26 Oct 2008
باب ماجاء في التنجيم
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّنْجِيمِ
قَالَ الْبُخَارِيُّ فِي (صَحِيحِهِ): قَالَ قَتَادَةُ: (خَلَقَ
اللهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاَثٍ: زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَرُجُومًا
لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلاَمَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا
غَيْرَ ذَلِكَ أَخْطَأَ وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ وَتَكَلَّفَ مَا لاَ عِلْمَ
لَهُ بِهِ) انْتَهَى. وَعَنْ أَبِي مُوسَى قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ، وَقَاطِعُ الرَّحِمِ، وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ)) رَوَاهُ أَحْمَدُ وَابْنُ حِبَّانَ فِي (صَحِيحِهِ). فِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: الْحِكْمَةُ فِي خَلْقِ النُّجُومِ. الثَّانِيَةُ: الرَّدُّ عَلَى مَنْ زَعَمَ غَيْرَ ذَلِكَ. الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ الْخِلاَفِ فِي تَعَلُّمِ الْمَنَازِلِ. الرَّابِعَةُ: الْوَعِيدُ فِيمَنْ صَدَّقَ بِشَيْءٍ مِنَ السِّحْرِ، وَلَوْ عَرَفَ أَنَّهُ بَاطِلٌ.
وَكَرِهَ قَتَادَةُ تَعَلُّمَ مَنَازِلِ الْقَمَرِ، وَلَمْ يُرَخِّصِ ابْنُ عُيَيْنَةَ فِيهِ، ذَكَرَهُ حَرْبٌ عَنْهُمَا.
وَرَخَّصَ فِي تَعَلُّمِ الْمَنَازِلِ أَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ((1)
المُرَادُ -هنا- ذِكْرُ مَا يَجُوزُ مِن التَّنْجِيمِ وما لاَ يَجُوزُ وَمَا وَرَدَ فيهِ مِن الوَعِيدِ. قُلْتُ: واعْلَمْ أنَّ التَّنْجِيمَ عَلَى ثَلاَثَةِ أقْسَامٍ: أَحَدُها: مَا هو كُفْرٌ بإِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ،
وهو القَوْلُ بأَنَّ المَوْجُودَاتِ في العَالَمِ السُّفْلِيِّ مُرَكَّبةٌ
على تَأْثِيرِ الكَوَاكِبِ والرُّوحَانِيَّاتِ، وأَنَّ الكَوَاكِبَ
فاعِلَةٌ مُخْتَارَةٌ وهَذَا كُفْرٌ بِإِجْمَاعِ المُسْلِمِينَ، وهَذَا
قَوْلُ الصَّابِئَةِ المُنَجِّمِينَ الذين بُعِثَ إليهم إِبْرَاهِيمُ الخَلِيلُ عليه السَّلاَمُ. ولهذا كانُوا يُعظِّمُونَ الشَّمْسَ والقَمَرَ والكَوَاكِبَ تَعْظِيمًا،
يَسْجُدُونَ لَهَا ويَتَذَلَّلُونَ لَهَا ويُسَبِّحُونَها تَسَابِيحَ
مَعْرُوفَةً في كُتُبِهِم، ويَدْعُونَها دَعَوَاتٍ لا تَنْبَغِي إِلاَّ
لخَالِقِها وفَاطِرِهَا وَحْدَه لاَ شَرِيكَ لهُ، ويَبْنُونَ لِكُلِّ
كَوْكَبٍ هَيْكَلاً، أي: مَوْضِعًا لعِبَادَتِهِ ويُصَوِّرُونَ فيهِ ذلك
الكَوْكَبَ، ويَتَّخِذُونَهُ لعِبَادَتِهِ وتَعْظِيمِهِ، ويَزْعُمُونَ
أَنَّ رُوحَانِيَّةَ ذَلِكَ الكَوْكَبِ تَنْزِلُ عليهم وتُخَاطِبُهم
وتَقْضِي حَوَائِجَهُم. وتِلْكَ الرُّوحَانِيَّاتُ هي الشَّيَاطِينُ تَنَزَّلَتْ عَلَيْهِم، وخَاطَبَتْهُم وقَضَتْ حَوَائِجَهُم. الثاني: الاسْتِدْلاَلُ عَلَى الحَوَادِثِ الأَرْضِيَّةِ بمَسِيرِ الكَوَاكِبِ واجْتِماعِهَا وافْتِرَاقِها ونحوِ ذلك، ويَقُولُ: (إِنَّ
ذلك بتَقْدِيرِ اللهِ ومَشِيئَتِهِ، فَلاَ رَيْبَ في تَحْرِيمِ ذلك،
واخْتَلَفَ المُتَأَخِّرُونَ في تَكْفِيرِ القَائِلِ بذلك). ويَنْبَغِي أَنْ يُقْطَعَ بكُفْرِه؛ لأَِنها دَعْوَى لعِلْمِ الغَيْبِ الذي اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعَالَى بعِلْمِهِ بِمَا لاَ يَدُلُّ عَلَيْهِ. الثَّالِثُ: مَا ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ في تَعَلُّمِ المَنَازِلِ وسَيَأْتِي الكَلاَمُ عليه. (2) هَذَا الأَثَرُ عَلَّقَهُ البُخَارِيُّ في (صَحِيحِهِ) كَمَا قَالَ المُصَنِّفُ، وأَخْرَجَهُ عبدُ الرَّزَّاقِ، وعبدُ بنُ حُمَيْدٍ، وابنُ جَرِيرٍ، وابنُ المُنْذِرِ، وابنُ أَبِي حَاتِمٍ، وأَبُو الشَّيْخِ، والخَطِيبُ، في كِتَابِ (النُّجُومِ) عن قَتَادَةَ. - وقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}[النحل:16]. وفيه: إِشَارَةٌ إِلَى أَنَّ النُّجُومَ في السَّمَاءِ الدُّنْيَا كَمَا هو ظَاهِرُ الآيَةِ. وفيه: حَدِيثٌ رَوَاهُ ابنُ مَرْدَويْه عنِ ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَمَّا
السَّمَاءُ الدُّنيا، فَإِنَّ اللهَ خَلَقَهَا مِنْ دُخَانٍ، وَجَعَلَ
فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا، وَزَيَّنَها بِمَصَابِيحِ النُّجُومِ،
وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ
رَجِيمٍ)). (وتَكَلَّفَ مَا لاَ عِلْمَ لهُ بِهِ)
أي: تَعَاطَى شَيْئًا لاَ يُتَصَوَّرُ عِلْمُهُ؛ لأَِنَّ أَخْبَارَ
السَّمَاءِ، والأُمُورَ المُغَيَّبَةَ لاَ تُعْلَمُ إِلاَّ مِن طَرِيقِ
الكِتَابِ والسُّنَّةِ، ولَيْسَ فِيهِمَا أَزْيدُ مِمَّا تَقَدَّمَ. - فإنْ قُلْتَ: إنَّ المُنَجِّمِينَ قَدْ يَصْدُقُونَ بَعْضَ الأَحْيانِ. - قيلَ: صِدْقُهُم كَصِدْقِ الكُهَّانِ يَصْدُقُونَ مَرَّةً ويَكْذِبُونَ مِئَةً، ولَيْسَ في صِدْقِهِم مَرَّةً ما يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ عِلْمٌ صَحِيحٌ كالكُهَّانِ. وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُ المُنَجِّمِينَ بآياتٍ مِن كِتَابِ اللهِ على صِحَّةِ عِلْمِ التَّنْجِيمِ منها قولُهُ: {وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}. والجَوَابُ: أنَّهُ ليسَ المُرَادُ بهذِهِ الآيةِ أنَّ النُّجُومَ عَلاَمَاتٌ على الغَيْبِ يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ في عِلْمِ الغَيْبِ، وإنَّمَا المَعْنَى وعَلاَمَاتٍ، أي: دَلاَلاَتٍ عَلَى قُدْرَةِ اللهِ وتَوْحِيدِه. وقيلَ: إنَّ هَذَا مِن تَمَامِ الكَلاَمِ الأَوَّلِ وهو قولُهُ: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاَمَاتٍ}[النجم:15-16]
أي: وأَلْقَى لَكُم مَعَالِمَ يُعْلَمُ بِهَا الطَّرِيقُ والأَرَاضِي مِن
الجِبَالِ الكِبَارِ والصِّغَارِ يَسْتَدِلُّ بِهَا المُسَافِرُونَ في
طُرُقِهم. - وقولُهُ: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}. - قَالَ ابنُ عَبَّاسٍ في الآيَةِ: ({وَعَلاَمَاتٍ}يَعْنِي: مَعَالِمَ الطُّرُقِ بالنَّهَارِ {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}قَالَ: يَهْتَدُونَ بِهِ في البَحْرِ في أَسْفَارِهِم). منها: حَدِيثُ: ((مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنْ عِلْمِ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ))الحَدِيثَ، وَقَدْ تَقَدَّمَ. - وعَنْ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَيْرِيزٍ التَّابِعِيِّ الجَلِيلِ أنَّ سُلَيْمَانَ بنَ عَبْدِ المَلِكِ دَعَاهُ
فَقَالَ: (لَوْ عَلِمْتَ عِلْمَ النُّجُومِ فازْدَدْتَ إلى عِلْمِكَ
فَقَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي ثَلاَثٌ: فهذان المُرْسَلانِ
مِن هذينِ الوَجْهَيْنِ المُخْتَلِفَيْنِ يَدُلاَّنِ عَلَى ثُبُوتِ
الحَدِيثِ، لاَ سِيَّما وَقَدِ احْتَجَّ بِهِ مَنْ أرسَلَه. - وعن أَبِي مِحْجَنٍ مَرْفُوعًا: ((أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي مِنْ بَعدِي ثَلاَثًا: - وعن أَنَسٍ مَرْفُوعًا: ((أََخَافُ عَلَى أُمَّتي بَعدِي خَصْلَتَينِ: - ورَوَى الإِمَامُ أَحْمَدُ والبُخَارِيُّ عنِ ابنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((مَفَاتِيحُ
الغَيبِ خَمْسٌ لاَ يَعْلَمُها إِلاَّ اللهُ، لاَ يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ
إِلاَّ اللهُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَا تَغِيضُ الأَرْحامُ إِلاَّ اللهُ، وَلاَ
يَعْلَمُ مَتَى يَأْتِي المَطَرُ أَحَدٌ إِلاَّ اللهُ، وَلاَ تَدْرِي
نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ، وَلاَ يَعْلَمُ مَتَى تَقُومُ السَّاعَةُ
إِلاَّ اللهُ)) لفظُ البُخاريِّ. - وعن العَبَّاسِ بنِ عبدِ المطلبِ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَقَدْ طَهَّرَ اللهُ هَذِهِ الجَزِيرَةَ مِنَ الشِّرْكِ مَا لَمْ تُضِلَّهُم النُّجُومُ)) رَوَاهُ ابْنُ مَرْدَويْه. - وعن ابْنِ عُمَرَ مَرْفُوعًا: ((تَعَلَّمُوا مِنَ النُّجُومِ مَا تَهْتَدُونَ بِهِ فِي ظُلُمَاتِ البَرِّ وَالبَحْرِ ثُمَّ انْتَهُوا)). - وعن أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: ((نَهَى رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ النَّظَرِ فِي النُّجُومِ)) رَوَاهُمَا ابْنُ مَرْدَويْه والخَطِيبُ. - وعن سَمُرةَ بنِ جُنْدُبٍ أَنَّهُ خَطَبَ فذَكَرَ حَدِيثًا عن رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((أَمَّا
بَعدُ، فَإِنَّ نَاسًا يَزْعُمُونَ أَنَّ كُسُوفَ هَذِهِ الشَّمْسِ،
وَكُسُوفَ هَذَا القَمَرِ، وَزَوَالَ هَذِهِ النُّجُومِ عَنْ مَوَاضِعِها
لمَوْتِ رِجالٍ عُظَماءَ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، وَأَنَّهُمْ قَدْ كَذَبُوا
وَلَكِنَّها آياتٌ مِنْ آيَاتِ اللهِ يَعتَبِرُ بِهَا عِبَادُهُ ليَنْظُرَ
مَنْ يُحدِثُ لَهُ مِنْهُم تَوْبَةً))رواهُ أبو داودَ. ومنها: قولُهُ تَعَالَى عن إِبْرَاهيمَ: {فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ}[الصَّافَّات:88،89] . والجوابُ: أنَّ هذا مِن جِنْسِ اسْتِدْلاَلِهِ بالآيةِ الأُولَى في الفَسَادِ، فأَيْنَ فيها ما يَدُلُّ على صِحَّةِ أَحْكَامِ النُّجُومِ بوَجْهٍ مِن وُجُوهِ الدَّلاَلاَتِ؟! قِيلَ: نَظْرَتُهُ في النُّجُومِ مِن مَعَارِيضِ الأَفْعَالِ ليَتَوَصَّلَ به إلى غَرَضِهِ مِن كَسْرِ الأصْنَامِ كَمَا كَانَ قولُهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـذَا}[الأنبياء:64]
فمَنْ ظَنَّ أَنَّ نَظْرَتَهُ في النُّجُومِ ليَسْتَنْبِطَ منها عِلْمَ
الأَحْكَامِ، وعِلْمَ أنَّ طالِعَهُ يَقْضِي عَلَيْهِ بالنَّحْسِ، فَقَدْ
ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا. ورَوَى ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عن أَبِي سَعِيدٍ مرفوعًا: ((فِي كَلِمَاتِ إِبْرَاهِيمَ الثَّلاَثِ الَّتِي قَالَ: مَا مِنْهَا كَذْبَةٌ إِلاَّ مَا حَلَّ بِهَا عَنْ دِينِ اللهِ. ومَنازِلُ القَمَرِ ثَمَانِيَةٌ وعِشْرُونَ، كُلُّ لَيْلَةٍ في مَنْزِلَةٍ منها، فَكَرِهَ قَتَادَةُ وسُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ تَعَلُّمَ المَنازِلِ، وأَجَازَهُ أَحمدُ وإسحاقُ وغيرُهما. ورَوَى ابْنُ المُنْذِرِ عن مُجَاهِدٍ: (أَنَّهُ كانَ لا يَرَى بَأْسًا أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ مَنَازِلَ القَمَرِ). قُلْتُ: لأَِنَّهُ لاَ مَحْذُورَ في ذلك. قَالَ ابنُ رَجَبٍ: (والمَأْذُونُ في تَعَلُّمِهِ عِلْمُ التَّسْييرِ لا عِلْمُ التَّأْثِيرِ، فإنَّهُ باطِلٌ مُحَرَّمٌ قَلِيلُهُ وكَثِيرُهُ. وهل يَدْخُلُ في النَّهْيِ وَقْتُ الكُسُوفِ الشَّمْسِيِّ والقَمَرِيِّ أَمْ لاَ؟ رَجَّحَ ابنُ القَيِّمِ أَنَّه لاَ يَدْخُلُ. منها: كِتَابُ (المَسَائِلِ) التي سُئِلَ عَنْهَا الإِمَامُ أَحْمَدُ، وغيرُه، وأَوْرَدَ فيها الأَحَادِيثَ والآثَارَ، وأَظُنُّه رَوَى أَثَرَ قَتَادَةَ، وابْنِ عُيَيْنَةَ فيها، مَاتَ سَنَةَ ثَمَانِينَ ومِائَتَيْنِ. (4) هَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ أيضًا الطَّبَرَانِيُّ، والحَاكِمُ، وقَالَ: (صَحِيحٌ) وأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ، وتَمَامُ الحَدِيثِ: ((وَمَنْ
مَاتَ وَهُوَ مُدْمِنٌ الخَمْرَ سَقَاهُ اللهُ مِنْ نَهْرِ الغُوطَةِ:
نَهْرٌ يَجْرِي مِنْ فُرُوجِ المُومِساتِ، يُؤذِي أَهْلَ النَّارِ رِيحُ
فُروجِهِنَّ)). وقَالَتْ طَائِفَةٌ: (هو
عَلَى ظَاهِرِه فَلاَ يَدْخُلُ الجَنَّةَ أَصْلاً مُدْمِنُ الخَمْرِ
ونَحْوُه، ويَكُونُ هَذَا مُخَصِّصًا لعُمُومِ الأَحَادِيثِ الدَّالَّةِ
عَلَى خُرُوجِ المُوَحِّدِينَ مِن النَّارِ ودُخُولِهِم الجَنَّةَ،
وحَمَلَهُ أَكْثَرُ الشُّرَّاحِ عَلَى مَن فَعَلَ ذَلِكَ مُسْتَحِلًّا، أو
عَلَى مَعْنَى أَنَّهُم لاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ إِلاَّ بَعْدَ العَذَابِ
إِنْ لَمْ يَتُوبُوا) واللهُ أَعْلَمُ.
قَالَ شَيْخُ الإِسْلاَمِ:(التَّنْجِيمُ هو: الاسْتِدْلاَلُ بالأَحْوَالِ الفَلَكِيَّةِ على الحَوَادثِ الأرْضِيَّةِ).
وَقَالَ الخَطَّابِيُّ: (عِلْمُ
النُّجُومِ المَنْهِيُّ عنهُ هو مَا يَدَّعِيهِ أَهْلُ التَّنْجِيمِ مِن
عِلْمِ الكَوَائِنِ والحَوَادِثِ التي لَمْ تَقَعْ وسَتَقَعُ في
مُسْتَقْبَلِ الزَّمَانِ، كأَوْقَاتِ هُبُوبِ الرِّياحِ، ومَجِيءِ
المَطَرِ، وظُهُورِ الحَرِّ والبَرْدِ، وتَغَيُّرِ الأَسْعَارِ، وَمَا
كَانَ في مَعْنَاها مِن الأُمُورِ التي يَزْعُمُونَ أَنَّهُم يُدْرِكُونَ
مَعْرِفَتَها بمَسِيرِ الكَوَاكِبِ في مَجَارِِيها واجْتِمَاعِها
وافْتِرَاقِها، ويدَّعُونَ أنَّ لَهَا تَأْثِيرًا في السُّفْلِيَّاتِ،
وأنَّها تَجْرِي عَلَى قَضَايَا مُوجِبَاتِها، وهَذَا منهم تَحَكُّمٌ عَلَى
الغَيْبِ، وتَعَاطٍ لعِلْمٍ قَدِ اسْتَأْثَرَ اللهُ بِهِ لاَ يَعْلَمُ
الغَيْبَ سِوَاه).
وَقَدْ صَنَّفَ بَعْضُ المُتَأَخِّرِينَ في هذا الشِّرْكِ مُصَنَّفًا وذَكَرَ صَاحِبُ (التَّذْكِرَةِ) فيها.
ولَفْظُهُ: قَالَ:( إِنَّ اللهَ إِنَّمَا جَعَلَ هَذِهِ النُّجُومَ لثَلاَثِ خِصَالٍ:
- جَعَلَهَا زِينَةً للسَّمَاءِ.
- وجَعَلَهَا يُهْتَدَى بِهَا.
- وجَعَلَها رُجُومًا للشَّيَاطِينِ.
فمَن تَعَاطَى فيهَا غيرَ ذلك، فَقَدْ قَالَ بِرَأْيِهِ، وأَخْطَأَ حَظَّهُ، وأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وتَكَلَّفَ ما لاَ عِلْمَ لَهُ بهِ.
وإِنَّ نَاسًا جَهَلَةً بأَمْرِ اللهِ قَدْ أَحْدَثُوا في هذهِ النُّجُومِ
كَهَانَةً: مَنْ أعرسَ بنَجْمِ كَذَا وكَذَا ،كَانَ كَذَا وكَذَا، ومَن
سَافَرَ بنَجْمِ كَذَا وكَذَا، كَانَ كَذَا وكَذَا.
ولَعَمْرِي مَا مِنْ نَجْمٍ إِلاَّ يُولَدُ به الأَحْمَرُ والأَسْودُ،
والطَّوِيلُ والقَصِيرُ، والحَسَنُ والدَّمِيمُ، وَمَا عِلْمُ هذِهِ
النُّجُومِ وهَذِهِ الدَّابَّةِ، وهَذَا الطَّائِرِ بِشَيْءٍ مِن هَذَا
الغَيْبِ.
وَلَوْ أَنَّ أَحَدًا عَلِمَ الغَيْبَ، لعَلِمَهُ آدَمُ الذي خَلَقَهُ اللهُ بيدِهِ، وأَسْجَدَ له مَلاَئِكَتَهُ، وعلَّمَهُ أَسْمَاءَ كُلِّ شَيْءٍ).
قولُهُ: (خَلَقَ اللهُ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاَثٍ …) إِلَى آخِرِه.
هَذَا مَأْخُوذٌ مِن القُرْآنِ في قولِهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِّلشَّيَاطِينِ}[المُلْك:5].
وقولُهُ: {وعَلاَمَاتٍ} أي: دَلاَلاَتٍ عَلَى الجِهَاتِ والبُلْدَانِ ونحوِ ذَلِكَ {يُهْتَدَى بِهَا} بصِيغَةِ المَجْهُولِ، أي: يَهْتَدِي بِهَا النَّاسُ في ذَلِكَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}[الأنعام:97] .
وَلَيْسَ المُرَادُ: يَهْتَدُونَ بِهَا في عِلْمِ الغَيْبِ ولهَذَا قَالَ: (فمَنْ تَأَوَّلَ فِيهَا ذَلِكَ)
أي: زَعَمَ فِيهَا غَيْرَ مَا ذَكَرَ اللهُ تَعَالَى في هَذِهِ الثَّلاثِ،
فادَّعَى بِهَا عِلْمَ الغَيْبِ، فَقَدْ أَخْطَأَ، أي: حَيْثُ تَكَلَّمَ
رَجْمًا بالغَيْبِ (وأَضَاعَ نَصِيبَهُ) أي: حَظَّهُ مِن عُمُرِهِ؛ لأَِنَّهُ اشْتَغَلَ بِمَا لاَ فَائِدَةَ فيهِ، بل مَضَرَّةٌ مَحْضَةٌ.
قَالَ الدَاوودِيُّ: (قَوْلُ قَتَادَةَ في النُّجُومِ حَسَنٌ إِلاَّ قَوْلَهُ: أَخْطَأَ وأَضَاعَ نَصِيبَهُ، فَإِنَّه قَصَّرَ في ذلكَ، بل قَائِلُ ذَلِكَ كَافِرٌ).
وعن قَتَادَةَ ومُجَاهِدٍ:(إِنَّ مِن النُّجُومِ ما يَكُونُ عَلاَمَةً لاَ يُهْتَدَى إِلاَّ بها).
رَوَاهُ ابْنُ جَرِيرٍ، وابْنُ أَبِي حَاتِمٍ؛ فَهَذَا القَوْلُ ونَحْوُه هو مَعْنَى الآيَةِ.
فالاسْتِدْلاَلُ بِهَا عَلَى صِحَّةِ عِلْمِ التَّنْجِيمِ اسْتِدْلاَلٌ
عَلَى مَا يُعْلَمُ فَسَادُه، بالاضْطِرَارِ مِن دِينِ الإِسْلاَمِ، بِمَا
لاَ يَدُلُّ عليهِ لاَ نَصًّا ولاَ ظَاهِرًا، وذَلِكَ أَفْسَدُ أَنْوَاعِ
الاسْتِدْلاَلِ، فإِنَّ الأَحَادِيثَ جَاءتْ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإِبْطَالِ عِلْمِ التَّنْجِيمِ وذَمِّهِ:
- وَتَكْذِيبٌ بِالقَدَرِ.
- وَإِيمانٌ بِالنُّجومِ)).
- وعن رَجَاءِ بنِ حَيْوَةَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((مِمَّا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي التَّصْدِيقُ بِالنُّجُومِ، وَالتَّكْذِيبُ بِالقَدَرِ، وَحَيْفُ الأَئِمَّةِ)) رَوَاهُمَا عَبْدُ بنُ حُمَيْدٍ.
- حَيْفَ الأَئِمَّةِ.
- وَإِيمَانًا بِالنُّجُومِ.
- وَتَكْذِيبًا بِالقَدَرِ)) رَوَاهُ ابنُ عَسَاكِرَ وحَسَّنَهُ السيوطِيُّ.
- تَكْذِيبًا بِالقَدَرِ.
- وَإِيمانًا بِالنُّجومِ))رَوَاهُ أَبُو يَعْلَى وابْنُ عَدِيٍّ والخَطِيبُ في كِتَابِ (النُّجُومِ) وحَسَّنَهُ السيوطيُّ أيضًا.
وفي البابِ أحاديثُ وآثارٌ غيرُ ما ذَكَرْنَا.
فتَبَيَّنَ بِهَذَا أَنَّ الاسْتِدْلاَلَ بالآيَةِ عَلَى صِحَّةِ أَحْكَامِ النُّجُومِ مِنْ أَفْسَدِ أَنْوَاعِ الاسْتِدْلاَلِ.
وهل إِذَا رَفَعَ إِنْسَانٌ بَصَرَهُ إِلَى النُّجُومِ، فَنَظَرَ إِلَيْهَا، دَلَّ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ عِلْمِ النُّجُومِ عندَه؟!
وكلُّ النَّاسِ يَنْظُرُونَ إِلَى النُّجُومِ، فَلاَ يَدُلُّ ذلكَ على صِحَّةِ عِلْمِ أَحْكَامِهَا. وكَأَنَّ هَذَا مَا شَعَرَ أنَّ إِبْرَاهيمَ عليهِ السَّلاَمُ إنَّما بُعِثَ إلى الصَّابِئَةِ المُنَجِّمِينَ مُبْطِلاً لقولِهِم مُناظِرًا لَهُم عَلَى ذَلِكَ.
فَإِنْ قِيلَ عَلَى هَذَا: فَمَا فَائِدَةُ نَظْرَتِهِ في النُّجُومِ؟
ولهَذَا جَاءَ في حَدِيثِ الشَّفَاعَةِ الصَّحِيحِ أنَّهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَقُولُ: ((لَسْتُ هُنَاكُمْ ويَذكُرُ ثَلاَثَ كَذَبَاتٍ كَذَبَهُنَّ)) وعَدَّها العُلَمَاءُ قَوْلَهَ: {إِنِّي سَقِيمٌ}.
وقولَهُ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَـذَا} وقَوْلَهُ في سَارَةَ: هي أُخْتِي.
فلوكانَ قولُهُ: {إِنِّي سَقِيمٌ}
أَخَذَهُ مِن عِلْمِ النُّجُومِ لَمْ يَعْتَذِرْ مِن ذَلِكَ، وإنَّما هي
مِن مَعَارِيضِ الأَفْعَالِ، فلهَذَا اعْتَذَرَ منها كَمَا اعْتَذَرَ مِن
قولِهِ: {بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ} ذَكَرَ ذَلِكَ ابنُ القيِّمِ.
لكنَّ قَوْلَهُ: (وعَدَّهَا العُلَمَاءُ) يَدُلُّ عَلَى أنَّهُ لم يَسْتَحْضِرِ الحَدِيثَ الوَارِدَ في عَدِّها.
وقد رواهُ أَحْمَدُ، والبُخَارِيُّ، وأَصْحَابُ السُّنَنِ وابنُ جَرِيرٍ وغَيرُهُم، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:((لَمْ
يَكْذِبْ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلامُ غَيْرَ ثَلاَثِ كَذَبَاتٍ؛
اثْنَتَيْنِ فِي ذَاتِ اللهِ، قولِهِ: إِنِّي سَقِيمٌ، وَقَوْلِهِ: بَلْ
فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا، وَقَوْلِهِ فِي سَارَةَ هي أُخْتِي)) لَفْظُ ابْنِ جَرِيرٍ.
فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ.
وَقَالَ: بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُم هَذَا.
وَقَالَ للمَلِكِ حِينَ أَرَادَ امْرَأَتَهُ: هِيَ أُخْتِي)) وفي إِسْنَادِهِ ضَعْفٌ.
وَقَالَ قَتَادَةُ في الآيَةِ: (العَرَبُ تَقُولُ لمَن تَفَكَّرَ: نَظَرَ في النُّجُومِ).
قَالَ ابنُ كَثِيرٍ:(يَعْنِي قَتَادَةُ: أنَّهُ نَظَرَ إِلَى السَّمَاءِ مُتَفَكِّرًا فيما يُكَذِّبُهم بهِ فَقَالَ: إِنِّي سَقِيمٌ، أي: ضَعِيفٌ).
(3) هذا هو القِسْمُ الثَّالِثُ: مِن عِلْمِ التَّنْجِيمِ وهو تَعَلُّمُ
مَنَازِلِ الشَّمْسِ والقَمَرِ، للاسْتِدْلاَلِ بذلك عَلَى القِبْلَةِ
وأَوْقَاتِ الصَّلَوَاتِ والفُصُولِ، وهو كما تَرَى مِن اخْتِلافِ
السَّلَفِ فيه، فما ظَنُّكَ بذَيْنِكَ القِسْمَيْنِ؟!
قَالَ الخَطَّابِيُّ: (أَمَّا
عِلْمُ النُّجومِ الذي يُدرَكُ مِن طَرِيقِ المُشَاهَدَةِ والخَبَرِ الذي
يُعْرَفُ به الزَّوَالُ، وتُعلَمُ به جِهَةُ القِبْلَةِ، فَإِنَّهُ غَيْرُ
دَاخِلٍ فيما نُهِيَ عنه، وذلك أنَّ مَعْرِفَةَ رَصْدِ الظِّلِّ ليسَ شيئًا
بأكْثَرَ مِن أَنَّ الظِّلَّ ما دَامَ مُتَنَاقِصًا، فالشَّمْسُ بَعْدُ
صَاعِدَةٌ نحوَ وسَطِ السَّمَاءِ مِن الأُفُقِ الشَّرْقِيِّ، وإِذَا أَخَذَ
في الزِّيَادَةِ فالشَّمْسُ هَابِطَةٌ مِن وَسَطِ السَّمَاءِ نحوَ
الأُفُقِ الغَرْبِيِّ).
وهذا عِلْمٌ يَصِحُّ دَرْكُهُ بالمُشَاهَدَةِ، إِلاَّ أَنَّ أَهْلَ هذه
الصِّنَاعَةِ قد دَبَّرُوها بِمَا اتَّخَذُوا له مِن الآلاَتِ التي
يَسْتَغْنِي النَّاظِرُ فيها عن مُراعاةِ مُدَّتِه ومُراصَدَتِهِ، وأَمَّا
مَا يُسْتَدَلُّ به مِن النُّجُومِ على جِهَةِ القِبْلَةِ، فَإِنَّها
كَوَاكِبُ رَصَدَها أَهْلُ الخِبْرَةِ بِهَا مِن الأَئِمَّةِ الذين لاَ
نَشُكُّ في عِنَايتِهِم بأَمْرِ الدِّينِ ومَعْرِفَتِهم بِهَا وصِدْقِهِم
فيما أَخْبَرُوا بِهِ عنها.
مِثْلَ: أنْ يُشَاهِدُوهَا بحَضْرَةِ الكَعْبَةِ، ويُشَاهِدُوهَا عَلَى
حَالِ الغَيْبَةِ عنها، فكَانَ إِدْرَاكُهُم الدَّلاَلَةَ منها
بالمُعَايَنَةِ وإِدْرَاكُنَا ذَلِكَ بقَبُولِ خَبَرِهم؛ إذ كَانُوا عندَنا
غيرَ مُتَّهَمِينَ في دِينِهِم، وَلاَ مُقَصِّرِينَ في مَعْرِفَتِهِ).
وعن إِبْرَاهِيمَ: (أنَّهُ كَانَ لاَ يَرَى بَأْسًا أَنْ يَتَعَلَّمَ الرَّجُلُ مِن النُّجُومِ ما يَهْتَدِي بِهِ) رَوَاهُ ابنُ المُنْذِرِ.
وأَمَّا عِلْمُ التَّسْييرِ، فتَعَلُّمُ مَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ
للاهْتِدَاءِ، ومَعْرِفَةِ القِبْلَةِ، والطُّرُقِ، جَائِزٌ عندَ
الجُمْهُورِ، وما زَادَ عَلَيْهِ لاَ حَاجَةَ إليه لشُغْلِهِ عَمَّا هوَ
أَهَمُّ منهُ، ورُبَّمَا أَدَّى تَدْقِيقُ النَّظَرِ فيهِ إلى إِسَاءةِ
الظَّنِّ بمَحَارِيبِ المُسْلِمِينَ، كَمَا وَقَعَ مِنْ أَهْلِ هَذَا
العِلْمِ قَدِيمًا وحَدِيثًا، وذَلِكَ يُفْضِي اعْتِقَادُهُ إِلَى خَطَأِ
السَّلَفِ في صَلاَتِهِم وهو بَاطِلٌ) انْتَهَى مُخْتَصَرًا.
قُلْتُ: وهذا هو الصَّحِيحُ إنْ شَاءَ اللهُ، ويَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ الآياتُ والأحاديثُ التي تَقَدَّمَتْ.
قولُهُ: ((ذَكَرَهُ حَرْبٌ عَنْهُمَا)) هو الإِمَامُ الحَافِظُ حَرْبُ بنُ إِسْمَاعِيلَ أَبُو مُحَمَّدٍ الكَرْمَانِيُّ الفَقِيهُ مِن أَجِلَّةِ أَصْحَابِ الإِمَامِ أَحْمَدَ رَوَى عن أَحْمَدَ، وإِسْحَاقَ، وابْنِ المَدِينيِّ، وابنِ مَعِينٍ، وأَبِي خَيْثَمَةَ، وابنِ أَبِي شَيْبَةَ، وغيرِهم، وله مُصَنَّفَاتٌ جَلِيلَةٌ.
وإِسْحَاقُ هو إِبْرَاهِيمُ بنُ مَخْلَدٍ أَبُو يَعْقُوبَ الحَنْظَلِيُّ النَّيسَابُورِيُّ الإِمَامُ المعْرُوفُ بابْنِ رَاهَويْه، رَوَى عن ابنِ المُبَارَكِ، وأَبِي أُسَامَةَ، وابنِ عُيَيْنَةَ، وطَبَقَتِهم.
قَالَ أَحْمَدُ: (إِسْحَاقُ عِنْدَنا إِمَامٌ مِن أَئِمَّةِ المُسْلِمِينَ) ورَوَى عنه أَحْمَدُ، والبُخَارِيُّ، ومُسْلِمٌ، وأَبُو دَاودَ، وغَيْرُهم، ورَوَى هو أَيْضًا عن أَحْمَدَ مَاتَ سَنَةَ تِسْعٍ وثَلاَثِينَ ومِائَتَيْنِ.
قولُهُ: (عن أَبِي مُوسَى) هو عَبْدُ اللهِ بنُ قَيْسِ بنِ سُلَيْمِ بنِ حَضَّارٍ -بفَتْحِ المُهْمَلَةِ وتَشْدِيدِ الضَّادِ المُعْجَمَةِ- أَبُو مُوسَى الأَشْعَرِيُّ، صَحَابِيٌّ جَلِيلٌ اسْتَعْمَلَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَمَّرَه عُمَرُ، ثُمَّ عُثْمَانُ، وهو أَحَدُ الحَكَمَيْنِ بصِفِّينَ مَاتَ سَنَةَ خَمْسِينَ.
قولُهُ: ((ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الجَنَّةَ))
هَذَا مِن نُصُوصِ الوَعِيدِ التي كَرِهَ السَّلَفُ تَأْويلَها وقَالُوا:
أَمِرُّوها كما جَاءتْ، وإِنْ كَانَ صَاحِبُها لا يَنْتَقِلُ عن المِلَّةِ
عندَهم، وكأَنَّ المُصَنِّفَ رَحِمَهُ اللهُ يَمِيلُ إلى هذا القَوْلِ.
قولُه: ((مُدْمِنٌ الخَمْرَ)) أي: المُدَاوِمُ عَلَى شُرْبِها.
قولُه: ((وقَاطِعُ الرَّحِمِ)) أي: القَرَابَةِ كَمَا قَالَ تَعَالى: {فَهَلْ
عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ (22) أَوْلَـئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللهُ فَأَصَمَّهُمْ
وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ}[محمد:22،23].
قولُهُ: ((ومُصَدِّقٌ بالسِّحْرِ)) مُطْلَقًا ويَدْخُلُ فيهِ التَّنْجِيمُ لحَدِيثِ: ((مَنِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِن النُّجُومِ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ السِّحْرِ)) وهَذَا وجْهُ مُطَابَقَةِ الحَدِيثِ للبَابِ.
قَالَ الذَّهَبِيُّ في (الكَبَائِرِ): (ويَدْخُلُ
فيه تَعَلُّمُ السِّيمِياءِ وعَمَلُها، وهو مَحْضُ السِّحْرِ، وعَقْدُ
المَرْءِ عن زَوْجَتِهِ، ومَحَبَّةُ الزَّوْجِ لامْرَأَتِهِ وبُغْضُها
وبُغْضُه، وأَشْبَاهُ ذَلِكَ بكَلِمَاتٍ مَجْهُولَةٍ، قَالَ: وَكَثِيرٌ مِن
الكَبَائِرِ بل عَامَّتُها إِلاَّ الأَقَلَّ يَجْهَلُ خَلْقٌ مِن
الأُمَّةِ تَحْرِيمَه، وما بَلَغَهُ الزَّجْرُ فيهِ ولاَ الوَعِيدُ
عَلَيْهِ، فهَذَا الضَّرْبُ فيهم تَفْصِيلٌ، فيَنْبَغِي للعَالِمِ أَنْ لاَ
يَجْهَلَ عَلَى الجَاهِلِ، بل يَرْفُقَ به ويُعَلِّمَهُ سِيَّمَا إِذَا
قَرُبَ عَهْدُهُ بجَهْلِهِ، كمَنْ أُسِرَ وجُلِبَ إلى أَرْضِ الإِسْلاَمِ
وهو تُرْكِيٌّ، فبالجَهْدِ أنْ يَتَلَفَّظَ بالشَّهَادَتَيْنِ فلا يَأْثَمُ
أَحَدٌ إِلاَّ بَعْدَ العِلْمِ بحَالِهِ وقيامِ الحُجَّةِ عَلَيْهِ).
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ((1)
قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ ما جاءَ فِي التَّنْجِيمِ).
وقال الْخَطَّابِيُّ: (عِلْمُ
النجومِ الْمَنْهِيُّ عنه ما يَدَّعِيهِ أهلُ التنجيمِ من عِلْمِ
الْكَوائِنِ والحوادِثِ التي ستَقَعُ في مُستقبَلِ الزمانِ، كأَوقاتِ
هُبوبِ الريحِ ومَجيءِ الْمَطَرِ، وتَغيُّرِ الأسعارِ، وما في مَعناها من
الأمورِ التي يَزعُمونَ أنها تُدْرَكُ مَعرِفَتُها بِمَسيرِ الكواكبِ في
مَجَارِيها، واجتماعِها وافتراقِها، يَدَّعُونَ أنَّ لها تَأثيراً في
السُّفْلِيَّاتِ). (2) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قالَ البخاريُّ في (صَحِيحِه): قالَ قَتادةُ: (خَلَقَ
اللهُ هَذِهِ النُّجومَ لِثلاثٍ: زينةً للسماءِ، ورُجُومًا للشَّياطينِ،
وَعَلاماتٍ يُهْتَدَى بِها، فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيها غيرَ ذلِكَ أَخْطَأَ
وأَضاعَ نَصِيبَهُ وتَكَلَّفَ ما لا عِلْمَ لَهُ بِهِ). - وقالَ تعالى: {وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ}[النحل:16]. وفيه: إشارةٌ إلى أنَّ النُّجومَ في السماءِ الدنيا، كما رَوَى ابنُ مَرْدُويَه، عن ابنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أمَّا
السَّماءُ الدُّنيا: فَإِنَّ اللهَ خَلَقَها مِنْ دُخَانٍ، وَجَعَلَ فيها
سِراجًا وَقَمَرًا مُنيرًا، وَزَيَّنَها بِمَصابيحَ، وَجَعَلَها رُجومًا
لِلشَّياطينِ وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجيمٍ)). فإن قِيلَ: الْمُنَجِّمُ قد يَصْدُقُ. قيلَ: صِدْقُه كصِدْقِ الكاهِنِ، يَصْدُقُ في كلمةٍ ويَكْذِبُ في مائةٍ. وصِدْقُه ليس عن عِلْمٍ، بل قد يُوافِقُ قَدَرًا، فيكونُ فِتنةً في حَقِّ مَن صَدَّقَه. كقولِه: ((مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجومِ فَقدِ اقْتَبَسَ شُعْبةً مِنَ السِّحرِ، زادَ ما زادَ)). (3) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وكَرِه قَتادةُ تعلُّمَ مَنازِلِ القَمَرِ، وَلَمْ يُرَخِّصِ ابنُ عُيينةَ فيهِ، ذَكَرَهُ حَرْبٌ عَنْهُما، وَرَخَّصَ فِي تَعلُّمِ الْمَنازِلِ أحمدُ وإسحاقُ). قالَ الْخَطَّابِيُّ: (أمَّا
عِلْمُ النجومِ الذي يُدْرَكُ من طَريقِ الْمُشاهَدَةِ والخبَرُ الذي
يُعْرَفُ به الزَّوالُ، وتُعْلَمُ به جِهةُ القِبْلَةِ: فإنه غيرُ داخلٍ
فيما نُهِيَ عنه، وذلك أنَّ مَعرِفَةَ رَصْدِ الظلِّ ليس شيئًا أكثرَ من
أنَّ الظِّلَّ ما دامَ مُتَنَاقِصًا فالشمسُ بَعْدُ صَاعدةٌ نحوَ وَسَطِ
السماءِ من الأُفُقِ الشرقيِّ، وإذا أَخَذَ في الزيادةِ فالشمسُ هابِطةٌ من
وَسَطِ السماءِ نحوَ الأُفُقِ الغربيِّ، وهذا عِلْمٌ يَصِحُّ إدراكُه
بالْمُشاهَدَةِ، إلا أنَّ أَهْلَ هذه الصناعةِ قد دَبَّرُوها بما
اتَّخَذُوا لَهَا من الآلاتِ التي يَسْتَغْنِي الناظِرُ فيها عن مُراعاةِ
مُدَّتِه ومُرَاصَدَتِه، وأمَّا ما يُسْتَدَلُّ به من النجومِ على جِهةِ
القِبلةِ فإنها كَواكبُ رَصَدَها أهلُ الْخِبرةِ بِهَا من الأَئِمَّةِ
الذين لا نَشُكُّ في عِنايَتِهم بأَمْرِ الدِّينِ ومَعْرِفَتِهم بها،
وصِدْقِهم فيما أَخْبَروا به عنها، مِثلَ أن يُشاهِدَها بِحَضْرَةِ
الكَعبةِ، ويُشاهدَها على حالِ الغَيْبَةِ عنها، فكانَ إدراكُهم الدَّلالةَ
منها بالْمُعايَنَةِ، وإدراكُنا ذلك بقَبولِ خَبَرِهم إذ كانوا عِنْدَنا
غيرَ مُتَّهَمِين في دِينِهم، ولا مُقَصِّرِينَ في مَعْرِفَتِهم) انتهى. - قالَ ابنُ رَجَبٍ: (والمأذونُ في تَعَلُّمِه عِلْمُ التَّسْيِيرِ لا عِلْمُ التأثيرِ؛ فإنه باطِلٌ مُحَرَّمٌ، قليلُه وكَثيرُه). وأمَّا عِلْمُ التسييرِ فيَتَعَلَّمُ ما يَحتاجُ إليه من الاهتداءِ ومَعرِفةِ القِبلةِ والطُّرُقِ، جائزٌ عندَ الجمهورِ، انتهى. (4) قَالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبي مُوسى قالَ: قالَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((ثلاثٌ لا يَدْخُلُونَ الجنةَ: مُدْمِنُ الْخَمْرِ وقَاطِعُ الرَّحِمِ ومُصدِّقٌ بالسِّحْرِ)) رواه أحمدُ وابنُ حِبَّانَ في (صحيحِه)).
وهذا منهم تَحَكُّمٌ على الْغَيْبِ، وتَعاطٍ لعِلْمٍ قد اسْتَأْثَرَ اللهُ به، لا يَعْلَمُ الْغَيْبَ سِوَاهُ).
هذا الأثَرُ عَلَّقَه البخاريُّ في (صحيحِه) وأَخْرَجَه عبدُ الرَّزَّاقِ وعبدُ بنُ حُمَيْدٍ وابنُ جَريرٍ وابنُ الْمُنْذِرِ وغيرُهم، وأَخْرَجُه الْخَطيبُ في كِتابِ (النُّجومِ) عن قَتادةَ، ولَفْظُه قال: (إنَّما جَعَلَ اللهُ هذهِ النُّجومَ لثلاثِ خِصالٍ:
- جَعلَها زِينَةً للسَّماءِ.
- وَجَعَلَها يُهْتَدَى بِهَا.
- وَجَعَلَها رُجومًا للشَّياطِينِ.
فَمَنْ تَعاطَى فِيها غَيْرَ ذلِكَ فَقَدْ قالَ بِرَأْيِهِ، وأَخْطأَ حظَّهُ، وأضاعَ نَصِيبَهُ، وتكلَّفَ ما لا عِلْمَ لَهُ بِهِ.
وإنَّ أُناسًا جَهَلَةً بأمْرِ اللهِ قدْ أَحْدَثوا في هَذِهِ النُّجومِ
كَهانةً: مَنْ أعْرَسَ بنجمِ كَذا وكَذا، كانَ كَذا كَذا، ومَنْ سافَرَ
بِنجْمِ كذا وكَذا، كانَ كذا وكذا.
ولعَمرِي ما مِنْ نَجمٍ إلا يُولَدُ بِه الأَحمَرُ والأَسْوَدُ، والطَّويلُ
والقَصيرُ، والحَسَنُ والدَّميمُ، وما عِلْمُ هذه النُّجومِ، وهذهِ
الدَّابَّةِ، وهذا الطائرِ بِشَيءٍ مِنْ هذا الْغَيْبِ.
ولَوْ أنَّ أَحَدًا عَلِمَ الْغَيْبَ لعَلِمهُ آدَمُ الذي خَلَقهُ اللهُ
بيدِهِ وأسجَدَ لهُ ملائِكَتَهُ وعَلَّمَهُ أسماءَ كلِّ شيءٍ) انتهى.
فتَأَمَّلْ ما أَنْكَرَه هذا الإمامُ مِمَّا حَدَثَ مِن هذه الْمُنكَرَاتِ في عَصْرِ التابعينَ.
وما زَالَ الشرُّ يَزدادُ في كلِّ عَصْرٍ بعدَهم حتى بَلَغ الغايةَ في هذه
الأعصارِ، وعَمَّت به الْبَلْوَى في جميعِ الأمصارِ، فمُقِلٌّ
ومُسْتَكْثِر، وعَزَّ في الناسِ مَن يُنْكِرُه، وعَظُمَت الْمُصيبةُ في
الدِّينِ، فإنَّا للهِ وإنَّا إليه راجعونَ.
قولُه: (خَلَقَ اللهُ هَذِهِ النُّجومَ لِثلاثٍ) قالَ اللهُ تعالى: {وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ}[الملك:5].
قولُه: (وَعَلاماتٍ) أي: دَلالاتٍ على الْجِهاتِ(يُهْتَدَى بِها) أي: يَهْتَدِي بها الناسُ في ذلك، كما قالَ تعالى: {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}[الأنعام:97]
أي: ليَعْرِفُوا بها جِهَةَ قَصْدِهم، وليس الْمُرادُ أنه يُهْتَدَى بها
في عِلْمِ الْغَيْبِ، كما يَعتقِدُه الْمُنَجِّمونَ، وقد تَقدَّمَ
بُطلاَنُه، وأنه لا حَقيقةَ له كما قالَ قَتادةُ: (فَمَنْ تَأَوَّلَ فِيها غيرَ ذلِكَ) أي: زَعَمَ فيها غيرَ ما ذَكَرَ اللهُ في كِتابِه من هذه الثلاثِ فقد أَخْطَأَ.
حيثُ زَعَمَ شيئًا ما أَنْزَلَ اللهُ به مِن سُلطانٍ، وأَضاعَ نَصيبَه من
كلِّ خيرٍ؛ لأنه أشَغَلَ نفسَه بما يَضُرُّهُ ولا يَنْفَعُه.
وعن ابنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما في قولِه: {وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ}[النحل:15-16] فقولُه: {وَعَلامَاتٍ} مَعطوفٌ على ما تَقَدَّمَ مِمَّا ذَكَرَه في الأرضِ، ثم اسْتَأْنَفَ فقالَ: {وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ} ذَكَرَه ابنُ جَريرٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ بمعناه.
وقد جَاءت الأحاديثُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بإبطالِ عِلْمِ التنجيم:
وعن رَجاءِ بنِ حَيْوةَ: أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مِمَّا أَخَافُ عَلَى أُمَّتي: التَّصْدِيقُ بِالنُّجومِ، وَالتَّكذيبُ بِالقَدَرِ، وَحَيْفُ الأئِمَّةِ)) رواه عبدُ بنُ حُمَيْدٍ، وعن أبي مِحْجَنٍ مَرفوعًا: ((أَخافُ علَى أُمَّتي ثَلاثًا: حَيْفَ الأَئِمَّةِ، وَإِيمانًا بِالنُّجومِ، وَتَكْذِيبًا بالقَدَرِ)) رواه ابنُ عساكِرَ، وحَسَّنَه السُّيُوطِيُّ.
وعن أَنَسٍ مَرفوعًا: ((أَخَافُ عَلَى أُمَّتي بَعدِي خَصْلَتَيْنِ: تَكْذيبًا بِالقَدَرِ، وَإِيمَانًا بِالنُّجومِ)) رواه أبو يَعْلَى وابنُ عَدِيٍّ والخَطيبُ في كِتابِ (النُّجومِ)، وحَسَّنَه السُّيوطيُّ أيضًا.
والأحاديثُ في ذَمِّ التنجيمِ والتحذيرِ منه كَثيرةٌ.
وروى ابنُ الْمُنْذِرِ عن مُجاهِدٍ: (أنَّه كان لا يَرَى بأسًا أن يَتَعَلَّمَ الرجلُ مَنازِلَ القَمَرِ) ورَوَى عن إبراهيمَ: (أنَّه كان لا يَرَى بأسًا أن يَتَعَلَّمَ الرجُلُ من النجومِ ما يُهْتَدَى به).
قولُه: (ذَكَرَه حَرْبٌ عنهما) هو الإمامُ الحافظُ حَرْبُ بنُ إسماعيلَ وأبو مُحَمَّدٍ الكِرْمانيُّ الفَقِيهُ من جِلَّةِ أصحابِ الإمامِ أَحمدَ.
روى عن أحمدَ، وإسحاقَ، وابنِ الْمَدِينِيِّ، وابنِ مَعينٍ، وغيرِهم، وله كتابُ (الْمَسائِلِ) التي سُئِلَ عنها الإمامُ أحمدُ) وغيرُه، ماتَ سنةَ ثمانينَ ومائتينِ.
وأمَّا إسحاقُ: فهو ابنُ إبراهيمَ بنِ مَخْلَدٍ أبو أَيُّوبَ الْحَنْظَلِيُّ النَّيْسَابوريُّ، الإمامُ المعروفُ بابنِ رَاهُويَه.
روى عن ابنِ الْمُبَارَكِ وأبي أُسامةَ وابنِ عُيَيْنَةَ وطَبَقَتِهِم.
قالَ أحمدُ: (إسحاقُ عِنْدَنَا إمامٌ من أَئِمَّةِ المسلمينَ).
رَوَى عنه أَحمدُ، والبخاريُّ، ومسلِمٌ، وأبو دَاوُدَ، وغيرُهم، ورَوَى هو أيضًا عن أحمدَ، ماتَ سنةَ تِسعٍ وثلاثينَ ومائتينِ.
هذا الحديثُ رواه أيضًا الطبرانيُّ والحاكِمُ وقالَ: (صحيحٌ) وأَقَرَّهُ الذهبيُّ.
وتَمامُه: ((ومَنْ
مَاتَ وهُوَ مُدْمِنٌ الْخَمْرَ سَقَاهُ اللهُ مِنْ نَهْرِ الْغُوطَةِ:
نَهْرٌ يَجرِي مِنْ فُروجِ الْمُومِسَاتِ يُؤذِي أهلَ النَّارِ ريحُ
فُرُوجِهِنَّ)).
قولُه: (وَعَنْ أَبي مُوسى): هو عبدُ اللهِ بنُ قَيْسِ بنِ سُلَيْمِ بنِ حَضَّارٍ -بفَتْحِ الْمُهْمَلةِ وتَشديدِ الضَّادِ- أبو موسى الأَشْعَرِيُّ، صحابيٌّ جَليلٌ. ماتَ سنةَ خَمسينَ.
قولُه: ((ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ))
هذا من نُصوصِ الوَعيدِ التي كَرِهَ السلَفُ تَأْوِيلَها، وقَالُوا:
أَمِرُّوها كما جَاءَتْ، ومَن تَأَوَّلَها فهو على خَطَرٍ من القَوْلِ على
اللهِ بلا عِلْمٍ، وأَحَسَنُ ما يُقالُ: إنَّ كلَّ عَمَلٍ دُونَ الشِّركِ
والكُفْرِ الْمُخْرِجِ عن مِلَّةِ الإسلامِ فإنه يَرْجِعُ إلى مَشيئةِ
اللهِ: فإن عَذَّبَه به فقد اسْتَوْجَبَ العَذابَ، وإن غَفَرَ له
فبِفَضْلِه وعَفْوِه ورَحْمَتِه.
قولُه: ((مُدْمِنُ الْخَمْرِ)) أي: الْمُداوِمُ على شُرْبِها.
قولُه: ((وقَاطِعُ الرَّحِمِ)) يعني: القَرابةَ كما قالَ تعالى: {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَتُقَطِّعُواْ أَرْحَامَكُمْ }[محمد:22]الآيةَ.
قولُه: ((وَمُصَدِّقٌ بالسِّحْرِ)) أي: مُطْلَقًا، ومنه التنجيمُ؛ لِمَا تَقَدَّمَ من الحديثِ. وهذا وَجْهُ مُطابَقَةِ الحديثِ للتَّرْجَمَةِ.
قالَ الذهبيُّ في (الكبائرِ): (ويَدْخُلُ
فيه تَعَلُّمُ السِّيمِيَا وعَمَلُها، وعَقْدُ الْمَرْءِ عن زَوْجَتِه،
ومَحَبَّةُ الزوجِ لامرأتِه، وبُغْضُها وبُغْضُه، وأشباهُ ذلك بكِلماتٍ
مَجهولةٍ، قالَ: وكثيرٌ من الكبائرِ -بل عامَّتُها إلا الأَقَلَّ- يَجْهَلُ
خَلْقٌ من الأُمَّةِ تَحريمَه، وما بَلَغَه الزَّجْرُ فيه، ولا الوَعيدُ
عليه) انتهى.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((1)
التنْجيمُ نوعان: نوعٌ يُسَمَّى علمَ التأثيرِ: وهو الاستدلالُ بالأحوالِ الفلكيةِ على الحوادثِ الكونيةِ ،
فهذا باطلٌ ودعوى لمشاركةِ اللهِ في علمِ الغيبِ الذي انفرَدَ به أو
تصديقٌ لمن ادَّعى ذلك، وهذا ينافي التوحيدَ؛ لِمَا فيه من هذه الدعْوَى
الباطلةِ، ولما فيه من تعلُّقِ القلبِ بغيرِ اللهِ ، ولِمَا فيه من فسادِ
العقلِ؛ لأن سلوك الطرقِ الباطلةِ وتصديقَها من مفسداتِ العقولِ والأديانِ. النوعُ الثاني: علمُ التسييرِ ، وهو الاستدلالُ بالشمسِ والقمرِ والكواكبِ على القبلةِ والأوقاتِ والجهاتِ،
فهذا النوعُ لا بأسَ به، بلْ كثيرٌ منه نافعٌ قد حثَّ عليه الشارعُ إذا
كان وسيلةً إلى معرفةِ أوقاتِ العباداتِ أو إلى الاهتداءِ به في الجهاتِ.
فيجبُ التفريقُ بينَ ما نهَى عنه الشارعُ وحَرَّمَه، وبينَ ما أباحَه أو
استحَبَّه أو أوْجَبَه، فالأوَّلُ هو المنافي للتوحيدِ دونَ الثاني.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ((1)
التَّنْجِيمُ: مصدرُ نَجَّمَ بتشديدِ الجيمِ، أَيْ: تَعَلَّمَ عِلْمَ النجومِ أو اعتقدَ تأثيرَ النجومِ.
قال شيخ الإسلام - كما في (الفتاوى) (35/192) -: (التنجيم: هو الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية، والتمزيج بين القوى الفلكية والقوابل الأرضية.
وهو صناعة محرمة بالكتاب والسنة، وإجماع الأمة، بل هي محرمة على لسان جميع المرسلين في جميع الملل...)
وعِلْمُ النجومِ ينقسمُ إلى قِسميْنِ:
أحدهما: علمُ التأثيرِ.
والآخر: علمُ التسييرِ.
فأما الأول: وهو علمُ التأثيِرِ، وهذا ينقسمُ إلى ثلاثةِ أقسامٍ:
أولها:
أنْ يعتقدَ أنَّ هذهِ النجومَ مُؤَثِّرةٌ فاعلةٌ،
بمعنى أنَّها هِيَ التي تَخْلُقُ الحوادثَ والشرورَ، فهذا شِرْكٌ أكبرُ؛ لأنَّ مَن ادَّعى أنَّ معَ اللهِ خَالقًا فهوَ مشركٌ شِرْكًا أكبرَ، فهذا جَعَلَ المخلوقَ المُسَخَّرَ خالقًا مُسَخِّرًا.
ثانيها:
أنْ يجعلَها سببًا يَدَّعِي بهِ عِلْمَ الغيبِ؛
فيستدلُّ بحركاتِها وتنَقُّلاتِها وتغَيُّرَاتِها على أنَّهُ سيكونُ كذا وكذا؛ لأنَّ النَّجمَ الفلانِيَّ صارَ كذا وكذا، مثلَ أنْ يقولَ: هذا الإنسانُ ستكونُ حياتُهُ شقاءً؛ لأنَّهُ وُلِدَ في النَّجمِ الفُلانيِّ، وهذا حياتُهُ ستكونُ سعيدةً؛ لأنَّهُ وُلِدَ في النَّجْمِ الفُلانيِّ، فهذا اتَّخذَ تعلُّمَ النجومِ وسيلةً لادِّعاءِ عِلْمِ الغيبِ، ودَعْوَى علمِ الغيبِ كفرٌ مُخْرِجٌ عن الملَّةِ؛ لأنَّ اللهَ يقولُ: { قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ } وهذا مِنْ أقوى أنواعِ الحَصْرِ؛ لأنَّهُ بالنَّفْيِ والإثباتِ، فإذا ادَّعَى عِلْمَ الغيبِ فقدْ كذَّبَ القرآنَ.
ثالثها:
أنْ يعتقدَها سببًا لحدوثِ الخيرِ والشرِّ،
أيْ: أنَّهُ إذا وَقَعَ شيءٌ نَسَبَهُ إِلى النجومِ، ولا يَنْسِبُ إِلى النُّجُومِ شيئًا إلاَّ بَعْدَ وُقُوعِهِ، فهذا شِرْكٌ أصغرُ.
فإنْ قيلَ: ينْتَقِضُ هذا بما ثَبَتَ عن النبيِّ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ في قولِهِ في الكسوفِ:
((إِنَّ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ يُخَوِّفُ اللهُ بِهِمَا عِبَادَهُ)) فمعنى ذَلِكَ أنَّهُما علامةُ إنْذَارٍ؟
والجوابُ مِنْ وَجْهَيْنِ:
الأَوَّلُ:
أنَّهُ لا يُسَلَّمُ أنَّ للكُسوفِ تأثيرًا في الحوادثِ والعقوباتِ
من الجَدْبِ والقَحْطِ والحُرُوبِ؛ ولذلكَ قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنَّهُمَا لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ)) لا فيما مَضَى ولا في المستقبلِ، وإنَّما يُخَوِّفُ اللهُ بهما العبادَ لعلَّهُمْ يَرْجِعُونَ، وهذا أقربُ.
الثاني:
أنَّهُ لوْ سلَّمْنا أنَّ لهُما تأثيرًا،
فإنَّ النصَّ قدْ دلَّ على ذلكَ، وما دلَّ عليهِ النصُّ يجبُ القولُ بهِ، لكنْ يكونُ خاصًّا بهِ.
لكنَّ الوجهَ الأَوَّلَ هوَ الأقربُ:
أنَّنا لا نُسَلِّمُ أصلاً أنَّ لهُمَا تأثيرًا في هذا؛ لأنَّ الحديثَ لا
يقتضيهِ، فالحديثُ ينصُّ على التخويفِ، والمخوِّفُ هوَ اللهُ تعالى،
والمَخُوفُ عُقُوبَتُهُ، ولا أثرَ للكسوفِ في ذلكَ، وإنَّمَا هوَ علامةٌ
فقطْ.
وأما الثاني: وهو علمُ التسييرِ، وهذا ينقسمُ إلى قسمَيْنِ:
أولهما:
أنْ يستدلَّ بسيْرِها على المصالحِ الدينيَّةِ،
فهذا مطلوبٌ، وإذا كانَ يُعِينُ على مصالحَ دينيَّةٍ واجبةٍ كانَ
تعَلُّمُها واجبًا، كما لوْ أرادَ أنْ يستدِلَّ بالنجومِ على جهةِ
القِبْلَةِ، فالنجمُ الفلانِيُّ يكونُ ثُلُثَ الليلِ قِبْلةً، والنَّجمُ
الفلانِيُّ يكونُ رُبْعَ الليلِ قِبْلَةً، فهذا فيهِ فائدةٌ عظيمةٌ.
ثانيهما:
أنْ يستدلَّ بسَيْرِها على المصالحِ الدُّنيويَّةِ،
فهذا لا بَأْسَ بِهِ، وهوَ نَوعانِ:
النوعُ الأوَّلُ:
أنْ يستدلَّ بِهَا على الجهاتِ،
كمعرفةِ أنَّ القُطْبَ يقعُ شمالاً، والجَدْيَ وَهُوَ قريبٌ مِنْهُ يدورُ حولَهُ شمالاً، وهكذا، فهذا جائزٌ، قالَ تعالى: { وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }.
النوعُ الثاني:
أنْ يستدلَّ بِها على الفُصُولِ، وهُوَ ما يُعْرَفُ بتعلُّمِ منازلِ القمرِ، فهذا كَرِهَهُ بعضُ السَّلفِ، وأَبَاحَهُ آخَرُونَ.
والذينَ كَرِهُوهُ قَالوا: يُخشَى إذا قيلَ: طَلَعَ النجمُ الفلانيُّ فهوَ وقتُ الشتاءِ أو الصيفِ، أنَّ بعضَ العامَّةِ يعتقدُ أنَّهُ هُوَ الذِي يأتي بالْبَرْدِ أوْ بالحرِّ أوْ بالرِّياحِ.
والصحيحُ:
عدمُ الكراهةِ كما سيأتي إنْ شاءَ اللهُ.
(2)
قولُهُ في أثرِ قتادةَ: (خَلَقَ اللهُ هَذِهِ النُّجومَ لِثلاثٍ) اللامُ للتعليلِ، أيْ: لبيانِ العِلَّةِ والحكمةِ.
قَولُهُ: (لِثلاثٍ) ويجوزُ لثلاثةٍ، لكنَّ الثلاثَ أحسنُ، أيْ: لثلاثِ حِكَمٍ، لهذا حَذَفَ تاءَ التأنيثِ من العددِ.
والأُولَى في هذه الثلاث:
زينةً للسماءِ، قالَ تعالى: { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ } لأنَّ الإنسانَ إذا رأَى السماءَ صافيةً في ليلةٍ غيرِ مُقْمِرَةٍ، وليسَ فيها كَهْرَبَاءُ يجدُ لهذهِ النجومِ من الجَمَالِ العظيمِ ما لا يعلمُهُ إلاَّ اللهُ، فتكونُ كأنَّها غابةٌ مُحَلاَّةٌ بأنواعٍ من الفضَّةِ اللامعةِ، هذهِ نجْمَةٌ مضيئةٌ كبيرةٌ تميلُ إلى الحُمْرَةِ، وهذهِ تميلُ إلى الزُّرْقَةِ، وهذهِ خفيفةٌ، وهذهِ مُتَوَسِّطَةٌ، وهذا شيْءٌ مُشَاهَدٌ.
وهلْ نقولُ: إنَّ ظاهرَ الآيةِ الكريمةِ أنَّ النجومَ مُرَصَّعةٌ في السماءِ، أوْ نقولُ: لا يَلزَمُ ذلكَ؟
الجوابُ:
لا يَلْزَمُ مِنْ ذَلكَ أنْ تكونَ النجومُ مُرَصَّعَةً في السماءِ،
قالَ تعالى: { وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أيْ: يدُورُونَ، كلٌّ لهُ فَلَكٌ.
وأَنا شاهَدْتُ بعينيَّ القمرَ وقد خَسَفَ نجمةً مِن النجومِ، أَيْ:
غَطَّاهَا، وهِيَ مِن النجومِ اللامعةِ الكبيرةِ كانَ يَقْرُبُ حولَها في
آخرِ الشهرِ، وعندَ قُرْبِ الفجْرِ غطَّاها، فَكُنَّا لا نَرَاها
بالمَرَّةِ، وذلكَ قبلَ عامَيْنِ في آخِرِ رمضانَ.
إذَنْ هيَ أفلاكٌ مُتَفَاوِتَةٌ في الارتفاعِ والنزولِ،
ولا يلزَمُ أنْ تكونَ مُرَصَّعَةً في السماءِ.
فإنْ قيلَ: فما الجوابُ عنْ قولِهِ تعالى: { وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا }؟
قُلنا: إنَّهُ لا يَلْزَمُ منْ تَزْيِينِ الشيءِ بالشيءِ أنْ يكونَ مُلاصقًا لهُ، أرَأَيْتَ لوْ أنَّ رجلاً عَمَّرَ قَصْرًا وجعلَ حولَهُ ثُرَيَّاتٍ من الكَهْرَبَاءِ كبيرةً وجميلةً، وليْسَتْ على جُدْرَانِهِ، فالناظرُ إلى القصرِ منْ بُعْدٍ يرى أنَّها زينةٌ لهُ، وإنْ لمْ تكُنْ ملاصقةً لهُ.
الثانيةُ:
رُجُومًا للشَّيَاطِينِ،
أيْ: لشياطينِ الجنِّ،
وليْسُوا شياطينَ الإنسِ؛ لأنَّ شياطينَ الإنسِ لمْ يَصِلُوهَا، لكنْ
شياطينُ الجنِّ وَصَلُوهَا فهُمْ أقْدَرُ منْ شياطينِ الإنسِ، ولهمْ
قُوَّةٌ عظيمةٌ نافذةٌ، قالَ تعالى عنْ عَمَلِهِم الدَّالِّ على
قُدْرَتِهِم: { وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ }أيْ: سخَّرْنا لسليمانَ،{ وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ }.
- وقالَ تعالى: { قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ } أيْ: منْ سَبَأٍ إلى الشامِ، وهوَ عرشٌ عظيمٌ لملكةِ سبأٍ، فهذا يدلُّ على قوَّتِهم وسُرْعَتِهم ونُفُوذِهم.
- وقالَ تعالى: { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا }والرَّجْمُ: الرَّمْيُ.
الثالثةُ:
علاماتٍ يُهْتَدَى بها، تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ تعالى: { وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }فذكرَ اللهُ تعالى نوعَيْنِ من العلاماتِ التي يُهْتَدَى بها:
الأَوَّلُ:
أرضيَّةٌ، وتشملُ كلَّ ما جعلَ اللهُ في الأرضِ منْ علامةٍ، كالجبالِ والأنهارِ والطُّرُقِ ونحْوِها.
والثاني:
أُفُقِيَّةٌ،
في قولِهِ تعالى: { وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ }.
والنجمُ: اسمُ جنسٍ يشملُ كلَّ ما يُهْتَدَى بهِ،
ولا
يخْتَصُّ بنجمٍ مُعَيَّنٍ؛ لأنَّ لكلِّ قومٍ طريقةً في الاستدلالِ بهذهِ
النجومِ على الجهاتِ، سواءٌ جهاتُ القِبْلَةِ أو المكانُ بَرًّا أوْ بحرًا.
وهذا منْ نعمةِ اللهِ أنْ جعَلَ علاماتٍ علوِيَّةً لا يُحْجَبُ دُونَها
شيءٌ وهيَ النجومُ؛ لأنَّكَ في الليلِ لا تُشَاهِدُ جبالاً ولا أوديةً،
وهذا منْ تسخيرِ اللهِ، قالَ تعالى: { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ }.
(3)
قولُهُ: (وكَرِهَ قتَادةُ تَعَلُّمَ مَنازِلِ القَمَرِ) اعلمْ أنَّ الكراهةَ في القرآنِ والسُّنَّةِ وكلامِ السلفِ المُتَقدِّمِينَ يُرادُ بها التحريمُ غالبًا.
وقولُهُ: (تَعَلُّمَ مَنازِلِ القَمَرِ) يَحْتَمِلُ أمريْنِ:
الأوَّلُ:
أنَّ المرادَ بهِ معرفةُ منزلةِ القمرِ،
فالليلةَ يكونُ في الشرطَيْنِ، ويكونُ في الإكْلِيلِ، فالمرادُ معرفةُ منازلِ القمرِ كُلَّ ليلةٍ؛ لأنَّهُ كلَّ ليلةٍ لهُ منزلةٌ حتَّى يُتِمَّ، وفي ولا يظْهَرُ في الغالبِ.
الثاني:
أنَّ المرادَ بهِ تعلَّمُ منازلِ النجومِ،
أيْ: يخرجُ النجمُ الفلانيُّ في اليومِ الفلانيِّ، وهذهِ النجومُ جَعَلَهَا اللهُ أَوْقَاتًا للفصولِ؛ لأنَّها نجمًا، منها يمانيَّةً، وشماليَّةً، فإذا حلَّت الشمسُ في المنازلِ الشماليَّةِ صارَ الحرُّ، وإذا حلَّتْ في الجنُوبيَّةِ صارَ البردُ؛ ولذلكَ كانَ منْ علامةِ دُنُوِّ البردِ خروجُ سُهَيْلٍ، وهوَ مِن النجومِ اليمانيَّةِ.
(4)
قولُهُ: (وَلَمْ يُرَخِّص ابنُ عُيَيْنَةَ) هوَ سفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ المعروفُ، وهذا يُوَافِقُ قولَ قتادةَ بالكرَاهَةِ.
قولُهُ: (ذَكَرَهُ حَرْبٌ) منْ أصحابِ أحمدَ، روى عنهُ مسائلَ كثيرةً.
قولُهُ: (إسحاقُ) هوَ إسحاقُ بنُ رَاهُويَه.
والصحيحُ: أنَّهُ لا بَأْسَ بتعلُّمِ منازلِ القمرِ؛ لأنَّهُ
لا شِرْكَ فيها، إلاَّ إنْ تَعلُّمَها لِيُضِيفَ إليها نُزُولَ المطرِ
وحصولَ البردِ، وأنَّها هيَ الْجَالِبَةُ لذلكَ، فهذا نوعٌ من الشِّركِ.
أمَّا مُجَرَّدُ معرفةِ الوقتِ بها، هلْ هوَ الربيعُ، أو الخريفُ، أو الشتاءُ؟
فهذا لا بأسَ بِهِ.
(5)
قولُهُ في حديثِ أبي موسى: ((الْجَنَّةَ)) هيَ: الدارُ التي أعدَّها اللهُ لأوليائِهِ المُتَّقِينَ، وسُمِّيتْ بذلكَ لكَثْرةِ أشْجَارِها؛ لأنَّها تَجُنُّ مَنْ فيها، أيْ: تستُرُهُ.
(6)
قولُهُ: ((مُدْمِنُ الْخَمْرِ)) هوَ: الذي يشْرَبُ الخمرَ كثيرًا، والخمرُ حَدَّهُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ بِقَوْلِهِ: ((كُلُّ مُسْكِرٍ خَمْرٌ)) ومعنى (أسْكَرَ) أيْ: غطَّى العقلَ، وليسَ كلُّ ما غطَّى العقلَ فهوَ خَمْرٌ، فَالْبَنْجُ مثلاً ليسَ بخَمْرٍ، وإذا شَرِبَ دُهْنًا فأُغْمِيَ عليهِ فليسَ ذلِكَ بخمرٍ، وإنَّما الخمرُ الذي يُغَطِّي العقلَ على وَجْهِ اللَّذَّةِ والطَّربِ، فَتَجِدُ الشاربَ يُحِسُّ أنَّهُ في منزلةٍ عظيمةٍ وسعادةٍ وما أشبهَ ذلكَ، قالَ الشَّاعِرُ:
وَنــَشــْرَبـُهـَا فـَتـَتــْرُكُنــَا وَأُسْدًا مَا يُنَهْنِهُنا اللقاءُ
وقالَ حمزةُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وكانَ قدْ سَكِرَ قَبْلَ تحريمِ الخمرِ: (وَهَلْ أنْتُمْ إلاَّ عبيدُ أَبِي) فالذي يُغَطِّي العقلَ على سبيلِ اللَّذَّةِ مُحَرَّمٌ بالكتابِ والسُّنَّةِ، ومَن استَحَلَّهُ فهوَ كافرٌ، إلاَّ إنْ كانَ ناشِئًا بباديةٍ بعيدةٍ، أوْ حديثَ عَهْدٍ بالإسلامِ ولا يعلمُ الحُكْمَ الشرعيَّ في ذلكَ، فإنَّهُ يُعَرَّفُ ولا يَكْفُرُ بمُجَرَّدِ إنكارِهِ تحرِيمَهُ.
(7)
قولُهُ: ((قَاطِعُ الرَّحِمِ)) الرَّحِمُ هم القرابةُ، قالَ تعالى: { وَأُولُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ } وليسَ كما يظُنُّهُ العامَّةُ أنَّهُم أقاربُ الزَّوْجَيْنِ؛ لأنَّ هذهِ تسميةٌ غيرُ شرعيَّةٍ، والشرعيَّةُ في أقاربِ الزوجِ أنْ يُسَمَّوْا أصهارًا.
ومعنى قاطعِ الرحمِ،
أيْ: لا يَصِلُهُ، والصِّلةُ جاءَتْ مُطْلَقَةً في الكتابِ والسُّنَّةِ، قالَ تعالى: { وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ } ومنهُ: الأرحامُ، وما جاءَ مُطْلَقًا غيرَ مُقَيَّدٍ فإنَّهُ يُتْبَعُ فيهِ العُرْفُ، كما قيلَ:
وكـــُلـــُّ مـــَا أَتـــَى ولــــــمْ يــَُدَّدِ بالشَّرْعِ كالحِرْزِ فَبِالْعُرْفِ احْدُدِ
فالصِّلَةُ في زَمَنِ الجوعِ والفقرِ أنْ يُعْطِيَهُمْ ويُلاحِظَهمْ بالْكِسْوَةِ والطعامِ دائمًا،
وفي زمنِ الغِنى لا يلزمُ ذلكَ.
وكذلكَ الأقاربُ ينقسمونَ إلى: قريبٍ وبعيدٍ،
فأقربُهم يجبُ لهُ مِن الصلةِ أكثرُ ممَّا يجبُ للأبعدِ.
ثم الأقاربُ ينقسمونَ إلى قسميْنِ منْ جهةٍ أخرى؛
قسمٌ من الأقاربِ يرى أنَّ لنَفْسِهِ حقًّا لا بُدَّ من القيامِ بهِ، ويُرِيدُ أنْ تَصِلَهُ دائمًا، وقسمٌ آخَرُ يُقَدِّرُ الظروفَ ويُنْزِلُ الأشياءَ منازِلَهَا، فهذا لهُ حُكْمٌ، وذلكَ لهُ حُكْمٌ.
والقطيعةُ: يُرْجَعُ فيها إلى العُرْفِ،
إلاَّ أنَّهُ يُسْتَثْنَى منْ ذلكَ مسألةٌ، وهيَ: ما لوْ كانَ العُرفُ
عدمَ الصلةِ مُطْلَقًا، بأنْ كُنَّا في أُمَّةٍ تشَتَّتَتْ وتقَطَّعَتْ
عُرَى صِلَتِهَا، كما يُعْرَفُ الآنَ في البلادِ الغَرْبِيَّةِ، فإنَّهُ لا
يُعْمَلُ حينَئِذٍ بالْعُرْفِ، ونقولُ لا بُدَّ منْ صلةٍ، فإذا كانَ هناكَ
صلةٌ في العُرْفِ اتَّبَعْنَاهَا، وإذا لمْ يكُنْ هناكَ صلةٌ فلا يُمْكِنُ
أنْ نُعَطِّلَ هذهِ الشريعةَ التي أمرَ اللهُ بها ورسولُهُ.
والصلةُ ليسَ معناها أنْ تَصِلَ مَنْ وَصَلَكَ؛ لأنَّ هذا مُكَافأةٌ
وليْسَتْ صلةً؛ لأنَّ الإنسانَ يَصِلُ أبعدَ الناسِ عنهُ إذا وصَلَهُ،
إنَّما الواصلُ كما قالَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَنْ إِذَا قُطِعَتْ رَحِمُهُ وَصَلَهَا)) هذا هوَ الذي يُرِيدُ وَجْهَ اللهِ والدارَ الآخرةَ.
وهلْ صِلَةُ الرَّحِمِ حقٌّ للهِ أوْ للآدَمِيِّ؟
الظاهرُ أنَّها حقٌّ للآدميِّ، وهيَ حقٌّ للهِ باعتبارِ أنَّ اللهَ أمرَ بها.
(8)
قولُهُ: ((وَمُصَدِّقٌ بِالسِّحْرِ)) هذا هوَ شاهدُ البابِ، ووَجْهُهُ أنَّ عِلْمَ التنجيمِ نوعٌ من السحرِ، فَمَنْ صدَّقَ بهِ فقدْ صدَّقَ بنوعٍ من السحرِ، فقدْ سَبَقَ أَنَّ ((مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ)) والمُصَدِّقُ بهِ هوَ المصدِّقُ بما يُخبِرُ بهِ المُنَجِّمُونَ، فإذا قَالَ المنجِّمُ: سيحْدُثُ كذا وكذا وصدَّقَ بهِ، فإنهُ لا يدخلُ الجَنَّةَ؛ لأنَّهُ صَدَّقَ بعلمِ الغيبِ لغيرِ اللهِ، قالَ تعالى: { قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ }.
فإنْ قيلَ: لماذا لا يُجْعَلُ السحرُ هنا عامًّا ليشملَ التنْجِيمَ وغيرَ التنجيمِ؟
أُجيبُ:
أنَّ المُصَدِّقَ بما يُخبِرُهُ بهِ السحرةُ مِنْ عِلمِ الغيبِ يشملُهُ الوعيدُ هنا،
وأمَّا المصدِّقُ بأنَّ للسحرِ تأثيرًا فلا يلْحَقُهُ هذا الوعيدُ؛ إذْ لا شكَّ أنَّ للسحرِ تأثيرًا، لكنَّ تأثيرَهُ تَخْيِيلٌ، مثلَ: ما وقعَ منْ سَحَرَةِ فرعونَ حيثُ سَحَرُوا أعْيُنَ الناسِ حتَّى رَأَوا الحبالَ والْعِصِيَّ كأنَّها حَيَّاتٌ تَسْعَى، وإنْ كانَ لا حقيقةَ لِذَلِكَ، وقدْ يسْحَرُ الساحرُ شخصًا فيجعلُهُ يُحِبُّ فلانًا ويُبْغِضُ فلانًا، فهوَ مُؤَثِّرٌ، قالَ تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ } فالتصديقُ بأثرِ السحرِ على هذا الوجهِ لا يَدْخُلُهُ الوعيدُ؛ لأنَّهُ تصديقٌ بأمرٍ واقعٍ.
أمَّا مَنْ صَدَّقَ بأنَّ السحرَ يُؤَثِّرُ في قلبِ الأعيانِ
بحيثُ يجعلُ الخشبَ ذهبًا أوْ نحوَ ذلكَ، فلا شكَّ في دُخُولِهِ في الوعيدِ؛ لأنَّ هذا لا يَقْدِرُ عليهِ إلاَّ اللهُ عزَّ وجلَّ.
وقولُهُ: ((ثَلاَثَةٌ لاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ)) هل المرادُ الحَصْرُ وأنَّ غيْرَهمْ يدْخُلُ الجنَّةَ؟
الجوابُ:
لا؛ لأنَّ هناكَ مَنْ لا يدْخُلُونَ الجنَّةَ سوى هؤلاءِ،
فهذا الحديثُ لا يَدُلُّ على الحصرِ.
(9)
فيهِ مَسائِلُ:
الأُولَى:
(الحكمةُ في خَلْقِ النُّجومِ).
وهيَ ثلاثٌ:
- أَنَّها زينةٌ للسماءِ.
- ورُجُومٌ للشياطينِ.
- وعلاماتٌ يُهْتَدَى بِها.
ورُبَّما يكونُ هناكَ حِكَمٌ أُخْرَى لا نعْلَمُها.
(10)
الثانيةُ: (الردُّ علَى مَنْ زَعَمَ غَيْرَ ذلِكَ)
لقولِ قتادةَ:(مَنْ تَأَوَّلَ فيها غيرَ ذلكَ أخْطَأَ وأضاعَ نصيبَهُ وتكلَّفَ ما لا عِلْمَ لهُ بهِ).
ومرادُ قتادةَ في قوْلِهِ: (غيرَ ذلِكَ)
ما زَعَمَهُ المُنَجِّمُونَ من الاستدلالِ بالأحوالِ الفلكيَّةِ على
الحوادثِ الأرضيَّةِ، وأمَّا ما يُمْكِنُ أنْ يكُونَ فيها مِنْ أمورٍ
حِسِّيَّةٍ سوى الثلاثِ السابقةِ فلا ضلالَ لمَنْ تَأَوَّلَهُ.
(11) الثالثةُ: (ذِكْرُ الخِلافِ في تَعَلُّمِ الْمَنازِلِ) سبقَ ذلكَ.
(12) الرابعةُ: (الوعيدُ فِيمَنْ صَدَّقَ بِشَيْءٍ مِن السِّحْرِ وَلَوْ عَرَفَ أَنَّهُ باطِلٌ) مَنْ صَدَّقَ بشيءٍ من التنجيمِ أوْ غيرِهِ بلسانِهِ ولو اعتقدَ بُطْلانَهُ بقَلْبِهِ، فإنَّ عليهِ هذا الوعيدَ، كيفَ يُصَدِّقُ وهوَ يعرفُ أنَّهُ باطلٌ؛ لأنَّهُ يُؤَدِّي إلى إغراءِ الناسِ بِهِ وبِتَعَلُّمِهِ وبِمُمَارَسَتِهِ.شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (باب ما جاء في التنجيم
يعني: في حكم التنجيم، وأنه منقسم إلى: - جائزٍ. - ومحرم. فالتنجيم هو: ادعاء معرفة المغيبات عن طريق النجوم. هذا التنجيم المذموم المحرم الذي هو من أنواع الكهانة والسحر، أو فيما هو موجود عند الناس، وعند الخلق التنجيم ثلاثة أنواع: الأول: التنجيم الذي هو اعتقاد أن النجوم فاعلة مؤثرة
بنفسها، وأن الحوادث الأرضية منفعلة ناتجة عن النجوم، وعن إرادات النجوم،
وهذا تأليه للنجوم، وهو الذي كان يصنعه الصابئة، ويجعلون لكلِ نجمٍ وكوكب
صورة وتمثالاً، وتحل فيها أرواح الشياطين؛ فتأمر أولئك بعبادة تلك الأصنام
والأوثان، وهذا بالإجماع كفر أكبر، وشرك كشرك قوم إبراهيم. والنوع الثاني من التنجيم: هو ما يسمى علم التأثير، وهو الاستدلال بحركة النجوم والتقائها وافتراقها، وطلوعها وغروبها؛ الاستدلال بذلك على ما سيحصل في الأرض. فيجعلون حركة النجوم دالة على ما سيقع مستقبلاً في الأرض، والذي يفعل هذه الأشياء ويحسِنها يُقال له المنجِّم، وهو من أنواع الكهان؛ لأن فيه أنه يخبر بالأمور المغيبة عن طريق الاستدلال بحركات الأفلاك، وتحرك النجوم. كما في فتح عمورية في قصيدة أبي تمام المشهورة:
وهذا النوع محرم وكبيرة من الكبائر، وهو نوع من الكهانة، وهي كفر بالله جل وعلا؛ لأن
النجوم ما خُلقت لذلك، وهؤلاء تأتيهم الشياطين فتوحي إليهم بما يريدون،
وبما سيحصل في المستقبل، ويجعلون حركة النجوم دليلاً على ذلك، وقد أُبطل
قول المنجمين في أشياء كثيرة من الواقع، ونحو ذلك.
السيف أصدق إنباءً من الكتب
وغيرها.
النوع الثالث
مما يدخل في اسم التنجيم: ما يُسمى بعلم التسيير.
علم التسيير:
وهو أنْ يعلم النجوم وحركات النجوم؛ لأجل أن يعلم القبلة والأوقات، وما يصلح من الأوقات للزرع وما لا يصلح، والاستدلال بذلك على وقت هبوب الرياح، وعلى الوقت الذي أجرى فيه سنتَّه أنه يحصل فيه من المطر كذا، ونحو ذلك.
فهذا يُسمى علم التسيير،
فهذا رخَّص فيه بعض العلماء، وسبب الترخيص فيه أنه يجعل النجوم، وحركتها، والتقاءها، وافتراقها وطلوعها أوغروبها، يجعل ذلك وقتاً وزمناً، لا يجعله سبباً، فيجعل هذه النجوم علامة على زمنٍ يصلح فيه كذا وكذا.
- والله -جل وعلا- جعل النجوم علامات؛ كما قال: {وعلاماتٍ وبالنجم هم يهتدون} فهي علامة على أشياء، يحصل طلوع النجم الفلاني، يحصل أنه بطلوع النجم الفلاني يدخل وقت الشتاء، ليس بسبب طلوعه، ولكن حين طلع استدللنا بطلوعه على دخول الوقت.
وإلا فهو ليس بسبب لحصول البرد،
وليس بسببٍ لحصول الحر، وليس بسببٍ للمطر، وليس بسببٍ لمناسبة غرس النخل، أو زرع المزروعات ونحو ذلك، ولكنه وقتٌ.
فإذا كان على ذلك فلا بأس به قولاً أو تعلماً؛
لأنه يجعل النجوم وظهورها وغروبها، يجعلها أزمنة؛ وذلك مأذون به.
قال: (قال البخاري في (صحيحه): قال قتادة: خلق الله هذه النجوم لثلاث: زينة للسماء) كما قال جل وعلا: {وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً}.- قال: {ورجوماً للشياطين} والآيات على ذلك كثيرة.
قال: (وعلامات يُهتدى بها) حيث قال جل وعلا: {أمن يهديكم في ظلمات البر والبحر}.- وقال جل وعلا: {وعلامات وبالنجم هم يهتدون} ونحو ذلك من الآيات، فهي علامات يُهتدى بها، يهتدى بها على أي شيء؟
أو يهتدى بها إلى أي شيء؟- يهتدى بها إلى الجهات:
- جهة القبلة.
- جهة الشمال.
- جهة الغرب.
- جهة الشرق.
يهتدى
بها أيضاً على الاتجاهات، حيث تُعرف أن البلد الفلانية باتجاه النجم
الفلاني، فإذا أراد السائر ليلاً في البر، أو في البحر، يتجه نحو اتجاه هذا
النجم؛ فيعلم أنه متجه إلى تلك البلدة، ونحو ذلك مما أجرى الله سنته به.
قال: (فمن تأول فيها غير ذلك أخطأ، وأضاع نصيبه، وتكلّف ما لا علم له به)
وهذا صحيح؛ لأن النجوم خلق من خلق الله، ولا نفهم سرها إلا بما أخبر الله
-جل وعلا- به، فما أُخبرنا به أخذناه، وما لم نخبر به فلا يجوز أن نتكلف
فيه ذلك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا ذُكر القدر فأمسكوا، وإذا ذكر أصحابي فأمسكوا، وإذا ذكرت النجوم فأمسكوا)).
والمراد هنا بذكر النجوم،
يعني: في غير ما جاء به الدليل.
- إذا ذكر القدر، في غير ما جاءت به الأدلة فأمسكوا.
- وإذا ذكر أصحابي بغير ما جاء به من فضلهم، وحسن صحابتهم، وسابقتهم، ونحو ذلك من الدليل؛ فأمسكوا.
- وكذلك إذا ذكرت النجوم وما فيها بغير ما جاء به الدليل، فأمسكوا؛ لأن ذلك ذريعة لأمور محرمة.
قال: (وكره قتادة تعلم منازل القمر، ولم يرخص ابن عيينة فيه، ذكره حرب عنهما، ورخص في تعلم المنازل أحمد وإسحاق)الله -جل وعلا- جعل القمر منازل كما قال: {والقمر قدرناه منازل حتى عاد كالعرجون القديم} له ثمانية وعشرون منـزلاً، ينـزل في كل يوم منـزلة منها، تعلم هذه المنازل هل هو جائز أم لا؟
منعه بعض السلف كراهةً، ورخص فيه طائفة من أهل العلم وهو الصحيح؛
لأنه -جل وعلا- امتنَّ على عباده بذلك، قال: {والقمر قدرناه منازل لتعلموا عدد السنين والحساب}.
وظاهر الآية أن حصول المنةِ بهِ في تعلمه، وذلك دليل الجواز.قال: (وعن أبي موسى قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة مدمن الخمر، وقاطع الرحم، ومصدقٌ بالسحر))ووجه الاستدلال من هذا الحديث قوله: (ومصدق بالسحر) وقد مرَّ معنا أن التنجيم نوع من أنواع السحر؛ كما قال -عليه الصلاة والسلام-: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبة من السحر زاد ما زاد)) وإذا صدَّق بالنجوم فإنه مصدق بالسحر، والمصدق بالسحر لا يدخل الجنة، قال هنا: ((ثلاثة لا يدخلون الجنة:
- ((مدمن الخمر)) وإدمان الخمر من الكبائر.
- قال: ((وقاطع الرحم)) وهي من الكبائر.
- و((مصدق بالسحر)) وهو أيضاً من الكبائر.
مما يدخل في التنجيم في هذا العصر بوضوح؛ مع غفلة الناس عنه، ما يكثر في المجلات مما يسمونه البروج.
يضعون صفحة أو أقل منها في الجرائد،
يجعلون عليها رسم بروج السنة: برج الأسد، والعقرب، والثور،... إلى آخره.
ويجعلون أمام كل برج ما سيحصل فيه،
فإذا كان المرء أو المرأة مولوداً في ذلك البرج، يقول: (سيحصل لك في هذا الشهر كذا وكذا وكذا)، وهذا هو التنجيم الذي هو التأثير، الاستدلال بالنجوم والبروج على التأثير في الأرض، وعلى ما سيحصل في الأرض، وهو نوع من الكهانة، ووجوده في المجلات، وفي الجرائد على ذلك النحو، وجودٌ للكهان فيها، فهذا يجب إنكاره إنكاراً للشركيات، ولادعاء معرفة الغيب، وللسحر، وللتنجيم؛ لأن التنجيم من السحر كما ذكرنا.
- يجب إنكاره على كل صعيد.
- ويجب أيضاً على كل مسلم أن لا يدخله بيته، وأن لا يقرأه، ولا يطلع عليه؛ لأنه إن رأى تلك البروج وما فيها - ولو أنْ يعرف ذلك معرفة - فإنه يدخل في النهي من جهة أنه أتى إلى الكاهن غيرَ منكرٍ له، فإذا أتى لهذه البروج وهو يعرف البرج الذي وُلِد فيه، ولكن يقول: (سأطلع ماذا قالوا عني، أو ماذا قالوا عما سيحصل لمن وَلَدَ في هذا البرج) فإنه يكون كمن أتى كاهناً فسأله، فإنه لا تُقبل له صلاة أربعين ليلة، وإذا أتى وقرأ وهو يعلم برجه الذي ولد فيه، أو يعلم البرج الذي يناسبه، وقرأ ما فيه؛ فهذا سؤال؛ فإذا صدَّقه به فقد كفر بما أنزل على محمد.
وهذا يدلك على غربة التوحيد بين أهله،
وغربة فهم حقيقة هذا الكتاب (كتاب التوحيد) حتى عند أهل الفطرة وأهل هذه الدعوة؛ فإنه يجب إنكار ذلك على كل صعيد، وألا يؤثم المرء نفسه، ولا من في بيته؛ بإدخال شيء من الجرائد التي فيها ذلك في البيوت؛ لأن هذا معناه إدخال للكهنة إلى البيوت، وهذا - والعياذ بالله - من الكبائر.
فواجبٌ إنكار ذلك وتمزيقه، والسعي فيه بكل سبيل حتى يُدْحَر أولئك؛ لأن أهل التنجيم، أهل البروج أولئك هم من الكهنة.والتنجيم له معاهد معمورة في لبنان وفي غيرها،
يتعلم فيها الناس حركة النجوم، وما سيحصل بحساباتٍ معروفة وجداول معينة، ويخبرون بأنه ما كان في البرج الفلاني، يعني من أهل البرج الفلاني؛ فإنه سيحصل كذا وكذا؛ عن طريق تعلم وهميّ يغرّهم به رءوسهم وكهانهم.
فالواجب على طلبة العلم أن يسعوا في تبصير الناس في ذلك بالكلمات، وبعد الصلوات، وفي خطب الجمع؛ لأن هذا مما كثر البلاء به، والإنكار فيه قليل، والتنبيه عليه ضعيف، والله المستعان.
العناصر
شرح ترجمة الباب (ما جاء في التنجيم)
- بيان معنى التنجيم
- أقسام التنجيم وأحكامها شرح أثر قتادة رحمه الله تعالى: (خلق الله هذه النجوم الثلاث...)
- هل النجوم مرصعة في السماء؟ حكم تعلم منازل القمر
- المراد بتعلم منازل القمر شرح حديث أبي موسى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (ثلاثة لا يدخلون الجنة...) تخريج حديث ( ثلاثة لا يدخلون الجنة ...)، وبيان درجته
- بيان معنى الوعيد في قوله: (لا يدخلون الجنة)، ونظائره من أحاديث الوعيد من صور التنجيم ما يذكر في بعض الصحف والمجلات مما يسمى بالبروج والطوالع
- القسم الأول: اعتقاد أنها مؤثرة بنفسها
- القسم الثاني: علم التأثير وهو الاستدلال بالأحوال الفلكية على الحوادث الأرضية
- القسم الثالث: علم التسيير ومنه معرفة المنازل والمواسم
- ذكر بعض الأدلة التي استدل بها المنجمون على صحة علم التنجيم، والرد عليها
- ذكر الخلاف في حكم تعلم منازل الشمس والقمر لمعرفة الجهات والقبلة
- ترجمة حرب الكرماني
- ترجمة إسحاق بن راهويه
- معنى قوله: (مدمن الخمر)
- معنى قوله: (وقاطع الرحم)، وبيان حد الصلة المأمور بها، وهل هي حق لله أو للآدمي
- بيان المراد بقوله: (ومصدق بالسحر)، وما يدخل فيه
شرح مسائل باب (ما جاء في التنجيم)