الدروس
course cover
باب ما جاء في منكري القدر
26 Oct 2008
26 Oct 2008

5810

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم العاشر

باب ما جاء في منكري القدر
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

5810

0

0


0

0

0

0

0

باب ما جاء في منكري القدر

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بابُ ما جاءَ في مُنْكِري القَدَرِ
وقالَ ابنُ عُمرَ:(والَّذي نفسُ ابنِ عُمَرَ بيدِهِ، لوْ كانَ لأَحَدِهِم مثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، ثُمَّ أنْفَقَهُ في سَبيلِ اللهِ ما قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ، حتَّى يُؤمِنَ بالقَدَرِ، ثمَّ استَدلَّ بقوْلِ النّبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((الإيمانُ أنْ تُؤْمِنَ باللهِ وملائِكَتِهِ وكُتُبِهِ ورُسُلِهِ واليَومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خيْرِهِ وشرِّهِ)) ) رواهُ مسلمٌ.

وعَنْ عُبادةَ بنِ الصَّامتِ أنّه قالَ لابنِهِ: (يا بُنيّ إنَكَ لَنْ تجِدَ طعمَ الإيمانِ حتَّى تعلَمَ أنّ ما أصابَكَ لَمْ يَكُنْ ليُخطِئَكَ وما أخْطأَكَ لَمْ يكُنْ لِيُصيبَكَ، سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يقولُ:((إنّ أوّلَ ما خلَقَ اللهُ القَلَم فقال لَهُ: اكتُبْ، فقالَ: ربِّ وماذا أكْتُبُ؟

قال: اكتُبْ مقادِيرَ كلِّ شيءٍ حتَّى تقومَ السَّاعَةُ))
يا بُنَيَّ سمِعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يقولُ: ((مَنْ ماتَ عَلَى غيْرِ هذا فَلَيْسَ مِنِّي))).

وفي روايَةٍ لأحْمَدَ: ((إنَّ أَوَّلَ ما خَلَقَ اللهُ تعالَى القَلَم فقالَ لَهُ: اكتُبْ فَجَرَى في تِلَكَ السَّاعةِ بِما هُوَ كائِنٌ إلَى يومِ القِيامَةِ)).
وفي رِوايَةٍ لابنِ وهْبٍ قالَ رسولُ اللهُ صلَى اللهُ عليهِ وسلم: ((فَمَنْ لَمْ يُؤمِنْ بالقَدَرِ خَيرِهِ وشرِّهِ أحْرَقَهُ اللهُ بالنَّارِ)).
وفي (الْمُسندِ) (والسّننِ) عنِ ابنِ الدّيلمِيِّ قال: (أتَيْتُ أُبيَّ بنَ كعْبٍ فقلتُ في نَفْسي شَيْءٌ مِنَ القَدَرِ فَحدِّثني بشيءٍ لعلَّ اللهُ يُذْهِبُهُ مِنْ قَلْبي فقال: ((لوْ أنفَقتَ مِثلَ أُحُدٍ ذَهَبًا ما قبِلهُ اللهُ مِنكَ حتَّى تُؤمِنَ بالقَدَرِ وتعلَمَ أنَّ ما أصابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخطِئكَ، وما أخْطـأَكَ لَمْ يَكُـنْ لِيُصيبكَ وَلوْ مِتَّ علَى غيرِ هذا لكنتَ مِنْ أهلِ النَّارِ.
قالَ: فأتيتُ عبدَاللهِ بنَ مسعودٍ وحُذَيفةَ بنَ اليمانِ وزيدَ بنَ ثابتٍ؛ فكُلُّهُم حدَّثني بمثلِ ذلِكَ عنِ النّبيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ))حَدِيثٌ صَحيحٌ رَواهُ الحاكِمُ في (صَحيِحه).

فيهِ مسائل:
الأولَى: بيانُ فرضِ الإيمانِ بالقَدَرِ.

الثانيَةُ: بيانُ كيفيَةِ الإيمانِ بهِ.
الثالثةُ: إحباطُ عَمَل منْ لَمْ يُؤمِنْ بهِ.
الرابِعةُ: الإخبارُ أنّ أحدًا لا يجِدُ طعْمَ الإيمانِ حتَّى يُؤمِنَ بهِ.
الخامِسَةُ: ذكرُ أوَّل ما خَلَقَ اللهُ.
السَّادِسَةُ: أنّه جَرَى بالْمَقادِيرِ في تِلْكَ السَّاعةِ إلَى قِيامِ السَّاعةِ.
السَّابِعةُ: بَراءَتُهُ صلَى اللهُ عليهِ وسلم مِمَّنْ لَمْ يُؤمِنْ بهِ.
الثَّامِنةُ: عادةُ السَّلَفِ في إِزالةِ الشُّبْهةِ بسؤالِ العلماءِ.
التَّاسِعةُ: أنّ العلماءَ أجابُوهُ بما يزيلُ شُبْهَتَهُ وذلِكَ أنّهُم نَسَبوا الكلامَ إلَى رسولِ اللهِ صلَى اللهُ عليهِ وسلم فقطْ.

هيئة الإشراف

#2

2 Nov 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ((1) أيْ: من الوعيدِ.

والقدرُ بالفَتْحِ والسُّكُونِ: ما يُقَدِّرُهُ اللهُ من القضاءِ، ولمَّا كانَ توحيدُ الرُّبُوبِيَّةِ لا يَتِمُّ إلاَّ بإثباتِ القدرِ قالَ القرطبيُّ:(القدرُ مصدرُ قَدَرْتُ الشيءَ بتخفيفِ الدَّالِ أَقْدُرُهُ، وأقدِرُهُ قَدْرًا وقَدَرًا، إذا حَصلت بمقدارِهِ، ويُقالُ فيهِ: قَدَّرْتُ أُقَدِّرُ تقديرًا، مُشَدَّدَ الدالِ، فإذا قُلْنَا: إنَّ اللهَ تعالَى قَدَّرَ الأشياءَ، فمعناهُ: إنَّهُ تعالَى عَلِمَ مقاديرَها وأحوالَهَا وأزمانَهَا قبلَ إيجادِها، ثمَّ أَوْجَدَ منها ما سبقَ في علمِهِ أنَّهُ يُوجِدُه علَى نحوِ ما سبقَ في عِلْمِهِ، فلا مُحْدَثَ في العالَمِ العلويِّ والسفليِّ إلاَّ هُوَ صادرٌ عنْ علمِهِ تعالَى وقدرتِهِ وإرادتِهِ، هذا هوَ المعلومُ منْ دينِ السَّلَفِ الماضينَ الذي دلَّتْ عليهِ البراهينُ).

ذكرَ المُصَنِّفُ ما جاءَ في الوعيدِ فيمَنْ أنكرَهُ تنبيهًا علَى وجوبِ الإيمانِ، ولهذا عدَّهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ منْ أركانِ الإيمانِ كما ثبتَ في حديثِ جبريلَ عليهِ السلامُ لمَّا سُئِلَ عن الإيمانِ، فقالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) قَالَ: صَدَقْتَ.

وَعَنْ عبدِ اللهِ بنِ عمْرِو بنِ العاصِ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ))

قالَ: ((وَعَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)).

وعن ابنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى العَجْزُ والكَيْسُ)) رواهُمَا مسلمٌ في (صحيحِهِ).

وعنْ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِي بِالْحَقِّ، وَيُؤْمِنُ بِالْمَوْتِ، والبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيُؤْمِنُ بِالْقَدَرِ)) رواهُ الترمذيُّ، وابنُ مَاجَه، والحاكمُ في (مُسْتَدْرَكِهِ).

والأحاديثُ في ذلكَ كثيرةٌ جدًّا، قدْ أفرَدَها العلماءُ بالتصْنِيفِ.

قالَ الْبَغَوِيُّ في (شرحِ السُّنَّةِ): (الإيمانُ بالقدرِ فرضٌ لازمٌ، هُوَ أَنْ يعتقدَ أَنَّ اللهَ تعالَى خالقُ أعمالِ العبادِ خيْرِها وشرِّها، كتبَها عليهم في اللوحِ المحفوظِ قبلَ أنْ يخْلُقَهُم، قالَ اللهُ تعالَى: {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافَّات:96]، فالإيمانُ والكفرُ، والطاعةُ والمعصيةُ، كلُّها بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ وإرادتِهِ ومشيئتِهِ، غيرَ أَنَّهُ يَرْضَى الإيمانَ والطاعةَ ووعدَ عليهما الثوابَ، ولا يَرْضَى الكفرَ والمعصيةَ وأوعدَ عليهما بالعقابِ، قالَ اللهُ تعالَى: {وَيُضِلُّ اللهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللهُ مَا يَشَاءُ}[إبراهيم:27].

قالَ: والقدرُ سِرٌّ منْ أسرارِ اللهِ تعالَى لمْ يُطْلِعْ عليهِ ملَكًا مُقَرَّبًا، ولا نَبِيًّا مُرْسَلاً، ولا يجوزُ الخوضُ فيهِ والبحثُ عنهُ بطريقِ العقلِ، بلْ يعتقدُ أنَّ اللهَ تعالَى خلقَ الخلقَ، فجعلَهُم فريقَيْنِ: أهلُ يمينٍ خلقَهُم للنعيمِ فضلاً، وأهلُ شمالٍ خلقَهُم للجحيمِ عدلاً، قالَ اللهُ تعالَى: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالإِنْسِ}[الأعراف:178].

وقدْ سألَ رَجُلٌ عليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فقالَ: يا أميرَ المؤمنينَ، أخْبِرْنِي عن القدرِ، قالَ:(طريقٌ مظلمٌ؛ فلا تَسْلُكْهُ)

فأعادَ السؤالَ، فقالَ: (بحرٌ عميقٌ؛ لا تَلِجْهُ)

فأعادَ السؤالَ، فقالَ:(سرُّ اللهِ خَفِيَ عليكَ؛ فلا تُفْشِهِ)).

وقالَ شيخُ الإسلامِ: (مذهبُ أهلِ السنَّةِ في هذا البابِ وغيْرِهِ ما دلَّ عليهِ الكتابُ والسنَّةُ، وكانَ عليهِ السابقونَ الأوَّلُونَ مِن المهاجرينَ والأنصارِ والذينَ اتَّبعوهُم بإحسانٍ، وهوَ أَنَّ اللهَ خالقُ كلِّ شيءٍ ورَبُّهُ ومَلِيكُهُ، وقدْ دخلَ في ذلكَ جميعُ الأعيانِ القائمةِ بأنفسِها وصفاتِها القائمةِ بها منْ أفعالِ العبادِ وغيرِ أفعالِ العبادِ، وأنَّهُ سبحانَهُ ما شاءَ كانَ، وما لمْ يشَأْ لمْ يَكُنْ، فلا يكونُ في الوجودِ شيءٌ إلاَّ بمشيئتِهِ وقدرتِهِ، لا يمتنعُ عليهِ شيءٌ شاءهُ، بلْ هُوَ قادرٌ علَى كلِّ شيءٍ، ولا يشاءُ شيئًا إلاَّ وهوَ قادرٌ عليهِ، وأَنَّهُ سبحانَهُ يعلمُ ما كانَ وما يكونُ، وما لمْ يَكُنْ لوْ كانَ كيفَ كانَ يكونُ، فقدْ دخلَ في ذلكَ أفعالُ العبادِ وغيرُها.

وقدْ قدَّرَ مقاديرَ الخلائقِ قبلَ أنْ يخلقَهُم، قَدَّرَ أرْزَاقَهُم وآجالَهُمْ وأعمالَهُمْ، وكتبَ

ذلكَ وكتبَ ما يصيرونَ إليهِ منْ سعادةٍ وشقاوةٍ، فهمْ يؤمنونَ بخَلْقِهِ لكلِّ شيءٍ، وقدرَتِهِ علَى كلِّ شيءٍ، ومشيئتِهِ لكلِّ ما كانَ، وعلمِهِ بالأشياءِ قبلَ أنْ تكونَ، وتقديرِهِ لها وكتابتِهِ إيَّاهَا قبلَ أنْ تكونَ.

وغُلاةُ القدرِيَّةِ يُنْكِرُونَ عِلْمَهُ المُتَقَدِّمَ وكتابتَهُ السابقةَ، ويزعمونَ أنَّهُ أمرٌ ونهيٌ، وهوَ لا يعلمُ مَنْ يُطِيعُهُ مِمَّنْ يعصيهِ، بل الأمرُ أُنُفٌ؛ أيْ: مستأنَفٌ.

وهذا القولُ أوَّلَ ما حدثَ في الإسلامِ بعدَ انقراضِ عصرِ الخلفاءِ الراشدينَ، وبعدَ إمارةِ معاويةَ بنِ أبي سفيانَ، في زمنِ الفتنةِ التي كانتْ بينَ ابنِ الزُّبَيْرِ وبني أُمَيَّةَ في آخرِ عصرِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ وعبدِ اللهِ بنِ عبَّاسٍ، وغيْرِهِما من الصحابةِ.

وكانَ أوَّلَ منْ ظَهَرَ ذلكَ عنهُ بالبصرةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فلمَّا بلغَ الصحابةَ قولُ هؤلاءِ تبَرَّؤُوا منهم وأنْكَرُوا مقالتَهم، ثمَّ لمَّا كثُرَ خوضُ الناسِ في القدرِ صارَ جمهورُهم يُقِرُّ بالعلمِ المتقدِّمِ والكتابِ السابقِ، ولكنْ ينكرونَ عمومَ مشيئةِ اللهِ وعمومَ خلْقِهِ وقدرتِهِ، ويظُنُّونَ أنَّهُ لا معنَى لمشيئتِهِ إلاَّ أمرُهُ، فما شاءَ فقدْ أمرَ بهِ، وما لمْ يشأْ لمْ يأْمُرْ بهِ؛ فلَزِمَهُم أنَّهُ قدْ يشاءُ ما لا يكونُ، ويكونُ ما لا يشاءُ.

وأنكرُوا أَنْ يكونَ اللهُ خالقًا لأفعالِ العبادِ، أوْ قادرًا عليها، أوْ أَنْ يَخُصَّ بعضَ عبادِهِ من النِّعَمِ ممَّا يقتضي إيمانَهم بهِ وطاعتَهم لهُ، وزعمُوا أَنَّ نعمتَهُ التي بها يُمَكِّنُ الإيمانَ والعملَ الصالحَ علَى الكُفَّارِ - كأبي جهلٍ وأبي لهبٍ - مثلُ نعمتِهِ بذلكَ علَى أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعليٍّ، بمنزلةِ رجلٍ دفعَ إلَى والِدَيْهِ بمالٍ قَسَّمَهُ بينهم بالسَّوِيَّةِ، ولكنَّ هؤلاءِ أحدثُوا أعمالَهُم الصالحةَ، وهؤلاءِ أحدثُوا أعمالَهُم الفاسدةَ منْ غيرِ نعمةٍ خصَّ اللهُ بها المؤمنينَ.

وهذا قولٌ باطِلٌ؛ وقدْ قالَ اللهُ تعالَى: {يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لاَ تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ اللهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ} [الحجرات:17] وقالَ: {وَلَكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَـئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللهِ وَنِعْمَةً وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}[الحجرات:7 - 8]).

وقالَ ابنُ القيِّمِ ما معناهُ: (مراتبُ القضاءِ والقدرِ أربعُ مراتبَ:

الأولَى: عِلْمُ الرَّبِّ سبحانَهُ بالأشياءِ قبلَ كوْنِها.

الثانيةُ: كتابةُ ذلكَ عندَهُ في الأزَلِ قبلَ خلقِ السماواتِ والأرضِ.

الثالثةُ: مشيئتُهُ المُتَنَاوِلَةُ لكلِّ موجودٍ، فلا خروجَ لكائنٍ كما لا خروجَ لهُ عنْ علمِهِ.

الرابعةُ: خلقُهُ لها وإيجادُهُ وتكوينُهُ، فاللهُ خالقُ كلِّ شيءٍ، وما سِوَاهُ مخلوقٌ).

(2) قولُهُ: ((وقالَ ابنُ عمرَ)) هوَ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بنِ الخَطَّابِ.

قولُهُ: ((لوْ كانَ لأحَدِهِم مثلُ أُحُدٍ ذهبًا، ثمَّ أنفقَهُ في سبيلِ اللهِ، ما قَبِلَهُ اللهُ منهُ))إلخ، هذا قولُ ابنِ عمرَ لغُلاةِ القدرِيَّةِ الذينَ أنْكَرُوا أَنْ يكونَ اللهُ تعالَى عالمًا بشيءٍ منْ أعمالِ العبادِ قبلَ وقوعِهَا منهُم، وإنَّما يعلمُهَا بعد كونِهَا منهُم كما تقدَّمَ عنهم.
قالَ القرطبيُّ: (ولا شكَّ في تكفيرِ مَنْ يَذْهَبُ إلَى ذلكَ؛ فإنَّهُ جَحْدُ معلومٍ من الشرعِ بالضرورةِ؛ ولذلكَ تبرَّأَ منهم ابنُ عمرَ، وأفْتَى بأنَّهُم لا تُقْبَلُ منهم أعمالُهم ولا نفقاتُهُم، وأنَّهُم كمَنْ قالَ اللهُ فيهم: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ}[التوبة:55]).
وهذا المذهبُ قدْ تُرِكَ اليومَ، فلا يُعْرَفُ مَنْ يُنْسَبُ إليهِ من المتأخِّرِينَ منْ أهلِ البدعِ المشهورينَ.
فقالَ شيخُ الإسلامِ لمَّا ذَكَرَ كلامَ ابنِ عمرَ هذا: (وكذلكَ كلامُ ابنِ عبَّاسٍ، وجابرِ بنِ عبدِ اللهِ، ووَاثِلَةَ بنِ الأَسْقَعِ، وغيْرِهِم من الصحابةِ والتابعينَ لهم بإحسانٍ إلَى يومِ الدينِ، وسائرِ أئِمَّةِ المسلمينَ، فيهم كثيرٌ، حتَّى قالَ فيهم الأئِمَّةُ - كمالكٍ، والشافعيِّ، وأحمدَ بنِ حَنْبَلٍ وغيْرِهِم -: إنَّ المُنْكِرِينَ لعلمِ اللهِ المُتَقَدِّمِ يُنْكِرُونَ القدرَ).
وقولُهُ: ((ثمَّ استدلَّ بقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) فجعلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديثِ كأَنَّهُ لمَّا سُئِلَ عن الإسلامِ ذكرَ أركانَ الإسلامِ الخمسةَ؛ لأنهَّا أصلُ الإسلامِ.
ولمَّا سُئِلَ عن الإيمانِ أجابَ بقوْلِهِ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ)) إلَى آخرِهِ.
فيكونُ المرادُ حينئذٍ بالإيمانِ جنسُ تصديقِ القلبِ، وبالإسلامِ جنسُ العملِ، والقرآنُ والسُّنَّةُ مملُوءَانِ بإطلاقِ الإيمانِ علَى الأعمالِ، كما هما مملوءانِ بإطلاقِ الإسلامِ علَى الإيمانِ الباطنِ، معَ ظهورِ دَلالَتِهِما أيضًا علَى الفَرْقِ بينَهُما، ولكنْ حيثُ أُفْرِدَ أحدُ الاسْمَيْنِ دَخَلَ فيهِ الآخَرُ، وإنَّما يُفَرَّقُ بينَهُما حيثُ فُرِّقَ بينَ الاسمَيْنِ، ومَنْ أرادَ تحقيقَ ما أَشَرْنَا إليهِ فَلْيُرَاجِعْ كتابَ (الإيمانِ) الكبيرِ لشيخِ الإسلامِ.

إذا تبيَّنَ هذا، فَوَجْهُ استدلالِ ابنِ عمرَ بالحديثِ منْ جهةِ أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عدَّ الإيمانَ بالقدرِ منْ أركانِ الإيمانِ، فمَنْ أنكرَهُ لم يكُنْ مؤمنًا؛ إذِ الكافرُ بالبعضِ كافرٌ بالكُلِّ، فلا يكونُ مؤمنًا مُتَّقِيًا، واللهُ لا يقبلُ إلاَّ مِن المُتَّقِينَ.

وهذا قطعةٌ منْ حديثِ جبريلَ عليهِ السلامُ، وقدْ أخرجَهُ مسلمٌ بطُولِهِ أوَّلَ كتابِ الإيمانِ في (صحيحِهِ)، منْ حديثِ يحيَى بنِ يَعْمَرَ، عن ابنِ عمرَ، ولفظُهُ:

عنْ يحيَى بنِ يَعْمَرَ قالَ: كانَ أوَّلَ مَنْ قالَ في القَدَرِ بالبصرةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فانطَلَقْتُ أنَا وحُمَيْدُ بنُ عبدِ الرحمنِ الْحِمْيَرِيُّ حاجَّيْنِ أوْ مُعْتَمِرَيْنِ، فَقُلْنَا: لوْ لَقِينَا أحدًا منْ أصحابِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسأَلْنَاهُ عَمَّا يقولُ هؤلاءِ في القدرِ، فَوُفِّقَ لنا عبدُ اللهِ بنُ عمرَ بنِ الخَطَّابِ داخلاً المسجدَ، فَاكْتَنَفْتُهُ أنا وصاحِبِي - أحدُنا عنْ يمينِهِ، والآخَرُ عنْ شِمَالِهِ - فظَنَنْتُ أَنَّ صاحِبِي سَيَكِلُ الكلامَ إِلَيَّ، فقُلْتُ: يا أبا عبدِ الرحمنِ، إنَّهُ قدْ ظهرَ قَبْلَنَا أُنَاسٌ يَقْرَؤُونَ القرآنَ ويَتَقَفَّرُونَ الْعِلْمَ، وذَكَرَ منْ شأْنِهِمْ وأَنَّهُم يزْعُمونَ أَنْ لا قَدَرَ، وأَنَّ الأَمْرَ أُنُفٌ.

قالَ: فإذا لَقِيتَ أُولئكَ فأَخْبِرْهُم أنِّي بَرِيءٌ منهم، وأنَّهُمْ بَرَاءٌ منِّي، والَّذِي يَحْلِفُ بهِ عبدُ اللهِ بنُ عمرَ: لوْ أَنَّ لأحدِهِم مِثْلُ أُحُدٍ ذهبًا فأنْفَقَهُ، ما قَبِلَهُ اللهُ منهُ حتَّى يُؤْمِنَ بالقدرِ.

ثمَّ قالَ: حدَّثَنِي أبي عمرُ بنُ الخطَّابِ قالَ: بَيْنَمَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذَاتَ يَوْمٍ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوادِ الشَّعرِ، لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إِلَى النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْنِي عَن الإِسْلامِ) وذكرَ الحديثَ.

وقولُهُ: (خَيْرِهِ وَشَرِّهِ) أيْ: خيرِ القدرِ وشرِّهِ؛ أيْ: أنَّهُ تعالَى قدَّرَ الخيرَ والشَرَّ قبلَ خَلْقِ الخَلْقِ، وأَنَّ جميعَ الكائناتِ بقضائِهِ وقدَرِهِ وإرادتِهِ؛ لقولِهِ تعالَى: {وخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا}[الفرقان:2]، {وَاللهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ}[الصافات:96]، {إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ}[القمر:49]، وغيرِ ذلكَ.

فإنْ قُلْتَ: كيفَ قالَ:((وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) وقدْ قالَ في الحديثِ: ((وَالشَرَّ لَيْسَ إِلَيْكَ))؟!

قيلَ: إثباتُ الشرِّ في القضاءِ والقدرِ إنَّما هوَ بالإضافةِ إلَى العبدِ، والمفعولُ إنْ كانَ مُقَدَّرًا عليهِ، فهوَ بسببِ جهْلِهِ وظُلْمِهِ وذنوبِهِ، لا إلَى الخالقِ، فلهُ في ذلكَ من الحِكَمِ ما تَقْصُرُ عنهُ أفهامُ البشرِ؛ لأنَّ الشرَّ إنَّما هوَ بالذنوبِ وعقوباتِها في الدنيا والآخرةِ، فهوَ شَرٌّ بالإضافةِ إلَى العبدِ، أمَّا بالإضافةِ إلَى الرَّبِّ سبحانَهُ وتعالَى، فكلُّهُ خيرٌ وحكمةٌ؛ فإنَّهُ صادرٌ عنْ حكمِهِ وعلمِهِ، وما كانَ كذلكَ فهوَ خيرٌ مَحْضٌ بالنسبةِ إلَى الرَّبِّ سبحانَهُ وتعالَى؛ إذ هوَ مُوجَبُ أسمائِهِ وصفاتِهِ.

ولهذا قالَ:((وَالشَرَّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) أيْ: تمتنعُ إضافتُهُ إليكَ بوجهٍ من الوجوهِ، فلا يُضَافُ الشَرَّ إلَى ذاتِهِ وصفاتِهِ، ولا أسمائِهِ ولا أفعالِهِ، فإنَّ ذاتَهُ مُنَزَّهَةٌ عنْ كلِّ شرٍّ، وصفاتُهُ كذلكَ؛ إذْ كلُّها صفاتُ كمالٍ، ونعوتُ جلالٍ، لا نقصَ فيها بوجهٍ من الوجوهِ، وأسماؤُهُ كلُّها حُسْنَى ليسَ فيها اسمُ ذمٍّ ولا عَيْبٍ، وأفعالُهُ حكمةٌ ورحمةٌ ومصلحةٌ وإحسانٌ وعدلٌ، لا تخرجُ عنْ ذلكَ الْبَتَّةَ، وهوَ المحمودُ علَى ذلكَ كلِّهِ، فتستحيلُ إضافةُ الشرِّ إليهِ؛ فإنَّهُ ليسَ شرٌّ في الوجودِ إلاَّ الذنوبُ وعقوبتُها.
وكونُها ذنوبًا تأتي منْ نفسِ العبدِ، فإنَّ سببَ الذنبِ الظلمُ والجهلُ، وهما في نفسِ العبدِ؛ فإنهُ ذاتٌ مُسْتَلْزِمَةٌ للجهلِ والظلمِ، وما فيهِ من العلمِ والعدلِ فإنَّمَا حَصَلَ لهُ بفضلِ اللهِ عليهِ، وهوَ أمرٌ خارجٌ عنْ نفْسِهِ.
فمَنْ أرادَ اللهُ بهِ خيرًا أعطاهُ الفضلَ، فصدرَ منهُ الإحسانُ والبِرُّ والطاعةُ.

ومَنْ أرادَ بهِ شَرًّا أمسكَهُ عنهُ وخلاَّهُ ودواعيَ نفسِهِ وطبعِهِ ومُوجَبَها، فصدرَ عنهُ مُوجَبُ الجهلِ والظلمِ منْ كلِّ شرٍّ وقبيحٍ، وليسَ مَنْعُهُ مِنْ ذلكَ شرًّا.

وللهِ في ذلكَ الحكمةُ التَّامَّةُ، والحُجَّةُ البالغةُ، فهذا عدلُهُ، وذلكَ فضلُهُ يُؤْتِيهِ مَنْ يشَاءُ، واللهُ ذو الفضلِ العظيمِ، وهوَ العليُّ الحكيمُ، هذا معنَى كلامِ ابنِ القَيِّمِ، وهوَ الحقُّ.

وحاصلُهُ أنَّ الشَّرَّ راجعٌ إلَى مفعولاتِهِ، لا إلَى ذاتِهِ وصفاتِهِ، ويتَبَيَّنُ ذلكَ بمثالٍ، وللهِ المَثَلُ الأعلَى: لوْ أَنَّ مَلِكًا مِنْ مُلُوكِ العدلِ كانَ معروفًا بقَمْعِ المخالفينَ وأهلِ الفسادِ، مقيمًا للحدودِ والتعزيراتِ الشرعِيَّةِ علَى أربابِ أصحابِهَا، لَعَدُّوا ذلكَ خيرًا يحْمَدُهُ عليهِ الملوكُ، ويمدحُهُ الناسُ ويشكرونَهُ علَى ذلكَ، فهوَ خيرٌ بالنسبةِ إلَى الملوكِ، يُمْدَحُ ويُثْنَى بهِ ويُشْكَرُ عليهِ وإنْ كانَ شرًّا بالنسبةِ إلَى مَنْ أُقيمَ عليهِ، فرَبُّ العالمينَ أَوْلَى بذلكَ؛ لأنَّ لهُ الكمالَ المُطْلَقَ منْ جميعِ الوجوهِ والاعتباراتِ.

وأيضًا فلولا الشَّرُّ: هلْ كان يُعْرَفُ الخيرُ؟
فإنَّ الضِّدَّ لا يُعْرَفُ إلاَّ بِضِدِّهِ، فإنْ لمْ تُحِطْ بهِ خُبْرًا فاذْكُرْ كلامَ ابنِ عقيلٍ في البابِ الذي قبلَ هذا، وأَسلِمْ تَسْلَمْ، واللهُ أعلمُ.
(3) قولُهُ: ((يا بُنيَّ، إنَّكَ لَنْ تَجِدَ طعمَ الإيمانِ)) إلَى آخرِهِ، ابنُهُ هذا هوَ: الوليدُ بنُ عُبَادَةَ، كما صَرَّحَ بهِ الترمذيُّ في روايتِهِ.

وفيهِ: إِنَّ للإيمانِ طَعْمًا، وهوَ كذلكَ، فإنَّ لهُ حلاوةً وطعمًا، مَنْ ذاقَهُ تسلَّى بهِ عن الدنيا وما عليها، وقدْ قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ثَلاَثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ حَلاَوَةَ الإِيمَانِ …)) الحديثَ.

وإنمَّا يكونُ العبدُ كذلكَ إذا كانَ مؤمنًا بالقدرِ، إذْ يمتَنِعُ أَنْ تُوجَدَ الثلاثُ فيهِ وهُوَ لا يؤمنُ بالقدرِ، بلْ يُكَذِّبُ بهِ ويَرُدُّ علَى اللهِ كلامَهُ وعلَى الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مقالتَهُ؛ فإنَّ المحبَّةَ التامَّةَ تقتضي المتابعةَ التامَّةَ، فمَنْ لمْ يُؤْمِنْ بالقدرِ لمْ يكن اللهُ ورسولُهُ أحبَّ إليهِ ممَّا سِوَاهُمَا، فلا يجدُ حلاوةَ الإيمانِ ولا طعمَهُ، بلْ إنْ كانَ منكِرًا للعلمِ القديمِ فهوَ كافرٌ كما تقدَّمَ.

ولهذا رُوِيَ عنْ بعضِ الأئِمَّةِ القدرِيَّةِ الكبارِ بإسنادٍ صحيحٍ أنَّهُ قالَ لمَّا ذُكِرَ حديثُ ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (حَدَّثَنِي الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ) الحديثَ: لوْ سمعتُ الأعمشَ يقولُ هذا لكَذَّبْتُهُ، ولوْ سمعْتُ زيدَ بنَ وهبٍ يقولُ هذا لأجَبْتُهُ، ولوْ سَمِعْتُ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ يقولُ هذا ما قَبِلْتُهُ، ولوْ سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ هذا لَرَدَدْتُهُ، وذكرَ كلمةً بعْدَهَا، فهذا كفرٌ صريحٌ نعوذُ باللهِ منْ مُوجِبَاتِ غضبِهِ، وأليمِ عقابِهِ.

وقدْ بُيِّنَ في الحديثِ كيفِيَّةُ الإيمانِ بالقدرِ: أَنْ يَعْلَمَ أَنَّ ما أصابَهُ لم يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وما أَخْطَأَهُ لمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ.

وهذا كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديثِ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، حَتَّى أَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ، وَمَا أَخْطَأَهُ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ)) رواهُ الترمذيُّ، والمعنَى: أَنَّ العبدَ لا يُؤْمِنُ حتَّى يَعْلَمَ أَنَّ ما يُصِيبُهُ إنمَّا أصابَهُ في القدَرِ؛ أيْ: ما قُدِّرَ عليهِ من الخيرِ والشَّرِّ لمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَهُ؛ أيْ: يُجَاوِزَهُ فلا يُصِيبَهُ.

وأَنَّ مَا أخطأَهُ من الخيرِ والشَّرِّ في القدرِ؛ أيْ: لم يُقَدَّرْ عليهِ، لمْ يَكُنْ لِيُصِيبَهُ، كما قالَ تعالَى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}[الحديد:22]، وقالَ تعالَى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ}[التوبة:52].

قولُهُ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ) قالَ شيخُ الإسلامِ: (قدْ ذَكَرْنَا أَنَّ للسَّلَفِ في العرشِ والقلمِ -أيُّهُما خُلِقَ قبلَ الآخرِ- قولَيْنِ، كما ذَكَرَ ذلكَالحافظُ أبو العلاءِ الْهَمْدَانِيُّ وغيْرُهُ.

أحدُهُما: أَنَّ القلمَ خُلِقَ أوَّلاً، كما أَطلقَ ذلكَ غيرُ واحدٍ، وهذا هُوَ الذي يُفْهَمُ منْ ظاهرِ كُتُبِ المُصَنِّفِ في(الأوَائِلِ)للحافِظِ أبي عَرُوبَةَ الْحَرَّانِيِّ وَلَدِ القاسمِ الطَّبَرَانِيِّ؛ للحديثِ الذي رَوَاهُأبو داودَ في (سُنَنِهِ)، عنْ عُبادةَ بنِ الصامتِ، وذكَرَ الحديثَ المشروحَ.

والثاني: أَنَّ العرشَ خُلِقَ أوَّلاً).
قالَ الإمامُ عثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِمِيُّ في تَصْنِيفِهِ في (الرَّدِّ عَلَى الْجَهْمِيَّةِ): حدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ كثيرٍ الْعَبْدِيُّ، أنبأنَا سفيانُ الثوريُّ، ثنا أبو هاشمٍ، عنْمجاهدٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ قالَ: (إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَى عَرْشِهِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ شَيْئًا، فَكَانَ أَوَّلُ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، فَأَمَرَهُ أَنْ يَكْتُبَ مَا هُوَ كَائِنٌ، وَأَنَّ مَا يَجْرِي عَلَى النَّاسِ عَلَى أَمْرٍ قَدْ فَرَغَ مِنْهُ).
وكذلكَ ذكرَ الحافظُ أبو بكرٍ الْبَيْهَقِيُّ في كتابِ (الأسماءِ والصفاتِ) لمَّا ذكرَ بَدْءَ الخلقِ، ثمَّ ذكرَ حديثَ الأعمشِ، عن المنهالِ بنِ عمرٍو، عنْ سعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ، أنَّهُ سُئِلَ عنْ قولِ اللهِ تعالَى: {وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ}[هود:7]، علَى أيِّ شيءٍ؟
قالَ: (علَى مَتْنِ الريحِ).
وَرَوَى حديثَ القاسمِ بنِ مُرَّةَ، عنْ سعيدِ بنِ جبيرٍ، عن ابنِ عبَّاسٍ أَنَّهُ كانَ يُحَدِّثُ، أَنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَوَّلُ شَيْءٍ خَلَقَهُ اللهُ القَلَمُ، وَأَمَرَهُ فَكَتَبَ كُلَّ شَيْءٍ يَكُونُ)).
قالَ البيهقيُّ: (وإنَّما أرادَ - واللهُ أعلمُ - أوَّلَ شيءٍ خلقَهُ بعدَ خَلْقِ الماءِ والريحِ والعرشِ، وذلكَ في حديثِ عمرانَ بنِ حُصَيْنٍ الذي أشارَ إليهِ، وهوَ ما رواهُ البخاريُّ منْ غيرِ وجهٍ مرفوعًا عنهُ: ((كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ)).

ورواهُ البيهقيُّ كما رواهُ مُحَمَّدُ بنُ هارونَ الرُّويَانِيُّ في (مُسْنَدِهِ)وعثمانُ بنُ سعيدٍ الدَّارِمِيُّ وغيرُهما، منْ حديثِ الثقاتِ المُتَّفَقِ علَى ثِقَتِهِم، عنْ أبي إسحاقَ، عن الأعمشِ، عنْ جامعِ بنِ شَدَّادٍ، عنْ صفوانَ بنِ مِحْرِزٍ، عنْ عمرانَ بنِ حصينٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ كَتَبَ فِي الذِّكْرِ كُلَّ شَيْءٍ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ)) وذكَرَ أحاديثَ وآثارًا، ثمَّ قالَ ما معناهُ: (فَثَبَتَ في النصوصِ الصحيحةِ أَنَّ العرشَ خُلِقَ أوَّلاً).

وقالَ ابنُ كثيرٍ: (قالَ قائلونَ: خُلِقَ القلمُ أوَّلاً، وهذا اختيارُ ابنِ جريرٍ، وابنِ الْجَوْزِيِّ، وغيرِهما).

قالَ ابنُ جريرٍ: (وبعدَ القلمِ السحابُ الرقيقُ، وبعدَهُ العرشُ) واحتجُّوا بحديثِ عُبَادَةَ.

والذي عليهِ الجمهورُ أَنَّ العرشَ مخلوقٌ قبلَ ذلكَ، كما دلَّ علَى ذلكَ الحديثُ الذي رواهُ مسلمٌ في (صحيحِهِ)، يعني حديثَ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ الذي تقدَّمَ.

قالُوا: (وهذا التقديرُ هوَ كتابَتُهُ بالقلمِ المقاديرَ، وقدْ دلَّ الحديثُ أنَّ ذلكَ بعدَ خَلْقِ العرشِ، فثبتَ تقديمُ العرشِ علَى القلمِ الذي كُتِبَ بهِ المقاديرُ، كما ذهبَ إلَى ذلكَ الجماهيرُ.

ويُحْمَلُ حديثُ القلمِ علَى أنَّهُ أَوَّلُ المخلوقاتِ منْ هذا العالَمِ). انتهَى بمعناهُ.

قولُهُ: ((اكْتُبْ مقاديرَ كلِّ شيءٍ حتَّى تقومَ الساعةُ)) قالَ شيخُ الإسلامِ:(وكذلكَ في حديثِ ابنِ عبَّاسٍ وغيْرِهِ، وهذا يُبَيِّنُ أَنَّهُ إنَّما أمَرَهُ حينئذٍ أنْ يَكْتُبَ مقدارَ هذا الخلقِ إلَى قيامِ الساعةِ، لمْ يَكُنْ حينئذٍ ما يكونُ بعدَ ذلكَ).

قولُهُ: ((مَنْ ماتَ علَى غَيْرِ هذا لمْ يَكُنْ مِنِّي)) أَيْ: لأنَّهُ إذا كانَ جاحدًا للعلمِ القديمِ فهوَ كافرٌ، كما قالَ كثيرٌ منْ أئِمَّةِ السلفِ: (نَاظِرُوا القدريَّةَ بالعلمِ، فإنْ أقرُّوا بهِ خُصِمُوا، وإنْ جَحَدُوا كفرُوا).

يُرِيدُونَ أنَّ منْ أنكرَ العلمَ القديمَ السابقَ بأفعالِ العبادِ، وأنَّ اللهَ قسَّمَهُم قبلَ خلقِهم إلَى شقيٍّ وسعيدٍ، وكتبَ ذلكَ عندَهُ في كتابٍ حفيظٍ، فقدْ كذَّبَ القرآنَ، فيَكْفُرُ بذلكَ، كما نصَّ عليهِ الشافعيُّ وأحمدُ وغيرُهما، وإنْ أقرُّوا بذلكَ وأنكرُوا أَنَّ اللهَ خلقَ أفعالَ العبادِ، وشاءَها وأرادهَا بينَهُم إرادةً كونيَّةً قدرِيَّةً، قدْ خُصِمُوا؛ لأنَّ ما أقَرُّوا بهِ حُجَّةٌ عليهم فيما أنكرُوهُ.

وفي تكفيرِ هؤلاءِ نزاعٌ مشهورٌ، وبِالْجُمْلَةِ فَهُمْ أهلُ بدعةٍ شنيعةٍ، والرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بريءٌ منهم، كما هوَ بريءٌ من الأوَّلِينَ، وقدْ بَيَّضَ المُصَنِّفُ آخِرَ هذا الحديثِ لِيَعْزُوَهُ، وقدْ رواهُ أبو داودَ وهذا لفظُهُ، ورواهُ أحمدُ والترمذيُّ وغيرُهما.

(4) قولُهُ: ((وفي روايةٍ لابنِ وهبٍ)) هوَ الإمامُ الحافظُ عبدُ اللهِ بنُ وهبِ بنِ مسلمٍ الْقُرَشِيُّ مَوْلاهُم المصريُّ الفقيهُ، ثقةٌ إمامٌ مشهورٌ عابدٌ، لهُ مُصَنَّفَاتٌ، منها (الجامعُ) وغيرُهُ، ماتَ سنةَ سبعٍ وتسعينَ ومائةٍ ولهُ اثنانِ وسبعونَ سنةً.
قولُهُ: ((أَحْرَقَهُ اللهُ بِالنَّارِ)) أيْ: لِكُفْرِهِ أوْ بدعتِهِ، إنْ كانَ مِمَّنْ يُقِرُّ بالعلمِ السابقِ ويُنْكِرُ خلقَ أفعالِ العبادِ، فإنَّ صاحبَ البدعةِ مُتَعَرِّضٌ للوعيدِ كأصحابِ الكبائرِ، بلْ أعظمُ.
(5) قولُهُ: وفي (المُسْنَدِ) أيْ: (مسندِ الإمامِ أحمدَ)، و(السُّنَنِ) أيْ: (سننِ أبي داودَ)وابنِ مَاجَه فقطْ، بمعنَى ما ذكرَ المُصَنِّفُ، وفيهِ زيادةٌ اختصرَها المصنِّفُ، ولفظُ ابنِ ماجه: حدَّثنا عليُّ بنُ محمَّدٍ، حدَّثنا إسحاقُ بنُ سليمانَ قالَ: سَمِعْتُ أبا سِنَانٍ، عنْ وهبِ بنِ خالدٍ الْحِمْصِيِّ، عنْ أبي الدَّيْلَمِيِّ قالَ: (وقعَ في نفسي شيءٌ منْ هذا القدرِ خَشِيتُ أَنْ يُفْسِدَ عليَّ دِينِي وأمْرِي، فأتيتُأُبيَّ بنَ كعبٍ فَقُلْتُ: ياأبا الْمُنْذِرِ، إنَّهُ قدْ وقعَ في قلبي شيءٌ منْ هذا القدرِ، فخشيتُ علَى ديني وأمري، فحَدِّثْنِي منْ ذلكَ بشيءٍ لعلَّ اللهَ أَنْ ينفعَنِي.

فقالَ: (لوْ أَنَّ اللهَ عذَّبَ أهلَ سماواتِهِ وأهلَ أرضِهِ لعذَّبَهم وهوَ غيرُ ظالمٍ لهُم، ولوْ رَحِمَهُم لكانَتْ رحمتُهُ خيرًا لهم منْ أعمالِهم، ولوْ كانَ لكَ مثلُ أُحُدٍ ذهبًا - أوْ مِثلُ جبلِ أُحُدٍ - تُنْفِقُهُ في سبيلِ اللهِ ما قُبِلَ منكَ حتَّى تؤمنَ بالقدرِ، فتعلمَ أَنَّ ما أصابَكَ لمْ يكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وما أخطأكَ لمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وأنَّكَ إنْ مُتَّ علَى غيرِ هذا دَخَلْتَ النارَ، ولا عليكَ أنْ تأتيَ يا أخي عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ فتسألَ).

فأتيتُ عبدَ اللهِ فسألتُهُ، فذكرَ مثلَ ما قالَ أُبيٌّ، وقالَ لي: لا عليكَ أنْ تأتيَ حُذَيْفَةَ.

فأتيتُ حذيفةَ فسألتُهُ، فقالَ مثلَ ما قالَ، ائْتِ زيدَ بنَ ثابتٍ فاسألْهُ.

فأتيتُ زيدَ بنَ ثابتٍ فسألتُهُ، فقالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ:((لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أَهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ لَعَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ كَانَ مِثْلُ أُحُدٍ - أَوْ مِثْلُ جَبَلِ أُحُدٍ - ذَهَبًا تُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ كُلِّهِ، فَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَإِنَّكَ إِنْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا دَخَلْتَ النَّارَ))هذا حديثُ ابنِ مَاجَه.

ولفظُ أبي داودَ كما ذَكَرَهُ المصنِّفُ، إلاَّ أَنَّهُ قالَ: ثمَّ أتيتُ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ، فقالَ مثلَ ذلكَ، ثمَّ أتيتُ حُذَيْفَةَ بنَ الْيَمَانِ، فقالَ مثلَ ذلكَ، ثمَّ أتيتُ زيدَ بنَ ثابتٍ فحدَّثَنِي عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بمثلِ ذلكَ.

قولُهُ: (عنْ أبي الدَّيْلَمِيِّ)، هوَ عبدُ اللهِ بنُ فَيْرُوزَ الدَّيْلَمِيُّ، وفَيْرُوزُ قَاتِلُ الأسودِ الْعَنْسِيِّ الْكَذَّابِ، وعبدُ اللهِ هذا ثقةٌ منْ كبارِ التابعينَ، بلْ ذكرَهُ بعضُهُم في الصحابةِ، والدَّيْلَمِيُّ نسبةٌ إلَى جبلِ الدَّيْلَمِ، وهوَ منْ أبناءِ الفرسِ الذينَ بعثَهُم كِسْرَى إلَى اليمنِ.

قولُهُ: ((وقعَ في نفسِي شيءٌ من القدرِ)) أيْ: شكٌّ أو اضْطِرَابٌ يُؤَدِّي إلَى شكٍّ فيهِ، أوْ جَحْدٍ لهُ.

قولُهُ: ((لوْ أنفقْتَ مِثلَ أُحُدٍ ذهبًا ما قَبِلَهُ اللهُ منكَ)) هذا تمثيلٌ علَى سبيلِ الفرضِ لا تحديدٌ، إذ لوْ فُرِضَ إنفاقُ مِلْءِ السماواتِ والأرضِ كانَ ذلكَ.

قولُهُ: ((حتَّى تُؤْمِنَ بالقدرِ)) أيْ: بأَنَّ جميعَ الأمورِ الكائنةِ خَيْرِها وشَرِّهَا، وحُلْوِهَا ومُرِّهَا، ونَفْعِها وضُرِّها، وقليلِها وكثيرِها، وكبيرِها وصغيرِها، بقضائِهِ وقدَرِهِ، وإرادتِهِ ومشيئتِهِ وأمرِهِ، كما ذُكِرَ عنْ عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.

هيئة الإشراف

#3

2 Nov 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ ما جاءَ في مُنْكِري القَدَرِ) أيْ: من الوَعيدِ الشديدِ ونحوِ ذلكَ.

أَخْرَجَ أبو دَاوُدَ، عنْ عبدِ العزيزِ بنِ أبي حازِمٍ، عنْ أبيهِ، عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الْقَدَرِيَّةُ مَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ، إِنْ مَرِضُوا فَلاَ تَعودُوهُمْ، وَإِنْ مَاتُوا فَلاَ تَشْهَدُوهُم)).

وعنْ عمرَ مَوْلَى غُفْرَةَ، عنْ رَجُلٍ من الأنصارِ، عنْ حُذيفةَ - وهوَ ابنُ الْيَمَانِ - رَضِيَ اللهُ عَنْهُما قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لِكُلِّ أُمَّةٌ مَجُوسٌ، ومَجُوسُ هَذِهِ الأُمَّةِ الَّذِينَ يَقُولُونَ: لاَ قَدَرَ، مَنْ مَاتَ مِنْهُمْ فَلاَ تَشْهَدُوا جَنَازَتَهُ، وَمَنْ مَرِضَ مِنْهُم فَلاَ تَعُودُوهُ، وَهُمْ شِيعَةُ الدَّجَّالِ، وَحَقٌّ عَلَى اللهِ أَنْ يُلْحِقَهُمْ بِالدَّجَّالِ)).
(2) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: قالَ ابنُ عُمرَ: (والَّذي نَفْسُ ابْنِ عُمَرَ بيدِهِ، لوْ كانَ لأَِحَدِهِم مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، ثُمَّ أنْفَقَهُ في سَبيلِ اللهِ ما قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ، حَتَّى يُؤمِنَ بالقَدَرِ، ثُمَّ اسْتَدلَّ بقوْلِ النَّبِيِّ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((الإِيمَانُ أنْ تُؤْمِنَ باللهِ، ومَلاَئِكَتِهِ، وكُتُبِهِ، ورُسُلِهِ، واليَومِ الآخِرِ، وتُؤمِنَ بالقَدَرِ خيْرِهِ وشرِّهِ)) ) رواهُ مسلمٌ.

حديثُ ابنِ عمرَ هذا أَخْرَجَهُ مُسلِمٌ، وأبو داوُدَ، والتِّرمذيُّ، والنَّسائيُّ، وابنُ مَاجَه، عنْ يَحْيَى بنِ يَعْمَرَ قالَ: (كَانَ أَوَّلَ مَنْ تَكَلَّمَ فِي القَدَرِ بِالبَصْرةِ مَعْبَدٌ الْجُهَنِيُّ، فانطَلَقْتُ أَنَا وَحُمَيْدُ بنُ عَبْدِ الرَّحْمَنِ الحِمْيَرِيُّ حَاجَّيْنَ، أَوْ مُعْتَمِرَيْنِ: فَقُلْنَا: لَوْ لَقِينَا أَحَدًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلْنَاهُ عَمَّا يَقُولُ هَؤُلاءِ في القَدَرِ؟

فَوَفَّقَ اللهُ لَنَا عَبْدَ اللهِ بنَ عُمَرَ دَاخِلاً الْمَسْجِدَ، فَاكتَنفْتُهُ أَنَا وَصَاحِبِي، فَظَنَنْتُ أَنَّ صَاحِبِي سيَكِلُ الكَلامَ إِليَّ؛ فَقُلْتُ: أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ؛ إِنَّهُ قَدْ ظَهَرَ قِبَلَنا أُنَاسٌ يَقْرَءُونَ القُرْآنَ، ويَتَقَفَّرُون العِلمَ يَزْعُمُونَ أَنْ لاَ قَدَرَ، وَالأَمْرُ أُنُفٌ.
فَقَالَ:( إِذَا لَقِيتَ أُولَئِكَ فَأَخْبِرْهُمْ أَنِّي بَرِيءٌ مِنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ بُرَآءٌ مِنِّي، وَالَّذِي يَحْلِفُ بِهِ عَبْدُ اللهِ بنُ عُمَرَ لَوْ أَنَّ لأَحَدِهِم مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا فَأنْفَقَهُ مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ، حَتَّى يُؤْمِنَ بِالقَدَرِ، ثُمَّ قَالَ: حَدَّثَني عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: بَيْنَما نَحْنُ عِندَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إذْ طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعْرِ، لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَرِ، وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أحَدٌ، حَتَّى جَلَسَ إَلَى النَّبِيِّ فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ، وَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ، أَخْبِرْني عَنِ الإِسْلاَمِ؟
قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((الإِسْلاَمُ أَنْ تَشهَدَ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤتِيَ الزَّكَاةَ، وَتَصُومَ رَمَضَانَ، وتَحُجَّ البَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً))
قَالَ: صَدَقْتَ، فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ؟
قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَوْمِ الآخِرِ، وتؤْمِنَ بالقَدَرِ خَيرِهِ وَشَرِّهِ))
قَالَ: صَدَقْتَ.
قَالَ: فَأَخْبِرْني عَنِ الإِحْسَانِ؟
قَالَ: ((أَنْ تَعبُدَ اللهَ كَأنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ))
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ؟
قَالَ: ((مَا الْمَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ))
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا؟
قَالَ: ((أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الْحُفَاةَ الْعُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ في البُنْيَانِ))
قَالَ: فَانْطَلَقَ، فَلَبِثْتُ ثَلاَثًا - وَفي رِوَايَةِ مسلمٍ: مَلِيًّا - ثُمَّ قَالَ:

((يَا عُمَرُ، أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ؟))

قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: ((فَإِنَّهُ جِبْرِيلُ أَتَاكُم يُعَلِّمُكُمْ دِينَكُمْ)).
ففي هذا الحديثِ أنَّ الإيمانَ بالْقَدَرِ منْ أُصولِ الإيمانِ السِّتَّةِ المذكورةِ، فمَنْ لم يُؤْمِنْ بالقَدَرِ خيرِهِ وشَرِّهِ فقدْ تَرَكَ أَصْلاً منْ أُصولِ الدِّينِ وجَحَدَهُ؛ فيُشْبِهُ مَنْ قالَ اللهُ فيهم: {أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ}[البقرة:85].
(3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَعَنْ عُبَادَةَ بنِ الصَّامِتِ أَنَّهُ قَالَ لاِبْنِهِ: ( يَا بُنَيَّ، إنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ الإِيمَانِ حَتَّى تَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَكَ، وَمَا أخْطَأَكَ لَمْ يكُنْ لِيُصِيبَكَ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ:((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمُ فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَقَالَ: رَبِّ، وَمَاذَا أكْتُبُ؟
قَالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ))

يا بُنَيَّ، سَمِعتُ رَسُولَ اللهِ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ يَقُولُ:

((مَنْ ماتَ عَلَى غيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي)) ).

وفي رِوَايَةٍ لأِحْمَدَ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكتُبْ، فَجَرَى في تِلَكَ السَّاعَةِ بِما هُوَ كائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
وفي رِوايَةٍ لابْنِ وهْبٍ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَمَنْ لَمْ يُؤمِنْ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ أَحْرَقَهُ اللهُ بِالنَّارِ)).
قولُهُ: (وعنْ عُبادَةَ) قدْ تَقدَّمَ ذِكْرُهُ في بابِ (فَضلِ التوحيدِ) وحديثُهُ هذا رواهُ أبو داوُدَ، ورواهُ الإمامُ أحمدُ بكَمالِهِ، قالَ: حَدَّثَنا الحسَنُ بنُ سُوارٍ، حَدَّثَنا لَيْثٌ، عنْ مُعاويَةَ، عنْ أَيُّوبَ بنِ زِيادٍ، حَدَّثَنِي عُبادةُ بن الوَليدِ بنِ عُبادةَ، حَدَّثَنِي أبي قالَ: (دَخَلْتُ عَلَى عُبَادَةَ وَهُوَ مَرِيضٌ أَتَخايَلُ فِيهِ الْمَوْتَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ، أَوْصِنِي وَاجْتَهِدْ لِي، فَقَالَ: أَجْلِسُونِي، قَالَ: يَا بُنيَّ، إِنَّكَ لَنْ تَجِدَ طَعْمَ الإِيمَانِ وَلَنْ تَبْلُغَ حَقِيقَةَ العِلْمِ بِاللهِ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ، قُلْتُ: يَا أَبَتَاهُ، وَكَيفَ أَعْلَمُ مَا خَيْرُ القَدَرِ وَشَرُّهُ؟
قَالَ: تَعْلَمْ أَنَّ مَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ، وَمَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَكَ، يَا بُنَيَّ، إِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ، فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيامَةِ، يَا بُنَيَّ، إنْ مِتَّ وَلَسْتَ عَلَى ذَلِكَ دَخَلْتَ النَّارَ)).

ورواهُ التِّرمذيُّ بسَنَدِهِ الْمُتَّصِلِ إلَى عَطاءِ بنِ أَبِي رَباحٍ، عن الوَليدِ بنِ عُبادةَ، عنْ أبيهِ، وقالَ: (حَسَنٌ صحيحٌ غَريبٌ).

وفي هذا الحديثِ ونحوِهِ: بيانُ شُمولِ عِلْمِ اللهِ تعالَى وإحاطتِهِ بما كان ويكونُ في الدنيا والآخِرَةِ، كما قالَ تعالَى: {اللهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا}[الطلاق:12].
وقدْ قالَ الإمامُ أحمدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى لَمَّا سُئِلَ عن الْقَدَرِ قالَ: (القَدَرُ قُدْرَةُ الرَّحْمَنِ) واسْتَحْسَنَ هذا ابنُ عَقيلٍ منْ أَحمدَ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى، والمعنَى: أنَّهُ لا يَمْتَنِعُ عنْ قُدرةِ اللهِ شيءٌ.
ونُفاةُ القَدَرِ قدْ جَحَدُوا كَمالَ قُدرةِ اللهِ تعالَى فَضَلُّوا عنْ سَواءِ السبيلِ، وقدْ قالَ بعضُ السَّلَفِ: (ناظِرُوهم بالعِلْمِ، فإنْ أَقَرُّوا بهِ خُصِمُوا، وإنْ جَحَدُوهُ كَفَرُوا).
(4) قولُهُ: (وفي الْمُسنَدِ وسُنَنِ أبي دَاوُدَ عن ابنِ الدَّيْلَمِيِّ) وهوَ أبو بُسْرٍ -بالسِّينِ الْمُهْمَلَةِ وبالباءِ الْمَضمومةِ- ويُقالُ: أبو بِشْرٍ -بالشِّينِ الْمُعجَمةِ وكَسْرِ الباءِ- وبعضُهم صَحَّحَ الأَوَّلَ، واسمُهُ: عبدُ اللهِ بنُ فَيروزَ، ولفظُ أبي دَاوُدَ قال: (((لَوْ أَنَّ اللهَ عَذَّبَ أهْلَ سَمَاوَاتِهِ وَأَهْلَ أَرْضِهِ، عَذَّبَهُمْ وَهُوَ غَيْرُ ظَالِمٍ لَهُمْ، وَلَوْ رَحِمَهُمْ لَكَانَتْ رَحْمَتُهُ خَيْرًا لَهُمْ مِنْ أَعْمَالِهِمْ، وَلَوْ أنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ، وَتَعْلَمَ أَنَّ مَا أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ ليُخطِئَكَ، وَمَا أَخْطَأَكَ لَمْ يَكُنْ ليُصِيبَكَ، وَلَوْ مِتَّ عَلَى غَيْرِ هَذَا لَكُنْتَ مِنْ أهْلِ النَّارِ))
قَالَ: فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ مَسْعُودٍ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ.
قال: ثُمَّ أَتَيْتُ حُذَيْفَةَ بنَ اليَمَانِ، فَقَالَ مِثْلَ ذَلِكَ.

قَالَ: ثُمَّ أَتَيْتُ زَيْدَ بنَ ثَابِتٍ، قَالَ: فَحَدَّثَني عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِثْلَ ذَلِكَ) وأَخْرَجَهُ ابنُ مَاجَه.
وقالَ العِمادُ ابنُ كثيرٍ: عنْ سُفيانَ، عنْ مَنصورٍ، عنْ رِبْعِيِّ بنِ حِراشٍ، عنْ رَجُلٍ، عنْ عليِّ بنِ أبي طالِبٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ يُؤْمِنُ عَبْدٌ حَتَّى يُؤْمِنَ بِأَرْبَعٍ: يَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ بَعَثَنِي بِالحَقِّ، وَيُؤْمِنُ بِالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ، وَيُؤْمِنُ بِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) وكذا رواهُ التِّرمِذِيُّ، عن النَّضْرِ بنِ شُمَيْلٍ، عنْ شُعبةَ، عنْ مَنصورٍ بهِ.
ورواهُ منْ حديثِ أبي دَاوُدَ الطَّيَالِسيُّ، عنْ شُعبةَ، عنْ رِبْعِيٍّ، عنْ عَلِيٍّ، فذَكَرَهُ.
وقدْ ثَبَتَ في (صحيحِ مسلِمٍ) منْ رِوايَةِ عبدِ اللهِ بنِ وَهْبٍ وغيرِهِ، عنْ أبي هَانِئٍ الخَوْلانيِّ، عنْ أبي عبدِ الرحمنِ الْحُبُليِّ، عنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرٍو قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إنَّ اللهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ الْخَلاَئِقِ قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِخَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ))- زَادَ ابنُ وَهْبٍ- ((وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ)) ورواهُ التِّرمِذِيُّ وقالَ: (حديثٌ حَسَنٌ غَريبٌ).
وكلُّ هذه الأحاديثِ وما في معناها فيها الوَعيدُ الشديدُ علَى عَدَمِ الإيمانِ بالقَدَرِ، وهيَ الْحُجَّةُ علَى نُفاةِ الْقَدَرِ من الْمُعْتَزِلَةِ وغيرِهم، ومَنْ مَذهبُهم تَخليدُ أهلِ الْمَعاصِي في النارِ، وهذا الذي اعْتَقَدُوهُ منْ أَكبَرِ الكبائرِ، وأَعْظَمِ الْمَعَاصِي.
وفي الحقيقةِ إذا اعْتَبَرْنَا إقامةَ الْحُجَّةِ عليهم بما تَواتَرَتْ بهِ نُصوصُ الكِتابِ والسُّنَّةِ منْ إثباتِ القَدَرِ فقدْ حَكَمُوا علَى أنفسِهم بالْخُلودِ في النارِ إنْ لم يَتُوبُوا، وهذا لازِمٌ لَهُمْ علَى مَذْهَبِهم هذا، وقدْ خَالَفُوا ما تَواتَرَتْ بهِ أَدِلَّةُ الكتابِ والسنَّةِ منْ إثباتِ القَدَرِ، وعَدَمِ تخليدِ أهلِ الكبائرِ من الْمُوَحِّدِينَ في النارِ.

هيئة الإشراف

#4

2 Nov 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1) قدْ ثَبَتَ بالكتابِ والسُّنَّةِ وإجماعِ الأمَّةِ: أنَّ الإِيمانَ بالقَدَرِ أحدُ أَرْكَانِ الإِيمانِ، وأنَّه ما شاءَ اللهُ كانَ، وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ، فَمَنْ لَمْ يُؤمِنْ بهذا فإنَّه ما آمنَ باللهِ حقيقةً.

فعلينا أنْ نُؤْمِنَ بجميعِ مراتبِ القَدَرِ؛ فنؤمنَ:

- أنَّ اللهَ بكلِّ شيءٍ عليمٌ.

- وأنَّه كتبَ في اللَّوحِ المحفوظِ جميعَ مَا كانَ وما يكونُ إلى يومِ القيامةِ.

- وأنَّ الأمورَ كُلَّها بِخَلْقِهِ وقُدْرَتِه وتَدْبيرِه.

ومِن تمامِ الإِيمانِ بالقدرِ:

العلمُ بأنَّ اللهَ لم يُجبرِ العِبادَ على خلافِ مَا يريدون، بَل جعَلَهُمْ مختارِين لطاعتِهِم ومعاصيهِم.

هيئة الإشراف

#5

2 Nov 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) قولُهُ: ((مُنْكِرِي))أصلُهُ مُنْكِرِينَ، جَمْعُ مُذَكَّرٍ سالمٌ، فحُذِفَت النُّونُ للإضافةِ، كما يُحْذَفُ التَّنْوِينُ أيضًا، قالَ الشَّاعرُ:

كـَأَنِّي تَنـْوِينٌ وأَنـْتَ إِضَافَةٌ فَأَيْنَ تَرَانِي لا تَحُلُّ جِوَارِيَ

وقيلَ: (مكَانِيَ) بدلَ (جِوَارِيَ).
قولُهُ: ((القدرِ)) هوَ: تقديرُ اللهِ عزَّ وجلَّ للكائناتِ، وهوَ سِرٌّ مكتومٌ لا يعلمُهُ إلاَّ اللهُ، أوْ مَنْ شاءَ مِنْ خلْقِهِ.
قالَ بعضُ أهلِ العلمِ: (القدَرُ سِرُّ اللهِ عزَّ وجلَّ في خلْقِهِ، ولا نعلمُهُ إلاَّ بعدَ وُقُوعِهِ، سواءٌ كانَ خيرًا أمْ شَرًّا).

والقَدَرُ يُطْلَقُ على معْنَيَيْنِ:

الأوَّلُ: التَّقديرُ؛ أيْ: إرادةُ اللهِ الشيْءَ عزَّ وجلَّ.

الثَّاني: الْمُقدَّرُ؛ أيْ: ما قَدَّرَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ.
والتَّقديرُ يكونُ مُصاحِبًا للفعلِ وسابقًا لهُ، فالمُصَاحِبُ للفعلِ هوَ: الَّذي يكونُ بهِ الفعلُ. والسَّابقُ هوَ: الَّذي قدَّرَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ في الأزَلِ.
مثالُ ذلكَ: (خَلْقُ الجنينِ في بَطْنِ الأمِّ) فيهِ تقديرٌ سابقٌ عِلْمِيٌّ قبلَ خَلْقِ السَّمَاواتِ والأرضِ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، وفيهِ تقديرٌ مُقَارِنٌ للخلقِ والتَّكوينِ، وهذا الَّذي تَتَعَلَّقُ بهِ القدرةُ؛ أيْ: تقديرُ اللهِ لهذا الشَّيءِ عندَ خلقِهِ.

والإيمانُ بالقَدَرِ يتعلَّقُ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ خُصُوصًا، ولهُ تَعَلُّقٌ بتوحيدِ الأسماءِ والصِّفاتِ؛ لأنَّهُ مِنْ صفاتِ كمالِ اللهِ عزَّ وجلَّ.

(2) قولُهُ: ((والَّذي نفْسُ ابنِ عُمَرَ بِيَدِهِ)) الصِّيغةُ هنا قَسَم، جَوَابُهُ جُمْلَةُ(لَوْ كَانَ لأَحَدِهِم مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، ثُمَّ أنْفَقَهُ في سَبيلِ اللهِ، مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بالقَدَرِ).

وابنُ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ وعنْ أبيهِ ذَكَرَ حُكْمَهُم بالنِّسْبَةِ لقبولِ عَمَلِهِم، ولمْ يقُلْ هُمْ كُفَّارٌ.

لكنَّ حكمَهُ بأنَّ إِنْفَاقَهُم في سبيلِ اللهِ لا يُقْبَلُ يَسْتَلْزِمُ الحُكْمَ بكُفْرِهِم.

وإنَّما قالَ ابنُ عُمَرَ ذلكَ جَوَابًا على ما نُقِلَ إليهِ مِنْ أنَّ أُنَاسًا من البَصْرَةِ يقولونَ: (إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لمْ يُقَدِّرْ فِعْلَ العبدِ وإنَّ الأمرَ أُنُفٌ، وإنَّهُ لا يعلمُ بأفعالِ العبدِ حتَّى يَعْمَلَهَا وتَقَعَ منْه).
فَابْنُ عُمَرَ حَكَمَ بكُفْرِهِم اللاَّزمِ منْ قولِهِ: (ما قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ حَتَّى يُؤْمِنَ بالقَدَر).

والَّذي لا تُقْبَلُ منهُ النَّفقاتُ هوَ الكافرُ؛ لقولِهِ تعالى: {وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ}.

ثمَّ استدلَّ ابنُ عمرَ بقولِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: ((الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).

فَتُؤْمِنَ بالجميعِ، فإنْ كَفَرْتَ بواحدٍ منْ هذهِ السِّتَّةِ فأنتَ كافرٌ بالجميعِ؛ لأنَّ الإيمانَ كُلٌّ لا يَتَجَزَّأُ، كما قالَ تعالى: {وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً * أُولَـئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا}.

ووجهُ استدلالِ ابنِ عمرَ:أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ جعلَ الإيمانَ مَبْنِيًّا على هذهِ الأركانِ السِّتَّةِ، وإذا فاتَ رُكْنٌ من الأركانِ سقَطَ البُنْيَانُ، فإذا أنْكَرَ الإنسانُ شيئًا واحدًا منْ هذهِ الأركانِ السِّتَّةِ صارَ كافرًا، وإذا كانَ كافرًا فإنَّ اللهَ لا يَقْبَلُ منهُ.

قولُهُ: ((وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) هنا أعادَ الفعلَ ولمْ يكتفِ بواوِ العطفِ؛ لأنَّ الإيمانَ بالقدَرِ مُهِمٌّ، فكأنَّهُ مُسْتَقِلٌّ برأسِهِ.
والإيمانُ بالقدرِ: هوَ أنْ تُؤْمِنَ بتقديرِ اللهِ عزَّ وجلَّ للأشياءِ كُلِّهَا، سواءٌ ما يَتَعَلَّقُ بفعلِهِ أوْ ما يَتَعَلَّقُ بفعلِ غيرِهِ، وأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قدَّرَها وكتبَهَا عندَهُ قبلَ أنْ يخْلُقَ السَّماواتِ والأرضَ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، ومعلومٌ أنَّهُ لا كتابةَ إلاَّ بعدَ عِلْمٍ، فالعلمُ سابقٌ على الكتابةِ.
ثمَّ إنَّهُ ليسَ كُلُّ معلومٍ للهِ سُبْحَانَهُ وتعالى مكتوبًا؛ لأنَّ الَّذي كُتِبَ إلى يومِ القيامةِ، وهناكَ أشياءُ بعدَ يومِ القيامةِ كثيرةٌ أكثرُ مِمَّا في الدُّنيا هيَ معلومةٌ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، ولكنَّهُ لم يَرِدْ في الكتابِ والسُّنَّةِ أنَّها مكتوبةٌ.
وهذا القدرُ قالَ بعضُ العلماءِ: (إنَّهُ سِرٌّ منْ أسرارِ اللهِ) وهوَ كذلكَ لم يُطْلِع اللهُ عليهِ أحدًا، لا مَلَكًا مُقَرَّبًا، ولا نَبِيًّا مُرْسَلاً، إلاَّ ما أَوْحَاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ إلى رُسلِهِ، أوْ وقَعَ فَعَلِمَهُ الناسُ، وإلاَّ فإنَّهُ سِرٌّ مكتومٌ، قالَ تعالى: {وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا} وإذا قُلْنَا: إنَّهُ سرٌّ مكتومٌ، فإنَّ هذا القولَ يَقْطَعُ احتجاجَ العاصي بالقدرِ على معصيتِهِ؛ لأنَّنا نقولُ لهذا الَّذي عصَى اللهَ عزَّ وجلَّ وقالَ: هذا مُقَدَّرٌ عَلَيَّ: ما الَّذي أَعْلَمَكَ أنَّهُ مُقَدَّرٌ عليكَ حتَّى أقْدَمْتَ؟ أفلا كانَ الأجدرُ بكَ أنْ تُقَدِّرَ أنَّ اللهَ تعالى قدْ كَتَبَ لكَ السَّعادةَ وتَعْمَلَ بعملِ أهلِ السَّعادةِ؛ لأنَّكَ لا تستطيعُ أنْ تَعْلَمَ أنَّ اللهَ كتَبَ عليكَ الشَّقاءَ إلاَّ بعدَ وُقُوعِهِ منكَ؟ قالَ تعالى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللهُ قُلُوبَهُمْ}.
فالقولُ بأنَّ القدرَ سرٌّ منْ أسرارِ اللهِ مكتومٌ لا يُطَّلَعُ عليهِ إلاَّ بعدَ وقوعِ المقدورِ تَطْمَئِنُّ لهُ النَّفسُ، ويَنْشَرِحُ لهُ الصَّدرُ، وتَنْقَطِعُ بهِ حُجَّةُ البطَّالينَ.
وقولُهُ: ((خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)) الخيرُ: ما يُلائمُ العبدَ، والشَّرُّ: ما لا يُلائمُهُ.
ومعلومٌ أنَّ المَقْدُورَاتِ خيرٌ وشرٌّ؛ فالطَّاعاتُ خيرٌ والمعاصي شرٌّ، والغِنى خيرٌ والفقرُ شرٌّ، والصِّحَّةُ خيرٌ والمرضُ شرٌّ، وهكذا.
وإذا كانَ القدَرُ من اللهِ فـكيفَ يُقالُ: الإيمانُ بالقدَرِ خيرِهِ وشرِّهِ، والشَّرُّ يُنسَبُ إلى اللهِ؟
الجوابُ: أنَّ الشَّرَّ لا يُنسَبُ إلى اللهِ،قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: ((وَالشَّرُّ لَيْسَ إِلَيْكَ)) فلا يُنسَبُ إليهِ الشَّرُّ لا فعلاً ولا تقديرًا ولا حُكْمًا، بل الشرُّ في مفعولاتِ اللهِ، لا في فعلِهِ كما سبقَ بيانهُ.
(3) قولُهُ في حديثِ عُبَادَةَ: ((أنَّهُ قالَ لابنِهِ: يا بُنَيَّ)) أفادَ عُبَادَةُ بنُ الصَّامتِ رضِيَ اللهُ عنهُ أنَّهُ يَنْبَغِي للأبِ أنْ يُسْدِيَ النَّصائحَ لأبنائِهِ ولأهلِهِ، وأنْ يخْتَارَ العباراتِ الرَّقيقةَ الَّتي تُلَيِّنُ القلبَ؛ حيثُ قالَ: (يَا بُنَيَّ) وفي هذا التَّعبيرِ من اللَّطَافَةِ وجَذْبِ القلبِ ما هوَ ظاهرٌ.
قولُهُ: ((لَنْ تَجِدَ طعمَ الإيمانِ)) هذا يُفِيدُ أنَّ للإيمانِ طعمًا كما جاءتْ بهِ السُّنَّةُ، وطعمُ الإيمانِ ليسَ كطعمِ الأشياءِ المحسوسةِ، فطعمُ الأشياءِ المحسوسةِ إذا أتَى بعدَهَا طَعَامٌ آخَرُ أزالَهَا، لكنَّ طعمَ الإيمانِ يَبْقَى مُدَّةً طويلةً، حتَّى إنَّ الإنسانَ أحيانًا يفعلُ عِبادةً في صفاءٍ وحُضُورِ قلبٍ وخُشُوعٍ للهِ عزَّ وجلَّ، فتجدُهُ يَتَطَعَّمُ بتلكَ العبادةِ مُدَّةً طويلةً، فالإيمانُ لهُ حلاوةٌ ولهُ طعمٌ لا يُدْرِكُهُ إلاَّ مَنْ أسْبَغَ اللهُ عليهِ نعمتَهُ بهذهِ الحلاوةِ وهذا الطَّعمِ.

قولُهُ: ((حَتَّى تعْلَمَ أنَّ ما أصابَكَ لَمْ يَكُنْ ليُخْطِئَكَ)) قدْ تقولُ: ما أَصَابَنِي لمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَنِي، هذا تحصيلُ حاصلٍ؛ لأنَّ الَّذي أصابَ الإنسانَ أصابَهُ، فلا بُدَّ أنْ نعرفَ معنى هذهِ العبارةِ، فتُحْمَلُ هذهِ العبارةُ على أحدِ معنيَيْنِ، أوْ عَلَيْهِمَا جميعًا:
الأوَّلُ: أنَّ المعنى: ما أَصَابَكَ؛أيْ: مَا قدَّرَ اللهُ أنْ يُصِيبَكَ، فعَبَّرَ عن التَّقديرِ بالإصابةِ؛ لأنَّ ما قَدَّرَ سوفَ يَقَعُ، فما قدَّرَ اللهُ أنْ يُصِيبَكَ لَمْ يكُنْ لِيُخْطِئَكَ مهما عَمِلْتَ منْ أسبابٍ.

الثَّاني: ما أصابَكَ فلا تُفَكِّرْ أنْ يكونَ مُخْطِئًا لكَ، فلا تَقُلْ: لوْ أنَّني فعَلْتُ كذا ما حصَلَ كذا؛ لأنَّ الَّذي أصابَكَ الآنَ لا يُمْكِنُ أنْ يُخْطِئَكَ، فكلُّ التَّقديراتِ الَّتي تُقَدِّرُهَا وتقولُ: لوْ أنِّي فعلتُ كذا ما حصَلَ كذا، هيَ تقديراتٌ يائسةٌ لا تُؤَثِّرُ شيئًا.
وأيًّا كانَ فالمعنى صحيحٌ على الوجهَيْنِ، فما قدَّرَهُ اللهُ أنْ يُصِيبَ العبدَ فلا بُدَّ أن يُصِيبَهُ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُخْطِئَهُ، وما وقَعَ مُصِيبًا للإنسانِ فإنَّهُ لنْ يمْنَعَهُ ويَرْفَعَهُ شيءٌ، فإذا آمَنْتَ هذا الإيمانَ ذُقْتَ طعمَ الإيمانِ؛ لأنَّكَ تَطْمَئِنُّ وتَعْلَمُ أنَّ الأمرَ لا بُدَّ أنْ يَقَعَ على ما وقعَ عليهِ، ولا يُمْكِنُ أنْ يتَغَيَّرَ أبدًا.
مثالُ ذلكَ: (رَجُلٌ خرجَ بأولادِهِ للنُّزْهَةِ، فَدَبَّ بعضُ الأولادِ إلى بِرْكَةٍ عميقةٍ، فسقَطَ فغَرِقَ فماتَ)

فلا يقولُ: لوْ أنَّنِي ما خَرَجْتُ لَمَا ماتَ الولدُ، بلْ لا بُدَّ أنْ تَجْريَ الأمورُ على ما جَرَتْ عليهِ، ولا يُمْكِنُ أنْ تتغيَّرَ؛ فما أصابَكَ لمْ يَكُنْ لِيُخْطِئَكَ.

فحينَئِذٍ يَطْمَئِنُّ الإنسانُ ويَرْضَى ويَعْرِفُ أنَّهُ لا مَفَرَّ، وأنَّ كُلَّ التَّقديراتِ والتَّخَيُّلاتِ الَّتي تقعُ في ذهنِهِ كُلُّها من الشَّيطانِ، فلا تَقُلْ: لوْ أنِّي فعلتُ كذا لكانَ كذا؛ فإنَّ لَوْ تفتحُ عملَ الشَّيطانِ، وحينئذٍ يَرْضَى ويُسَلِّمُ.


وقدْ أشارَ اللهُ إلى هذا المعنى في قولِهِ: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلاَ تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ}.


فأنتَ إذا عَلِمْتَ هذا العلمَ وتَيَقَّنْتَهُ بقلبِكَ ذُقْتَ حلاوةَ الإيمانِ واطْمَأْنَنْتَ، واستقرَّ قلبُكَ، وعرفْتَ أنَّ الأمرَ جارٍ على ما هوَ عليهِ لا يُمْكِنُ أنْ يتغيَّرَ؛ ولهذا كثيرًا ما يجدُ الإنسانُ أنَّ الأمورَ سارَتْ لِيَصِلَ إلى هذهِ المصيبةِ، فتجدُهُ يعملُ أعمالاً لمْ يكُنْ منْ عادتِهِ أنْ يعملَهَا حتَّى يصلَ إلى ما أرادَ اللهُ عزَّ وجلَّ، ممَّا يَدُلُّ على أنَّ الأمورَ بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ.


قولُهُ: ((ومَا أخْطأَكَ لَمْ يكُنْ لِيُصيبَكَ)) نقولُ فيهِ مثلَ الأوَّلِ، يعني: ما قُدِّرَ أنْ يُخْطِئَكَ فلنْ يُصِيبَكَ، فلوْ أنَّ أحدًا سَمِعَ بمَوْسِمِ تجارةٍ في بلدٍ ما، وسافرَ بأموالِهِ لهذا الموسمِ، فَلَمَّا وصَلَ وجَدَ أنَّ الموسمَ قدْ فاتَ نقولُ لهُ: ما أَخْطَأَكَ منْ هذا الرِّبحِ الَّذي كُنْتَ تُعِدُّ لهُ لمْ يَكُنْ لِيُصِيبَكَ مهما كانَ ومهما عَمِلْتَ، أوْ نقولُ: لم يكُنْ ليُصِيبَكَ؛ لأنَّ الأمرَ لا بُدَّ أن يَجْرِيَ على ما قضاهُ اللهُ وقدَّرَهُ، وأنتَ جَرِّبْ نفسَكَ تَجِدْ أنَّكَ إذا حصَلْتَ على هذا اليقينِ ذُقْتَ حلاوةَ الإيمانِ.


(4) ثُمَّ استدلَّ لِمَا يقولُ بقولِهِ: ((سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ الْقَلَمُ))) (القلمُ) بالرَّفعِ والنَّصْبِ، وهيَ مَرْوِيَّةٌ بالوجهَيْنِ.


فعلى روايَةِ الرَّفعِ يكونُ (القلمُ) خبرَ (إنَّ) ويكونُ المعنى: أوَّلُ ما خلقَ اللهُ القلمُ.


لكنْ ليسَ منْ كُلِّ المخلوقاتِ كما سَنُبَيِّنُهُ إنْ شاءَ اللهُ تعالى.


وأمَّا على رِوَايَةِ النَّصبِ فَـ((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ القَلَمَ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ.


فَقالَ: رَبِّ، وَمَا أَكْتُبُ؟))


يكُونُ خَبَرُ (إِنَّ) محذوفًا، أوْ: (قَالَ لَهُ: اكْتُبْ) وتكونُ الفاءُ زائدةً، ويكونُ المعنى: أنَّ اللهَ أمرَ القلمَ أنْ يكتُبَ عندَ أوَّلِ خلقِهِ لهُ، يعني خَلَقَهُ، ثُمَّ أمَرَهُ أنْ يكْتُبَ، وعلى هذا المعنى لا إشكالَ فيهِ.


لكنْ على المعنى الأوَّلِ الَّذي هوَ الرَّفعُ، هل المرادُ أَنَّ أوَّلَ المخلوقاتِ كُلِّها هوَ القلمُ؟


الجوابُ: لا؛ لأنَّنا لوْ قُلْنَا: إنَّ القلمَ أوَّلُ المخلوقاتِ، وأنَّهُ أُمِرَ بالكتابةِ عندَما خُلِقَ، لَكُنَّا نَعْلَمُ ابتداءَ خلْقِ اللهِ للأشياءِ، وأنَّ أوَّلَ بَدْءِ خَلْقِ اللهِ كانَ قبلَ خَلْقِ السَّماواتِ والأرضِ بخمسينَ ألفَ سنةٍ، ونحنُ نَعْلَمُ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ خلقَ أشياءَ قبلَ هذهِ المُدَّةِ بأزمنةٍ لا يعلمُهَا إلاَّ اللهُ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ لم يَزَلْ ولا يَزَالُ خالقًا، وعلى هذا؛ فيكونُ ((إِنَّ أَوَّلَ مَا خلَقَ اللهُ الْقَلَمُ)) يحتاجُ إلى تأويلٍ؛ ليُطابِقَ ما عُلِمَ بالضَّرُورةِ مِنْ أنَّ اللهَ تعالى لهُ مخلوقاتٌ عظيمةٌ قبلَ هذا الزَّمنِ.

قالَ أهلُ العلمِ: (وتأويلُهُ أنَّ المعنى: إِنَّ أوَّلَ ما خلَقَ اللهُ القلمَ بالنسبةِ لِمَا نُشاهِدُهُ فقطْ من المخلوقاتِ؛ كالسَّماواتِ والأرضِ، فهيَ أَوَّلِيَّةٌ نِسْبِيَّةٌ؛ أيْ: بالنِّسبةِ).


وقدْ قالَ ابنُ القيِّمِ في (نُونِيَّتِهِ):

والنَّاسُ مُخْتلِفُونَ في القَلَمِ الَّذي كـُتـِبَ الـقـَضـاءُ بـِهِ مـِن الـدَّيَّانِ


هَلْ كَانَ قَبْلَ العَرْشِ أَوْ هُوَ بَعْدَهُ قـَوْلانِعِنْدَ أَبِي الْعُلا الْهَمَدَانِي


والــحـقـُّأنَّ الـــعـرشَ قــَبـْلُ لأنَّهُ قـَبـْلَالـكـتـابــَةِ كـانَ ذا أرْكـَانِ

قولُهُ: ((فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ)) القائلُ هوَ اللهُ عزَّ وجلَّ يُخَاطِبُ القلمَ، والقَلَمُ جمادٌ، لكنَّ كُلَّ جمادٍ أمامَ اللهِ مُدْرِكٌ عاقِلٌ ومُرِيدٌ.

والدَّليلُ على هذا قولُهُ تعالى في سُورَةِ فُصِّلَتْ: {قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (.1) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا} أيْ: لا بُدَّ أنْ تَنْقَادَا لأمرِ اللهِ طوعًا أوْ كَرْهًا.


فكانَ الجوابُ: {قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ}.


إذًا خاطَبَ اللهُ السَّماواتِ والأرضَ وأَجَابَتَا، ودلَّ قولُهُ: {طَائِعِينَ} على أنَّ لها إرادةً وأنَّها تُطِيعُ، فكُلُّ شيءٍ أمامَ اللهِ فهوَ مُدْرِكٌ مُرِيدٌ ويُجِيبُ ويَمْتَثِلُ.


قولُهُ: ((قَالَ: اكْتُبْ، قَالَ: رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟)) (مَاذا): اسمُ استفهامٍ، مفعولٌ مُتَقَدِّمٌ، و(أَكْتُبُ) فعلٌ مضارعٌ مرفوعٌ بالضَّمَّةِ الظَّاهرةِ، هذا إذا أُلْغِيَتْ (ذَا).


أمَّا إذا لَمْ تُلغَ (ذا)، فنقولُ: (ما) اسمُ استفهامٍ مبتدأٌ، و(ذا) خبرُهُ؛ أيْ: ما الَّذي أَكْتُبُ.


والعائدُ على الموصولِ محذوفٌ، تقديرُهُ: (ما الَّذي أَكْتبُهُ).


وفي هذا دليلٌ على أنَّ الأمرَ المُجْمَلَ لا حَرَجَ على المأمورِ في طلبِ اسْتِبَانَتِهِ.


وعلى هذا؛ فإنَّنا نقولُ: إذا كانَ الأمرُ مُجْمَلاً فإنَّ طلبَ اسْتِبَانَتِهِ لا يكونُ معصيَةً، فالقلمُ لا شكَّ أنَّهُ مُمْتَثِلٌ لأمرِ اللهِ سُبْحَانَهُ وتعالى، ومعَ ذلكَ قالَ: ((رَبِّ، وَمَاذَا أَكْتُبُ؟ قالَ: اكْتُبْ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)) فكتَبَ المقاديرَ.


فإنْ قيلَ: وهل القلمُ يَعْلَمُ الغيبَ؟

الجوابُ: لا، لكنَّ اللهَ أمرَهُ، ولا بُدَّ أنْ يمتثلَ لأمرِ اللهِ. فَكَتَبَ هذا القلمُ الَّذي يُعتبرُ جمادًا بالنِّسبةِ لمفهومِنَا، كَتَبَ كلَّ شيءٍ أمرَهُ اللهُ أنْ يكْتُبَهُ؛ لأنَّ اللهَ إذا أرادَ شيئًا قالَ لهُ: كُنْ، فيكونُ على حَسَبِ مُرَادِ اللهِ.


و(كُلِّ) منْ صيغِ العُمُومِ فتعمُّ كلَّ شيءٍ ممَّا يتعلَّقُ بفعلِ اللهِ أوْ بفعلِ المخلوقينَ.


وقولُهُ: ((حَتَّى تَقُومَ السَّاعَةُ)) السَّاعةُ هيَ القيامةُ، وأُطْلِقَ عليها لفظُ السَّاعةِ؛ لأنَّ كلَّ شيءٍ عظيمٍ من الدَّواهي لهُ سَاعَةٌ، يعني السَّاعةَ المعهودةَ الَّتي تُذْهِلُ النَّاسَ وَتُحِيقُ بهم وتَغْشَاهم حينَ تَقومُ السَّاعةُ، وذلكَ عندَ النَّفخِ في الصُّورِ.


قولُهُ: (يَا بُنَيَّ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ يقولُ: ((مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا)) ).


المشارُ إليهِ قولُهُ: ((إِنَّ اللهَ كَتَبَ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ...)).


قولُهُ: ((فَلَيْسَ مِنِّي)) تبرَّأَ منهُ الرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ؛ لأنَّهُ كَافِرٌ، والرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ بَرِيءٌ منْ كلِّ كافرٍ.

(5) قولُهُ: ((وفي روايَةٍ لأحمَدَ: ((إِنَّ أَوَّلَ مَا خَلَقَ اللهُ تَعَالَى الْقَلَمُ، فَقَالَ لَهُ: اكْتُبْ...)) )).


هذهِ الروايَةُ تُفِيدُ أمْرًا زائدًا على ما سبقَ وهوَ قولُهُ:


((فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةِ)) فَإِنَّهُ صريحٌ في أنَّ القلمَ امْتَثَلَ.


والحديثُ الأوَّلُ ليسَ فيهِ أنَّهُ كتَبَ إلاَّ عنْ طريقِ اللُّزومِ بأنَّهُ سيكتُبُ امتثالاً لأمْرِ اللهِ تعالى.


فيُستفادُ منهُ ما سبقَ منْ كتابةِ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى كلَّ شيءٍ إلى قيامِ السَّاعةِ.


وهذا مذكورٌ في القرآنِ الكريمِ في قولِهِ تعالى: {أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}.


وقالَ تعالى: {مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا} أيْ: مِنْ قَبْلِ أنْ نَبْرَأَ الخليقةَ، {إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}.


قولُهُ: ((إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) هوَ يومُ البعثِ، وسُمِّيَ يومَ القيامةِ؛ لقيامِ أُمُورٍ ثلاثةٍ فيهِ:


الأوَّلُ: قيامُ النَّاسِ منْ قبورِهِم لربِّ العالمينَ، كما قالَ تعالى: {لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ}.

الثَّاني: قيامُ الأشهادِ الَّذين يَشْهَدونَ للرُّسُلِ وعلى الأُمَمِ؛ لقولِهِ تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الأَشْهَادُ}.


الثَّالثُ: قيامُ العدلِ؛ لقولِهِ تعالى: {وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ}.


قولُهُ: ((وفي رِوَايَةٍ لابنِ وَهْبٍ)) ظاهِرُهُ أنَّ هذا في حديثِ عُبَادَةَ، وابنُ وهْبٍ هو: عبد الله بن وهب المصري، أحدُ حُفَّاظِ الحديثِ.


(6) قولُهُ: ((فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ أَحْرَقَهُ اللهُ بِالنَّارِ)) في هذا دليلٌ على أنَّ الإيمانَ بالقدرِ واجبٌ ولا يتمُّ الإيمانُ إلاَّ بهِ، وأمَّا مَنْ لمْ يُؤْمِنْ بهِ فإنَّهُ يُحْرَقُ بالنَّارِ.


وقولُهُ: ((أَحْرَقَهُ اللهُ بِالنَّارِ)) بعدَ قولِهِ: ((فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ)) يَدُلُّ على أنَّ مَنْ أنْكَرَ أوْ شَكَّ فإنَّهُ يُحْرَقُ بالنَّارِ؛ لأنَّ لدَيْنَا ثلاثةَ مَقَامَاتٍ:


الأوَّلُ: الإيمانُ والجزمُ بالقدرِ بمراتبِهِ الأربعةِ.

الثَّاني: إنكارُ ذلكَ.


وهذانِ واضحانِ؛ لأنَّ الأوَّلَ إيمانٌ، والثَّانيَ كفرٌ.


الثَّالثُ: الشَّكُّ والتَّردُّدُ،فهذا يُلْحَقُ بالكفرِ؛ ولهذا قالَ: ((فَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ)) ودَخَلَ في هذا النَّفيِ مَنْ أَنْكَرَ ومَنْ شَكَّ.

وفي قولِهِ: ((أَحْرَقَهُ اللهُ بِالنَّارِ)) دليلٌ على أنَّ عذابَ النَّارِ مُحْرِقٌ، وأنَّ أهلَهَا ليسَ كمَا زعَمَ بعضُ أهلِ البِدَعِ يَتكَيَّفُونَ لها حتَّى لا يُحِسُّونَ لها بأَلَمٍ، بلْ هُمْ يُحِسُّونَ بألمٍ وتُحْرِقُ أجسامَهُم.


وقدْ ثبتَ في حديثِ الشَّفاعةِ أنَّ اللهَ يُخْرِجُ من النَّارِ مَنْ كانَ من المؤمنينَ حتَّى صَارُوا حُمَمًا؛ يعني فَحْمًا أَسْوَدَ.


وقدْ دلَّ عليهِ القرآنُ في قولِهِ تعالى: {وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ} وفي قولِهِ تعالى: {كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ}.


قولُهُ: ((فِي نَفْسِي شَيْءٌ مِن القَدَرِ)) لمْ يُفْصِحْ عنْ هذا الشَّيءِ، لكنْ لعلَّهُ لمَّا حَدَثَتْ بدْعَةُ القدرِ، وهيَ أوَّلُ البِدَعِ حدوثًا، صارَ النَّاسُ يَتَشَكَّكونَ فيها ويَتَكَلَّمونَ فيها، وإلاَّ فإنَّ النَّاسَ قبلَ حدوثِ هذهِ البدعةِ كانوا على الحقِّ، ولا سيَّما أنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ خرَجَ على أصحابِهِ ذاتَ يَوْمٍ وهُمْ يتكلَّمونَ في القدَرِ، فغَضِبَ النَّبيُّ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامْ منْ ذلكَ وأَمَرَهُم بأنْ لا يتَنَازَعُوا وأنْ لا يختلِفُوا.


فكفَّ النَّاسُ عنْ هذا حتَّى قَامَتْ بدعةُ القدريَّةِ وحصَلَ ما حَصَلَ من الشُّبَهِ؛ فلهذا يقولُ ابنُ الدَّيْلَمِيِّ: (في نَفْسِي شَيْءٌ مِن القَدَرِ...).


قولُهُ: ((فَحَدِّثْنِي بِشَيءٍ لَعَلَّ اللهَ أنْ يُذْهِبَهُ مِنْ قَلْبِي)) أيْ: يُذْهِبَ هذا الشَّيءَ.


وهكذا يجبُ على الإنسانِ إذا أُصيبَ بمرضٍ أنْ يَذْهَبَ إلى أَطِبَّاءِ ذلكَ المرضِ، وأَطِبَّاءُ مرضِ القلوبِ هم العلماءُ، ولا سيَّما مثلَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عَنْهم؛ كَأُبَيِّ بنِ كعبٍ؛ فَلِكُلِّ داءٍ طَبِيبٌ.


قولُهُ: ((لَوْ أَنْفَقْتَ مِثْلَ أُحُدٍ ذَهَبًا مَا قَبِلَهُ اللهُ مِنْكَ حَتَّى تُؤْمِنَ بِالقَدَرِ)) هذا يدلُّ على أنَّ مَنْ لمْ يُؤْمِنْ بالقدرِ فهوَ كافرٌ؛ لأنَّ الَّذي لا تُقْبَلُ منهُ النَّفقاتُ هم الكفَّارُ، وسَبَقَ نحْوُهُ عن ابنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عنهما.


قولُهُ: ((حتَّى تُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ وَتَعلَمَ أنَّ ما أَصَابَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُخطِئَكَ، وَمَا أَخْطأَكَ لَمْ يَكُنْ لِيُصيبَكَ)) وقدْ سبقَ الكلامُ على هذهِ الجُمْلَةِ.


قولُهُ: ((وَلوْ مُتَّ عَلَى غَيْرِ هَذا لَكُنْتَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ)) (مُتَّ) بالضمِّ؛ لأنَّها مِنْ ماتَ يَمُوتُ.


وفيهِ لُغَةٌ أُخْرَى بالكسرِ (مِتَّ) كما في قولِهِ تعالى: {وَلَئِنْ مِتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ} في إِحْدَى القراءتَيْنِ.


وهيَ على هذهِ القِراءةِ مِنْ (مَاتَ: يَمِيتُ) بالياءِ.


قولُهُ: ((عَلَى غَيْرِ هَذا لَكُنْتَ مِنْ أهلِ النَّارِ)) جزمَ أُبيُّ بنُ كعبٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (بأنَّهُ إذا ماتَ على غيرِ هذا كانَ منْ أهلِ النَّارِ) لأنَّ مَنْ أنْكَرَ القدرَ فهوَ كافرٌ، والكافرُ يكونُ منْ أهلِ النَّارِ الَّذينَ هُمْ أهْلُها المُخَلَّدونَ فيها.


وهلْ هذا الدَّوَاءُ يُفِيدُ؟


الجوابُ: نَعَمْ يُفِيدُ، وكُلُّ مؤمنٍ باللهِ إذا عَلِمَ أنَّ مُنْتَهَى مَنْ لمْ يُؤْمِنْ بالقدرِ هوَ هذا، فلا بُدَّ أنْ يَرْتَدِعَ، ولا بُدَّ أنْ يُؤْمِنَ بالقدرِ على ما جاءَ في كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ.

وقولُهُ: ((فَأَتَيْتُ عَبْدَ اللهِ بنَ مَسْعُودٍ وحُذَيفةَ بنَ الْيَمَانِ وزيدَ بنَ ثابتٍ، فكُلُّهُم حَدَّثَنِي بمِثْلِ ذلِكَ)) المُشَارُ إليهِ الإيمانُ بالقدرِ، وأنْ يَعْلَمَ الإنسانُ أنَّ ما أصابَهُ لمْ يكُنْ ليُخْطِئَهُ، وما أخْطَأهُ لمْ يَكُنْ ليُصِيبَهُ.


وكلُّ هؤلاءِ العلماءِ الأَجِلاَّءِ كُلُّهم منْ أهلِ القرآنِ، فَأُبَيُّ بنُ كَعْبٍ منْ أهلِ القرآنِ ومِنْ كَتَبةِ القرآنِ، حتَّى إنَّ الرَّسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ دَعَاهُ ذاتَ يَوْمٍ وقرَأَ عليهِ سورةَ {لَمْ يَكُنْ...} البيِّنةِ.


وقالَ: ((إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أَقْرَأَهَا عَلَيْكَ))فقالَ: يا رَسُولَ اللهِ، سَمَّانِي اللهُ لَكَ؟ قالَ: ((نَعَمْ)).


فَبَكَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ بُكَاءَ فَرَحٍ أنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ سَمَّاهُ باسمِهِ لِنَبِيِّهِ، وأَمَرَ نَبِيَّهُ أنْ يَقْرَأَ عليهِ هذِهِ السُّورةَ.


وأمَّا عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، فقدْ قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يَقْرَأَ الْقُرْآنَ غَضًّا كَمَا أُنْزِلَ فَلْيَقْرَأْهُ عَلَى قِرَاءةِ ابْنِ أُمِّ عَبْدٍ)).


وأمَّا زيدُ بنُ ثابتٍ، فهوَ أحدُ كُتَّابِ القرآنِ في عهدِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.


وحُذَيْفَةُ بنُ الْيَمَانِ، صاحِبُ السِّرِّ الَّذي أَسَرَّ إليهِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ بأسماءِ المنافقينَ.


والحاصلُ أنَّ هذا البابَ يَدُلُّ على وجوبِ الإيمانِ بالقضاءِ والقدرِ بمَرَاتبِهِ الأربعِ.


مَسْأَلَةٌ: الإيمانُ بالقدرِ هَلْ هوَ مُتَعَلِّقٌ بتوحيدِ الرُّبوبيَّةِ، أوْ بالألوهيَّةِ، أوْ بالأسماءِ والصِّفاتِ؟


الجوابُ: تَعلُّقُهُ بالرُّبوبيَّةِ أكثرُ منْ تَعَلُّقِهِ بالألوهيَّةِ والأسماءِ والصِّفاتِ، ثمَّ تَعَلُّقُهُ بالأسماءِ والصِّفاتِ أكثرُ منْ تَعَلُّقِهِ بالألوهيَّةِ، وتَعَلُّقُهُ بالألوهيَّةِ أيضًا ظاهرٌ؛ لأنَّ الألوهيَّةَ بالنِّسبةِ للهِ يُسَمَّى توحيدَ الألوهيَّةِ، وبالنِّسبةِ للعبدِ يُسمَّى توحيدَ العبادةِ، والعبادةُ فعلُ العبدِ، فلها تعلُّقٌ بالقدَرِ، فالإيمانُ بالقدرِ لهُ مَسَاسٌ بأقسامِ التَّوحيدِ الثَّلاثةِ.

(7) فيهِ مسائلُ:


الأولى: (بيانُ فَرْضِ الإيمانِ بالقَدَرِ) دليلُهُ قولُهُ: ((الإِيمَانُ أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَالْيَوْمِ الآخِرِ، وَتُؤْمِنَ بِالْقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).


(8) الثانيَةُ: (بيانُ كيفيَّةِ الإيمانِ) أيْ: بالقدرِ، وهوَ أنْ تُؤْمنَ بأنَّ ما أصَابَكَ لمْ يكُنْ ليُخْطِئَكَ، وما أخْطَأَكَ لم يَكُنْ لِيُصِيبَكَ.


(9) الثالثةُ: (إحباطُ عَمَلِ مَنْ لَمْ يُؤمِنْ بهِ) تُؤْخَذُ منْ قولِ ابنِ عُمَرَ:(لَوْ كَانَ لأَحَدِهِم مِثْلُ أُحُدٍ ذَهَبًا، ثُمَّ أنْفَقَهُ في سَبيلِ اللهِ، ما قَبِلَهُ اللهُ مِنْهُ حتَّى يُؤْمِنَ بالقَدَر).


ويَتَفَرَّعُ منهُ ما ذَكَرْناهُ سابقًا بأنَّهُ يدُلُّ على أنَّ مَنْ لمْ يُؤْمِنْ بالقدرِ فهوَ كافرٌ؛ لأنَّ الكافرَ هوَ الَّذي لا يُقْبَلُ منهُ العملُ.


(10) الرابِعةُ: (الإخبارُ أنَّ أحدًا لا يجِدُ طعْمَ الإيمانِ حتَّى يُؤمِنَ بهِ) أيْ: بالقدرِ، وهوَ كذلكَ لقولِ عُبادةَ بنِ الصامِتِ لابْنِهِ: (يَا بُنَيَّ، إنَّكَ لنْ تَجِدَ طَعْمَ الإيمانِ...) إلخ.

وقدْ سبَقَ أنَّ الإيمانَ بالقدرِ يُوجِبُ طُمَأْنِينَةَ الإنسانِ بما قَضَاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ ويستريحُ؛ لأنَّهُ عَلِمَ أنَّ هذا أمْرٌ لا بُدَّ أنْ يقعَ على حسَبِ المقدورِ، لا يَتَخَلَّفُ أبدًا ((وَلاَ تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَذَا لَكَانَ كَذَا، لأَنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ)) ولا تَرْفَعُ شيئًا وَقَعَ مهما قُلْتَ.


(11) الخامِسَةُ: (ذِكْرُ أوَّلِ ما خَلَقَ اللهُ) ظاهرُ كلامِ المُؤَلِّفِ المَيْلُ إلى أنَّ القلمَ أوَّلُ مخلوقاتِ اللهِ، ولكنَّ الصَّحيحَ خِلافُهُ، وأنَّ القلمَ ليسَ أوَّلَ مخلوقاتِ اللهِ؛ لأنَّهُ ثَبَتَ في (صحيحِ البُخَارِيِّ): ((كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ قَبْلَهُ، وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ، ثُمَّ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ، وَكَتَبَ فِي الذِّكْرِ مَقَادِيرَ كُلِّ شَيْءٍ)).

وهذا واضحٌ في التَّرتيبِ، وَلِهَذَا كانَ الصَّوابُ بلا شَكٍّ أنَّ القلمَ خُلِقَ بعدَ العرشِ.


وَسَبَقَ لنَا تخريجُ الرِّوَايتَيْنِ، وأنَّهُ على الرِّوَايَةِ الَّتي ظاهرُها أنَّ القلمَ أوَّلُ ما خُلِقَ تُحْمَلُ على أنَّهُ أَوَّلُ ما خُلِقَ بالنِّسبةِ لِمَا يَتَعَلَّقُ بهذا العالمِ المُشاهَدِ، فهوَ قبلَ خلقِ السَّماواتِ والأرضِ، فتكونُ أَوَّلِيَّتُهُ نِسْبِيَّةً.


(12) السَّادِسَةُ: (أنَّهُ جَرَى بالْمَقادِيرِ في تِلْكَ السَّاعةِ إلى قِيامِ السَّاعةِ) لقولِهِ: ((فَجَرَى فِي تِلْكَ السَّاعَةَ بِمَا هُوَ كَائِنٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).

وفيهِ أيضًا من الفوائدِ:


تَوْجِيهُ خِطَابِ اللهِ إلى الجَمَادِ، وأنَّهُ يَعْقِلُ أمْرَ اللهِ؛ لأنَّ اللهَ وَجَّهَ الخطابَ إلى القلمِ ففهِمَ واستجابَ، لَكِنَّهُ سألَ في الأوَّلِ وقالَ: ((مَاذَا أَكْتُبُ؟)).

(13) السَّابِعةُ: (بَراءتُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مِمَّنْ لَمْ يُؤْمِنْ به) لقولِهِ: ((مَنْ مَاتَ عَلَى غَيْرِ هَذَا فَلَيْسَ مِنِّي)) وهذهِ البراءةُ مُطْلَقةٌ؛ لأنَّ مَنْ لمْ يُؤْمِنْ بالقدرِ فهوَ كافرٌ كُفْرًا مُخْرِجًا عن المِلَّةِ.

(14) الثَّامِنةُ: (عادةُ السَّلَفِ في إِزالةِ الشُّبْهةِ بسؤالِ العلماءِ) لأنَّ ابنَ الدَّيْلَمِيِّ يقولُ: (فأَتَيْتُ عبدَ اللهِ بنَ مسعودٍ وحُذَيْفَةَ بنَ اليمانِ وزيدَ بنَ ثابتٍ، بعدَ أنْ أتَى أُبَيَّ بنَ كعبٍ، فَدَلَّ هذا على أنَّ منْ عادةِ السَّلفِ السُّؤَالَ عمَّا يَشْتَبِهُ عليهم).
وفيهِ أيضًا مسألةٌ ثانيَةٌ، وهيَ جَوازُ سؤالِ أكثرَ مِنْ عالمٍ للتثبُّتِ؛ لأنَّ ابنَ الدَّيْلَمِيِّ سأَلَ عدَّةَ علماءَ.
أمَّا سؤالُ أكثرَ منْ عالمٍ لِتَتَبُّعِ الرُّخَصِ فهذا لا يجوزُ، كما نصَّ على ذلكَ أهلُ العلمِ.

وهذا مِنْ شَأْنِ اليهودِ؛ فاليهودُ لَمَّا كانَ في التَّوراةِ أنَّ الزَّانِيَ يُرْجَمُ إذا كانَ مُحْصَنًا، وكثُرَ الزِّنَا في أشرافِهِم، غيَّرُوا هذا الحدَّ.
ولمَّا قَدِمَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ المدينةَ، وَزَنَا منهم رَجُلٌ بامرأةٍ قالُوا: اذْهَبُوا إلى هذا الرَّجُلِ لعلَّكمْ تَجِدونَ عنْدَهُ شيئًا آخَرَ؛ لأجلِ أنْ يَتَتَبَّعُوا الرُّخَصَ.
(15) التَّاسِعةُ: (أنَّ العلماءَ أجابُوهُ بما يُزِيلُ شُبْهَتَهُ؛ وذلِكَ أنَّهُم نَسَبُوا الكلامَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فقط) لقولِ ابن الديلميِّ: (كُلُّهُمْ حَدَّثَنِي بِمِثلِ ذلِكَ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّمَ) وهذا مُزِيلٌ للشُّبْهَةِ، فإذا نُسِبَ الأمرُ إلى اللهِ ورسولِهِ زالت الشُّبهةُ تمامًا، لكنْ تزولُ عن المُؤْمِنِ، أمَّا غيرُ المؤمنِ فلا تنفعُهُ؛ فاللهُ عزَّ وجلَّ يقولُ: {وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ} وقالَ: {إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الأَلِيمَ}لكنَّ المؤمنَ هوَ الَّذي تَزُولُ شُبْهَتُهُ بما جاءَ عن اللهِ ورسولِهِ، كما قالَ تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ}ولهذا لَمَّا قَالَتْ عائشةُ للمرأةِ: (كَانَ يُصِيبُنا -تَعْنِي: الْحَيْضَ- فَنُؤْمَرُ بِقَضاءِ الصَّوْمِ، ولا نُؤْمَرُ بِقضاءِ الصَّلاة) لمْ تَذْهَبْ تُعَلِّلُ، ولكنْ لا حَرَجَ على الإنسانِ أنْ يذْكُرَ الحُكْمَ بعِلَّتِهِ لِمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ لَعَلَّهُ يُؤْمِنُ، ولهذا يَذْكُرُ اللهُ عزَّ وجلَّ إحياءَ المَوْتَى ويذكرُ الأدلَّةَ العقليَّةَ والحِسِّيَّةَ على ذلكَ، فقالَ في أدلَّةِ العقلِ: {وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ} فهذهِ دلالةٌ عقليَّةٌ.

فالعقلُ يُؤْمِنُ إيمانًا كاملاً بأنَّ مَنْ قَدَرَ على الابتداءِ؛ فهوَ قادرٌ على الإعادةِ منْ بابِ أَوْلَى، وذكرَ أدلَّةً حِسِّيَّةً؛ منها قولُهُ تعالى: {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِي الْمَوْتَى}.

فإذًا لا مانعَ أنْ تَأْتِيَ بِالأَدِلَّةِ العقليَّةِ أو الحِسِّيَّةِ منْ أجلِ أنْ تُقْنِعَ الْخَصْمَ وَتُطَمْئِنَ الْمُوَافِقَ.
وفيهِ دليلٌ رابعٌ: وهوَ: دليلُ الفطرةِ، فلا مَانِعَ أيضًا أنْ نأتيَ بهِ للاستدلالِ على ما نقولُ من الحقِّ لِنُلْزِمَ الخصمَ بهِ، ونُطَمْئِنَ الموافقَ، وما زالَ العلماءُ يَسْلُكونَ هذا المَسْلَكَ.

فإذًا؛ الأدلَّةُ سَمْعِيَّةٌ، وعقليَّةٌ، وفِطْرَيَّةٌ، وحِسِّيَّةٌ.

وأشدُّها إقناعًا للمؤمنِ هوَ الدَّليلُ السَّمْعِيُّ؛ لأنَّهُ يَقِفُ عندَهُ، ويَعْلَمُ أنَّ كُلَّ ما خالَفَ دلالةَ السَّمعِ فهوَ باطِلٌ، وإنْ ظَنَّهُ صاحبُهُ حقًّا.

هيئة الإشراف

#6

2 Nov 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب ما جاء في مُنْكِر القَدَر

ومناسبة هذا الباب للذي قبله:

ما ذكرنا أن إنكار القدر سوء ظن بالله جل وعلا، ويكون هذا الباب كالتفصيل لما اشتمل عليه الباب الذي قبله.

ومناسبته لكتاب التوحيد ظاهرة:
وهي أنَّ: الإيمان بالقدر واجب، ولا يتم توحيد العبد حتى يؤمن بالقدر، وإنكار القدر كفرٌ بالله جل وعلا ينافي أصل التوحيد، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما: (القَدَر نظام التوحيد، فمن كذّب بالقدر نقض تكذيبُه توحيَده) يعني: الإيمان بالقدر هو النظام، يعني: السلك الذي تجتمع فيه مسائل التوحيد حتى يقوم عقدُها في القلب، فإذا كذّب بالقدر فمعنى ذلك انقطع السلك؛ فنقض ذلك التكذيب أمور التوحيد، وهذا ظاهر، فإن أصل الإيمان أنْ يؤمن بالأركان الستة التي منها: الإيمان بالقدر، كما ذكر ذلك الشيخ في حديث ابن عمر.
(قال باب ما جاء في منكري القدر)
القدر في اللغة: هو التقدير، كما هو معروف، وهو وضع الشيء على نحوٍ مَا بما يريده واضعه، قدَّر الشيء تقديراً وقَدَراً.
وفي العقيدة عرّفه بعض أهل العلم بقوله: (إنّ القدر هو علم الله السابق بالأشياء وكتابته لها في اللوح المحفوظ وعمومُ مشيئته جلَّ وعلا، وخلقه للأعيان والصفات القائمة بها).
وهذا التعريف صحيح؛ لأنه يشمل مراتب القدر الأربعة، فالقدر الإيمان به إيمان بأربع مراتب، وهذه المراتب على درجتين: الأولى والثانية من المراتب تسبق وقوع المقدَّر.
هي: - الإيمان بالعلم السابق.
- والإيمان بكتابة الله جل وعلا لعموم الأشياء، كما قال: ((إن الله قدّر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) قدّر مقادير الخلق يعني: كتبها.
هاتان المرتبتان أو هذان الأمران - الإيمان بالعلم السابق، والإيمان بالكتابة، - تسبق وقوع المقدر، فأنت تؤمن بها، وهي سابقة للوقوع، وأما ما يقارن وقوع المقدر، ما يقارن القضاء، فهذا له مرتبتان:
الأول: أو الأولى منهما، هي مرتبة عموم المشيئة ؛ فإن الله جل وعلا ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن، والعبد لا يشاء شيئاً فيحصل إلا إذا كان الله جل وعلا قد شاءه، {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله، إن الله كان عليماً حكيماً}.
وقال: {وما تشاؤون إلا أن يشاء الله رب العالمين} فمشيئة العبد تابعة لمشيئة الله جل وعلا.
وكذلك المرتبة الأخيرة: التي تقارن وقوع المقدر: الإيمان بأن الله جل وعلا خالقٌ لكل شيء، للأعيان وللصفات التي تقوم بالأعيان، فالأعيان مثل الذوات هذه الله جل وعلا خالقها، هذا باتفاق أهل الإسلام، يعني الله جل وعلا هو:
- الخالق للإنسان.
- الخالق للحيوان الخالق للسماء، للأرض.
وكذلك الإيمان بأن الصفات التي تقوم بتلك الأعيان الله جل وعلا، هو الخالق لها، ومِنْ ذلك أفعال العباد، فأفعال العباد معاني، ففعل العبد داخل في عموم خلقه جل وعلا، {الله خالق كل شيء} وكلمة (شيء) عندنا تُعرّف: بأنها ما يصحُّ أنْ يُعلَم، فكل ما يصح أن يعلم يقال له شيء، فلهذا نقول يدخل في عموم قوله: {الله خالق كل شيء} العباد وأفعال العباد، فهذه أربع مراتب.
إنكار القدر الذي بوب عليه الشيخ رحمه الله، يصدق على إنكار أي مرتبة من هذه؟
أنكر المرتبة الأولى فهو منكر، أو الثانية فهو منكر، أو الثالثة، أو الرابعة؛ فهو منكر للقدر، ولا يقال عن أحدٍ إنه مؤمن بالقدر إلا إذا سلم بها جميعاً، وآمن بها جميعاً؛ لدلالة النصوص على ذلك.

فمنهم، من منكري القدر، القدرية الغلاة، وإذا قيل القدرية: يعني نُفاة القدر الذين نفوا العلم، أنكروا العلم السابق، فهم كفار ينافي فعلهم أصل التوحيد، فمن أنكر العلم السابق، هذا أنكر القدر إنكاراً انتفى معه أصل التوحيد.
وكذلك: من ينكر الكتابة، فإن إنكار الكتابة السابقة مع العلم بالنصوص الدالة عليها منافٍ لأصل التوحيد، ولا يستقيم معه الإيمان، وأما المرتبتان الأخيرتان:

- عموم المشيئة.
- وعموم الخلق.
فهذه إنكار عموم خلق الله للأفعال، هذا مما جرى من المعتزلة ونحوهم، وبُدّعوا بذلك وضللوا، وجُعل إنكارهم لتلك المرتبة ينافي كمال التوحيد، ولا يحكم عليهم بالكفر والخروج من الإسلام بذلك، فإذاً إنكار القدر صار منه:
- ما هو كفر مخرج من التوحيد.
- مخرج من الملة، ومنه ما هو دون ذلك، ويكون منافياً لكمال التوحيد، بهذا يظهر صلة هذا الباب بكتاب التوحيد.
قال: وقال ابن عمر: (والذي نفس ابن عمر بيده، لو كان لأحدهم مثل أُحد ذهباً ثم أنفقه في سبيل الله ما قبله الله منه حتى يؤمن بالقدر) لم؟
لأن الله جل وعلا لا يقبل إلا من مسلم، الإسلام شرط في صحة قبول الأعمال، ومن أنكر القدر ولم يؤمن بالقدر؛ فإنه لا يقبل منه، ولو أنفق مثل أحدٍ ذهباً، ثم استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الإيمان أنْ تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره)).
هنا في قوله: (تؤمن بالقدر خيره وشره) القدر منه ما هو خير، ومنه ما هو شر، خير بالنسبة لابن آدم، وشرٌّ بالنسبة لابن آدم، فالمكلف:

- قد يكون عليه قدر هو بالإضافة إليه خير.

- وقد يكون عليه القدر بالإضافة إليه شر.
وأما بالنسبة لفعل الله جل وعلا، فالله جل وعلا أفعاله كلها خير لأنها موافقة لحكمته العظيمة، فلهذا جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في ثنائه على ربه:
((والشرّ ليس إليك)).
فالله جل وعلا ليس في فعله شر، فالشر بما يضاف للعبد، أصيب العبد بمصيبة فهي شر بالنسبة إليه، أما بالنسبة لفعل الله فهي خير؛ لأنها موافقة لحكمة الله جل وعلا البالغة، والله سبحانه وتعالى له الأمر كله.
قال (وعن عبادة بن الصامت أنه قال لابنه: (يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان حتى تعلم أنَّ ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)) وهذا لأن القضاء والقدر قد فُرغ منه، يعني: تقدير الأمور قد فُرغ منه، والله جل وعلا قد قدّر الأشياء، وقدّر أسبابها، فالسبب الذي سيفعله المختار من عباد الله مقدّر، كما أن نتيجته مقدرة.
ومن الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله جل وعلا جعلك مختاراً، وأنك لست مجبوراً، فالقول بالجبر منافٍ للقول بالقدر، يعني: القول بالجبر لا يستقيم مع الإيمان بالقدر؛ لأن الإيمان بالقدر إيمان معه الإيمان بأن العبد مختار، وليس بمجبر؛ لأن التكليف وقع بذلك.
والجبرية طائفتان:
- طائفة غلاة، وهم الجهمية وغلاة الصوفية الذين يقولون: (إنَّ العبد كالريشة في مهب الريح وحركاته حركات اضطرارية).
- ومنهم طائفة ليست بالغلاة وهم الأشاعرة ونحوهم الذي يقولون: (بالجبر في الباطن وبالاختيار في الظاهر) ويقولون: (إنَّ العبد له كسب، وهذا الكسب هو أنْ يكون العبد في الفعل الذي فعله محلاًّ لفعل الله جل وعلا فيفعل به، فيكون هو محلاًّ للفعل ويضاف الفعل إليه على جهة الكسب) على ما هو معروفٌ في موضعه من التفاصيل في كتب العقيدة المطولة.
قال في ذلك، ذَكَر مرتبة الكتابة، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إنَّ أول ما خلق الله القلم فقال له: اكتب، فقال: ربي وماذا أكتب؟
قال: اكتب مقادير كل شيءٍ حتى تقوم الساعة)) هذا فيه دليل على مرتبة الكتابة.

وقوله: ((إن أول ما خلق الله القلم)) معناه على الصحيح عند المحققين: أنه حين خلق الله القلم، فـ (أول) هنا ظرف بمعنى (حين) وإن اسمها ضمير الشأن محذوف، إنه أول ما خلق الله القلم (فقال له: اكتب) يعني: حين خلق الله القلم قال له: اكتب.
فيكون قول: (اكتب) هذا من جهة الظرفية، يعني: حين خلق الله القلم قال له: اكتب.


وأما أول المخلوقات:
فالعرش سابق في الخلق على القلم، كما قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي في (الصحيح): ((قدّر الله مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)).
فهمنا من قوله: ((إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب)) أنه حين خلقه قال له: اكتب، والعرش كان قبل ذلك، فإذاً الكتابة كانت بعد الخلق مباشرة، بعد خلق القلم.
وأما العرش فكان سابقاً، والماء كان سابقاً أيضاً، ولهذا نقول: (الصحيح أنَّ العرش مخلوق قبل القلم) كما قال ابن القيم رحمه الله في (النونية):

والـناس مختلـفون في القلم الذي = كـُتـب الـقـضـاءبـه مـن الـديان

هل كان قبل العرش أو هو بعده = قولان عند أبي العلى الهمذاني

والـحــق أن الــــعـرش قـبـل لأنه = عـنـد الـكـتـابـة كـان ذا أركـان

إلى آخر ما في هذا الباب من مباحث في الإيمان بالقدر.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

2 Nov 2008

العناصر

شرح ترجمة الباب (باب ما جاء في منكري القدر)
مناسبة باب (ما جاء في منكري القدر) لما قبله من الأبواب ومناسبته لكتاب التوحيد
- تعريف القدر لغة وشرعا
- بيان مراتب الإيمان بالقضاء والقدر
- بيان أن من التقدير ما هو مصاحب للفعل، ومنه ما هو سابق له
- ذكر أحاديث في أن القدرية مجوس هذه الأمة
- بيان أقسام منكري القدر وأحكامهم
- بيان مذهب (القدرية) في القدر
- بيان بطلان مذهب (القدرية)
- بيان مذهب (الجبرية) في القدر
- بيان بطلان مذهب (الجبرية)
- بيان أن مذهب المعتزلة في القدر يناقض مذهبهم في الوعيد
- الجزم بكفر منكر القدر
- بيان مذهب أهل السنة في القدر
- القدر من أسرار الله تعالى
- مناظرة في القدر بين الإمام أبي إسحاق الإسفراييني والقاضي عبد الجبار
شرح حديث ابن عمر: (الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته ...)
- تخريج قول ابن عمر، وذكره بتمامه
- معنى قول ابن عمر: (لو كان لأحدهم مثل أحد ذهباً...) إلخ
- الفرق بين الإسلام والإيمان
- بيان تعلق الإيمان بأنواع التوحيد الثلاثة
- السبب في تسمية يوم القيامة بهذا الاسم
- وجوب الإيمان بالقدر، وأنه من أركان الإيمان، ووعيد من كذب به
- من الإيمان بالقدر: الإيمان بأن الله تعالى لم يجبر العباد على خلاف ما يريدون
- معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (خيره وشره)
- الجمع بين قوله صلى الله عليه وسلم: (والشر ليس إليك)، وقوله: (خيره وشره)
- بيان ما يتضمنه الإيمان بالقدر
- وجه استدلال ابن عمر بحديث (الإيمان أن تؤمن بالله...) الحديث
- معنى قول الإمام أحمد: (القدر قدرة الرحمن)
شرح حديث عبادة بن الصامت: (إن أول ما خلق الله القلم ...)
- تخريج الحديث، وذكر رواية ابن ماجه الطويلة له
- معنى قول عبادة بن الصامت: (يا بني إنك لن تجد طعم الإيمان...)
- بيان أن للإيمان طعماً
- معنى قوله: (حتى تعلم أن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك)
- الروايات في قوله: (إن أول ما خلق الله القلم...)، وبيان أثر الاختلاف في الروايات على المعنى
- ذكر الخلاف في العرش والقلم أيهما خلق أولاً
- معنى قوله: (اكتب مقادير كل شيء حتى تقوم الساعة)
- المراد بقوله: (فقال له : اكتب)
- بيان معنى قوله: (قال: رب، وماذا أكتب؟)، وأنه لا حرج في الاستفصال عن المجمل
- المراد بقوله: (حتى تقوم الساعة)
- معنى قوله: (من مات على غير هذا لم يكن مني)
- ما يستفاد من قوله (فجرى في تلك الساعة)
- هل القلم يعلم الغيب؟
- ما يستفاد من حديث عبادة
- ترجمة عبد الله بن وهب
- معنى قوله: (أحرقه الله بالنار)، وبيان ما يستفاد منه
شرح قصة ابن الديلمي مع الصحابة
- ذكر لفظ أبي داود لقصة الديلمي مع أبي بن كعب، وابن مسعود، وحذيفة رضي الله عنهم
- ترجمة عبد الله بن فيروز الديلمي، وأبيه
- ترجمة أبي بن كعب رضي الله عنه
- معنى قوله: (وقع في نفسي شيء من القدر)
- معنى قوله: (لو أنفقت مثل أحد ذهباُ ما قبله الله منك)
- معنى قوله: (حتى تؤمن بالقدر)
- الأوجه الجائزة في قوله: (ولو مت على غير هذا)
- ترجمة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه
- ترجمة حذيفة بن اليمان رضي الله عنه
- ترجمة زيد بن ثابت رضي الله عنه
- بيان أن أطباء القلوب هم العلماء، وعلى رأسهم الصحابة

شرح مسائل باب (ما جاء في منكري القدر)