلاقًا أو أعمى في ظلمةٍ، وهذا القولُ أقربُ؛ لأنَّ المصوِّرَ بهذه الطّريقةِ لا يُعتبَرُ مُبْدِعًا ولا مُخَطِّطًا، ولكن يَبْقَى النَّظرُ، هل يَحِلُّ هذا الفعلُ أو لا؟
والجوابُ: إذا كانَ لغرضٍ محرَّمٍ صارَ حرامًا،وإذا كانَ لغرضٍ مباحٍ صار مباحًا؛ لأنَّ الوسائلَ لها أحكامُ المقاصدِ، وعلى هذا فلو أنَّ شخصًا صَوَّرَ إنسانًا لما يُسَمُّونَه بالذِّكْرَى، سواءٌ كانَت هذه الذّكرى للتّمتُّعِ بالنّظرِ إليه أو التّلذُّذِ به، أو من أجلِ الحنانِ والشّوقِ إليه، فإنَّ ذلك محرَّمٌ ولا يجوزُ؛ لما فيه من اقتناءِ الصّورِ؛ لأنَّه لا شكَّ أنَّ هذه صورةٌ، ولا أحدَ ينكرُ ذلك.
وإذا كانَ لغرضٍ مباحٍ كما يوجدُ في التَّابعيَّةِ والرّخصةِ والجوازِ وما أشبهه فهذا يكونُ مباحًا.

فإذا ذهبَ الإنسانُ الَّذي يحتاجُ إلى رخصةٍ إلى هذا المصوِّرِ الَّذي تخرجُ منه الصّورةُ فوريَّةً بدونِ عملٍ؛ لا تحميضٍ، ولا غيرِهِ.

وقال: (صوِّرْنِي) فصوَّرَهُ، فإنَّ هذا المصوِّرَ لا نقولُ إنَّه داخلٌ في الحديثِ، أمَّا إذا قال: (صوِّرني) لغرضٍ آخرَ غيرِ مباحٍ صار من بابِ الإعانةِ على الإثمِ والعدوانِ.
الحالةُ الرَّابعةُ: أن يكونَ التَّصويرُ لما لا رُوحَ فيه، وهذا على نوعين:

النَّوعُ الأوَّلُ: أن يكونَ ممَّا يَصْنَعُهُ الآدميُّ فهذا لا بأسَ به بالاتِّفاقِ؛لأنَّه إذا جازَ الأصلُ جازَت الصُّورةُ، مثلَ أن يُصَوِّرَ الإنسانُ سيَّارتَهُ فهذا يجوزُ؛ لأنَّ صنعَ الأصلِ جائزٌ فالصُّورةُ الَّتي هي فرعٌ من بابِ أولى.
النَّوعُ الثَّاني: ما لا يَصْنَعُهُ الآدميُّ وإنَّما يخلقُهُ اللهُ، فهذا نوعان:
- نوعٌ نامٍ.
- ونوعٌ غيرُ نامٍ.
فغيرُ النَّامِي:

كالجبالِ، والأوديةِ، والبحارِ، والأنهارِ، فهذا لا بأسَ بتصويرِهَا بالاتّفاقِ.

أمَّا النَّوعُ الَّذي ينمو:

فاختلفَ في ذلك أهلُ العلمِ، فجمهورُ أهلِ العلمِ على جوازِ تصويرِهِ؛ لما سيأتي في الأحاديثِ.

وذهب بعضُ أهلِ العلمِ من السَّلفِ والخلفِ إلى منعِ تصويرِهِ، واستدلَّ بأنَّ هذا من خلقِ اللهِ -عزَّ وجلَّ- والحديثُ عامٌّ: ((وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقي)) ولأنَّ اللهَ -عزَّ وجلَّ- تَحَدَّى هؤلاء بأن يَخْلُقوا حبَّةً أو يَخْلُقوا شعيرةً، والحبَّةُ والشَّعيرةُ ليس فيها روحٌ، لكن لا شكَّ أنَّها ناميةٌ، وعلى هذا فيكونُ تصويرُهَا حرامًا، وقد ذهَبَ إلى هذا مجاهدٌ -رحمَهُ اللهُ- أعلمُ التَّابعين بالتَّفسيرِ، وقالَ: (إنَّه يَحْرُمُ على الإنسانِ أن يُصَوِّرَ الأشجارَ) لكنَّ جمهورَ أهلِ العلمِ على الجوازِ.

وهذا الحديثُ هل يُؤَيِّدُ رأيَ الجمهورِ، أو يُؤَيِّدُ رأيَ مجاهدٍ، ومَنْ قال بقولِهِ؟

الجوابُ: يُؤَيِّدُ رأيَمجاهدٍ ومن قال بقولِهِ لأمرين:
أوّلاً: العمومُ في قولِهِ:((وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقي)).

ثانيًا: قولُهُ: ((أَوْ لِيخْلُقُوا حَبَّةً أوْ لِيَخْلُقوا شَعيرةً)).
وهذه ليست ذاتَ رُوحٍ، فظاهرُ الحديثِ هذا مع مجاهدٍ، ومَن يرى رأيَه.
ولكنَّ الجمهورَ أجابوا عنه بالأحاديثِ التَّاليةِ:

وهي: أنَّ قولَهُ: ((أَحْيُوا مَا خَلَقْتُم)) وقولَهُ: ((كُلِّفَ أن يَنفُخَ فيها الرُّوحَ)).
يدلُّ على أنَّ المرادَ تصويرُ ما فيه رُوحٌ.
وأما قولُه: ((أَوْ لِيخْلُقُوا حَبَّةً أوْ لِيَخْلُقوا شَعيرةً)) فذُكِرَ على سبيلِ التَّحدِّي، أيْ: أنَّ أولئك المصوِّرين عاجزون حتَّى عن خلقِ ما لا رُوحَ فيه.
(3) قولُهُ:(أشدُّ) كلمةُ (أشدّ) اسمُ تفضيلٍ بمعنى: أعظمُ وأقوى.

قولُهُ: (النَّاسِ) للعمومِ.
وقولُهُ: (عَذَابًا) تَخُصُّ النَّاسَ، يعني: أشدُّ النَّاسِ الذين يُعَذَّبون عذابًا.
قولُهُ: (يَوْمَ القِيامَةِ)
هو اليومُ الَّذي يُبعَثُ فيه النَّاسُ، وسبقَ وجهُ تسميتِهِ بذلك.

وقولُهُ: (أَشَدُّ) مبتدأٌ، و(الَّذينَ يُضاهِئُونَ) خبرُهُ، ومعنى يُضَاهِئُون: أي: يُشَابِهُون.
(( بخلقِ اللهِ))أي: بمخلوقاتِ اللهِ -سبحانَهُ وتعالى- والَّذين يُضاهِئون بخلقِ اللهِ هم المُصَوِّرونَ، فهم يُضَاهِئُون بخلقِ اللهِ، سواءٌ كانت هذه المضاهاةُ جسميَّةً أو وصفيَّةً، فالجسميَّةُ أن يَصْنَعَ صورةً بجسمِهَا، والوصفيَّةُ أن يَصْنَعَ صورةً ملوَّنةً؛ لأنَّ التّلوينَ والتَّخطيطَ باليدِ وصفٌ للخلقِ، وإن كانَ الإنسانُ ما خلقَ الورقةَ ولا صنعَهَا، لكن وضعَ فيها هذا التّلوينَ الَّذي يكونُ وصفًا لخلقِ اللهِ عزَّ وجلَّ.

هذا الحديثُ يدلُّ على أنَّ المصوِّرين يُعذَّبون، وأنَّهم أشدُّ النَّاسِ عذابًا، وأنَّ الحكمةَ من ذلك مُضَاهاتُهُم خلقَ اللهِ عزَّ وجلَّ، وليست الحكمةُ كما يَدَّعيهِ كثيرٌ من النَّاسِ أنَّهم يَصْنَعُونها لتُعْبَدَ من دونِ اللهِ، فذلك شيءٌ آخرُ، فمَنْ صنعَ شيئًا ليُعْبَدَ من دونِ اللهِ فإنَّه حتَّى ولو لم يصوّرْ كما لو أَتَى بخشبةٍ، وقال: اعْبُدوها، دخَلَ في التَّحريمِ؛ لقولِهِ تعالى: {وَلاَ تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ} لأنَّه أعانَ على الإثمِ والعدوانِ.
وقولُهُ: ((يُضاهِئون)) هل الفعلُ يُشْعِرُ بالنِّيَّةِ؛ بمعنى أنه لا بدَّ أن يَقْصِدَ المُضاهاةَ، أو نقولُ: المضاهاةُ حاصلةٌ سواءٌ كانت بنيَّةٍ أو بغيرِ نيَّةٍ؟
الجوابُ: الثَّاني:

لأنَّ المضاهاةَ حَصَلَت سواءٌ نَوَى أم لم يَنْوِ؛لأنَّ العلَّةَ هي المشابهةُ، وليست العلَّةُ قصدَ المشابهةِ.
فيُستفادُ من الحديثِ فيما يتعلق بالباب مسألتان جليلتان:

الأولى: تحريمُ التَّصويرِ، وأنَّه من الكبائرِ؛ لثبوتِ الوعيدِ عليه، وأنَّ الحكمةَ منه المضاهاةُ بخلقِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
الثانية: وجوبُ احترامِ جانبِ الرُّبوبيَّةِ، وأن لا يَطْمَعَ أحدٌ في أن يخلقَ كخلقِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لقولِهِ: ((يُضَاهِئُونَ بخَلْقِ الله)).

ومن أجلِ هذا حُرِّم الكِبْرُ؛ لأنَّ فيه منازعةً للرَّبِّ -عزَّ وجلَّ- وحُرِّم التَّعَاظُمُ على الخلقِ؛ لأنَّ فيه منازعةً للرّبِّ سبحانَهُ وتعالى، وكذلك هذا الَّذي يَصْنَعُ ما يَصْنَعُ ليُضاهِيَ خلقَ اللهِ، فيه منازعةٌ للهِ -عزَّ وجلَّ- في ربوبيّتِهِ في أفعالِهِ ومخلوقاتِهِ ومصنوعاتِهِ، فيُستفادُ من هذا الحديثِ وجوبُ احترامِ جانبِ الرّبوبيَّةِ.
قولُهُ: ((أشَدُّ النَّاسِ عَذابًا)) فيه إشكالٌ؛ لأنَّ فيهم من هو أشدُّ من المصوِّرين ذنبًا كالمشركين والكفَّارِ، فيَلْزَمُ أن يكونوا أشدَّ عذابًا، وقد أُجيبَ عن ذلك بوجوهٍ:
الأوَّلُ: أنَّ الحديثَ على تقديرِ (مِنْ) أيْ: من أشدِّ النَّاسِ عذابًا، بدليلِ أنَّه قد جاءَ ما يؤيِّدُهُ بلفظِ: ((إِنَّ مِنْ أشدِّ النّاسِ عَذَابًا)).

الثَّاني: أنَّ الأشدّيَّةَ لا تعني أنَّ غيرَهُم لا يُشَارِكُهُم، بل يشاركُهُم غيرُهُم، قالَ تعالى: {أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ} ولكن يُشْكِلُ على هذا أنَّ المصوِّرَ فاعلُ كبيرةٍ فقط، فكيف يُسَوَّى مع من هو خارجٌ عن الإسلامِ ومُسْتَكْبِرٌ؟

الثّالثُ: أنَّ الأشدِّيَّةَ نسبيَّةٌ؛يعني أنَّ الَّذين يصنعون الأشياءَ ويُبْدِعونها، أشدُّهُم عذابًا الَّذين يُضاهِئون بخلقِ اللهِ، وهذا أقربُ.

الرَّابعُ : أنَّ هذا من بابِ الوعيدِ الَّذي يُطلَقُ لتنفيرِ النّفوسِ عنه، ولم أرَ مَن قال بهذا، ولو قيل بهذا لسلِمْنَا من هذه الإيراداتِ، وعلى كلِّ حالٍ ليس لنا أن نقولَ إلا كما قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: ((أشَدُّ النّاسِ عَذَابًا يَومَ القِيامةِ الّذينَ يُضَاهِئُونَ بخَلْقِ اللهِ)).
(4) قولُهُ: ((كُلُّ مُصَوِّرٍ في النّارِ))، (كلُّ) من أعظمِ ألفاظِ العمومِ، وأصلُهَا من الإكليلِ، وهو ما يحيطُ بالشَّيءِ، ومنه الكَلالةُ في الميراثِ للحواشي الَّتي تحيطُ بالإنسانِ، فيَشْمَلُ من صَوَّرَ الإنسانَ أو الحيوانَ أو الأشجارَ أو البحارَ.
لكنَّ قولَه: ((يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورةٍ صَوَّرَها نَفْسٌ)) يدُلُّ على أن المرادَ صورةُ ذواتِ النفوسِ، أي: ما فيه رُوحٌ.
قولُهُ: ((يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورةٍ صَوَّرَها نَفْسٌ)) الحديثُ في (مسلمٍ) وليس في الصحيحين، لكنه بلفظِ: ((يَجْعَلُ)) بالبناءِ للفاعلِ، وعلى هذا تكونُ ((نفسًا))بالنَّصبِ.
قولُهُ: ((يعَذَّبُ بها)) كيفيَّةُ التَّعذيبِ ستأتي في الحديثِ الَّذي بعدَه أنَّه يُكلَّفُ أن ينفُخَ فيها الرُّوحَ وليس بنافخٍ.
وقولُهُ: ((كُلُّ مصوِّرٍ في النَّارِ)) هذه الكَيْنونةُ عندَ المعتزلةِ والخوارجِ كينونةُ خلودٍ؛ لأنَّ فاعلَ الكبيرةِ عندَهم مخلَّدٌ في النَّارِ، وعندَ المرجئةِ أنَّ المرادَ بالمصوِّرِ الكافرُ؛ لأنَّ المؤمنَ عندَهم لا يَدْخُلُ النَّارَ أبدًا، وعندَ أهلِ السُّنّةِ والجماعةِ أنَّه مستحقٌّ لدخولِ النَّارِ وقد يدخُلُها وقد لا يدخُلُها، وإن دخلها لم يُخَلَّدْ فيها.
وقولُهُ: ((بكلِّ صورةٍ صَوَّرَها)) يقتضي أنَّه لو صوَّرَ في اليومِ عشرَ صورٍ ولو من نسخةٍ واحدةٍ، فإنَّه يُجعَلُ له في النَّارِ عشرُ صورٍ يُقالُ له: انفخْ فيها الرُّوحَ.
وظاهِرُ الحديثِ أنَّه يَبْقَى في النَّارِ معذَّبًا حتَّى تنتهيَ هذه الصُّوَرُ.
قولُهُ: ((كُلِّفَ)) أي: أُلزِم، والمكلِّفُ له هو اللهُ عزَّ وجلَّ.
قولُهُ: ((ولَيْسَ بنافِخٍ)) أي: كُلِّف بأمرٍ لا يتمكَّنُ منه؛ زيادةً في تعذيبِهِ، وعُذِّبَ بهذا الفعلِ ليذوقَ جزاءَ ما عمل، وبهذا تزدادُ حسرتُهُ وأسفُهُ حيثُ إنَّه عُذِّب بما كانَ في الدُّنيا يراه راحةً له؛ إمَّا باكتسابٍ أو إرضاءِ صاحبٍ أو إبداعِ صنعةٍ.

(5) قولُهُ: (عنْ أبي الهَيَّاجِ) هو من التَّابعين.

قولُهُ: (قالَ لي عليٌّ) هو عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْه.
قولُهُ: (أَلا أبْعَثُكَ) البعثُ: الإرسالُ بأمرٍ مُهِمٍّ كالدّعوةِ إلى اللهِ، قال تعالى: {وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً}.
قولُهُ: (صورةً) نكرةٌ في سياقِ النَّفيِ فتَعُمُّ.
وجمهورُ أهلِ العلمِ:

أنَّ المحرَّمَ هو تصويرُ الحيوانِ فقط؛ لما ورَدَ في (السننِ) من حديثِ جبريلَ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم قالَ: ((فمُرْ بِرَأْسِ التِّمثالِ فليُقْطَعْ حتى يَكونَ كَهيئَةِ الشَّجَرةِ))وسبقَ بيانُ ذلك قريبًا.

قولُهُ: (إلا طمَسْتَها) إن كانت ملوَّنةً فطمسُهَا بوضعِ لونٍ آخرَ يُزِيلُ مَعَالمَهَا، وإن كانت تمثالاً فإنَّه يَقْطَعُ رأسَهُ كما في حديثِ جبريلَ السَّابقِ، وإن كانت محفورةً فيَحْفِرُ على وجهِهِ حتَّى لا تتبيَّنَ معالمُهُ، فالطَّمسُ يختلفُ، وظاهرُ الحديثِ سواءٌ كانت تُعْبَدُ من دونِ اللهِ أو لا.
قولُهُ: (ولا قَبْرًا مُشْرِفًا) أي: عاليًا.
قولُهُ: (إلا سَوَّيْتَهُ).

له معنيان:

الأوَّلُ: أي: سوَّيْتَهُ بما حولَهُ من القبورِ.

الثَّاني: جَعَلْتَهُ حسنًا على ما تقتضيه الشَّريعةُ، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى} أي: سوَّى خلْقَهُ أحسنَ ما يكونُ، وهذا أحسنُ، والمعنيان متقاربان.

والإشرافُ له وجوهٌ:

الأوَّلُ: أن يكونَ مُشْرِفًا بكبرِ الأعلامِ الَّتي تُوضَعُ عليه،وتُسمَّى عندَ النَّاسِ (نصائلَ) أو (نصائبَ) ونصائبُ أصحُّ لغةً من نصائلَ.
الثَّاني: أن يُبْنَى عليه وهذا من كبائرِ الذّنوبِ؛لأنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم:((لَعَن المتَّخِذينَ عَليها الْمَساجِدَ والسُّرُجَ)).
الثَّالثُ: أن تُشْرَفَ بالتَّلوينِ، وذلك بأن يُوضَعَ على أعلامِهَا ألوانٌ مزخرفةٌ.
الرابعُ: أن يُرْفَعَ ترابُ القبرِ عمَّا حولَه فيكونَ بيِّنًا ظاهرًا.
فكلُّ شيءٍ مُشْرِفٍ ـ أي: ظاهرٍ على غيرِهِ متميِّزٍ عن غيرِهِ ـ يَجِبُ أنْ يُسَوَّى بغيرِهِ؛ لئلا يؤدِّيَ ذلك إلى الغلوِّ في القبورِ والشِّركِ.ومناسبةُ ذكرِ القبرِ المشرفِ مع الصُّوَرِ:

أنَّ كلاًّ منهما قد يُتَّخَذُ وسيلةً إلى الشّركِ، فإنَّ أصلَ الشّركِ في قومِ نوحٍ أنَّهم صوَّروا صُورَ رجالٍ صالحين، فلمَّا طال عليهم الأمدُ عبدوها، وكذلك القبورُ المُشْرِفةُ قد يَزْدَادُ فيها الغلوُّ حتَّى تُجْعَلَ أوثانًا تُعْبَدُ من دونِ اللهِ، وهذا ما وقعَ في بعضِ البلادِ الإسلاميَّةِ.

وقد دلَّت هذهِ الأحاديث على أنَّ عقوبةُ المصوِّرِ تكون بخمسة أمور:

الأول: أنَّه أشدُّ النَّاسِ عذابًا أو مِن أشدِّهِم عذابًا.

الثاني: أن اللهَ يَجْعَلُ له في كلِّ صورةٍ نفسًا يُعَذَّبُ بها في نارِ جهنَّمَ.
الثالث: أنه يُكَلَّفُ أن يَنْفُخَ فيها الرُّوحَ وليس بنافخٍ.
الرابع: أنَّه في النَّارِ.
الخامس: أنَّه ملعونٌ كما في حديثِ أبي جُحَيْفةَ في (البخاريِّ) وغيرِه.
فائدتان:

الأولى: ((كُلِّف أنْ ينفُخَ فيها الرُّوحَ ولَيْسَ بنافِخٍ))يقتضي أنَّ المرادَ بالتَّصويرِ تصويرُ الجسمِ كاملاً، وعلى هذا فلو صوَّرَ الرَّأسَ وحده بلا جسمٍ أو الجسمَ وحدَه بلا رأسٍ، فالظَّاهرُ الجوازُ، ويُؤَيِّدُهُ ما سبق في الحديثِ: ((مُرْ بِرأْسِ التِّمْثالِ فَليُقْطَعْ)) ولم يقلْ: فليُكسَرْ.

لكنَّ تصويرَ الرَّأسِ وحدَه عندي فيه تردُّدٌ، أمَّا بقيَّةُ الجسمِ بلا رأسٍ فهو كالشَّجرةِ لا تردُّدَ فيه عندي.
الثَّاني: يؤخذُ من حديثِ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْه، وهو قولُهُ: ((أنْ لا تَدَعَ صُورَةً إِلا طَمَسْتَها)).
أنَّه لا يجوزُ اقتناءُ الصُّوَرِ، وهذا محلُّ تفصيلٍ، فإنَّ اقتناءَ الصُّوَرِ على أقسامٍ:
القسمُ الأوَّلُ: أن يَقْتَنِيَهَا لتعظيمِ المُصَوَّرِ،لكونِه ذا سُلطانٍ، أو جاهٍ، أو علمٍ، أو عبادةٍ، أو أُبوَّةٍ، أو نحوِ ذلك؛ فهذا حرامٌ بلا شكٍّ، ولا تدخلُ الملائكةُ بيتًا فيه هذه الصّورةُ؛ لأنَّ تعظيمَ ذَوِي السُّلطةِ باقتناءِ صورِهِم ثَلْمٌ في جانبِ الرّبوبيَّةِ، وتعظيمَ ذَوِي العبادةِ باقتناءِ صورِهِم ثَلْمٌ في جانبِ الألوهيَّةِ.
القسمُ الثَّاني: اقتناءُ الصّورِ للتّمتُّعِ بالنَّظرِ إليها أو التّلذُّذِ بها،فهذا حرامٌ أيضًا؛ لما فيه من الفتنةِ المؤدّيةِ إلى سَفاسِفِ الأخلاقِ.
القسمُ الثَّالثُ: أن يقتنيَها للذّكرى حنانًا أو تلطُّفًا كالَّذين يُصَوِّرون صِغارَ أولادِهِم لتَذَكُّرِهِم حالَ الكِبَرِ،فهذا أيضا حرامٌ؛ لِلُحوقِ الوعيدِ به في قولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم: ((إنَّ الْمَلائِكَةَ لا تَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ صُورةٌ)).
القسمُ الرَّابعُ: أن يَقْتَنِيَ الصُّورَ لا لرغبةٍ فيها إطلاقًا، ولكنَّها تأتي تَبَعًا لغيرِهَا كالَّتي تكونُ في المجلاتِ والصُّحفِ ولا يَقْصِدُها المُقْتَنِي، وإنَّما يَقْصِدُ ما في هذه المجلاتِ والصُّحفِ من الأخبارِ والبحوثِ العلميَّةِ ونحوِ ذلك، فالظَّاهرُ أنَّ هذا لا بأسَ به؛ لأنَّ الصّورَ فيها غيرُ مقصودةٍ، لكن إن أمكنَ طمسُهَا بلا حرجٍ ولا مشقّةٍ فهو أَوْلَى.
القسمُ الخامسُ: أن يَقْتَنِيَ الصُّوَرَ على وجهٍ تكونُ فيه مُهانةً مُلْقَاةً في الزِّبْلِ،أو مُفْتَرَشةً، أو موطوءةً؛ فهذا لا بأسَ به عند جمهورِ العلماءِ، وهل يلحقُ بذلك لباسُ ما فيه صورةٌ؛ لأنَّ في ذلك امتهانًا للصُّورةِ، ولا سيَّما إن كانت الملابسُ داخليَّةً؟
الجوابُ: نقولُ، لا يَلْحَقُ بذلك،بل لباسُ ما فيه الصُّوَرُ محرَّمٌ على الصِّغارِ والكبارِ، ولا يلحَقُ بالمفروشِ ونحوِهِ؛ لظهورِ الفرقِ بينَهما، وقد صرَّح الفقهاءُ رحمَهُم اللهُ بتحريمِ لباسِ ما فيه صورةٌ، سواءٌ كانَ قميصًا أم سَرَاويلَ أم عِمامةً أم غيرَهَا، وقد ظهَرَ أخيرًا ما يُسَمَّى بالحَفائِظِ، وهي خِرْقةٌ تُلَفُّ على الفرجين للأطفالِ والحائضِ؛ لئلاَّ يَتَسَرَّبَ النجسُ إلى الجسمِ أو الملابسِ، فهل تُلحَقُ بما يُلْبَسُ أو بما يُمتَهَنُ؟
هي إلى الثاني أقربُ، لكن لما كانَ امتهانًا خفيَّاً وليسَ كالمُفْتَرَشِ والموطوءِ صارَ استحبابُ التحرُّزِ منها أَوْلَى.
القسمُ السَّادسُ: أنْ يُلْجَأَ إلى اقتنائِهَا إلجاءً، كالصُّورِ الَّتي تكونُ في بطاقةِ إثباتِ الشَّخصيَّةِ والشَّهاداتِ والدَّراهمِ، فلا إثمَ فيه، لعدمِ إمكانِ التّحرُّزِ منه، وقد قالَ اللهُ تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ}.

(6) فيهِ مسائلُ:
الأولى: (التَّغليظُ الشّديدُ في الْمُصَوِّرينَ)تؤخذُ من قولِه: ((أَشَدُّ النّاسِ عَذابًا)) الحديثَ.

(7) الثانيةُ: (التَّنبيهُ على العِلَّةِ وهي تَرْكُ الأَدبِ مع اللهِ) تؤخذُ من قَوْلِهِ: ((وَمَنْ أظْلَمُ مِمَّنْ ذَهَبَ يَخْلُقُ كَخَلْقي)) فمَن ذهَبَ يَخْلُقُ كخَلْقِ اللهِ فهو مُسِيءٌ للأدبِ مع اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لمحاولتِه أن يَخْلُقَ مثلَ خلقِ اللهِ تعالى، كما أنَّ مَن ضادَّه في شرعِهِ فقد أساءَ الأدبَ معه.
(8) الثالِثةُ: (التَّنبيهُ على قدرتِهِ وعجزِهِم) لقولِهِ: ((فليَخلُقوا حَبّةً أوْ لِيَخْلُقوا شَعِيرةً)) لأنَّ اللهَ خلقَ أكبرَ من ذلك وهم عجَزوا عن خلْقِ الذرَّةِ أو الشّعيرةِ.
(9) الرَّابعةُ:(التَّصريحُ بأنّهُم أشدُّ النّاسِ عذابًا) لقولِهِ: ((أَشَدُّ النَّاسِ عَذابًا))الحديثَ.
(10) الخامِسَةُ: (أنّ اللهَ يخلُقُ بعددِ كلِّ صورةٍ نفسًا يُعذِّبُ بها الْمُصَوِّرَ في جهنَّمَ) لقولِهِ: ((يُجْعَلُ لَهُ بِكُلِّ صُورَةٍ صَوَّرَها نَفْسٌ يُعَذَّبُ بِها فِي جَهَنَّمَ)).
(11) السَّادِسةُ: (أَنّهُ يُكلَّفُ أنْ يَنْفُخَ فيها الروحَ) لقوله: ((كُلِّفَ أنْ ينْفُخَ فيها الروحَ ولَيْسَ بنافِخٍ)) وهذا نوعٌ من التعذيبِ من أشقِّ العقوباتِ.
(12) السّابِعةُ: (الأمرُ بطمْسِها إذا وُجِدَتْ) لقولِه: ((أنْ لا تَدَعَ صورةً إلا طمَسْتَها)).
ويُؤْخَذُ مِن حديثِ البابِ أيضًا الجَمْعُ بينَ فِتْنَةِ التَّمَاثِيلِ وفِتْنَةِ القُبُورِ؛ لقَوْلِهِ:
((أنْ لاَ تَدَعَ صُورَةً إِلاَّ طَمَسْتَها، ولا قَبْرًا مُشْرِفًا إلا سَوَّيْتَهُ)) لأنَّ في كلٍّ منهما وسيلةً إلى الشّركِ.

ويؤخذُ منه أيضًا: إثباتُ العذابِ يومَ القيامةِ، وأنَّ الجزاءَ من جنسِ العملِ؛ لأنَّه يُجْعَلُ له بكلِّ صورةٍ صوَّرَها نفسٌ يعذَّبُ بها في جهنَّمَ، ويُؤْخَذُ منه وقوعُ التكليفِ في الآخرةِ بما لا يُطاقُ على وجهِ العقوبةِ.

هيئة الإشراف

#5

2 Nov 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (هذا باب ما جاء في المصوِّرين

والمصورون، جمع تصحيح للمصور، والمصور هو:الذي يفعل إحداث الصورة، يعني: هو الذي يقوم بالتصوير، والتصوير معناه: التشكيل، تشكيل الشيء حتى يكون على هيئة صورة.
والصورة قد تكون:
- صورةً لآدمي.
- أو لغير آدمي مِن الحيوان.
- أو لنبات.
- أو لجماد.
- أو لسماء.

- أو أرض.
فكل هذا يقال له مصور، إذا كان يُشكل بيده شيئاً على هيئة صورة، صورة معروفة، وقوله: (باب ما جاء في المصورين) يعني: من الوعيد ومن الأحاديث التي فيها أنهم جعلوا أنفسهم أنداداً لله جل وعلا، وعموم ما ذكرنا في معنى المصوِّر هذا من جهة المعنى، أما من جهة الحكم فسيأتي بيان التفصيل إن شاء الله.


مناسبة الباب لكتاب التوحيد:
أنَّ التوحيد هو ألا يُجعل لله ندٌّ، فيما يستحقه جل وعلا، والتصوير تنديدٌ من جهة أنَّ المصور جعل فعله ندّاً لفعل الله جل وعلا، ولهذا يدخل الرضا بصنيع المصوّر في قول الله جل وعلا: {فلا تجعلوا لله أنداداً وأنتم تعلمون} إذ ذلك حقيقته أنه جعل هذا المصور شريكاً لله جل وعلا في هذه الصفة، مع أنَّ تصويره ناقص، وتصوير الله جل وعلا على جهة الكمال، لكن من جهة الاعتقاد، لمَّا جعل هذا المخلوق مصوراً، والله جل وعلا هو الذي ينفرد بالتصوير سبحانه وتعالى، يعني: بتصوير المخلوقات كما يشاء، كان من كمال التوحيد:
- أنْ لا يُرضى بالتصوير.
- وأن لا يفعل أحد هذا الشيء؛ لأن ذلك لله جل وعلا، فالتصوير من حيث الفعل منافٍ لكمال التوحيد؛ وهذا هو مناسبة إيراد هذا الباب في هذا الكتاب.
والمناسبة الثانية له:
أنَّ التصوير وسيلة مِنْ وسائل الشرك بالله جل وعلا، والشرك ووسائله يجب صدُها، وغلق الباب؛ لأنها تحدث في الناس الإشراك، أو وسائل الإشراك،
فصار إذاً التصوير له جهتان:
الجهة الأولى:
جهة المضاهاة بخلق الله، والتمثل بخلق الله جل وعلا وبصفته، واسمه.
والثانية:أنه وسيلة للإشراك، الصورة من حيث هي وسيلة، قد لا يُشرَك بالصورة المعينة، التي عملت، ولكن الصورة من حيث الجنس هي وسيلة، ولا شك من وسائل الإشراك، وشرك كثيرٍ من المشركين كان من جهة الصور، فكان من تحقيق التوحيد، أن لا تقرّ الصور لأجل أنَّ الصورة وسيلة من وسائل المشركين، في عباداتهم.
قال عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال الله تعالى: ((وَمَنْ أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي، فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة)) أخرجاه، هذا الحديث فيه معنى وفيه تمثيل.
أما المعنى هو قوله: ((ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)) فصار الظلم معلقاً، بأنَّ العبد يخلق كخلق الله جل وعلا، والمقصود بذلك يصور كصورتي، أو كتصوير الله جل وعلا لخلقه، ثم قال مُعجِّزاً: ((فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة)).
معلومٌ أنَّ الذرة من حيث هي ذرة، هذا يمكن أنْ تعمل بأي شيء، وترمى فتراها في الضوء والشمس أنها ذرة.
وكذلك:
الحبة، يعني حبة الحنطة، حبة البر، أو حبة الرز، ممكن أنْ تُصنَّع، ولكن لا يمكن أن تكون كخلق الله جل وعلا.
وكذلك: الشعيرة، يمكن أن تصنع شكلاً، وأن تصور شكلاً، لكن يعجز أن يجعل فيها الحياة، فمثلاً: حب البر، أو الشعير، أو الرز، أو نحو ذلك يُنْبِتُ فيما إذا وضع في الأرض الذي هو من خلق الله جل علا، أما ما صنعه المخلوق؛ فإنه لا تكون فيه حياة.
فالرز الصناعي مثلاً الذي تأكلونه لو رمي في الأرض لما خرج منه ساق، ولما خرج له جذر، ولما كانت منه حياة، وأما الذي يكون من خلق الله جل وعلا فهو الذي أُودِعَ فيه سر حياة ذلك الجنس من المخلوقات.
ولهذا قال بعض أهل العلم: (إن هذا على وجه التعجيز) فالذي يخلق كخلق الله جل وعلا هذا من جهة ظنه، أما من جهة الحقيقة؛ فإنه لا أحد يخلق كخلق الله، ولهذا صار ذلك مشبّها نفسه بالله جل وعلا؛ فصار أظلم الخلق.
استدل مجاهد وغيره من السلف بقوله: ((فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة)) على أنَّ تصوير ما لا حياة فيه، أو ما لا روح فيه محرَّم؛ لأنه هنا قال: (فليخلقوا ذرة أو ليخلقوا حبة أو ليخلقوا شعيرة) فذكر الحبة والشعيرة.

قالوا: (فتصوير الأشجار، وتصوير الحب، ونحو ذلك لا يجوز، وجمهور العلماء على خلاف ذلك، وأنَّ الأمر في هذا الحديث للتعجيز، وليس لجهة التعليل، ولهذا قال في الحديث الذي بعده، قال: ((من صوّر صورة في الدنيا كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)) فلما قال: (كلف أن ينفخ فيها الروح) علمنا أنَّ النهي من جهة التصوير كان منصبّاً على ما فيه روح، يعني: على ما حياته بحلول الروح فيه، أما ما حياته بالنماء كالمزروعات، والأشجار ونحوها فليس داخلاً في ذلك).
قال: ولهما عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((أشدّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله)) هذا فيه تنبيه للعلة، وهذه العلة هي المضاهاة بخلق الله جل وعلا، وهي أحد العلتين اللتين من أجلهما حرّم التصوير، فالتصوير حرم وصار صاحبه من أشد الناس عذاباً:
- لأجل أنه يضاهي بخلق الله جل وعلا.

- ولأنَّ الصورة وسيلةٌ للشرك.
المضاهاة بخلق الله جل وعلا التي رُتِّب عليها، أن يكون فاعلها أشد الناس عذاباً يوم القيامة، في هذا الحديث عند كثيرٍ من العلماء أنها ما كانت على وجه الكفر.
وتكون المضاهاة في التصوير كفراً في حالتين:
الحالة الأولى:
أن يصوّر صنماً ليُعبدَ أو يصور إلهاً ليُعبدَ أو يصور إلهاً يُعبدُ في الواقع.
- فيصور لأهل البوذية صورة بوذا.
- أو يصور للنصارى المسيح.
- أو يصور أم المسيح.
- ونحو ذلك.
فتصوير ما يُعبد من دون الله جل وعلا، مع العلم بأنه يعبد، هذا كفر بالله جل وعلا؛ لأنه صوّر وثناً؛ ليعبد وهو يعلم أنه يعبد، فيكون شركاً أكبر، وكفراً بالله جل وعلا.
والدرجة الثانية:
أن يصور الصورة ويزعم أنها أحسن من خلق الله جل وعلا

فيقول: (هذه أحسن من خلق الله، أو أنا فُقْت في خلقي، وتصويري، ما فعل الله جل وعلا) فهذا كفر أكبر، وشرك أكبر بالله جل جلاله، وهذا هو الذي حُمِل عليه هذا الحديث وهو قوله: ((أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله)).

ويدخل فيه أيضاً من ضاهى بالتصوير عامة بما لا يخرجه من الملة.
- كالذي يرسم بيده.
- أوينحت التمثال.
- وينحت الصورة، مما لا يدخل في الحالتين السابقتين فهو كبيرة من الكبائر، وصاحبها ملعون، ومتوعَّد بالنار.
قال: (ولهما عن ابن عباس سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((كل مصور في النار يُجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها في جهنم)) قوله: (نفسٌ) أفاد أن ذلك التصوير وقع بشيءٍ، أو وقع لشيء تحلّهُ النفس، وهو الحيوانات، أو الآدمي، ولهذا صار الوعيد منصبّاً على ذلك.
وقوله: ((كل مصور في النار))هذا يفيد أن التصوير كبيرة من الكبائر.

قال: ولهما عنه مرفوعاً: ((من صور صورة في الدنيا كُلِّف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)) لأن الروح إنما هي لله جل وعلا، ولمسلم عن أبي الهيَّاج قال: قال لي عليّ:(ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم : ألا تدع صورة إلا طمستها، ولا قبراً مشرفاً إلا سويته).

في هذا الحديث، التنبيه على العلة الثانية من علتي تحريم التصوير، وهو أنه وسيلة من وسائل الشرك.
ووجه الاستدلال من هذا الحديث:
أنه قرن في الأمر، قرن بين الصورة، والقبر المشرف، وبقاء القبر المشرف وسيلة من وسائل الشرك، وكذلك للاقتران، بقاء الصورة أيضاً، وسيلة من وسائل الشرك، فالنبي عليه الصلاة والسلام بعث عليّاً؛ (ألا يدع صورة إلا طمسها) لأن الصور من وسائل الشرك، (وأن لا يدع قبراً مشرفاً إلا سواه) لأن بقاء القبور مشرفة يدعو إلى تعظيمها، وذلك من وسائل الشرك.
هناك خلاف في بعض مسائل التصوير محلُّه كتب الفقه، والفتوى من جهة التصوير الحديث هذا الذي يكون بالآلات.
- أما ما يَخرج منها ثابتاً كالكاميرا الفورية.
-أو ما يبقى على الورق.
-أو ما يكون منها متحركاً كالتصوير بالفيديو، أو التلفزيون، أو نحو ذلك، وهذا محلُّ الكلام عليه كتب الفقه.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#6

2 Nov 2008

العناصر

مناسبة باب (ما جاء في المصورين) لكتاب التوحيد
مناسبة باب (ما جاء في المصورين) لما قبله
شرح ترجمة باب (ما جاء في المصورين)
شرح حديث أبي هريرة: (قال الله تعالى: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي ...))
- مناسبة حديث أبي هريرة (ومن أظلم...) للباب
- معنى قوله: (ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي)
- معنى قوله: (فليخلقوا ذرة)
- معنى قوله: (أو ليخلقوا حبة، أو ليخلقوا شعيرة)
- أقوال العلماء في حكم تصوير ما لا روح فيه والراجح منها
شرح حديث عائشة: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة ...)
- معنى قوله: (أشد الناس عذاباً يوم القيامة الذين يضاهئون بخلق الله)
- هل (أفعل) التفضيل في قوله: (أشد الناس عذاباً...) على بابها؟
- ما يستفاد من حديث (أشد الناس عذاباً..) الحديث
- هل يشترط لتحريم التصوير قصد المضاهاة
- ذكر الحكمة في تحريم التصوير، وأن من شبه الله بخلقه أولى بالوعيد
شرح حديث ابن عباس: (كل مصور في النار ...)
- معنى قوله: (كل مصور في النار)
- بيان مذهب أهل السنة، والمعتزلة، والمرجئة في تخليد المصور في النار
- معنى قوله: (يجعل له بكل صورة صورها نفس يعذب بها)
- ما يستفاد من قوله: (بكل صورة صورها)
- معنى قوله: (كلف أن ينفخ فيها الروح وليس بنافخ)
- بيان أنواع التصوير، وحكم كل نوع
شرح حديث علي: (ألا أبعثك على ما بعثني عليه رسول الله ...)
- معنى البعث في قوله: (ألا أبعثك)
- معنى قوله: (إلا طمستها)
- بيان عقوبات المصور
- بيان حكم تصوير الرأس بلا جسم، والجسم بلا رأس
- أحوال اقتناء الصور، وبيان حكم كل حالة
- بيان معنى الإشراف، والتسوية في قوله: (ولا قبراُ مشرفاُ إلا سويته)
- الحكمة في الأمر بتسوية القبور
- بيان مناسبة ذكر القبر المشرف مع المصور
- بيان الزيارة الشرعية للقبور
- ذكر بعض ضلالات القبوريين
- بيان بعض المفاسد المترتبة على الغلو في تعظيم القبور
شرح مسائل باب (ما جاء في المصورين)