الدروس
course cover
باب قوله تعالى: {يظنون بِالله غير الحق ظن الجاهلِية يقولون هل لنا من الأَمر من شيء}
26 Oct 2008
26 Oct 2008

5506

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم العاشر

باب قوله تعالى: {يظنون بِالله غير الحق ظن الجاهلِية يقولون هل لنا من الأَمر من شيء}
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

5506

0

0


0

0

0

0

0

باب قوله تعالى: {يظنون بِالله غير الحق ظن الجاهلِية يقولون هل لنا من الأَمر من شيء}

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَل لَّنَا مِنَ الأَمْرِ مِن شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أنفُسِهِم مَا لا يُبدونَ لكَ يَقُولونَ لَو كانَ لنَا مِنَ الأمرِ شَيءٌ مَّا قُتِلنَا هَاهُنا قُل لَّو كُنتُمْ فِي بُيوتِكُم لَبَرزَ الَّذينَ كُتِبَ عليهِمُ القَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِم ولِيَبتليَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُم ولِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُم وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} [آل عِمْرَانَ:154].
وَقَوْلِهِ: {الظَّآنِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وغَضِبَ اللهُ عَلَيهِم ولَعَنَهُم وأعدَّ لهم جَهنَّمَ وسَآءتْ مَصِيرًا}[الْفَتْحُ:6].
قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ فِي الآيَةِ الأُولَى: (فُسِّرَ هَذَا الظَّنُّ بَأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لاَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ وَأَنَّ أَمْرَهُ سَيَضْمَحِلُّ، وَفُسِّرَ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ بِقَدَرِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ، فَفُسِّرَ بِإِنْكَارِ الْحِكْمَةِ وَإِنْكَارِ الْقَدَرِ، وَإِنْكَارِ أَنْ يَتِمَّ أَمْرُ رَسُولِهِ، وَأَنْ يُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ، وَهَذَا هُوَ ظَنُّ السَّوْءِ، الَّذِي ظَنَّ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُشْرِكُونَ فِي سُورَةِ الْفَتْحِ، وَإِنَّمَا كَانَ هَذَا ظَنَّ السَّوْءِ؛ لأَِنَّهُ ظَنُّ غَيْرِ مَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ وَوَعْدِهِ الصَّادِقِ.

فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدِيلُ الْبَاطِلَ عَلَى الْحَقِّ إِدَالَةً مُسْتَقِرَّةً يَضْمَحِلُّ مَعَهَا الْحَقُّ، أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَا جَرَى بِقَضَائِهِ وَقَدَرِهِ، أَوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَدَرُهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الْحَمْدَ، بَلْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَشِيئَةٍ مُجَرَّدَةٍ، فَذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا، فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ، وَأَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ فِيمَا يَخْتَصُّ بِهِمْ، وَفِيمَا يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِمْ، وَلاَ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ وَأَسْمَاءَهُ وَصِفَاتِهِ وَمُوجِبَ حِكْمَتِهِ وَحَمْدِهِ.
فَلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النَّاصِحُ لِنَفْسِهِ بِهَذَا، وَلْيَتُبْ إِلَى اللهِ وَلْيَسْتَغْفِرْهُ مِنْ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وَلَوْ فَتَّشْتَ مَنْ فَتَّشْتَ؛ لَرَأَيْتَ عِنْدَهُ تَعَنُّتًا عَلَى الْقَدَرِ وَمَلاَمَةً لَهُ، وَأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وَكَذَا، فَمُسْتَقِلٌّ وَمُسْتَكْثِرٌ، وَفَتِّشْ نَفْسَكَ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ).

فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي = عَظِيمَةٍ وَإِلاَّ فـــَإِنِّي لاَ إخــَالــُكَ نـــــَاجِيًا

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ آلِ عِمْرَانَ.
الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الْفَتْحِ.
الثَّالِثَةُ: الإِخْبَارُ بِأَنَّ ذَلِكَ أَنْوَاعٌ لاَ تُحْصَرُ.
الرَّابِعَةُ: أَنَّهُ لاَ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَ الأَسْمَاءَ وَالصِّفَاتِ وَعَرَفَ نَفْسَهُ.

هيئة الإشراف

#2

2 Nov 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1) أرادَ المصنِّفُ بهذهِ الترجمةِ التنبيهَ علَى وجوبِ حُسْنِ الظنِّ باللهِ؛ لأَنَّ ذلكَ منْ واجباتِ التوحيدِ، ولذلكَ ذمَّ اللهُ مَنْ أساءَ الظنَّ بهِ؛ لأنَّ مَبْنَى حُسْنِ الظَنِّ علَى العِلْمِ برحمةِ اللهِ، وعِزَّتِهِ، وإحسانِهِ، وقُدرتِهِ، وعلمِهِ، وحسنِ اختيارِهِ، وقُوَّةِ المُتَوَكَّلِ عليهِ، فإذا تمَّ العلمُ بذلكَ أثمرَ لهُ حُسْنَ الظَنِّ باللهِ.

وقدْ ينشَأُ حُسْنُ الظنِّ منْ مشاهدةِ بعضِ هذهِ الصفاتِ، وبالْجُمْلَةِ فمَنْ قامَ بِقَلْبِهِ حقائقُ معانِي أسماءِ اللهِ وصفاتِهِ قامَ بهِ منْ حُسْنِ الظنِّ ما يُنَاسِبُ كلَّ اسمٍ وصفةٍ؛ لأَنَّ كلَّ صفةٍ لها عُبُوديَّةٌ خاصَّةٌ، وحُسْنُ ظنٍّ خاصٌّ، وقدْ جاءَ الحديثُ الْقُدُسِيُّ: قَالَ اللهُ تَعَالَى: ((أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ حِينَ يَذْكُرُنِي)) رواهُ البخاريُّ ومسلمٌ.

وعنْ جابرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّهُ سَمِعَ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَبْلَ مَوْتِهِ بِثَلاثَةِ أَيَّامٍ يَقُولُ: ((لاَ يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلاَّ وَهُوَ يُحْسِنُ الظَّنَّ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ)) رواهُ مسلمٌ وأبو داودَ.
وفي حديثٍ عنْدَ أبي داودَ وابنِ حِبَّانَ: ((حُسْنُ الظَّنِّ مِنْ حُسْنِ الْعِبَادَةِ)) رواهُ الترمذيُّ والحاكمُ، ولفظُهُما: ((حُسْنُ الظَّنِّ باللهِ مِنْ حُسْنِ العِبَادَةِ)).
قولُهُ: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ}[آل عمرانَ:153].
قالَ ابنُ الْقَيِّمِ: (ثُمَّ أخبرَ عن الكلامِ الذي صَدَرَ عنْ ظنِّهِم الباطلِ، وهوَ قولُهم: {هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمرانَ:153]، وقوْلُهُم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا}، فليسَ مقصودُهم بالكلمةِ الأولَى والثانيَةِ إثباتَ القَدَرِ وردَّ الأمرِ كلِّهِ للهِ، ولوْ كانَ مقصودَهم لَمَا ذُمُّوا عليهِ، ولَمَا حَسُنَ الردُّ عليهِم بقولِهِ: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ}، ولا كانَ مصدرُ هذا الكلامِ ظنَّ الجاهليَّةِ.
ولهذا قالَ غيرُ واحدٍ من المُفَسِّرينَ: إنَّ ظنَّهُم الباطلَ ها هنا هوَ التكذيبُ بالقدَرِ، وظنُّهم أَنَّ الأمرَ لوْ كانَ إليهم لكانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابُهُ تَبَعًا لهم يسمعونَ منهم، لَمَا أصابَهُم القتلُ، ولَكَانَ التَّصَرُّفُ والظفرُ لهم، فكذَّبَهُم اللهُ عزَّ وجلَّ في هذا الظنِّ الباطلِ الذي هوَ ظنُّ الجاهليَّةِ، وهوَ الظنُّ المنسوبُ إلَى أهلِ الجهلِ الذينَ يزعُمونَ - بعدَ نفاذِ القضاءِ والقدرِ الذي لمْ يكُنْ بُدٌّ منْ نفاذِهِ - أنَّهُم كانوا قادرينَ علَى دَفْعِهِ، وأنَّ الأمرَ لوْ كانَ إليهم لَمَا نَفَذَ القضاءُ، فَأَكْذَبَهَم اللهُ بِقَوْلِهِ: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ}، فلا يكونُ إلاَّ ما سبقَ بهِ قضاؤُهُ وقدَرُهُ، وجرَى بهِ قلمُهُ وكتابُهُ السابقُ، وما شاءَ اللهُ كانَ ولا بُدَّ، شاءَ الناسُ أمْ أَبَوْا، وما لمْ يَشَأْ لمْ يكُنْ، شاءَهُ الناسُ أوْ لمْ يشَاءُوهُ.
وما جرَى عليكم من الهزيمةِ والقتلِ فبِأَمْرِهِ الكونيِّ الذي لا سبيلَ إلَى دفعِهِ، سواءٌ كانَ لكم من الأمرِ شيءٌ أوْ لمْ يكُنْ، فإنَّكم لوْ كُنْتُمْ في بُيُوتِكم - وقدْ كُتِبَ القتلُ علَى بعضِكم - لَخَرَجَ مَنْ كُتِبَ عليهِ القتلُ منْ بَيْتِهِ إلَى مضجعِهِ ولا بُدَّ، سواءٌ كانَ لهُ من الأمرِ شيءٌ أوْ لمْ يكُنْ. وهذا منْ أظهرِ الأشياءِ إبطالاً لقولِ القدريَّةِ النُفاةِ الذينَ يُجَوِّزُونَ أَنْ يَقَعَ ما لا يَشَاءُ اللهُ، وأَنْ يَشَاءَ ما لا يَقَعُ).
وقولُهُ: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} أيْ: يختبرَ ما فيها من الإيمانِ والنفاقِ، فالمؤمنُ لا يزدادُ بذلكَ إلاَّ إيمانًا وتسليمًا، والمنافقُ ومَنْ في قلبِهِ مرضٌ لا بُدَّ أَنْ يظهرَ ما في قلبِهِ علَى جوارحِهِ ولسانِهِ.
قولُهُ: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} هذهِ حكمةٌ أُخْرَى، وهيَ: تَمْحِيصُ ما في قلوبِ المؤمنينَ، وهوَ تخليصُهُ وتنقيتُهُ وتهذيبُهُ؛ فإنَّ القلوبَ يُخَالِطُها تغليبُ الطِّباعِ، وميلُ النُّفوسِ، وحُكمُ العادةِ، وتزيينُ الشيطانِ، واستيلاءُ الغفلةِ، ممَّا يُضادُّ ما أُودِعَ فيها من الإيمانِ والإسلامِ، والبرِّ والتقوَى.
فلوْ تُرِكَتْ في عافيَةٍ دائمةٍ مستمِرَّةٍ لمْ تتخَلَّصْ منْ هذهِ المخاطرِ، ولمْ تتمَحَّصْ منهُ، فاقْتَضَتْ حكمةُ العزيزِ الرحيمِ أَنْ قيَّضَ لها من الْمِحَنِ والبلايا ما يكونُ كالدواءِ الكريهِ لمَنْ عَرَضَ لهُ داءٌ إنْ لمْ يتدارَكْهُ طبيبٌ بإزالتِهِ وتنقيتِهِ ممَّنْ هوَ في جسدِهِ، وإلاَّ خِيفَ عليهِ من الفسادِ والهلاكِ.
فكانَتْ نِعْمَتُهُ سُبْحانَهُ عليهم - بهذهِ الكَسْرَةِ والهزيمةِ، وقَتْلِ مَنْ قُتِلَ منهم - تُعَادِلُ نعمتَهُ عليهم بنَصْرِهِ وتَأْييدِهِم وظَفَرِهم بقُدْرَتِهِم، فَلَهُ عليهم النعمةُ التامَّةُ في هذا وهذا.
قولُهُ: {ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ}[آل عمرانَ:154]. يعني: أهلَ الإيمانِ واليقينِ والثباتِ والتوكُّلِ الصادقِ، وهم الجازمونَ بأَنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ سينْصُرُ رسولَهُ، ويُنْجِزُ لهُ مأمولَهُ؛ ولهذا قالَ: {وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ}، يعنِي: لا يغشاهُم النعاسُ من الْقَلَقِ، {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}، كما قالَ في الآيَةِ الأخرَى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ}[الفتح:12]، وهكذا هؤلاءِ اعتقدُوا أنَّ المشركينَ لمَّا ظهرُوا تلكَ الساعةَ أَنَّها الفاصلةُ، وأنَّ الإسلامَ قدْ بادَ أهْلُهُ.
قالَ ابنُ القَيِّمِ: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}: (هوَ المنسوبُ إلَى أهلِ الجهلِ، وظنُّ غَيْرِ الحقِّ؛ لأَنَّهُ غيرُ ما يليقُ بأسمائِهِ الحسنَى، وصفاتِهِ العُلَى، وذاتِهِ المُبَرَّأةِ منْ كُلِّ عيبٍ وسُوءٍ، أوْ خلافُ ما يَلِيقُ بحكمتِهِ وحَمْدِهِ، وتفرُّدِهِ بالرُّبُوبِيَّةِ والإلهِيَّةِ، وما يليقُ بوعْدِهِ الصادقِ الذي لا يُخْلِفُهُ).
وقدْ ذكرَ المُؤَلِّفُ تفسيرَ ابنِ القَيِّمِ لهذهِ الآيَةِ، وهوَ أحسنُ ما قيلَ فيها، وسيأتي ما يتَعَلَّقُ بهِ إنْ شاءَ اللهُ تعالَى.
وقولُهُ: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} [آل عمرانَ:154]، هذا أيضًا منْ حكايَةِ مقالِ المنافقينَ، والظاهرُ أنَّ المعنَى: إنَّا أُخْرِجْنَا كَرْهًا، ولوْ كانَ الأمرُ إلينا ما خرجْنَا، كما أشارَ إليهِ ابنُ أُبَيٍّ بذلكَ، ولفْظُهُ استفهامٌ، ومعناهُ النفيُ أيْ: ما لنا شيءٌ من الأمرِ أيْ: أمْرِ الخروجِ، وقيلَ غيرُ ذلكَ، فردَّ اللهُ عليهم بقولِهِ: {إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ} أيْ: ليسَ لكم من الأمرِ شيءٌ، ولا لغيرِكم، بل الأمرُ كلُّهُ للهِ، فهوَ الذي إذا شاءَ فلا مَردَّ لهُ.
وقولُهُ: {يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} تقدَّمَ الكلامُ عليها في بابِ ما جاءَ في الـ (لَوْ).
وقولُهُ: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} أيْ: قَدَّرَ اللهُ هذهِ الهزيمةَ والقتلَ ليختبرَ اللهُ ما في صُدُورِكُم بأعمالِكُم؛ لأنَّهُ قدْ عَلِمَهُ غَيْبًا فيعلمُهُ شهادةً؛ لأنَّ المُجَازاةَ إنَّما تَقَعُ علَى منْ يَعْلَمُ مشاهدةً، لا علَى ما هوَ معلومٌ منهم غيرُ مَغْمُورٍ.
{وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أيْ: يُطَهِّرَها من الشدَّةِ والمرضِ بما يُرِيكُم منْ عجائبِ آياتِهِ وباهرِ قدرتِهِ، وهذا خاصٌّ بالمؤمنينَ دونَ المنافقينَ.
{وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} قيلَ: معناهُ: إنَّ اللهَ لا يبْتَلِيكُم ليعلمَ ما في صدورِكُم؛ فإنَّهُ عليمٌ بذلكَ، وإنمَّا ابتلاكُم لِيُظْهِرَ أسرارَكُم، واللهُ أعلمُ.

(2) قالَ ابنُ كثيرٍ: (يتَّهِمُونَ اللهَ تعالَى في حُكمِهِ، ويظنُّونَ بالرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابِهِ أَنْ يُقْتَلُوا ويذهبُوا بالْكُلِّيَّةِ؛ ولهذا قالَ: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ}[الفتح:6] أيْ: أبعدَهُم منْ رحمتِهِ، {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}).
(3) قولُهُ: ((فُسِّرَ هذا الظنُّ بأنَّهُ سبحانَهُ لا ينصرُ رسولَهُ …)) إلَى آخرِهِ، هذا تفسيرُ غيرِ واحدٍ من المُفَسِّرِينَ، وهوَ مأخوذٌ منْ تفسيرِ قتادةَ والسُّدِّيِّ، وذَكرَ ذلكَ عنهما ابنُ جريرٍ وغيْرُهُ بالمعنَى.
وقولُهُ: ((وأَنَّ أمرَهُ سَيَضْمَحِلُّ)) أيْ: سيذهبُ جُمْلَةً حتَّى لا يبقَى لهُ أثرٌ، والاضمحلالُ: ذَهابُ الشيءِ جُمْلَةً.

قولُهُ: (وفُسِّرَ: أَنَّ ما أصابَهُم لمْ يكُنْ بقدَرِ اللهِ وحكمَتِهِ) قالَ القرطُبيُّ: (وقالَ جُوَيْبِرٌ: عن الضحَّاكِ، عنِ ابنِ عبَّاسٍ في قولِهِ: {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ}[آل عمرانَ:154]، يعني: التكذيبَ بالقدَرِ، وذلكَ أنَّهم تكلَّمُوا فيهِ، فقالَ اللهُ: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ}، يعني: القدرُ خيرُهُ وشرُّهُ من اللهِ).
وأمَّا تفسيرُهُ بإنكارِ الحكمةِ فلمْ أَقِفْ عليهِ عن السلفِ، فهوَ تفسيرٌ صحيحٌ، فمَنْ أنكَرَ أَنَّ ذلكَ لم يكُنْ لحكمةٍ بالغةٍ يستحقُّ عليها الحمدَ والشكرَ، فقدْ ظنَّ باللهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وقدْ أشارَ تعالَى إلَى بعضِ الحِكَمِ والغاياتِ المحمودةِ في ذلكَ في سورةِ (آلُ عمرانَ)، فذكرَ شيئًا كثيرًا منها في الآيَةِ المُفَسَّرَةِ: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} فهذا بعضُ الحكمةِ في ذلكَ، فمَنْ أنكرَهُ فقدْ ظَنَّ ظَنَّ السَّوْءِ باللهِ وحكمتِهِ وعلمِهِ ورحمتِهِ؛ لكمالِ علمِهِ وقدرتِهِ ورحمتِهِ؛ ولأنَّ منْ أسمائِهِ الحقَّ، وذلكَ هُو مُوجِبٌ لهيْبَتِهِ ورُبُوبيَّتِهِ.
قولُهُ: ((لأنَّهُ ظَنَّ غيرَ ما يليقُ بهِ سُبْحانَهُ)) أيْ: لأنَّ الذي يليقُ بهِ سبحانَهُ أنَّهُ يُظْهِرُ الحقَّ علَى الباطلِ وينصرُهُ، فلا يجوزُ في عقلٍ ولا شرعٍ أَنْ يَظْهَرَ الباطلُ علَى الحقِّ.
قالَ تعالَى: {بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ}[الأنبياء:18]، وقالَ تعالَى: {وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا}[الإسراء:81].
قولُهُ: (ولا يليقُ بحكمتِهِ وحمدِهِ) أَيْ: إنَّ الذي يليقُ بحكمتِهِ وحمدِهِ أَنْ لا يكونَ في السَّماواتِ ولا في الأَرضِ حركةٌ ولا سُكُونٌ إلاَّ ولَهُ في ذلكَ الحكمةُ البالغةُ، والحمدُ الكاملُ التَّامُّ عليها، فكيفَ بمثلِ هذا الأمرِ العظيمِ الذي وقعَ علَى سيِّدِ المرسلينَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وعلَى ساداتِ الأولياءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، فلهُ سبحانَهُ وتعالَى في ذلكَ الحكمةُ، ولهُ عليهِ الحمدُ، بلْ والشكرُ.
ومنْ تأمَّلَ ما في سورةِ (آلُ عمرانَ) في سياقِ القِصَّةِ رأَى منْ ذلكَ العَجَبَ، فمَنْ ظَنَّ باللهِ تعالَى أَنَّهُ لا يفعلُ ذلكَ بقدرةٍ وحكمةٍ يستحقُّ عليها الحمدَ والشكرَ فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
قولُهُ: ((فمَنْ ظَنَّ أنهُ يُدِيلُ الباطلَ علَى الحقِّ إِدَالَةً مستقِرَّةً يَضْمَحِلُّ معها الحقُّ)) فهذا ظَنُّ السَّوْءِ؛ لأنَّهُ نَسَبَهُ -أيْ سُبْحَانَهُ- إلَى ما لا يليقُ بجلالِهِ وكمالِهِ، ونُعُوتِهِ وصفاتِهِ؛ فإنَّ حمدَهُ وحكمتَهُ وعِزَّتَهُ تَأْبَى ذلكَ، وتَأْبَى أَنْ يُذَلَّ حزبُهُ وجُنْدُهُ، وأَنْ تكونَ النُّصْرَةُ المستقِرَّةُ والظَّفَرُ الدائمُ لأعدائِهِ المشركينَ المُعَانِدينَ لهُ، فمَنْ ظَنَّ بهِ ذلكَ فما عرفَهُ ولا عرفَ أسماءَهُ وصفاتِهِ وكمالَهُ.
قولُهُ: ((أوْ أنكرَ أَنْ يكونَ ما جرَى بقضائِهِ وقَدَرِهِ)) أيْ: فذلكَ ظَنُّ السَّوْءِ؛ لأنَّهُ نِسْبَةٌ لهُ إلَى ما لا يليقُ برُبُوبيَّتِهِ، ومُلْكِهِ، وعظمتِهِ.
قولُهُ: ((أوْ أنكرَ أَنْ يكونَ قدَرُهُ لحكمةٍ بالغةٍ يستحقُّ عليها الحمدَ))، بلْ زعمَ أَنَّ ذلكَ لمشيئةٍ مُجَرَّدَةٍ، {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27].
قالَ ابنُ القيِّمِ: (وكذلكَ مَنْ أنكرَ أَنْ يكونَ قَدَّرَ ما قَدَّرَهُ منْ ذلكَ وغيرِهِ لحكمةٍ بالغةٍ، وغايَةٍ محمودةٍ يستحقُّ عليها الحمدَ، وأَنَّ ذلكَ إنَّما صدرَ عنْ مشيئةٍ مُجَرَّدَةٍ عنْ حكمةٍ وغايَةٍ مطلوبةٍ، هيَ أحبُّ إليهِ منْ فَوَاتِهَا، وأَنَّ تلكَ الأسبابَ المكروهةَ المُفْضِيَةَ إليها لا يخرجُ تقديرُها عن الحكمةِ لانضمامِهَا إلَى ما يُحِبُّ، وإنْ كانَتْ مكروهةً لَهُ، فما قَدَّرَها سُدًى، ولا شاءَها عبثًا، ولا خَلَقَها باطلاً، {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} [ص:27] ).
قولُهُ: ((ووعْدِهِ الصادقِ)) لأَنَّ اللهَ تعالَى وعدَ رسولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يُظْهِرَ أمرَهُ ودينَهُ علَى الدِّينِ كلِّهِ ولوْ كَرِهَ المشركونَ.
فَمَنْ ظنَّ بهِ تعالَى أَنَّ دينَ نَبِيِّهِ سَيَضْمَحِلُّ ويَبْطُلُ ولا يَظْهَرُ علَى الدينِ كلِّهِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظنَّ السَّوْءِ؛ لأَنَّهُ ظَنَّ أَنَّهُ يُخْلِفُ الميعادَ، واللهُ تعالَى لا يُخْلِفُ الميعادَ.
قولُهُ: (وأكثرُ النَّاسِ يظنُّونَ باللهِ ظَنَّ السَّوْءِ فيما يختصُّ بهم، وفيما يفعَلُهُ بغيرِهم)
قالَ ابنُ القيِّمِ: (فمَنْ قَنَطَ مِنْ رحمتِهِ، وأَيِسَ منْ رَوْحِهِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ جَوَّزَ عليهِ أَنْ يُعذِّبَ أولياءَهُ مَعَ إحسانِهِم وإخلاصِهم، ويُسَوِّيَ بيْنَهُم وبينَ أعدائِهِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أنَّهُ يتركُ خلْقَهُ سُدًى مُعَطَّلِينَ عن الأمرِ والنهيِ، ولا يُرْسِلُ إليهم رُسُلَهُ، ولا يُنْزِلُ إليهم كُتُبَهُ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لنْ يجمعَهُم بعدَ مَوْتِهِم للثَّوَابِ والعقابِ في دارٍ يُجَازِي فيها المحسنَ بإحسانِهِ، والمُسيءَ بإساءتِهِ، ويُبَيِّنُ لخلقِهِ حقيقةَ ما اختلفوا فيهِ، ويُظْهِرُ للعالَمِينَ كُلِّهِمْ صِدْقَهُ، وصِدْقَ رُسُلِهِ، وأَنَّ أعداءَهُ كانُوا هم الكاذبينَ، فقَدْ ظنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُضَيِّعُ عليهِ عملَهُ الصالحَ الذي عَمِلَهُ خالصًا لوجهِهِ علَى امتثالِ أمْرِهِ، ويُبْطِلُهُ عليهِ بلا سببٍ من العبدِ، أوْ أَنَّهُ يُعَاقِبُهُ علَى فِعْلِهِ سبحانَهُ بهِ، أوْ ظَنَّ بهِ أَنَّهُ يَجُوزُ عليهِ أَنْ يُؤَيِّدَ أعداءَهُ الكاذبينَ عليهِ بالمعجزاتِ التي يُؤَيِّدُ بها أنبياءَهُ ورُسُلَهُ، وأَنَّهُ يَحْسُنُ منهُ كلُّ شيءٍ حتَّى يعذِّبَ مَنْ أفنَى عُمُرَهُ في طاعتِهِ - أيْ: كمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - فَيُخَلِّدَهُ في الجحيمِ، أوْ في أسفلِ سافلينَ، ومَن اسْتَنْفَذَ عُمُرَهُ في عداوتِهِ وعداوةِ رسُلِهِ ودينِهِ، كأبي جهلٍ، فيَرْفَعُهُ إلَى أعلَى عِلِّيِّينَ، وكلاَ الأمرَيْنِ في الحُسْنِ سواءٌ عندَهُ، ولا يُعْرَفُ امتناعُ أحدِهما، ووقوعُ الآخرِ إلاَّ بخبرٍ صادقٍ، وإلاَّ فالعقلُ لا يقضي بقُبْحِ أحَدِهِما وحُسْنِ الآخَرِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أَنَّهُ أخْبَرَ عنْ نَفْسِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ بما ظاهِرُهُ باطلٌ وتشبيهٌ وتمثيلٌ، وتركَ الحقَّ لمْ يُخْبِرْ بهِ، وإنَّما رَمَزَ إليهِ رموزًا بعيدةً، وصرَّحَ دائمًا بالتشبيهِ والتمثيلِ والباطلِ، وأرادَ مِنْ خلقِهِ أَنْ يُتْعِبُوا أذهانَهُم وقُوَاهُم وأفكارَهُم في تحريفِ كلامِهِ عنْ مواضعِهِ، وتأويلِهِ علَى غيرِ تأويلِهِ، وإعانَتِهِم في معرفةِ أسمائِهِ وصفاتِهِ علَى عقولِهِم وآرائِهم لا علَى كتابِهِ، مَعَ قدرتِهِ علَى أَنْ يُصَرِّحَ لهم بالحقِّ الذي ينبغِي التصريحُ بهِ، ويُرِيحَهُم من الألفاظِ التي تُوقِعُهم في اعتقادِ الباطلِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أَنْ يكونَ لهُ في مُلكِهِ ما لا يشاءُ ولا يَقْدِرُ علَى إيجادِهِ وتكوينِهِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لا سَمْعَ لهُ، ولا بَصَرَ، ولا عِلْمَ، ولا إرادةَ، ولا كلامَ يقومُ بهِ، وأَنَّهُ لمْ يُكَلِّمْ أحدًا من الخلقِ، ولا يتَكَلَّمُ أبدًا، فقدْ ظَنَّ بهِ ظنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أَنَّهُ ليسَ فوقَ سماواتِهِ علَى عرشِهِ بَائِنًا مِنْ خلقِهِ، وأَنَّ نِسْبَةَ ذاتِهِ تعالَى إلَى عرشِهِ كنسبَتِها إلَى أسفلِ سافلينَ، وأَنَّهُ أسفلُ كما أَنَّهُ أعلَى، وأَنَّ مَنْ قالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأسفلِ، كمَنْ قالَ: سُبْحَانَ رَبِّيَ الأعلَى، فقدْ ظَنَّ بهِ أقبحَ الظَّنِّ.
ومَنْ ظَنَّ أنهُ يُحِبُّ الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ والفسادَ، ولا يُحِبُّ الإيمانَ والبِرَّ والطاعةَ والصَّلاحَ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أَنَّهُ لا يُحِبُّ، ولا يرضَى، ولا يغضبُ، ولا يُوالِي، ولا يُعَادِي، ولا يَقْرَبُ منْ أحدٍ منْ خلقِهِ، ولا يَقْرَبُ عندَهُ أَحَدٌ، وأَنَّ ذَوَاتَ الشياطينِ في الْقُرْبِ منهُ كَذَوَاتِ الملائكةِ المُقَرَّبِينَ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أنَّهُ يُسَوِّي بينَ المُتَضَادَّيْنِ، أوْ يُفَرِّقُ بينَ المتساوِيَيْنِ في كلِّ وجهٍ، أوْ يُحْبِطُ طاعاتِ العُمرِ المديدِ الخالصةِ الصوابِ بكبيرةٍ واحدةٍ تكونُ بعدَها، فَيُخَلِّدُهُ في الجحيمِ لتلكَ الكبيرةِ، كما يُخَلِّدُ مَنْ لمْ يُؤْمِنْ بهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، واسْتَنْفَدَ عُمْرَهُ في مساخِطِهِ ومُعَاداةِ رُسُلِهِ ودينِهِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
وبِالْجُمْلَةِ: فمَنْ ظَنَّ بهِ خلافَ ما وصفَ بهِ نفسَهُ، أوْ وصفَهُ بهِ رسولُهُ، أوْ عَطَّلَ حقائقَ ما وصفَ بهِ نفسَهُ، ووَصَفَهُ بهِ رُسُلُهُ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أَنَّ لهُ ولدًا أوْ شريكًا، أوْ أَنَّ أحدًا يشفعُ عندَهُ بدُونِ إذْنِهِ، أوْ أَنَّ بينَهُ وبينَ خلقِهِ وسائطَ يرفعونَ حوائجَهم إليهِ، أوْ أَنَّهُ نَصَّبَ لعبادِهِ أولياءَ منْ دونِهِ، يتَقَرَّبُونَ بهِم إليهِ، ويجعلونَهُم وسائطَ بيْنَهُ وبينَهُم فيدْعُونَهُم ويخافونَهُم ويرجُونَهُم، فقدْ ظَنَّ بهِ أقبحَ الظَنِّ وأسوأَهُ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أَنَّهُ يُنَالُ ما عندَهُ بمعصيتِهِ ومخالفتِهِ، كما يُنَالُ بطاعتِهِ والتقرُّبِ إليهِ، فهوَ مِنْ ظَنِّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أَنَّهُ إذا تَركَ لأجْلِهِ شيئًا لمْ يُعَوِّضْهُ خيرًا مِنهُ، أوْ مَنْ فَعلَ شيئًا لأجْلِهِ لمْ يُعْطِهِ أفضلَ منهُ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يَغْضَبُ علَى عبْدِهِ ويُعَاقِبُهُ بغيرِ جُرْمٍ ولا سببٍ من العبدِ - إلاَّ بِمُجَرَّدِ المشيئةِ - فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أَنَّهُ إذا صدَقَ في الرغبةِ والرهبةِ، وتضرَّعَ إليهِ، وسألَ واستعانَ بهِ، وتوكَّلَ عليهِ أَنَّهُ يُخَيِّبُهُ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أَنهُ يُثِيبُهُ إذا عصاهُ كما يُثِيبُهُ إذا أطاعَهُ، وسألَهُ ذلكَ في دعائِهِ، فقدْ ظَنَّ بهِ خلافَ ما هوَ أهلُهُ، وما لا يَفْعَلُهُ.
ومَنْ ظَنَّ أَنَّهُ إذا أغضبَهُ وأَسْخَطَهُ، ووَقَعَ في معاصيِهِ، ثمَّ اتَّخَذَ منْ دُونِهِ أولياءَ، ودعا منْ دُونِهِ مَلَكًا أوْ بشرًا حيًّا أوْ ميِّتًا، يرجُو بذلكَ أَنْ ينْفَعَهُ عندَ رَبِّهِ، ويُخَلِّصَهُ منْ عذابِهِ، فَقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أَنَّهُ يُسَلِّطُ علَى رسولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أعداءَهُ تسليطًا مستقِرًّا دائمًا في حياتِهِ ومماتِهِ، وابتلاهُ بهم لا يُفَارِقُونَهُ، فلمَّا ماتَ استبَدُّوا بالأمرِ دونَ وَصِيِّهِ وأهلِ بيْتِهِ، وسلبُوهم حَقَّهُمْ، وأَذَلُّوهُم منْ غيرِ جُرْمٍ ولا ذنبٍ لأوليائِهِ وأهلِ الحقِّ، وهوَ يرَى ذلكَ ويَقْدِرُ علَى نُصْرَةِ أوليائِهِ وحزْبِهِ ولا ينْصُرُهُمْ، ثمَّ جعلَ الْمُبَدِّلِينَ لدينِهِ مُضَاجِعِيهِ في حُفْرَتِهِ، تُسَلِّمُ أُمَّتُهُ عليهِ وعليهم كلَّ وقتٍ، كما تظنُّهُ الرافِضَةُ، فقدْ ظَنَّ بهِ أقبحَ الظَنِّ) انتهَى اختصارًا.
وهوَ يُنَبِّهُكَ علَى إحسانِ الظَنِّ باللهِ في كلِّ شيءٍ.
(فَلْيَعْتَن اللَّبِيبُ)، اللُّبُّ: العقلُ، واللبيبُ: العاقلُ.
قولُهُ: (ولوْ فَتَّشْتَ مَنْ فتَّشْتَ لرَأَيْتَ عندَهُ تَعَنُّتًا علَى القدَرِ، وَمَلامَةً لَهُ، وأَنَّهُ كانَ ينبغِي أَنْ يكونَ كذَا وكذَا).
قُلْتُ: بلْ يَبُوحُونَ بذلكَ، ويُصَرِّحُونَ بهِ جَهَارًا في أشعارِهم وكلامِهم.
قالَ ابنُ عَقِيلٍ في (الْفُنُونِ): (الواحدُ من العَوَامِّ إذا رأَى مراكبَ مُقَلَّدَةً بالذهبِ والفِضَّةِ، ودارًا مُشَيَّدَةً مملوءةً بالخدمِ والزينةِ، قالَ: انْظُرْ إلَى إعطائِهم مَعَ سُوءِ أفعالِهِم، ولا يَزَالُ يَلْعَنُهم، ويَذُمُّ مُعْطِيَهُمْ حتَّى يقولَ: فلانٌ يُصَلِّي الجماعاتِ والجُمَعَ، ولا يُؤْذِي الذَّرَّ، ولا يَأْخُذُ ما ليسَ لهُ، ويُؤَدِّي الزكاةَ إذا كانَ لهُ مالٌ، ويحُجُّ ويُجَاهدُ، ولا ينالُ خَلَّةً بقلبِهِ، ويُظْهِرُ الإعجابَ كأنَّهُ يَنْطِقُ: إِنَّهُ لوْ كانت الشرائعُ حقًّا لكانَ الأمرُ بخلافِ ما ترَى، وكانَ الصالحُ غَنِيًّا، والفاسقُ فقيرًا).
قالَ أبو الفرجِ ابنُ الجَوْزِيِّ: (وهذهِ حالةٌ قدْ شملَتْ خَلْقًا كثيرًا من العلماءِ والجهَّالِ، أوَّلُهم إبليسُ؛ فإنَّهُ نَظَرَ بعقلِهِ فقالَ: كيفَ يُفَضَّلُ الطِّينُ علَى جوهرِ النَّارِ؟! وفي ضمنِ اعتراضِهِ: إنَّ حِكْمَتَكَ قاصرةٌ، وأنا أَجْوَدُ،واتَّبَعَ إبليسَ في تفضيلِهِ واعتراضِهِ خَلْقٌ كثيرٌ، مثلُ الرَّاوَنْدِيِّ والْمَعَرِّيِّ، ومنْ قولِهِ:

إذا كـانَ لا يـَحـْظـَى بـرزقِكَ عاقلٌ = تــُرزقُ مـجـنـونـًا وتــرزقُ أحمـقــَا

ولا ذنْبَ يا ربَّ السماءِ علَى امْرِئٍ = رأَى مـِنـْكَمــا لا يـنـتهي فَتَزَنـْدَقَا

وأمثالُ ذلكَ كثيرٌ في أولئكَ الذينَ ابتعدُوا عنْ كتابِ اللهِ وسُنَّةِ رسُولِهِ، وانطلقُوا إلَى أهوائِهم، واعتمدُوا علَى عقولِهم القاصرةِ التي جعلَتْهُم يعترضُونَ علَى اللهِ جلَّ وعَلا).
وكانَ أبو طالبٍ الْمَكِّيُّ يقولُ: (ليسَ علَى المخلوقِ أضرُّ من الخالقِ).
قالَ ابنُ الْجَوْزِيِّ: (ودخَلْتُ علَى صدقةَ بنِ الحُسَيْنِ الحدَّادِ - وكانَ فقيهًا غيرَ أَنَّهُ كانَ كثيرَ الاعتراضِ - وكانَ عليهِ جَرَبٌ، فقالَ: هذا ينبغي أَنْ يكونَ علَى حَمَدٍ لا عَلَيَّ.
وكانَ يتَفَقَّدُ بعضَ الأكابرِ أَكُولٌ، فيقولُ: بُعِثَ لي هذا علَى الْكِبَرِ وَقْتَ لا أَقْدِرُ علَى أَكْلِهِ. وكانَ رَجُلٌ يَصْحَبُنِي قدْ قاربَ ثمانينَ سنةً، كثيرُ الصلاةِ والصومِ، فَمَرِضَ واشتدَّ بهِ المرضُ، فقالَ: إنْ كانَ يُرِيدُ أَنْ أموتَ فَيُمِيتُنِي، وأمَّا هذا التعذيبُ فما لَهُ معنًى، واللهِ لوْ أعطاني الفردوسَ كانَ مَكْفُورًا.
ورَأَيْتُ آخرَ تَزَيَّا بالعلمِ، إذا ضاقَ عليهِ رِزْقُهُ يقولُ: إيشْ هذا التدبيرُ؟
وعلَى هذا كثيرٌ من العوامِّ إذا ضَاقَتْ أرزاقُهم اعتَرَضُوا، ورُبَّما قالُوا: ما يُرِيدُ يُصَلِّي، وإذا رأَوْا رجلاً صالحًا مُؤْذِيًا قالُوا ما يستحقُّ قَدْحًا في القَدَرِ، وكانَ قدْ جرَى في زمانِنَا تَسَلُّطٌ من الظَّلَمَةِ، وقالَ بعضُ مَنْ تزَيَّا بالدِّينِ: هذا حُكْمٌ بَارِدٌ.
وما فَهِمَ ذلكَ الأحمقُ؛ فإنَّ للهِ علَى الظالمِ أَنْ يُسَلِّطَ عليهِ أظلَمَ منهُ، وفي الْحَمْقَى مَنْ يقولُ: أَيُّ فائدةٍ في خَلْقِ الحَيَّاتِ والعقاربِ، وما عَلِمَ أَنَّ ذلكَ أُنْمُوذَجٌ لعقوبةِ المخالفِ، وهذا أمرٌ قدْ شاعَ، ولهذا مَدَدْتُ النَّفَسَ فيهِ.
واعْلَمْ أَنَّ المعترِضَ قد ارتفعَ أَنْ يكونَ شريكًا، وعلا الخالقَ بالحُكمِ عليهِ، وهؤلاءِ كلُّهم كَفَرَةٌ؛ لأنَّهم رأَوْا حكمةَ الخالقِ قاصرةً.
وإذا كانَ قدْ تَوَقُّفُ القلبِ عن الرِّضَا بِحُكْمِ الرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُخْرِجُ عن الإيمانِ - قالَ: {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ} [النساء:64] - فكيفَ يصحُّ الإيمانُ معَ الاعتراضِ علَى اللهِ؟! وكانَ في زَمَنِ ابنِ عقيلٍ رَجُلٌ رأَى بهيمةً علَى غايَةٍ من السُّقْمِ، فقالَ: وَارَحْمَتِي لكِ، وَاقِلَّةَ حِيلَتِي في إقامةِ التأويلِ لمُعَذِّبِكِ، فقالَ لهُ ابنُ عقيلٍ: إنْ لمْ تقلدْ علَى حمْلِ هذا الأمرِ لأَجْلِ رَقَبَتِكَ الحيوَانيَّةِ ومناسبتِكَ الجنسِيَّةِ، فَعِنْدَكَ عقلٌ تعرفُ بهِ حكمَ الصانعِ وحكمتَهُ، يُوجِبُ عليكَ التأويلَ، فإنْ لمْ تَجِد استطرحْتَ الفاطِرَ العقلَ، حيثُ خانَكَ العقلُ عنْ معرفةِ الحكمةِ في ذلكَ) انتهَى.
قولُهُ: (وفتِّشْ نفسَكَ: هلْ أنتَ سالمٌ؟).
قالَ ابنُ القيِّمِ: (أكثرُ الخلقِ إلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ يظُنُّونَ باللهِ غيرَ الحقِّ وظَنَّ السَّوْءِ؛ فإنَّ غالِبَ بني آدمَ يعتقدُ أنَّهُ مَبْخُوسُ الحقِّ، ناقِصُ الحظِّ، وأنَّهُ يسْتَحِقُّ فوقَ ما أعطاهُ اللهُ، ولسانُ حالِهِ يقولُ: ظَلَمَنِي رَبِّي، ومنَعَنِي ما أستحقُّهُ، ونفسُهُ تشهدُ عليهِ بذلكَ، وهوَ بلسانِهِ يُنْكِرُهُ، ولا يَتَجَاسَرُ علَى التصريحِ بهِ.
ومَنْ فتَّشَ نفسَهُ وتَغَلْغَلَ في معرفةِ دَفَائِنِها وطَوَايَاهَا، رأَى ذلكَ فيها كامنًا كُمُونَ النَّارِ في الزِّنَادِ، فَاقْرَعْ زِنَادَ مَنْ شِئْتَ يُنْبِئْكَ شَرَارُها عمَّا في زِنَادِهِ، فَلْيَعْتَن اللبيبُ الناصحُ لنفسِهِ بهذا الموضعِ، ولْيَتُبْ إلَى اللهِ ويستغفرْهُ كلَّ وقتٍ مِنْ ظَنِّهِ برَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، ولْيَظُنَّ السُّوءَ بنَفْسِهِ التي هيَ مَأْوَى كلِّ سُوءٍ، وصنيعُ كلِّ شرٍّ، المُرَكَّبَةُ علَى الجهلِ والظلمِ، فَهُوَ أَوْلَى بظنِّ السَّوْءِ منْ أَحْكَمِ الحاكمينَ، وأعدلِ العادلينَ، وأرحمِ الراحمينَ، الغنيِّ الحميدِ، الذي لهُ الغنَى التامُّ، والحكمةُ التامَّةُ، المُنَزَّهُ عنْ كلِّ سُوءٍ في ذاتِهِ وصفاتِهِ وأفعالِهِ وأسمائِهِ، فذاتُهُ لها الكمالُ المُطْلَقُ منْ كلِّ وجهٍ، وصفاتُهُ كذلكَ، وأفعالُهُ كُلُّها حكمةٌ ومصلحةٌ ورحمةٌ وعدلٌ، وأسماؤُهُ كُلُّها حُسْنَى).

فــلا تــَظــْنـُنْ برَبِّكَ ظـَنَّ سَوْءٍ = فــإنَّ الــلــــهَأوْلـــَى بالــجميلــِ
لا تــَظــْنــُنْ بنـفسِكَ قطُّ خيرًا = فــكــيــْفَبــظالمٍ جَانٍ جَهُولِ
وظُنَّ بنفسِكَ السَّوْأَى تَجِدْها = كــَذاكَ وخيرُها كـــالمُسْتَحِيلِ
ومـابـكَ مــنْ تـُقًى فيها وخيرٍ = فـتـِلـْكَ مواهبُ الـرَّبِّ الـجَلِيلِ
ولــيـْسَ لـــهـا ولا مِنْهَا ولـــَكِنْ = مــن الـرحمــنِ فاشْكُرْ لـلـدليلِ

قولُهُ: (فإنْ تَنْجُ منها) أيْ: منْ هذهِ الْخَصْلَةِ العظيمةِ.

قولُهُ: (منْ ذي عظيمةٍ) أيْ: تنجُ منْ شَرٍّ عظيمٍ.
قولُهُ: (وإنِّي لا إِخَالُكَ) هوَ بكَسْرِ الهمزةِ أيْ: أظنُّكَ، واللهُ أعلمُ.

هيئة الإشراف

#3

2 Nov 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1) قولُهُ: (بابُ قولِ اللهِ تعالَى: { يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ }[آل عمران:154].
وقولُهُ: { الظَّانِّينَ باللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا }[الفتح:6].
قَالَ ابْنُ القَيِّمِ في الآيَةِ الأُولَى: (فُسِّرَ هَذَا الظَّنُّ بِأَنَّهُ سُبْحَانَهُ لاَ يَنْصُرُ رَسُولَهُ، وَأَنَّ أَمْرَهُ سَيَضْمَحِلُّ، وَفُسِّرَ بِأَنَّ مَا أَصَابَهُ لَمْ يَكُنْ بَقَدَرِ اللهِ وحِكْمَتِهِ، فَفُسِّرَ بِإِنْكَارِ الحِكْمَةِ وَإِنْكَارِ القَدَرِ، وإِنْكَارِ أَنْ يَتِمَّ أَمْرُ رَسُولِهِ، وَأَنْ يُظْهِرَهُ اللهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ.

وَهَذَا هوَ ظَنُّ السَّوْءِ الذي ظَنَّ المُنَافِقُونَ والمُشْرِكُونَ في سُورَةِ الفَتْحِ، وإِنَّمَا كَانَ هَذَا ظَنَّ السَّوْءِ؛ لأَِنَّهُ ظَنُّ غَيْرِ مَا يَلِيقُ بِهِ سُبْحَانَهُ، وَمَا يَلِيقُ بِحِكْمَتِهِ وحَمْدِهِ ووَعْدِهِ الصَّادِقِ، فَمَنْ ظَنَّ أَنَّهُ يُدِيلُ البَاطِلَ عَلَى الحَقِّ إِدَالَةً مُسْتَقِرَّةً يَضْمَحِلُّ مَعَهَا الحَقُّ، أَو أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ مَا جَرَى بقَضَائِهِ وقَدَرِهِ، أوْ أَنْكَرَ أَنْ يَكُونَ قَدَرُهُ لِحِكْمَةٍ بَالِغَةٍ يَسْتَحِقُّ عَلَيْهَا الحَمْدَ، بلْ زَعَمَ أَنَّ ذَلِكَ لِمَشْيِئَةٍ مُجَرَّدَةٍ، فذلكَ ظَنُّ الذِينَ كَفَرُوا، فوَيْلٌ للذِينَ كَفَرُوا مِن النَّارِ، وأَكْثَرُ النَّاسِ يَظُنُّونَ باللهِ ظَنَّ السَّوْءِ فيما يَخْتَصُّ بِهِم، وفيما يَفْعَلُهُ بِغَيْرِهِم، وَلاَ يَسْلَمُ مِنْ ذَلِكَ إِلاَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ وأَسْمَاءَهُ وصِفَاتِهِ، ومُوجَبَ حِكْمَتِهِ وحَمْدِهِ، فلْيَعْتَنِ اللَّبِيبُ النَّاصِحُ لنَفْسِهِ بِهَذَا، ولْيَتُبْ إِلَى اللهِ، وليَسْتَغْفِرْهُ مِنْ ظَنِّهِ بِرَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وَلَوْ فَتَّشْتَ مَنْ فَتَّشْتَ لَرَأَيْتَ عِنْدَهُ تَعَنُّتًا عَلَى القَدَرِ، ومَلاَمَةً لَهُ، وأَنَّهُ كَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ كَذَا وكَذَا، فمُسْتَقِلٌّ ومُسْتَكْثِرٌ، وفَتِّشْ نَفْسَكَ هَلْ أَنْتَ سَالِمٌ؟

فَإِنْ تَنْجُ مِنْهَا تَنْجُ مِنْ ذِي عَظِيمَةٍ = وَإِلاَّ فــَإِنِّي لاَ إِخــَالــُكَ نــــَاجــِيَاً

قولُهُ: بابُ قولِ اللهِ تعالَى: { يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ } الآيَةَ، وهذه الآيَةُ ذَكَرَها اللهُ تعالَى في سِياقِ قولِهِ تعالَى في ذِكْرِ وَقعةِ أُحُدٍ: { ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ } يعنِي أهلَ الإِيمانِ والثَّبَاتِ والتَّوَكُّلِ الصادقِ؛ وهم الجازِمونَ بأنَّ اللهَ تعالَى يَنْصُرُ رَسولَهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ويُنْجِزُ لهُ مَأْمُولَهُ، ولهذا قالَ: { وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنفُسُهُمْ } يعني: لا يَغشاهُم النُّعَاسُ من القلَقِ والْجَزَعِ والخوفِ { يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ } كما قالَ تعالَى: { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا }[الفتح:12] وهكذا هؤلاءِ اعْتَقَدُوا أنَّ الْمُشْرِكينَ لَمَّا ظَهَرُوا تلكَ الساعةَ ظَنُّوا أنَّها الفَيْصَلَةُ؛ وأنَّ الإٍسلامَ قدْ بادَ وأَهْلُهُ، وهذا شأنُ أهلِ الرَّيْبِ والشكِّ إذا حَصَلَ أَمْرٌ من الأمورِ الفَظيعةِ تَحْصُلُ لهم هذه الأمورُ الشَّنيعةُ.

عن ابنِ جُرَيْجٍ قالَ: قيلَ لعبدِ اللهِ بن أُبيٍّ: (قُتِلَ بنو الْخَزْرَجِ اليومَ؟ قال: وهلْ لنا من الأَمْرِ منْ شيءٍ؟).

قالَ العَلاَّمَةُ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى في الكلامِ علَى ما تَضَمَّنَتْهُ وَقْعَةُ أُحُدٍ: (وقدْ فُسِّر هذا الظَّنُّ الذي لا يَليقُ باللهِ سُبحانَهُ بأنَّهُ لا يَنْصُرُ رَسولَهُ، وأنَّ أَمْرَهُ سَيَضْمَحِلُّ وأنَّهُ يُسْلِمُهُ للقَتْلِ، وفُسِّرَ بِظَنِّهم أنَّ ما أَصابَهم لم يكنْ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ ولا حِكْمَةَ لهُ فيهِ.

فَفُسِّرَ بإنكارِ الْحِكمةِ، وإنكارِ القَدَرِ، وإنكارِ أن يُتِمَّ أَمْرَ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ويُظْهِرَهُ علَى الدِّينِ كُلِّهِ، هذا هوَ ظَنُّ السَّوْءِ الذي ظَنَّهُ المنافِقُونَ والْمُشرِكون في سُورةِ الفَتْحِ حيثُ يَقولُ: { وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا}[الفتح:6]، وإنما كان هذا ظَنَّ السوءِ وظَنَّ الْجَاهليَّةِ - وهوَ المنسوبُ إلَى أهلِ الْجَهْلِ - وظَنَّ غيرِ الحقِّ؛ لأنَّهُ ظَنُّ غيرِ ما يَلِيقُ بأسمائِهِ الْحُسْنَى، وصِفاتِهِ الْعُلَى، وذاتِهِ الْمُبَرَّأَةِ منْ كلِّ عَيبٍ وسُوءٍ، وخِلافُ ما يَلِيقُ بحِكْمَتِهِ وحَمْدِهِ، وتَفَرُّدِهِ بالإلهيَّةِ، وما يَلِيقُ بوَعْدِهِ الصادقِ الذي لا يُخْلِفُهُ، وبكَلِمَتِهِ التي سَبَقَتْ لرُسُلِهِ أنَّهُ يَنْصُرُهم ولا يَخْذُلُهم، ولِجُنْدِهِ بأنَّهُم هم الغالبونَ.
فمَنْ ظَنَّ بهِ أنَّهُ لا يَنصُرُ رُسُلَهُ ولا يُتِمُّ أَمْرَهُ ولا يُؤَيِّدُهُ ويُؤَيِّدُ حِزْبَهُ ويُعلِيهِم ويُظْفِرُهم بأعدائِهم ويُظْهِرُهم، وأنَّهُ لا يَنْصُرُ دِينَهُ وكِتابَهُ، وأنَّهُ يُديلُ الشرْكَ علَى التوحيدِ، والباطلَ علَى الحقِّ إدالةً مُسْتَقِرَّةً، يَضْمَحِلُّ معها التوحيدُ والحقُّ اضمحلالاً لا يَقومُ بعدَهُ أبدًا، فقدْ ظَنَّ السَّوْءَ؛ ونَسَبَهُ إلَى خِلافِ ما يَليقُ بجَلالِهِ وكَمالِهِ وصِفاتِهِ ونُعوتِهِ، فإنَّ حَمْدَهُ وعِزَّتَهُ وحِكْمَتَهُ وإلهيَّتَهُ تَأْبَى ذلكَ، وتَأْبَى أن يُذِلَّ حِزْبَهُ وجُنْدَهُ، وأن تكونَ النُّصرةُ الْمُسْتَقِرَّةُ والظَّفَرُ الدائمُ لأعدائِهِ الْمُشرِكينَ بهِ، العادلينَ بهِ.
فمَنْ ظَنَّ بهِ ذلكَ فما عَرَفَهُ ولا عَرَفَ أسماءَهُ ولا عَرَفَ صِفاتِهِ وكمالَهُ، وكذلكَ مَنْ أَنْكَرَ أن يكونَ ذلكَ بقَضائِهِ وقَدَرِهِ فما عَرَفَهُ، ولا عَرَفَ رُبوبِيَّتَهُ ومُلْكَهُ وعَظَمَتَه، وكذلكَ مَنْ أَنْكَرَ أن يكونَ قَدَّرَ ما قَدَّرَهُ منْ ذلكَ وغيرِهِ لحِكمةٍ بالغةٍ وغايَةٍ محمودةٍ، يَسْتَحِقُّ الحمدَ عليها، وأنَّ ذلكَ إنما صَدَرَ عنْ مَشيئةٍ مُجَرَّدَةٍ عنْ حِكمةٍ وغايَةٍ مَطلوبةٍ هيَ أحَبُّ إليهِ منْ فَواتِها، وأنَّ تلكَ الأسبابَ الْمَكروهةَ المُقْتَضِيَةَ لَهَا، لا يَخْرُجُ تقديرُها عن الحِكمةِ، لإفضائِها إلَى ما يَحِبُّ وإنْ كانتْ مَكروهةً لهُ، فما قَدَّرَها سُدًى، ولا شَاءَها عَبَثًا، ولا خَلَقَها باطلاً، {ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ}[ص:27].
وأَكثَرُ الناسِ يَظُنُّونَ باللهِ غيرَ الحقِّ ظَنَّ السَّوْءِ فيما يَخْتَصُّ بهم، وفيما يَفعلُهُ بغيرِهم، ولا يَسْلَمُ منْ ذلكَ إلاَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ وعَرَفَ أسماءَهُ وصِفاتِهِ، وعَرَفَ مُوجَبَ حِكمتِهِ وحَمْدِهِ، فمَنْ قَنَطَ منْ رَحْمَتِهِ وأَيِسَ منْ رَوْحِهِ فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ جَوَّزَ عليهِ أن يُعَذِّبَ أولياءَهُ معَ إحسانِهم وإخلاصِهم ويُسَوِّيَ بينَهم وبينَ أعدائِهِ فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أنَّهُ يَتْرُكُ خَلْقَهُ سُدًى مُعَطَّلينَ عن الأمْرِ والنهيِ، لا يُرْسِلُ إليهم رُسلَهُ، ولا يُنْـِزلُ إليهم كُتُبَهُ، بلْ يَتْرُكُهم هَمَلاً كالأنعامِ فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أنَّهُ لن يَجْمَعَهُم بعدَ موتِهم للثوابِ والعقابِ في دارٍ يُجَازِي الْمُحْسِنَ فيها بإحسانِهِ، والْمُسيءَ بإساءتِهِ، وَيُبَيِّنَ لخَلْقِهِ حقيقةَ ما اخْتَلَفوا فيهِ، وَيُظْهِرَ للعالمينَ كلِّهم صِدْقَهُ وصِدْقَ رُسُلِهِ، وأنَّ أَعداءَهُ كانوا هم الكاذبينَ فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أنَّهُ يُضيعُ عليهِ عَمَلَهُ الصالحَ الذي عَمِلَهُ خالصًا لوَجْهِهِ علَى امتثالِ أَمْرِهِ، ويُبْطِلُهُ عليهِ بلا سَبَبٍ من العبدِ، وأنَّهُ يُعاقِبُهُ لِمَا لا صُنْعَ لهُ فيهِ ولا اختيارَ لهُ ولا قُدرةَ ولا إرادةَ لهُ في حُصولِهِ، بلْ يُعاقِبُهُ علَى فِعْلِهِ هوَ سُبحانَهُ بهِ، أوْ ظَنَّ بهِ أنَّهُ يَجوزُ عليهِ أن يُؤَيِّدَ أعداءَهُ الكاذبينَ عليهِ بالْمُعجِزاتِ التي يُؤَيِّدُ بها أَنبياءَهُ ورُسُلَهُ ويُجْرِيها علَى أَيْدِيهم يُضِلُّونَ بها عِبادَهُ؛ وأنَّهُ يَحْسُنُ منهُ كلُّ شيءٍ حتَّى يُعَذِّبَ مَنْ أَفْنَى عُمُرَهُ في طَاعتِهِ فيُخَلِّدُهُ في الجحيمِ في أَسفلِ سَافلينَ، ويُنَعِّمُ مَن اسْتَنْفَذَ عُمُرَهُ في عَداوتِهِ وعَداوةِ رُسُلِهِ ودِينِهِ فيَرْفَعُهُ إلَى أعلَى عِلِّييِّنَ، وكِلا الأمرينِ في الْحُسْنِ سواءٌ عندَهُ؛ ولا يُعْرَفُ امتناعُ أحدِهما ووُقوعُ الآخَرِ إلاَّ بخَبَرٍ صادقٍ، وإلاَّ فالعقلُ لا يَقْضِي بقُبْحِ أحدِهما وحُسْنِ الآخَرِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أنَّهُ أَخْبَرَ عنْ نفسِهِ وصِفاتِهِ وأفعالِهِ بما ظاهِرُهُ باطلٌ وتَشبيهٌ وتَمثيلٌ، وتَرَكَ الحقَّ لم يُخْبِرْ بهِ وإنما رَمَزَ إليهِ رُموزًا بعيدةً، وأشارَ إليهِ إِشاراتِ مُلْغِزٍ ولم يُصَرِّحْ بهِ، وصَرَّحَ دائمًا بالتشبيهِ والتمثيلِ والباطلِ، وأَرادَ منْ خَلْقِهِ أن يُتْعِبُوا أَذهانَهم وقُوَاهُم وأفكارَهم في تَحريفِ كلامِهِ عنْ مَواضِعِهِ؛ وتأويلِهِ علَى غيرِ تأويلِهِ، ويَتَطَلَّبوا لهُ وُجوهَ الاحتمالاتِ الْمُسْتكْرَهَةِ، والتأويلاتِ التي هيَ بالألغازِ والأَحاجِي أَشْبَهُ منها بالكَشْفِ والبيانِ، وأَحالَهم في مَعرِفَةِ أسمائِهِ وصِفاتِهِ علَى عُقولِهم وآرائِهم لا علَى كِتابِهِ، بلْ أَرادَ منهم أن لا يَحْمِلوا كلامَهُ علَى ما يَعرفونَهُ منْ خِطابِهم ولُغَتِهم، معَ قُدْرَتِهِ علَى أن يُصَرِّحَ لهم بالحَقِّ الذي يَنْبَغِي التصريحُ بهِ، ويُرِيحَهم من الألفاظِ التي تُوقِعُهم في اعتقادِ الباطلِ فلم يَفْعَلْ؛ بلْ سَلَكَ بهم خِلافَ طريقِ الْهُدَى والبيان، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السوءِ، فإنَّهُ إنْ قالَ: إنَّهُ غيرُ قادرٍ علَى التعبيرِ عن الحقِّ باللفظِ الصريحِ الذي عَبَّرَ بهِ هوَ وسَلَفُهُ، فقدْ ظنَّ بقُدْرَتِهِ العَجْزَ، وإنْ قالَ: إنَّهُ قادرٌ ولم يُبَيِّنْ، وعَدَلَ عن البيانِ وعن التصريحِ بالحَقِّ إلَى ما يُوهِمُ؛ بلْ يُوقِع في الباطلِ الْمُحالِ والاعتقادِ الفاسدِ، فقدْ ظَنَّ بحِكمتِهِ ورَحْمَتِهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أنَّهُ وسَلَفَهُ عَبَّروا عن الحَقِّ بصَريحِهِ دونَ اللهِ ورسولِهِ، وأنَّ الْهُدَى والحَقَّ في كلامِهم وعِباراتِهم، وأمَّا كلامُ اللهِ فإنما يُؤْخَذُ منْ ظاهِرِهِ التشبيهُ والتمثيلُ والضلالُ وظاهِرُ كلامِ الْمُتَهَوِّكِينَ والْحَيارَى هوَ الْهُدَى والحَقُّ، فهذا منْ أسْوَأِ الظنِّ باللهِ.
فكلُّ هؤلاءِ من الظانِّينَ باللهِ ظَنَّ السَّوْءِ ومن الظانِّينَ باللهِ غيرَ الحقِّ ظَنَّ الجاهلِيَّةِ، ومَنْ ظَنَّ بهِ أنْ يكونَ في مُلْكِهِ ما لا يَشاءُ ولا يَقْدِرُ علَى إيجادِهِ وتكوينِهِ؛ فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ أنَّهُ كان مُعَطَّلاً من الأَزَلِ إلَى الأَبَدِ عنْ أن يَفعلَ، ولا يُوصَفُ حينئذٍ بالقُدرةِ علَى الفعلِ ثمَّ صارَ قادرًا عليهِ بعدَ أن لم يكنْ قادرًا؛ فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أنَّهُ لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ ولا يَعْلَمُ الْمَوجوداتِ، ولا عَدَدَ السماواتِ ولا النجومِ، ولا بَنِي آدَمَ وحَركاتِهم وأفعالَهم، ولا يَعْلَمُ شيئًا من الموجوداتِ في الأعيانِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أنَّهُ لا سَمْعَ لهُ ولا بَصَرَ ولا عِلْمَ ولا إرادةَ، ولا كلامَ يَقومُ بهِ، وأنَّهُ لا يُكلِّمُ أَحَدًا من الْخَلْقِ ولا يَتَكَلَّمُ أبدًا؛ ولا قالَ، ولا يَقولُ، ولا لهُ أَمْرٌ ولا نَهْيٌ يَقومُ بهِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أنَّهُ ليسَ فَوقَ سَماواتِهِ علَى عَرْشِهِ بائنًا منْ خَلْقٍ، وأنَّ نِسْبَةَ ذاتِهِ إلَى عَرْشِهِ كنِسبتِها إلَى أَسْفَلِ سَافلينَ، وإلَى الأَمْكِنَةِ التي يُرغَبُ عنْ ذِكْرِها؛ وأنَّهُ أَسْفَلُ كما أنَّهُ أَعْلَى؛ وأنَّ مَنْ قالَ: سُبحانَ رَبِّيَ الأَسْفَلِ كان كمَنْ قالَ: سُبحانَ رَبِّيَ الأَعْلَى. فقدْ ظَنَّ بهِ أَقْبَحَ الظَّنِّ وأَسْوَأَهُ.
ومَنْ ظَنَّ أنَّهُ يُحِبُّ الكُفْرَ والفُسوقَ والعِصيانَ، ويُحِبُّ الفَسادَ كما يُحِبُّ الإِيمانَ والْبِرَّ والطاعةَ والإِصلاحَ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أنَّهُ لا يُحِبُّ ولا يَرْضَى؛ ولا يَغْضَبُ ولا يَسْخَطُ، ولا يُوالِي ولا يُعَادِي، ولا يَقْرُبُ منْ أَحَدٍ منْ خَلْقِهِ؛ ولا يَقْرُبُ منهُ أَحَدٌ، وأنَّ ذواتِ الشياطينِ في الْقُرْبِ مِنْ ذاتِهِ كذَوَاتِ الملائكةِ الْمُقَرَّبِينَ وأوليائِهِ الْمُفْلِحِينَ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أنَّهُ يُسَوِّي بينَ الْمُتَضَادَّيْنِ؛ أوْ يُفَرِّقُ بينَ الْمُتَسَاوِيَيْنِ منْ كلِّ وَجْهٍ، أوْ يُحبِطُ طاعاتِ العُمُرِ الْمَديدِ الخالِصَةَ الصوابِ بكبيرةٍ واحدةٍ تكونُ بعدَها، فيُخَلِّدُ فاعلَ تلكَ الطاعاتِ في الجحيمِ أَبَدَ الآبدِينَ بتلكَ الكبيرةِ؛ ويُحْبِطُ بها جميعَ طاعاتِهِ ويُخَلِّدُهُ في العَذابِ كما يُخَلِّدُ مَنْ لم يُؤْمِنْ بهِ طَرْفةَ عَيْنٍ، واستَنْفَذَ ساعاتِ عُمُرِهِ في مَساخِطِهِ ومُعاداةِ رُسُلِهِ ودِينِهِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أنَّ لهُ وَلَدًا أوْ شريكًا، أوْ أنَّ أحدًا يَشْفَعُ عندَهُ بدُونِ إِذْنِهِ، أوْ أنَّ بينَهُ وبينَ خَلْقِهِ وَسائطَ يَرفعون حَوائِجَهم إليهِ، أوْ أنَّهُ نَصَبَ لعِبادِهِ أَولياءَ مِنْ دونِهِ يَتقرَّبون بهم إليهِ، ويَتَوَصَّلُون بهم إليهِ، ويَجْعَلونَهم وَسائطَ بينَهُ وبينَهم؛ فيَدْعُونَهم ويَخافونَهم ويَرْجُونَهم، فقدْ ظَنَّ بهِ أَقبحَ الظَّنِّ وأَسوأَهُ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أنَّهُ يُنَالُ ما عندَهُ بِمَعصِيَتِهِ ومُخالَفَتِهِ، كما يَنالُهُ بطَاعتِهِ والتَّقَرُّبِ إليهِ، فقدْ ظَنَّ بهِ خِلافَ حِكمتِهِ وخِلافَ مُوجَبِ أسمائِهِ وصِفاتِهِ، وهوَ مِنْ ظَنِّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أنَّهُ إذا تَرَكَ شيئًا لأَجْلِهِ لم يُعوِّضْهُ خيرًا منهُ، أوْ مَنْ فَعَلَ شيئًا لأَجْلِهِ لم يُعْطِهِ أَفْضَلَ منهُ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظنَّ بهِ أنَّهُ يَغْضَبُ علَى عَبْدِهِ ويُعاقِبُهُ ويُجَرِّمُهُ بغيرِ جُرْمٍ ولا سَببٍ من العَبْدِ إلاَّ بِمُجَرَّدِ الْمَشيئةِ ومَحْضِ الإرادةِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أنَّهُ إذا صَدَقَهُ في الرَّغْبَةِ والرَّهْبَةِ، وتَضَرَّعَ إليهِ وسَأَلَهُ، واستعانَ بهِ وتَوَكَّلَ عليهِ، أنَّهُ يُخَيِّبُهُ ولا يُعْطِيهِ ما سَأَلَهُ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ، وظَنَّ بهِ خِلافَ ما هوَ أَهْلُهُ.
ومَنْ ظَنَّ أنَّهُ يُثِيبُهُ إذا عَصَاهُ كما يُثيبُهُ إذا أَطَاعَهُ، وسألَهُ ذلكَ في دُعائِهِ، فقدْ ظَنَّ بهِ خِلافَ ما تَقتضِيهِ حِكْمَتُهُ وحَمْدُهُ، وخِلافَ ما هوَ أَهلُهُ وما لا يَفعلُهُ.
ومَنْ ظَنَّ بهِ أنَّهُ إذا أَغضبَهُ وأَسْخَطَهُ وأَوْضَعَ في مَعاصِيهِ ثمَّ اتَّخَذَ منْ دُونِهِ أَولياءَ، ودَعَا مِنْ دُونِهِ مَلَكًا، أوْ بَشَرًا حَيًّا أوْ مَيِّتًا، يَرْجُو بذلكَ أن يَنْفَعَهُ عندَ رَبِّهِ، ويُخَلِّصَهُ منْ عَذابِهِ، فقدْ ظَنَّ بهِ ظَنَّ السَّوْءِ.
فأَكْثَرُ الخلْقِ بلْ كلُّهم - إلاَّ مَنْ شاءَ اللهُ - يَظُنُّونَ باللهِ غيرَ الحَقِّ وظَنَّ السَّوْءِ، فإنَّ غالِبَ بني آدَمَ يَعْتَقِدُ أنَّهُ مَبخوسُ الحَقِّ ناقصُ الْحَظِّ؛ وأنَّهُ يَسْتَحِقُّ فوقَ ما شاءَهُ اللهُ وأَعطاهُ، ولِسانُ حالِهِ يَقولُ: ظَلَمَنِي رَبِّي ومَنَعَنِي ما أَسْتَحِقُّهُ، ونَفْسُهُ تَشهَدُ عليهِ بذلكَ؛ وهوَ بلسانِهِ يُنْكِرُهُ ولا يَتجاسَرُ علَى التصريحِ بهِ.
ومَنْ فتَّشَ نفسَهُ وتَغَلْغَلَ في مَعرِفَةِ طَواياها رأَى ذلكَ فيها كامنًا كُمونَ النارِ في الزِّنادِ، فاقْدَحْ زِنادَ مَنْ شِئْتَ يُنْبِئْكَ شَرَارُهُ عمَّا في زِنادِهِ، ولوْ فَتَّشْتَ مَنْ فتَّشْتَ لَرَأَيتَ عندَهُ تَعَنُّتًا علَى القَدَرِ، ومُلامةً لهُ، واقْتراحًا عليهِ خِلافَ ما جَرَى بهِ، وأنَّهُ كان يَنْبَغِي أن يكونَ كذا وكذا، فمُستَقِلٌّ ومُسْتَكْثِرٌ، وفَتِّشْ نفسَكَ: هلْ أنت سالِمٌ؟)

فإنْ تَنْجُ منها تَنْجُ منْ ذي عَظيمةٍ = وَإلاَّ فـــإنِّي لا إخــالــُكَ نـــــاجِيَا

فلْيَعْتَنِ اللبيبُ الناصِحُ لنفسِهِ بهذا الْمَوْضِعِ، ولْيَتُبْ إلَى اللهِ ويَستغْفِرْهُ في كلِّ وَقتٍ مِنْ ظَنِّهِ برَبِّهِ ظَنَّ السَّوْءِ، ولِيَظُنَّ السُّوءَ بنفسِهِ التي هيَ مَأْوَى كلِّ سُوءٍ، ومَنْبَعُ كلِّ شَرٍّ، الْمُرَكَّبَةُ علَى الْجَهلِ والظُّلْمِ، فهيَ أَوْلَى بظَنِّ السَّوْءِ منْ أَحكَمِ الحاكمينَ، وأَعْدَلِ العادلينَ، وأَرحمِ الراحمينَ، الْغَنِيِّ الحميدِ، الذي لهُ الْغِنَى التامُّ، والحمْدُ التامُّ، والحكمةُ التامَّةُ، الْمُنَزَّهُ عنْ كلِّ سُوءٍ في ذاتِهِ وصِفاتِهِ، وأفعالِهِ وأسمائِهِ، فذَاتُهُ لها الكَمالُ الْمُطْلَقُ منْ كلِّ وَجهٍ، وصِفاتُهُ كذلكَ، وأَفعالُهُ كلُّها حِكمةٌ ومَصلحةٌ ورَحمةٌ وعَدْلٌ، وأسماؤُهُ كلُّها حُسْنَى.

فـــلا تــَظـْنـُنْ بـرَبِّكَ ظــَنَّ سَوْءٍ = فــإنَّ الـــلـــهَأَوْلــــَى بـالــــجَمِيلِ

ولا تــَظــْنـُنْ بنــفسِكَ قطُّ خيرًا = فــكـيـفَبـظـالـِمٍ جـانٍ جـَهولِ

وقــُلــْ:يــا نفسُ مَأْوَى كلــِّ سَوْءٍ = أَتـَرْجـُو الـخـيـرَ منْ مَيْتٍ بَخـيلِ

وظـُنَّ بنـفسِكَ السُّوأَى تَجِدْها = كــذاكَ وخـَيـْرُها كـــالمستحيلِ
ومــابـكَ مــنْ تـُقـًى فيها وخَيْرٍ = فـتــلـكَمـَواهِبُ الـربِّ الـجلـيلِ
ولــيـسَلـــهـا ولا مـنـهـا ولــكنْ = من الرحـمــنِ فاشْكُرْ لـلـدَّلـِيلِ)


قولُهُ: {الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ} قالَ ابنُ جَريرٍ في تفسيرِهِ: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ}: الظَّانِينَ باللهِ أن لن يَنْصُرَكَ وأهلَ الإيمانِ بكَ علَى أعدائِكَ، ولن يُظهِرَ كلِمَتَهُ فيَجْعَلَها العُلْيَا علَى كَلمةِ الكافرينَ بهِ، وذلكَ كانَ السَّوْءُ منْ ظُنُونِهم التي ذَكَرَها اللهُ في هذا الْمَوْضِعِ.

يقولُ تعالَى ذِكْرُهُ: علَى المنافقينَ والمنافقاتِ والمشرِكينَ والمشرِكاتِ -الذينَ ظَنُّوا هذا الظنَّ- دائرةُ السَّوْءِ؛ يعني دائرةَ العذابِ تَدورُ عليهم بهِ. واخْتَلَفَت الْقُرَّاءُ في قِراءةِ ذلكَ: فقَرأَتْهُ عامَّةُ قُرَّاءِ الكُوفةِ {دَائِرَةُ السَّوْءِ} بفَتْحِ السينِ، وقَرَأَ بعضُ قُرَّاءِ البصرةِ {دَائِرَةُ السُّوءِ} بالضَّمِّ.

وكان الفَرَّاءُ يَقولُ: (الفَتْحُ أَفْشَى في السينِ، وقَلَّما تَقولُ العربُ: (دائرةُ السُّوءِ) بضَمِّ السينِ).

قولُهُ: {وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ} يَقُولُ: ونالَهم اللهُ بغَضَبٍ منهُ {ولَعَنَهم} يقولُ: وأَبْعَدَهم فأَقْصَاهُمْ منْ رَحْمَتِهِ، {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} يقولُ: وأَعَدَّ لهم جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يومَ القِيامةِ، {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} يَقولُ: وساءَتْ جَهَنَّمُ مَنْزِلاً يَصيرُ إليهِ هؤلاءِ المنافقون والمنافقاتُ، والْمُشرِكون والْمُشركاتُ.
وقالَ العِمادُ ابنُ كثيرٍ: ({ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ } أيْ يَتَّهِمُونَ اللهَ في حُكْمِهِ، ويَظُنُّونَ بالرسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأصحابِهِ أن يُقْتَلُوا ويَذْهَبوا بالْكُلِّيَّةِ؛ ولهذا قالَ تعالَى: { عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ }) وذَكَرَ في معنَى الآيَةِ الأُخْرَى نَحْوًا مِمَّا ذَكَرَهُ ابنُ جَريرٍ، رَحِمَهما اللهُ تعالَى.
قَوْلُهُ: (قَالَ ابْنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى...): الذِي ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ في المَتْنِ قَدَّمْتُهُ؛ لاِنْدِرَاجِهِ في كَلاَمِهِ الذِي سُقْتُهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَى آخِرِهِ.

هيئة الإشراف

#4

2 Nov 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1) {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الحَقِّ ظَنَّ الجَاهِلِيَّةِ} وذلكَ أَنَّه لا يَتِمُّ للعبدِ إيمانٌ ولا توحيدٌ حتى يعتَقِدَ في جميعِ ما أخبرَ اللهُ به من أسمائِه وصفاتِه وكمالِه، وتصديقِه بكلِّ ما أخبرَ اللهُ بِهِ مِن أسمائِه وصفاتِه وكمالِه، وتصديقِه بكُلِّ ما أخبرَ بِهِ، وأَنَّه يفعَلُه، وما وَعَدَ به مِن نصرِ الدِّينِ، وإحقاقِ الحقِّ، وإبطالِ الباطلِ، فاعتقادُ هذا مِن الإِيمانِ، وطُمَأْنينَةُ القلْبِ بذلِكَ مِن الإِيمانِ.

وكلُّ ظَنٍّ يُنافي ذلك فإنَّه مِن ظنونِ الجاهليَّةِ المنافيةِ للتَّوْحِيدِ؛

لأنَّها سوءُ ظنٍّ باللهِ، ونفيٌ لكمالِه ، وتكذيبٌ لخبرِه، وشكٌّ في وَعْدِه. واللهُ أعلمُ.

هيئة الإشراف

#5

2 Nov 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ((1) قولُهُ تعالَى: {يَظُنُّونَ}الضَّميرُ يعودُ للمنافقينَ، والأصلُ في الظّنِّ: أنَّهُ الاحتمالُ الرَّاجحُ، وقدْ يُطلَقُ علَى اليقينِ، كما في قولِهِ تعالَى: {الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو رَبِّهِمْ} أيْ: يَتَيَقَّنونَ، وضدُّ الرَّاجحِ الْمَرجُوحُ، ويُسمَّى وَهْمًا.

قولُهُ: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} عطفُ بيانٍ لقولِهِ: {غَيْرَ الْحَقِّ}، و {الْجَاهِلِيَّةِ}: الحالُ الجاهليَّةُ، والمعنَى: يظنُّونَ باللهِ ظنَّ الحالِ الجاهليَّةِ الَّتي لا يَعْرِفُ الظَّانُّ فيها قدْرَ اللهِ وعَظَمَتَهُ، فهوَ ظنٌّ باطلٌ مبنيٌّ علَى الجهلِ.

والظَّنُّ باللهِ عزَّ وجلَّ علَى نوعينِ:

الأوَّلُ: أنْ يَظُنَّ باللهِ خيرًا.

والثَّاني: أنْ يَظُنَّ باللهِ شرًّا.

فالأوَّلُ لهُ متعلِّقانِ:

أحدهما: متعلِّقٌ بالنِّسبةِ لما يفعلُهُ في هذا الكونِ، فهذا يجبُ عليكَ أنْ تُحْسِنَ الظَّنَّ باللهِ عزَّ وجلَّ فيما يفعلُهُ سبحانَهُ وتعالَى في هذا الكونِ، وأنْ تعتقدَ أنَّ ما فعلَهُ إنَّما هوَ لحكمةٍ بالغةٍ قدْ تصلُ العقولُ إليها وقدْ لا تصلُ، وبهذا تَتَبَيَّنُ عظمةُ اللهِ وحكمتُهُ في تقديرِهِ، فلا يُظَنُّ أنَّ اللهَ إذا فعل شيئًا في الكونِ فعلَهُ لإرادةٍ سيِّئةٍ، حتَّى الحوادثَ والنَّكَباتِ لم يُحْدِْثها اللهُ لإرادةِ السُّوءِ المتعلِّقِ بفعلِهِ، أمَّا المتعلِّقُ بغيرِهِ بأنْ يُحْدِثَ ما يريدُ بهِ أنْ يَسُوءَ هذا الغيرَ، فهذا واقعٌ، كما قالَ تعالَى: {قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً}.

والآخر: متعلِّقٌ بالنِّسبةِ لما يفعلُهُ بكَ، فهذا يجبُ أنْ تَظُنَّ باللهِ أحسنَ الظَّنِّ، لكن بشرطِ أن يُوجَدَ لديكَ السَّببُ الَّذي يُوجِبُ الظَّنَّ الحسنَ، وهوَ أن تعبدَ اللهَ علَى مقتضَى شريعتِهِ معَ الإخلاصِ، فإذا فَعَلْتَ ذلكَ فعليكَ أن تَظُنَّ أنَّ اللهَ يقبلُ منكَ ولا تُسِيءَ الظَّنَّ باللهِ بأنْ تعتقدَ أنَّهُ لن يَقْبَلَ منكَ، وكذلكَ إذا تابَ الإنسانُ من الذَّنبِ، فيُحْسِنُ الظَّنَّ باللهِ أنَّهُ يَقْبَلُ منهُ ولا يُسِيءُ الظَّنَّ باللهِ بأنْ يعتقدَ أنَّهُ لا يقبلُ منهُ.

وأمَّا إنْ كانَ الإنسانُ مُفَرِّطًا في الواجباتِ، فاعلاً للمحرَّماتِ، وظنَّ باللهِ ظنًّا حسنًا، فهذا هوَ ظنُّ الْمُتَهَاوِنِ الْمُتَهالِكِ، بلْ هوَ منْ سوءِ الظَّنِّ باللهِ؛ إذ إنَّ حكمةَ اللهِ تَأْبَى مثلَ ذلكَ.

أما النَّوعُ الثَّاني: فهوَ أن يَظُنَّ باللهِ شرًّا، مثلُ: أنْ يَظُنَّ في فعلِهِ سَفَهًا أوْ ظلمًا، أوْ نحوَ ذلكَ، فإنَّهُ منْ أعظمِ المحرَّماتِ وأقبحِ الذُّنوبِ، كما ظنَّ هؤلاء المنافقونَ وغيرُهم ممَّنْ يَظُنُّ باللهِ غيرَ الحقِّ.

قولُهُ: {يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ} مُرادُهم بذلكَ أمرانِ:

الأوَّلُ: رفعُ اللومِ عنْ أنفسِهِم.

الثَّاني: الاعتراضُ علَى القدَرِ.

وقولُهُ: {لنا} خبرٌ مقدَّمٌ.

وقولُهُ: {منْ شيءٍ} مبتدأٌ مؤخَّرٌ مرفوعٌ بالضَّمَّةِ المقدَّرةِ علَى آخرِهِ، منَع منْ ظهورِهَا اشتِغالُ الْمَحَلِّ بحركةِ حرفِ الجرِّ الزَّائدِ.

قولُهُ: {قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ للهِ} أيْ: فإذا كانَ كذلكَ فلا وجهَ لاحتجاجِكُم علَى قضاءِ اللهِ وقدرِهِ، فاللهُ عزَّ وجلَّ يفعلُ ما يشاءُ من النَّصرِ والخِذْلانِ.
وقولُهُ: {إِنَّ الأَمْرَ} واحدُ الأمورِ، لا واحدُ الأوامرِ؛ أي: الشَّأنُ كلُّ الشَّأنِ الَّذي يتعلَّقُ بأفعالِ اللهِ وأفعالِ المخلوقين كلُّهُ للهِ سبحانَهُ، فهوَ الَّذي يُقَدِّرُ الذُّلَّ والعزَّ، والخيرَ والشَّرَّ، لكنَّ الشَّرَّ في مفعولاتِهِ لا في فعلِهِ.
قولُهُ: {يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ} فمِنْ شأنِ المنافقينَ عدمُ الصَّراحةِ والصِّدقِ، فَيُخْفِي في نفسِهِ ما لا يُبْدِيهِ لغيرِهِ؛ لأنَّهُ يرَى منْ جُبنِهِ وخوفِهِ أنَّهُ لوْ أخبرَ بالحقِّ لكانَ فيهِ هلاكُهُ، فهوَ يُخْفِي الكفرَ والفسوقَ والعصيانَ.
قولُهُ: {مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} أيْ: في أُحُدٍ، والمُرادُ بمَنْ قُتِلَ: مَن اسْتُشْهِدَ من المسلمينَ في أُحُدٍ؛ لأنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ رَجَعَ بنحوِ ثُلُثِ الجيشِ في غزوةِ أُحُدٍ وقال: إنَّ محمَّدًا يَعصِينِي ويُطِيعُ الصِّغارَ والشُّبَّانَ.
قولُهُ: {قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ} هذا الاحتجاجُ لا حقيقةَ لهُ؛ لأنَّهُ إذا كُتِبَ القتلُ علَى أحدٍ لمْ ينفعْهُ تَحَصُّنُهُ في بيتِهِ.

والكتابةُ قسمانِ:

الأول: الكتابةُ الشرعيَّةُ: وهذه لا يَلْزَمُ منها وقوعُ المكتوبِ، مثلُ قولِهِ تعالَى: {إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا} وقولِهِ: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}.

الثاني: الكتابةُ كونيَّةُ: وهذه يَلْزَمُ منها وقوعُ المكتوبِ، كما في هذه الآيَةِ، ومثلُ قولِهِ تعالَى: {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ}، وقولِهِ: {كَتَبَ اللهُ لأََغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} ومثلُ هذه الآيَةِ قولُهُ: {وَلِيَبْتَلِيَ اللهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ} أيْ: يختبرَ ما في صدورِكُمْ من الإيمانِ بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ، والإيمانِ بحكمتِهِ، فيختبرَ ما في قلبِ العبدِ بما يُقدِّرُهُ عليهِ من الأمورِ المكروهةِ حتَّى يتبيَّنَ مَن استَسْلمَ لقضاءِ اللهِ وقدرِهِ وحكمتِهِ، ممَّنْ لم يكنْ كذلكَ.

قولُهُ: {وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ} أيْ: إذا حصلَ الابتلاءُ فقوبِلَ بالصَّبرِ صارَ في ذلكَ تمحيصٌ لِمَا في القلبِ، أيْ: تطهيرٌ لهُ وإزالةٌ لِمَا يكونُ قدْ علِقَ بهِ منْ بعضِ الأمورِ الَّتي لا تنبغِي.
وقدْ حصلَ الابتلاءُ والتَّمحيصُ في قصَّةِ أُحُدٍ، بدليلِ أنَّ الصَّحابةَ لَمَّا ندبَهُم رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم حينَ قِيلَ لهُ: {إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} خرَجوا إلَى حَمْراءَ الأَسَدِ ولم يَجِدوا غَزْوًا فرجَعُوا: {فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللهِ وَاللهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ}.
قولُهُ: {وَاللهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ} جملةٌ خبريَّةٌ فيها إثباتُ أنَّ اللهَ عليمٌ بذاتِ الصُّدورِ؛ أيْ: بصاحبةِ الصُّدورِ، والمُرادُ بها القلوبُ، كما قالَ تعالَى: {فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَـكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ} فاللهُ لا يَخْفَى عليهِ شيءٌ فيَعْلَمُ ما في قلبِ العبدِ وما ليسَ في قلبِهِ، متَى يكونُ، وكيفَ يكونُ؟
(2) قولُهُ تعالَى: {الظَّانِّينَ} المُرادُ بهم: المنافقونَ والمشركونَ، قالَ تعالَى: {وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ} أيْ: ظنَّ العيبِ، وهوَ كقولِهِ فيما سبقَ: {ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} ومنهُ ما نقلَهُ المؤلِّفُ عن ابنِ القيِّمِ رحمَهُمَا اللهُ: أنَّهم يَظُنُّونَ أنَّ أمرَ الرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم سيَضْمَحِلُّ، وأنَّهُ لا يمكنُ أنْ يعودَ، وما أشبهَ ذلكَ.
قولُهُ: {عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ} أيْ: أنَّ السَّوْءَ محيطٌ بهم جميعًا منْ كلِّ جانبٍ، كما تحيطُ الدَّائرةُ بما في جوفِهَا، وكذلكَ تدورُ عليهم دوائرُ السَّوْءِ، فهم - وإنْ ظنُّوا أنَّهُ تعالَى تخلَّى عنْ رسولِهِ، وأنَّ أمرَهُ سيضمحِلُّ - فإنَّ الواقعَ خلافُ ظنِّهِم، وأنَّ الدَّائرةَ راجعةٌ عليهم.

قولُهُ: {وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِمْ}الغضبُ:منْ صفاتِ اللهِ الفعليَّةِ الَّتي تتعلَّقُ بمشيئتِهِ ويترتَّبُ عليهِ الانتقامُ، وأهلُ التَّعطيلِ قالوا: إنَّ اللهَ لا يغضبُ حقيقةً.
فمنهم مَنْ قالَ: المُرادُ الانتقامُ، ومنهم مَنْ قالَ: المُرادُ إرادةُ الانتقامِ، قالوا: لأنَّ الغضبَ غَلَيانُ القلبِ لطلبِ الانتقامِ، ولهذا قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم:

((إِنَّهُ جَمْرَةٌ يُلْقِيهَا الشَّيْطَانُ فِي قَلْبِ ابْنِ آدَمَ)).

فيُجابُ عنْ ذلكَ: بأنَّ هذا هوَ غضبُ الإنسانِ، ولا يلزمُ من التَّوافقِ في اللفظِ التَّوافقُ في المثليَّةِ والكيفيَّةِ، قالَ تعالَى: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} ويدلُّ علَى أنَّ الغضبَ ليسَ هوَ الانتقامَ قولُهُ تعالَى: {فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فآسَفُونا: بمعنَى أغْضَبونا (غضباً شديداً)، {انتَقَمْنَا مِنْهُمْ} فجعلَ الانتقامَ مرتَّبًا علَى شدةِ الغضبِ، فدلَّ علَى أنَّهُ غيرُهُ.
وقولُهُ: {وَلَعَنَهُمْ}اللعنُ: الطَّردُ والإبعادُ عنْ رحمةِ اللهِ.
قولُهُ: {وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ} أيْ: هيّأهَا لهم، وجعلَهَا سَكَنًا لهم.

قولُهُ: {وَسَاءَتْ مَصِيرًا} أيْ: مَرْجِعًا يُصارُ إليهِ، و {مصيرًا} تمييزٌ، والفاعلُ مستترٌ؛ أيْ: ساءَت النَّارُ مصيرًا يصيرونَ إليهِ.
(3) قولُهُ: (قالَ ابنُ القَيِّمِ): (هوَ محمَّدُ ابنُ قيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ، أحدُ تلاميذِ شيخِ الإسلامِ ابنِ تيميَّةَ الكبارِ الْمُلاَزِمينَ لهُ، رَحِمَهما اللهُ، وقدْ ذَكَرَهُ في (زادِ المعادِ) عَقِيبَ غزوةِ أُحُدٍ تحتَ بحثِ (الحكمِ والغاياتِ المحمودةِ التي كانَتْ فيها).
(4) قولُهُ: (في الآيَة الأولَى) يعني قولَهُ: {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ} فُسِّر بأنَّ اللهَ لا يَنْصُرُ رسولَهُ، وأنَّ أمرَهُ سيَضْمَحِلُّ أيْ: يزولُ، وفُسِّرَ بأنَّ ما أصابَهُ لم يكنْ بقدرِ اللهِ وحكمتِهِ، ويُؤْخَذُ هذا التَّفسيرُ منْ قولِهِم: {لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَا هُنَا} ففُسِّرَ بإنكارِ الحكمةِ، وإنكارِ القدرِ، وإنكارِ أن يتمَّ أمرُ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم، وأنْ يُظهرَهُ اللهُ علَى الدِّينِ كلِّهِ، ففُسِّرَ بما يكونُ طعنًا في الرُّبوبيَّةِ، وطعنًا في الأسماءِ والصِّفاتِ، فالطَّعنُ في القدَرِ طعنٌ في ربوبيَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ؛ لأنَّ منْ تمامِ ربوبيَّتِهِ عزَّ وجلَّ أنْ نؤمنَ بأنَّ كلَّ مَا جَرَى في الكونِ فإنَّهُ بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ، وطعنٌ في أفعالِهِ وحكمتِهِ، حيثُ ظُنَّ أنَّ اللهَ تعالَى لا ينصرُ رسولَهُ، وسوف يَضْمَحِلُّ أمرُهُ؛ لأنَّهُ إذا ظنَّ الإنسانُ هذا الظَّنَّ باللهِ فمعنَى ذلكَ أنَّ إرسالَ الرَّسولِ عَليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامْ عَبَثٌ وسَفَهٌ.
فما الفائدةُ منْ أن يُرسَلَ رسولٌ ويؤمَرَ بالقتالِ وإتلافِ الأموالِ والأنفسِ، ثمَّ تكونُ النَّتيجةُ أن يضمحلَّ أمرُهُ ويُنسَى، فهذا بعيدٌ، ولا سيَّما رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسلَّم الَّذي هوَ خاتَمُ النَّبيِّينَ، فإنَّ اللهَ تعالَى قدْ أذِنَ بأنَّ شريعتَهُ سوفَ تَبْقَى إلَى يومِ القيامةِ.

قالَ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ: (وهذا هوَ ظنُّ السَّوْءِ الَّذي ظنَّهُ المنافقونَ والمشركونَ في سورةِ الفتحِ).

وخلاصةُ ما ذكرَ ابنُ القيِّمِ في تفسيرِ (ظنِّ السَّوْءِ) ثلاثةُ أمورٍ:

الأوَّلُ: أنْ يُظَنَّ أنَّ اللهَ يُديلُ الباطلَ علَى الحقِّ إِدالَةً مُستقرَّةً يَضْمَحِلُّ معها الحقُّ،فهذا هوَ ظنُّ المشركينَ والمنافقينَ في سورةِ الفتحِ، قالَ تعالَى: {بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا}.

الثَّاني: أن يُنْكَرَ أنْ يكونَ ما جَرَى بقضاءِ اللهِ وقدرِهِ؛ لأنَّهُ يَتَضَمَّنُ أنْ يكونَ في مُلكِهِ سبحانه ما لا يريدُ، معَ أنَّ كلَّ ما يكونُ في مُلكِهِ فهوَ بإرادتِهِ.

الثَّالثُ: أن يُنْكَرَ أنْ يكونَ قدَّرَهُ لحكمةٍ بالغةٍ يستحقُّ عليها الحمدَ؛ لأنَّ هذا يتضمَّنُ أنْ تكونَ تقديراتُهُ لعبًا وسفهًا، ونحن نعلمُ علمَ اليقينِ أنَّ اللهَ لا يُقدِّرُ شيئًا أوْ يُشرِّعُهُ إلاَّ لِحكمةٍ قدْ تكونُ معلومةً لنا وقدْ تَقْصُرُ عقولُنَا عنْ إدراكِهَا، ولهذا يختلفُ النَّاسُ في عللِ الأحكامِ الشَّرعيَّةِ اختلافًا كبيرًا بحسَبِ ما عندَهُم منْ معرفةِ حكمةِ اللهِ سبحانَهُ وتعالَى.

قولُهُ: {فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ} ويلٌ: مبتدأٌ، وساغَ الابتداءُ بالنَّكرةِ للتَّعظيمِ، وخبرُ المبتدأِ {لِلَّذِينَ كَفَرُوا} والجارُّ والمجرورُ {مِنَ النَّارِ} بيانٌ لويلٍ، وفي هذا دليلٌ علَى أنَّ كلمةَ (ويل) كلمةُ وعيدٍ، وليست كما قِيلَ: وادٍ في جهنَّمَ، ولهذا نقولُ: ويْلٌ لكَ من البردِ، ويلٌ لكَ منْ فلانٍ، ويقولُ المتوَجِّعُ: ويْلاهُ، وإنْ كانَ قدْ يوجدُ وادٍ في جهنَّمَ اسمُهُ (ويلٌ) لكنَّ (ويل) في مِثلِ هذه الآيَةِ كلمةُ وعيدٍ.
(5) قولُهُ: ((وَأَكثَرُ النَّاسِ)) أيْ: مِنْ بني آدمَ لا مِن المؤمنينَ، وقولُهُ: {يَظُنُّونَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ} أي: العيبِ فيما يختصُّ بهم، كما إذا دعَوا اللهَ علَى الوجهِ المشروعِ يظنُّونَ أنَّ اللهَ لا يجيبُهُم، أوْ إذا تعبَّدوا اللهَ بمقتضَى شريعتِهِ يظنُّونَ أنَّ اللهَ لا يقبلُ منهم وهذا ظنُّ السَّوءِ.
قولُهُ: ((فيما يفعلُهُ بغيرِهِم)) كما إذا رأَوا أنَّ الكفَّارَ انْتَصَروا علَى المسلمينَ بمعركةٍ من المعاركِ ظنُّوا أنَّ اللهَ يُدِيلُ هؤلاءِ الكفَّارَ علَى المسلمينَ دائمًا، فالواجبُ علَى المسلمِ أنْ يُحْسِنَ الظَّنَّ باللهِ؛ معَ وجودِ الأسبابِ الَّتي تقتضي ذلكَ.
قولُهُ: ((ولا يَسْلَمُ مِنْ ذلِكَ)) أيْ: مِن الظَّنِّ السَّوْءِ.
قولُهُ: ((إِلا مَنْ عَرَفَ اللهَ وأسماءَهُ وصفاتِهِ، وموجَبَ حكْمَتهِ وحمْدِهِ)) صدقَ رحمَهُ اللهُ، لا يَسْلَمُ مِنْ ظَنِّ السَّوْءِ إلاَّ منْ عَرَفَ اللهَ عزَّ وجلَّ، وما لهُ من الحِكَمِ والأسرارِ فيما يُقَدِّرُهُ ويُشَرِّعُهُ، وكذلكَ عرَفَ أسماءَهُ وصفاتِهِ معرفةً حَقَّةً لا معرفةَ تحريفٍ وتأويلٍ.
وعلَى هذا فالَّذي عرفَ أسماءَ اللهِ وصفاتِهِ معرفةً علَى ما جرَى عليهِ سلفُ هذه الأمَّةِ وأئمَّتُها، وعَرَفَ مُوجَبَ حكمةِ اللهِ، أيْ: مقتَضَى حكمةِ اللهِ لا يمكنُ أنْ يظنَّ باللهِ ظنَّ السَّوءِ.
وقولُهُ: ((مُوجَبَ)) موجَبٌ بالفتحِ هوَ: الْمُسَبَّبُ النَّاتجُ عن السَّبَبِ بمعنَى المُقْتَضَى، وبالكسرِ السَّببُ الَّذي يَقتَضِي الشَّيءَ بمعنَى الْمُقتَضِي.
فالَّذي يعرفُ موجَبَ حكمةِ اللهِ وما تقتضيهِ الحكمةُ، فإنَّهُ لا يمكنُ أنْ يظنَّ باللهِ ظنَّ السَّوءِ أبدًا، ولاحِظِ الحكمةَ الَّتي حصَلَتْ للمسلمينَ في هزيمتِهِم في حُنينٍ وفي هزيمتِهِم في أُحُدٍ، فإنَّ في ذلكَ حِكَمًا عظيمةً ذكَرَها اللهُ في سورةِ آلِ عمرانَ والتوبةِ، فهذه الحِكَمُ إذا عرفَهَا الإنسانُ لا يمكنُ أنْ يظنَّ باللهِ ظنَّ السَّوءِ، وأنَّهُ أرادَ أنْ يَخْذُلَ رسولَهُ وحِزْبَهُ.
بلْ كلُّ ما يُجْرِيهِ اللهُ في الكونِ كمنعِ الإنباتِ والفقرِ فهوَ لحكمةٍ بالغةٍ قدْ لا نعلمُهَا، ولا يمكنُ أن يُظَنَّ أنَّ اللهَ بَخِلَ علَى عبادِهِ؛ لأنَّهُ عزَّ وجلَّ أكرمُ الأكرمينَ، وعلَى هذا فقِسْ.
(6) قولُهُ: ((اللَّبِيبُ)) علَى وزنِ (فعيلٍ) ومعناهُ: ذُو اللُّبِّ، وهوَ العقلُ.
قولُهُ: ((بهذا)) المُشارُ إليهِ هوَ الظَّنُّ باللهِ عزَّ وجلَّ، ليعتنيَ بهذا حتَّى يظنَّ باللهِ ظنَّ الحقِّ، لا ظنَّ السَّوءِ وظنَّ الجاهليَّةِ.
قولُهُ: ((ولْيَتُبْ إلَى اللهِ)) أيْ: يرجعُ إليهِ؛ لأنَّ التَّوبةَ الرُّجوعُ من المعصيَةِ إلَى الطَّاعةِ.
قولُهُ: ((وليَسْتغْفِرْهُ)) أيْ: يطلبُ منهُ المغفرةَ، واللامُ في قولِهِ: (وَلْيَتُبْ) وقولِهِ: (وَليَسْتَغْفِرْهُ) للأمرِ.
(7) قولُهُ: ((تَعنُّتًا علَى القَدَرِ وملامَةً لهُ)) أيْ: إذا قدَّرَ اللهُ شيئًا تجدُهُ يقولُ: ينبغِي أنْ ننتصرَ، ينبغي أنْ يأتيَ المطرُ، ينبغي أنْ لا نُصابَ بالْجَوائِحِ، وأنْ يُوَسَّعَ لنا في هذا الرِّزقِ، وهكذا.
قولُهُ: ((فمُستَقِلٌّ ومُستَكْثِرٌ)) مستقلٌّ: مبتدأٌ، خبرُهُ محذوفٌ، ومُسْتَكْثِرٌ: مبتدأٌ خبرُهُ محذوفٌ، والتَّقديرُ فَمِنَ النَّاسِ مُسْتَقِلٌّ، ومنهم مستكثرٌ، ونظيرُ ذلكَ قولُهُ تعالَى: {فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} فسعيدٌ مبتدأٌ، خبرُهُ محذوفٌ تقديرُهُ: ومنهم سعيدٌ، ولا يُقالُ بأنَّ (سعيد) معطوفٌ علَى شقيٍّ لكونِهِ يلزمُ أنْ يكونَ الوصفانِ لموصوفٍ واحدٍ.
قولُهُ: ((وفتِّشْ نَفْسَكَ: هَلْ أَنْتَ سالِمٌ؟)) وهذا ينبغي أنْ يكونَ في جميعِ المسائلِ ممَّا أوجبَهُ اللهُ، فتِّشْ عنْ نفسِكَ: هلْ أنتَ سالمٌ من التَّقصيرِ فيهِ؟
وممَّا حرَّمهُ اللهُ عليكَ، هلْ أنت سالمٌ من الوقوعِ فيهِ؟

(8) قولُهُ: فـَإِنْ تـَنـْجُ مـِنــْهـا تــَنـــْجُ مــِنْ ذِي عَظِيمــَةٍ ......................

(تَنْجُ) -الأوَّلُ- فعلُ الشَّرطِ مجزومٌ بحذفِ الواوِ، (تَنْجُ) - الثَّانيَةُ - جوابُهُ مجزومٌ بحذفِ الواوِ.

وقولُهُ: ((مِنْ ذي عظيمةٍ)) أيْ: منْ ذي بَلِيَّةٍ عظيمةٍ، أوْ نحوِهَا.

قولُهُ: ................ .... وإِلاَّ فــــَإِنــــي لا إخــــَالــــُكَ نـــــــَاجِيًا

التَّقديرُ: أيْ: وإلاَّ تنجُ منْ هذه البليَّةِ فإنِّي لا إخالُكَ ناجيًا.

(9) فيهِ مسائلُ:

الأولَى: (تفسيرُ آيَةِ آلِ عِمرانَ) وهي قولُهُ تعالَى: {يَظُنُّونَ بِاللهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ..} وقدْ سبقَ، والضَّميرُ فيها للمنافقينَ.

(10) الثانيَةُ: (تفسيرُ آيَةِ الفَتْحِ) وهي قولُهُ تعالَى: {الظَّانِّينَ بِاللهِ ظَنَّ السَّوْءِ..} وقدْ سبقَ، والضَّميرُ فيها للمنافقينَ.

(11) الثالثةُ: (الإخبارُ بأنَّ ذلِكَ أنواعٌ لا تُحْصَرُ) أيْ: ظنُّ السَّوْءِ، والَّذي أخبرَ بذلكَ ابنُ القيِّمِ رحمَهُ اللهُ، وضابطُ هذه الأنواعِ أن يُظَنَّ باللهِ ما لا يَلِيقُ بهِ.

(12) الرابِعةُ: (أنَّه لا يَسْلَمُ مِنْ ذلِكَ إلاَّ مَنْ عَرَفَ الأسماءَ والصِّفاتِ، وعرَفَ نَفْسَهُ) أيْ: لا يَسْلَمُ مِنْ ظَنِّ السَّوْءِ باللهِ، إلاَّ مَنْ عَرَفَ اللهَ وأسماءَهُ وصفاتِهِ، وموجَبَ حكمتِهِ وحمدِهِ، وعَرَفَ نفسَهُ ففَتَّشَ عنها، والحقيقةُ أنَّ الإنسانَ هوَ محلُّ النَّقصِ والسَّوءِ، وأمَّا الرَّبُّ فهوَ محلُّ الكمالِ المطلَقِ الَّذي لا يَعْتَرِيهِ نقصٌ بوجهٍ من الوجوهِ:

ولا تَظْنُنْ بِربِّكَ ظَنَّ سَوْءٍ فإنَّ الـلــهَ أَوْلـَى بالـجَميلِ

ومناسبةُ البابِ للتَّوحيدِ:

أنَّ ظنَّ السَّوءِ ينافي كمالَ التَّوحيدِ، ويُنافِي الإيمانَ بالأسماءِ والصِّفاتِ؛ لأنَّ اللهَ قالَ في الأسماءِ: {وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا}، فإذا ظُنَّ باللهِ ظنَّ السَّوءِ لم تَكُنِ الأسماءُ حُسْنَى، وقالَ في الصِّفاتِ: {وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَى}، وإذا ظنَّ باللهِ ظنَّ السَّوءِ لم يكنْ لهُ المثلُ الأعلَى.

هيئة الإشراف

#6

2 Nov 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ 

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله الذي له الحمد كله، في ربوبيته، وإلهيته، وفي أسمائه، وصفاته.
له الحمد على أفعاله، أفعال الحكمة والإحسان، وأفعال العدل، فهو وليّ الفضل، ووليّ النعمة، وله الحمد على ما أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم، فله الحمد كله، وإليه يُرجع الأمر كله، تبارك ربنا وتعالى وتقدس.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين.
أما بعد:

فهذا باب قول الله تعالى: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر من شيء قل إن الأمر كله لله} الآية.
وقوله: {الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء}. الآية.
هذا الباب ذكر فيه الإمام المصنف هاتين الآيتين.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد:
أنَّ الله جل علا موصوف بصفات الكمال، وله جل وعلا:
- أفعالُ الحكمة.
- وأفعال العدل.
- وأفعال الرحمة والبرّ جل وعلا، فهو سبحانه كاملٌ في أسمائه، كامل في صفاته، كامل في ربوبيته، ومِنْ كماله في ربوبيته، وفي أسمائه، وصفاته: أنه لا يفعل الشيء إلا لحكمةٍ بالغة.
والحكمة في ذلك هي: أنه جل وعلا يضع الأمور مواضعها التي توافق الغايات المحمودة منها، وهذا دليل الكمال.
فالله جل وعلا له صفات الكمال، وله نعوت الجلال، والجمال، فلهذا وجب لكماله جل وعلا أنْ يُظن به ظن الحق، وأنْ لا يظن به ظن السوء، يعني أنْ يُعتقد فيه ما يجب لجلاله جل وعلا من:
- تمام الحكمة.
- وكمال العدل.
- وكمال الرحمة جل وعلا.
- وكمال أسمائه وصفاته سبحانه وتعالى.
فالذي يظن به جل وعلا أنه يفعل الأشياء لا عن حكمة؛ فإنه قد ظن به ظن النقص، وهو ظن السوء الذي ظنه أهلُ الجاهلية؛ فإذاً يكون الظن بالله غير الحق مُنافٍ للتوحيد.
وقد يكون منافياً لكمال التوحيد.
فمنه: ما يكون صاحبه خارج عن ملة الإسلام أصلاً، كالذي يظن بالله غير الحق في بعض مسائل القدر كما سيأتي.
ومنه: ما هو مُنافٍ لكمال التوحيد، بأن يكون غير مؤمن بالحكمةِ، أو بأفعال الله جل وعلا المنوطة بالعلل التي هي منوطةٌ بحكمته سبحانه البالغة، ولهذا قال جل علا: {قل فلله الحجة البالغة فلو شاء لهداكم أجمعين} في الرد على القدرية المشركية، وقد قال أيضاً جل وعلا: {حكمةٌ بالغةٌ فما تغن النذر}.
فالله جل وعلا موصوف بكمال الحكمة وكمال الحمد على أفعاله.
لأن أفعال الله جل وعلا قسمان:
- أفعال ترجع إلى الحكمة والعدل.
- وأفعال ترجع إلى الفضل والنعمة والرحمة والبر بالخلق.
فالله جل وعلا يفعل هذا وهذا، وحتى أفعاله التي هي أفعال برٍّ وإحسان هي منوطةٌ بالحكم العظيمة.
وكذلك: الأفعال التي قد يظهر للبشر أنها ليست في صالحهم، أو ليست موافقة للحكمة؛ فإن ظن الحق بالله جل وعلا أنْ يُظن به، وأنْ يُعتقد أنه ليس ثمّ شيء من أفعاله؛ إلاّ وهو موافقٌ لحكمته جل وعلا العظيمة، إذ هو العزيز القهار الفعّال لما يريد، إذاً فالواجب تحقيقاً للتوحيد أنْ يظن العبد بالله جل وعلا ظن الحق.
- وأما ظن السوء فهو ظن الجاهلية الذي هو مُنافٍ لأصل التوحيد في بعض أحواله.
- أو منافٍ لكمال التوحيد، فترجم المؤلف رحمه الله بهذا الباب ليبين لك أنَّ ظن السوء بالله جل وعلا مِنْ خصال أهل الجاهلية، وهو منافٍ لأصل التوحيد، أو منافٍ لكماله بحسب الحال.
قال هنا: (باب قوله الله تعالى: {يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية})
الظن يُطلق ويُراد به الاعتقاد، أو يراد به ما يسبق إلى الوهم، يعني: ما يسبق إلى الذهن، فهم يعتقدون، أو يسبق إلى أذهانهم لما معهم من الشرك، أن الله جل وعلا ليست أفعاله أفعال حق، والله سبحانه هو الحق، وأفعاله كلها أفعال الحق، وذلك الظن ظن الجاهلية، فكل من ظن بالله غير الحق؛ فقد ظن ظن الجاهلية، بمعنى: ظن بالله جل وعلا غير الكمال، فهذا هو ظن الجاهلية.
وظن أهل التوحيد والإسلام أن يظنوا يعني: يعتقدون ويعلمون ويسبق إلى أذهانهم في أي فعلٍ يحصل لهم، أن الله جل وعلا موصوف بالكمال، وبالحكمة البالغة، فَسَّر ذلك جل وعلا بقوله: {يقولون هل لنا منَ الأمرِ منْ شيء}.
وهذا فيه إنكار للحكمة أو إنكار للقدر، {قل إنَّ الأمر كله لله} وهذا في الرد على هؤلاء المنافقين أو المشركين.
قال: (وقوله: {الظانين بالله ظن السوء عليهم دائرة السوء}) مرّ معنا في كلام ابن القيم من كلام المصنف أنَّ السلف فسروا هذا الظن السوء بأحدِ ثلاثة أشياء: وكلها صحيح: فظن السوء الذي يظنه الجاهليون يشمل هذه الأشياء الثلاثة جميعاً:
أما الأول: فهو إنكار القدر.
وأما الثاني: فهو إنكار الحكمة.
وأما الثالث: فهو إنكار نصر الله جل وعلا لرسوله صلى الله عليه وسلم، أو لدينه، أو لعباده الصالحين، فهذه ثلاثة أشياء.
ووجه كون إنكار القدر ظنّاً بالله ظن السوء، أنَّ تقدير الأمور قبل وقوعها هذا من آثار عزة الله جل وعلا وقدرته، فإن العاجز هو الذي تقع معه الأمور استئنافاً عن غير تقدير سابق، وأما الذي لا يحصل معه أمرٌ حتى يقدّره قبل أن يوقعه، فيقع على وفق ما قدّر فهو ذو الكمال، وهو ذو العزة، وهو الذي لا يغالب في ملكوته،ولهذا قال الشاعر في وصف رجل كامل قال:

لأنــت تــفــري مــا خـلــقت وبعض القوم يخلق ثمّ لا يفري

الخلق هنا بمعنى: التقدير، يعنى لأنت تقطع ما قدَّرت، وبعض القوم وهم الناقصون إما لعدم قدرتهم أو لعدم عزتهم أو لجهلهم، وبعض القوم يخلق يعني: يقدّر الأشياء (ثم لا يفري) ثم لا يستطيع أن يقطعها على وفق ما يريد، إذاً فإنكار القدر هو ظنٌ بالله جل وعلا ظنَّ السوء، لِمَ؟

لأن فيه نسبة النقص لله جل وعلا والله جل وعلا، هو الكامل في أسمائه، الكامل في صفاته جل وعلا، الذي يجير ولا يُجار عليه، والذي إليه الأمر كله كما قال هنا: {قل إن الأمر كله لله}.
فلهذا كان كل ما يحصل من الربِّ جل وعلا في بريته، هو موافق لقدره السابق، الذي هو دليل كمال حكمته، وعلمه، وخلقه، وعموم مشيئته.
أما التفسير الثاني: فهو إنكار الحكمة وحكمة الله جل وعلا ثابتة بالكتاب والسنة وبإجماع السلف، واسم الله (الحكيم) مشتمل على صفة الحكمة؛ فإنه جل وعلا حكيم بمعنى: حاكم، وحكيم بمعنى: مُحْكِمٌ للأمور، وحكيم بمعنى: أنه ذو الحكمة البالغة، فهذه ثلاثة تفسيرات لاسم الله (الحكيم) وكلها صحيحة وكلها يستحقها الله جل وعلا، فإنه جل وعلا حكيم بمعنى حَكَم وحاكم، وحكيم بمعنى مُحْكِمْ كما قال: {كتابٌ أحكمت آياته}.
وقال: {ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت} لأجل إحكامه وقال سبحانه وتعالى أيضاً: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض} ونحو ذلك من دليل إحكامه جل وعلا لما خلق.
والثالث: أنه ذو الحكمة، والحكمة في صفة الله جل وعلا تُفسَّرُ كما ذكرت لكم؛ بأنها وضع الأمور في مواضعها الموافقة للغايات المحمودة منها، ولهذا نقول: إن أهل السنة والجماعة، أهل الأثر الفقهاء بالكتاب والسنة قالوا: إنَّ أفعال الله جل وعلا مُعَلّلة، وكل فعلٍ يفعله الله جل وعلا لعلَّةٍ من أجلها فعل، وهذه العلة هي حكمته سبحانه وتعالى، فإن أفعال الله جل وعلا منوطةٌ بالعلل، وهذا أنكره المعتزلة لأنهم قدرية، وأنكره الأشاعرة؛ لأنهم جبرية فقالوا: (إن أفعال الله جل وعلا ليست مرتبطة بالحِكَمِ وهو يفعل لا عن حِكْمَةٍ) وهذا سوء ظنٍّ بالله جل وعلا، ولهذا أورد الشيخ رحمه الله هذا الباب ليبين لك أن تحقيق التوحيد، وتحقيق كمال التوحيد، أن توقن بالحكمة البالغة لله جل وعلا، ومن نفى الحكمة في أفعال الله فهو مبتدع، توحيده قد انتفى عنه كماله؛ لأن بدعته شنيعة، وكل البدع تنفي كمال التوحيد، ومنها ما ينفي أصل التوحيد، هذا الثاني.
والتفسير الثالث: في ظن أهل الجاهلية وأهل النفاق ظن السوء بالله جل وعلا:
- أن الله جل وعلا لا ينصر رسوله سبحانه وتعالى.
- وأن الله جل وعلا لا ينصر كتابه.
- أو أنه جل وعلا يجعل رسوله، أو دينه في اضمحلالٍ حتى يذهب ذلك الدِّين.
هذا ظن سوءٍ بالله جل وعلا، ولهذا كان من براهين النبوات أنَّ كل نبيٍ ادّعى النبوة اضمحل أمره،لم يأت نبي يقول:
(أنا نبي يوحى إلىّ من السماء) وهو كاذب في دعواه إلاّ ويخذل، إلا ويضمحل أمره، فكان من براهين النبوات عند أهل السنة أنَّ كل نبي قال إنه مرسل من عند الله جل وعلا أُيّد بالبراهين، والآيات، والبينات، ونُصرَ على عدوّه، وجُعِلَ دينه وأهل دينه في عزةٍ على من سواه، كما قال جل وعلا: {إنّا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقومُ الأشهاد}.
وقال جل وعلا: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإنَّ جندنا لهم الغالبون} فظن الجاهلية أن الخير، أو الدين سيضمحل، وأنهم إذا بذلوا إطفاء ذلك الأمر، وحاربوه بكل ما أوتوا من وسيلة، وقاوموه؛ فإنه سينتهي، وهذا مع كونه عملاً محرَّماً لما يشتمل على الظلم، فإنه أيضاً سوء ظن بالله جل وعلا، وغرور بالقوة وبالنفس.
والله جل وعلا ناصرُ رسله، والله جل وعلا ناصرُ عباده المؤمنين، ولكن قد يبتلى الله جل وعلا المؤمنين؛ بأن يكونوا في غير نصرٍ زمناً طويلاً، قد يبلغ مئات السنين كما حصل في قصة نوح عليه السلام: (فلبث في قومه ألفَ سنةٍ إلا خمسين عاماً) ثم بعد ذلك نصره الله جل وعلا، وهذا يحصل كما ذكر ابنالقيم من كثير من أهل الصلاح، بل من كثير من الناس، بل قد يحصل من بعض المنتسبين إلى العلم في أنواعٍ شتَّى من سوء الظن بالله جل وعلا.
وسبب حدوث ذلك الظن السيئ في القلوب:
عدم العلم بما يستحقه الله جل وعلا، وما أوجبه جل وعلا من الصبر، والأناة، ونحو ذلك مِنَ الواجبات.
فإذاً المسألة متصلٌ بعضها ببعض، فالذي يُخالف ما أمر الله جل وعلا به شرعاً، في ما يتصل بنصرة الدين؛ فإنه قد يقع في سوء ظنٍّ بالله جل جلاله، وهذا مما ينافي كمال التوحيد الواجب.
فهذه إذاً ثلاثة أشياء ظنها أهل الجاهلية وكلها باطلة، وكلام ابن القيم رحمه الله يدور على ذلك.
ولهذا يجب عليك أن تتحرز كثيراً، وأن تحترس من سوء الظن بالله جل وعلا، فيما ذكر في آخر الكلام ابن القيم رحمه الله من أنَّ بعض الناس قد يحصل له الشيء فيرى أنه يستحق أكثر منه، وقد يحصل له الشيء بقضاء الله وبقدره؛ فيظن أنه لا يستحق ذلك الشيء، أو أنَّ ذلك المفروض أنْ يصاب به غيره، وأنه لا يصاب بذلك، فينظر إلى فعل الله جل وعلا، وقضائه، وقدره على وجه الاتهام، وقلَّ منْ يسلم باطناً، وظاهراً من ذلك؛ فكثيرون قد يسلمون ظاهراً، ولكن في الباطن يقوم بقلوبهم ظن الجاهلية، واعتقاد السوء، ولهذا قال جل وعلا في الآية التي في صدر الباب: {يظنون بالله غير الحق}.
والظن محله القلب، لهذا يجب على المؤمن أن يخلص قلبه من كل ظن بالله غير الحق، وأن يتعلم أسماء الله جل وعلا، وأن يتعلم الصفات، وأن يتعلم آثار ذلك في ملكوت الله، حتى لا يقوم بقلبه إلا وأن الله جل جلاله هو الحق، وأن فعله حق، حتى ولو كان في أعظم شأن، وأصيب بأعظم مصيبة، أوأهين بأعظم إهانة، فإنه يعلم أنَّ ما أصابه بتمام ملك الله جل وعلا، وأنه يتصرف في خلقه كيف يشاء، وأن العباد مهما بلغوا فإنهم يظلمون أنفسهم، والله جل وعلا يستحق الإجلال والتعظيم.
فخلِّص قلبك أيها المسلم وخاصة طالب العلم، خلّص قلبك من كل ظن سوء بالله جل وعلا، بأن قلت: (هذا لا يصلح، وهذا الفعل عليه كذا وكذا، ولا يصلح أن يعطى هذا المال، أو أن تحسد فلاناً أو فلاناً) فإن كل ذلك سوء ظن بالله جل وعلا، ولهذا قال العلماء في معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : ((إياكم والحسد، فإنه يأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب)).
قالوا: سبب ذلك أن الحاسد ظن أن هذا الذي أعطاه الله جل وعلا، ما أعطاه لا يستحق هذه النعمة، فَحَسَدَه وتمنى زوالها عنه، فصار في ظن سوء بالله جل وعلا، فلهذا أَكَلَ الحسناتِ ظَنُّهُ، كما أكلت النار الحطب.
نسأل الله جل وعلا السلامة، والعافية من كل ظن بغير الحق فيه جل وعلا.
ونسأله أن يجعلنا من المعظمين له، ومن المجلّين لأمره ونهيه، المعظمين لحكمته سبحانه وتعالى.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

2 Nov 2008

العناصر

مناسبة باب (الظن بالله) لكتاب التوحيد
الأمر بحسن الظن بالله، وبيان منشئه ومبناه، وذم سوء الظن بالله
تفسير قوله تعالى: (ثم أنزل عليكم من بعد الغم أمنة نعاساً...) الآية
- معنى قوله تعالى: (يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية يقولون هل لنا من الأمر...) الآية، وبيان سبب نزولها
- مناسبة قوله تعالى: (يظنون بالله غير الحق...) لكتاب التوحيد
- معنى قوله تعالى: (ظن الجاهلية)، والسبب في إضافته إلى أهل الجهل
- بيان أن مقصود المنافقين بقولهم: (هل لنا من الأمر من شيء) هو الاعتراض على القدر لا التسليم له
- معنى قوله تعالى: (قل إن الأمر كله لله)، والرد على القدرية
- بيان أقسام أفعال الله تعالى
- معنى قوله تعالى: (يخفون في أنفسهم ما لا يبدون لك يقولون لو كان لنا من الأمر شيء ما قتلنا ههنا)
- بيان أنواع كتابة الله للأمور
- معنى قوله: (وليبتلي الله ما في صدوركم)
- معنى قوله: (وليمحص ما في قلوبكم)
- معنى قوله: (والله عليم بذات الصدور)
تفسير قوله تعالى: (الظانين بالله ظن السوء) الآية
- معنى قوله تعالى: (عليهم دائرة السوء)
- معنى قوله تعالى: (وغضب الله عليهم ولعنهم وأعد لهم جهنم وساءت مصيراً)
- بيان أنواع الظن بالله تعالى، ومتعلقاتها
- نصيحة غالية في وجوب الاحتراز من سوء الظن بالله تعالى
شرح كلام ابن القيم في تفسير قوله تعالى (يظنون بالله غير الحق...) الآية
- بيان الموضع الذي ذكر فيه ابن القيم كلامه في تفسير الآية
- ذكر أمور كثيرة تندرج تحت ظن السوء بالله تعالى
- إنكار أن الله لا ينصر رسوله ودينه من ظن السوء بالله تعالى، وبيان وجه ذلك
- بيان معنى الاضمحلال، وذكر من فسر ظن الجاهلية به
- شرح قول ابن القيم: (وفسر أن ما أصابهم لم يكن بقدر الله وحكمته)، وذكر من فسره بذلك
- بيان أن إنكار القدر السابق، وإنكار الحكمة فيما يقضيه الله من ظن السوء
- بيان وجه كون إنكار الحكمة من ظن السوء بالله تعالى
- بيان وجه كون إنكار القدر من ظن السوء بالله تعالى
- بيان خطر الاعتراض على القدر، وذكر أمثلة لذلك
- بيان أن ظن السوء بالله لا يليق بحكمته وحمده
- بيان أن ظن إخلاف الله الميعاد من ظن السوء به جل وعلا
- بيان أن ظن إدالة الباطل على الحق إدالة مستقرة من ظن السوء
- معنى قوله تعالى: (فويل للذين كفروا من النار)
- بيان أن أكثر الخلق يظنون بالله ظن السوء، ووجوب إدامة الاستغفار من ذلك
- بيان أن أهل التحريف والتأويل هم من الظانين بالله ظن السوء
- ذكر خلاصة ما ذكره ابن القيم في ظن السوء
- شرح قول الشاعر: (فإن تنج منها...) إلى آخر البيت

شرح مسائل باب قول الله تعالى: (يظنون بالله غير الحق...)