الدروس
course cover
باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
26 Oct 2008
26 Oct 2008

5261

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم السادس

باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

5261

0

0


0

0

0

0

0

باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ فِي الاِسْتِسْقَاءِ بِالأَنْوَاءِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}[الْوَاقِعَةُ:82].
وَعَنْ
أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ بِالأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ، وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ)).
وَقَالَ:
((النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ))رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلَهُمَا عَنْ
زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: (صَلَّى لَنَا رَسُولُ اللهِ صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ: ((هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)) قَالُوا: (اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ) قَالَ: ((أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ)).

وَلَهُمَا مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ مَعْنَاهُ، وَفِيهِ: ((قَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآيَاتِ: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ * وإنَّهُ لَقَسَمٌ لَّو تَعلَمُونَ عَظِيمٌ * إنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنونٍ * لا يَمَسُّهُ إلاَّ المُطَهَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالمينَ * أفَبِهذا الحَديثِ أنتُم مُّدْهِنونَ * وتَجْعَلُونَ رِزْقَكُم أنَّكَم تُكَذِّبُونَ}[الْوَاقِعَةُ:75-82])).


فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ الْوَاقِعَةِ.

الثَّانِيَةُ: ذِكْرُ الأَرْبَعِ الَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ.

الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ الْكُفْرِ فِي بَعْضِهَا.

الرَّابِعَةُ: أَنَّ مِنَ الْكُفْرِ مَا لاَ يُخْرِجُ عَنِ الْمِلَّةِ.

الْخَامِسَةُ: قَوْلُهُ: ((أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ)) بِسَبَبِ نُزُولِ النِّعْمَةِ.

السَّادِسَةُ: التَّفَطُّنُ لِلإِيمَانِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.

السَّابِعَةُ: التَّفَطُّنُ لِلْكُفْرِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ.

الثَّامِنَةُ: التَّفَطُّنُ لِقَوْلِهِ (لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا).

التَّاسِعَةُ: إِخْرَاجُ الْعَالِمِ لِلْمِتَعَلِّمِ الْمَسْأَلَةَ بِالاِسْتِفْهَامِ عَنْهَا؛ لِقَوْلِهِ: ((أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ)).

الْعَاشِرَةُ: وَعِيدُ النَّائِحَةِ.

هيئة الإشراف

#2

27 Oct 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): (باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء

(5)

أي: مِن الوَعِيدِ، والمُرَادُ نِسْبَةُ السُّقْيا ومَجِيءِ المَطَرِ إِلَى الأَنْواءِ، جَمْعِ نَوْءٍ، وهي مَنَازِلُ القَمَرِ.
قَالَ
أَبُو السَّعَادَاتِ:(وهي ثَمَانِيَةٌ وعِشْرُونَ مَنْزِلَةً يَنْزِلُ القَمَرُ كُلَّ لَيْلَةٍ مَنْزِلَةً منهَا، ومنهُ قولُه تَعَالَى: {وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}[يس:39] يَسْقُطُ في الغَرْبِ كُلَّ ثَلاَثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَنْزِلَةً مَعَ طُلُوعِ الفَجْرِ، وتَطْلُعُ أُخْرَى مُقَابِلَتَها ذلكَ الوَقْتَ في الشَّرْقِ فتَنْقَضِي جَمِيعُها مَعَ انْقِضَاءِ السَّنَةِ.
وكَانَتِ العَرَبُ تَزْعُمُ أَنَّ مَعَ سُقُوطِ المَنْزِلَةِ وطُلُوعِ رَقِيبِها يَكُونُ مَطَرٌ، ويَنْسِبُونَهُ إِلَيْهَا فيَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، وَإِنَّما سُمِّيَ نَوْءًا؛ لأَِنَّه إِذَا سَقَطَ السَّاقِطُ منها بالمَغْرِبِ نَاءَ الطَالِعُ بالمَشْرِقِ يَنُوءُ نَوْءًا، أي: نَهَضَ وطَلَعَ).


قَالَ: (وقَولُ اللهِ تَعَالَى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}[الواقعة:82]). رَوَى الإِمَامُ أحمدُ والتِّرْمِذِيُّ وحَسَّنَهُ وابنُ جَرِيرٍ وابنُ أَبِي حَاتِمٍ والضِّيَاءُ في (المُخْتَارَةِ) عن عَلِيٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُم} يَقولُ: ((شُكْرَكُم)){أَنَّكُم تُكَذِّبُونَ} يَقُولُونَ: ((مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، وَبِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا))وهَذَا أَوْلَى مَا فُسِّرَتْ بهِ الآيَةُ.
ورُوِيَ ذَلِكَ عن
عَلِيٍّ، وابنِ عَبَّاسٍ، وقَتَادَةَ، والضَّحَّاكِ، وعَطَاءٍ الخُرَاسَانِيِّ وغَيْرِهم.
وهو قَوْلُ جُمْهُورِ المُفَسِّرِينَ، وبه يَظْهَرُ وَجْهُ اسْتِدْلاَلِ المُصَنِّفِ بالآيةِ عَلَى التَّرْجَمَةِ، فالمَعْنَى عَلَى هَذَا: وتَجْعَلُونَ شُكْرَكُم للهِ عَلَى مَا أَنْزَلَ إليكم مِن الغَيْثِ والمَطَرِ والرَّحْمَةِ أَنَّكُم تُكَذِّبُونَ، أي: تَنْسِبُونَهُ إلى غيرِه.
وقَالَ
ابنُ القَيِّمِ:(أي: تَجْعَلُونَ حَظَّكُم مِن هَذَا الرِّزْقِ الذي به حَيَاتُكُم التَّكْذِيبَ به يَعْنِي: القُرْآنَ).
قَالَ
الحَسَنُ: (تَجْعَلُونَ حَظَّكُم ونَصِيبَكُم مِن القُرْآنِ أَنَّكُم تُكَذِّبُونَ، قَالَ: وَخَسِرَ عَبْدٌ لاَ يَكُونُ حَظُّهُ مِن كِتَابِ اللهِ إِلاَّ التَّكْذِيبَ بِهِ).


قُلْتُ:

والآيَةُ تَشْمَلُ المَعْنَيَيْنِ.


(6)

قولُه: (عن أَبِي مَالِكٍ الأَشْعَرِيِّ) اسْمُهُ الحَارِثُ بنُ الحَارِثِ الشَّامِيُّ صَحَابِيٌّ تَفَرَّدَ عنه بالرِّوَايَةِ أبو سلامٍ، وفي الصَّحَابَةِ أَبُو مَالِكٍ الأَشْعَرِيُّ اثْنَانِ غيرُ هَذَا، جَزَمَ به الحَافِظُ.
قولُهُ:
((أَرْبعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجَاهِليَّةِ لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ)) أي: مِن أَفْعَالِ أَهْلِهَا، بمَعْنَى أنَّهَا مَعَاصٍ سَتَفْعَلُها هذهِ الأُمَّةُ، إِمَّا مَعَ العِلْمِ بتَحْرِيمِها وإِمَّا مَعَ الجَهْلِ بِذَلِكَ كَمَا كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَها.


والمُرادُ بالجَاهِلِيَّةِ هنا

مَا قَبْلَ المَبْعَثِ، سُمُّوا بذلك لفَرْطِ جَهْلِهِم، وكُلُّ ما يُخَالِفُ مَا جَاءَتْ به الأَنْبِيَاءُ والمُرْسَلُونَ فهو جَاهِلِيَّةٌ مَنْسُوبَةٌ إِلَى الجَاهِلِ، فَإِنَّ مَا كَانُوا عَلَيْهِ مِن الأَقْوَالِ والأَعْمَالِ إِنَّمَا أَحْدثَهُ لهم جَاهِلٌ وإِنَّمَا يَفْعَلُهُ جَاهِلٌ.
قَالَ
شَيْخُ الإِسْلاَمِ:(أَخْبَرَ أنَّ بَعْضَ أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ لاَ يَتْرُكُه النَّاسُ كلُّهم ذَمًّا لِمَنْ لَمْ يَتْرُكْهُ، وهذا يَقْتَضِي أَنَّ مَا كَانَ مِن أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ وفِعْلِهِم فهو مَذْمُومٌ في دِينِ الإِسْلاَمِ وإِلاَّ لَمْ يَكُنْ في إِضَافَةِ هذه المُنْكَرَاتِ إِلَى الجَاهِلِيَّةِ ذَمٌّ لَهَا، ومَعْلُومٌ أنَّ إِضَافَتَها إلى الجَاهِلِيَّةِ خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ وهذا كقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}[الأحزاب:33]فَإِنَّ في ذَلِكَ ذَمًّا للتَّبَرُّجِ، وذَمًّا لحَالِ الجَاهِلِيَّةِ الأُولَى، وذَلِكَ يَقْتَضِي المَنْعَ مِن مُشَابَهَتِهِم في الجُمْلَةِ).
قولُهُ:
((الفَخْرُ بالأَحْسَابِ)) أي: التَّشَرُّفُ بالآبَاءِ والتَّعَاظُمُ بِعَدِّ مَنَاقبِهِم ومآثِرِهِم وفَضَائِلِهِم، وذَلِكَ جَهْلٌ عَظِيمٌ؛ إذ لا شَرَفَ إِلاَّ بالتَّقْوَى كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا}[سبأ:37] الآيةَ.

- وقَالَ تَعَالَى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13] ورَوَى أبو داودَ عن أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ((إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُم عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَها بِالآبَاءِ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، أَو فَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ بَنُو آدَمَ وَآدَمُ مِن تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُم بأَقْوَامٍ إِنَّما هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أو ليَكُونُنَّ أَهْونَ عَلَى اللهِ مِنَ الجُعْلاَنِ الَّتِي تَدفَعُ بِأَنْفِها النَّتَنَ)) والأَحْسَابُ جَمْعُ حَسَبٍ وهو مَا يَعُدُّهُ الإِنْسَانُ له ولآبَائِهِ مِن شَجَاعَةٍ وفَصَاحَةٍ ونحوِ ذلك.
قولُه:
((والطَّعْنُ في الأَنْسَابِ)) أي: الوُقُوعُ فيها بالذَّمِّ والعَيْبِ أو يَقْدَحُ في نَسَبِ أَحَدٍ مِنَ النَّاسِ فيَقُولُ: ليسَ هو مِنْ ذُرِّيَّةِ فُلاَنٍ أو يُعَيِّرُه بِمَا في آبَائِهِ مِن المَطَاعِنِ، ولِهَذَا لَمَّا عَيَّرَ أبو ذرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَجُلاً بأُمِّهِ، قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأَِبِي ذَرٍّ:((أَعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟! إِنَّكَ امْرُؤٌ فِيكَ جَاهِلِيَّةٌ)) مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، فَدَلَّ ذَلِكَ أَنَّ التَّعْييرَ بالأَنْسَابِ مِن أَخْلاَقِ الجَاهِلِيَّةِ، وأَنَّ الرَّجُلَ مَعَ فَضْلِهِ وعِلْمِهِ ودِينِهِ قَدْ يَكُونُ فيهِ بَعْضُ هذه الخِصَالِ المُسَمَّاةِ بجَاهِلِيَّةٍ ويَهُودِيَّةٍ ونَصْرَانِيَّةٍ، ولا يُوجِبُ ذَلِكَ كُفْرَهُ وفِسقَهُ، قالَه شَيْخُ الإِسْلاَمِ.


قولُه: ((والاسْتِسْقَاءُ بالنُّجُومِ))أي: نِسْبَةُ السُّقْيا ومَجِيءِ المَطَرِ إلى النُّجُومِ والأَنواءِ، وهذا هو الذي خَافَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ على أُمَّتِهِ، كَمَا رَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ،وابْنُ جَرِيرٍ، عن جَابِرٍ السُّوائِيِّ، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:((أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي ثَلاَثًا: اسْتِسْقَاءً بِالنُّجُومِ، وَحَيْفَ السُّلْطَانِ، وَتَكْذِيبًا بِالقَدَرِ)).



إذا تَبَيَّنَ هذا،

فالاسْتِسْقَاءُ بالنُّجُومِ نَوْعَانِ:


أَحَدُهُما:

أَنْ يَعْتَقِدَ أنَّ المُنْزِلَ للمَطَرِ هو النَّجْمُ، فهَذَا كُفْرٌ ظَاهِرٌ؛ إذ لاَ خَالِقَ إِلاَّ اللهُ، وَمَا كَانَ المُشْرِكُونَ هكذا، بل كانُوا يَعْلَمُونَ أنَّ اللهَ هو المُنْزِلُ للمَطَرِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ}[العنكبوت:63] وليسَ هذا مَعْنَى الحديثِ، فالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخْبَرَ أنَّ هذا لا يَزَالُ في أُمَّتِهِ، ومَن اعْتَقَدَ أَنَّ النَّجْمَ يُنْزِلُ المَطَرَ فهو كَافِرٌ.


الثَّانِي:

أَنْ يَنْسِبَ إِنْزَالَ المَطَرِ إلى النَّجْمِ،

مَعَ اعْتِقَادِه أنَّ اللهَ تعالى هو الفاعِلُ لذلك المُنْزِلِ لهُ، إلاَّ أنَّهُ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى أَجْرَى العَادَةَ بوُجُودِ المَطَرِ عندَ ظُهُورِ ذلك النَّجْمِ، فحَكَى ابنُ مُفْلِحٍ، خِلاَفًا في مَذْهبِ أَحْمَد، في تَحْرِيمِه وكَرَاهَتِهِ، وصَرَّحَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ، بجَوَازِه، والصَّحِيحُ أنَّهُ مُحَرَّمٌ؛ لأَِنَّهُ مِنَ الشِّرْكِ الخَفِيِّ، وهو الذي أَرَادَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأَخْبَرَ أَنَّهُ مِن أَمْرِ الجَاهِلِيَّةِ، ونَفَاهُ، وأَبْطَلَهُ.
وهو الذي كَانَ يَزْعُمُ المُشْرِكُونَ، ولم يَزَلْ مَوْجُودًا في هذهِ الأُمَّةِ إلى اليَوْمِ، وأيضًا فإنَّ هذا مِن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِمَايَةٌ لجَنَابِ التَّوْحِيدِ وسَدٌّ لذَرَائِعِ الشِّرْكِ ولو بالعِبَادَاتِ المُوهِمَةِ التي لا يَقْصِدُها الإِنْسَانُ، كَمَا قَالَ لرَجُلٍ قالَ لهُ:
ما شَاءَ اللهُ وشِئْتَ. قالَ: ((أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟! بَلْ مَا شَاءَ اللهُ وَحْدَهُ)).


وفيه:

التَّنْبِيهُ عَلَى مَا هو أَوْلَى بالمَنْعِ مِن نِسْبَةِ السُّقْيا إلى الأَنْوَاءِ

كدُعَاءِ الأَمْوَاتِ، وسُؤَالِهم الرِّزْقَ والنَّصْرَ والعافِيَةَ ونحوَ ذلكَ مِن المَطَالِبِ، فإِنَّ هذا مِن الشِّرْكِ الأَكْبَرِ، سَوَاءٌ قَالُوا: إنَّهُم شُفَعَاؤُنَا إِلَى اللهِ، كَمَا قَالَ المُشْرِكُونَ: هؤلاءِ شُفَعَاؤُنَا عندَ اللهِ.
أو اعْتَقَدُوا أَنَّهُم يَخْلُقُونَ، ويَرْزُقُونَ ويَنْصُرُونَ اسْتِقْلاَلاً على سَبِيلِ الكَرَامَةِ، كَمَا ذَكَرَهُ بَعْضُ عُبَّادِ القُبُورِ في رِسَالَةٍ صَنَّفَها في ذلك؛ لأَنَّه إِذَا مَنَعَ مِن إِطْلاَقِ نِسْبَةِ السُّقيَا إلى الأَنْواءِ مَعَ عَدَمِ القَصْدِ والاعْتِقَادِ، فَلأَِنْ يَمْنَعَ مِن دُعَاءِ الأَمْوَاتِ والتَّوَجُّهِ إليهم في المُلِمَّاتِ مَعَ اعْتِقَادِ أنَّ لهم أَنْوَاعَ التَّصَرُّفاتِ أَوْلَى وَأَحْرَى.
قولُهُ:
((والنِّياحَةُ)) أي: رَفْعُ الصَّوْتِ بالنَّدْبِ عَلَى المَيِّتِ؛ لأَِنَّها سَخَطٌ لقَضَاءِ اللهِ ومُعَارَضَةٌ لأَِحْكَامِهِ وسُوءُ أَدَبٍ مَعَ اللهِ، ولاَ كذلكَ يَنْبَغِي أنْ يَفْعَلَ المَمْلُوكُ مَعَ سَيِّدِه، فكيفَ يَفْعَلُهُ مَعَ ربِّهِ وسَيِّدِهِ ومَالِكِه وإِلَهِهِ الذي لاَ إِلَهَ لَهُ سِوَاهُ، الذي كلُّ قَضَائِهِ عَدْلٌ، وأيضًا ففيها تَفْوِيتُ الأَجْرِ مَعَ ذَهابِ المُصِيبَةِ.
وفي الحَدِيثِ دَلِيلٌ عَلَى شَهَادَةِ أنَّ
مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ؛ لأَِنَّ هَذِهِ الأَخْبَارَ مِنْ أَنْبَاءِ الغَيْبِ، فَأَخْبَرَ بها النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فكَانَ كمَا أَخْبَرَ.
قولُهُ: (وقالَ:
((النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا)))فيه تَنْبِيهٌ عَلَى أَنَّ الوَعِيدَ والذَّمَّ لاَ يَلْحَقُ مَن تَابَ مِن الذَّنْبِ، وهو كذلك بالإِجْمَاعِ، فعَلَى هَذَا إِذَا عُرِفَ شَخْصٌ بفِعْلِ ذُنُوبٍ تَوَعَّدَ الشَّرْعُ عَلَيْهَا بوَعِيدٍ لم يَجُزْ إِطْلاَقُ القَوْلِ بلُحُوقِهِ لذلكَ الشَّخْصِ المُعَيَّنِ كما يَظُنُّهُ كَثِيرٌ مِن أَهْلِ البِدَعِ؛ فَإِنَّ عُقُوبَاتِ الذُّنُوبِ تَرْتَفِعُ بالتَّوْبَةِ والحَسَنَاتِ المَاحِيَةِ، والمَصَائِبِ المُكَفِّرَةِ، ودُعاءِ المُؤْمِنِينَ بعضِهِم لبعضٍ، وشَفَاعَةِ نَبِيِّهِم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فيهم، وعَفْوِ اللهِ عنهُم.


وفيه:

أنَّ مَن تَابَ قَبْلَ المَوْتِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ،

فَإِنَّ اللهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ، كما في حديثِ ابنِ عمرَ مرفوعًا: ((إِنَّ اللهَ تَعَالى يَقْبَلُ تَوْبَةَ العَبْدِ مَا لَمْ يُغَرْغِرْ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ، والتِّرْمِذِيُّ، وابنُ مَاجَه، وابنُ حِبَّانَ في (صَحِيحِهِ).
قولُه:
((تُقَامُ يَوْمَ القِيَامَةِ)) أي: تُبْعَثُ مِن قَبْرِهَا.


((وعَلَيْهَا سِرْبالٌ مِن قَطِرَانٍ ودِرْعٌ مِن جَرَبٍ))

قَالَ القُرْطُبِيُّ: (السِّرْبَالُ: واحِدُ السَّرَابِيلِ، وهي الثِّيابُ والقُمُصُ، يَعْنِي أَنَّهُنَّ يُلَطَّخْنَ بالقَطِرَانِ، فيَصِيرُ لَهُنَّ كالقَمِيصِ حتى يَكُونَ اشْتِعَالُ النَّارِ والْتِصَاقُها بأَجْسَادِهِنَّ أَعْظَمَ ورَائِحَتُهُنَّ أَنْتَنَ وأَلَمُهَا بسَبَبِ الجَرَبِ أَشَدَّ، ورُوِيَ عنِ ابنِ عَبَّاسٍ أَنَّ القَطِرَانَ هو النُّحاسُ المُذَابُ).
ورَوَى
الثَّعْلَبِيُّ في (تَفْسِيرِهِ) عن عُمَرَ بنِ الخَطَّابِ أَنَّهُ سَمِعَ نَائِحَةً فأَتَاهَا، فضَرَبَها بالدِّرَّةِ حَتَّى وَقَعَ خِمارُها، فَقِيلَ يا أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ: المَرْأَةَ المَرْأَةَ؛ قد وَقَعَ خِمَارُها، قال: إِنَّها لاَ حُرْمَةَ لَهَا.


(7)

قَوْلُه: ((عَنْزَيْدِ بنِ خَالِدٍ)) أي: الجُهَنِيِّ المَدَنِيِّ، صَحَابِيٌّ مَشْهُورٌ، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانٍ وسِتِّينَ بالكُوفَةِ.
وقِيلَ غيرُ ذلك، وله خَمْسٌ وثَمَانُونَ سَنَةً.
قَوْلُه:
((صَلَّى لَنَا)) أي: صَلَّى بِنَا، فاللاَّمُ بمعْنَى الباءِ.
قَالَ
الحَافِظُ: (وفيه جَوَازُ إِطْلاَقِ ذلكَ مَجَازًا، وإنَّما الصَّلاَةُ للهِ).
قَوْلُه:
((بالحُدَيْبِيَةِ)) بالمُهْمَلَةِ والتَّصْغِيرِ وتُخَفَّفُ يَاؤُها وتُثَقَّلُ.
قَوْلُه:
((عَلَى إِثْرِ)) بكَسْرِ الهَمْزَةِ وسُكُونِ المُثَلَّثَةِ عَلَى المَشْهُورةِ، وهو ما يَعْقُبُ الشَيْءَ.
قولُه:
((سَمَاءٍ)) أي: مَطَرٍ، وأُطْلِقَ عَلَيهِ سَمَاءٌ لكَوْنِهِ يَنْزِلُ مِن جِهَةِ السَّمَاءِ.
قَوْلُه:
((فلَمَّا انْصَرَفَ)) أي: مِن صَلاَتِهِ، لاَ مِنْ مَكَانِهِ.
كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُه:
((أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ)) أي: الْتَفَتَ إليهم بوجْهِهِ الشَّرِيفِ، ففيهِ دَلِيلٌ على أَنَّه لاَ يَنْبَغِي للإمامِ إِذَا صلَّى أنْ يَجْلِسَ مُسْتَقْبِلَ القِبْلَةِ، بل يَنْصَرِفُ إلى المَأْمُومِينَ، كما صَحَّتْ بذلك الأَحَادِيثُ.
قَوْلُه:
((هَلْ تَدْرُونَ)) لَفْظُ اسْتِفْهَامٍ، ومَعْنَاهُ التَّنْبِيهُ، وفي رِوَايَةِ النَّسائيِّ: ((أَلَمْ تَسْمَعُوا مَا قَالَ رَبُّكُم اللَّيْلَةَ؟)) وهذا مِن الأَحَادِيثِ القُدُسِيَّةِ.
قَالَ
الحَافِظُ: (وهي تُحْمَلُ على أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَهَا عن اللهِ بوَاسِطَةٍ أو بِلاَ واسِطَةٍ، وفيه إِلْقَاءُ العَالِمِ المَسْأَلَةَ عَلَى أَصْحَابِهِ ليُخْبِرَهُم، وإِخْرَاجُ العالِمِ التَّعْلِيمَ للمَسْأَلَةِ بالاسْتِفْهَامِ فيها، ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ).
قولُه:
((قالُوا: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ)) فيه حُسْنُ الأَدَبِ للمَسْؤُولِ عَمَّا لاَ يَلِيقُ، وأَنَّهُ يَقُولُ ذلكَ أو نَحْوَه، وَلاَ يَتَكَلَّفُ مَا لاَ يَعْنِيهِ.
قولُه:
((قَالَ: ((أَصْبَحَ مِن عِبَادِي)) )) الإِضَافَةُ هنا للعُمُومِ بدَلِيلِ التَّقْسِيمِ إلى مُؤْمِنٍ وكَافِرٍ.


فَإِنْ قِيلَ:

هَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ المُرَادَ بالكُفْرِ هنا هو الأَكْبَرُ.


قيلَ: ليسَ فيه دَلِيلٌ؛ إذ الأَصْغَرُ يَصْدُرُ مِن الكُفَّارِ.
قولُه:
((مُؤْمِنٌ بِي وكَافِرٌ)) المُرَادُ بالكُفْرِ هنا هوَ الأَصْغَرُ بنِسْبَةِ ذلكَ إلى غيرِ اللهِ وكُفْرَانِ نِعْمَتِه، وإنْ كَانَ يَعْتَقِدُ أنَّ اللهَ تعالى هو الخَالِقُ للمَطَرِ المُنْزِلُ له، بدَلِيلِ قَوْلِه في الحَدِيثِ: ((فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ))إلى آخرِه، فلو كانَ المُرَادُ هو الأَكْبَرَ، لقَالَ: أَنْزَلَ عَلَيْنَا المَطَرَ نَوْءُ كَذَا، فأُتِيَ بباءِ السَّبَبِيَّةِ ليَدُلَّ عَلَى أنَّهُم نَسَبُوا وُجُودَ المَطَرِ إلى ما اعْتَقَدُوه سَبَبًا.
وفي رِوَايَةٍ:
((فَأَمَّا مَنْ حَمِدَنِي عَلَى سُقْيَايَ وَأَثْنَى عَلَيَّ، فَذَاكَ مَنْ آمَنَ بِي)) فلمْ يَقُلْ فأَمَّا مَنْ قالَ: إِنِّي المُنْزِلُ للمَطَرِ فذاكَ مَنْ آمنَ بِي؛ لأَِنَّ المُؤْمِنِينَ والكُفَّارَ يقولون ذلكَ. فدَلَّ على أَنَّ المرادَ إضافةُ ذلك إلى غيرِ اللهِ، وإنْ كانَ يَعْتَقِدُ أَنَّ الفاعِلَ لذلك هو اللهُ.
ورَوَى
النَّسَائِيُّ والإِسْمَاعِيلِيُّ نَحْوَه وقَالَ في آخِرِه: ((وَكَفَرَ بِي أَوْ كَفَرَ نِعْمَتِي)).
وفي رِوَايَةِ
أَبِي صالحٍ عن أبي هُرَيْرَةَ عندَ مُسْلِمٍ: ((قَالَ اللهُ تَعَالَى: مَا أَنْعَمْتُ عَلَى عِبَادِي مِنْ نِعْمَةٍ إِلاَّ أَصْبَحَ فَرِيقٌ مِنْهُم بِهَا كَافِرِينَ))وله مِن حَدِيثِ ابنِ عَبَّاسٍ:((أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُم كَافِرٌ)) الحَدِيثَ.
وفي حَدِيثِ
مُعَاوِيَةَ اللَّيْثِيِّ مَرْفوعًا: ((يَكُونُ النَّاسُ مُجْدِبِينَ فَيُنْزِلُ اللهُ عَلَيْهِمْ رِزْقًا مِنْ رِزْقِهِ فَيُصْبِحُونَ مُشْرِكينَ، يَقُولُونَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا)) رَوَاهُ أَحْمَدُ، فَبَيَّنَ الكُفْرَ والشِّرْكَ المرادَ هنا بأنَّ نِسْبَةَ ذلك إلى غيرِه تَعَالَى، بأنْ يُقَالَ: مُطِرنَا بنَوْءِ كذا، قال ابنُ قُتَيْبَةَ: (كانوا في الجاهِلِيَّةِ يَظُنُّونَ أنَّ نُزُولَ الغَيْثِ بوَاسِطَةِ النَّوْءِ إِمَّا بصُنْعِهِ على زَعْمِهِم، وإِمَّا بعَلاَمَتِهِ، فأَبْطَلَ الشَّرْعُ قَوْلَهم، وجَعَلَهُ كُفْرًا، فإِنِ اعْتَقَدَ قَائِلُ ذلكَ أنَّ للنَّوْءِ صُنْعًا في ذلك فكُفْرهُ كُفْرُ شِرْكٍ، وإنِ اعْتَقَدَ أَنَّ ذلكَ مِن قَبِيلِ التَّجْرِبَةِ فليس بشِرْكٍ، لكن يَجُوزُ إِطْلاقُ الكُفْرِ عليهِ وإِرَادَةُ كُفْرِ النِّعْمَةِ؛ لأنَّهُ لم يَقَعْ في شَيْءٍ مِن طُرُقِ الحديثِ بينَ الكُفْرِ والشِّرْكِ واسِطَةٌ، فيُحْمَلُ الكُفْرُ فيه على المَعْنَيَيْنِ).


وقَالَ الشَّافِعِيُّ: (مَن قالَ: مُطِرْنَا بنَوْءِ كَذَا على مَعْنَى مُطِرْنَا في وَقْتِ كَذَا، فَلاَ يَكُونُ كُفْرًا، وغيرُه مِن الكَلاَمِ أَحَبُّ إِلَيَّ منه).


قُلْتُ:

قد يُقالُ: إنَّ كَلاَمَ الشَّافِعِيِّ لاَ يَدُلُّ عَلَى جَوَازِ ذلك، وإِنَّمَا يَدُلُّ على أنَّهُ لا يَكُونُ كُفْرَ شِرْكٍ، وغيرُه مِن الكَلاَمِ أَحْسَنُ منهُ.
أَمَّا كَوْنُه يَجُوزُ إِطْلاَقُ ذلِكَ أو لا يَجُوزُ، فالصَّحِيحُ أنَّهُ لاَ يَجُوزُ، لِمَا تَقَدَّمَ أنَّ مَعْنَى الحَدِيثِ هو نِسْبَةُ السُّقيَا إلى الأَنْواءِ لَفْظًا، وإِنْ كَانَ القَائِلُ لذلك يَعْتَقِدُ أنَّ اللهَ هوَ المُنْزِلُ للمَطَرِ، فهَذَا مِن بَابِ الشِّرْكِ الخَفِيِّ في الأَلْفَاظِ، كقولِهِ: لولا فُلاَنٌ لم يَكُنْ كذا، وفيه مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى:
{وَعَسَى أَن تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ}[البقرة:216] فإنَّ كَثِيرًا مِن النِّعَمِ قد تَجُرُّ الإِنْسَانَ إلى شَرٍّ كالذين قالُوا: مُطِرْنَا بنَوْءِ كذا بسَبَبِ نُزُولِ النِّعْمَةِ.


وفيه:

التَّفَطُّنُ للإيمانِ في هذا المَوْضعِ،

ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، يُشِيرُ إلى أَنَّ المُرَادَ بهِ هُنَا نِسْبَةُ النِّعْمَةِ إلى اللهِ وحَمْدُه عَلَيْهَا، كَمَا في قَوْلِهِ تَعَالَى: ((فَأَمَّا مَنْ حَمِدَنِي عَلَى سُقْيَايَ وَأَثْنَى عَلَيَّ فَذَاكَ مَنْ آمَنَ بِي))وقولِهِ: ((فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ)) الحديثَ.


وفيه:

أنَّ مِن الكُفْرِ ما لا يُخْرِجُ عن المِلَّةِ، ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ.
قولُه:
((فأَمَّا مَنْ قالَ: مُطِرْنَا بفَضْلِ اللهِ ورَحْمَتِهِ)) أي: مَنْ نَسَبَهُ إلى اللهِ واعْتَقَدَ أنَّه أَنْزَلَهُ بفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ مِن غيرِ اسْتِحْقَاقٍ مِنَ العبدِ عَلَى رَبِّهِ وأَثْنَى بهِ عليهِ، فقالَ: مُطِرْنَا بفَضْلِ اللهِ ورَحْمَتِهِ، وفي الرِّوَايَةِ الأُخْرَى: ((فَأَمَّا مَنْ حَمِدَنِي عَلَى سُقْيَايَ، وَأَثْنَى عَلَيَّ فَذَاكَ مَنْ آمَنَ بِي))وهكذا يَجِبُ على الإنسانِ أن لا يُضِيفَ نِعَمَ اللهِ إلى غيرِه ولاَ يَحْمَدَهُم عليهَا، بل يُضِيفَها إلى خَالِقِها ومُقَدِّرِها الذي أَنْعَمَ بِهَا عَلَى العَبْدِ بفَضْلِهِ ورَحْمَتِهِ، ولاَ يُنَافِي ذَلِكَ الدُّعَاءُ لمَن أَحْسَنَ بها إليكَ، وذَكَرَ ما أَوْلاَكُم مِن المَعْرُوفِ إذا سَلِمَ لكَ دِينُكَ، والسِّرُّ في ذلكَ - واللهُ أَعْلَمُ - أنَّ العبدَ يَتَعَلَّقُ قَلْبُهُ بمَن يَظُنُّ حُصُولَ الخَيْرِ لَهُ مِنْ جِهَتِهِ وإنْ كَانَ صُنْعَ لهُ في ذلكَ، وذلكَ نَوْعُ شِرْكٍ خَفِيٍّ فمُنِعَ مِن ذلك.
قولُه:
((وأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بنَوْءِ كذا)) إلى آخرِهِ، كالصَّرِيحِ فيما ذَكَرْنَا أنَّ المُرَادَ نِسْبَةُ ذلك إلى غَيْرِ اللهِ، وإنْ كانَ يَعْتَقِدُ أنَّ المُنْزِلَ للمَطَرِ هو اللهُ، ولهذا لم يَقُلْ: فأَمَّا مَنْ قالَ: أُنْزِلَ علينا المَطَرُ أَو أُمْطِرْنَا بنَوْءِ كذا.
قَالَ
المُصَنِّفُ: (وفيه التَّفَطُّنُ للكُفْرِ) في هذا المَوْضِعِ يُشِيرُ إلى أَنَّ المُرَادَ بالكُفْرِ هُنَا هُوَ نِسْبَةُ النِّعْمَةِ إلى غَيْرِ اللهِ كالنَّوْءِ ونَحْوِه على مَا تَقَدَّمَ، ولَمَّا كَانَ إِنْزَالُ الغَيْثِ مِن أَعْظَمِ نِعَمِ اللهِ وإِحْسَانِهِ إلى عبادِهِ لِمَا اشْتَمَلَ عليهِ مِن مَنَافِعِهم، فَلاَ يَسْتَغْنُونَ عنهُ أَبَدًا كَانَ مِن شُكْرِه الوَاجِبِ عليهم أَنْ يُضِيفُوه إلى البَرِّ الرَّحيمِ المُنْعِمِ، ويَشْكُرُوه فإنَّ النُّفُوسَ قد جُبِلَتْ على حُبِّ مَن أَحْسَنَ إِليها، واللهُ تعالى هُوَ المُحْسِنُ المُنْعِمُ على الإِطْلاَقِ الذي ما بالعِبَادِ مِن نِعْمَةٍ فمنهُ وحْدَهُ، كما قالَ تعالى: {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللهِ}[النحل:53]).


(8) قولُهُ: (ولهما) الحديثُ لمسلمٍ فقط، ولفظُهُ عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: (مُطِرَ النَّاسُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ وَمِنْهُمْ كَافِرٌ.
قَالُوا: هَذِهِ رَحْمَةُ اللهِ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذَا وَكَذَا،
قَالَ فنَزَلَتْ هَذِهِ الآيَةُ:
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}حَتَّى بَلَغَ{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ})).
قولُهُ:
((قَالَ بَعْضُهُم)) ذَكَرَ الوَاقِدِيُّ في (مَغَازِيهِ) عن أبي قَتَادَةَ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ أُبَيٍّ هو القَائِلُ في ذلك الوَقْتِ: (مُطِرْنَا بنَوْءِ الشِّعْرَى) وفي صِحَّةِ ذلك نَظَرٌ.
قولُه:
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} هذا قَسَمٌ مِن اللهِ -عَزَّ وَجَلَّ-، يُقْسِمُ بما شَاءَ مِن خَلْقِهِ، وهو دَلِيلٌ على عَظَمَةِ المُقْسَمِ بهِ وتَشْرِيفِه، وتَقْدِيرُه: أُقْسِمُ بمَوَاقِعِ النُّجُومِ، ويَكُونُ جَوَابُهُ: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}[الواقعة:77]، فعَلَى هذا تَكُونُ ((لاَ)) صِلَةً لتَأْكِيدِ النَّفْيِ، فتَقْدِيرُ الكَلاَمِ: ليسَ الأَمْرُ كما زَعَمْتُم في القُرْآنِ أنَّهُ سِحْرٌ أو كَهَانَةٌ، بل هو قُرْآنٌ كَرِيمٌ.
قَالَ
ابنُ جَرِيرٍ:(قال بعضُ أهلِ العَرَبيَّةِ: مَعْنَى قولِه: {فَلاَ أُقْسِمُ} فليسَ الأَمْرُ كَمَا تَقُولُونَ، ثُمَّ اسْتُؤْنِفَ القَسَمُ بعدُ، فقيلَ: (أُقْسِمُ) ومَوَاقِعُ النُّجُومِ.


قال ابنُ عَبَّاسٍ: (يَعْنِي نُجُومَ القُرْآنِ، فإنَّهُ نَزَلَ جُمْلَةً لَيْلَةَ القَدْرِ مِنَ السَّمَاءِ العُلْيَا إلى السَّمَاءِ الدُّنيَا، ثُمَّ نَزَلَ مُفَرَّقًا في السِّنِينَ بَعْدُ، ثُمَّ قَرَأَ ابنُ عَبَّاسٍ هذه الآيةَ).


ومَوَاقِعُها:

نُزُولُهَا شَيْئًا بَعْدَ شَيْءٍ.


وقِيلَ:

النُّجُومُ هي الكَوَاكِبُ.
ومَوَاقِعُها: مَسَاقِطُها عند غُرُوبِهَا.


قَالَ مُجَاهِدٌ: (مَوَاقِعُ النُّجُومِ يُقَالُ: مَطَالِعُهَا ومَشَارِقُها) واخْتَارَهُ ابنُ جَرِيرٍ.

وعَلَى هَذَا فتَكُونُ المُنَاسَبَةُ بينَ ذِكْرِ النُّجُومِ في القَسَمِ وبينَ المُقْسَمِ عليهِ وهو القُرْآنُ من وجُوهٍ:

أَحَدُها:

أنَّ النُّجُومَ جَعَلَهَا اللهُ يُهْتَدَى بها في ظُلُماتِ البَرِّ والبَحْرِ، وآياتُ القرآنِ يُهْتَدَى بها في ظُلُماتِ الغَيِّ والجَهْلِ، فتلكَ هِدَايَةٌ في الظُّلُماتِ الحِسيَّةِ، وآياتُ القُرْآنِ هِدَايَةٌ في الظُّلُمَاتِ المَعْنَوِيَّةِ.


فجَمَعَ بينَ الهِدَايَتَيْنِ مَعَ ما في النُّجُومِ

مِن الزِّينَةِ الظَّاهِرَةِ للعَالَمِ وفي القُرْآنِ مِن الزِّينَةِ البَاطِنَةِ.


وَمَعَ ما في النُّجُومِ مِن الرُّجُومِ للشَّيَاطِينِ،

وفي آياتِ القُرْآنِ مِن رُجُومِ شَيَاطِينِ الإِنْسِ والجِنِّ.


والنُّجُومُ آياتُهُ المَشْهُودَةُ العِيانِيَّةُ،

والقُرْآنُ آياتُهُ المَتْلُوَّةُ السَّمْعِيَّةُ مع ما في مَوَاقِعِها عندَ الغُرُوبِ مِن العِبْرَةِ والدَّلاَلَةِ على آياتِهِ القُرْآنِيَّةِ ومَوَاقِعِها عندَ النُّزُولِ، ذَكَرَهُ ابنُ القيِّمِ.


وقولُه: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ}[الواقعة:76] قَالَ ابنُ كَثِيرٍ:(أي: وإِنَّ هَذَا القَسَمَ الذي أَقْسَمْتُ بِهِ لقَسَمٌ عَظِيمٌ، لو تَعْلَمُونَ عَظَمَتَهُ لعَظَّمْتُم المُقْسَمَ عَلَيْهِ).

- وقولُه: {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ}[الواقعة:77] هَذَا هو المُقْسَمُ عليهِ، وهو القُرْآنُ أي: إِنَّهُ وحْيُ اللهِ وتَنْزِيلُهُ وكَلاَمُه، لا كَمَا يقولُ الكُفَّارُ: إنَّهُ سِحْرٌ وكَهَانَةٌ أو شِعْرٌ، بل هُوَ قُرْآنٌ كَرِيمٌ، أي: عَظِيمٌ كثيرُ الخيرِ؛ لأنَّهُ كَلاَمُ اللهِ.
قالَ
ابنُ القَيِّمِ: (فوَصَفَهُ بما يَقْتَضِي حُسْنَهُ وكَثْرَةَ خيرِه ومَنَافِعِه وجَلاَلَتَه؛ فإنَّ الكَرِيمَ هو البَهِيُّ الكَثِيرُ الخَيْرِ، العَظِيمُ النَّفْعِ، وهو مِن كلِّ شيءٍ أَحْسَنُه وأَفْضَلُه، واللهُ سبحانَهُ وَصَفَ نفسَهُ بالكَرَمِ، ووَصَفَ به كَلاَمَهُ، ووَصَفَ به عَرْشَهُ، ووَصَفَ به ما كَثُرَ خَيْرُه، وحَسُنَ مَنْظَرُه مِن النَّباتِ وغيرِه، ولذلك فَسَّرَ السَّلَفُ الكَرِيمَ: بالحَسَنِ).


قَالَ الأَزْهَرِيُّ: (الكَرِيمُ: اسْمٌ جَامِعٌ لِمَا يُحْمَدُ، واللهُ تَعَالى كَرِيمٌ جَمِيلُ الفِعَالِ، وإنَّهُ لقُرْآنٌ كَرِيمٌ يُحْمَدُ لِمَا فيهِ مِن الهُدَى والبيانِ، والعِلْمِ والحِكْمَةِ).
وقولُه:
{فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ}[الواقعة:78] قال ابنُ كثيرٍ:(أي: مُعَظَّمٍ، في كِتَابٍ مُعَظَّمٍ مَحْفُوظٍ مُوَقَّرٍ).
وقالَ
ابنُ القَيِّمِ:(اخْتَلَفَ المُفَسِّرُونَ في هَذَا فقِيلَ: هو اللَّوْحُ المَحْفُوظُ، والصَّحِيحُ أَنَّهُ الكِتَابُ الذي بأَيْدِي المَلاَئِكَةِ وهو المَذْكُورُ في قولِهِ:{في صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:13-16]ويَدُلُّ على أنَّه الكِتَابُ الذي بأَيْدِي المَلاَئِكَةِ
قولُه:
{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}[الواقعة:79]فهَذَا يدُلُّ على أنَّه بأَيْدِيهم يَمَسُّونَهُ).
وقولُهُ:
{لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ:{لا يَمْسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} قَالَ: (الكِتَابُ الذي في السَّمَاءِ).
وفي رِوَايَةٍ:
{لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} يَعْنِي: المَلاَئِكَةَ.
وَقَالَ
قَتَادَةُ: (لاَ يَمَسُّهُ عندَ اللهِ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ، أَمَّا في الدُّنْيَا، فَإِنَّه يَمَسُّهُ المَجُوسِيُّ النَّجِسُ والمُنَافِقُ الرِّجْسُ).


قَالَ: وهي في قِرَاءةِ ابنِ مسعودٍ:{ما يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ}واخْتَارَ هَذَا القَوْلَ كثيرونَ منهم ابنُ القيِّمِ ورَجَّحَه).
وقالَ
ابنُ زيدٍ: (زَعَمَتْ قُرَيْشٌ أَنَّ هَذَا القُرْآنَ تَنَزَّلَتْ به الشَّيَاطِينُ فَأَخْبَرَ اللهُ تَعَالى أَنَّه لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ كما قالَ: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ} إلى قولِه: {لَمَعْزُولُونَ}[الشعراء:110-112]).
وقالَ
ابنُ كثيرٍ: (وهذا قولٌ جَيِّدٌ وهو لا يَخْرُجُ عن القَوْلِ قَبْلَه).


وقَالَ البُخَارِيُّ في (صَحِيحِهِ) في هذهِ الآيةِ: (لاَ يَجِدُ طَعْمَهُ إلاَّ مَن آمَنَ بهِ).
قَالَ
ابنُ القيِّمِ:(وهذا مِن إِشَارَةِ الآيةِ وتَنْبيهِها وهو أَنَّهُ لا يَلْتَذُّ بهِ وبقِرَاءَتِه وفَهْمِه وتَدَبُّرِه إِلاَّ مَن يَشْهَدُ أنَّهُ كَلاَمُ اللهِ تَكَلَّمَ بِهِ حقًّا، وأَنْزَلَهُ على رَسُولِهِ وحْيًا، ولا يَنَالُ مَعَانِيَهُ إِلاَّ مَن لَمْ يَكُنْ في قَلْبِهِ منه حَرَجٌ بوجْهٍ مِن الوجوهِ).
وقَالَ آخَرُونَ:
{لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ} أي: مِن الجَنَابَةِ والحَدَثِ، قالُوا: ولَفْظُ الآيةِ خَبَرٌ ومَعْنَاهُ الطَّلَبُ.
قالُوا:
والمُرَادُ بالقُرْآنِ هنا المُصْحَفُ، كما في حَديثِ ابنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا:( نَهَى أَنْ يُسَافَرَ بِالقُرْآنِ إِلى أَرْضِ العَدُوِّ مَخَافَةَ أَنْ يَنَالَهُ العَدُوُّ).
واحْتَجُّوا عَلَى ذَلِكَ بِمَا رَوَاهُ
مَالِكٌ في (المُوطَّأِ) عن عبدِ اللهِ بنِ محمدِ بنِ أبي بكرِ بنِ محمدِ بنِ عمرِو بنِ حَزْمٍ أنَّ في الكِتَابِ الذي كَتَبَه رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لعمرِو بنِ حَزْمٍ:((أنْ لاَ يَمَسَّ القُرْآنَ إِلاَّ طَاهِرٌ)).
وقولُهُ:
{تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ}[الواقعة:80] قالَ ابنُ كَثِيرٍ:(أي: هَذَا القُرْآنُ مُنَزَّلٌ مِن اللهِ رَبِّ العَالَمِينَ، وليسَ كما يَقُولُونَ: إِنَّهُ سِحْرٌ أو كَهَانَةٌ أو شِعْرٌ، بل هو الحَقُّ الذي لاَ مِرْيَةَ فيه وليسَ ورَاءه حَقٌّ نافِعٌ).
وفي هذه الآيةِ إِثْبَاتُ أَنَّهُ كَلاَمُ اللهِ تَكَلَّمَ بهِ.
قالَ
ابنُ القَيِّمِ: (ونَظِيرُهُ:{وَلَـكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي}[السجدة:13] .

- وقولُه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ}[النحل:102]وإِثْبَاتُ عُلُوِّ اللهِ سبحانَهُ على خَلْقِهِ، فإنَّ النُّزُولَ والتَّنْزِيلَ الذي تَعْقِلُه العُقُولُ، وتَعْرِفُهُ الفِطَرُ هو وُصُولُ الشَيْءِ مِن أَعْلَى إِلَى أَسْفَلَ، وَلاَ يَرِدُ عليه قولُه:{وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}[الزُّمَر:6]لأَِنَّا نَقُولُ: إنَّ الذي أَنْزَلَها مِن فَوْقِ سَمَاوَاتِهِ قَدْ أَنْزَلَها لَنَا بأَمْرِهِ).
قَالَ
ابنُ القَيِّمِ:(وذَكَرَ التَّنْزِيلَ مُضَافًا إلى رُبُوبِيَّتِهِ للعَالَمِينَ المُسْتَلْزِمَةِ لمِلْكِهِ لَهُم، وتَصَرُّفِهِ فيهم، وحُكْمِه عليهم، وإِحْسَانِه وإِنْعَامِه عَلَيْهِم، وأَنَّ مَن هذا شأْنُه مَعَ الخَلْقِ كيف يَلِيقُ بِهِ مَعَ رُبُوبِيَّتِهِ التَّامَّةِ أنْ يَتْرُكَهم سُدًى، ويَدَعَهُم هَمَلاً، ويَخْلُقَهم عَبَثًا، لاَ يَأْمُرُهم ولا يَنْهَاهُم، ولاَ يُثِيبُهُم ولا يُعَاقِبُهم؟!
فمَنْ أَقرَّ بأنَّه ربُّ العَالَمِينَ أَقَرَّ بأَنَّ القُرْآنَ نَزَّلَهُ عَلَى رَسُولِهِ، واسْتُدِلَّ بكَوْنِهِ رَبَّ العَالَمِينَ على ثُبُوتِ رِسَالَةِ رَسُولِهِ وصِحَّةِ ما جاءَ به، وهذا الاسْتِدْلاَلُ أَقْوى وأَشْرَفُ مِن الاسْتِدْلاَلِ بالمُعْجِزَاتِ والخَوَارِقِ وإنْ كَانَتْ دَلاَلَتُها أَقْرَبَ إلى أَذْهَانِ عُمُومِ النَّاسِ، وتِلْكَ إِنَّما تَكُونُ لخَوَاصِّ العُقَلاَءِ).
وقولُه:
{أَفَبِهَـذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ}[الواقعة:81] قَالَ مُجَاهِدٌ: (أي: تُرِيدُونَ أَنْ تُمَالِئُوهم فيه وتَرْكَنُوا إليهم).
قالَ
ابنُ القَيِّمِ:(ثُمَّ وبَّخَهُم سُبْحَانَهُ على وضْعِهِم الإِدْهَانَ في غيرِ موضِعِه، وأَنَّهُم يُدَاهِنُونَ فيما حَقُّه أَنْ يُصْدَعَ به، ويُفْرَقَ به، ويُعَضَّ عليه بالنَّواجِذِ، وتُثْنَى عليه الخَنَاصِرُ، وتُعْقَدَ عليه القُلُوبُ والأَفْئِدَةُ، ويُحَارَبَ ويُسَالَمَ لأَِجْلِهِ، ولا يُلْتَوى عنه يَمْنَةً ولا يَسْرَةً، ولاَ يَكُونَ للقَلْبِ الْتِفَاتٌ إلى غَيْرِه، وَلاَ مُحَاكَمَةٌ إِلاَّ إِلَيْهِ، وَلاَ مُخَاصَمَةٌ إِلاَّ بِهِ، ولاَ اهْتِدَاءٌ في طُرُقِ المَطَالِبِ العَالِيَةِ إِلاَّ بِنُورِهِ، وَلاَ شِفَاءٌ إِلاَّ به.
فهو رُوحُ الوُجُودِ، وحَيَاةُ العَالَمِ، ومَدَارُ السَّعَادَةِ، وقَائِدُ الفَلاَحِ، وطَرِيقُ النَّجَاةِ، وسَبِيلُ الرَّشَادِ، ونُورُ البَصَائِرِ، فكيفَ تَطْلُبُ المُدَاهَنَةَ بما هَذَا شَأْنُه؟! وَلَمْ يَنْزِلْ للمُدَاهَنَةِ، وإِنَّما أُنْزِلَ بالحَقِّ وللحَقِّ، والمُدَاهَنَةُ إِنَّما تَكُونُ في بَاطِلٍ قَوِيٍّ لاَ تُمْكِنُ إِزَالَتُه، أو في حَقٍّ ضَعِيفٍ لا تُمْكِنُ إِقَامَتُه، فيَحْتَاجُ المُدَاهِنُ إلى أَنْ يَتْرُكَ بَعْضَ الحَقِّ، ويَلْتَزِمَ بَعْضَ البَاطِلِ.
فَأَمَّا الحَقُّ الذي قَامَ بِهِ كُلُّ حَقٍّ فكيفَ يُدَاهَنُ فيهِ؟!)


وقُولُه: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}[الواقعة:82] تَقَدَّمَ الكَلاَمُ عليها أَوَّلَ البَابِ، واللهُ أَعْلَمُ.

هيئة الإشراف

#3

27 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): (بابُ ما جاءَ فِي الاسْتِسْقاءِ بالأَنْوَاءِ

(5)

قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ ما جاءَ فِي الاسْتِسْقاءِ بالأَنْوَاءِ) أي: من الوَعيدِ، والمرادُ: نِسبةُ السُّقْيَا ومَجيءِ الْمَطَرِ إلى الأَنواءِ، جَمْعُ (نَوْءٍ) وهي مَنَازِلُ الْقَمَرِ، قالَ أبو السَّعَادَاتِ: (وهي ثمانٌ وعِشرون مَنْزِلةً، يَنْزِلُ القَمَرُ كلَّ ليلةٍ مَنْزِلَةً منها).
ومنه قولُه تعالى:
{وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ}[يس:39] يَسْقُطُ في الْغَرْبِ كلَّ ثلاثَ عشرةَ ليلةً مَنْزِلةً مع طُلوعِ الفَجْرِ، وتَطْلُعُ أُخرى مُقابِلَتَها ذلك الوَقْتَ من الْمَشْرِقِ، فتَنْقَضِي جَمِيعُها مع انقضاءِ السَّنَةِ.
وكانت العَرَبُ تَزْعُمُ أنَّ مع سُقوطِ الْمَنْزِلَةِ وطُلوعِ رَقِيبِها يكونُ مَطَرٌ، ويَنْسِبونَه إليها، ويقولون:
((مُطِرْنَا بنَوْءِ كذا)) وإنما سُمِّيَ نَوْءًا؛ لأنه إذا سَقَطَ الساقِطُ منها ناءَ الطالِعُ بالْمَشْرِقِ، أي: نَهَضَ وطَلَعَ)
.


(6)

قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وقولِ اللهِ تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}[الواقعة:82] روى الإمامُ أحمدُ والتِّرمذيُّ -وحَسَّنَه- وابنُ جَريرٍ وابنُ أبي حاتمٍ والضِّياءُ في (الْمُختارَةِ) عن عليٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ} يقولُ: ((شكْرَكُمْ)){أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} يَقُولُونَ: ((مُطِرْنَا بنَوْءِ كَذا وكَذا، بِنَجمِ كَذا كَذا)) وهذا أَوْلَى ما فُسِّرَتْ به الآيةُ، ورُوِيَ ذلك عن عليٍّ، وابنِ عَبَّاسٍ، وقَتادةَ، والضَّحَّاكِ، وعَطاءٍ الْخُراسانيِّ وغيرِهم، وهو قولُ جُمهورِ الْمُفَسِّرينَ، وبه يَظْهَرُ وَجْهُ استدلالِ الْمُصنِّفِ بالآيةِ.
قالَ
ابنُ الْقَيِّمِ:(أي: وتَجْعَلُونَ حَظَّكُم من هذا الرِّزْقِ الذي به حَياتُكم التَّكْذِيبَ به، يَعْنِي القرآنَ).

- قالَ الحسَنُ: (تَجعلونَ حَظَّكُمْ ونَصيبَكم من القُرآنِ أنكم تُكَذِّبُونَ، قالَ: وخَسِرَ عَبْدٌ لا يكونُ حَظُّه من القُرآنِ إلا التكذيبَ).


(7)

قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعَنْ أَبي مالكٍ الأشعريِّ: أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَرْبَعٌ في أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجاهلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ: الفَخْرُ بِالأَحْسَابِ وَالطَّعْنُ فِي الأَنْسابِ وَالاسْتِسْقاءُ بِالنُّجومِ وَالنِّياحةُ)).
وقالَ:
((النَّائِحَةُ إِذا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِها تُقامُ يَوْمَ القِيامةِ وَعَلَيْها سِرْبالٌ مِنْ قَطِرانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ))رواهُ مُسلمٌ).
(
أبو مالِكٍ) اسمُه الحارثُ بنُ الحارِثِ الشاميُّ، صَحَابيٌّ تَفَرَّدَ عنه بالروايةِ أبو سَلاَّمٍ، وفي الصحابةِ أبو مالِكٍ الأَشعريُّ اثنان غيرُ هذا.
قولُه:
((أَرْبَعٌ في أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الجاهلِيَّةِ لا يَتْرُكُونَهُنَّ)) ستَفْعَلُها هذه الأُمَّةُ إما مع العِلْمِ بتحريمِها أو مع الْجَهْلِ بذلك، مع كونِها من أَهْلِ الجاهليَّةِ الْمَذمومةِ الْمَكروهةِ الْمُحَرَّمَةِ.
والمرادُ بالجاهليَّةِ هنا ما قَبْلَ الْمَبْعَثِ، سُمُّوا بذلك لفَرْطِ جَهْلِهم، وكلُّ ما يُخالِفُ ما جاءَ به رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهو جاهِلِيَّةٌ، فقد خالَفَهم رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في كثيرٍ من أمورِهم أو أَكْثَرِها، وذلك يُدْرَكُ بتَدَبُّرِ القرآنِ ومَعرِفَةِ السُّنَّةِ.
قالَ
شيخُ الإسلامِ:(أَخْبَرَ أنَّ بعضَ أَمْرِ الجاهليَّةِ لا يَتْرُكُه الناسُ كلُّهم ذَمًّا لِمَنْ لم يَتْرُكْهُ، وهذا يَقْتَضِي أنَّ كلَّ ما كان مِن أَمْرِ الجاهليَّةِ وفِعْلِهم فهو مَذمومٌ في دِينِ الإسلامِ، وإلا لم يكنْ في إضافةِ هذه الْمُنْكَرَاتِ إلى الجاهليَّةِ ذمٌّ لها، ومَعلومٌ أنَّ إضافتَها إلى الجاهليَّةِ خَرَجَ مَخرَجَ الذَّمِّ، وهذا كقولِه تعالى:{وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى}[الأحزاب:33] فإنَّ في ذَلِكَ ذَمًّا للتَّبَرُّجِ وذمًّا لحالِ الجاهليَّةِ الأُولَى، وذلك يَقْتَضِي الْمَنْعَ من مُشَابَهَتِهم في الْجَمْلَةِ).
قولُه:
((الفَخْرُ بِالأَحْسابِ)) أي: التعاظُمُ على الناسِ بالآباءِ ومَآثِرِهم، وذلك جَهْلٌ عظيمٌ؛ إذ لا كَرَمَ إلا بالتَّقْوَى، كما قالَ تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللهِ أَتْقَاكُمْ}[الحجرات:13] .

- وقالَ تعالى: {وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زُلْفَى إِلاَّ مَنْ آمَن وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُوْلَـئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُواْ وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ}[سبأ:37].
ولأبي داوُدَ، عن
أبي هُريرةَ، مَرفوعًا: ((إِنَّ اللهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمُ عُبِّيَّةَ الجَاهِلِيَّةِ، وفَخْرَها بِالآباءِ، إِنَّما هُوَ مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ، أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ، النَّاسُ بنو آدَمَ، و َآدَمُ خُلِقَ مِنْ ترابٍ، لَيَدَعَنَّ رجالٌ فخْرَهُم بِأَقْوامٍ إنَّما هُمْ فَحْمٌ من فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكونُنَّ أَهْوَنَ عَلَى اللهِ مِنَ الْجِعْلاَنِ))الحديثَ.
قولُه:
((والطَّعْنُ في الأنْسابِ)) أي: الوُقوعُ فيها بالْعَيْبِ والتَّنَقُّصِ. وَلَمَّا عَيَّرَ أبو ذَرٍّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ رَجُلاً بأُمِّه قالَ له النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أعَيَّرْتَهُ بِأُمِّهِ؟ إِنَّكَ امْرُؤٌ فيكَ جاهِلِيَّةٌ)) مُتَّفَقٌ عليه؛ فدَلَّ على أنَّ الطَّعْنَ في الأنسابِ من عَمَلِ الجاهليَّةِ، وأنَّ المسلِمَ قد يكونُ فيه شيءٌ مِن هذه الْخِصالِ الْمُسَمَّاةِ بجَاهِلِيَّةٍ ويَهودِيَّةٍ ونَصرانِيَّةٍ، ولا يُوجِبُ ذلك كُفْرَه ولا فِسْقَه، قالَه شيخُ الإسلامِ.


قولُه: (والاسْتِسْقاءُ بالنُّجومِ) أي: نِسبةُ المطَرِ إلى النَّوْءِ وهو سُقوطُ النَّجْمِ، كما أَخْرَجَ الإمامُ أحمدُ، وابنُ جَريرٍ، عن جابِرٍ السوائيِّ قالَ: (سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ: ((أَخافُ عَلى أُمَّتي ثَلاثًا: اسْتِسْقَاءً بِالنُّجومِ، وَحَيْفَ السُّلْطانِ، وَتَكْذِيبًا بِالقَدَرِ)).
فإذا قالَ قائلُهم:
(مُطِرْنَا بنَجْمِ كذا أو بِنَوْءِ كذا) فلا يَخْلُو: إمَّا أن يَعْتَقِدَ أنَّ له تَأْثيرًا في نزولِ الْمَطَرِ، فهذا شِرْكٌ وكُفْرٌ.
وهو الذي يَعْتَقِدُه أهلُ الجاهليَّةِ كاعتقادِهم أنَّ دعاءَ الْمَيِّتِ والغائِبِ يَجْلُبُ لهم نَفْعًا، أو يَدْفَعُ عنهم ضَرًّا، أو أنه يَشْفَعُ بدُعائِهم إِيَّاهُ، فهذا هو الشِّرْكُ الذي بَعَثَ اللهُ رَسولَه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالنَّهْيِ عنه وقِتالِ مَن فَعَلَه، كما قالَ تعالى:
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ للهِ}[الأنفال:39] والفِتْنَةُ الشِّرْكُ، وإمَّا أن يَقولَ: مُطِرْنا بِنَوْءِ كذا مَثَلاً، لكن مع اعتقادِه أنَّ الْمُؤثِّرَ هو اللهُ وَحْدَه.


لكنه أَجْرَى العَادَةَ بوُجودِ الْمَطَرِ عندَ سُقوطِ ذلك النَّجْمِ،

والصحيحُ: أنه يَحْرُمُ نِسبةُ ذلك إلى النجْمِ ولو على طَريقِ الْمَجَازِ، فقد صَرَّحَ ابنُ مُفْلِحٍ في (الفروعِ)، بأنه يَحْرُمُ قولُ: ((مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا)) وجَزَمَ في الإنصافِ بتَحريمِه، ولم يَذْكُرْ خِلافًا.
وذلك أنَّ القائلَ لذلك نَسَبَ ما هو من فِعْلِ اللهِ تعالى الذي لا يَقْدِرُ عليه غيرُه إلى خَلْقٍ مُسَخَّرٍ، لا يَنْفَعُ ولا يَضُرُّ، ولا قُدرةَ له على شيءٍ، فيكونُ ذلك شِرْكًا أَصْغَرَ. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُه:
((والنِّياحةُ)) أي: رَفْعُ الصوتِ بالنَّدْبِ على الْمَيِّتِ؛ لأنها تَسَخُّطٌ لقضاءِ اللهِ، وذلك يُنَافِي الصبرَ الواجبَ، وهي من الكبائرِ لشِدَّةِ الوَعيدِ والعُقوبةِ.


(8)

قولُه: ((النائحةُ إِذا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِها)) فيه تَنبيهٌ على أنَّ التوبةَ تُكَفِّرُ الذَّنْبَ وإن عَظُمَ، هذا مُجْمَعٌ عليه في الجُمْلَةِ، وتُكَفَّرُ أيضًا بالْحَسَنَاتِ الْمَاحِيَةِ والْمَصائبِ، ودُعاءِ المسلمينَ بعضِهم لبعضٍ، وبالشَّفاعةِ بإِذْنِ اللهِ، وعَفْوِ اللهِ عمَّنْ شاءَ مِمَّنْ لا يُشْرِكُ به شيئًا.
وفي الحديثِ عن
ابنِ عُمرَ مَرفوعًا: ((إنَّ اللهَ تعالى يَقْبَلُ تَوْبةَ العَبْدِ ما لَمْ يُغَرْغِرْ))رواه أحمدُ، والتِّرمذيُّ، وابنُ مَاجَةَ، وابنُ حِبَّانَ.


قولُه: ((تُقامُ يوْمَ القِيامةِ وَعَلَيها سِرْبالٌ مِنْ قَطِرانٍ وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ)) قالَ القُرطبيُّ: (السِّرْبالُ واحدُ السَّرَابيلِ، وهي الثِّيابُ والقُمُصُ، يعني: أَنَّهُنَّ يُلَطَّخْنَ بالْقَطِرَانِ، فيكونُ لهن كالْقُمُصِ، حتى يكونَ اشتعالُ النارِ بأَجْسَادِهِنَّ أَعْظَمَ، ورَائِحَتُهُنَّ أَنْتَنَ، وأَلَمُهُنَّ بسَبَبِ الْجَرَبِ أَشَدَّ).
ورُوِيَ عن
ابنِ عَبَّاسٍ:(أنَّ الْقَطِرَانَ هو النُّحَاسُ الْمُذَابُ).


(9)

قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَهُما عَنْ زَيْدِ بنِ خالدٍ قالَ: صَلَّى لَنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلاةَ الصُّبْحِ بالحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَماءٍ كانَتْ مِنَ اللَّيلِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَقْبَلَ علَى الناسِ فقالَ: ((هَلْ تَدْرُونَ ماذا قالَ رَبُّكُمْ؟))


قَالُوا: (اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ)
قالَ:

((قالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قالَ: مُطِرْنا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالكَوْكَبِ، وأَمَّا مَنْ قالَ: مُطِرْنا بِنَوْءِ كَذا وَكَذا فَذلِكَ كافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بالكَوْكَبِ)).


زيدُ بنُ خالدٍ الْجُهَنِيُّ

صَحَابِيٌّ مَشهورٌ، ماتَ سَنَةَ ثَمانٍ وسِتِّينَ.


وقِيلَ:

غيرُ ذلك، وله خمسٌ وثَمانونَ سَنَةً.
قولُه:
((صَلَّى لَنا رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) أي: بِنَا، فاللامُ بمعنى الباءِ، قالَ الحافظُ: وفيه إطلاقُ ذلك مَجازًا. وإنما الصلاةُ للهِ.
قولُه:
((بِالحُدَيْبِيَةِ)) بالْمُهْمَلَةِِ وتَخفيفِ يَائِها وتُثَقَّلُ.
قولُه:
((عَلَى إِثْرِ)) بكَسْرِ الهمزةِ وسُكونِ الْمُثَلَّثَةِ على المشهورِ، وهو ما يَعْقُبُ الشيءَ.
قولُه:
((سَماءٍ)) أي: مَطَرٍ؛ لأنه يَنْزِلُ من السَّحابِ، والسماءُ يُطلَقُ على كلِّ ما ارْتَفَعَ.
قولُه:
((فلَمَّا انْصَرَفَ)) أي: من صَلاتِه، أي: الْتَفَتَ إلى الْمَأْمُومِينَ، كما يَدُلُّ عليه قولُه: (أَقْبَلَ علَى النَّاسِ) ويَحْتَمِلُ أنه أَرادَ السلامَ.
قولُه:
((هَلْ تَدْرونَ)) لفظُ استفهامٍ ومعناه التنبيهُ.
وفي
النَّسائيِّ: ((أَلَمْ تَسْمَعوا ما قالَ رَبُّكُمُ اللَّيلَةَ؟))وهذا من الأحاديثِ القُدُسِيَّةِ. وفيه: إلقاءُ العالِمِ المَسْألَةَ على أصحابِه ليَخْتَبِرَهُمْ.
قولُه:
((قَالُوا: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ)) فيه: حُسْنُ الأَدَبِ للمسؤولِ إذا سُئِلَ عمَّا لا يَعْلَمُ أن يَكِلَ العِلْمَ إلى عالِمِه، وذلك يَجِبُ.
قولُه:
((أَصْبَحَ مِنْ عِبادِي)) الإضافةُ هنا للعُمومِ بدليلِ التقسيمِ إلى مُؤْمِنٍ وكافِرٍ، كقولِه تعالى: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُم مُّؤْمِنٌ}[التغابن:2].
قولُه:
((مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ)) إذا اعْتَقَدَ أنَّ للنَّوْءِ تأثيرًا في إنزالِ الْمَطَرِ فهذا كُفْرٌ؛ لأنه شِرْكٌ في الرُّبوبيَّةِ، والْمُشْرِكُ كافرٌ.
وإن لم يَعْتَقِدْ ذلك فهو من الشرْكِ الأصغرِ؛ لكَوْنِهِ نَسَبَ نِعمةَ اللهِ إلى غيرِه، ولأنَّ اللهَ لم يَجْعَل النَّوْءَ سَبَبًا لإنزالِ الْمَطَرِ فيه، وإنما هو فَضْلٌ من اللهِ ورَحْمَةٌ يَحْبِسُه إذا شاءَ، ويُنْزِلُه إذا شاءَ.
ودَلَّ هذا الحديثُ على أنه لا يَجوزُ لأَحَدٍ أن يُضيفَ أَفعالَ اللهِ إلى غيرِه، ولو على سبيلِ الْمَجَازِ.
وأيضًا، الباءُ تَحْتَمِلُ مَعَانِيَ، وكلُّها لا تَصْدُقُ بهذا اللفظِ، فليستْ للسَّبَبِيَّةِ ولا للاستعانَةِ، لِمَا عَرَفْتَ من أنَّ هذا باطلٌ.
ولا تَصْدُقُ أيضًا على أنها للمُصَاحَبَةِ؛ لأنَّ الْمَطَرَ قد يَجِيءُ في هذا الوقْتِ وقد لا يَجيءُ فيه، وإنما يَجيءُ الْمَطَرُ في الوقتِ الذي أرادَ اللهُ مَجِيئَهُ فيه برَحمتِه وحِكْمَتِه وفَضْلِه.
فكلُّ مَعْنًى تُحْمَلُ عليه الباءُ في هذا اللفظِ الْمَنْهِيِّ عنه فاسدٌ. فيَظهَرُ على هذا: تحريمُ هذه اللفظةِ مُطْلَقًا لفَسادِ المعنى، وقد تَقَدَّمَ الْقَطْعُ بتَحريمِه في كلامِ صاحبِ الفُروعِ والإنصافِ.
قالَ
الْمُصَنِّفُ: ((وفيه التَّفَطُّنُ للإيمانِ في هذا الْمَوْضِعِ)) يُشيرُ إلى أنه الإخلاصُ.
قولُه:
((فَأَمَّا مَنْ قالَ: مُطِرْنا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ)) فالفَضْلُ والرحمةُ صِفتانِ للهِ، ومَذْهَبُ أهلِ السُّنةِ والجماعةِ: أنَّ ما وَصَفَ اللهُ به نَفْسَه ووَصَفَه به رسولُه من صِفاتِ الذاتِ: كالحياةِ والعِلْمِ، وصِفاتِ الأفعالِ، كالرَّحْمَةِ التي يَرْحَمُ بها عِبادَه: كلُّها صِفاتٌ للهِ قَائمةٌ بذَاتِه، ليستْ قائمةً بغَيْرِه، فتَفَطَّنْ لهذا فقد غَلِطَ فيه طَوائفُ.
وفي هذا الحديثِ أنَّ نِعَمَ اللهِ لا يَجوزُ أن تُضافَ إلا إليه وَحْدَه، وهو الذي يُحْمَدُ عليها، وهذه حالُ أهلِ التوحيدِ.
قولُه:
((وَأَمَّا مَنْ قالَ: مُطِرْنا بِنَوْءِ كَذا وَكَذا)) إلى آخِرِه قد تَقَدَّمَ ما يَتَعَلَّقُ بذلك.
قالَ
الْمُصَنِّفُ: (وفيه: التَّفَطُّنُ للْكُفْرِ في هذا الْمَوْضِعِ) يُشيرُ أنَّ نِسبةَ النِّعمةِ إلى غيرِ اللهِ كُفْرٌ، ولهذا قَطَعَ بعضُ العُلماءِ بتَحريمِه، وإن لم يَعْتَقِدْ تأثيرَ النَّوْءِ في بإنزالِ الْمَطَرِ، فيكونَ مِن كُفْرِ النِّعَمِ؛ لعَدَمِ نِسبتِها إلى الذي أَنْعَمَ بها، ونِسبتِها إلى غيرِه كما سَيأتِي في قولِه تعالى: {يَعْرِفُونَ نِعْمَةَ اللهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا}[النحل:83].
قالَ
القُرطبيُّ في شرْحِ حديثِ زيدِ بنِ خالدٍ:(وكانت العَرَبُ إذا طَلَعَ نَجمٌ من الْمَشرِقِ وسقَطَ آخَرُ من الْمَغْرِبِ فحَدَثَ عندَ ذلك مَطَرٌ أو رِيحٌ، فمِنهم مَن يَنْسِبُه إلى الطالِعِ، ومنهم مَن يَنْسِبُه إلى الغارِبِ؛ نِسبةَ إيجادٍ واختراعٍ، ويُطْلِقونَ ذلك القولَ المذكورَ في الحديثِ؛ فنَهَى الشارِعُ من إطلاقِ ذلك؛ لئَلاَّ يَعْتَقِدَ أَحَدٌ اعتقادَهم ولا يَشْتَبِهَ بِهِم في نُطْقِهم) انتهى.
قولُه: (فمِنهم مَن يَنْسِبُه نِسبةَ إيجادٍ)، يَدُلُّ على أنَّ بعضَهم كانَ لا يَعتقِدُ ذلك، كما قالَ تعالى:
{وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللهُ}[العنكبوت:63] فَدَلَّ على أنَّ منهم مَن يَعْرِفُ ويُقِرُّ بأنَّ اللهَ هو الذي أَوْجَدَ الْمَطَرَ، وقد يَعتقِدُ هؤلاءِ أنَّ للنَّوْءِ فيه شيئًا من التأثيرِ، والقُرطبيُّ في (شَرْحِه) لم يُصَرِّحْ أنَّ العَرَبَ كلَّهم يَعتَقِدُون ذلك الْمُعْتَقَدَ الذي ذَكَرَه؛ فلا اعتراضَ عليه بالآيةِ للاحتمالِ المذكورِ.


(10)

قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَهُما مِنْ حَديثِ ابنِ عَبَّاسٍ بِمَعْناهُ وفِيهِ: ((قالَ بَعْضُهُم: لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذا وَكَذا فَأَنْزَلَ اللهُ هَذِهِ الآياتِ: {فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ (78) لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (.8) أَفَبِهَـذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ}[الواقعة:75-82])).


وبِلَفْظِه عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: (مُطِرَ الناسُ على عَهْدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَصْبَحَ مِنَ النَّاسِ شَاكِرٌ، وَمِنْهُمْ كَافِرٌ)).


قَالُوا: (هَذِهِ رَحْمَةُ اللهِ)
وقالَ بعضُهم: (لقد صَدَقَ نَوْءُ كذا وكذا)
قالَ: (فنَزَلَتْ هذه الآيةُ

{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ...}).


هذا قَسَمٌ من اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، يُقْسِمُ بما شاءَ من خَلْقِه على ما شاءَ.
وجَوابُ القَسَمِ
{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} فتَكونُ (لا) صِلَةً لتأكيدِ النفيِ، فتقديرُ الكلامِ: ليس الأَمْرُ كما زَعَمْتُم في القرآنِ أنه سِحْرٌ أو كَهانةٌ، بل هو قُرآنٌ كريمٌ.
قالَ
ابنُ جَريرٍ:(قالَ بعضُ أهلِ العَرَبِيَّةِ: معنى قَوْلِهِ {فَلاَ أُقْسِمُ} فليس الأَمْرُ كما تَقولون، ثم اسْتُؤْنِفَ القَسَمُ بَعْدُ فقيلَ: أُقْسِمُ ومَوَاقِعِ النجومِ، قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: (يَعْنِي نُجومَ القُرآنِ) فإنه نَزَلَ جُملةً ليلةَ القَدْرِ من السماءِ العُلْيَا إلى السماءِ الدنيا، ثم نَزَلَ مُفَرَّقًا في السِّنينَ بَعْدُ، ثم قَرَأَ ابنُ عَبَّاسٍ هذه الآيةَ.
ومَوَاقِعُها: نُزُولُها شَيئًا بعدَ شَيْءٍ).


وقالَ مُجاهِدٌ: (مَواقِعُ النجومِ مَطالِعُها ومَسَاقِطُها) واختارَه ابنُ جَريرٍ، وعلى هذا فتكونُ الْمُنَاسَبَةُ بينَ الْمُقْسَمِ به والْمُقْسَمِ عليه -وهو القُرآنُ- من وُجوهٍ:


أَحَدُها:

أنَّ النُّجومَ جَعَلَها اللهُ لِيُهْتَدَى بها في ظُلُماتِ الْبَرِّ والْبَحْرِ،

وآياتُ القرآنِ يُهْتَدَى بها في ظُلُمَاتِ الْغَيِّ والْجَهْلِ؛ فتلك هِدايةٌ في الظُّلماتِ الْحِسِّيَّةِ والقرآنُ هِدايةٌ في الظُّلُماتِ الْمَعْنَوِيَّةِ.
فجَمَعَ بينَ الْهِدايتينِ مع ما في النُّجومِ من الزِّينةِ الظاهِرَةِ، وفي القرآنِ من الزينةِ الباطِنَةِ ومع ما في النُّجومِ من الرُّجومِ للشياطينِ، وفي القُرآنِ مِن رُجومِ شياطينِ الإنْسِ والْجِنِّ، والنجومُ آياتُه الْمَشهودةُ العِيَانِيَّةُ، والقُرآنُ آياتُه الْمَتْلُوَّةُ السَّمْعِيَّةُ، مع ما في مَوَاقِعِها عندَ الغُروبِ من العِبْرَةِ والدَّلالةِ على آياتِه القُرآنِيَّةِ ومَواقِعِها عندَ النُّزولِ، ذَكَرَه
ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَه اللهُ.
وقولُه:
{وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} قالَ ابنُ كَثيرٍ:(أي: وإنَّ هذا الْقَسَمَ الذي أَقْسَمْتُ به لقَسَمٌ عظيمٌ، لو تَعلمونَ عَظَمَتَه لعَظَّمْتُم الْمُقْسَمَ به عليه).
وقولُه:
{إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ} هذا هو الْمُقْسَمُ عليه، وهو القرآنُ، أي: وإنه وَحْيُ اللهِ وتَنزيلُه وكَلامُه، لا كما يَقولُ الكُفَّارُ: إنه سِحْرٌ أو كَهانةٌ، أو شِعْرٌ.
بل هو قُرآنٌ كريمٌ، أي: عَظيمٌ كَثيرُ الْخَيْرِ؛ لأنه كَلامُ اللهِ.
قالَ
ابنُ الْقَيِّمِ:(فوَصَفَه بما يَقْتَضِي حُسْنَه وكَثْرَةَ خَيْرِه ومَنافِعِه وجَلالتَه؛ فإنَّ الكريمَ هو الْبَهِيُّ الكثيرُ الْخَيْرِ العظيمُ النَّفْعِ، وهو من كلِّ شيءٍ أَحْسَنُه وأَفْضَلُه، واللهُ سُبحانَه وتعالى وَصَفَ نَفسَه بالْكَرَمِ، ووَصَفَ به كَلامَه، ووَصَفَ به عَرْشَه، ووَصَفَ به ما كَثُرَ خَيرُه وحَسُنَ مَنْظَرُه مِن النَّباتِ وغيرِه، ولذلك فَسَّرَ السلَفُ ((الكريمَ)) بالْحَسَنِ).
قالَ
الأزهريُّ: (الكريمُ اسمٌ جامعٌ لِمَا يُحْمَدُ، واللهُ تعالى كريمٌ جَميلُ الْفِعالِ، وإنه لَقرآنٌ كَريمٌ يُحْمَدُ، لِمَا فيه من الْهُدَى والبيانِ والعِلْمِ والْحِكمةِ).
قولُه:
{فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ} أي: مُعَظَّمٍ، في كِتابٍ مُعَظَّمٍ مَحفوظٍ مُوَقَّرٍ،قالَه ابنُ كثيرٍ.
وقالَ
ابنُ الْقَيِّمِ:(اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرونَ في هذا:
فقيلَ: هو اللَّوْحُ المحفوظُ، والصحيحُ أنه الكتابُ الذي بأَيْدِي الملائكةِ، وهو المذكورُ في قولِه:
{فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ (13) مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ}[عبس:13-16]ويَدُلُّ على أنه الكِتابُ الذي بِأَيْدِي الملائكةِ قولُه: {لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}فهذا يَدُلُّ على أنه بِأَيْدِيهِم يَمَسُّونَه).
قولُه:
{لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} قالَ ابنُ عبَّاسٍ:{لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} قالَ: ((الكتابُ الذي في السماءِ)).

- وفي روايةٍ: {{لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ المُطَهَّرُونَ}} يعني: الملائكةَ، وقالَ قَتادةُ: ((لا يَمَسُّه عندَ اللهِ إلا الْمُطَهَّرون ؛ فأمَّا في الدنيا فإنه يَمَسُّه الْمَجُوسِيُّ النَّجِسُ والْمُنافِقُ الرَّجِسُ))واختارَ هذا القولَ كثيرون، منهم ابنُ الْقَيِّمِ ورَجَّحَه.
وقالَ
ابنُ زَيدٍ: (زَعَمَتْ قُريشٌ أنَّ هذا القرآنَ تَنَزَّلَتْ به الشياطينُ، فأَخْبَرَ اللهُ تعالى أنه لا يَمَسُّه إلا الْمُطَهَّرون كما قالَ تعالى: {وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (.21) وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (212) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ}[الشعراء:210-212]).
قالَ
ابنُ كثيرٍ:(هذا قولٌ جَيِّدٌ، وهو لا يَخْرُجُ عن القولِ قَبْلَه).
وقالَ
البخاريُّ في (صحيحِه) في هذه الآيةِ: (لا يَجِدُ طَعْمَهُ إِلا مَنْ آمَنَ بِهِ).


قالَ ابنُ الْقَيِّمِ:(هذا من إشارةِ الآيةِ وتَنْبِيهِها، وهو أنه لا يَلْتَذُّ به وبِقراءتِه وفَهْمِه وتَدَبُّرِه إلا مَن يَشهَدُ أنه كَلامُ اللهِ تَكَلَّمَ به حَقًّا، وأَنْزَلَه على رَسولِه وَحْيًا، لا يَنالُ مَعانِيَهُ إلا مَن لم يَكُنْ في قَلْبِه منه حَرَجٌ بوَجْهٍ من الوُجوهِ).
وقالَ آخَرُون:
{لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} أي: من الْجَنابَةِ والْحَدَثِ، قَالُوا: ولفظُ الآيةِ خَبَرٌ ومعناه الطَّلَبُ.
وقَالُوا: والمرادُ بالقرآنِ ههنا الْمُصْحَفُ، واحْتَجُّوا على ذلك بما رواه
مالِكٌ في (الْمُوَطَّأِ)، عن عبدِ اللهِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ أبي بكرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عمرِو بنِ حَزْمٍ: أنَّ في الكتابِ الَّذِي كَتَبَهُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِعَمْرِو بنِ حَزمٍ:((أنْ لاَ يَمَسَّ القُرآنَ إِلاَّ طاهِرٌ)).
وقولُه:
{تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ} قالَ ابنُ كثيرٍ: (أي: هذا القرآنُ مُنَزَّلٌ من اللهِ ربِّ العالمينَ وليس كما يَقولون: إنه سِحْرٌ وكَهانةٌ أو شِعْرٌ، بل هو الْحَقُّ الذي لا مِرْيَةَ فيه، وليس وَراءَه حَقٌّ نافعٌ).
وفي هذه الآيةِ: أنه كلامُ اللهِ تَكَلَّمَ به.
قالَ
ابنُ الْقَيِّمِ: (ونَظيرُه {وَلَـكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي}[السجدة:13] .

- وقولُه: {قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ}[النحل:102]هو إثباتُ عُلُوِّ اللهِ تعالى على خَلْقِه.
فإنَّ النُّزولَ والتنزيلَ الذي تَعْقِلُه العُقولُ وتَعْرِفُه الفِطَرُ هو وُصولُ الشيءِ من أَعْلَى إلى أَسْفَلَ، ولا يَرِدُ عليه قولُه:
{وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ الأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ}[الزمر:6]لأَنَّا نَقولُ: إنَّ الذي أَنْزَلَها فوقَ سَمواتِه؛ فأَنْزَلَها لنا بأَمْرِه).
قالَ
ابنُ الْقَيِّمِ: (وذَكَرَ التنزيلَ مُضافًا إلى رُبوبِيَّتِه للعالمينَ الْمُسْتَلْزِمَةِ لِمُلْكِهِ لهم وتَصَرُّفِه فيهم، وحُكْمِه عليهم، وإحسانِه إليهم، وإنعامِه عليهم، وأنَّ مَنْ هذا شأنُه مع الْخَلْقِ كيف يَليقُ به مع رُبُوبِيَّتِه التامَّةِ أن يَتْرُكَهُم سُدًى، ويَدَعَهم هَمَلاً، ويَخْلُقَهم عَبَثًا، لا يَأْمُرُهم ولا يَنْهَاهُم ولا يُثِيبُهم ولا يُعَاقِبُهم؟
فمَن أَقَرَّ بأنه ربُّ العالمينَ أَقرَّ بأنَّ القرآنَ تَنْزِيلُه على رسولِه واسْتَدَلَّ بكَوْنِه ربَّ العالمينَ على ثُبوتِ رِسالةِ رَسولِه وصِحَّةِ ما جاءَ به، وهذا الاستدلالُ أَقْوَى وأَشْرَفُ من الاستدلالِ بالْمُعْجِزاتِ والْخَوارقِ، وإن كانت دَلالتُها أَقْرَبَ إلى أذهانِ عُمومِ الناسِ، وتلك إنما تكونُ لِخَوَاصِّ العُقلاءِ)
.
قولُه:
{أَفَبِهَـذَا الْحَدِيثِ أَنتُم مُّدْهِنُونَ} قالَ مُجَاهِدٌ: (أي: أَتريدونَ أن تُمَالِئُوهم فيه، وتَرْكَنُوا إليهم؟)


قالَ ابنُ القَيِّمِ:(ثم وَبَّخَهُم سُبْحَانَه على وَضْعِهِم الإدْهانَ في غيرِ مَوْضِعِه، وأنهم يُدَاهنونَ فيما حَقُّه أن يُصْدَعَ به ويُفَرَّقَ به، ويُعَضَّ عليه بالنواجِذِ، وتُثْنَى عليه الْخَنَاصِرُ، وتُعْقَدَ عليه القلوبُ والأفئدةُ، ويُحارَبَ ويُسالَمَ لأَجْلِه، ولا يُلْتَوَى عنه يَمْنَةً ولا يَسرةً، ولا يكونَ للْقَلْبِ الْتِفاتٌ إلى غيرِه، ولا مُحاكَمَةٌ إلا إليه، ولا مُخاصَمَةٌ إلا به، ولا اهتداءٌ في طُرُقِ الْمَطالِبِ العاليةِ إلا بنورِه، ولا شفاءٌ إلا به، فهو رُوحُ الوُجودِ، وحياةُ العالَمِ، ومَدارُ السعادةِ وفائِدَةُ الفَلاحِ وطَريقُ النجاةِ، وسبيلُ الرشادِ، ونُورُ البَصائرِ.
فكيف تُطْلَبُ الْمُداهَنَةُ بما هذا شأنُه، ولم يُنَزَّلْ للمُدَاهَنَةِ، وإنما نُزِّلَ بالحَقِّ وللحَقِّ، والْمُدَاهَنَةُ إنما تكونُ في بَاطلٍ قَوِيٍّ لا تُمْكِنُ إزالتُه، أو في حَقٍّ ضَعيفٍ لا تُمْكِنُ إقامتُه، فيَحتاجُ الْمُدَاهِنُ إلى أن يَتْرُكَ بعضَ الْحَقِّ ويَلتزِمَ بعضَ الباطلِ، فأمَّا الحقُّ الذي قامَ به كلُّ حقٍّ فكيفَ يُداهَنُ به؟)
.
قولُه:
{وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} تَقدَّمَ الكلامُ عليها أَوَّلَ البابِ، وسُبْحَانَهُ وتَعَالَى أَعْلَمُ.

هيئة الإشراف

#4

27 Oct 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((2)

لَمَّا كان من التوحيدِ الاعترافُ للهِ بتفرُّدِه بالنِّعَمِ وَدَفْعِ النِّقَمِ،

وإضافتِها إليه قولاً واعترافًا بها على طاعتِه ، كان قولُ القائلِ: مُطِرْنا بِنَوْءِ كذا وكذا.
ينافي هذا المقصودَ أشدَّ المنافاةِ؛ لإِضافةِ المطرِ إلى النَّوْءِ،والواجبُ إضافةُ المطرِ وغيرِه من النِّعَمِ إلى اللهِ ، فإنه الذي تَفَضَّل بها على عبادِه.
ثم الأنواءُ ليستْ من الأسبابِ لنزولِ المطرِ بوجهٍ مِن الوجوهِ، وإنَّما السببُ عنايةُ الموْلَى ورحمتُه وحاجةُ العبادِ وسؤالُهم لربِّهِم بلسانِ الحالِ ولسانِ المقالِ ، فَيُنْـزِلُ عليهم الغيثَ بحكمتِه ورحمتِه بالوقتِ المناسبِ لحاجتِهم وضرورتِهم.
فلا يتمُّ توحيدُ العبدِ حتى يعترفَ بنعمِ اللهِ الظاهرةِ والباطنةِ عليه وعلى جميعِ الخلقِ ، ويضيفَها إليه ، ويستعينَ بها على عبادتِه وذِكْرِه وشكرِه.
وهذا الموضعُ من محُقَّقَاتِ التوحيدِ ، وبه يُعْرَفُ كاملُ الإِيمانِ وناقِصُه.

هيئة الإشراف

#5

27 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (13)

الاسْتِسْقاءُ:

طلبُ السُّقْيَا، كالاستغفارِ: طَلَبُ المغفرةِ، والاستعانةِ: طلبُ المعونةِ، والاستعاذةِ: طلبُ العَوْذِ.


والاستهداءِ:

طلبُ الهدايةِ؛ لأنَّ مَادَّةَ (اسْتَفْعَلَ) في الغالبِ تدلُّ على الطلبِ، وقدْ لا تَدُلُّ على الطلبِ بلْ تَدُلُّ على المبالغةِ في الفعلِ، مثلَ: (استكبرَ)، أيْ: بَلَغَ في الكِبْرِ غايتَهُ، وليسَ المعنى طلبَ الكِبْرَ. والاستسقاءُ بالأَنْوَاءِ: أيْ: أنْ تَطْلُبَ منها أنْ تَسْقِيَكَ.

والاستسقاءُ بالأنواءِ ينقسمُ إلى قسمَيْنِ:

القسمُ الأَوَّلُ: شِرْكٌ أكبرُ، ولهُ صورتانِ:


الأُولَى:

أنْ يدْعُوَ الأَنْوَاءَ بالسُّقْيَا،

كأنْ يقولَ: يا نَوْءَ كذا اسْقِنا أوْ أَغِثْنَا، وما أشبهَ ذلكَ؛ فهذا شِرْكٌ أكبرُ؛ لأنَّهُ دعا غيرَ اللهِ، ودعاءُ غيرِ اللهِ من الشركِ الأكبرِ، قالَ تعالى: { وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللهِ إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ }.

- وقالَ تعالى: { وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ للهِ فَلاَ تَدْعُوا مَعَ اللهِ أَحَدًا }.

- وقالَ تعالى: { وَلاَ تَدْعُ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَنْفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذًا مِنَ الظَّالِمِينَ } إلى غيرِ ذلكَ مِن الآياتِ الكثيرةِ الدَّالَّةِ على النَّهْيِ عَنْ دُعَاءِ غيرِ اللهِ وأنَّهُ من الشركِ الأكبرِ.


الثانيةُ:

أنْ يَنْسِبَ حصولَ الأمطارِ إلى هذهِ الأنواءِ على أَنَّها هيَ الفاعلةُ بنفسِها دونَ اللهِ،

ولوْ لمْ يَدْعُها، فهذا شركٌ أكبرُ في الرُّبُوبِيَّةِ، والأَوَّلُ في العبادةِ؛ لأنَّ الدعاءَ من العبادةِ، وهوَ مُتَضَمِّنٌ للشركِ في الرُّبُوبِيَّةِ؛ لأنَّهُ لم يَدْعُها إلاَّ وهوَ يعتقدُ أنَّها تفعلُ وتقضي الحاجةَ.


القسمُ الثاني:

شركٌ أصغرُ،

وهوَ أنْ يجعلَ هذهِ الأنواءَ سببًا، معَ اعتقادِهِ أنَّ اللهَ هوَ الخالقُ الفاعلُ؛ لأنَّ كُلَّ مَنْ جعلَ سببًا لمْ يجعَلْهُ اللهُ سببًا لا بوَحْيِهِ ولا بقَدَرِهِ فهوَ مُشْرِكٌ شِرْكًا أصغرَ.


(14)

قولُهُ تعالى: {وَتَجْعَلُونَ} أيْ: تُصَيِّرونَ، وهيَ تَنْصِبُ مفعوليْنِ:


الأَوَّلُ: (رِزْقَ).

والثاني:

(أَنَّ) وما دَخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مصدرٍ مفعولٍ ثانٍ، والتقديرُ: وتجعلُونَ رِزْقَكُم كونَكُم تُكَذِّبُونَ أوْ تكْذِيبَكُم، والمعنى: تُكَذِّبُونَ أنَّهُ منْ عِنْدِ اللهِ حيثُ تُضِيفُونَ حُصُولَهُ إلى غيْرِهِ.
قولُهُ:
{رِزْقَكُمْ} الرزقُ هوَ العطاءُ، والمرادُ بهِ هنا ما هوَ أعمُّ من المطرِ، فيشملُ معنييْنِ:

الأَوَّلُ:

أنَّ المرادَ بِهِ رِزْقُ العلمِ؛

لأنَّ اللهَ قالَ: { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِن رَبِّ الْعَالَمِينَ (.8) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أيْ: تخافُونَهم فتُدَاهِنُونَهُم وتجعلُونَ شُكْرَ ما رزقَكُم اللهُ بهِ من العلمِ والوحيِ أنَّكُم تُكَذِّبُونَ بهِ، وهذا هوَ ظاهرُ سياقِ الآيةِ.


الثاني:

أنَّ المرادَ بالرزقِ المطرُ،

وقدْ رُوِيَ في ذلكَ حديثٌ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، لكنَّهُ ضعيفٌ، إلاَّ أنَّهُ صحَّ عن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ اللهُ عنْهُما في تفسيرِ الآيةِ، أنَّ المرادَ بالرزقِ المطرُ، وأنَّ التكذيبَ بهِ نِسْبَتُهُ إلى الأنواءِ. وعليهِ يكونُ ما ساقَ المُؤَلِّفُ الآيةَ منْ أجلِهِ مُنَاسِبًا للبابِ تمامًا.


والقاعدةُ في التفسيرِ: أنَّ الآيةَ إذا كانتْ تَحْتَمِلُ المعنييْنِ جميعًا بدونِ مُنَافَاةٍ تُحْمَلُ عليهما جميعًا، وإنْ حصلَ بينَهُما مُنَافَاةٌ طُلِبَ المُرَجِّحُ.

ومعنى الآيةِ:

أنَّ اللهَ يُوَبِّخُ هؤلاءِ الذينَ يجْعَلُونَ شُكرَ الرزقِ التكذيبَ والاستكبارَ والبعدَ؛ لأنَّ شُكْرَ الرزقِ يكونُ بالتصديقِ والقَبُولِ والعملِ بطاعةِ المُنْعِمِ، والفطرةُ كذلكَ لا تَقْبَلُ أنْ تَكْفُرَ بمَنْ يُنْعِمُ عليها، فالفطرةُ والعقلُ والشرعُ كلٌّ منها يُوجِبُ أنْ تَشْكُرَ مَنْ يُنْعِمُ عليكَ، سواءٌ قُلْنَا: المرادُ بالرزقِ المطرُ الذي بهِ حياةُ الأرضِ، أوْ قُلْنَا: إِنَّ المرادَ بهِ القرآنُ الذي بِهِ حياةُ القلوبِ، فإنَّ هذا مِنْ أعظمِ الرزقِ، فكيفَ يليقُ بالإنسانِ أنْ يُقَابِلَ هذهِ النعمةَ بالتكذيبِ؟!

واعلمْ أنَّ التكذيبَ نوعانِ:

أحدُهما:

التكذيبُ بلسانِ المقالِ، بأنْ يقولَ: هذا كَذِبٌ، أو المطرُ من النَّوْءِ، ونحوَ ذلكَ.


والثاني:

التكذيبُ بلسانِ الحالِ،

بأنْ يُعَظِّمَ الأنواءَ والنجومَ معتقدًا أنَّها السببُ.
ولهذا وَعَظَ
عمرُ بنُ عبدِ العزيزِ الناسَ يومًا فقالَ: (أيُّها الناسُ، إنْ كُنْتُمْ مُصَدِّقينَ فأنْتُم حمقَى، وإنْ كُنْتُمْ مكذِّبينَ فأَنْتُمْ هَلْكَى).
وهذا صحيحٌ؛ فالذي يُصدِّقُ ولا يعملُ أحمقُ، والمكذِّبُ هالكٌ، فكلُّ إنسانٍ عاصٍ نقولُ لَهُ الآنَ: أنتَ بينَ أمرَيْنِ؛ إمَّا أَنَّكَ مُصَدِّقٌ بما رُتِّبَ على هذهِ المعصيةِ، أوْ مُكَذِّبٌ، فإنْ كُنْتَ مُصَدِّقًا فأَنْتَ أحمقُ، كيفَ لا تخافُ فتستقيمَ؟!
وإنْ كُنْتَ غيرَ مُصَدِّقٍ فالبلاءُ أكبرُ، فأنتَ هالكٌ كافرٌ.


(15)

قولُهُ في حديثِ أبي مالكٍ: ((أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي)) الفائدةُ منْ قوْلِهِ: ((أَرْبَعٌ)) ليسَ الحَصْرَ؛ لأنَّ هناكَ أشياءَ تُشَارِكُها في المعنى، وإنَّما يقولُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ذلكَ مِنْ بابِ حَصْرِ العُلُومِ وجمْعِها بالتقسيمِ والعددِ؛ لأنَّهُ يُقرِّبُ الفهمَ ويُثَبِّتُ الحِفظَ.
قولُهُ:
((في أُمَّتِي)) أيْ: أُمَّةِ الإجابةِ.
قولُهُ:
((مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ)) أمرٌ هنا بمعنى شَأْنٍ، أيْ: منْ شَأْنِ الجاهلِيَّةِ، وهوَ واحدُ الأمورِ، وليسَ واحدَ الأوامرِ؛ لأنَّ واحدَ الأوامرِ هوَ طلبُ الفعلِ على وجهِ الاستعلاءِ.
والإضافة إلى الجاهليَّةِ الغرضُ منها التقبيحُ والتنفيرُ؛ لأنَّ كلَّ إنسانٍ يُقالُ لهُ: فِعْلُكَ فِعْلُ الجاهليَّةِ، لا شكَّ أنَّهُ يَغْضَبُ؛ إذ إنَّهُ لا أحدَ يَرْضَى أَنْ يُوصَفَ بالجهلِ، ولا بأَنَّ فِعْلَهُ منْ أفعالِ الجاهليَّةِ، فالغرضُ من الإضافةِ هنا أمرانِ:

- التَّنْفِيرُ.

- وبيانُ أنَّ هذهِ الأمورَ كُلَّها جَهْلٌ وحُمْقٌ بالإنسانِ؛ إذْ ليسَتْ أَهلاً بأنْ يُرَاعِيَها الإنسانُ أوْ يعْتَنِيَ بها، فالَّذِي يعْتَنِي بها جاهلٌ.


والمرادُ بالجاهليَّةِ هنا ما قبلَ الْبَعْثَةِ؛

لأنَّهُم كانوا على جَهْلٍ وضلالٍ عظيمٍ، حتَّى إنَّ العربَ كانوا أجْهَلَ خَلْقِ اللهِ، ولهذا يُسَمَّوْنَ بالأُمِّييِّنَ، والأُمِّيُّ هوَ الذي لا يقرأُ ولا يَكْتُبُ، نسبةً إلى الأُمِّ، كأنَّ أُمَّهُ وَلَدَتْهُ الآنَ.
لكنْ لمَّا بُعِثَ فيهم هذا النبيُّ الكريمُ قالَ تعالى:
{ لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ } فهذهِ منَّةٌ عظيمةٌ أنْ بعثَ فيهم النبيَّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ لهذهِ الأمورِ السَّامِيَةِ:

- يَتْلُو عليهم آياتِ اللهِ.

- ويُزَكِّيهِم، ويُطَهِّرُ أخلاقَهُم وعبادَتَهُم ويُنَمِّيها.

- ويُعَلِّمُهم الكتابَ.

- والحِكْمَةَ.

وهذهِ الفوائدُ الأربعٌ عظيمةٌ لوْ وُزِنَت الدُّنْيا بواحدةٍ منها لوَزَنَتْها عندَ مَنْ يَعْرِفُ قَدْرَها، ثمَّ بيَّنَ الحالَ منْ قبلُ قالَ: {وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ}، و{إنْ} هذهِ ليْسَتْ نافيةً، بلْ مُؤَكِّدَةً، فهيَ مُخَفَّفَةٌ من الثقيلةِ، يعني: وإنَّهُم كانوا منْ قبلُ لفي ضلالٍ مبينٍ.


إِذَن المرادُ بالجاهليَّةِ ما قبلَ البَعْثَةِ؛

لأنَّ الناسَ كانوا فيها على جهلٍ عظيمٍ، فجهلُهم شاملٌ للجهلِ في حقوقِ اللهِ وحقوقِ عبادِهِ، فمِنْ جَهْلِهِم أنَّهُم ينْصِبُونَ النُّصُبَ ويعْبُدُونَها مِنْ دُونِ اللهِ، ويَقْتُلُ أحدُهم ابْنَتَهُ لكيْ لا يُعَيَّرَ بها، ويقْتُلُ أولادَهُ منْ ذكورٍ وإناثٍ خشيةَ الفقرِ.
قولُهُ:
((لاَ يَتْرُكُونَهُنَّ)) المرادُ: لا يتركونَ كلَّ واحدٍ منها باعتبارِ المجموعِ بالمجموعِ، بأنْ يكونَ كلُّ واحدٍ منها عندَ جماعةٍ، والثاني عندَ آخرينَ، والثالثُ عندَ آخرينَ، والرابعُ عندَ آخرينَ، وقدْ تجتمعُ هذهِ الأقسامُ في قبيلةٍ، وقدْ تخْلُو بعضُ القبائلِ منها جميعًا، إنَّما الأُمَّةُ كمجموعٍ لا بُدَّ أنْ يُوجَدَ فيها شيءٌ منْ ذلكَ؛ لأنَّ هذا خبرٌ من الصادقِ المصدوقِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.


والمرادُ بهذا الخبرِ التنفيرُ؛

لأنَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قدْ يُخْبِرُ بأشياءَ قدْ تقعُ وليسَ غرضُهُ أنْ يُؤْخَذَ بها، كما قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)) أيْ: فاحذَرُوا.
وأَخْبرَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
((أَنَّ الظَّعِينَةَ تَخْرُجُ مِنْ صَنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتَ لاَ تَخْشَى إِلاَّ اللهَ)) أيْ: بلا مَحْرَمٍ، وهذا خبرٌ عنْ أمْرٍ واقعٍ، وليسَ إقرارًا لهُ شرعًا.
قولُهُ:
((الْفَخْرُ بِالأَحْسَابِ))الفخرُ: التعالي والتعاظمُ، والباءُ للسببيَّةِ، أَيْ: يفْخَرُ بسببِ الحَسَبِ الذي هُوَ عليهِ.


والحَسَبُ:

ما يحتسبُهُ الإنسانُ منْ شرفٍ وسُؤْدُدٍ، كأنْ يكونَ منْ بني هاشمٍ فيَفْتَخِرُ بذلكَ، أوْ مِنْ آباءٍ وأجدادٍ مشهورينَ بالشجاعةِ فيفتخرُ بذلكَ، وهذا مِنْ أمْرِ الجاهليَّةِ؛ لأنَّ الفخرَ في الحقيقةِ يكونُ بتقوى اللهِ الذي يمنعُ الإنسانَ من التعالي والتعاظمِ، والمُتَّقِي حقيقةً هوَ الذي كُلَّمَا ازْدَادَتْ نِعَمُ اللهِ عليهِ ازْدَادَ تواضُعًا للحقِّ وللخلقِ.
وإذا كانَ الفخرُ بالحَسَبِ مِنْ فِعْلِ الجاهليَّةِ فلا يجوزُ لنا أنْ نفْعَلَهُ؛ ولهذا قالَ تعالى لنساءِ نبيِّهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
{ وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى } واعْلَمْ أنَّ ما يُنسَبُ إلى الجاهليَّةِ فهوَ مذمومٌ ومنْهِيٌّ عنهُ.
قولُهُ:
((الطَّعْنُ فِي الأَنْسَابِ))الطعنُ: العَيْبُ، لأنَّهُ وَخْزٌ معنويٌّ كَوَخْزِ الطاعونِ في الجسدِ؛ ولهذا سُمِّيَ العيبُ طعنًا.


والأنسابُ:

جَمْعُ نَسَبٍ، وهو أصلُ الإنسانِ وقرابتُهُ، فَيَطْعَنُ في نسبِهِ كأنْ يقولَ: أَنْتَ ابنُ الدَّبَّاغِ، أوْ أنتَ ابنُ مُقطِّعةِ البُّظُورِ، وهو شيءٌ في فَرْجِ المرأةِ يُقْطَعُ عِندَ خِتانِ النساءِ.
قولُهُ:
((وَالاِسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ)) أيْ: نسبةُ المطرِ إلى النجومِ معَ اعتقادِ أنَّ الفاعلَ هوَ اللهُ عزَّ وجلَّ.
أمَّا إن اعتقدَ أَنَّ النجومَ هيَ التي تَخلُقُ المطرَ والسَّحَابَ، أوْ دَعَاها منْ دُونِ اللهِ لتُنْزِلَ المطرَ، فهذا شِرْكٌ أكبرُ مُخْرِجٌ عن الملَّةِ.
قولُهُ:
((وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ)) هذا هوَ الرابعُ، والنياحةُ: هيَ رفعُ الصوتِ بالبُكاءِ على الميِّتِ قَصْدًا، وينبغي أنْ يُضافَ إليهِ على سبيلِ النوْحِ، كَنَوْحِ الحمامِ.


والنَّدْبُ:

تَعدادُ محاسنِ المَيِّتِ.


والنِّياحةُ منْ أمْرِ الجاهليَّةِ،

ولا بُدَّ أنْ تكونَ في هذهِ الأمَّةِ، وإنَّما كانتْ مِنْ أمْرِ الجاهليَّةِ:

- إمَّا من الجهلِ الذي هوَ ضِدُّ العِلْمِ.

- أوْ من الجهالةِ التي هيَ السَّفَهُ وهيَ ضدُّ الحكمةِ.


وإنَّما كانتْ كذلكَ لأمورٍ أربعة:

الأول:

أنَّها لا تَزِيدُ النائحَ

إلاَّ شِدةً وحُزنًا وعذابًا.


الثاني:

أنَّها تَسَخُّطٌ منْ قضاءِ اللهِ

وقدَرِهِ، واعتراضٌ عليهِ.


الثالث:

أنَّها تُهَيِّجُ أحزانَ غيرِهِ.


وقدْ ذُكِرَ عن ابنِ عَقِيلٍ رَحِمَهُ اللهُ، وهو منْ عُلَمَائِنا الحنابِلَةَ، أنَّهُ خرجَ في جنازةِ ابنِهِ عَقِيلٍ، وكانَ أكبرَ أولادِهِ وطالِبَ عِلْمٍ، فلمَّا كانوا في المقبرةِ صَرَخَ رجلٌ وقالَ: { يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ } فقالَ لهُ ابنُ عَقِيلٍ رَحِمَهُ اللهُ: إنَّ القرآنَ إنَّما نَزَلَ لتسكينِ الأحزانِ، وليسَ لتهْيِيجِ الأحزانِ.


الرابع:

أنَّهُ معَ هذهِ المفاسدِ لا يَرُدُّ القضاءَ، ولا يَرْفَعُ ما نَزَلَ.


والنياحةُ تشملُ ما إذا كانتْ منْ رجلٍ أو امرأةٍ،

لكن الغالبُ وُقُوعُها من النساءِ.


(16)

ولهذا قالَ: ((النَّائِحَةُ إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا)) أيْ: إِنْ تَابَتْ قبلَ الموتِ تابَ اللهُ عليها، وظاهرُ الحديثِ أنَّ هذا الذَّنْبَ لا تُكَفِّرُهُ إلاَّ التَّوْبَةُ، وأنَّ الحسناتِ لا تَمْحُوهُ؛ لأنَّهُ منْ كبائرِ الذنوبِ، والكبائرُ لا تُمحَى بالحسناتِ، فلا يمحُوها إلاَّ التَّوْبَةُ.
قولُهُ:
((تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ)) أيْ: تُقَامُ مِنْ قَبْرِهَا.


والسِّربالُ:

الثوبُ السابغُ كالدِّرْعِ، والقَطِرَانُ معروفٌ، ويُسمَّى الزِّفْتَ، وقيلَ: إنَّهُ النُّحَاسُ المُذَابُ.
قولُهُ:
((وَدِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ)) الجَرَبُ: مرضٌ معروفٌ يكونُ في الجلدِ يُؤَرِّقُ الإنسانَ، ورُبَّما يقْتُلُ الحيوانَ.


والمعنى أنَّ كلَّ جلدِها يكونُ جَرَبًا بمنزلةِ الدِّرْعِ، وإذا اجتمعَ قَطِرَانٌ وجَرَبٌ زادَ البلاءُ؛ لأنَّ الجربَ أيُّ شيءٍ يمَسُّهُ يتَأَثَّرُ بهِ، فكيفَ ومعَهُ قَطِرَانٌ؟!

والحكمَةُ: أنَّها لمَّا لمْ تُغَطِّ المُصِيبةَ بالصَّبْرِ غُطِّيَتْ بهذا الغطاءِ؛

سِرْبَالٍ منْ قَطِرَانٍ ودرعٍ منْ جَرَبٍ، فكانت العقوبةُ منْ جِنسِ العملِ.

(17)

قولُهُ في حديثِ زيدِ بنِ خالدٍ:((صَلَّى لَنَا)) أيْ: إمامًا؛ لأنَّ الإمامَ يُصَلِّي لنفْسِهِ ولغيرِهِ، ولهذا يَتْبَعُهُ المأمومُ.


وقيلَ: إنَّ اللامَ بمعنى الباءِ،

وهذا قريبٌ.


وقيلَ:

إنَّ اللامَ للتعليلِ،

أيْ: صلَّى لأَجْلِنا.
قولُهُ:
((صَلاَةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ)) أيْ: صلاةَ الفجرِ، والحُدَيْبِيَةُ: فيها لُغَتَانِ: التخفيفُ وهوَ أكثرُ، والتَّشْدِيدُ، وهيَ اسمُ بِئْرٍ سُمِّيَ بها المكانُ.


وقيلَ:

إنَّ أصْلَها شجرةٌ حَدْبَاءُ

تُسَمَّى حُدَيْبِيَةَ، والأكثرُ على أَنَّها اسمُ بئرٍ، وهذا المكانُ قريبٌ منْ مَكَّةَ، بعضُهُ في الحِلِّ وبعضُهُ في الحَرَمِ، نزلَ بهِ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في السَّنَةِ السادسةِ من الهجرةِ لمَّا قَدِمَ معتمرًا، فصدَّهُ المشركونَ عن البيتِ، وما كانوا أوْلِيَاءَهُ إنْ أوْلِيَاؤُهُ إلاَّ المُتَّقُونَ، ويُسمَّى الآنَ الشِّمِيسِيَّ.
قولُهُ: (عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ) الإِثْرُ معناهُ العَقِبُ، والأَثَرُ ما يَنْتُجُ عن السَّيْرِ.
قولُهُ: (سَماءٍ) المرادُ بهِ المطرُ.
قولُهُ: (كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ) (مِنْ) لابتداءِ الغايةِ، هذا هوَ الظاهرُ واللهُ أعلمُ، ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ بمعنى (في) للظرفيَّةِ.
قولُهُ: (فَلَمَّا انْصَرَفَ) أيْ: مِنْ صلاتِهِ، وليسَ مِنْ مكانِهِ؛ بدليلِ قولِهِ:
((أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ)).
قولُهُ:
((هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)) الاستفهامُ يُرادُ بهِ التنبيهُ والتشويقُ لِمَا سيُلقَى عليْهِمْ، وإلاَّ فالرَّسُولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَعْلَمُ أنَّهُم لا يَعْلَمُونَ ماذا قالَ اللهُ؛ لأنَّ الوَحْيَ لا يَنْزِلُ عليهِم.
ومعنى قولِهِ:
((هَلْ تَدْرُونَ)) أيْ: هلْ تعلَمْونَ.


والمرادُ بالرُّبُوبِيَّةِ هنا الرُّبُوبِيَّةُ الخاصَّةُ؛

لأنَّ رُبُوبِيَّةَ اللهِ للمؤمنِ خاصَّةٌ، كما أَنَّ عُبوديَّةَ المؤمنِ لهُ خاصَّةٌ، ولكنَّ الخاصَّةَ لا تنافي العامَّةَ؛ لأنَّ العامَّةَ تشْمَلُ هذا وهذا، والخاصَّةَ تخْتَصُّ بالمؤمنِ.
قولُهُ:
((قالوا: اللهُ ورَسُولُهُ أَعْلَمُ)) فيهِ إشْكَالٌ نحْوِيٌّ؛ لأنَّ (أَعْلَمُ) خبرٌ عن اثنَيْنِ، وهيَ مُفْرَدٌ، فيُقَالُ: إنَّ اسْمَ التفضيلِ إذا نُوِيَ بِهِ معنى (مِنْ)، وكانَ مُجَرَّدًا منْ (أَلْ) والإضافةِ، لَزِمَ فيهِ الإفرادُ والتذكيرُ.


وفيهِ:

أيضًا إشكالٌ معنَوِيٌّ، وهوَ أنَّهُ جَمَعَ بينَ اللهِ ورسولِهِ بالواوِ، معَ أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لمَّا قالَ لهُ الرَّجُلُ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ، قالَ: ((أَجَعَلْتَنِي للهِ نِدًّا؟!)).
فيُقَالُ:
إنَّ هذا أمرٌ شرعيٌّ، وقدْ نزلَ على الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
وأمَّا إنكارُهُ على مَنْ قالَ: مَا شَاءَ اللهُ وَشِئْتَ؛ فلأنَّهُ أمْرٌ كوْنِيٌّ، والرسولُ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ ليسَ لهُ شَأْنٌ في الأمورِ الكونيَّةِ، والمرادُ بقوْلِهِم:
((اللهُ ورسولُهُ أعلمُ))، تفويضُ العلمِ إلى اللهِ ورسولِهِ، وأنَّهُم لا يعلمونَ.
قولُهُ:
((أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ))((مُؤْمِنٌ)) صفةٌ لموصوفٍ محذوفٍ، أيْ: عبدٌ مؤمنٌ، وعبدٌ كافرٌ.
و
((أصبحَ)) مِنْ أخواتِ كانَ، واسْمُها ((مؤمنٌ)) وخبرُها ((مِنْ عِبَادِي)).
ويجوزُ أنْ يكونَ
((أصْبَحَ)) فِعْلُها ماضٍ ناقِصٌ، واسمُها ضميرُ الشأنِ، أيْ: أصْبَحَ الشأنُ، فَـ((منْ عبادِي)) خبرٌ مُقَدَّمٌ، و((مؤمنٌ))مبتدأٌ مُؤَخَّرٌ، أيْ: أصبحَ شأنُ الناسِ منْهُم مُؤْمنٌ ومنهم كافرٌ.
قولُهُ:
((فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ)) أيْ: قَالَ بلسانِهِ وقلبِهِ، والباءُ للسببيَّةِ، والفضلُ: العطاءُ والزيادةُ.


والرحمةُ:

صفةٌ منْ صفاتِ اللهِ، يكونُ بها الإنعامُ والإحسانُ إلى الخلْقِ.
وقولُهُ:
((فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ)) لأنَّهُ نَسَبَ المطرَ إلى اللهِ ولمْ يَنْسِبْهُ إلى الكوكبِ، ولمْ يرَ لهُ تأثيرًا في نُزُولِهِ، بلْ نَزَلَ بفضلِ اللهِ.
قولُهُ:
((وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا)) الباءُ للسببِيَّةِ.


((فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ))

وصارَ كافرًا باللهِ؛ لأنَّهُ أنْكَرَ نعمةَ اللهِ ونَسَبَها إلى سببٍ لم يَجْعَلْهُ اللهُ سببًا، فتَعَلَّقَتْ نفسُهُ بهذا السببِ، ونسِيَ نعمةَ اللهِ، وهذا الكُفْرُ لا يُخْرِجُ من الملَّةِ؛ لأنَّ المرادَ نسبةُ المطرِ إلى النَّوْءِ على أنَّهُ سببٌ، وليسَ إلى النَّوْءِ على أنَّهُ فاعلٌ؛ لأنَّهُ قالَ: (مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا) ولمْ يَقُلْ: أَنْزَلَ عَلَيْنَا الْمَطَرَ نَوْءُ كذا؛ لأنَّهُ لوْ قالَ كذلكَ لكانَ نسبةُ المطرِ إلى النَّوْءِ نسبةَ إيجادٍ، وبهِ نعرفُ خطأَ مَنْ قالَ: إنَّ المرادَ بقولِهِ: (مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا) نسبةُ المطرِ إلى النوءِ نسبةَ إيجادٍ؛ لأنَّهُ لوْ كانَ هذا هوَ المرادَ لقالَ: أَنْزَلَ علينا المطرَ نوءُ كذا، ولمْ يقُلْ: مُطِرْنَا بِهِ، فعُلِمَ أنَّ المرادَ أنَّ مَنْ أقرَّ بأنَّ الذي خلقَ المطرَ وأنزلَهُ هوَ اللهُ، لكنَّ النوْءَ هوَ السببُ فهوَ كافرٌ، وعليهِ يكونُ منْ بابِ الكُفْرِ الأصغرِ الذي لا يُخْرِجُ من الملَّةِ.
والمرادُ بالكوكبِ النَّجْمُ، وكانوا يَنْسِبُونَ المطرَ إليهِ ويقولونَ: إذا سقطَ النجمُ الفلانيُّ جاءَ المطرُ، وإذا طلعَ النجمُ الفلانيُّ جاءَ المطرُ، وليْسُوا يَنْسِبُونَهُ إلى هذا نسبةَ وَقْتٍ وإنَّما نسبةَ سببٍ.


فنسبةُ المطرِ إلى النَّوْءِ تنقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:

الأول:

نسبةُ إيجادٍ، وهذهِ شركٌ أكبرُ.


الثاني:

نسبةُ سببٍ، وهذهِ شركٌ أصغرُ.


الثالث:

نسبةُ وَقْتٍ، وهذهِ جائزةٌ

بأنْ يُرِيدَ بقولِهِ: (مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا) أيْ: جاءَنا المطرُ في هذا النَّوْءِ، أيْ: في وَقْتِهِ.
ولهذا قالَ العلماءُ: (يَحْرُمُ أنْ يقُولَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا، ويجوزُ: مُطِرْنَا في نَوْءِ كذا) وفَرَّقُوا بيْنَهُما أنَّ الباءَ للسببيَّةِ وفي للظرفيَّةِ، ومِنْ ثَمَّ قالَ أهلُ العلمِ:
(إنَّهُ إذا قالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كذا، وجَعلَ الباءَ للظرفيَّةِ، فهذا جائزٌ، وهذا وإنْ كانَ لهُ وَجْهٌ منْ حيثُ المعنى، لكنْ لا وَجْهَ لهُ منْ حيثُ اللفظُ؛ لأنَّ لفظَ الحديثِ:((مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا))والباءُ للسببيَّةِ أظهرُ منها للظرْفيَّةِ، وهيَ وإنْ جاءتْ للظرفيَّةِ كما في قولِهِ تعالى: { وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ... }لكنْ كوْنُها للسببيَّةِ أظهرُ، والعكسُ بالعكسِ، فَـ(في) للظرفيَّةِ أظهرُ منها للسببيَّةِ، وإنْ جاءَتْ للسببيَّةِ كما في قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:((دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ)).
والحاصلُ:
أنَّ الأقربَ المنعُ ولوْ قَصَدَ الظرفيَّةَ، لكنْ إذا كانَ المتكلِّمُ لا يَعْرِفُ من الباءِ إلاَّ الظرفيَّةَ مطلقًا، ولا يظُنُّ أنَّها تأتي سببيَّةً، فهذا جائزٌ.
ومعَ ذلكَ فالأَوْلَى أنْ يُقَالَ لهمْ قولُوا: في نَوْءِ كذا.


(18)

قولُهُ: ((وَلَهُمَا)) الظاهرُ: أنَّهُ سَبْقُ قَلَمٍ، وإلاَّ فالحديثُ في (مسلمٍ) وليسَ في (الصحيحَيْنِ).


ومعنى الحديثِ:

أنَّهُ لَمَّا نَزَلَ المطرُ نسبَهُ بعضُهم إلى رحمةِ اللهِ، وبعضُهمْ قالَ: لقدْ صدَقَ نَوْءُ كذا وكذا، فكأنَّهُ جعلَ النوءَ هوَ الذي أَنْزَلَ المطرَ، أوْ أُنزِلَ بسبَبِهِ.


ومنهُ:

ما يُذْكَرُ في بعضِ كُتُبِ التوقيتِ:

(وَقَلَّ أَنْ يُخْلَفَ نَوْؤُهُ) أوْ (هَذَا نَوْؤُهُ صَادِقٌ) وهذا لا يجوزُ، وهوَ الذي أنْكَرَهُ اللهُ عزَّ وجلَّ على عبادِهِ، وهذا شِرْكٌ أصغرُ، ولوْ قَالَ: بإِذْنِ اللهِ؛ فإنَّهُ لا يجوزُ؛ لأنَّ كلَّ الأسبابِ مِن اللهِ، والنوءُ لمْ يجْعَلْهُ اللهُ سببًا.
قولُهُ:
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ} اخْتُلِفَ في (لا) فقيلَ: نافيةٌ، والمنفيُّ محذوفٌ، والتقديرُ: لا صِحَّةَ لِمَا تزعُمُونَ مِنْ أَنَّ القرآنَ كَذِبٌ أوْ سحرٌ وشعرٌ وكَهَانةٌ، أُقْسِمُ بمواقعِ النجومِ إنَّهُ لقُرْآنٌ كريمٌ، فـ{أُقْسِمُ} لا علاقةَ لها بـ(لا) إطلاقًا، وهذا لهُ بعضُ الوَجْهِ.


وقيلَ:

إنَّ المنفيَّ القَسَمُ، فهيَ داخلةٌ على {أُقْسِمُ} أيْ: لا أُقْسِمُ ولنْ أُقْسِمَ على أنَّ القرآنَ قرآنٌ كريمٌ؛ لأنَّ الأمرَ أَبْيَنُ مِنْ أَنْ يحتاجَ إلى قَسَمٍ، وهذا ضعيفٌ جدًّا.


وقيلَ:

إنَّ (لا) للتَّنْبِيهِ،

والجملةَ بعْدَها مُثْبَتَةٌ؛ لأنَّ (لا) بمعنى: انْتَبِهْ، أُقْسِمُ بمواقعِ النجومِ... وهذا هوَ الصحيحُ.
وقولُهُ:
{فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ}اخْتُلِفَ في النجومِ، فقيلَ: إنَّها النجومُ المعروفةُ، فيكونُ المرادُ بمواقعِها مَطَالِعَهَا ومغارِبَها، وأقسمَ اللهُ بها لِمَا فيها من الدَّلالةِ على كمالِ القدرةِ في هذا الانتظامِ البديعِ، وما فيها مِنْ مناسبةِ المُقسَمِ بهِ والمُقْسَمِ عليهِ وهوَ القرآنُ المحفوظُ بواسطةِ الشُّهُبِ؛ فإنَّ السماءَ عندَ نُزُولِ الوحيِ مُلِئَتْ حَرَسًا شديدًا وشُهُبًا.


وقيلَ:

إنَّ المرادَ آجالُ نزولِ القرآنِ،

ومنهُ قوْلُهُمْ: (نَزلَ القرآنُ مُنَجَّمًا).
وقولُ الفقهاءِ:
( يَجِبُ أنْ يكونَ دَيْنُ المُكَاتِبِ مُؤَجَّلاً بنجْمَيْنِ فأَكْثرَ) فيكونُ اللهُ أقسمَ بمواقعِ نزولِ القرآنِ.


وقدْ سَبَقَتْ لنا قاعدةٌ مفيدةٌ،

وهِيَ أنَّهُ: إذا كانَ المعنيانِ لا يتنافيانِ حُملت الآيةُ على كلٍّ مِنْهُما، وإلاَّ طُلِبَ المُرَجِّحُ.


قولُهُ: {وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ} (قَسَمٌ) خبرُ إنَّ، وهذا القسَمُ أكَّدَ اللهُ عظمتَهُ بإنَّ واللامِ تنويهًا بالمُقسَمِ عليهِ وتعظيمِهِ.
وقولُهُ:
{لوْ تَعْلَمُونَ} مُؤَكِّدٌ ثالثٌ، كأنَّهُ قالَ: (ينبغي أنْ تعلَمُوا هذا الأمرَ ولا تجهلُوهُ، فهوَ أعظمُ مِنْ أنْ يكونَ مجهولاً، فإنَّهُ يحتاجُ إلى علمٍ وانتباهٍ، فلوْ تعلمونَ حقَّ العلمِ لعرفتُمْ عظمتَهُ، فانْتَبِهُوا).
قولُهُ:
{لَقُرْآنٌ} مصدرٌ مثلُ الغُفْرَانِ والشُّكْرَانِ، بمعنى اسمِ الفاعلِ، وبمعنى اسمِ المفعولِ.
فعلى الأَوَّلِ يكونُ المرادُ أنَّهُ جامعٌ للمعاني التي تضمَّنَتْها الكُتُبُ السابقةُ من المصالحِ والمنافعِ، قَالَ تعالى:
{ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ } وعلى الثاني يكونُ بمعنى المجموعِ؛ لأنَّهُ مجموعٌ مكتوبٌ.
قولُهُ:
{كَرِيمٌ} يُطلَقُ على كثيرِ العطاءِ، وهذا كمالٌ في العطاءِ مُتَعَدٍّ للغَيْرِ.
ويُطلَقُ على الشيءِ البهيِّ الحَسَنِ، ومنهُ قولُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
((إِيَّاكَ وَكَرائِمَ أَمْوَالِهِمْ)) أي: البهيَّ منها والحسَنَ، وهذا كمالٌ في الذَّاتِ.
وهذانِ المعنيانِ موجودانِ في القرآنِ، فالقرآنُ لا أحسنَ مِنْهُ في نفسهِ، قَالَ تعالى: { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلاً } والقرآنُ يُعْطِي أهلَهُ من الخيراتِ الدينيَّةِ والدنيويَّةِ والجسميَّةِ والقلبيَّةِ، قَالَ تعالى: { فَلاَ تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبيرًا } فهوَ سلاحٌ لمَنْ تمسَّكَ بِهِ، ولكنْ يحتاجُ إلى أنْ نتمسَّكَ بِهِ في القولِ والعملِ والعقيدةِ، فلا بُدَّ أنْ يُصَدِّقَ العقيدةَ العملُ، قَالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((أَلاَ إِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلاَ وَهِيَ الْقَلْبُ)).


ووصفَ اللهُ القرآنَ في آيةٍ أخرى بأنَّهُ مجيدٌ،

والْمَجْدُ صفةُ العظمةِ والعزَّةِ والقُوَّةِ، والقرآنُ جامعٌ بينَ الأمرَيْنِ: فيهِ قُوَّةٌ وعظمةٌ، وكذا خيراتٌ كثيرةٌ وإحسانٌ لمَنْ تمسَّكَ بِهِ.
قولُهُ:
{فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ}كتابٌ: فِعَالٌ بمعنى مفعولٍ، مثلُ: فِراشٍ بمعنى مفروشٍ، ومثلُ: غِراسٍ بمعنى مغروسٍ، وكتابٌ: بمعنى مكتوبٍ، والمكنونُ: المحفوظُ، قَالَ تعالى: { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ }.

واختلفَ المفسِّرونَ في هذا الكتابِ على قولَيْنِ:

الأَوَّلُ: أنَّهُ اللوحُ المحفوظُ

الذي كَتَبَ اللهُ فيهِ كلَّ شيءٍ.
الثاني:
وإليهِ ذهبَ ابنُ القيِّمِ، أنَّهُ الصُّحُفُ التي في أيدي الملائكةِ، قَالَ تعالى: { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ... }.
فقولُهُ:
{بِأَيْدِي سَفَرَةٍ} يُرَجِّحُ أنَّ المرادَ الكُتُبُ التي في أيدي الملائكةِ؛ لأنَّ قولَهُ: { لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ } أي: الملائكةُ، يُوَازِنُ قوْلَهُ: { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ }وعلى هذا يكونُ المرادُ بالكتابِ الجنسَ لا الواحدَ.
قولُهُ:
{لاَ يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ} الضميُر يعودُ إلى الكتابِ المكنونِ؛ لأنَّهُ أقربُ شيءٍ، وهوَ بالرَّفْعِ {لاَ يَمَسُّهُ} باتَّفَاقِ القُرَّاءِ، وإنَّما نبَّهْنَا على ذلكَ لدَفْعِ قولِ مَنْ يقولُ: إنَّهُ خبرٌ بمعنى النَّهْيِ، والضميرُ يعودُ على القرآنِ، أيْ: نُهِيَ أنْ يَمَسَّ القرآنَ إلاَّ طاهرٌ، والآيةُ ليسَ فيها ما يدلُّ على ذلكَ، بلْ هيَ ظاهرةٌ في أنَّ المرادَ بهِ اللوحُ المحفوظُ؛ لأنَّهُ أقربُ مذكورٍ؛ ولأنَّهُ خبرٌ، والأصلُ في الخبرِ أنْ يبقى على ظاهِرِهِ خبرًا، لا أمرًا ولا نَهْيًا، حتَّى يقومَ الدليلُ على خلافِ ذلكَ، ولم يَرِدْ ما يدلُّ على خلافِ ذلكَ، بلِ الدليلُ على أنَّهُ لا يُرادُ بهِ إلاَّ ذلِكَ، وأنَّهُ يعودُ إلى الكتابِ المكنونِ؛ ولهذا قالَ اللهُ: {إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ}باسمِ المفعولِ، ولمْ يَقُلْ: {إلاَّ المُطَهِّرُونَ} ولوْ كان المرادُ المُطَهِّرِينَ لقالَ ذلكَ، أوْ قالَ: إلاَّ المُتَطَهِّرُونَ، كما قالَ تعالى: { إِنَّ اللهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ }.


والمُطَهَّرُونَ:

هُم الذينَ طَهَّرَهُم اللهُ تعالى، وهُم الملائكةُ، طُهِّرُوا مِن الذنوبِ وأدْنَاسِها، قَالَ تعالى: { لاَ يَعْصُونَ اللهَ مَا أَمَرَهُمْ }.

- وقَالَ تعالى: { يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لاَ يَفْتُرُونَ }.

- وقَالَ تعالى: { بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لاَ يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ }.

- قولُهُ: {تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} خبرٌ ثانٍ لقولِهِ: {وَإِنَّهُ} وهوَ كقولِهِ: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ }.

- وكقَوْلِهِ: { تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَـنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } فهوَ خبرٌ مُكَرَّرٌ معَ قولِهِ: {لَقُرْآنٌ}.
و
{تَنْزِيلٌ} أيْ: مُنَزَّلٌ، فهيَ مصدرٌ بمعنى مُنَزَّلٌ منْ ربِّ العالمينَ، أنزَلَهُ اللهُ على قَلْبِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؛ لأنَّهُ مَحَلُّ الوعيِ والحفظِ بواسطةِ جبريلَ، قَالَ تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ }.

- وقولُهُ: {مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ} أيْ: خَالقِهِم.

- قولُهُ: {أَفَبِهَـذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ} الاستفهامُ للإنكارِ والتوبيخِ، والحديثُ: القرآنُ.
والمُدْهِنُ:
الخائفُ مِنْ غيرِهِ الذي يُحَابِيهِ بقولِهِ وفعلِهِ، والمعنى: أَتُدْهِنُونَ بهذا الحديثِ وتخافونَ وتسْتَخْفُونَ، لا ينبغي لكُمْ هذا، بلْ ينبغي لِمَنْ معَهُ القرآنُ أنْ يَصْدَعَ بهِ وأنْ يُبَيِّنَهُ ويُجَاهدَ بِهِ، قالَ تعالى: { وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبيرًا }.

- قولُهُ: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } أكثرُ المفسِّرينَ على أنَّهُ على حَذْفِ مُضَافٍ، أيْ: أتَجْعَلُونَ شُكْرَ رِزْقِكُم، أيْ: ما أعْطَاكُم اللهُ مِنْ أيِّ شيءٍ من المطرِ ومِنْ إنزالِ القرآنِ، أيْ: تجعلونَ شُكرَ هذه النِّعْمَةِ العظيمةِ أنْ تُكَذِّبُوا بها، والنبيُّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ وإنْ كانَ ذَكَرَها في المطرِ فإنَّها تشْمَلُ المطرَ وغيرَهُ.


وقيلَ:

إنَّهُ ليسَ في الآيةِ حَذْفٌ،

والمعنى: تجعلونَ شُكْرَكُم تكذيبًا، وقالَ: إنَّ الشكرَ رزقٌ، وهذا هوَ الصحيحُ، بلْ هوَ مِنْ أكْبَرِ الأرزاقِ، قالَ الشاعرُ:

نـــعـــمـــةَ الـــلــــــهِ نـــــعـــمـــةً عَلَيَّ لهُ في مثْلِها يَجِبُ الشكرُ
فكيفَ بلوغُ الشُّكْرِ إلاَّ بفضلِهِ وإنْ طَالَت الأيَّامُ واتَّصَلَ العمرُ

فالنعمةُ تحتاجُ إلى شكرٍ،

ثمَّ إذا شكَرْتَهَا فهيَ نعمةٌ أخرى تحتاجُ إلى شُكْرٍ ثانٍ، وإنْ شَكَرْتَ في الثانيةِ فهيَ نعمةٌ تحتاجُ إلى شُكْرٍ ثالثٍ، وهكذا أبدًا، قالَ تعالى: { وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا }.

- قولُهُ: {أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} (أنَّ) وما دخَلَتْ عليهِ في تأويلِ مصدرٍ مفعولِ {تجعلونَ} الثاني، أيْ: تُصَيِّرونَ شُكْرَكُم تكذيبًا، ولا شكَّ أنَّ هذا من السَّفهِ أنْ يُقَابِلَ الإنسانُ نعمةَ ربِّهِ بالتكذيبِ، إنْ كانتْ وحيًا كَذَّبَ خبرَهُ ولمْ يمْتَثِلْ أمْرَهُ ولمْ يجْتَنِبْ نهيَهُ، وإنْ كانتْ عطَاءً تنْمُو بِهِ الأجسامُ نسبَهُ إلى غيرِ اللهِ، قالَ: هذا من النوءِ، أوْ هذا مِنْ عَمَلِي، كمَا قالَ قَارُونُ: { إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي }.


(19)

فيهِ مسائلُ:

الأُولى:

(تَفْسِيرُ آيَةِ الواقِعَةِ) وهيَ قولُهُ تعالى: { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } وقدْ مرَّ تفسيرُها.


(20)

الثانيةُ: (ذِكْرُ الأرْبعِ التي مِنْ أَمْرِ الجاهليَّةِ)

وهيَ الطعنُ بالأنسابِ، والفخرُ بالأحسابِ، والاستسقاءُ بالأنواءِ، والنياحةُ على المَيِّتِ.


(21)

الثالثةُ: (ذِكْرُ الكُفْرِ في بَعْضِها)

وهيَ الاسْتِسْقَاءُ بالأنواءِ، وكذلكَ الطَّعْنُ في النسبِ، والنِّيَاحَةُ على الميِّتِ، كما في حديثِ: ((اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ: الطَّعْنُ فِي النَّسَبِ، وَالنِّيَاحَةُ عَلَى الْمَيِّتِ)).
(22)
الرابعةُ: (أَنَّ مِن الكُفْرِ ما لا يُخْرِجُ مِن الملَّةِ) وهيَ أنَّ الاستسقاءَ بالأنواءِ بعضُهُ كفرٌ مُخْرِجٌ عن الملَّةِ، وبعضُهُ كفرٌ دونَ ذلكَ، وقدْ سبقَ بيانُ ذلكَ.
(23)
الخامسةُ: قولُهُ: ((أَصْبَحَ مِنْ عِبادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ)) بسببِ نزولِ النِّعْمَةِ) أيْ: أنَّ الناسَ ينقسمونَ عندَ نُزُولِ النعمةِ إلى مؤمنٍ باللهِ وكافرٍ بِهِ، وقدْ سَبَقَ بيانُ حُكْمِ إضافةِ نزولِ المطرِ إلى النوءِ، والواجبُ على الإنسانِ إذا جاءَتْهُ النعمةُ أنْ لا يُضِيفَها إلى أسبابِها مُجَرَّدةً عن اللهِ، بلْ يعتقدُ أنَّ هذا سببٌ مَحْضٌ إنْ كانَ هذا سببًا.
مثالُ ذلكَ:
(رَجُلٌ غَرِقَ في ماءٍ وكانَ عندَهُ رجلٌ قَوِيٌّ، فنَزَلَ وأنْقَذَهُ) فإنَّهُ يَجِبُ على هذا الذي نجا أنْ يعرفَ نعمةَ اللهِ عليهِ، ولولا أنَّ اللهَ أمَرَ أمْرًا قَدَريًّا وأَمْرًا شرعيًّا أنْ يُنْقِذَكَ هذا الرجلُ ما حصلَ إنقاذٌ، فأنتَ تعتقدُ أنَّ هذا سببٌ مَحْضٌ.
أمَّا إنْ غَرِقَ ويسَّرَ اللهُ لهُ فَخَرَجَ فقالَ: إنَّ الوَلِيَّ الفلانيَّ أنقذَني. فهذا شركٌ أكبرُ؛ لأنَّهُ سببٌ غيرُ صحيحٍ.
ثمَّ إنَّ إضافتَهُ إليهِ لا يَظْهَرُ منها أنَّهُ يُرِيدُ أنَّهُ سببٌ، بلْ يُرِيدُ أنَّهُ مُنْقِذٌ بنفسِهِ؛ لأنَّ اعتقادَ أنَّهُ سببٌ وَهُوَ في قبرِهِ غيرُ واردٍ، ولذلكَ كانَ أصحابُ الأَوْلِيَاءِ إذا نَزَلَتْ بهمْ شِدَّةٌ يسألونَ الأَوْلِيَاءَ دُونَ اللهِ تعالى، فيقَعُونَ في الشركِ الأكبرِ منْ حيثُ لا يعلمونَ أوْ منْ حيثُ يعلمونَ، ثمَّ قدْ يُفْتَنُونَ فيحْصُلُ لهم ما يُرِيدونَ عندَ دعاءِ الأَوْلِيَاءِ لا بهِ؛ لأنَّنا نعلمُ أنَّ هؤلاءِ الأَوْلِيَاءَ لا يستجيبونَ لهُمْ؛ لقَوْلِهِ تعالى:
{ إِنْ تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ }.

- وقوْلِهِ: { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ } إلى يَومِ القِيامَةِ.


(24)

السادسةُ: (التَّفَطُّنُ للإيمانِ في هَذا الموضعِ)

وهو نِسْبَةُ المطرِ إلى فضلِ اللهِ ورحمتِهِ.


(25)

السابعةُ: (التَّفَطُّنُ لِلْكُفْرِ في هَذا الْمَوْضِعِ)

وهوَ نسبةُ المطرِ إلى النوءِ، فيقالُ: هذا بسببِ النوءِ الفلانيِّ، وما أشبهَ ذلكَ.


(26)

الثَّامِنَةُ:

التَّفَطُّنُ لِقَوْلِهِ: (لَقَدْ صَدَقَ نَوْءُ كَذا وَكَذا).
وهذا قريبٌ منْ قولِهِ:
((مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا)) لأنَّ الثناءَ بالصدقِ على النَّوْءِ مقتضاهُ أنَّ هذا المطرَ بوعدِهِ، ثمَّ بتنفيذِ وعدِهِ.


(27)

التاسعةُ: (إِخْراجُ العالِمِ للمُتَعلِّمِ المسألةَ بالاستفهامِ عَنْها؛ لقولِهِ: ((أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)) ).
وذلكَ أنْ يُلقِيَ العالمُ على المُتَعَلِّمِ السؤالَ لأجلِ أنْ ينْتَبِهَ لَهُ، وإلاَّ فالرَّسُولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يَعْلَمُ أنَّ الصحابةَ لا يعلمونَ ماذا قالَ اللهُ، لكنْ أرادَ أنْ يُنَبِّهَهُم لهذا الأمرِ، فقالَ:
((أَتَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)) وهذا يُوجِبُ استحضارَ قُلُوبِهِم.


(28)

العاشرةُ: (وَعيدُ النَّائِحَةِ) وذلكَ بقوْلِهِ: ((إِذَا لَمْ تَتُبْ قَبْلَ مَوْتِهَا تُقَامُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَعَلَيْهَا سِرْبَالٌ مِنْ قَطِرَانٍ ودِرْعٌ مِنْ جَرَبٍ)) وهذا وعيدٌ عظيمٌ.

هيئة الإشراف

#6

27 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ 

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (هذا (باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء)

والاستسقاء بالأنواء: هو نسبة السقيا إلى الأنواء، والأنواء هي النجوم، يقال للنجم نوء، والعرب والجاهليون كانوا يعتقدون أن النجوم، والأنواء سبب في نزول المطر؛ فيجعلونها أٍسباباً.


ومنهم -وهم طائفة قليلة- مَنْ يجعل النوء والنجم هو الذي يأتي بالمطر، كما ذكرت لك في حال الطائفة الأولى مِنْ المنجمين الذين يجعلون المفعولات منفعلة عن النجوم وعن حركتها.

فقوله رحمه الله: (باب ما جاء في الاستسقاء بالأنواء) يعني: باب ما جاء في نسبة السقيا إلى النوء، وعبرَّ بلفظ الاستسقاء؛ لأنه جاء في الحديث ((والاستسقاء بالنجوم)).

ومناسبة ذلك لكتاب التوحيد:

أن الذي ينسب السقيا، والفضل، والنعمة الذي أتاه حينما جاءه المطر، ينسب ذلك إلى النوء وإلى النجم، هذا ملتفتٌ قلبه عن الله -جل وعلا- إلى غيره، ومتعلق قلبه بغيره، وناسبٌ النعم إلى غير الله جل وعلا، ومعتقد أن النجوم أسباب لهذه المسبَّبَات من نزول المطر ونحوه.


وهذا منافٍ لكمال التوحيد،

فإن كمال التوحيد الواجب، يوجب على العبد أن يَنسب النعم جميعاً إلى الله وحده، وألا ينسب شيئاً منها إلى غير الله، ولو كان ذلك الغير سبباً، فينسب النعمة إلى مسديها، ولو كان من أجرى الله على يديه تلك النعم سبباً من الأسباب؛ فإنه لا ينسبها إلى غير الله جل وعلا، كيف وأن النجوم ليست بسببٍ أصلاً؟!


ففي ذلك نوعان من التعدي:
أولاً:

أنها ليست بأسباب.


والثاني:

أن تُجعل أسباباً لم يجعلها الله -جل وعلا- أسباباً، وتنسب النعم، والفضل، والسقيا إليها، وهذا مناف لكمال التوحيد، وكفر أصغر بالله جل وعلا.

قال: (وقول الله تعالى: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}) قال علماء التفسير: معنى هذه الآية (وتجعلون شكر رزقكم) شكر ما رزقكم الله من النعم، ومن المطر، أنكم تكذبون بأن النعمة من عند الله؛ بنسبتها لغير الله جل وعلا.

-

تارة بنسبتها إلى الأنواء.

- أو بنسبتها إلى غير الله جل وعلا.

والواجب - شكراً لنعم الله جل وعلا، وشكراً لله -جل وعلا- على ما رزق، وأنعم، وتفضل - أن تنسب النعم جميعاً إلى الله، وأن ينسب الفضل إلى الرب وحده دون ما سواه.

قال: (وعن أبي مالك الأشعري -رضي الله عنه- أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أربعٌ في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن))) قوله: ((من أمر الجاهلية)) هذا دليل على ذمها، وأنها من شعب الجاهلية، ومن المعلوم أن شعب الجاهلية جميعاً مطلوب من هذه الأمة أن تبتعد عنها؛ لأن خصال أهل الجاهلية مذمومة؛ كما جاء في (صحيح البخاري) من حديث ابن عباس أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: ((أبغض الرجال إلى الله ثلاثة: ملحدٌ في الحرم، ومُطّلبٌ دمَ امرئٍ بغير حق ليهريق دمه، ومُبتغ في الإسلام سُنَّة الجاهلية)).

فكل شعبةٍ من شعب أهل الجاهلية، إذا أُرجعت إلى أهل الإسلام بعد أن أنقذهم الله من ذلك ببعثة النبي عليه الصلاة والسلام، وظهور القرآن والسنة، وبيان الأحكام، فإنه مبتغ في الإسلام سنة الجاهلية، وهو من أبغض الرجال إلى الله جل وعلا.
إذاً: قوله: ((من أمر الجاهلية)) هذا دليلُ الذم، وليس الإخبار بأنها باقية دليل الإباحة.
قال: ((لا يتركونهن، الفخر بالأحساب)) يعني على وجه التكبر والرفعة ((والطعن في الأنساب)) بالطعن في نسب فلان وفلان، والتكذيب بنسب فلان وفلان من غير دليل شرعي، ومن غير حاجة شرعية، فإن القاعدة التي ذكرها الإمام مالك وغيره من أهل العلم: أن الناس مؤتمنون على أنسابهم.
فإذا كان لا يترتب على ذكر النسب، وأن فلاناً ينتسب إلى آل فلان، أو إلى القبيلة الفلانية، إذا لم يترتب عليه أثر شرعي من إعطاء حقٍّ لغير أهله، أو بميراث، أو بعقد نسبة، أو بزواج ونحو ذلك، فإن الناس مؤتمنون على أنسابهم.
أما إذا كان له أثر فلا بد من الإثبات، سيما إذا كان مخالفاً لما هو شائع متواتر عند الناس، فالطعن في الأنساب من أمور الجاهلية.
قال: (والاستسقاء بالنجوم) وهو نسبة السقيا إلى النجوم، ويشمل أيضا قوله (الاستسقاء بالنجوم) يشمل ما هو أعظم من ذلك، وهو أن تُطلب السقيا من النجم، كحال الذين يعتقدون أن الحوادث الأرضية تحصل بالنجوم نفسِها، وأن النجوم هي التي تُحدث المقدرات الأرضية، والمنفعلات الأرضية.
قال: (و النياحة) ثم قال: ((النائحة إذا لم تتب قبل موتها تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب)) رواه مسلم.
النياحة من الكبائر، وهي رفع الصوت عند المصيبة، وشق الجيب ونحو ذلك، وهي منافيةٌ للصبر الواجب، ومن خصال الجاهلية.


قال: (ولهما عن زيد بن خالد -رضي الله عنه- قال: -صلى لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية، على إثر سماءٍ كانت من الليل فلما انصرف أقبل على الناس فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)).

قالوا: الله ورسوله أعلم.

قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال: مُطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب))).
- قوله: ((على إثر سماءٍ كانت من الليل)) (على إثر سماء) يعني مطراً، المطر يطلق عليه سماء لأنه يأتي من جهة العلو، ويقال له سماء؛ كما قال الشاعر:

إذا نزل السماء بأرض قوم رعـيـناه وإن كانوا غضاباً

يعني: إذا نزل المطر.

قال: (فلما انصرف) يعني: من صلاة الصبح (أقبل على الناس).

فقال:((هل تدرون ماذا قال ربكم؟)).

قالوا: (الله ورسوله أعلم).

هذه من الكلمات التي تقال في حياته عليه الصلاة والسلام، وبعد وفاته عليه الصلاة والسلام؛ فإذا سئل المرء عما لا يعلم؛ فليقل لا أدري، أو فليقل: الله أعلم، ولا يقل الله ورسوله أعلم؛ لأن ذكر علم النبي -عليه الصلاة والسلام- مقيد بحياته الشريفة عليه الصلاة والسلام.


قال: ((قال: أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر))هنا قسم العباد إلى قسمين:

- مؤمن بالله جل وعلا: وهو الذي نسب هذه النعمة وأضافها إلى الله جل وعلا، وشكر الله عليها، وعرف أنها مِنْ عند الله؛ فشكر ذلك الرزق، وحمد الله وأثنى عليه به.

والصنف الثاني: ((وكافر)) ولفظ كافر: اسم فاعل الكفر، أو اسم من قام به الكفر، وهذا قد يصدق على الكفر الأصغر، أو الكفر الأكبر.

فهم انقسموا إلى مؤمنين وإلى كافرين،

والكافرون منهم:

- من كفر كفراً أصغر.

- ومنهم من كفر كفراً أكبر.

فالذي كفر كفراً أصغر: هو

الذي قال: مطرنا بنوء كذا وكذا، يعتقد أن النوء، والنجم، والكوكب، سببٌ في المطر؛ فهذا كفره كفر أصغر؛ لأنه ما اعتقد التشريك والاستقلال، ولكنه جعل ما ليس سبباً سبباً، ونسب النعمة إلى غير الله.


فقوله: (من أقوال أهل الكفر وهو كفر أصغر بالله جل وعلا)كما قال العلماء.

والصنف الثاني:

كافرٌ الكفر الأكبر:

وهو الذي اعتقد أن المطر أثر من آثار الكواكب والنجوم، وأنها هي التي تفضلت بالمطر، وهي التي تحركت بحركةٍ لما توجه إليها عابدوها، فأنزلت المطر إجابةً لدعوة عابديها،وهذا كفر أكبر بالإجماع؛ لأنه اعتقاد ربوبية وإلهية غير الله جل وعلا.

قال: ((فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته؛ فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب)) لأنه نسب النعمة لله وحده، ونسبة النعمة لله وحده دلت على إيمانه.

قال: ((وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب)) وكما ذكرت لك (الباء) في قوله: ((مطرنا بنوء كذا)) إن كانت للسببية؛ لأن (الباء) تأتي للسبب، مطرنا بسبب نوء كذا وكذا؛ فهذا كفر أصغر.

- وأما إذا كان المراد أن النوء هو الذي أتى بالمطر إجابة لدعوة عابديه، أو لرحمته بالناس؛ فهذا كفرٌ أكبر بالله جل جلاله.

قال: (ولهما من حديث ابن عباس معناه، وفيه قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا وكذا، فأنزل الله هذه الآية: {فلا أقسم بمواقع النجوم} إلى قوله: {وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون}) وهذا ظاهر.

هنا تنبيه في هذه المسألة، وهو ما يحصل أحياناً من بعض الناس من أنهم يقولون في الوسم مثلاً يأتي مطر، ونجم سهيل طلع؛ فسيحصل كذا، ونحو ذلك، فهذا القول بما علمت له حالان:


الحال الأولى:

أن يقول ذلك لأجل أن النجم أو البرج

الذي أتى هو زمنٌ جعل الله سنته فيه أنه يأتي فيه المطر، فإذا كان هذا القول: بأن (الوسم جاء) معناه هذا وقت المطر، وإن شاء الله سيجيء المطر، ونحو ذلك؛ فهذا جعل للوسم زمناً، وهذا جائز.

-

وأما إذا قال في ذلك: (الوسم جاء سيأتي المطر) أو (طلع النجم الفلاني يأتينا كذا وكذا) بجعل هذا الفصل، أو ذلك البرج، أو ذلك النجم سبباً؛ فهذا كفر، ونسبةٌ للنعمة لغير الله، واعتقاد تأثير أشياء لا تأثير لها؛ فينبغي أن يفرق بين ما يستعمله العوام فيما فيه أن المطر، والبرد، والصيف، ونحو ذلك، في تعلقه بالنجوم؛ تعلق زمن، ووقت، وظرف، وما بين نسبة أهل الشرك والضلال.


الأفعال للنجوم:
- إما استقلالاً.

- وإما على وجه التسبب.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

27 Oct 2008

العناصر

مناسبة باب (ما جاء في الاستسقاء بالأنواء) لكتاب التوحيد


مناسبة باب(ما جاء في الاستسقاء) لما قبله من الأبواب

- معنى (الاستسقاء)

- بيان معنى (النوء)، واعتقاد العرب فيه
- بيان حكم الاستسقاء بالأنواء
- أقسام الاستسقاء بالأنواء وأحكامها
- أقسام وأحكام نسبة المطر إلى النوء

تفسير قوله: (فلا أقسم بمواقع النجوم...) الآيات

- معنى قوله: (وإنه لقسم لو تعلمون عظيم...) الآيات

- ذكر الخلاف في المراد بقوله: (لا يمسه إلا المطهرون)
- معنى قوله: (وتجعلون رزقكم أنكم تكذبون)
- بيان أنواع التكذيب

شرح حديث أبي مالك الأشعري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أربع في أمتي...)

- ترجمة أبي مالك الأشعري

- معنى قوله: (أربع في امتي من أمر الجاهلية..)، والمراد بالجاهلية
- بيان المراد بالخبر في قوله: (لا يتركونهن)، وما يدل عليه
- معنى قوله: (الفخر بالأحساب)، ونظائره من القرآن والسنة
- معنى قوله: (والطعن في الأنساب)، وذكر نظير له من السنة
- معنى قوله: (والاستسقاء بالنجوم)، وذكر الخلاف في قول: مُطرنا بنوء كذا
- بيان المراد بالنياحة، والسبب في النهي عنها
- الحكمة في تخصيص النساء بالذكر في قوله: (والنائحة..) مع أن الحكم يعم الرجال
- بيان معنى قوله: (تقام يوم القيامة، وعليها سربال من قطران، ودرع من جرب)
- بيان أن الوعيد لا يلحق التائب، وتحريم إطلاق الوعيد على الشخص المعين
- في حديث (أربع في أمتي..) علم من أعلام نبوته صلى الله عليه وسلم

شرح حديث زيد بن خالد الجهني رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (صلى لنا رسول الله صلاة الصبح...)

- ترجمة زيد ين خالد الجهني

- بيان معنى الكفر في قوله: (مؤمن بي وكافر)

شرح رواية ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما لحديث (أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر...)

- تخريج حديث ابن عباس

- ذكر لفظ حديث ابن عباس بتمامه
- بيان معنى قوله: (قال بعضهم: لقد صدق نوء كذا)، والمراد بالبعض

حكم قول القائل: (في الوسم يأتي المطر) ونحوه


شرح مسائل باب (ما جاء في الاستسقاء بالأنواء)