26 Oct 2008
باب ما جاء في التطير
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ فِي التَّطَيُّرِ
وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[النَّمْلُ:47].
وَقَوْلِهِ: {قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ أَإِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ}[يَس:19].
وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ)) أَخْرَجَاهُ.
زَادَ مُسْلِمٌ: ((وَلاَ نَوْءَ وَلاَ غُولَ)).
وَلَهُمَا عَنْ أَنَسٍ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ)) قَالُوا: وَمَا الْفَأْلُ؟
قَالَ: ((الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ)).
وَلأَِبِي دَاوُدَ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ قَالَ: ذُكِرَتِ الطِّيَرَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ((أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ وَلاَ تَرُدَّ مُسْلِمًا، فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ فَلْيَقُلْ: اللهُمَّ لاَ يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئَاتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ)).
وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ((الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنَّا إِلاَّ وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ))رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَجَعَلَ آخِرَهُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ.
وَلأَِحْمَدَ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَمْرٍو: ((مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ)) قَالُوا: فَمَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ؟ قَالَ: ((أَنْ تَقُولَ: اللهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ)).
وَلَهُ مِنْ حَدِيثِ الْفَضْلِ بْنِ الْعَبَّاسِ رَضِي اللهُ عَنْهُ: ((إِنَّمَا الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ)).
فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى: التَّنْبِيهُ عَلَى قَوْلِهِ: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهِ}
مَعَ قَوْلِهِ: {طَائِرُكُم مَّعَكُمْ}.
الثَّانِيَةُ:
نَفْيُ الْعَدْوَى.
الثَّالِثَةُ:
نَفْيُ الطِّيَرَةِ.
الرَّابِعَةُ:
نَفْيُ الْهَامَةِ.
الْخَامِسَةُ:
نَفْيُ الْصَفَرِ.
السَّادِسَةُ:
أَنَّ الْفَأْلَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ.
السَّابِعَةُ:
تَفْسِيرُ الْفَأْلِ.
الثَّامِنَةُ:
أَنَّ الْوَاقِعَ فِي الْقُلُوبِ مِنْ ذَلِكَ مَعَ كَرَاهَتِهِ لاَ يَضُرُّ، بَلْ يُذْهِبُهُ اللهُ بِالتَّوَكُّلِ.
التَّاسِعَةُ:
ذِكْرُ مَا يَقُولُ مَنْ وَجَدَهُ.
الْعَاشِرَةُ:
التَّصْرِيحُ بِأَنَّ الطِّيَرَةَ شِرْكٌ.
الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:
تَفْسِيرُ الطِّيَرَةِ الْمَذْمُومَةِ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)
مَصْدَرُ تَطَيَّرَ يَتَطَيَّرُ،
والطِّيَرَةُ أيضًا - بكسرِ الطاءِ وفتحِ الياءِ وقد تُسَكَّنُ - مَصْدَرُ
تَطَيَّرَ، يُقَالُ: تَطَيَّرَ طِيَرَةً وتَخَيَّرَ خِيَرَةً، ولم يَجِئْ
مِن المصادِرِ هكذا غَيْرُهُمَا، وأصْلُهُ فيما يُقَالُ: التَّطَيُّرُ
بالسَّوانِحِ والبَوَارِحِ مِن الطَّيْرِ والظِبَاءِ وغيرِهِما، وكانَ ذلك
يَصُدُّهُم عن مَقَاصِدِهِم.
فإذا أرادُوا أمْرًا،
فإن رَأَوُا الطَّيْرَ مثلاً طَارَ يَمْنَةً تَيمَّنُوا بِهِ، وإن طَارَ
يَسْرَةً تَشَاءَمُوا بِهِ، فنَفَاهُ الشَّرْعُ وأبْطَلَهُ ونَهَى عنهُ،
وأخْبَرَ أنه ليسَ له تأثيرٌ في جَلْبِ نَفْعٍ أو دَفْعِ ضُرٍّ.
قال المَدَائِنِيُّ: (سألتُ رُؤْبَةَ بنَ العَجَّاجِ ما السَّانِحُ؟
قال: ما وَلاَّكَ مَيَامِنَهُ.
قُلْتُ: فمَا البَارِحُ؟
قال: ما وَلاَّكَ مَيَاسِرَهُ، قالَ: والذي يَجِيءُ مِن أمامِك فهو
النَّاطِحُ والنَّطِيحُ، والذي يَجِيءُ من خَلْفِك هو القَاعِدُ
والقَعِيدُ.
ولما كانتِ الطِّيَرَةُ بَابًا مِن الشِّرْكِ مُنَافِيًا للتوحيدِ أو
لكمالِهِ؛ لأنها مِن إلقاءِ الشيطانِ وتَخْويفِهِ ووَسْوَسَتِهِ) ذَكَرَه المُصَنِّفُ في (كتابِ التوحيدِ) تَحْذِيرًا منها وإِرْشَادًا إلى كَمَالِ التوحيدِ بالتَّوَكُّلِ على اللهِ.
واعْلَمْ أنَّ مَنْ كانَ مُعْتَنِيًا بِهَا قابِلاً بها كانتْ إليهِ أسْرَعَ مِنَ السَّيْلِ إلى مُنْحَدَرِهِ،
وتَفَتَّحَتْ لهُ أبوابُ الوَسَاوِسِ فيمَا يَسْمَعُهُ ويَرَاهُ
ويُعْطَاهُ، ويَفْتَحُ له الشيطانُ فيها من المُناسباتِ البَعِيدَةِ
والقريبةِ في اللَّفْظِ والمعنَى ما يُفْسِدُ عليه دينَه، ويُنَكِّدُ عليهِ
عَيْشَهُ، فالواجِبُ على العَبْدِ التوكُّلُ على اللهِ ومُتَابَعَةُ رسولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأنْ يَمْضِيَ لشأْنِهِ، لا
يَرُدُّهُ شيءٌ من الطِّيَرَةِ عن حاجَتِهِ فيَدْخُلَ في الشِّرْكِ.
(2)
أولُ الآيةِ قولُهُ تعالى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَـذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} الآيةَ، المعنَى: أنَّ آلَ فِرْعَوْنَ إذا أصَابَتْهُم الحَسَنَةُ، أي: الخِصْبُ والسَّعَةُ والعافِيَةُ على ما فَسَّرَهُ مُجَاهِدٌ وغيرُهُ قالوا: (لنا هذهِ) أي: نحنُ الجديرونَ الحَقِيقُونَ بهِ، ونحنُ أهلُهُ، وإن تُصِبْهُم سَيِّئَةٌ أي: بَلاءٌ وضِيقٌ وقَحْطٌ {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ} فيقولونَ: هذا بسَبَبِ مُوسَى وأصحابِهِ أصابَنَا بشُؤْمِهِم كما يقولُهُ المُتَطَيِّرُ لمَن يَتَطَيَّرُ بِهِ. وقيلَ: المَعْنَى أنَّ الشُّؤْمَ العظيمَ هو الذي عندَ اللهِ مِن عذابِ النارِ، لا هذا الذي أصَابَهم في الدنيا. والطِّيَرَةُ إنما تكونُ بالشَّرِّ لا بالخيرِ، وقولُهُ: {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أي: أنَّ أكثَرَهُم جُهَّالٌ لا يَدْرونَ، ولو فَهِمُوا أو عَقَلُوا لعَلِمُوا أنه ليسَ فيما جاءَ به موسَى عليه السلامُ شيءٌ يَقْتَضِي الطِّيَرَةَ. (3) المعنى واللهُ أعلمُ، أي: حَظُّكُم ومَا نالَكُم مِنْ خَيْرٍ وشرٍّ معَكُم بسببِ أفعالِكم وكُفْرِكُم
ومُخَالَفَتِكُم الناصحينَ، ليسَ هوَ مِن أجْلِنا ولا بسبَبِنَا، بل
ببَغْيِكُم وعَدَاوَتِكُم، فطَائِرُ الباغِي الظالِمِ معَهُ وهوَ عندَ
اللهِ كما قالَ تعالى: {وَإِن
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ اللهِ فَمَا لِهَـؤُلاءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
حَدِيثًا}[النساء:77]
ولو فَقِهُوا أو فَهِمُوا لمَا تَطَيَّرُوا بما جِئْتَ بِهِ؛ لأنَّه ليسَ
فيما جاءَ بهِ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما يَقْتَضِي
الطِّيَرَةَ، كأنهُ خيرٌ مَحْضٌ لا شرَّ فيه، وصلاحٌ لا فَسَادَ فيه،
وحِكْمَةٌ لا عَيْبَ فيها، ورَحْمَةٌ لا جَوْرَ فيها. وقولُهُ: {أَإِن ذُكِّرْتُمْ}
أيْ: مِن أجْلِ أنَّا ذَكَّرْنَاكُم وأمَرْنَاكُم بتوحيدِ اللهِ، وإخلاصِ
العِبَادَةِ لَهُ قَابَلْتُمُونَا بهذَا الكلامِ، وتَوَعَّدْتُمونا، بل
أنتُم قومٌ مُسْرِفونَ. ومُطَابَقَةُ
الآيتينِ لمقصودِ البابِ ظاهِرٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالى لم يَذْكُرِ
التَّطَيُّرَ إلاَّ عن أعدائِهِ، فهو مِن أَمْرِ الجاهِلِيَّةِ، لا مِن
أمرِ الإسلامِ. (4) قولُه: ((لاَ عَدْوَى)) قال أبو السَّعَادَاتِ: (العَدْوَى
اسمٌ من الإعداءِ كالدَّعْوَى والبَقْوَى مِن الادِّعَاءِ والإِبْقَاءِ،
يُقَالُ: أعداهُ الدَّاءُ يُعْدِيه إِعْدَاءً، وهو أنْ يُصِيبَه مثلُ ما
بصاحِبِ الداءِ. وفي رِوَايَةٍ في (مُسْلِمٍ) أنَّ أبا هُرَيْرَةَ كانَ يُحَدِّثُ بحديثِ: ((لاَ عَدْوَى)) ويُحَدِّثُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قالَ: ((لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)) ثم إنَّ أبا هُرَيْرَةَ اقْتَصَرَ على حديثِ: ((لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ))وأمْسَكَ عن حديثِ: ((لاَ عَدْوَى)) فراجَعُوهُ فيه، فقالُوا: سَمِعْنَاكَ تُحَدِّثُهُ، فأبَى أن يَعْتَرِفَ بِهِ، قالَ أبو سَلَمَةَ الرَّاوِي عن أبي هريرةَ: فلا أدْرِي أَنَسِيَ أبو هريرةَ أو نَسَخَ أحدُ القوليْنِ الآخرَ. وقد اخْتَلَفَ العلماءُ في ذلكَ اختلافًا كثيرًا، فرَدَّتْ طائِفَةٌ حديثَ: ((لا عَدْوَى)) بأنَّ أبا هُريرةَ رَجَعَ عنهُ. -
فأخْبَرَ سبحانَهُ أنَّ طائِرَهم عندَهُ فقالَ: {أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللهِ}.
قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: (طائِرُهُم ما قُضِيَ عليهِم وقُدِّرَ لَهم).
وفي رِوَايَةٍ ذَكَرَها ابنُ جَرِيرٍ عنه قالَ: (الأَمْرُ مِن قِبَلِ اللهِ) وفي رِوَايَةٍ: (شُؤْمُهم عندَ اللهِ ومِن قِبَلِهِ) أي: إِنَّما جاءَهُم الشُّؤْمُ من قِبَلِهِ بكُفْرِهِم وتكذيبِهِم بآياتِهِ ورُسُلِهِ.
والظاهِرُ أنَّ هذه الآيَةَ كقولِهِ تعالى: {وَإِن
تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِ اللهِ وَإِن
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هَـذِهِ مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ
عِندِ اللهِ}[النساء:77] أي: أنَّ الكلَّ مِنَ اللهِ، لكنْ هذا الشُّؤْمُ الذي أجْرَاهُ عليهم مِن عندِهِ هو بِسَبَبِ أعمالِهِم، لا بسببِ مُوسَى عليه السلامُ ومَنْ معَهُ، وكيفَ يكونُ ذلك وما جاءَ بِهِ خَيْرٌ مَحْضٌ.
وقالَ ابنُ جريرٍ: (يقولُ
تعالى ذِكْرُهُ: ألا إِنَّمَا طائِرُ آلِ فِرْعَوْنَ وغيرِهِم - وذلكَ
أَنْصِباؤُهُم مِن الرَّخَاءِ والخِصْبِ وغيرِ ذلك من أنْصِبَاءِ الخيرِ
والشرِّ - إلا عندَ اللهِ، ولكنَّ أكثرَهُم لا يَعْلَمونَ أنَّ ذلكَ كذلكَ،
فَلِجَهْلِهِم بذلكَ كانُوا يَتَطَيَّرُونَ بموسَى ومَنْ مَعَهُ).
فلو كانَ هؤلاءِ القومُ من أهلِ الفَهْمِ والعقولِ السليمةِ لم
يَتَطَيَّرُوا مِنْ هذا؛ لأنَّ الطِّيَرَةَ إنما تكونُ بالشرِّ لا بالخيرِ
المَحْضِ والحِكْمَةِ والرحمةِ، بل طائِرُهُم معَهم بسببِ كُفْرِهِم
وشِرْكِهِم وبَغْيِهِم وهو عندَ اللهِ كسائِرِ حُظُوظِهِم وأنْصِبَائِهمُ
التي يَنَالُونها منهُ بأعمالِهِم.
ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ المعنَى {طَائِرُكُم مَّعَكُم} أي: راجِعٌ عليكُم، فالتَّطَيُّرُ الذي حَصَلَ لكُم إنما يَعُودُ عليكُم، وهذا من بابِ القِصَاصِ في الكلامِ، ونظيرُه قولُهُ عليهِ السلامُ: ((إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ)) ذكَرَهُ ابنُ القَيِّمِ.
وقالَ قَتَادَةُ:( أَإنْ ذَكَّرْنَاكُم باللهِ تَطَيَّرْتُمْ بِنا؟)
وذلك أنْ يكونَ بِبَعِيرٍ جَرَبٌ مثلاً يَتَّقِي مُخَالَطَتَه بإِبِلٍ
أُخْرَى؛ حِذَارَ أن يَتَعَدَّى ما بِهِ من الجَرَبِ إليها، فيُصِيبَها ما
أَصَابَهُ) انْتَهَى.
وفي بعضِ رِوَايَاتِ هذا الحديثِ: فقَالَ أَعْرَابِيٌّ:(
يَا رَسُولَ اللهِ، فَمَا بَالُ الإِبِلِ تَكُونُ فِي الرَّمْلِ
كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ فَيَجِيءُ البعِيرُ الأَجْرَبُ، فَيَدْخُلُ فِيهَا
فيُجْرِبُها كُلَّها؟
قَالَ: ((فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ)).
وقد رَوَى حديثَ: ((لاَ عَدْوَى)) جماعةٌ مِنَ الصحابةِ؛ مِنهم أنَسُ بنُ مالكٍ، وجَابِرُ بنُ عبدِ اللهِ، والسَّائِبُ بنُ يَزِيدَ، وابنُ عُمَرَ وغيرُهم، فنِسْيَانُ أبي هريرةَ لَهُ لا يَضُرُّ.
وفي بعضِ رواياتِ هذا الحديثِ: ((وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ)).
قالُوا: والأَخْبَارُ الدَّالَّةُ على الاجْتِنَابِ أكثرُ فالمصيرُ إليها أَوْلَى، وهذا ليسَ بشيءٍ؛ لأنَّ حديثَ: ((لا عَدْوَى)) قد رَوَاهُ جماعةٌ كما تَقَدَّمَ.
وعَكَسَتْ طائِفَةٌ هذا القَوْلَ، ورَجَّحُوا حديثَ: ((لاَ عَدْوَى))وزَيَّفُوا ما سِوَاهُ من الأَخْبَارِ، وأَعَلُّوا بعْضَها بالشُّذُوذِ كحديثِ: ((فِرَّ مِن المَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ)) وبأنَّ عائِشَةَ أَنْكَرَتْهُ، كما رَوَى ابنُ جريرٍ عنها: (أنَّ امْرَأَةً سأَلَتْهَا عنهُ فقالتْ: ما قَالَ ذلكَ، ولكنَّهُ قالَ: ((لاَ عَدْوَى)) وقالَ: ((فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ)) قالَتْ: وكانَ لي مَوْلًى بِهِ هذا الداءُ، فكانَ يأْكُلُ في صِحَافي، ويَشْرَبُ في أقْدَاحِي، ويَنَامُ على فِرَاشِي).
وهذا أيضًا ليسَ بشيءٍ؛ فإنَّ الأحاديثَ في الاجْتِنَابِ ثابِتَةٌ.
وحَمَلَتْ طائِفَةٌ أُخْرَى الإثباتَ والنفيَ على حالتيْنِ مُخْتَلِفَتَيْنِ:
- وقالَ مَالِكٌ لما سُئِلَ عن حديثِ: ((فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ)) ما سَمِعْتُ فيه بكراهِيَةٍ وما أَرَى ما جاءَ مِن ذلكَ إلا مَخَافَةَ أن يَقَعَ في نَفْسِ المُؤْمِنِ شيءٌ. وقالَ: ((لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)). قالَهَا
ثلاثًا، فقالَ الأَعْرَابِيُّ: يا رسولَ اللهِ، النُّقْبَةُ مِن الجَرَبِ
تكونُ بِمِشْفَرِ البَعِيرِ أو بِذَنَبِهِ في الإِبِلِ العَظِيمَةِ
فتَجْرَبُ كلُّهَا. فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَمَنْ أَجْرَبَ الأَوَّلَ؟ قولُه: ((وَلاَ طِيَرَةَ)) قالَ ابنُ القَيِّمِ: (هذا يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ نَفْيًا أو يكونَ نَهْيًا، أي: لا تَتَطَيَّرُوا، ولكنْ قولُهُ في الحديثِ: ((وَلاَ عَدْوَى وَلاَ صَفَرَ وَلا هَامَةَ))
يَدُلُّ على أنَّ المرادَ النَّفْيُ وإبطالُ هذه الأمورِ التي كانتِ
الجاهِلِيَّةُ تُعَانِيهَا، والنفيُ في هذا أبْلَغُ من النَّهْيِ؛ لأنَّ
النفيَ يَدُلُّ على بُطْلانِ ذلكَ وعَدَمِ تأثيرِهِ، والنهيُ إنَّما
يَدُلُّ على المَنْعِ مِنْهُ. فمَن اسْتَمْسَكَ بعُرْوَةِ التوحيدِ الوُثْقَى واعْتَصَمَ بِحَبْلِهِ المتينِ، وتَوَكَّلَ على اللهِ، قَطَعَ هاجِسَ الطِّيَرَةِ من قبْلِ اسْتِقْرَارِها، وبَادَرَ خَوَاطِرَهَا مِن قبْلِ اسْتِمْكَانِها. وأمَّا من اتَّقَى أسبابَ الضَّرَرِ بعدَ انْعِقَادِهَا بالأسبابِ المَنْهِيِّ عنها،
فإنَّهُ لا يَنْفَعُهُ ذلك غالِبًا كمَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عن
حاجَتِهِ؛ خَشْيَةَ أن يُصِيبَهُ ما تَطَيَّرَ بِهِ، فإنهُ كثيرًا ما
يُصَابُ بما يَخْشَى بِهِ. منها: قولُهُ عليهِ السلامُ: ((الشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ؛ فِي المَرْأَةِ وَالدَّابَّةِ وَالدَّارِ)). وقالتْ طائِفَةٌ: لم يَجْزِمِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشُّؤْمِ في هذه الثلاثَةِ،
بل عَلَّقَهُ على الشرطِ كما ثَبَتَ ذلك في الصحيحِ، ولا يَلْزَمُ مِن
صِدْقِ الشرطيَّةِ صِدْقُ كلِّ واحِدٍ بمُفْرَدِها، قالُوا: والراوي
غَلِطَ. وجوابُهُ: أنَّ أكْثَرَ ما يَقَعُ التَّطَيُّرُ في هذهِ الثلاثةِ فَخُصَّت بالذِّكْرِ لذلك، ذكَرَهُ في (شَرْحِ السُّنَنِ). ومِنها: ما رَوَى مالكٌ عن يَحْيَى بنِ سعيدٍ، قالَ: (جَاءتِ
امْرَأَةٌ إِلى رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ:
يَا رَسُولَ اللهِ، دَارٌ سَكَنَّاهَا وَالعَدَدُ كَثِيرٌ وَالمَالُ
وَافِرٌ، فَقَلَّ العدَدُ وَذَهَبَ المَالُ. وجوابُهُ: أنَّ هذا ليسَ من الطِّيَرَةِ المَنْهِيِّ عنها،
بل أمَرَهُم بالانْتِقَالِ؛ لأنَّهُمُ اسْتَثْقَلُوها واسْتَوْحَشُوا
مِنها؛ لِمَا لَحِقَهم فيها ليَتَعَجَّلُوا الراحَةَ مِمَّا دَخَلَهم مِن
الجَزَعِ؛ لأنَّ اللهَ قد جَعَلَ في غرائِزِ الناسِ اسْتِثْقَالَ ما
نَالَهمُ الشرُّ فيه، وإنْ كانَ لا سَبَبَ له في ذلكَ، وحُبَّ مَن جَرَى
على يَدَيْهِ الخيرُ لَهم، وإنْ لم يُرِدْهُم بِهِ، ولأن مُقَامَهُم فيها
قد يَقُودُهم إلى الطِّيَرَةِ، فَيُوقِعُهم ذلك في الشِّرْكِ والشرِّ الذي
يَلْحَقُ المُتَطَيِّرَ بسَبَبِ طِيَرَتِه. وهذا بِمَنْزِلَةِ الخارِجِ مِن بَلَدِ الطاعونِ غيرَ فارٍّ مِنْه،
ولو مُنِعَ الناسُ الرِّحْلَةَ مِن الدارِ التي تَتَوَالَى عليهم فيهَا
المصائِبُ والمِحَنُ وتَعَذُّرُ الأرْزَاقِ معَ سلامَةِ التوحيدِ في
الرِّحْلَةِ- لَلَزِمَ كلَّ مَن ضاقَ عليه رِزْقٌ في بَلَدٍ أو قِلَّةُ
فائِدَةِ صِنَاعَتِهِ أو تِجَارَتِهِ فيها أن لا يَنْتَقِلَ عنها إلى
غيرِها. أجابَ بعضُهم أنَّ الأمورَ بالنسبَةِ إلى هذا المعنَى ثلاثةُ أقسامٍ: أحدُها: ما لا يَقَعُ التَّطَيُّرُ مِنه إلا نادِرًا،
أو لا مُكَرَّرًا، فهذا لا يُصْغَى إليْهِ كَنَعِيقِ الغُرابِ في
السَّفَرِ، وصُرَاخِ بُومَةٍ في دارٍ، وهذا كانَتِ العربُ تَعْتَبِرُهُ. ومنهَا: حديثُ اللُّقْحَةِ لمَّا مَنَعَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَرْبًا وَمُرَّةَ من حلبِها، وأَذِنَ ليَعِيشَ. رَوَاه مالِكٌ. وجوابُهُ: أنَّ ابنَ عبدِ البَرِّ قالَ: (ليس
هذا عِندِي من بابِ الطِّيَرَةِ؛ لأنهُ مُحَالٌ أنْ يَنْهَى عن شيءٍ
ويَفْعَلَهُ، وإنَّما هو مِن طَلَبِ الفَأْلِ الحَسَنِ، وقد كانَ
أخْبَرَهُم عن أقْبَحِ الأسماءِ أنَّه حَرْبٌ ومُرَّةُ، فالمرادُ بذلكَ حتى
لا يَتَسَمَّى بِهِمَا أحَدٌ). قالَ ابنُ الأعْرَابِيِّ: (كانُوا يَتَشَاءَمُون بِهَا إذا وَقَعَت على بيتِ أحدِهم، يقولُ: نَعَتْ إليَّ نَفْسِي أو أحدًا من أهلِ دارِي). يَا عَمْرُو إن لا تَدَعْ شَتْمِي ومَنْقَصَتِي أَضـْرِبـْكَ حَتَّى تَقُولَ الهَامَةُ اسْقُونِي قالَ: وكانَتِ اليهودُ تَزْعُمُ أنَّها تَدُورُحولَ قَبْرِهِ سَبْعَةَ أيامٍ ثم تَذْهَبُ. وقالَ آخرونَ: (المرادُ
بِهِ شَهْرُ صَفَرٍ، والنفيُ؛ لِمَا كانَ أهلُ الجاهِلِيَّةِ يَفْعَلُونَه
في النَّسِيءِ، وكانُوا يُحِلُّونَ المُحَرَّمَ، ويُحَرِّمُونَ صَفَرًا
مَكَانَهُ) وهذا قوْلُ مالِكٍ، وفيه نَظَرٌ. قال أبو السَّعَادَاتِ: (الغُولُ
واحِدُ الغِيلانِ، وهو جِنْسٌ مِن الجِنِّ والشَّيَاطِينِ كانَتِ العَرَبُ
تَزْعُمُ أنَّ الغُولَ في الفَلاةِ تَتَرَاءَى للنَّاسِ فَتَتَغَوَّلُ
تَغَوُّلاً، أي: تَتَلَوَّنُ تَلَوُّنًا في صُوَرٍ شَتَّى وتَغُولُهُم، أي:
تُضِلُّهم عنِ الطريقِ وتُهْلِكُهم، فنَفَاهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأبْطَلَهُ). وقيلَ: قولُهُ: ((لا غُولَ)) ليسَ نَفْيًا لعينِ الغُولِ ووجودِهِ، وإنَّما فيهِ إبطالُ زَعْمِ العَرَبِ في تَلَوُّنِهِ بالصُّوَرِ المُخْتَلِفَةِ واغتيالِهِ.
ومعنَى هذا أنهُ نَفَى العَدْوَى أصلاً، وحَمَلَ الأَمْرَ بالمُجَانَبَةِ
على حَسْمِ المادَّةِ وسَدِّ الذَّرِيعَةِ؛ لئلاَّ يَحْدُثَ للمُخَاطَبِ
شيءٌ مِن ذلكَ فيَظُنَّ أنَّه بسَبَبِ المُخَالَطَةِ، فيُثْبِتُ العَدْوَى
التي نَفَاهَا الشارِعُ.
وإلى هذا ذَهَبَ أبو عُبَيْدٍ وابنُ جَرِيرٍ والطَّحَاوِيُّ وذَكَرَهُ القَاضِي أَبو يَعْلَى عن أحمدَ.
قُلْتُ: وأَحْسَنُ مِن هذا كُلِّهِ ما قَالَهُ البَيْهَقِيُّ، وتَبِعَهُ ابنُ الصَّلاَحِ وابنُ القَيِّمِ وابنُ رَجَبٍ وابنُ مُفْلِحٍ وغيرُهُم أنَّ قوْلَه: ((لاَ عَدْوَى))على الوَجْهِ الذي كانُوا يَعْتَقِدُونَه في الجاهِلِيَّةِ من إِضَافَةِ الفِعْلِ إلى غَيْرِ اللهِ تَعَالَى وَأَنَّ هَذهِ الأَمْرَاضَ تُعْدِي بطَبْعِها، وإلاَّ فقد يَجْعَلُ اللهُ بمَشِيئَتِهِ مُخَالَطَةَ الصحيحِ مَن بِهِ شيءٌ مِن هذهِ العُيُوبِ سَبَبًا لحدوثِ ذلك؛ ولهذا قالَ: ((فِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ)).
وقالَ في الطَّاعُونِ: ((مَنْ سَمِعَ بِهِ بِأَرْضٍ فَلا يَقْدَمْ عَلَيْهِ))وكلُّ ذلكَ بتقديرِ اللهِ تعالى كمَا قالَ: ((فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ)) يُشِيرُ إلى أنَّ الأوَّلَ إنَّما جَرِبَ بقَضَاءِ اللهِ وقَدَرِهِ، فكذلكَ الثانِي وما بعدَه.
ورَوَى الإمامُ أحمدُ، والتِّرْمِذِيُّ، عن ابنِ مَسْعُودٍ، مَرْفُوعًا: ((لاَ يُعْدِي شَيْءٌ)).
لاَ عَدْوَى وَلا هَامَةَ وَلا صَفَرَ، خَلَقَ اللهُ كُلَّ نَفْسٍ وَكَتَبَ حَياتَها وَمُصَابَها وَرِزْقَها)) فأخْبَرَ عليه السلامُ أن ذلك كُلَّه بقضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ كما دَلَّ عليه قولُه تعالَى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا}[الحديد:22].
وأمَّا أَمْرُهُ بالفرارِ من المَجْذُومِ، ونَهْيُهُ عن إيرادِ المُمْرِضِ على المُصِحِّ، وعن الدخولِ إلى مَوْضِعِ الطاعونِ،
فإنهُ مِنْ بابِ اجتنابِ الأسبابِ التي خَلَقَها اللهُ تعالى، وجَعَلَهَا
أسبابًا للهلاكِ والأذَى، والعبدُ مأمورٌ باتِّقاءِ أسبابِ الشرِّ إذا كانَ
في عافِيَةٍ، فكما أنه يُؤْمَرُ أن لا يُلْقِيَ نفْسَه في الماءِ أو في
النارِ أو تحتَ الهَدْمِ أو نحوِ ذلكَ كما جَرَتِ العادةُ بأنه يُهْلِكُ
ويُؤْذِي، فكذلك اجتنابُ مُقَارَبَةِ المريضِ كالمَجْذُومِ، وقُدُومِ
بَلَدِ الطاعونِ، فإنَّ هذه كُلَّها أسبابٌ للمَرَضِ والتَّلَفِ، واللهُ
تعالى هو خالِقُ الأسبابِ ومُسَبَّبَاتِهَا، لا خالِقَ غيْرُهُ ولا
مُقَدِّرَ غيْرُهُ.
وأمَّا إذا قَوِيَ التوكُّلُ على اللهِ، والإيمانُ بقضائِهِ وقَدَرِهِ
فقوِيَتِ النفسُ على مُبَاشَرَةِ بعضِ هذه الأسبابِ اعْتِمَادًا على اللهِ
ورجاءً مِنه أن لا يَحْصُلَ بِهِ ضَرَرٌ ففي هذهِ الحالِ تَجُوزُ
مُبَاشَرَةُ ذلك لا سيَّما إذا كانتْ فيه مَصْلَحَةٌ عامَّةٌ أو خاصَّةٌ،
وعلى هذا يُحْمَلُ الحديثُ الذي رَوَاهُ أبو داودَ والتِّرْمِذِيُّ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخَذَ بيدِ مَجْذُومٍ فأدْخَلَهَا معَهُ في القَصْعَةِ ثم قالَ: ((كُلْ ثِقَةً بِاللهِ وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ)).
وقد أخَذَ به الإمامُ أحمدُ، ورُوِيَ ذلك عن عُمَرَ وابْنِهِ وسَلْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم.
ونظيرُ ذلكَ ما رُوِيَ عن خالدِ بنِ الوليدِ مِن أكْلِ السُّمِّ ومِنْ مَشْيِ سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ وأبي مُسْلِمٍ الخَوْلاَنِيِّ بالجُيُوشِ على مَتْنِ البحرِ، قالَه ابنُ رَجَبٍ.
وفي (صحيحِ مسلمٍ) عنمُعَاوِيَةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّأنهُ قالَ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ومِنَّا أُناسٌ يَتَطَيَّرُون)).
فقالَ: ((ذَاكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ فَلاَ يَصُدَّنَّكُمْ))
فأخْبَرَ أنَّ تَأَذِّيَهُ وتَشَاؤُمَهُ بالتَّطَيُّرِ إنما هو في
نَفْسِهِ وعَقِيدَتِهِ، لا في المُتَطَيَّرِ بِهِ، فوَهْمُهُ وخَوْفُهُ
وإِشْرَاكُهُ هو الذي يُطَيِّرُهُ ويَصُدُّهُ، لا ما رَآه وسَمِعَهُ.
فأَوْضَحَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُمَّتِهِ الأمْرَ وبَيَّنَ
لهم فَسَادَ الطِّيَرَةِ لِيَعْلَمُوا أنَّ اللهَ سُبْحَانَهُ لم يَجْعَلْ
لهم عليها عَلامَةً، ولا فيها دَلالةً، ولا نَصَبَها سَبَبًا لمَا
يَخَافُونَهُ ويَحْذَرُونَه، ولتَطْمَئِنَّ قُلُوبُهم، وتَسْكُنَ
نُفُوسُهُم إلى وَحْدَانِيَّتِهِ تعالى التي أَرْسَلَ بِهَا رُسُلَهُ
وَنَزَّلَ بها كُتُبَهُ، وخَلَقَ لأجْلِهَا السماواتِ والأرضَ، وعَمَّرَ
الدارَيْنِ الجنَّةَ والنارَ بسببِ التوحيدِ، فَقَطَعَ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَقَ الشرْكِ مِن قُلُوبِهِم؛ لئلاَّ يَبْقَى فيها
عَلَقٌ منها، ولا يَتَلَبَّسُوا بعَمَلٍ من أعمالِ أهلِ النارِ البَتَّةَ.
قال عِكْرِمَةُ:(كنَّا جُلُوسًا عند ابنِ عبَّاسٍ فَمَرَّ طائرٌ يَصِيحُ، فقالَ رجلٌ مِن القومِ: خيرٌ خيرٌ.
فقالَ ابنُ عبَّاسٍ: لا خيرَ ولا شرَّ).
فبادَرَهُ بالإنكارِ عليهِ؛ لئلا يَعْتَقِدَ تأثِيرَه في الخيرِ والشرِّ.
وخَرَجَ طاووسٌ معَ صاحِبٍ له في سَفَرٍ، فصاحَ غُرابٌ، فقالَ الرجلُ: خيرٌ.
فقالَ طاووسٌ: وأيُّ خيرٍ عندَ هذا؟
لا تَصْحَبْنِي) انْتَهَى مُلَخَّصًا.
ولكن يُشْكِلُ عليهِ ما رَوَاهُ ابنُ حِبَّانَ في (صحيحهِ) عن أنَسٍ مرفوعًا: ((لاَ طِيرَةَ، وَالطِيرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ)) فظاهِرُ هذا أنَّها تكونُ سببًا لوقوعِ الشرِّ بالمُتَطَيِّرِ.
وجوابُهُ: أنَّ
المرادَ بذلك مَن تَطَيَّرَ تَطَيُّرًا مَنْهِيًّا عنهُ، وهو أنْ
يَعْتَمِدَ على ما يَسْمَعُهُ ويَرَاهُ حتى يَمْنَعَه مما يُرِيدُهُ مِن
حاجَتِهِ، فإنهُ قدْ يُصِيبُهُ ما يَكْرَهُهُ عقوبةً له، فأمَّا مَنْ
تَوَكَّلَ على اللهِ، ووَثِقَ به بحيثُ عَلَّقَ قَلْبَهُ باللهِ خوْفًا
ورَجَاءً، وقَطَعَهُ عن الالْتِفَاتِ إلى غيرِ اللهِ، وقالَ وفعَلَ ما
أُمِرَ بِهِ فإنَّه لا يَضُرُّه ذلك.
وقد جَاءَتْ أحاديثُ ظَنَّ بعضُ الناسِ أنَّهَا تَدُلُّ على جَوَازِ الطِّيَرَةِ:
- وفي روايةٍ: ((لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَالشُّؤْمُ فِي ثَلاَثٍ)) الحديثَ.
- وفي حديثٍ آخرَ: ((إِنْ كَانَ فَفِي الفَرَسِ وَالمَرْأَةِ وَالمَسْكَنِ)) رواهُما البخارِيُّ، فأنْكَرَتْ عائِشَةُ رَضِي اللهُ عَنْهَا ذلك وقالتْ: ((كَذَبَ والذي أنْزَلَ الفُرْقانَ على أبي القاسِمِ مَن حَدَّثَ بها، ولكنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يَقولُ:((كَانَ أَهْلُ الجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ: إِنَّ الطِّيَرَةَ فِي المَرْأَةِ وَالدَّارِ وَالدَّابَّةِ)) ثم قرأتْ عائشةُ: {مَا
أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي
كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيرٌ}[الحديد: 22])) روَاهُ أحمدُ وابنُ خُزَيْمَةَ والحاكِمُ وصَحَّحَهُ بمعناهُ.
وقال الخَطَّابِيُّ وابنُ قُتَيْبَةَ: (هذا مُسْتَثْنًى من الطِّيَرَةِ، أي: الطِّيَرَةُ
مَنْهِيٌّ عنها إلا أن يكونَ له دَارٌ يَكْرَهُ سُكْنَاهَا أو امْرَأَةٌ
يَكْرَهُ صُحْبَتَهَا أو فَرَسٌ أو خَادِمٌ فليُفَارِقِ الجميعَ بالبيْعِ
والطلاقِ ونحوِهِ، ولا يُقِيمُ على الكَرَاهَةِ والتأذِّي بِهِ؛ فإنَّهُ
شُؤْمٌ).
قلتُ: لا يَصِحُّ تَغْلِيطُهُ معَ إِمْكَانِ حَمْلِهِ على الصحَّةِ،
ورِوَايَةُ تعليقِهِ بالشرطِ لا تَدُلُّ على نَفْيِ رِوَايَةِ الجَزْمِ.
وقالتْ طائِفَةٌ أُخْرَى: الشُّؤْمُ بهذهِ الثلاثةِ إنما يَلْحَقُ مَن تَشَاءمَ بها فيكونُ شُؤْمُها عليهِ، ومَن تَوَكَّلَ على اللهِ ولم يَتَشَاءمْ ولم يَتَطَيَّرْ لم تَكُنْ مَشْؤُومَةً عليه، قالُوا: ويَدُلُّ عليهِ حديثُ أنَسٍ:((الطِّيَرَةُ عَلَى مَنْ تَطَيَّرَ))
وقد يَجْعَلُ اللهُ سبحانهُ تَطَيُّرَ العَبْدِ وتَشَاؤُمَه سَبَبًا
لحلولِ المكروهِ كما يَجْعَلُ الثِّقَةَ بِهِ والتوكُّلَ عليهِ، وإفرادَهُ
بالخوفِ والرجاءِ مِن أعظمِ الأسبابِ التي يُدْفَعُ بِهَا الشَّرُّ.
وقال ابنُ القَيِّمِ: (إخبارُهُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشُّؤْمِ في هذهِ الثَّلاثَةِ، ليسَ
فيه إثباتُ الطِّيَرَةِ التي نَفَاهَا اللهُ، وإنمَّا غايَتُه أن اللهَ
سُبْحَانَهُ قدْ يَخْلُقُ أعيانًا مِنها مَشْؤُومَةً على مَن قَارَبَهَا
وسَكَنَهَا، وأعْيَانًا مُبَارَكَةً لا يَلْحَقُ مَن قَارَبَها مِنهَا
شُؤْمٌ ولا شَرٌّ.
وهذا كما يُعْطِي سبحانهُ الوالدينِ وَلَدًا مُبَارَكًا يَرَيَانِ الخيرَ
على وجهِهِ، ويُعْطِي غيرَهما وَلَدًا مَشْؤُومًا يَرَيَانِ الشَّرَّ على
وجْهِهِ، وكذلكَ ما يُعطَاهُ العبْدُ من وِلايَةٍ أو غيرِها، فكذلكَ الدارُ
والمرأةُ والفَرَسُ.
واللهُ سبحانهُ خالِقُ الخيرِ والشرِّ والسُّعُودِ والنُّحُوسِ، فيَخْلُقُ
بعضَ هذهِ الأعيانِ سُعُودًا مُبَارَكَةً، ويَقْضِي بسعَادَةِ مَن قارَبَها
وحُصُولِ اليُمْنِ والبَرَكَةِ لهُ، ويَخْلُقُ بعضَهَا نُحُوسًا
يَتَنَحَّسُ بِهَا مَنْ قارَبَها، وكلُّ ذلك بقضَائِهِ وقَدَرِه كما خَلَقَ
سائِرَ الأسبابِ ورَبَطَها بمُسَبَّبَاتِها المُتَضَادَّةِ
والمُخْتَلِفَةِ، كما خَلَقَ المِسْكَ وغيرَه مِن الأرواحِ الطَّيِّبَةِ،
ولذَّذَ بها مَنْ قارَبَهَا مِن الناسِ، وخَلَقَ ضِدَّهَا وجَعَلَهَا
سَبَبًا لألمِ مَن قارَبَهَا مِن الناسِ، والفَرْقُ بينَ هذين النوعين
مُدرَكٌ بالحِسِّ فكذلكَ في الديَارِ والنِّساءِ والخَيْلِ فهذا لونٌ
والطِّيَرَةُ الشِّرْكِيَّةُ لونٌ). انْتَهَى.
قلتُ: ولهذا يُشرَعُ لِمَن اسْتَفَادَ زَوْجَةً أو أَمَةً أو دابَّةً،
أنْ يَسْأَلَ اللهَ مِن خيرِهَا وخيرِ مَا جُبِلَتْ عليهِ، ويَسْتَعِيذَ
مِن شَرِّها وشرِّ ما جُبِلَتْ عليهِ، وكذلكَ يَنْبَغِي لِمَن سَكَنَ دارًا
أن يَفْعَلَ ذلكَ ولكنْ يَبْقَى على هذا أنْ يُقالَ: هذا جَارٍ في كلِّ
مَشْؤُومٍ فما وَجْهُ خُصُوصِيَّةِ هذهِ الثلاثةِ بالذِّكْرِ؟
فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((دعُوهَا ذَمِيمَةً)) رَوَاهُ أبو داودَ عن أنَسٍ بنحْوِهِ.
(ومنها) فإن قيلَ: ما الفَرْقُ بينَ الدارِ وبينَ مَوْضِعِ الوباءِ، حيثُ رُخِّصَ في الارْتِحَالِ عن الدارِ دونَ مَوْضِعِ البلاءِ؟
ثانيها: ما يَقَعُ به ضَرَرٌ، ولكنهُ يَعُمُّ ولا يَخُصُّ، ويَنْدُرُ ولا يَتَكَرَّرُ كالوَبَاءِ، فهذا لا يُقْدَمُ عليه ولا يُفَرُّ مِنه.
وثالِثُها: سبَبٌ مَحْضٌ ولا يَعُمُّ ويَلْحَقُ به الضرَرُ لطولِ المُلازَمَةِ كالمرأةِ، والفَرَسِ والدارِ، فيُبَاحُ له الاسْتِبْدَالُ، أو التوكُّلُ على اللهِ، والإعراضُ عمَّا يَقَعُ في النَّفْسِ. ذَكَرَه في (شرحِ السُّنَنِ).
وقد روَى ابنُ وَهْبٍ في(جَامِعِهِ) ما يَدُلُّ على هذا فإنَّهُ قالَ في هذا الحديثِ: فَقَامَ عُمَرُ بنُ الخَطَّابِفَقَالَ: أَتَكَلَّمُ يَا رَسُولَ اللهِ أَمْ أَصْمُتُ؟
فَقَالَ: ((بَلِ
اصْمُتْ، وَأُخْبِرَكَ بِمَا أَرَدْتَ: ظَنَنْتَ يَا عُمَرُ أَنَّهَا
طِيَرَةٌ وَلاَ طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُهُ، لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُهُ،
وَلَكِنْ أُحِبُّ الفَأْلَ الحَسَنَ)) وعلى هذا تَجْرِي بَقِيَّةُ الأحاديثِ التي تَوَهَّمَ بعضُهم أنَّهَا مِن بابِ الطِّيَرَةِ.
قولُه: ((ولا هَامَةَ)) بتخفيفِ الميمِ على الصحيحِ.
قال الفَرَّاءُ: (الهامَةُ طائِرٌ مِن طيرِ الليلِ).
كأنَّهُ يعنِي: البُومَةَ.
وقال أبو عُبَيْدٍ: (كانوا يَزْعُمُونَ أنَّ عِظَامَ الميِّتِ تَصِيرُ هامَةً فتَطِيرُ، ويُسَمُّونَ ذلك الطائِرَ الصَّدَى) وبِهِ جَزَمَ ابنُ رجَبٍ، قالَ: (وهذا
شَبِيهٌ باعْتِقَادِ أهلِ التَّنَاسُخِ أنَّ أرْوَاحَ الموتَى تَنْتَقِلُ
إلى أجسادِ حيواناتٍ من غيرِ بَعْثٍ ولا نُشُورٍ، وكلُّ هذه اعتقاداتٌ
باطِلَةٌ جاءَ الإسلامُ بإِبْطَالِهَا وتكذيبِها، ولكنَّ الذي جاءَتْ به
الشريعَةُ أنَّ أرواحَ الشُّهَدَاءِ في حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تَأْكُلُ
مِن ثِمَارِ الجنَّةِ وتَشْرَبُ من أنْهَارِها إلى أن يَرُدَّها اللهُ إلى
أجسادِهَا).
وذَكَرَ الزُّبَيْرُ بنُ بَكَّارٍ في (المُوَفَّقِيَّاتِ): (أنَّ
العَرَبَ كانتْ في الجاهِلِيَّةِ تقولُ: إذا قُتِلَ الرجُلُ، ولم يُؤْخَذْ
بثأْرِهِ، خَرَجَت من رأسِهِ هامَةٌ، وهي دُودَةٌ، فتَدُورُ حوْلَ
قَبْرِهِ وتقولُ: اسْقُونِي) وفي ذلكَ يقولُ شاعِرُهم:
قولُه: ((ولا صَفَرَ)) بفتحِ الفاءِ، رَوَى أبو عُبَيْدٍ القاسِمُ بنُ سَلاَّمٍ في: (غريبِ الحديثِ) له عن رُؤْبَةَ أنَّه قالَ: هي حَيَّةٌ تكونُ في البَطْنِ تُصِيبُ الماشِيَةَ والناسَ، وهي أَعْدَى مِن الجَرَبِ عندَ العَرَبِ، فعَلَى
هذا فالمرادُ بنفْيِهِ ما كانُوا يَعْتَقِدُونَه مِن العَدْوَى، ويكونُ
عَطْفُهُ على العَدْوَى مِن عَطْفِ الخاصِّ على العَامِّ، ومِمَّنْ قالَ
بهذا: سُفْيَانُ بنُ عُيَيْنَةَ وأحمدُ والبُخَارِيُّ وابنُ جَرِيرٍ.
ورَوَى أبو دَاودَ عن مُحَمَّدِ بنِ راشِدٍ عمَّن سَمِعَهُ يقولُ: (إنَّ
أهلَ الجاهِلِيَّةِ كانُوا يَسْتَشْئِمُون بصَفَرٍ ويقولونَ: إنه شَهْرٌ
مَشْؤُومٌ، فأَبْطَلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلك).
قال ابنُ رَجَبٍ: (ولعَلَّ
هذا القولَ أشبَهُ الأقوالِ، وكثيرٌ من الجُهَّالِ يَتَشَاءَمُ بصَفَرٍ،
وربَّما يَنْتَهِي عن السَّفَرِ فيهِ، والتشاؤُمُ هو مِن جِنْسِ
الطِّيَرَةِ المَنْهِيِّ عنها، وكذلكَ التشاؤُمُ بيومٍ من الأيَّامِ، كيومِ
الأرْبِعَاءِ، وتَشَاؤُمُ أهلِ الجاهِلِيَّةِ بشَوَّالٍ في النِّكَاحِ فيه
خاصَّةً).
قولُه: ((وَلاَ نَوْءَ))النَّوْءُ واحِدُ الأَنْوَاءِ، وسَيَأْتِي الكلامُ عليه في بابِ ما جَاءَ في الاسْتِسْقَاءِ بالأَنْوَاءِ.
قولُه: ((وَلاَ غُولَ)) هو بالفتحِ مَصْدَرٌ معناه: البُعْدُ والهلاكُ، وبالضَّمِّ الاسمُ، وجمعُهُ أغوالٌ وغِيلانٌ وهو المُرادُ هنا.
(5)
قولُه: ((ويُعْجِبُنِي الفألُ)) قال أبو السَّعَادَاتِ: (الفألُ
مَهْمُوزٌ فيما يَسُرُّ ويَسُوءُ، والطِّيَرَةُ لا تكونُ إلا فيما
يَسُوءُ، وربما اسْتُعْمِلَتْ فيما يَسُرُّ، يقالُ: تَفَاءَلْتُ بكذا،
وتَفَاوَلْتُ على التخفيفِ والقَلْبِ، وقد أُولِعَ الناسُ بتركِ الهمزةِ
تَخْفيفًا، وإنَّما أُحِبَّ الفَأْلُ؛ لأنَّ الناسَ إذا أمَّلُوا فائِدَةَ
اللهِ، ورَجَوْا عائِدَتَه عندَ كلِّ سبَبٍ ضعيفٍ أو قَوِيٍّ- فهم على
خيرٍ، ولو غَلِطُوا في جِهَةِ الرجاءِ فإن الرجاءَ لهم خيرٌ، وإذا قَطَعُوا
أملَهُم ورجاءَهُم من اللهِ كانَ ذلكَ من الشرِّ).
وأما الطِّيَرَةُ، فإنَّ فيهَا سوءَ الظنِّ باللهِ، وتوقُّعَ البلاءِ.
ومعنَى التفاؤلِ مثلَ أنْ يَكونَ رجلٌ مريضٌ، فيتفاءلُ بما يَسْمَعُ مِن
كلامٍ فيَسْمَعُ آخَرَ يقولُ: (يا سالِمُ)، أو يكونَ طالِبَ ضالَّةٍ،
فيَسْمَعُ آخَرَ يقولُ: يا واجِدُ، فيَقَعُ في ظَنِّهِ أنَّه بَرِيءٌ مِن
مَرَضِهِ ويَجِدُ ضالَّتَهُ، ومِنهُ الحديثُ قيلَ: يا رسولَ اللهِ ما
الفَأْلُ؟
فقالَ: ((الكَلِمَةُ الصَّالِحَةُ)).
قولُهُ: ((قالوا: وما الفَأْلُ، قالَ: ((الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ)))) بيَّنَ لهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الفَأْلَ يُعْجِبُهُ، فَدَلَّ أنَّهُ ليسَ مِنَ الطِّيَرَةِ المَنْهِيِّ عنهَا.
قالَ ابنُ القَيِّمِ: (ليسَ
في الإعجابِ بالفَأْلِ ومَحَبَّتِهِ شيءٌ من الشِّرْكِ بل ذلكَ إِبَانَةٌ
عن مُقْتَضَى الطبيعَةِ، ومِن حُبِّ الفِطْرَةِ الإنسانِيَّةِ التي تَمِيلُ
إلى ما يُوافِقُها ويُلائِمُها، كما أَخْبَرَهُم أنَّهُ حُبِّبَ إليه مِن
الدُّنيا النِّسَاءُ والطِّيبُ).
وكانَ يُحِبُّ الحَلْوَى والعَسَلَ،
ويُحِبُّ حُسْنَ الصَّوْتِ بالقُرْآنِ والأذانِ ويَسْتَمِعُ إليهِ
ويُحِبُّ مَعَالِيَ الأخلاقِ، ومكارِمَ الشِّيَمِ، وبالجُمْلَةِ يُحِبُّ
كُلَّ كمالٍ وخَيْرٍ وما يُفْضِي إليهما. (6) قولُهُ: ((عن عُقْبَةَ بنِ عامِرٍ)) هكذا وقعَ في نُسَخِ (التَّوْحيدِ)، وصوابُهُ (عُرْوَةَ بنِ عامِرٍ) كذا أخْرَجَهُ أحمدُ وأبو داودَ وغيرُهما، وهو مَكِّيٌّ اخْتُلِفَ في نَسَبِهِ، فقالَ أحمدُ بنُ حَنْبَلٍ في روايَتِهِ: عن عُرْوَةَ بنِ عامِرٍ القُرَشِيِّ، وقالَ غيْرُهُ: الجُهَنِيِّ، واخْتُلِفَ في صُحْبَتِهِ فقالَ البَاوُرْدِيُّ: (له صُحْبَةٌ) وذَكَرَهُ ابنُ حِبَّانَ في ثِقَاتِ التابعينَ، وقال المِزِّيُّ: لا صُحْبَةَ له تَصِحُّ. قولُه: ((وَلاَ تَرُدُّ مُسْلِمًا)) قال الطِّيبِيُّ: (تَعْرِيضٌ بأنَّ الكافِرَ بخلافِهِ). والحَوْلُ: التَّحَوُّلُ
والانْتِقَالُ من حالٍ إلى حالٍ، والقوةُ على ذلك، أي: لا حَوْلَ ولا
قوَّةَ على ذلك الحولِ إلا بِكَ، وذلك يُفِيدُ التوكلَ على اللهِ؛ لأنَّهُ
عَلْمٌ وَعَمَلٌ، فالعِلْمُ مَعْرِفَةُ القلْبِ بتوحيدِ اللهِ بالنفعِ
والضُّرِّ، وعامَّةُ المؤمنينَ، بل كثيرٌ مِن المشركينَ يَعْلَمونَ ذلكَ،
والعَمَلُ هو ثِقَةُ القَلْبِ باللهِ وفراغُهُ مِن كلِّ ما سِوَاهُ، وهذا
عَزِيزٌ ويَخْتَصُّ بِهِ خَواصُّ المؤمنينَ، وهو داخِلٌ في هذه الكلمةِ؛
لأنَّ فيها التَّبَرُّؤَ مِن الحوْلِ والقوةِ والمشيئَةِ بدونِ حولِ اللهِ
وقوتِهِ ومشيئتِهِ والإقرارِ بقُدْرَتِهِ على كلِّ شيءٍ، وبعَجْزِ العبدِ
عن كلِّ شيءٍ إلا ما أَقْدَرَهُ عليه ربُّه، وهذا نهايَةُ توحيدِ
الربوبيَّةِ الذي يُثْمِرُ التوكُّلَ وتوحيدَ العِبَادَةِ. (7) هذا الحديثُ روَاهُ -أيضًا- ابنُ ماجه وابنُ حِبَّانَ، ولفظُ أبي داودَ: ((الطِّيَرَةُ شِرْكٌ الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، ثَلاثًا)). قولُه: ((وَمَا مِنَّا إِلاَّ)) قال أبو القاسِمِ الأَصْبَهَانِيُّ والمُنْذِرِيُّ: (في الحديثِ إِضْمَارٌ، والتقديرُ: وما مِنَّا إلا وقد وَقَعَ في قَلْبِهِ شيءٌ من ذلك) انْتَهَى. (8) هذا الحديثُ روَاهُ الإمامُ أحمدُ والطَّبَرَانِيُّ عن عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ مَرْفوعًا، وفي إسنادِهِ ابنُ لَهِيعَةَ وفيه اخْتِلافٌ، وبَقِيَّةُ رِجَالِهِ ثِقَاتٌ. وقيلَ: أبو عبدِ الرحمنِ أحدُ
السابِقِينَ المُكْثِرِينَ من الصحَابَةِ وأحَدُ العَبَادِلَةِ
الفُقَهَاءِ، ماتَ في ذِي الحِجَّةِ، ليالِيَ الحَرَّةِ على الأصحِّ
بالطائِفِ. (9) هذا الحديثُ رَوَاهُ أحمدُ في (المُسْنَدِ) ولفظُهُ: حَدَّثَنَا حمادُ بنُ خالِدٍ قالَ: ثَنَا ابنُ عُلاثَةَ عن مَسْلَمَةَ الجُهَنِيِّ، قالَ: (سَمِعْتُهُ يُحَدِّثُ عن الفَضْلِ بنِ عَبَّاسٍ.
واللهُ سبحانَهُ وتعالى قد جَعَلَ في غَرَائِزِ الناسِ الإعجابَ بسَمَاعِ
الاسمِ الحَسَنِ ومَحَبَّتَهُ، ومَيْلَ نُفُوسِهِم إليهِ، وكذلكَ جَعَلَ
فيهَا الارْتِياحَ والاسْتِبْشَارَ والسُّرورَ باسمِ الفَلاحِ والسَّلامِ
والنجاحِ والتَّهْنِئَةِ والبُشْرَى والفَوْزِ والظَّفَرِ ونحوِ ذلك، فإذا
قَرَعَتْ هذه الأسماءُ الأسماعَ، اسْتَبْشَرَتْ بها النفسُ، وانْشَرَحَ لها
الصَّدْرُ، وقَوِيَ بها القَلْبُ، وإذا سَمِعَتْ أضْدَادَها، أَوْجَبَ لها
ضِدَّ هذه الحالِ، فأحْزَنَها ذلكَ، وأثارَ لَها خَوْفًا وطِيَرَةً
وانْكِمَاشًا وانْقِبَاضًا عمَّا قَصَدَتْ له وعَزَمَتْ عليه، فأَوْرَثَ
لها ضَرَرًا في الدنيا، ونَقْصًا في الإيمانِ، ومُقَارَفَةً للشِّرْكِ.
وقالَ الحَلِيمِيُّ: (وإنما
كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الفألُ؛ لأنَّ التشاؤُمَ
سوءُ ظَنٍّ باللهِ تعالى بغيرِ سَبَبٍ مُحَقَّقٍ، والتَّفَاؤُلَ حُسْنُ
ظَنٍّ بهِ، والمُؤْمِنُ مَأْمُورٌ بِحُسْنِ الظَّنِّ باللهِ تعالى على كلِّ
حالٍ).
قولُه: ((فقالَ: ((أَحْسَنُهَا الفَأْلُ))))، قد تَقَدَّمَ أنه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ يُعْجِبُهُ الفَأْلُ، ورَوَى التِّرْمِذِيُّ وصَحَّحَهُ عن أنَسٍ أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ إذا خَرَجَ لحاجَتِهِ يُحِبُّ أنْ يَسْمَعَ: يا نَجِيحُ، يا راشِدُ.
وروَى أبو داودَ عن بُرَيْدَةَ
أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كانَ لا يَتَطَيَّرُ مِن
شيءٍ، وكانَ إذا بَعَثَ عامِلاً سَأَلَ عن اسْمِهِ فإِذا أعْجَبَهُ، فَرِحَ
بِهِ، وإنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُئِيَ كراهِيَتُه ذلك في وَجْهِهِ،
وإِسْنَادُهُ حَسَنٌ، فهذا في اسْتِعْمَالِ الفَأْلِ.
قال ابنُ القَيِّمِ في الكلامِ على الحديثِ المَشْرُوحِ:
(أخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الفَأْلَ مِن الطِّيَرَةِ
وهو خَيْرُها، فأَبْطَلَ الطِّيَرَةَ، وأخْبَرَ أنَّ الفَأْلَ منها،
ولكنَّهُ خيرٌ مِنْهَا، فَفَصَلَ بينَ الفَأْلِ والطِّيَرَةِ لما
بَيْنَهُمَا من الامْتِيَازِ والتَّضَادِّ، ونَفْعِ أحدِهِما ومَضَرَّةِ
الآخَرِ، ونظيرُ هذا مَنْعُه مِن الرُّقَى بالشِّرْكِ، وإِذْنُه في
الرُّقْيَةِ إذا لم يكنْ فيها شِرْكٌ؛ لما فيها من المَنْفَعَةِ الخالِيَةِ
عن المَفْسَدَةِ).
قولُه: ((اللهُمَّ لا يأتي بالحسَنَاتِ إِلا أنْتَ، ولا يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إلا أَنْتَ))
أي: لا تَأْتِي الطِّيَرَةُ بالحسناتِ ولا تَدْفَعُ المكروهاتِ، بل أنت
وحْدَك لا شريكَ لكَ الذي تَأتِي بالحسناتِ وتَدْفَعُ السيئاتِ.
وهذا دعاءٌ مناسِبٌ لِمَن وَقَعَ في قلبِهِ شيءٌ من الطِّيَرَةِ، وتصريحٌ
بأنَّها لا تَجْلُبُ نَفعًا ولا تَدْفَعُ ضُرًّا، ويُعَدُّ مَن اعْتَقَدَها
سَفِيهًا مُشْرِكًا.
قولُه: ((وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ))
اسْتِعَانَةٌ باللهِ تعالى على فِعْلِ التَّوَكُّلِ، وعَدَمِ الالتفاتِ
إلى الطِّيَرَةِ التي قد تكونُ سَبَبًا لوقوعِ المكروهِ وعقوبةً
لفاعِلِهَا، وذلكَ إنما يَصْدُرُ من تَحْقِيقِ التوكُّلِ الذي هوَ أقوَى
الأسبابِ في جَلْبِ الخيراتِ، ودفْعِ المكروهاتِ.
قولُه: ((الطِّيَرَةُ شِرْكٌ)) صِريحٌ في تَحْريمِ الطِّيَرَةِ، وأنّها مِن الشركِ؛ لما فيها مِن تَعَلُّقِ القلبِ على غيرِ اللهِ.
وقالَ ابنُ حَمْدَانَ في (الرِّعَايَةِ): (تُكْرَهُ الطِّيَرَةُ، وكذا قالَ غيرُ واحدٍ مِن أصحابِ أحمدَ).
قال ابنُ مُفْلِحٍ: (والأَوْلَى القَطْعُ بتحريمِهَا، ولعلَّ مرادَهم بالكَرَاهَةِ التحريمُ).
قلتُ: بل
الصوابُ القَطْعُ بتحريمِهَا؛ لأنَّها شِرْكٌ، وكيفَ يكونُ الشركُ مكروهًا
الكراهَةَ الاصْطِلاحِيَّةَ؟! فإن كانَ القائِلُ بكراهَتِها أرادَ ذلك فلا
ريبَ في بُطْلانِهِ.
قالَ في (شَرْحِ السننِ): (وإنما
جَعَلَ الطيرةَ مِن الشركِ؛ لأنهم كانُوا يَعْتَقِدُونَ أنَّ التَّطَيُّرَ
يَجْلُبُ لهم نَفْعًا، أو يَدْفَعُ عنهم ضَرًّا إذا عَمِلوا بِمُوجَبِهِ
فكأنهم شَرَّكُوهُ معَ اللهِ تعالى).
وحاصِلُهُ: وما منَّا إلا مَن يَعْتَرِيهِ التَّطَيُّرُ، ويَسْبِقُ إلى قلبِهِ الكراهَةُ فيهِ، فحَذَفَ ذلكَ اعْتِمَادًا على فَهْمِ السامعِ.
وقال الخَلْخَالِيُّ: (حَذَفَ المُسْتَثْنَى لما يَتَضَمَّنُه من الحالةِ المكروهةِ، وهذا نوعٌ من أدبِ الكلامِ).
قولُه: ((وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ))
أي: ما منَّا إلا مَنْ يَقَعُ في قلبِهِ ذلكَ، ولكنْ لما تَوَكَّلْنَا على
اللهِ وآمنَّا بهِ، واتَّبَعْنَا ما جاءَ به الرسولُ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ واعْتَقَدْنَا صِدْقَهُ، أذْهَبَ اللهُ ذلك عنَّا،
وأقَرَّ قُلُوبنَا على السنَّةِ واتِّبَاعِ الحقِّ.
قولُه: ((وجَعَلَ آخِرَه مِن قوْلِ ابنِ مسعودٍ)) قال التِّرْمِذِيُّ: (سَمِعْتُ محمدَ بنَ إسماعيلَ يقولُ: كان سليمانُ بنُ حَرْبٍ يقولُ في هذا: ((وما مِنَّا)) هذا عندي من قَوْلِ ابنِ مسعودٍ، فالتِّرْمِذِيُّ نقَلَ ذلك عن سليمانَ بنِ حَرْبٍ ووَافَقَه على ذلك العلماءُ.
قال ابنُ القَيِّمِ: وهو الصوَابُ؛ فإن الطِّيَرَةَ نَوْعٌ من الشِّرْكِ).
قولُهُ: ((من حديثِ ابنِ عمرٍو)) هو عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ بنِ وائِلٍ السَّهْمِيُّ أبو محمدٍ.
قوله: ((مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حَاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ))
وذلك أنَّ التَّطَيُّرَ هو التشاؤُمُ بالشيءِ المَرْئِيِّ أو المَسْمُوعِ
فإذا اسْتَعْمَلَها الإنسانُ فرَجَعَ بها عن سَفَرِهِ، وامْتَنَعَ بِهَا
عمَّا عَزَمَ عليه، فقد قَرَعَ بابَ الشِّرْكِ، بل وَلَجَهُ وبَرِئَ مِن
التوكُّلِ على اللهِ، وفتَحَ على نفسِهِ بابَ الخوْفِ والتعَلُّقِ بغيرِ
اللهِ، وذلكَ قاطِعٌ لَه عن مَقَامِ: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}،
فيَصِيرُ قَلْبُهُ مُتَعَلِّقًا بغيرِ اللهِ، وذلك شرْكٌ، فيُفْسِدُ عليه
إِيمانَهُ، ويَبْقَى هدفًا لسِهَامِ الطِّيَرَةِ، ويُقَيِّضُ له الشيطانُ
مِن ذلك ما يُفْسِدُ عليهِ دِينَه ودُنياه، وكم مِمَّن هَلَكَ بذلكَ
وخَسِرَ الدنيا والآخِرَةَ.
قولُهُ: (فما كَفَّارَةُ ذلكَ) إلى آخِرِ الحديثِ. هذا كفَّارَةٌ
لمَا يَقَعُ مِن الطِّيَرَةِ، ولكن يَمْضِي معَ ذلك ويَتَوَكَّلُ على
اللهِ، وفيهِ الاعْتِرَافُ بأنَّ الطَّيْرَ خَلْقٌ مُسَخَّرٌ مَمْلُوكٌ
للهِ، لا يأتي بخيرٍ ولا يَدْفَعُ شَرًّا، وأنَّهُ لا خَيْرَ في الدنيا
والآخِرَةِ إلا خيرُ اللهِ، فكلُّ خيرٍ فيهما فهوَ مِن اللهِ تعالى
تَفَضُّلاً على عِبَادِهِ، وإِحْسَانًا إليهم وأنَّ الإلَهِيَّةَ كلَّها
للهِ ليسَ فيها لأحَدٍ مِن الملائِكَةِ والأنبياءِ عليهم السلامُ شِرْكَةٌ،
فضلاً عن أن يُشْرِكَ فيها ما يَرَاهُ ويَسْمَعُهُ مما يَتَشاءَمُ بِهِ.
قالَ:
خَرَجْتُ مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا
فَبَرَّحَ ظَبْيٌ، فمَالَ في شِقِّهِ فاحْتَضَنْتُهُ فقلتُ: يا رسولَ اللهِ
تَطَيَّرْتُ.
قالَ:((إِنَّما الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ)) هكذا روَاهُ أحمدُ، وفي إِسْنَادِهِ نَظَرٌ).
وقرأتُ بخَطِّ المُصَنِّفِ: (فيه رَجُلٌ مُخْتَلَفٌ فيهِ، وفيهِ انْقِطَاعٌ، أي: بينَ مَسْلَمَةَ وبينَ الفَضْلِ وهو ابنُ العبَّاسِ بنِ عبدِ المُطَّلِبِ ابنُ عمِّ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأكبرُ وَلَدِ العباسِ).
قال ابنُ مَعِينٍ: (قُتِلَ يومَ اليَرْمُوكِ في عَهْدِ أبي بَكْرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ).
وقال غَيْرُهُ: (قُتِلَ يومَ مَرْجِ الصُّفَّرِ، سَنَةَ ثلاثَ عَشْرَةَ وهو ابنُ اثْنَتَيْنِ وعِشرينَ سَنَةً).
قالَ أبو داودَ: (قُتِلَ بدِمَشْقَ، كانَ عليه دِرْعُ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقال الوَاقِدِيُّ وابنُ سَعْدٍ: ماتَ في طَاعُونِ عَمْوَاسَ).
قولُه: ((إِنَّما الطِّيَرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ))
هذا حَدٌّ للطِّيَرَةِ المَنْهِيِّ عنها بأنَّها ما أَوْجَبَ للإنسانِ
أَنْ يَمْضِيَ لما يُرِيدُهُ ولو مِن الفَأْلِ؛ فإنَّ الفَأْلَ إنما
يُسْتَحَبُّ لِمَا فيهِ من البِشَارَةِ والمُلاءَمَةِ للنفسِ، فأمَّا أنْ
يَعْتَمِدَ عليهِ، ويَمْضِيَ لأجْلِهِ معَ نِسْيانِ التوكُّلِ على اللهِ،
فإنَّ ذلك من الطِّيَرَةِ، وكذلكَ إذا رَأَى أو سَمِعَ ما يَكْرَهُ
فتَشَاءَمَ بِهِ، ورَدَّهُ عن حاجَتِهِ، فإن ذلك أيضًا مِن الطِّيَرَةِ.
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ((1)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ ما جاءَ فِي التَّطَيُّرِ) أيْ: من النهيِ عنه والوَعيدِ فيهِ، مَصْدَرُ تَطَيَّرَ يَتَطَيَّرُ تَطَيُّرًا، و(الطِّيَرةُ)
بكَسْرِ الطاءِ وفَتْحِ الياءِ؛ وقدْ تُسَكَّنُ: اسمُ مَصدَرٍ مِنْ
تَطَيَّرَ طِيرَةً، وأَصْلُهُ التَّطَيُّرُ بالسوانِحِ والبوارِحِ من
الطَّيْرِ والظِّباءِ وغيرِهما، وكان ذلكَ يَصُدُّهم عنْ مَقاصِدِهم،
فنَفاهُ الشارِعُ وأَبْطَلَهُ، وأَخْبَرَ أنَّهُ لا تَأثيرَ لهُ في جَلْبِ
نَفْعٍ ولا دَفْعِ ضَرٍّ. (2) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولِ اللهِ تعالَى: {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهُ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ}[الأعراف:131]) . (3) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((وقولِهِ تعالَى: {قالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} الآيَةَ [يس: 19]))
المعنَى - واللهُ أَعْلَمُ -: حَظُّكُم وما نَابَكُم منْ شَرٍّ معكم؛
بسَبَبِ أَفعالِكم وكُفْرِكم ومُخَالَفَتِكم الناصحينَ، ليسَ هوَ منْ
أَجْلِنا ولا بسَبَبِنا، بلْ بِبَغْيِكم وعَدَاوَتِكُم، فَطَائِرُ الباغِي
الظالِمِ معه، فما وَقَعَ بهِ من الشَّرِّ فهوَ سبَبُهُ الجالِبُ لهُ،
وذلكَ بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ، وحِكمتِهِ وعَدْلِهِ، كما قالَ تعالَى: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ}[القلم:35،36] ويَحْتَمِلُ أنْ يكونَ المعنَى: طائِرُكُم معكم؛
أيْ: راجعٌ عليكم، فالتَّطَيُّرُ الذي حَصَلَ لكم إنَّمَا يَعودُ عليكم،
وهذا منْ بابِ القِصاصِ في الكلامِ، ونَظيرُهُ قولُهُ عليهِ السلامُ: ((إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا: وَعَلَيْكُمْ)) ذَكَرَهُ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ. ومُناسَبَةُ الآيَتَيْنِ للتَّرجمةِ: أنَّ
التَّطَيُّرَ مِنْ عَمَلِ أهلِ الجاهليَّةِ والْمُشرِكينَ، وقدْ ذَمَّهُم
اللهُ بهِ ومَقَتَهُم، وقدْ نَهَى رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عن التَّطَيُّرِ وأَخْبَرَ أنَّهُ شِرْكٌ، كما سيأتي في أحاديثِ
البابِ. (4) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (عَنْ أَبِي هُريْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:((لاَ عَدْوَى، وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ، وَلاَ صَفَرَ)) أَخْرَجَاهُ، زادَ مُسلِمٌ: ((ولا نَوْءَ، وَلاَ غُولَ)). وقدْ روَى حديثَ: ((لا عَدْوَى)) جَماعةٌ من الصحابةِ: أَنَسُ بنُ مالِكٍ، وجابرُ بنُ عبدِ اللهِ؛ والسائبُ بنُ يَزيدَ، وابنُ عمرَ، وغيرُهم؛ وفي بعضِ رِواياتِ هذا الحديثِ: ((وَفِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ)). وقالَ: ((لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)). وقالَ في الطاعونِ: ((مَنْ سَمِعَ بِهِ فِي أَرْضٍ فَلاَ يَقْدَمْ عَلَيْهِ))، وكلُّ ذلكَ بتَقديرِ اللهِ تعالَى). ولأَحْمَدَ والتِّرمِذِيِّ، عن ابنِ مَسعودٍ مَرفوعًا: ((لاَ يُعْدِي شَيْءٌ شَيْئًا))قالَهَا ثَلاثًا. فأَخْبَرَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ ذلكَ كُلَّهُ بقَضاءِ اللهِ
وقَدَرِهِ، والعَبْدُ مَأمورٌ باتِّقاءِ أَسبابِ الشَّرِّ إذا كان في
عَافيَةٍ، فكما أنَّهُ يُؤْمَرُ أن لا يُلْقِيَ نفسَهُ في الْمَاءِ وفي
النارِ، مِمَّا جَرَت العَادةُ أنَّهُ يُهْلِكُ أوْ يَضُرُّ، فكذلكَ
اجْتِنَابُ مُقارَبَةِ الْمَريضِ كالْمَجذومِ؛ والقُدومِ علَى بَلَدِ
الطاعونِ، فإنَّ هذه كلَّها أسبابٌ للمَرَضِ والتَّلَفِ، فاللهُ سُبحانَهُ
هوَ خَالِقُ الأسبابِ ومُسبَّبَاتِها، لا خَالِقَ غيرُهُ ولا
مُقَدِّرَغيرُهُ. وأمَّا إذا قَوِيَ التَّوَكُّلُ علَى اللهِ والإِيمانُ
بقَضاءِ اللهِ وقَدَرِهِ فقَوِيَت النفْسُ علَى مُباشَرَةِ بعضِ هذه
الأسبابِ اعتمادًا علَى اللهِ ورَجاءً منهُ لا يَحْصُلُ بهِ ضَرَرٌ؛ ففي
هذه الحالِ تَجوزُ مُباشَرَةُ ذلكَ، لا سِيَّمَا إذا كانت مَصلحةً عامَّةً
أوْ خَاصَّةً، وعلَى هذا يُحْمَلُ الحديثُ الذي رواهُ أبو دَاوُدَ والتِّرْمِذِيُّ: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَ بِيَدِ مَجْذُومٍ فَأَدْخَلَها مَعَهُ فِي القَصْعَةِ، ثُمَّ قالَ: ((كُلْ بِسْمِ اللهِ ثِقَةً بِاللهِ وَتَوَكُّلاً عَلَيْهِ)). فأَخْبَرَ
أنَّ تَأَذِّيَهُ وتَشَاؤُمَهُ بالطَّيْرِ إنَّمَا هوَ في نفسِهِ
وعَقيدتِهِ؛ لا في الْمُتَطَيَّرِ بهِ؛ فوَهْمُهُ وخَوْفُهُ وإشراكُهُ هوَ
الذي يُطَيِّرُهُ ويَصُدُّهُ لِمَا رآه وسَمِعَهُ. فأَوْضَحَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأُمَّتِهِ الأَمْرَ؛ وبَيَّنَ لهم فَسادَ
الطِّيَرَةِ ليَعْلَمُوا أنَّ اللهَ سُبحانَهُ لم يَجْعَلْ لهم عليها
عَلامةً، ولا فيها دَلالةً، ولا نَصَبَها سببًا لِمَا يَخَافُونَهُ
ويَحْذَرُونَهُ؛ ولِتَطْمَئِنَّ قلوبُهم، وتَسْكُنَ نفوسُهم إلَى
وَحدانِيَّتِهِ تعالَى التي أَرْسَلَ بها رُسُلَهُ، وأَنْزَلَ بها
كُتُبَهُ، وخَلَقَ لأَجْلِها السماواتِ والأرضَ، وعَمَّرَ الدارينِ:
الْجَنَّةَ والنارَ بسَبَبِ التوحيدِ، فقَطَعَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ عِلَقَ الشِّرْكِ منْ قُلوبِهم؛ لئَلاَّ يَبْقَى فيها عُلْقَةٌ
منها؛ ولا يَتَلَبَّسُوا بعَمَلٍ منْ أعمالِ أهلِ النارِ الْبَتَّةَ. فمَن اسْتَمْسَكَ بعُروةِ التوحيدِ الوُثْقَى،
واعْتَصَمَ بحَبْلِهِ الْمَتِينِ، وتَوَكَّلَ علَى اللهِ، قَطَعَ هاجِسَ
الطِّيَرَةِ مِنْ قَبْلِ استقرارِها، وبَادَرَ خَوَاطِرَها مِنْ قَبْلِ
اسْتِمْكَانِها. وقالَ آخَرونُ: المرادُ بهِ شَهْرُ صَفَرَ، والنفْيُ
لِمَا كان أهلُ الجاهِلِيَّةِ يَفْعَلونَهُ في النَّسِيءِ، وكانوا
يُحِلُّون الْمُحَرَّمَ وَيُحَرِّمُونَ صَفَرَ مَكانَهُ، وهوَ قَولُ مَالِكٍ. ورَوَى أبو دَاوُدَ، عنْ مُحَمَّدِ بنِ راشدٍ، عَمَّنْ سَمِعَهُ يَقولُ: (إِنَّ
أَهْلَ الجاهليَّةِ يَتَشَاءَمُونَ بصَفَرَ ويقولونَ: إنَّهُ شَهْرٌ
مَشؤومٌ، فأَبْطَلَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ذلكَ). أُجِيبَ عنه: بأنَّ ذلكَ كان في الابتداءِ، ثمَّ دَفَعَها اللهُ عنْ عِبادِهِ، أوْ
يُقالُ: الْمَنْفِيُّ ليسَ وُجودَ الغُولِ، بلْ ما يَزْعُمُهُ العَرَبُ
مِنْ تَصَرُّفِهِ في نَفْسِهِ، أو فيكونُ المَعْنِيُّ بقَوْلِهِ: ((لاَ غُولَ)) أنَّها لا تَسْتَطِيعُ أن تُضِلَّ أَحدًا معَ ذِكْرِ اللهِ والتَّوَكُّلِ عليهِ، ويَشْهَدُ لهُ الحديثُ الآخَرُ: ((لاَ غُولَ وَلَكِنَّ السَّعالِيَ)) السعالي: سَحَرَةُ الْجِنِّ؛ أيْ: ولكنَّ في الْجِنِّ سَحَرَةً لهم تَلْبِيسٌ وتَخييلٌ، ومنهُ الحديثُ: ((إِذَا تَغَوَّلَتِ الْغِيلاَنُ فَبَادِرُوا بِالأَذَانِ))أي: ادْفَعُوا شَرَّهَا بذِكْرِ اللهِ، وهذا يَدُلُّ علَى أنَّهُ لم يُرِدْ بِنَفْيِها عدَمَها، ومنهُ حديثُ أبي أَيُّوبَ: (كَانَ لِي تَمْرٌ فِي سَهْوَةٍ فَكَانَتِ الغُولُ تَجِيءُ فَتَأْخُذُ). (5) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَهُمَا عَنْ أَنَسٍقالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لا عَدْوَى وَلا طِيَرَةَ، وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ))قالَوا: وَما الفَأْلُ؟ وأَمَّا الطِّيَرَةُ: فإنَّ فيها سُوءَ الظنِّ باللهِ وتَوَقُّعَ البلاءِ.
أنْ يكونَ رَجُلٌ مَريضًا فيَسْمَعُ آخَرَ يَقولُ: يا سالِمُ، أوْ يكونَ
طالبَ ضَالَّةٍ فيَسْمَعُ آخَرَ يَقولُ: يا واجِدُ، فيَقَعُ في ظَنِّهِ
أنَّهُ يَبْرَأُ منْ مَرَضِهِ ويَجِدُ ضَالَّتَهُ، ومنهُ الحديثُ: قِيلَ:
يَا رَسُولَ اللهِ، مَا الفَأْلُ؟ وقالَ الحليميُّ: (وإنما
كان صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُعْجِبُهُ الفألُ؛ لأنَّ التشاؤُمَ
سُوءُ ظَنٍّ باللهِ تعالَى بغيرِ سَبَبٍ مُحَقَّقٍ، والتفاؤُلَ حُسْنُ
ظَنٍّ بهِ، والمؤمِنُ مأمورٌ بحُسْنِ الظَّنِّ باللهِ تعالَى علَى كلِّ
حالٍ). (6) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((ولأبي داودَ بسَنَدٍ صحيحٍ عَنْ عُقْبَةَ بنِ عامِرٍ قالَ: ذُكِرَت الطِّيَرةُ عِنْدَ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقالَ: ((أَحْسَنُهَا
الْفَأْلُ، وَلا تَرُدُّ مُسْلِمًا، فَإِذا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ
فَلْيَقُل: اللهُمَّ لاَ يَأْتِي بِالحَسَناتِ إِلاَّ أنْتَ، ولا يَدْفَعُ
السَّيِّئاتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلا حَوْلَ وَلا قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ)). قولُهُ: ((عنْ عُقبةَ بنِ عامرٍ)) هكذا وَقَعَ في نُسَخِ التوحيدِ، وصوابُهُ: عنْ عُروةَ بنِ عامرٍ، كذا أَخْرَجَهُ أحمدُ، وأبو دَاوُدَ، وغيرُهما، وهوَ مَكِّيٌّ اخْتُلِفَ في نَسَبِهِ؛ فقالَ أَحمدُ: عنْ عُروةَ بنِ عامرٍ القُرَشِيِّ، وقالَ غَيرُهُ: الْجُهَنِيِّ. ففيهِ نَفْيُ تَعَلُّقِ القَلْبِ بغيرِ اللهِ في جَلْبِ نَفْعٍ أوْ دَفْعِ ضُرٍّ،
وهذا هوَ التوحيدُ، وهوَ دُعاءٌ مُناسِبٌ لِمَنْ وَقَعَ في قَلْبِهِ شيءٌ
من الطِّيَرَةِ، وتَصريحٌ بأنَّها لا تَجْلُبُ نَفْعًا ولا تَدْفَعُ
ضُرًّا، ويُعَدُّ مَن اعْتَقَدَها سَفيهًا مُشْرِكًا. ففيهِ: التَّبَرِّي من الْحَوْلِ والْقُوَّةِ والْمَشيئةِ بدونِ حَوْلِ اللهِ وقُوَّتِهِ ومَشيئتِهِ،
وهذا هوَ التوحيدُ في الرُّبُوبِيَّةِ، وهوَ الدليلُ علَى تَوحيدِ
الإلَهِيَّةِ الذي هوَ إِفرادُ اللهِ تعالَى بجَميعِ أنواعِ العِبادةِ،
وهوَ تَوحيدُ الْقَصْدِ والإرادةِ، وقدْ تَقَدَّمَ بَيانُ ذلكَ بِحَمْدِ
اللهِ. (7) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنِ ابنِ مسعودٍ مَرْفُوعًا: ((الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، والطِّيَرَةُ شِرْكٌ، وَمَا مِنَّا إِلاَّ! وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بِالتَّوكُّلِ)) رواهُ أبو دَاوُدَ والتِّرمِذِيُّ وصَحَّحهُ، وجَعَلَ آخِرَهُ مِنْ قَوْلِ ابنِ مَسْعودٍ). قالَ في (شَرْحِ السُّنَنِ): (وإنما
جَعَلَ الطِّيَرَةَ من الشِّرْكِ؛ لأنَّهُم كانوا يَعتقدون أنَّ
الطِّيَرَةَ تَجْلِبُ لهم نَفْعًا أوْ تَدْفَعُ عنهم ضَرًّا إذا عَمِلُوا
بِمُوجَبِها، فكأنَّهُم أَشْرَكوا معَ اللهِ تعالَى). (8) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (ولأَحْمَدَ مِنْ حَدِيث ابنِ عَمْرٍو: ((مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ)) قالُوا: فَما كَفَّارَةُ ذلِكَ؟ هذا الحديثُ رواهُ أحمدُ، والطَّبرانيُّ، عنْ عبدِ اللهِ بنِ عمرِو بنِ العاصِ، وفي إسنادِهِ ابنُ لَهيعةَ، وبَقِيَّةُ رجالِهِ ثِقاتٌ. (9) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَهُ مِنْ حَديثِ الفَضْلِ بنِ عبَّاسٍ: ((إِنَّمَا الطِّيرةُ مَا أَمْضاكَ أَوْ رَدَّكَ)). قولُهُ: ((إِنَّمَا الطِّيرَةُ مَا أَمْضاكَ أَوْ رَدَّكَ))
هذا حَدُّ الطِّيَرَةِ الْمَنْهِيُّ عنها؛ لأنَّها ما يَحْمِلُ الإنسانَ
علَى الْمُضِيِّ فيما أَرادَهُ ويَمْنَعُهُ من الْمُضِيِّ فيهِ كذلكَ.
وأمَّا الْفَأْلُ الذي كان يُحِبُّهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ ففيهِ نوعُ بِشارةٍ، فَيُسَرُّ بهِ العَبْدُ ولا يَعْتَمِدُ
عليهِ؛ بخِلافِ ما يُمْضِيهِ أوْ يَرُدُّهُ؛ فإنَّ للقلبِ عليهِ نَوعَ
اعتمادٍ، فافْهَم الْفَرْقَ، واللهُ أَعْلَمُ.
قالَ الْمَدائنيُّ: (سَأَلْتُ رُؤبَةَ بنَ الْعَجَّاجِ: ما السانِحُ؟
قالَ: ما وَلاَّكَ مَيامِنَهُ، قلتُ: فما البارِحُ؟
قالَ: وما وَلاَّكَ مَياسِرَهُ، والذي يَجيءُ منْ أَمامِكَ فهوَ الناطِحُ
والنَّطِيحُ، والذي يَجيءُ منْ خَلْفِكَ هوَ القاعِدُ والقَعِيدُ).
ولَمَّا كانت الطِّيَرَةُ من الشرْكِ الْمُنافِي لكَمالِ التوحيدِ الواجبِ
لكونِها منْ إلقاءِ الشيطانِ وتَخويفِهِ ووَسْوَسَتِهِ ذَكَرَها الْمُصَنِّفُ في (كتابِ التوحيدِ) تَحذيرًا مِمَّا يُنَافِي كَمالَ التوحيدِ الواجِبَ.
- ذَكَرَ تعالَى هذه الآيَةَ في سِياقِ قولِهِ تعالَى: {فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَـذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} الآيَةَ، المعنَى: أنَّ آلَ فِرعونَ كانوا إذا أَصَابَتْهم الْحَسَنَةُ - أي: الْخَصْبُ والسَّعَةُ والعافيَةُ، كما فَسَّرَهُ مُجاهِدٌ
وغيرُهُ - قالُوا: لنا هذه، أيْ نحنُ الَجَدِيرونَ والحَقِيقُون بهِ،
ونحنُ أَهْلُهُ، وإن تُصِبْهُم سَيِّئَةٌ - أيْ: بَلاءٌ وقَحْطٌ -
تَطَيَّرُوا بموسَى ومَنْ مَعَهُ، فيَقولونَ: هذا بِسَبَبِ مُوسَى وأصحابِهِ أَصابَنَا بشُؤْمِهم، فقالَ اللهُ تعالَى: {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهُ}.
قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: ((طائرُهم: ما قَضَى عليهم وقَدَّرَ لهم)) وفي روايَةٍ: ((شُؤْمُهم عندَ اللهِ ومِنْ قِبَلِهِ)) أيْ: إنَّمَا جاءَهم الشؤْمُ منْ قِبَلِهِ بكُفْرِهم وتَكذيبِهم بآياتِهِ ورُسُلِهِ.
قولُهُ: {وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُون}؛ أيْ: أَكْثُرُهم جُهَّالٌ لا يَدْرُونَ، ولوْ فَهِمُوا وعَقَلُوا لعَلِمُوا أنَّهُ ليسَ فيما جاءَ بهِ موسَى عليهِ السلامُ إلاَّ الخيرُ والبَرَكَةُ، والسعادةُ والفَلاَحُ، لِمَنْ آمَنَ بهِ واتَّبَعَهُ.
قولُهُ تعالَى: {أَإِنْ ذُكِّرْتُمْ} أيْ: مِنْ أَجْلِ أَنَّا ذَكَّرْناكم وأَمَرْنَاكُمْ بتَوحيدِ اللهِ قَابَلْتُمُونا بهذا الكلامِ {بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}.
- وقالَ قَتادةُ: (أإنْ ذَكَّرْنَاكُمْ باللهِ تَطَيَّرْتُم بنا؟)
قالَ أبو السَّعَادَاتِ: (الْعَدْوَى)اسمٌ من الإِعداءِ، كالرَّعْوَى، يُقالُ: أَعداهُ الداءُ يُعْدِيهِ إِعداءً، إذا أَصابَهُ مِثْلُ ما بِصَاحِبِ الداءِ).
وقالَ غيرُهُ: ((لاَ عَدْوَى))
هوَ اسمٌ من الإِعداءِ، وهوَ مُجاوَزَةُ العِلَّةِ منْ صاحبِها إلَى
غَيْرِهِ، والْمَنْفِيُّ نفسُ سِرايَةِ الْعِلَّةِ أوْ إضافتُها إلَى
الْعِلَّةِ) والأَوَّلُ هوَ الظاهِرُ.
وفي روايَةٍ لمسلِمٍ، أنَّ أبا هُريرةَ كان يُحَدِّثُ بحديثِ: ((ولا عَدْوَى)) ويُحَدِّثُ عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ:((لا يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)) ثمَّ إنَّ أبا هُريرةَ اقْتَصَرَ علَى حَديثِ: ((لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ))وأَمْسَكَ عنْ حديثِ: ((لاَ عَدْوَى))فرَاجَعُوهُ وقالوا: (سَمِعْنَاكَ تُحَدِّثُهُ)، فأَبَى أن يَعْتَرِفَ بهِ.
قالَ أبو سَلَمَةَ الراوِي عنْ أبي هُريرةَ: (فلا أَدْرِي أَنَسِيَ أبو هُريرةَ أوْ نَسَخَ أَحَدُ القَولينِ الآخَرَ؟ )
وقد اخْتَلَفَ العُلماءُ في ذلكَ، وأَحْسَنُ ما قِيلَ فيهِ: قولُ البَيْهَقِيِّ؛ وتَبِعَهُ ابنُ الصلاحِ وابنُ الْقَيِّمِ، وابنُ رَجَبٍ، وابنُ مُفْلِحٍ، وغيرُهم: (أنَّ قولَهُ: ((ولاَ عَدْوَى))علَى
الوَجْهِ الذي يَعْتَقِدُهُ أهلُ الجاهليَّةِ منْ إضافةِ الْفِعْلِ إلَى
غيرِ اللهِ تعالَى، وأنَّ هذه الأمورَ تُعْدِي بطَبْعِها، وإلاَّ فقدْ
يَجْعَلُ اللهُ بمشيئتِهِ مُخالَطَةَ الصحيحِ مَنْ بهِ شيءٌ من الأمراضِ
سَببًا لِحُدوثِ ذلكَ، ولهذا قالَ:((فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأسَدِ))
فَقالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللهِ، النُّقْبَةُ مِنَ الْجَرَبِ
تَكونُ بِمِشْفَرِ البَعِيرِ أَوْ بِذَنَبِهِ فِي الإِبلِ العَظِيمَةِ
فَتَجْرَبُ كُلُّهَا؟
فَقالَ رَسُول اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَمَنْ أَجْرَبَ الأَوَّلَ؟
لاَ عَدْوَى، وَلاَ طِيرَةَ، وَلاَ هَامَةَ، وَلاَ صَفَرَ، خَلَقَ اللهُ
كُلَّ نَفْسٍ وَكَتَبَ حَيَاتَهَا وَمَصَائِبَهَا وَرِزْقَهَا)).
وقدْ أَخَذَ بهِ الإِمامُ أَحْمَدُ، ورُوِيَ ذلكَ عنْ عمرَ وابنِهِ، وسَلمانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، ونَظيرُ ذلكَ ما رُوِيَ عنْ خالدِ بنِ الوليدِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنَّهُ أَكَلَ السُّمَّ، ومنهُ مَشْيُ سعدِ بنِ أبي وَقَّاصٍ وأبي مُسْلِمٍ الخولانيِّ علَى مَتْنِ البحْرِ؛ قالَهُ ابنُ رَجَبٍ، رَحِمَهُ اللهُ.
قولُهُ: ((وَلاَ طِيَرَةَ)) قالَ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (يَحْتَمِلُ أن يكونَ نَفْيًا أوْ نَهْيًا؛ أيْ: لا تَطَّيَّرُوا، ولكنَّ قولَهُ في الحديثِ:((لاَ عَدْوَى، وَلاَ صَفَرَ، وَلاَ هَامَةَ))
يَدُلُّ علَى أن المرادَ النفيُ وإبطالُ هذه الأمورِ التي كانت
الجاهليَّةُ تُعَانِيها، والنفيُ في هذا أَبْلَغُ من النهيِ؛ لأنَّ النفيَ
يَدُلُّ علَى بُطلانِ ذلكَ وعَدَمِ تأثيرِهِ؛ والنهيَ إنَّمَا يَدُلُّ علَى
الْمَنْعِ منهُ.
وفي (صحيحِ مسلِمٍ) عنْ مُعاويَةَ بنِ الْحَكَمِ أنَّهُ قالَ لرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَمِنَّا أُنَاسٌ يَتَطَيَّرُونَ؟).
قالَ: ((ذَلِكَ شَيْءٌ يَجِدُهُ أَحَدُكُمْ فِي نَفْسِهِ فَلاَ يَصُدَّنَّكُمْ)).
قالَ عِكرمةُ: (كُنَّا جُلوسًا عندَ ابنِ عَبَّاسٍ؛ فمَرَّ طائرٌ يَصِيحُ، فقالَ رجُلٌ من القَومِ: (خَيرٌ خيرٌ)؛ فقالَ لهُ ابنُ عَبَّاسٍ: (لا خَيرَ ولا شَرَّ)؛ فبَادَرَ بالإِنكارِ عليهِ؛ لئَلاَّ يَعْتَقِدَ تَأثيرَهُ في الخيرِ والشرِّ.
وخَرَجَ طَاوُوسٌ معَ صاحبٍ لهُ في سَفَرٍ، فصاحَ غُرابٌ، فقالَ الرجُلُ: (خيرٌ)، فقالَ طاوُوسٌ: (وأيُّ خيرٍ عندَ هذا؟ للهِ لا تَصْحَبْنِي) انتهَى مُلَخَّصًا.
وقدْ جَاءتْ أحاديثُ ظَنَّ بعضُ الناسِ أنَّها تَدُلُّ علَى جَوازِ الطِّيَرَةِ، كقولِهِ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ: ((الشُّؤْمُ فِي ثَلاثٍ: فِي المَرْأَةِ، وَالدَّابَّةِ، وَالدَّارِ)) ونحوِ هذا.
قالَ ابنُ الْقَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (إِخبارُهُ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالشؤْمِ في هذه الثلاثةِ ليسَ فيهِ
إِثباتُ الطِّيَرَةِ التي نَفَاهَا اللهُ، وإنما غايتُهُ أنَّ اللهَ
سُبحانَهُ قدْ يَخْلُقُ منها أَعيانًا مَشؤومةً علَى مَنْ قارَبَها
وسَاكَنَها؛ وأَعيانًا مُبارَكَةً لا يَلْحَقُ مَنْ قَارَبَها منها شُؤْمٌ
ولا شَرٌّ، وهذا كما يُعْطِي سُبحانَهُ الوالِدَيْنِ وَلَدًا مُبارَكًا
يَرَيَانِ الخيرَ علَى وَجْهِهِ، ويُعْطِيَ غيرَهما وَلَدًا مَشؤومًا
يَرَيَانِ الشرَّ علَى وَجْهِهِ، وكذلكَ ما يُعطاهُ العَبْدُ مِنْ وِلايَةٍ
أوْ غيرِها؛ فكذلكَ الدارُ والمرأةُ والْفَرَسُ.
واللهُ سُبحانَهُ خالِقُ الخيرِ والشَّرِّ والسُّعودِ والنُّحوسِ،
فيَخْلُقُ بعضَ هذه الأعيانِ سُعودًا مُبارَكةً، ويَقْضِي بسعادةِ مَنْ
قَارَبَها وحُصولِ اليُمْنِ والبَرَكَةِ لهُ، ويَخْلُقُ بعضَها نُحوسًا
يَتَنَحَّسُ بها مَنْ قارَبَها.
وكلُّ ذلكَ بقَضاء اللهِ وقَدَرِهِ، كما خَلَقَ سائرَ الأسبابِ ورَبَطَها
بِمُسَبَّبَاتِها الْمُتَضَادَّةِ والمختلِفَةِ، كما خَلَقَ الْمِسكَ
وغيرَهُ من الأرواحِ الطَّيِّبَةِ وَلَذَّذَ بها مَنْ قَارَبَها من الناسِ،
وخَلَقَ ضِدَّها وجَعَلَها سَببًا لأَلَمِ مَنْ قَارَبَها من الناسِ،
والفَرْقُ بينَ هذينِ النوعينِ مُدْرَكٌ بالْحِسِّ، فكذلكَ في الدِّيارِ
والنساءِ والخيلِ، فهذا لونٌ والطِّيَرَةُ الشِّرْكِيَّةُ لونٌ) انتهَى.
قولُهُ: ((وَلاَ هَامَةَ)) بتخفيفِ الميمِ علَى الصحيحِ.
قالَ الفَرَّاءُ: (الْهَامةُ طَيرٌ منْ طيورِ الليلِ، كأنَّهُ يعني البُومةَ، قالَ ابنُ الأعرابيِّ:
(كانوا يَتَشَاءَمونَ بها إذا وَقَعَتْ علَى بيتِ أَحَدِهم، يقولُ: نَعَتْ
إليَّ نَفْسِي أوْ أحدًا منْ أهلْ دَارِي، فجاءَ الحديثُ بنَفْيِ ذلكَ
وإبطالِهِ).
قولُهُ: ((ولا صَفَرَ)) بفَتْحِ الفاءِ، روَى أبو عُبيدةَ في (غريبِ الحديثِ) عنْ رُؤبةَ
أنَّهُ قالَ: هيَ حَيَّةٌ تَكونُ في البَطْنِ تُصيبُ الْمَاشِيَةَ
والناسَ، وهيَ أَعْدَى من الْجَرَبِ عندَ العَرَبِ، وعلَى هذا فالمرادُ
بنَفْيِهِ ما كانوا يَعتقدونَهُ من الْعَدْوَى، ومِمَّنْ قالَ بهذا: سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ، والإِمامُ أَحمدُ، والْبُخَارِيُّ، وابنُ جَريرٍ.
قالَ ابنُ رَجَبٍ: (ولَعَلَّ
هذا القولَ أَشْبَهُ الأقوالِ، والتَّشَاؤُمُ بصَفَرَ هوَ منْ جِنْسِ
الطِّيَرَةِ الْمَنْهِيِّ عنها، وكذلكَ التَّشَاؤُمُ بيومٍ من الأَيَّامِ
كيَوْمِ الأَربِعاءِ وتَشاؤُمُ أهلِ الْجَاهليَّةِ بشَوَّالٍ في النِّكاحِ
فيهِ خَاصَّةً).
قولُهُ: ((وَلاَ نَوْءَ)) النَّوْءُ واحدُ الأنواءِ، وسَيأتِي الكلامُ عليهِ في بابِهِ، إنْ شاءَ اللهُ تعالَى.
قولُهُ: ((وَلاَ غُولَ)) هوَ بالضَّمِّ اسمُهُ، وجَمْعُهُ أَغوالٌ وغِيلانٌ، وهوَ الْمُرادُ هنا.
قالَ أبو السَّعَادَاتِ: (الْغُولُ
واحدُ الغِيلانِ، وهوَ جِنْسٌ من الْجِنِّ والشياطينِ كانت العَرَبُ
تَزْعُمُ أنَّ الغُولَ في الفَلاةِ تَتَرَاءَى للناسِ، تَتَلَوَّنُ
تَلَوُّنًا في صُوَرٍ شَتَّى وتَغُولُهم؛ أيْ: تُضِلُّهُم عن الطريقِ
وتُهْلِكُهم، فنَفاهُ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
وأَبْطَلَهُ).
فإنْ قِيلَ: ما معنَى النفيِ، وقدْ قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا تَغَوَّلَتِ الغِيلاَنُ فَبَادِرُوا بِالأَذَانِ))؟
قالَ:((الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ)).
قولُهُ: ((وَيُعْجِبُنِي الفَأْلُ)) قالَ أبو السَّعَادَاتِ: (الفَأْلُ،
مَهموزٌ فيما يَسُرُّ ويَسوءُ، والطِّيَرَةُ لا تَكونُ إلاَّ فيما يَسوءُ،
ورُبَّما اسْتُعْمِلَتْ فيما يَسُرُّ، يُقالُ: تَفَاءَلْتُ بكذا
وتَفَاوَلْتُ، علَى التخفيفِ والقَلْبِ؛ ولقدْ أُولِعَ الناسُ بتَرْكِ
الهمزةِ تَخفيفًا، وإنما أَحَبَّ الفألَ؛ لأنَّ الناسَ إذا أَمَّلُوا
فائدةَ اللهِ ورَجَوْا عائِدَتَهُ عندَ كلِّ سببٍ ضَعيفٍ أوْ قَوِيٍّ
فَهُمْ علَى خَيرٍ، وإذا قَطَعُوا آمَالَهُم ورَجَاءَهم مِن اللهِ تعالَى
كان ذلكَ مِن الشرِّ).
والتَّفَاؤُلُ:
قالَ: ((الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ)).
قولُهُ: (قالُوا: وَما الفَأْلُ؟ قالَ: ((الكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ)) ) بَيَّنَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الفَأْلَ يُعْجِبُهُ، فدَلَّ علَى أنَّهُ ليسَ من الطِّيَرَةِ الْمَنْهِيِّ عنها.
قالَ ابنُ الْقَيِّمِ: (ليسَ
في الإِعجابِ بالْفَأْلِ ومَحَبَّتِهِ شيءٌ من الشِّرْكِ، بلْ ذلكَ إبانةٌ
عنْ مُقْتَضَى الطَّبيعةِ ومُوجَبِ الْفِطْرَةِ الإنسانيَّةِ التي تَمِيلُ
إلَى ما يُوافِقُها ويُلائِمُها، كما أَخْبَرَهم صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ أنَّهُ حُبِّبَ إليهِ من الدنيا النساءُ والطِّيبُ، وكان يُحِبُّ
الْحَلْواءَ والعَسَلَ، ويُحِبُّ حُسْنَ الصوتِ بالقرآنِ والأذانِ
ويَستمِعُ إليهِ، ويُحِبُّ مَعالِيَ الأخلاقِ ومَكارِمَ الشِّيَمِ.
وبالجُملةِ: يُحِبُّ كلَّ كَمالٍ وخَيرٍ وما يُفْضِي إليهما، واللهُ
سُبحانَهُ قدْ جَعَلَ في غَرائزِ الناسِ الإِعجابَ بسَماعِ الاسْمِ
الْحَسَنِ ومَحَبَّتَهُ، ومَيْلَ نُفوسِهم إليهِ، وكذلكَ جَعَلَ فيها
الارتياحَ والاستبشارَ والسرورَ باسمِ: الفَلاحِ، والسلامِ، والنجاحِ،
والتَّهنئةِ، والبُشْرَى، والفَوْزِ، والظَّفَرِ، ونحوِ ذلكَ، فإذا
قَرَعَتْ هذه الأسماءُ الأسماعَ اسْتَبْشَرَتْ بها النفسُ، وانْشَرَحَ لها
الصَّدْرُ، وقَوِيَ بها القلْبُ، وإذا سَمِعَتْ أَضَّدادَها أَوْجَبَ لها
ضِدَّ هذه الحالِ، فأَحْزَنَها ذلكَ، وأَثارَ لها خَوْفًا وطِيَرَةً
وانْكِمَاشًا وانقباضًا عما قَصَدَتْ لهُ وعَزَمَتْ عليهِ؛ فأَوْرَثَ لها
ضَرَرًا في الدنيا، ونَقْصًا في الإِيمانِ، ومُقَارَفَةَ الشرْكِ).
واخْتُلِفَ في صُحْبَتِهِ، فقالَ الْبَاوَرْدِيُّ: (لهُ صُحبةٌ) وذَكَرَهُ ابنُ حِبَّانَ في ثِقاتِ التابعينَ، وقالَ الْمِزِّيُّ: (لا صُحبةَ لهُ تَصِحُّ).
قولُهُ: (فَقالَ: ((أحْسَنُها الفَأْلُ)))قدْ تَقَدَّمَ أنَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كان يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ، ورَوَى التِّرمِذِيُّ وصَحَّحَهُ عنْ أَنَسٍ: ((أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ إِذَا خَرَجَ لِحَاجَتِهِ يُحِبُّ أَنْ يَسْمَعَ: يَا نَجِيحُ، يَا رَاشِدُ)).
ورَوَى أبو دَاوُدَ عنْ بُرَيْدَةَ: ((أَنَّ
النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ لاَ يَتَطَيَّرُ مِنْ
شَيْءٍ، وَكَانَ إِذَا بَعَثَ عَامِلاً سَأَلَ عَنِ اسْمِهِ فَإِذَا
أَعْجَبَهُ فَرِحَ بِهِ، وَإِنْ كَرِهَ اسْمَهُ رُؤِيَ كَرَاهِيَةُ ذَلِكَ
فِي وَجْهِهِ)) وإسنادُهُ حَسَنٌ، وهذا فيهِ استعمالُ الْفَأْلِ.
قالَ ابنُ الْقَيِّمِ: (أَخْبَرَ
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ الفَأْلَ من الطِّيَرَةِ وهوَ
خَيْرُها، فأَبْطَلَ الطِّيَرَةَ، وأَخْبَرَ أنَّ الفَأْلَ منها ولَكِنَّهُ
خَيْرٌ منها، ففَصَلَ بينَ الفألِ والطِّيَرَةِ؛ لِمَا بَيْنَهما من
الامتيازِ والتَّضَادِّ، ونَفْعِ أحَدِهما ومَضَرَّةِ الآخَرِ، ونَظيرُ
هذا: مَنْعُهُ من الرُّقَى بالشرْكِ وإذْنُهُ في الرُّقْيَةِ إذا لم يَكُنْ
فيها شِرْكٌ؛ لِمَا فيها من الْمَنفعةِ الخاليَةِ من الْمَفْسَدَةِ).
قولُهُ: ((وَلاَ تَرُدُّ مُسْلِمًا)) قالَ الطِّيبيُّ: (تَعْرِيضٌ بأنَّ الكافرَ بخِلافِهِ).
قولُهُ: ((اللهُمَّ لاَ يَأْتِي بِالحسَناتِ إِلاَّ أَنْتَ، ولا يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إِلاَّ أَنْتَ))
أيْ: لا تأتي الطِّيَرَةُ بالحَسناتِ ولا تَدْفَعُ المكروهاتِ، بلْ أنتَ
وَحْدَكَ لا شَريكَ لكَ الذي تَأْتِي بالْحَسناتِ، وتَدْفَعُ
السَّيِّئَاتِ، [و ((الْحَسَناتُ)) هنا: النِّعَمُ، و((السَّيِّئَاتُ)): الْمَصائِبُ، كقولِهِ تعالَى: {وَإِنْ
تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَـذِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ وَإِنْ
تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَـذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ
عِنْدِ اللهِ فَمَا لِهَـؤُلاَءِ الْقَوْمِ لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ
حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ
مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}[النساء: 78 - 79] ].
قولُهُ: ((وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ))
استعانَةٌ باللهِ تعالَى علَى فِعْلِ التَّوَكُّلِ، وعَدَمِ الالتفاتِ
إلَى الطِّيَرَةِ التي قدْ تَكونُ سَببًا لوُقوعِ الْمَكْرُوهِ عُقوبةً
لفَاعِلِها، وذلكَ الدعاءُ إنَّمَا يَصْدُرُ عنْ حقيقةِ التَّوَكُّلِ الذي
هوَ أَقْوَى الأسبابِ في جَلْبِ الْخَيْرَاتِ ودَفْعِ الْمَكْرُوهَاتِ.
والْحَوْلُ والتَّحَوُّلُ: الانتقالُ منْ حالٍ إلَى حالٍ، و(الْقُوَّةُ) علَى ذلكَ باللهِ وَحْدَهُ.
ورواهُ ابنُ مَاجَه وابنُ حِبَّانَ، ولفْظُ أبي دَاوُدَ: ((الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ))ثَلاثًا، وهذا صَريحٌ في تَحريمِ الطِّيَرَةِ، وأنَّها من الشِّرْكِ؛ لِمَا فيها منْ تَعَلُّقِ الْقَلْبِ علَى غيرِ اللهِ تعالَى.
قالَ ابنُ حَمْدَانَ: (تُكْرَهُ الطِّيَرَةُ، وكذا قالَ غيرُهُ منْ أصحابِ أَحْمَدَ).
قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: (والأَوْلَى القَطْعُ بتَحريمِها؛ لأنَّها شِرْكٌ، وكيفَ يَكونُ الشِّرْكُ مَكروهًا الكراهةَ الاصطلاحِيَّةَ؟).
قولُهُ: ((وَمَا مِنَّا إِلاَّ)) قالَ أبو القاسِمِ الأصبهانيُّ، والْمُنْذِرِيُّ: (في الحديثِ إضمارٌ، التقديرُ: وما مِنَّا إلاَّ وقدْ وَقَعَ في قلبِهِ شيءٌ منْ ذلكَ) انتهَى.
وقالَ الخَلْخَالِيُّ: (حَذَفَ الْمُسْتَثْنَى لِمَا يَتَضَمَّنُهُ من الحالةِ الْمَكروهةِ؛ وهذا منْ أَدَبِ الكلامِ).
قولُهُ: ((وَلكِنَّ اللهَ يُذهِبُهُ بِالتَّوَكُّلِ))
أيْ: لكن لَمَّا تَوَكَّلْنا علَى اللهِ في جَلْبِ النَّفْعِ أودَفْعِ
الضُّرِّ أَذْهَبَهُ اللهُ عَنَّا بتَوَكُّلِنا عليهِ وَحْدَهُ.
قولُهُ: ((وَجَعَلَ آخِرَهُ مِنْ قَوْلِ ابنِ مَسْعودٍ)) قالَ ابنُ القَيِّمِ: (وهوَ الصوابِ؛ فإنَّ الطِّيَرَةَ نوعٌ من الشِّرْكِ).
قالَ: ((أَنْ تَقُولَ: اللهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ، وَلا طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ)).
قولُهُ: (مِنْ حَدِيثِ ابنِ عَمْرٍو) هوَ عبدُ اللهِ بنُ عمرِو بنِ العاصِ بنِ وائلٍ السَّهْمِيُّ أبو مُحَمَّدٍ. وقيلَ: أبو عبدِ الرحمنِ، أَحَدُ
السابِقينَ الْمُكْثِرِينَ من الصحابةِ، وأَحَدُ العَبَادِلَةِ
الفُقَهَاءِ، ماتَ في ذي الْحِجَّةِ ليالي الْحَرَّةِ - علَى الأَصَحِّ -
بالطائفِ.
قولُهُ: ((مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حاجَتِهِ فَقَدْ أَشْرَكَ))
وذلكَ أنَّ الطِّيَرَةَ هيَ التشاؤُمُ بالشيءِ الْمَرْئِيِّ أو المسموعِ،
فإذا رَدَّهُ شيءٌ منْ ذلكَ عنْ حَاجَتِهِ التي عَزَمَ عليها كإرادةِ
السَّفَرِ ونحوِهِ فمَنَعَهُ عمَّا أرادَهُ وسَعَى فيهِ ما رأَى وما سَمِعَ
تَشاؤمًا، فقدْ دَخَلَ في الشِّرْكِ، كما تَقَدَّمَ، فلَمْ يُخْلِصْ
تَوَكُّلَهُ علَى اللهِ بالْتفاتِهِ إلَى ما سِواهُ، فيكونُ للشيطانِ منهُ
نَصيبٌ.
قولُهُ: ((فَما كَفَّارَةُ ذلِكَ؟))
إلَى آخِرِهِ، فإذا قالَ ذلكَ وأَعْرَضَ عمَّا وَقَعَ في قَلْبِهِ ولم
يَلتَفِتْ إليهِ، كَفَّرَ اللهُ عنه ما وَقَعَ في قَلْبِهِ ابتداءً؛
لزَوالِهِ عنْ قَلْبِهِ بهذا الدُّعاءِ الْمُتَضَمِّنِ للاعتمادِ علَى
اللهِ وَحدَهُ، والإعراضِ عمَّا سِوَاهُ.
وتَضَمَّنَ الحديثُ: أنَّ
الطِّيَرَةَ لا تَضُرُّ مَنْ كَرِهَها ومَضَى في طريقِهِ، وأَمَّا مَنْ لم
يُخْلِصْ تَوَكُّلَهُ علَى اللهِ واسْتَرْسَلَ معَ الشيطانِ في ذلكَ، فقدْ
يُعاقَبُ بالوقوعِ فيما يَكْرَهُ؛ لأنَّهُ أَعْرَضَ عنْ واجبِ الإيمانِ
باللهِ، وأنَّ الخيرَ كُلَّهُ بيدِهِ، فهوَ الذي يَجْلِبُهُ لعَبْدِهِ
بمشيئتِهِ وإرادتِهِ، وهوَ الذي يَدْفَعُ عنه الضُّرَّ وَحْدَهُ بقُدرتِهِ
ولُطْفِهِ وإحسانِهِ، فلا خَيرَ إلاَّ منهُ، وهوَ الذي يَدفَعُ الشرَّ عنْ
عَبْدِهِ، فما أَصابَهُ منْ ذلكَ فبِذَنْبِهِ، كما قالَ تعالَى: {مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ}[النساء:79].
هذا الحديثُ عندَ الإمامِ أحمدَ منْ حديثِ الْفَضْلِ بنِ عَبَّاسٍ
قالَ: خَرَجْتُ معَ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يَوْمًا، فَبَرَحَ ظَبْيٌ، فَمَالَ فِي شِقِّهِ فَاحْتَضَنْتُهُ، فَقُلْتُ:
يَا رَسولَ اللهِ، تَطَيَّرْتُ، فَقالَ: ((إِنَّمَا الطِّيرَةُ مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ))وفي إسنادِهِ انقطاعٌ؛ أيْ: بينَ مَسْلَمَةَ رَاوِيهِ وبينَ الْفَضْلِ، وهوَ الْفَضْلُ بنُ العَبَّاسِ بنِ عبدِ الْمُطَّلِبِ ابنِ عمِّ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ ابنُ مَعينٍ: (قُتِلَ يومَ اليَرْمُوكِ).
وقالَ غيرُهُ: (قُتِلَ يومَ مَرْجِ الصُّفَّرِ، سنةَ ثلاثَ عشرةَ وهوَ ابنُ اثنتينِ وعشرينَ سَنَةً).
وقالَ أبو دَاوُدَ: (قُتِلَ بدِمَشْقَ، كان عليهِ دِرْعُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ).
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((1)
وهو التشاؤمُ بالطيورِ، والأسماءِ، والألفاظِ، والبقاعِ، وغيرِها، فنهى الشارعُ عن التَّطَيُّرِ، وذَمَّ المُتَطَيِّرين، وكان يحبُّ الفَأْلَ ويَكرهُ الطِّيَرةَ. وَصِفَةُ ذلك: أن
يَعْزِمَ العبدُ على سفرٍ، أو زواجٍ، أو عقدٍ من العقودِ، أو على حالةٍ من
الأحوالِ المهمةِ، ثم يرى في تلك الحالِ ما يَسُرَُّه أو يسمعَ كلامًاً
يَسُرُّه مثلَ: يا راشدُ، أو: سالمُ، أو: غانمُ، فيتفاءلُ ويزدادُ طمعُه في
تيسيرِ ذلك الأمرِ الذي عَزمَ عليه، فهذا كلُّه خيرٌ وآثارُه خيرٌ، وليس
فيه من المحاذيرِ شيءٌ. وأما الطِّيَرةُ: فإنه إذا عزَمَ على فعلِ شيءٍ مِن ذلك مِن الأمورِ النافعةِ في الدينِ أو في الدنيا، فيرى أو يسمعُ ما يَكْرَهُ أَثَّر في قلبِه أحدُ أمريْن؛ أحدُهما أعظمُ مِن الآخرِ. أحدُهما: أن يستجيبَ لذلك الداعي فيترُكَ ما كان عازمًاً على فِعْلِهِ أو
بالعكسِ، فيَتَطَيَّرَ بذلك وَيَنْكُصَ عن الأمرِ الذي كان عازمًاً عليه،
فهذا كما ترى قد علَّقَ قلبَه بذلك المكروهِ غايةَ التعليقِ وعمِلَ عليه،
وَتَصَرَّف ذلك المكروهُ في إرادتِهِ وعزمِه وعملِه، فلا شكَّ أنه على هذا
الوجهِ أَثَّر على إيمانِه وَأَخَلَّ بتوحيدِه وتوكُّلِه، ثم بعدَ هذا لا
تسأل عما سيُحْدِثُه له هذا الأمرُ من ضعفِ القلبِ وَوَهَنِه وخوفِه من
المخلوقين وتعلُّقِه بالأسبابِ وبأمورٍ ليستْ أسبابًاً، وانقطاعِ قلبهِ من
تعلقِه باللهِ، وهذا مِن ضعفِ التوحيدِ والتوكُّلِ، ومن طرقِ الشركِ
ووسائلِه، ومن الخرافاتِ المفسدةِ للعقلِ. الأمرُ الثاني: أن لا يستجيبَ لذلك الداعي ولكنَّه
يؤثِّرُ في قلبِه حزنًاً وهَمًّا وغمًّا، فهذا وإن كانَ دونَ الأولِ
لكنَّه شرٌّ وضررٌ على العبدِ، وضعفٌ لقلبِهِ وَمُوهِنٌ لِتَوَكُّلِه،
وربما أصابَه مكروهٌ فظنَّ أنه من ذلك الأمرِ، فَقَوِيَ تَطَيُّرُه، وربما
تدرَّج به إلى الأمرِ الأولِ. وينبغي لمن وَجد شيئًاً من ذلك وخاف أن تغلبَه الدواعي الطبيعيةُ، أن يجاهدَ نفسَه على دفعِها ويستعينَ باللهِ على ذلك، ولا يركنَ إليها بوجهٍ؛ ليندفعَ الشرُّ عنه.
والفرقُ بينَهما: أن الفألَ الحسنَ لا يدخلُ بعقيدةِ الإِنسانِ ولا بعقلِه، وليس فيه تعليقُ القلبِ بغيرِ اللهِ، بل فيه من المصلحةِ النشاطُ والسرورُ وتقويةُ النفوسِ على المطالبِ النافعةِ.
فهذا التفصيلُ يبيِّنُ لك وجهَ كراهةِ الشارعِ للطيرةِ وذَمِّها ووجهَ منافاتِها للتوحيدِ والتوكلِ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ((1)
قال في (فتح المجيد) ص345: (ما
كانت الطيرة من الشرك المنافي لكمال التوحيد الواجب، لكونها من إلقاء
الشيطان وتخويفه ووسوسته ـ ذكرها المصنف في (كتاب التوحيد) تحذيراً مما
ينافي كمال التوحيد الواجب) .
والتَّطَيُّرِ في اللُّغَةِ:
تَفَعُّلٌ، مصدرُ تَطَيَّرَ، وأصلُهُ مأخوذٌ مِن الطَّيْرِ؛ لأنَّ العربَ
يتشاءمونَ أوْ يتفاءلونَ بالطيورِ على الطريقةِ المعروفةِ عندَهم بزَجْرِ
الطيرِ، ثمَّ يُنْظَرُ هَلْ يذهبُ يمينًا أوْ شمالاً، أوْ ما أشَبْهَ
ذلِكَ، فإنْ ذهبَ إلى الجهةِ التي فيها التيامُنُ أقْدَمَ، أوْ فيها
التشاؤمُ أحجمَ.
أمَّا في الاصطلاحِ: فهيَ التشاؤمُ بمَرْئِيٍّ أوْ مسموعٍ،
وهذا مِن الأمورِ النادرةِ؛ لأنَّ الغالبَ أنَّ اللغةَ أوسعُ مِن
الاصطلاحِ؛ فالاصطلاحَ يُدْخِلُ على الألفاظِ قيودًا تخصُّها مثلَ: الصلاةُ لغةً: الدعاءُ. فالمرئيّ مثلَ: لوْ رأى طيرًا فتشاءمَ لكونِهِ مُوحِشًا. والمسموعٍ مثلَ: مَنْ هَمَّ بأمرٍ فسمِعَ أحدًا يقولُ لآخرَ: يا خسرانُ، أوْ يا خائبُ، فيتشاءمُ. والمعلومٍ: كالتشاؤمِ ببعضِ الأيَّامِ أوْ بعضِ الشهورِ أوْ بعضِ السنواتِ، فهذهِ لا تُرى ولا تُسْمَعُ. واعلمْ أنَّ التَّطَيُّرَ يُنَافِي التوحيدَ، ووَجْهُ مُنَافاتِهِ لهُ منْ وجهيْنِ: الأوَّلُ: أنَّ المُتَطَيِّرَ قطعَ توكُّلَهُ على اللهِ واعتمدَ على غَيْرِ اللهِ. الأوَّلُ: أنْ يُحْجِمَ ويستجيبَ لهذهِ الطِّيَرَةِ ويدَعَ العملَ، وهذا مِنْ أعظمِ التَّطَيُّرِ والتشاؤمِ. (2) قولُهُ تعالى: {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} هذهِ الآيةُ نَزَلَتْ في قومِ موسى كما حكى اللهُ عنهم في قوْلِهِ: {وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ}، قالَ اللهُ تعالى: {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ}. (3) قولُهُ تعالى: {قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أيْ: قالَ الذينَ أُرْسِلُوا إلى القريةِ في قولِهِ تعالى: {وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحَابَ القَرْيَةِ} الآياتِ، فقالوا ذلكَ رَدًّا على قولِ أهلِ القريةِ: {إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ}
أيْ: تشاءَمْنا بِكُمْ، وإنَّنا لا نرى أنَّكُم تَدُلُّونَنَا على الخيرِ،
بَلْ على الشرِّ وما فيهِ هلاكُنا، فأجابهم الرسلُ بقوْلِهِم: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} أيْ: مُصَاحِبٌ لَكُمْ، فما يحْصُلُ لَكُمْ فإنَّهُ مِنْكُم ومِنْ أعمالِكُم. (4) قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لاَ عَدْوَى))لا نافيةٌ للجنسِ، فَنَفَى الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ العدوى كُلَّها. والعدوى: انتقالُ المرضِ مِن المريضِ إلى الصحيحِ. الأوَّلُ: أنَّها طَيْرٌ معروفٌ يُشْبِهُ البومةَ، أوْ
هيَ البُومَةُ، تَزْعُمُ العربُ أنَّهُ إذا قُتِلَ القتيلُ صارتْ عظامُهُ
هامَةً تطيرُ وتَصْرُخُ حتَّى يُؤْخَذَ بثأرِهِ، ورُبَّما اعتقدَ بعضُهم
أنَّها رُوحُهُ. قيلَ: إنَّهُ شهرُ صَفَرٍ، كانَت العربُ يتشاءمونَ بهِ، ولا سيَّمَا في النكاحِ. وقيلَ: إنَّهُ نَهْيٌ عَن النَّسِيئَةِ،
وكانوا في الجاهليَّةِ يَنْسِئُونَ؛ فإذا أرادوا القتالَ في شهرِ
المحرَّمِ استحلُّوهُ وأخَّروا الحُرْمَةَ إلى شهرِ صَفَرٍ، وهذهِ النسيئةُ
التي ذكَرَها اللهُ بقولِهِ تعالى: {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللهُ} وهذا القولُ ضعيفٌ، ويُضَعِّفُهُ
أنَّ الحديثَ في سياقِ التَّطَيُّرِ، ولَيْسَ في سياقِ التغييرِ، والأقربُ
أنَّ صَفَرًا يعني الشهرَ، وأنَّ المُرَادَ نفيُ كوْنِهِ مشْئُومًا، أيْ:
لا شُؤْمَ فيهِ، وهوَ كغيْرِهِ من الأزمانِ يُقَدَّرُ فيهِ الخيرُ،
ويُقَدَّرُ فيهِ الشرُّ. وهذا النفيُ في هذهِ الأمورِ الأربعةِ ليسَ نفيًا للوجودِ؛
لأنَّها موجودةٌ، ولكنَّهُ نفيٌ للتأثيرِ، فالمُؤَثِّرُ هوَ اللهُ، فما
كانَ سببًا معلومًا فهوَ سببٌ صحيحٌ، وما كانَ منها سببًا مَوْهُومًا فهوَ
سببٌ باطلٌ، ويكونُ نفيًا لتأثيرِهِ بنفسِهِ إنْ كانَ صحيحًا، ولكَوْنِهِ
سببًا إنْ كانَ باطلاً. فإنْ قيلَ: إنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لمَّا قالَ: ((لا عَدْوى)) قالَ رجلٌ: يا
رسولَ اللهِ، الإبِلُ تكونُ صحيحةً مثلَ الظِّبَاءِ فيَدْخُلُها الجملُ
الأجْرَبُ فتَجْرَبُ؟ فقالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ؟)). يعني: أنَّ
المرضَ نَزلَ على الأوَّلِ بدونِ عدْوَى، بَلْ نزلَ منْ عندِ اللهِ عزَّ
وجلَّ، فكذلِكَ إذا انتقلَ بالعدوى فَقَد انتقلَ بأمرِ اللهِ، والشيءُ قَدْ
يكونُ لهُ سببٌ معلومٌ وقدْ لا يكونُ لهُ سببٌ معلومٌ، فجَرَبُ الأوَّلِ
ليسَ سببُهُ معلومًا، إلاَّ أنَّهُ بتقديرِ اللهِ تعالى، وجَرَبُ الذي
بعدَهُ لهُ سببٌ معلومٌ، لكنْ لوْ شاءَ اللهُ تعالى لمْ يَجْرَبْ، ولهذا
أحيانًا تُصَابُ الإِبِلُ بالجَرَبِ، ثمَّ يرتفعُ ولا تموتُ، وكذلِكَ الطاعونُ وَالْكُولِيرَا أمراضٌ مُعْدِيَةٌ، وقدْ تدخلُ البيتَ فتُصِيبُ البعضَ فيموتونَ ويَسْلَمُ آخرونَ ولا يُصَابونَ. فعلى الإنسانِ أنْ يعتمدَ على اللهِ ويتوكَّلَ عليهِ، وقدْ رُوِيَ: ((أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ جاءهُ رجلٌ مجذومٌ؛ فأخذَ بيدِهِ وقالَ لهُ:((كُلْ))مِن الطَّعامِ الذي كانَ يأكُلُ منهُ رسولُ اللهِ صلى الله عليهِ وسلَّمَ لقُوَّةِ توَكُّلِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ)) فهذا التَّوَكُّلُ مُقَاوِمٌ لهذا السببِ المُعْدِي. وادَّعى بعضُهم النَّسْخَ: فَمِنْهُمْ مَنْ قالَ: إنَّ الناسِخَ قولُهُ:((لاَ عَدْوَى)). - وبعضُهم عَكَسَ، والصحيحُ أنَّهُ لا نَسْخَ؛
لأنَّ مِنْ شروطِ النسخِ تعَذُّرَ الجمعِ، وإذا أمْكَنَ الجمعُ وجَبَ
الرجوعُ إليهِ؛ لأنَّ في الجمعِ إعمالَ الدليلَيْنِ، وفي النسخِ إبطالَ
أحدِهما، وإعمالُهما أَوْلى مِنْ إبطالِ أحدِهما؛ لأنَّنا اعتبرْنَاهُما
وجعَلْناهُما حُجَّةً، وأيضًا الواقعُ يشهدُ أنَّهُ لا نَسْخَ. إمَّا أنْ يستجيبَ لها: بأنْ يُقْدِمَ أوْ يُحْجِمَ أوْ ما أشَبْهَ ذلِكَ، فيكونُ حينئذٍ قدْ علَّقَ أفعالَهُ بما لا حقيقةَ لهُ، ولا أصْلَ لهُ، وهو نوعٌ من الشركِ. فالحاصلُ أنَّنا نقولُ: لا تجعلْ على بالِكَ مثلَ هذهِ الأمورِ إطلاقًا،
فالأسبابُ المعلومةُ الظاهرةُ تَقِي أسبابَ الشرِّ، وأمَّا الأسبابُ
المَوْهُومَةُ التي لمْ يجْعَلْها الشرعُ سببًا بَلْ نفاها، فلا يجوزُ لَكَ
أنْ تتَعَلَّقَ بها، بلِ احْمَدِ اللهَ على العافيةِ، وقُلْ ربَّنا عليكَ
توَكَّلْنا. وظاهرُ الحديثِ: الكلمةُ الطيِّبَةُ في كلِّ شيءٍ؛
لأنَّ الكلمةَ الطَّيِّبَةَ في الحقيقةِ تفتحُ القلبَ وتكونُ سببًا
لخيراتٍ كثيرةٍ، حتَّى إنَّها تُدْخِلُ المرءَ في جُمْلَةِ ذَوِي الأخلاقِ
الحسنةِ.
وفي الاصطلاحِ: أخصُّ مِن الدعاءِ، وكذلِكَ الزكاةُ وغيرُها.
وإنْ شِئْتَ فقُل: التطَيُّرُ: هوَ التشاؤمُ بمَرْئِيٍّ أوْ مسموعٍ أوْ معلومٍ.
الثاني: أنَّهُ تعَلَّقَ بأمرٍ لا حقيقةَ لهُ،
بلْ هوَ وهمٌ وتخييلٌ، فأيُّ رابطةٍ بينَ هذا الأمرِ وبينَ ما يحْصُلُ
لَهُ، وهذا لا شكَّ أنَّهُ يُخِلُّ بالتوحيدِ؛ لأنَّ التوحيدَ عبادةٌ
واستعانةٌ، قالَ تعالى: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، وقالَ تعالى: {فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ}، فالطِّيَرَةُ مُحَرَّمَةٌ، وهيَ منافيةٌ للتوحيدِ كَمَا سَبَقَ، والمُتَطَيِّرُ لا يخْلُو مِنْ حالَيْنِ:
الثاني: أنْ يمضيَ لكنْ في قَلَقٍ وهمٍّ وغمٍّ يَخْشَى مِنْ تأثيرِ هذا المتطيَّرِ بِهِ، وهذا أهونُ.
وكلا الأمرَيْنِ نقصٌ في التوحيدِ وضررٌ على العبيدِ، بَل انْطَلِقْ إلى ما
تُرِيدُ بانشراحِ صدرٍ وتيسيرٍ واعتمادٍ على اللهِ عزَّ وجلَّ، ولا تُسِئ
الظنَّ باللهِ عزَّ وجلَّ.
ومعنى {يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ} أنَّهُ إذا جاءَهُم البلاءُ والجَدْبُ والقحطُ قالوا: هذا مِنْ موسى وأصحابِهِ، فأبطلَ اللهُ هذهِ العقيدةَ بقولِهِ: {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ}.
قولُهُ: {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} المعنى: إنَّ ما يُصِيبُهم مِن الجدبِ والقحطِ لَيْسِ مِنْ موسى وقومِهِ، ولكنَّهُ مِن اللهِ، فهوَ الذي قدَّرَهُ، ولا علاقةَ لموسى
وقومِهِ بِهِ، بَلْ إنَّ الأمرَ يقتضي أنَّ موسى وقومَهُ سببٌ للبركةِ
والخيرِ، ولكنْ هؤلاءِ والعياذُ يُلَبِّسونَ على العوامِّ ويُوهِمُونَ
الناسَ خلافَ الواقعِ.
قولُهُ: {وَلَـكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} فَهُم في جهلٍ فلا يعلمونَ أنَّ هناكَ إلهًا مُدَبِّرًا، وأنَّ ما أصابَهم مِن اللهِ، ولَيْسَ مِنْ موسى وقومِهِ.
ويُسْتَفَادُ مِن الآيتيْنِ المذكورتيْنِ في البابِ: أنَّ التَّطَيُّرَ
كانَ معروفًا مِنْ قِبَلِ العربِ وفي غَيْرِ العربِ؛ لأنَّ الأولى في فرعونَ وقومِهِ، والثانيةَ في أصحابِ القريةِ.
- وقولُهُ: {أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ} ينبغِي أنْ تَقِفَ علىقولِهِ: {ذُكِّرْتُمْ} لأنَّها جملةٌ شرطيَّةٌ، وجوابُ الشرطِ محذوفٌ تقديرُهُ: أئِنْ ذُكِّرْتُمْ تطيَّرْتُم، وعلى هذا فلا تَصِلْها بما بعدَها.
- وقولُهُ: {بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ}، {بَلْ} هنا للإضرابِ الإبطالِيِّ، أيْ: ما أصابَكُم لَيْسَ مِنْهُم، بَلْ هُوَ منْ إسرافِكُم.
- وقولُهُ: {مُسْرِفُونَ} أيْ: متجاوزونَ للحدِّ الذي يجبُ أنْ تكونوا عليهِ.
فقولُهُ: ((لا عَدْوَى)) يشملُ الحسِّيَّةَ والمعنوِيَّةَ، وإنْ كانَتْ في الحسِّيَّةِ أظهرَ.
قولُهُ: ((وَلاَ طِيَرَةَ)) اسمُ مصدرِ تَطَيَّرَ؛ لأنَّ المصدرَ منهُ (تَطَيُّرٌ) مثلُ الْخِيَرَةِ اسمُ مصدرِ اخْتَارَ، قالَ تعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ} أي: الاختيارُ، أيْ: أنْ يختاروا خلافَ ما قضَى اللهُ ورسولُهُ من الأمرِ.
قولُهُ: ((وَلاَ هَامَةَ)) الهامَةُ بتخفيفِ الميمِ، فُسِّرَتْ بتفسيريْنِ:
التفسيرُ الثاني: أنَّ بعضَ العربِ يقولونَ: الهامَةُ هيَ الطيرُ المعروفُ،
لكنَّهُم يتشاءمونَ بِها، فإذا وقَعَتْ على بيتِ أحدِهِم ونعَقَتْ قالُوا:
إنَّها تَنْعِقُ بهِ ليمُوتَ، ويعتقدونَ أنَّ هذا دليلُ قُرْبِ أجلِهِ،
وهذا كلُّهُ بلا شكٍّ عقيدةٌ باطلةٌ.
قولُهُ: ((ولا صَفَرَ)).
وقيلَ: إنَّهُ داءٌ في البطنِ يُصِيبُ الإِبِلَ وينتقلُ مِنْ بعيرٍ إلى آخرَ.
قال ابن الأثير: (يقصد
بذلك حبة تقع في بطن الإنسان، تؤذيه عند الجوع، فكان الجاهليون يعتقدون
ذلك ويخشونه، ويظنون أن المرء إذا وقعت في بطنه تلك الحبة عند الجوع، فإن
عدواه عظيمة فتنتقل إلى غيره) .
وعلى هذا فيكونُ عطْفُهُ على العدوى مِنْ بابِ عطفِ الخاصِّ على العامِّ.
فقولُهُ: ((لا عَدْوى)) العدوى موجودةٌ، ويَدُلُّ لوجودِها قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لاَ يُورِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)) أيْ: لا يُورِدُ صاحبُ الإبِلِ المريضةِ على صاحبِ الإبلِ الصحيحةِ؛ لِئَلاَّ تَنْتَقِلَ العدوى.
وقولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ فِرَارَكَ مِنَ الأَسَدِ))والجُذَامُ مَرَضٌ خبيثٌ مُعْدٍ بسرعةٍ ويُتْلِفُ صاحبَهُ، حتَّى قيلَ: إنَّهُ الطاعونُ.
فالأمرُ بالفرارِ؛
لكَيْ لا تقعَ العدوى مِنْهُ إِليكَ، وفيهِ إثباتٌ لتأثيرِ العدوى، لكنَّ
تأثيرَها لَيْسَ أمرًا حَتْمِيًّا بحيثُ تكونُ عِلَّةً فاعلةً، وأمْرُ
النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بالفرارِ وأنْ لا يُورِدَ مُمْرِضٌ على
مُصِحٍّ مِنْ بابِ تجَنُّبِ الأسبابِ، لا مِنْ بابِ تأثيرِ الأسبابِ
بنفسِها، فالأسبابُ لا تُؤَثِّرُ بنفسِها، لكنْ ينبغِي لنا أنْ نتجَنَّبَ
الأسبابَ التي تكونُ سببًا للبلاءِ؛ لقولِهِ تعالى: {وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ}
ولا يُمْكِنْ أنْ يُقالَ: إنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
يُنْكِرُ تأثيرَ العدوى؛ لأنَّ هذا أمْرٌ تُبْطِلُهُ الأحاديثُ الأخرى
والواقعُ المشاهد.
وهذا الجمعُ الذي أشَرْنا إليهِ هوَ أحسنُ ما قيلَ في الجمعِ بينَ الأحاديثِ.
والمنسوخَ قولُهُ:((فِرَّ مِنَ الْمَجْذُومِ))، ((وَلاَ يُوْرِدُ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ)).
وقولُهُ:((ولا صَفَرَ))فيهِ ثلاثةُ أقوالٍ سَبَقَتْ، وبيانُ الراجحِ منها.
والأزمنةُ لا دَخْلَ لها في التأثيرِ ولا في تقديرِ اللهِ عزَّ وجلَّ،
فَصَفَرٌ كغيرِهِ مِن الأزمنةِ يُقَدَّرُ فيهِ الخيرُ والشرُّ، وبعضُ
الناسِ إذا انتهى مِنْ شيءٍ في صَفَرٍ أرَّخَ ذلِكَ وقالَ: انتهى في صفرِ
الخيرِ، فهذا مِنْ بابِ مُدَاوَاةِ البدعةِ ببدعةٍ والجهلِ بالجهلِ، فهوَ
ليسَ شهرَ خيرٍ ولا شهرَ شرٍّ.
أمَّا شهرُ رمضانَ، وقوْلُنا: (إنَّهُ شهرُ خيرٍ، فالمرادُ بالخيرِ العبادةُ، ولا شكَّ أنَّهُ شهرُ خيرٍ).
وقولُهم: رجبٌ المُعَظَّمُ، بناءً على أنَّهُ مِن الأشْهُرِ الحُرُمِ.
ولهذا أنكَرَ بعضُ السَلَفِ على مَنْ إذا سَمِعَ البومةَ تَنْعِقُ قالَ:
خيرًا إنْ شاءَ اللهُ، فلا يُقالُ: خيرٌ ولا شرٌّ، بَلْ هيَ تَنْعِقُ
كبقيَّةِ الطيورِ.
فهذهِ الأربعةُ التي نفاها الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ تُبَيِّنُ
وجوبَ التوكُّلِ على اللهِ وصِدْقِ العزيمةِ، ولا يَضْعُفُ المسلمُ أمامَ
هذِهِ الأشياءِ؛ لأنَّ الإنسانَ في هذهِ الأمورِ لا يخْلُو مِنْ حاليْنِ:
وإمَّا أنْ لا يستجيبَ: بأنْ يكونَ عندَهُ نوعٌ مِن التوكُّلِ
ويُقْدِمُ ولا يُبَالِي، لكنْ يبقى في نفسِهِ نوعٌ مِن الهمِّ أو الغمِّ،
وهذا وإنْ كانَ أهونَ مِن الأوَّلِ، لكنْ يَجِبُ ألاَّ يستجيبَ لداعِي هذهِ
الأشياءِ التي نفاها الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مُطْلَقًا، وأنْ
يكونَ معتمدًا على اللهِ عزَّ وجلَّ.
وبعضُ الناسِ قدْ يَفْتَحُ المصحفَ لطلبِ التفاؤلِ؛ فإذا نظَرَ ذِكْرَ
النارِ تشاءمَ، وإذا نَظَرَ ذِكْرَ الجنَّةِ قالَ: هذا فَأْلٌ طَيِّبٌ،
فهذا مِثْلُ عملِ الجاهليَّةِ الذينَ يستقْسِمُونَ بالأَزْلاَمِ.
(5) قولُهُ: ((وَلاَ نَوْءَ)) واحدُ الأنواءِ، والأنواءُ هيَ منازلُ القمرِ، وهيَ ثمانٌ وعشرونَ منزلةً؛ كلُّ منزلةٍ لها نَجْمٌ تدورُ بمدارِ السَّنةِ.
فالعربُ كانوا يتشاءمونَ بالأنواءِ ويتفاءَلُونَ بِها، فبعضُ النجومِ
يقولونَ: هذا نجمُ نَحْسٍ لا خيرَ فيهِ، وبعضُها بالعكسِ يتفاءلونَ بهِ
فيقولونَ: هذا نجمُ سُعُودٍ وخيرٍ؛ ولهذا إذا أُمْطِرُوا قالوا: مُطِرْنَا
بِنَوْءِ كذا، ولا يقولونَ: مُطِرْنا بفضلِ اللهِ ورحمتِهِ، ولا شكَّ أنَّ
هذا غايةُ الجهْلِ.
قولُهُ: ((وَلاَ غُولَ)) جَمْعُ غَوْلَةٍ أوْ غُولَةٍ.
والعربُ كانوا إذا سافَرُوا أوْ ذهَبُوا يمينًا أوشمالاً تلَوَّنَتْ لهم
الشياطينُ بألْوَانٍ مُفْزِعَةٍ مُخِيفةٍ، فتُدْخِلُ في قلوبِهِم الروعَ
والخوفَ، فتجدُهم يكْتَئِبُونَ ويستَحْسِرُونَ عَن الذهابِ إلى هذا الوجهِ
الذي أرادوا، وهذا لا شكَّ أنَّهُ يُضْعِفُ التوَكُّلَ على اللهِ،
والشيطانُ حريصٌ على إدخالِ القلقِ والحزنِ على الإنسانِ بقَدْرِ ما
يستطيعُ، قالَ تعالى: {إِنَّمَا النَّجْوَى مِن الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ}.
وهذا الذي نفاهُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ هوَ تأثيرُها، ولَيْسَ
المقصودُ بالنفيِ نفيَ الوجودِ، وأكثرُ ما يُبْتَلَى الإنسانُ بهذهِ
الأمورِ إذا كانَ قَلْبُهُ مُعَلَّقًا بِها؛ أمَّا إنْ كانَ مُعْتَمِدًا
على اللهِ غيرَ مُبَالٍ بِها، فلا تضرُّهُ ولا تمنعُهُ عَنْ جِهةِ قصْدِهِ.
(6) قولُهُ في حديثِ أنسٍ: ((لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ)) تقدَّمَ الكلامُ على ذلِكَ.
قولُهُ: ((وَيُعْجِبُنِي الْفَأْلُ)) أيْ: يسرُّني، والفألُ بَيَّنَهُ بقولِهِ: ((الْكَلِمَةُ الطَّيِّبَةُ)).
فَـ(الكَلمَةُ الطَّيِّبةُ) تُعْجِبُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ
لِمَا فيها مِنْ إدخالِ السرورِ على النفسِ والانبساطِ، والمضيِّ قُدُمًا
لِمَا يَسعى إليهِ الإنسانُ، ولَيْسَ هذا مِن الطِّيَرَةِ، بَلْ هذا ممَّا
يُشَجِّعُ الإنسانَ؛ لأنَّها لا تُؤَثِّرُ عليهِ بَلْ تَزِيدُهُ
طُمَأْنِينَةً وإقدامًا وإقبالاً.
وهذا الحديثُ جمعَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فيهِ بَيْنَ
مَحْذُورَيْنِ ومرغوبٍ؛ فالمحذورانَ هما العدوى والطِّيَرَةُ، والمرغوبُ
هوَ الفَأْلُ، وهذا مِنْ حُسْنِ تعليمِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
فَمَنْ ذَكَرَ المرهوبَ ينبغِي أنْ يَذْكُرَ معهُ ما يكونُ مرغوبًا، ولهذا
كانَ القرآنُ مثانيَ؛ إذَا ذَكَرَ أوْصافَ المؤمنينَ ذكَرَ أوصافَ
الكافرينَ، وإذا ذكَرَ العقوبةَ ذكَرَ المثوبةَ، وهكذا.
(7) قولُهُ: (عَنْ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ) صوابُهُ عَنْ عُرْوَةَ بنِ عامرٍ، كما ذكَرَهُ في (التَّيْسِيرِ). وقد اخْتُلِفَ في نسبِهِ وصُحْبَتِهِ.
(8) وقولُهُ: ((ذُكِرَت الطِّيَرَةُ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ))
وهذا الذِّكْرُ إمَّا ذِكْرُ شأنِها، أوْ ذِكْرُ أنَّ الناسَ يفعلونَها،
والمرادُ: تحدَّثَ الناسُ بها عندَ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
(9) قولُهُ: ((أَحْسَنُهَا الْفَأْلُ))
سَبَقَ أنَّ الفألَ لَيْسَ مِن الطِّيَرَةِ، لكنَّهُ شبيهٌ بالطِّيَرَةِ
مِنْ حيثُ الإقدامُ، فإنَّهُ يزيدُ الإنسانَ نشاطًا وإقدامًا فيما
تَوَجَّهَ إليهِ، فهوَ يُشْبِهُ الطِّيَرَةَ مِنْ هذا الوجْهِ، وإلاَّ
فبينَهُما فَرْقٌ؛ لأنَّ الطِّيَرَةَ تُوجِبُ تَعَلُّقَ الإنسانِ
بالمُتَطَيَّرِ بهِ، وضَعْفَ تَوَكُّلِهِ على اللهِ، ورُجُوعَهُ عمَّا همَّ
بِهِ مِنْ أجلِ ما رأى، لكنَّ الفألَ يَزِيدُهُ قوَّةً وثباتًا ونشاطًا،
فالشبَهُ بَيْنَهُما هوَ التأثيرُ في كلٍّ منها.
قولُهُ: ((وَلاَ تَرُدُّ مُسْلِمًا)) يُفْهَمُ مِنْهُ أنَّ مَنْ ردَّتْهُ الطِّيَرَةُ عَنْ حاجتِهِ فليسَ بمسلمٍ.
(10) قولُهُ: ((فَإِذَا رَأَى أَحَدُكُمْ مَا يَكْرَهُ))
فحينئذٍ قدْ تَرِدُ على قلْبِهِ الطِّيَرَةُ ويبتعدُ عمَّا يُريدُ ولا
يُقْدِمُ عليهِ، وقدْ ذكَرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ دواءً
لذلِكَ وقالَ: ((فَلْيَقُل: اللهُمَّ لاَ يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ...)) إلخ.
قولُهُ: ((اللهُمَّ لاَ يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلاَّ أَنْتَ)) وهذا هوَ حقيقةُ التَّوَكُّلِ، وقولُهُ: ((اللهمَّ))يعني:
يا اللهُ، ولهذا بُنِيَتْ على الضمِّ؛ لأنَّ المُنَادَى عَلَمٌ؛ بَلْ هوَ
أَعْلَمُ الأعلامِ وأعرفُ المعارفِ على الإطلاقِ، والميمُ عوضٌ عَن الياءِ
المحذوفةِ، وصارَتْ في آخرِ الكلمةِ تبَرُّكًا بالابتداءِ باسمِ اللهِ
سُبْحَانَهُ وتعالى، وصارَتْ ميمًا؛ لأنَّها تدُلُّ على الجمعِ؛ فكأنَّ
الداعيَ جمعَ قلبَهُ على اللهِ.
قولُهُ: ((لاَ يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلاَّ أَنْتَ))
أيْ: لا يُقَدِّرُها ولا يخْلُقُها ولا يُوجِدُها للعَبْدِ إلاَّ اللهُ
وحدَهُ لا شريكَ لهُ، وهذا لا يُنَافِي أنْ تكونَ الحسناتُ بأسبابٍ؛ لأنَّ
خالقَ هذه الأسبابِ هوَ اللهُ، فإذا وُجِدَتْ هذه الحسناتُ بأسبابٍ خلقَها
اللهُ، صارَ المُوجِدُ حقيقةً هوَ اللهَ.
والمرادُ بالحسناتِ: ما يَسْتَحْسِنُ المرءُ وُقُوعَهُ، ويَحْسُنُ في عَيْنِهِ. - وقالَ تعالى في آيةٍ أخرى: {إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا}. - وقالَ تعالى عَنْ أَيُّوبَ: {وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} وهكذا يجبُ أنْ يكونَ المؤمنُ أيضًا. الأوَّلُ: أنَّهُ لا يُوجَدُ حولٌ ولا قوَّةٌ إلاَّ باللهِ،
والباءُ تكونُ بمعنى في، يعني: إلاَّ في اللهِ وحدَهُ، ومَنْ سِوَاهُ
لَيْسَ لهم حولٌ ولا قُوَّةٌ، ويكونُ الحولُ والقُوَّةُ المنفيَّانِ عنْ
غيرِ اللهِ الحولَ المُطْلَقَ والقُوَّةَ المطلقةَ؛ لأنَّ غيرَ اللهِ فيهِ
حولٌ وقُوَّةٌ، لكنَّها نسبيَّةٌ لَيْسَتْ بكاملةٍ. فالحولُ الكاملُ
والقُوَّةُ الكاملةُ في اللهِ وحدَهُ. (11) قولُهُ: (مَرْفُوعًا) أيْ: إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ. وهَل المرادُ بالشركِ هنا الشركُ الأكبرُ المُخْرِجُ عَن الملَّةِ، أوْ أنَّها نوعٌ مِنْ أنواعِ الشركِ؟ نقولُ: هِيَ نوعٌ مِنْ أنواعِ الشركِ كقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((اثْنَتَانِ فِي النَّاسِ هُمَا بِهِمْ كُفْرٌ)) أيْ: لَيْسَ الكفرَ المخرجَ عَن المِلَّةِ، وإلاَّ لقالَ: (هُمَا بِهُم الكُفْرُ) بلْ هيَ أنواعٌ من الكفرِ. وإذا قيلَ: هذا الكفرُ، فهوَ المُخْرِجُ مِن الملَّةِ. والمعنى: ما
مِنَّا إنسانٌ يَسْلَمُ مِن التَّطَيُّرِ، فالإنسانُ يسمعُ شيئًا
فيتشاءمُ، أوْ يبدأُ في فعلٍ فيجدُ أوَّلَهُ لَيْسَ بالسهلِ فيتشاءمُ
ويتركُهُ. والتوكُّلُ: صدقُ
الاعتمادِ على اللهِ في جلْبِ المنافعِ ودَفْعِ المضارِّ، مَعَ الثقةِ
باللهِ وفِعْلِ الأسبابِ التي جعَلَها اللهُ تعالى أسبابًا. فلا يكفِي صدقُ الاعتمادِ فَقَطْ، بَلْ لا بُدَّ أنْ تَثِقَ بِهِ؛ لأنَّهُ سُبحانَهُ يقولُ: {وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}. - وقالَ تعالى: {أَلَمْ
يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا
يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ
يُؤْمِنُونَ}. والمَأْلُوهُ هوَ: المعبودُ مَحَبَّةً وتعظيمًا، يتألَّهُ إليهِ الإنسانُ مَحَبَّةً لهُ وتعظيمًا لهُ. - فإنْ قيلَ: إنَّ هناكَ آلهةً دونَ اللهِ كَمَا قالَ تعالى: {فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مِنْ شَيْءٍ}. - قيل: هي إنَّها وإنْ عُبِدَتْ مِنْ دونِ اللهِ وسُمِّيَتْ آلهةً فليسَتْ آلهةً حقًّا؛ لأنَّها لا تسْتَحِقُّ أنْ تُعْبَدَ؛ فلهذا نقولُ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، أيْ: لا إلهَ حقٌّ إلاَّ اللهُ. الأوَّلُ: أنْ تكونَ مِنْ جنسِ التَّطَيُّرِ،
وذلِكَ بأنْ يسْتَدِلَّ لنَجَاحِهِ أوْ عدمِ نجاحِهِ بالتَّطَيُّرِ، كَمَا
لوْ قالَ: سأزْجُرُ هذا الطيرَ، فإذا ذهبَ إلى اليمينِ فمعنى ذلكَ
اليُمْنُ والبركةُ فَيُقْدِمُ، فهذا لا شكَّ أنَّهُ تطيُّرٌ؛ لأنَّ
التفاؤلَ بمثلِ انطلاقِ الطيرِ عَن اليمينِ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّهُ لا وجَهَ
لهُ؛ إذِ الطيرُ إذا طارَ فإنَّهُ يذهبُ إلى الذي يرى أنَّهُ وِجْهَتُهُ،
فإذا اعتمدَ عليهِ فقد اعتمدَ على سببٍ لمْ يجعلْهُ اللهُ سببًا، وهو حركةُ
الطيرِ. الثاني: أنْ يكونَ سببُ المُضِيِّ كلامًا سَمِعَهُ أوْ
شيئًا شاهدَهُ يدلُّ على تيسيرِ هذا الأمرِ لهُ، فإنَّ هذا فألٌ، وهو الذي
يُعْجِبُ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، لكنْ إن اعتمدَ عليهِ فهذا
حُكْمُهُ حُكْمُ الطِّيَرَةُ، وإنْ لمْ يعتمدْ عليهِ ولكنَّهُ فَرِحَ
وَنَشِطَ وازدادَ نشاطًا في طَلَبِهِ فهذا مِن الفألِ المحمودِ. (18) فيهِ مَسائِلُ: الأُولى: ((التَّنْبيهُ عَلَى قَوْلِهِ: {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} مَعَ قَولِهِ: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ}))
أيْ: لكيْ يتنَبَّهَ الإنسانُ؛ فإنَّ ظاهرَ الآيتيْنِ التعارضُ، وليسَ
كذلِكَ، فالقرآنُ والسُّنَّةُ لا تعارُضَ بينَهما، ولا تعارُضَ في ذاتِهما،
إنَّما يقعُ التعارضُ حَسَبَ فَهْمِ المُخَاطَبِ، والجمعِ أنَّ قولَهُ: {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ} أنَّ اللهَ هوَ المقدِّرُ ذلِكَ ولَيْسَ موسى ولا غيرَهُ مِن الرسلِ، وأنَّ قولَهُ: {طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ} مِنْ بابِ السببِ، أيْ: أنْتُمْ سببُهُ. (24) السَّابِعةُ: ((تَفْسِيرُ الفَأْلِ))
فسَّرَهُ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بأنَّهُ الكلمةُ
الطَّيِّبَةُ، وسَبَقَ أنَّ هذا التفسيرَ على سبيلِ المثالِ، لا على سبيلِ
الحَصْرِ؛ لأنَّ الفألَ كلُّ ما يُنَشِّطُ الإنسانَ على شيءٍ محمودٍ مِنْ
قولٍ أوْ فعلٍ مرْئِيٍّ أوْ مسموعٍ.
ويشملُ ذلكَ الحسناتِ الشرعيَّةَ كالصلاةِ والزكاةِ وغيرِها؛ لأنَّها
تَسُرُّ المؤمنَ، ويشملُ الحسناتِ الدُّنْيَوِيَّةَ كالمالِ والولدِ
ونحوِها، قالَ تعالى: {إِنْ
تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ
أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوا وَهُمْ فَرِحُونَ}.
وقولُهُ: ((إلاَّ أَنْتَ)) فاعلُ يأتي؛ لأنَّ الاستثناءَ هنا مُفَرَّغٌ.
قولُهُ: ((ولا يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ إلاَّ أَنْتَ)) السَّيِّئَاتُ: ما
يسُوءُ المرءَ وقوعُهُ ويَنْفِرُ منهُ حالاً أوْ مَآلاً، ولا يدفعُها
إلاَّ اللهُ، ولهذا إذا أُصيبَ الإنسانُ بمصيبةٍ التجأَ إلى ربِّهِ تعالى؛
حتَّى المشركونَ إذا رَكِبُوا في الفُلْكِ وشاهَدُوا الغرَقَ دَعَوُا اللهَ
مخلصينَ لهُ الدِّينَ.
ولا يُنَافِي هذا أنْ يكونَ دفعُها بأسبابٍ، فمثلاً لوْ رأى رجلاً غريقًا
فأنْقَذَهُ فإنَّمَا أنقَذَهُ بمشيئةِ اللهِ، ولوْ شاءَ اللهُ لم
يُنْقِذْهُ، فالسببُ مِن اللهِ.
فعقيدةُ كلِّ مسلمٍ أنَّهُ لا يأتي بالحسناتِ إلاَّ اللهُ، ولا يدفعُ
السيِّئَاتِ إلاَّ اللهُ، وبمقتضى هذه العقيدةِ فإنَّهُ يجبُ أنْ لا يسألَ
المسلمُ الحسناتِ ولا يسألَ دفعَ السيِّئَاتِ إلاَّ مِن اللهِ. ولهذا كانَ
الرسلُ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهم يسألونَ اللهَ التوفيق للحسناتِ ودفع
السيِّئَاتِ، قالَ تعالى عنْ زكرِيَّا: {رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً}.
وقولُهُ: ((وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ)) في معناها وجهانِ:
الثاني: أنَّهُ لا يُوجَدُ لنا حولٌ ولا قُوَّةٌ إلاَّ باللهِ،
فالباءُ للاستعانةِ، وهذا المعنى أصحُّ، وهو مقتضى وُرُودِها في
مواضِعِها؛ إذْ إنَّنا لا نتَحَوَّلُ مِنْ حالٍ إلى حالٍ، ولا نَقْوَى على
ذلِكَ إلاَّ باللهِ؛ فيكونُ في هذِهِ الجملةِ كمالُ التفويضِ إلى اللهِ،
وأنَّ الإنسانَ يَبْرَأُ مِنْ حولِهِ وقوَّتِهِ إلاَّ بما أعطاهُ اللهُ مِن
الحولِ والقُوَّةِ.
فإنْ صحَّ الحديثُ فالرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أرْشدَنا إذا رَأَيْنا ما نكرَهُ ممَّا يَتَشَاءَمُ بهِ المتشائمُ أنْ نقولَ: ((اللهُمَّ
لاَ يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلاَّ أَنْتَ وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ
إِلاَّ أَنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ)).
(12) قولُهُ: ((الطِّيَرَةُ شِرْكٌ، الطِّيَرَةُ شِرْكٌ)) هاتانِ الجملتانِ يُؤَكِّدُ بعضُهما بعضًا مِنْ بابِ التوكيدِ اللفظِيِّ.
وقولُهُ: ((شِرْكٌ)) أيْ: إنَّها مِنْ أنواعِ الشركِ، ولَيْسَت الشركَ كُلَّهُ، وإلاَّ لقالَ: الطِّيَرَةُ الشركُ.
لكنْ في تَرْكِ الصلاةِ جاء الحديث الصحيح: ((بَيْنَ الرَّجُلِ وَبَيْنَ الشِّرْكِ وَالْكُفْرِ تَرْكُ الصَّلاَةِ)) فقالَ: الكفرُ، ويجبُ أنْ نعرفَ الفَرْقَ بينَ (ال) المعرفةِ أو الدَّالَّةِ على الاستغراقِ، وبينَ خُلُوِّ اللفظِ مِنْها، فإذا قيلَ: هذا كُفْرٌ؟
فالمرادُ أنَّهُ نوعٌ من الكفرِ لا يُخْرِجُ مِن الملَّةِ.
فإذا تطيَّرَ إنسانٌ بشيءٍ رآهُ أوْ سَمِعَهُ، فإنَّهُ لا يُعَدُّ مشركًا
شِرْكًا يُخْرِجُهُ مِن الملَّةِ، لكنَّهُ أشْرَكَ مِنْ حيثُ إنَّهُ اعتمدَ
على هذا السببِ الذي لمْ يجعلْهُ اللهُ سببًا، وهذا يُضْعِفُ التوكُّلَ
على اللهِ ويُوهِنُ العزيمةَ، وبذلِكَ يُعْتَبَرُ شِرْكًا مِنْ هذِهِ
الناحيةِ، والقاعدةُ (أنَّ كلَّ إنسانٍ اعتمدَ على سببٍ لم يجعلْهُ الشرعُ سببًا فإنَّهُ مشركٌ شِرْكًا أصغرَ).
وهذا نوعٌ مِن الإشراكِ مَعَ اللهِ؛
إمَّا في التشريعِ إنْ كانَ هذا السببُ شرعيًّا، وإمَّا في التقديرِ إنْ
كانَ هذا السببُ كونيًّا، لكنْ لو اعتقدَ هذا المتشائِمُ المتطيِّرُ أنَّ
هذا فاعلٌ بنفسِهِ دونَ اللهِ فهوَ مُشْرِكٌ شِرْكًا أكبرَ؛ لأنَّهُ جعلَ
للهِ شريكًا في الخلقِ والإيجادِ.
قولُهُ: ((وَمَا مِنَّا))((مِنَّا)) جارٌّ ومجرورٌ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ قَبْلَ ((إلاَّ)) إنْ قَدَّرْتَ ما بعدَ ((إلاَّ)) فعلاً، أيْ: وما منَّا أحدٌ إلاَّ تطَيَّرَ، أوْ بعْدَ ((إلاَّ)) أيْ: وما منَّا إلاَّ مُتَطَيِّرٌ.
(13) قولُهُ: ((وجعلَ آخِرَهُ مِنْ قَوْلِ ابنِ مَسْعودٍ)) وهوَ قولُهُ: ((وما منَّا إلاَّ.. إلخ)). وعلى هذا يكونُ مَوْقُوفًا، وهو مُدْرَجٌ في الحديثِ.
(14) قولُهُ: ((مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ عنْ حاجَتِهِ))((مَنْ)) شرطيَّةٌ، وجوابُ الشرطِ ((فَقَدْ أَشْرَكَ)).
وقولُهُ: ((عَنْ حاجَتِهِ)) الحاجةُ: كلُّ ما يحتاجُهُ الإنسانُ بما تتعلَّقُ بِهِ الكمالاتُ، وقدْ تُطْلَقُ على الأمورِ الضروريَّةِ.
قولُهُ: ((فَقَدْ أَشْرَكَ)) أيْ: شِرْكًا أكبرَ إن اعتقدَ أنَّ هذا المُتَشَاءَمَ بِهِ يفعلُ ويُحْدِثُ الشرَّ بنفسِهِ، وإن اعتقدَهُ سببًا فهوَ أصغرُ.
(15) وقولُهُ: ((فَما كَفَّارَةُ ذلِكَ)) أيْ: ما كفَّارةُ هذا الشركِ؟ لأنَّ الكَفَّارةَ قدْ تُطْلَقُ على كَفَّارةِ الشيءِ بَعْدَ فِعْلِهِ؟
وقدْ تُطْلَقُ على الكفَّارةِ قبلَ الفعلِ؛ وذلِكَ لأنَّ الاشتقاقَ مأخوذٌ
مِن الكفرِ وهو السَّتْرُ، والسَّتْرُ واقٍ، فكفَّارةُ ذلكَ إنْ وقعَ،
وكَفَّارَةُ ذلِكَ إنْ لمْ يقَعْ.
(16) وقولُهُ: ((اللهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ))
يعني: فأنتَ الذي بيدِكَ الخيرُ المباشرُ كالمطرِ والنباتِ، وغيرُ
المباشرِ كالذي يكونُ سببُهُ مِنْ عِنْدِ اللهِ على يدِ مخلوقٍ، مثلَ: (أنْ
يُعْطِيَكَ إنسانٌ دراهَمَ صَدَقَةً أوْ هدِيَّةً) وما أشبهَ ذلكَ، فهذا
الخيرُ مِن اللهِ، لكنْ بوَاسِطَةٍ جعلَهَا اللهُ سببًا، وإلاَّ فَكُلُّ
الخيرِ مِن اللهِ عزَّ وجلَّ.
وقولُهُ: ((لا خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ)) هذا الحصرُ حقيقيٌّ، فالخيرُ كلُّهُ مِن اللهِ، سواءٌ كانَ بسببٍ معلومٍ أوْ غيْرِهِ.
وقولُهُ:((لا طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ)) أي: الطيورُ كلُّها مِلْكُكَ، فهيَ لا تفعلُ شيئًا وإنَّما هيَ مُسَخَّرةٌ، قالَ تعالى: {أَوَلَمْ
يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا
يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمَـنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ}.
فالمهمُّ أنَّ الطيرَ مُسَخَّرَةٌ بإذنِ اللهِ، فاللهُ تعالى هوَ الذي
يُدَبِّرُها ويُصَرِّفُها ويُسَخِّرُها تذهبُ يمينًا وشمالاً، ولا عَلاقةَ
لها بالحوادثِ.
ويَحْتَمِلُ أنَّ المرادَ بالطيرِ هنا: ما يتشاءمُ بهِ الإنسانُ، فكلُّ ما يحدثُ للإنسانِ مِن التشاؤمِ والحوادثِ المكروهةِ فإنَّهُ مِن اللهِ، كما أنَّ الخيرَ مِن اللهِ، كَمَا قالَ تعالى: {أَلاَ إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللهِ}.
لكنْ سَبَقَ لنا أنَّ الشرَّ في فِعْلِ اللهِ لَيْسَ بواقعٍ، بلِ الشرُّ في
المفعولِ لا في الفعلِ، بلْ فِعْلُهُ تعالى كُلُّهُ خيرٌ، إمَّا خيرٌ
لذاتِهِ، وإمَّا لِمَا يترَتَّبُ عليهِ من المصالحِ العظيمةِ التي
تَجْعَلُهُ خيرًا، فيكونُ قولُهُ: ((لا طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ)) مقابلاً لقوْلِهِ:((وَلا خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ)).
قولُهُ: ((وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ))((لا)) نافيةٌ للجنسِ، و((إلهَ)) بمعنى مَأْلُوهٍ.
(17) قولُهُ في حديثِ الفضلِ: ((إِنَّمَا الطِّيَرَةُ))
هذهِ الجملةُ عندَ البلاغِيِّينَ تُسمَّى حَصْرًا، أيْ: ما الطِّيَرَةُ
إلاَّ ما أمْضَاكَ أوْ رَدَّكَ، لا ما حَدَثَ في قلبِكَ ولم تلْتَفِتْ
إليهِ، ولا رَيْبَ أنَّ السلامةَ منها حتَّى في تفكيرِ الإنسانِ خَيْرٌ بلا
شكٍّ، لكنْ إذا وقَعَتْ في القلبِ ولم تَرُدَّهُ ولمْ يلتفتْ لها فإنَّها
لا تضرُّهُ لكنْ عليهِ أنْ لا يسْتَسْلِمَ بَلْ يُدَافِعَ؛ إذ الأمرُ
كلُّهُ بيدِ اللهِ.
قولُهُ: ((مَا أَمْضَاكَ أَوْ رَدَّكَ)) أمَّا ما ردَّكَ فلا شكَّ أنَّهُ مِن الطِّيَرَةِ؛ لأنَّ التَّطَيُّرَ يُوجِبُ التركَ والتراجُعَ.
وأمَّا ((ما أمْضَاكَ))فلا يخْلُو مِنْ أمرَيْنِ:
والحديثُ في سَنَدِهِ مقالٌ، لكنْ على تقديرِ صِحَّتِهِ هذا حُكْمُهُ.
(19) الثَّانيةُ: ((نَفْيُ العَدْوى))
وقَدْ سَبَقَ أنَّ المرادَ بنفيِها نفيُ تأثيرِها بنفسِها، لا أنَّها سببٌ
للتأثيرِ؛ لأنَّ اللهَ قَدْ جَعَلَ بعضَ الأمراضِ سببًا للعدوى
وانتقالِها.
(20) الثالثةُ: ((نفيُ الطِّيَرَة)) أيْ: نفيُ التأثيرِ، لا نفيُ الوجودِ.
(21) الرَّابعةُ: ((نَفْيُ الْهَامَةِ)) وقَدْ سَبَقَ تفسيرُها.
(22) الخامسةُ: ((نَفْيُ الصَّفَرِ)) وسَبَق تفسيرُهُ.
(23) السادسةُ: ((أنَّ الفَأْلَ لَيْسَ مِنْ ذَلِكَ، بَلْ مُسْتَحَبٌّ)) يُؤْخَذُ مِنْ قولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((يُعْجِبُنِي الْفَأْلُ)) وكُلُّ ما أَعجبَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فهوَ حَسَنٌ، قالَتْ عائشةُ رَضِيَ اللهُ عنها: ((كانَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يُعْجِبُهُ التَّيَمُّنُ فِي تَنَعُّلِهِ وَتَرَجُّلِهِ وَطَهُورِهِ وَفِي شَأْنِهِ كُلِّهِ)).
(25) الثَّامِنةُ: (أنَّ الواقِعَ فِي القُلوبِ مِنْ ذلِكَ مَعَ كَراهَتِهِ لا يَضُرُّ، بَلْ يُذْهِبُهُ اللهُ بِالتَّوَكُّلِ) أيْ: إذا وَقَعَ في قَلْبِكَ وأَنْتَ كارهٌ لهُ، فإنَّهُ لا يَضُرُّكَ ويُذْهِبُهُ اللهُ بالتوكُّلِ؛ لقولِ ابنِ مسعودٍ: ((وَمَا مِنَّا إِلاَّ، وَلَكِنَّ اللهَ يُذْهِبُهُ بالتَّوكُّلِ)).
(26) التاسعةُ:((ذكْرُ ما يقولُ مَنْ وَجَدَهُ)) وسَبَقَ أنَّهُ شيئانِ: أنْ يقولَ: ((اللهُمَّ
لاَ يَأْتِي بِالْحَسَنَاتِ إِلاَّ أَنْتَ، وَلاَ يَدْفَعُ السَّيِّئاتِ
إِلاَّ أَنْتَ، وَلاَ حَوْلَ وَلاَ قُوَّةَ إِلاَّ بِكَ)) أوْ يقولَ: ((اللهُمَّ لاَ خَيْرَ إِلاَّ خَيْرُكَ، وَلاَ طَيْرَ إِلاَّ طَيْرُكَ، وَلاَ إِلَهَ غَيْرُكَ)).
(27) العاشرةُ:((التَّصريِحُ بأَنَّ الطِّيَرَةَ شِرْكٌ))
وسَبَقَ أنَّ الطِّيَرَةَ شركٌ، لكنْ بتفصيلٍ، فإن اعتقدَ تأثيرَها
بنفسِها فهوَ شركٌ أكبرُ، وإن اعتقدْ أنَّها سببٌ فَهُوَ شركٌ أصغرُ.
(28) الحاديةَ عَشْرةَ:((تَفْسِيرُ الطِّيَرَةِ الْمَذْمومةِ)) أيْ: ما أَمْضَاكَ أوْ رَدَّكَ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن
محمد آل الشيخ: (هذا باب ما جاء في التطيّر
ومرّ معنا أنَّ الطيرة من أنواع السحر، ولهذا جاء الشيخ -رحمه الله- بهذا الباب بعد الأبواب المتعلقة بالسحر؛ لأنها من أنواعه بنص الحديث.
ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد:
أن التطير نوع من الشرك بالله -جل وعلا- بشرطه، والشرك الذي يكون من جهة التطير مناف لكمال التوحيد الواجب؛ لأنه شرك أصغر.
وحقيقة التطير:
أنه التشاؤم أو التفاؤل بحركة الطير من السوانح، والبوارح، أو النطيح، أو القعيد، أو بغير الطير مما يحدث. إذا أراد أحد أن يذهب إلى مكان، أو يمضي في سفر، أو أن يعقد له خياراً؛ فيستدل بما يحدث له من أنواع حركات الطيور، أو بما يحدث له من الحوادث، أنَّ هذا السفر سفرٌ سعيد فيمضي فيه، أو أنَّه سفر سيئ وعليه فيه وبال؛ فيرجع عنه.
ولذلك ضابط الطيرة الشركية التي مَنْ قامت في قلبه،
وحَصَلَ له شرطها وضابطها؛ فهو مشرك الشرك الأصغر: ما جاء في آخر الباب أنه قال عليه الصلاة والسلام: ((إنما الطيرة ما أمضاك أو ردّك)).
فالطيرة شرك،
وهي التي تقع في القلب، ويبني عليها المرء مَضَاءً في الفعل، أو رَدّاً عن الفعل؛ فإذا خرج مثلاً من بيته وحصل أمامه:
- وهو ينوي سفراً.
- أو ينوي رحلة.
- أو ينوي القيام بصفقة تجارة.
- أو نحو ذلك.
فحصل أمامه حادث؛ فهذا الحادث الذي حصل أمامه من تصادم سيارة، أو اعتداء من واحدٍ على آخر، أو نحو ذلك، جعل من هذا الحادث في قلبه شؤماً، ثم استدل بهذا الحادث على أنه سيفشل في سفره، أو في تجارته، أو أنه سيصيبه مكروه في سفره،
فإذا رجع ولم يمض فقد حصل له التطيّر الشركيّ.
أما إذا وقع ذلك في قلبه مجرد وقوع،
وحصل له نوع تشاؤم ولكنه مضى وتوكل على الله؛ فهذا لا يكاد يسلم منه أحد؛ وكما جاء في حديث ابن مسعود: (وما منا إلا، ولكن الله يذهبه بالتوكل) كما سيأتي.
إذاً: فهذه حقيقة التطيّر الشركي وضابطه،
وبيان أن التطير اسم عام؛ ليس خاصاً بالطير وحركاتها.
مرّ معنا العيافة فيما سبق في (باب ما جاء في شيء من أنواع السحر) وأنَّ العيافة متعلقة بالطير؛ كما فسرها (عوف) الأعرابي بقوله: (العيافة زجر الطير).
متعلقة بالطير من حيث أنه يحرك الطير ويزجرها؛
حتى ينظر أين تتحرك؟
وأما الطيرة: فهو أن يتشاءم، أو يتفاءل، ويمضي أو يرجع بحركة تحصل أمامه ولو لم يزجر أو يفعل، أو بشيء يحصل أمامه إما من الطير أو من غيره.
قال الشيخ رحمه الله: (باب ما جاء في التطير) يعني: من أنه شرك بالله -جل وعلا- إذا أمضى أو ردّ، وكفارة التطيّر إذا وقع في القلب، ونحو ذلك من الأحكام.
قال: (وقول الله تعالى: {ألا إنما طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون}] هذأ من آية في سورة الأعراف:{فإذا جاءتهم الحسنة قالوا لنا هذه وإن تصبهم سيئة يطيّروا بموسى ومن معه ألا إن طائرهم عند الله ولكن أكثرهم لا يعلمون} يعني: إذا أتاهم خَصْبٌ، وسعةٌ وزيادةٌ في الأرزاقِ، قالوا لنا هذه، يعني: نحن المستحقون لها {وإن تصبهم سيئة} يعني: أصابهم جدبٌ، أو نقصٌ في الأرزاق، أو بلاءٌ، قالوا: (هذا بسبب شؤم موسى
ومن معه؛ فهم الذين بسببهم، وبسبب أقوالهم، وأعمالهم حصل لنا هذا السوء
وهذه الويلات) فتطيّروا بهم، يعني: جعلوهم سبباً لما حصل لهم. قال جل وعلا:
{ألا إنما طائرهم عند الله}.
{طائرهم }
يعني ما يطير عنهم من عمل صالح، أو طالح؛ وأنهم يستحقون الحسنات، أو يستحقون السيئات؛ كل هذا عند الله -جل وعلا-، أو أن معنى قوله: {إلا إنما طائرهم عند الله}.
يعني: أن سبب ما يأتيهم من الحسنات، أو ما يأتيهم من السيئات، أن ذلك من جهة القضاء والقدر؛ فهو عند الله جل وعلا.
ومناسبة هذه الآية لهذا الباب، أنَّ هذه الخصلة من صفات:
- أعداء الرسل.
- من صفات المشركين.
فالتطير من صفات أهل الإشراك، من صفات أعداء الرسل، وإذا كان كذلك فهو مذموم، ومن خصال المشركين الشركية.
وهذه هي مناسبة إيراد الآية
تحت هذا الباب؛ من جهة أنه خصلة من خصال أعداء الرسل، وليست من خصال أتباع الرسل.
وإنما أتباع الرسل فإنهم يعلقون ذلك بما عند الله من القضاء والقدر، أو بما جعله الله -جل وعلا- لهم من ثواب أعمالهم، أو العقاب على أعمالهم؛ كما قال: {ألا إنما طائرهم عند الله}.
وكذلك:
ما أورده من الآية الثانية، وهي قوله: {قالوا: طائركم معكم…} الآية، وهي من سورة يس:{قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم}.
الذي تطيّر بأولئك هم المشركون أصحاب تلك القرية؛
حيث قالوا: {إنا تطيرنا بكم لئن لم تنتهوا لنرجمنكم وليمسنكم منا عذاب أليم} قالت أتباع الرسل: {قالوا طائركم معكم أئن ذكرتم} يعني: حقيقة سبب السيئات عليكم، أو سبب قدوم الحسنات عليكم، هذه من شيءٍ فيكم؛ فالسوء الذي سينالكم، والعقاب الذي سينالكم، ملازم لكم ملازمة ما يطير عنكم لكم، فما يطير عنكم من عمل سوء، ومن معاداةٍ للرسل، وتكذيبٍ للرسل؛ هذا ملازم لكم وستتطيرون به، قال: {طائركم معكم}.
لأنه من جهة أنهم فعلوا السيئات، وكذَّبوا الرسل، وهذا سيقع عليهم وباله.
ومناسبة هذه الآية للباب، كمناسبة الآية قبلها؛ من أن هذه هي قالة المشركين، وأعداء الرسل.
مناسبة هذا الحديث للباب
قوله ((ولا طيرة))ومن المعلوم أنَّ المنفي هنا ليس هو وجود الطيرة؛ لأن الطيرة موجودة:
- من جهة اعتقاد الناس.
- ومن جهة استعمالها، ولكنها باطلة.
كذلك العدوى موجودة من جهة الوقوع.
ولهذا
قال العلماء: النفي هنا راجع إلى ما تعتقده العرب، ويعتقده أهل الجاهلية؛
لأن (لا) نافية للجنس واسمها مذكور، وخبرها محذوف؛ لأجل العلم به، فإن
الجاهليين يؤمنون بوجود هذه الأشياء، ويؤمنون أيضاً بتأثيرها، فالمنفي ليس
هو وجودها وإنما هو تأثيرها، فيكون التقدير هنا: لا عدوى مؤثرة بطبعها ونفسها، وإنما تنتقل العدوى بإذن الله جل وعلا.
وأهل الجاهلية يعتقدون أن العدوى تنتقل بنفسها، فأبطل ذلك الله -جل وعلا- أبطل ذلك الاعتقاد؛ فقال عليه الصلاة والسلام: ((لا عدوى)) يعني: مؤثرة بنفسها، ولا طيرة مؤثرة أيضاً.
فإن الطيرة شيء وهميّ يكون
في القلب لا أثر له في قضاء الله وفي قدره، فحركة الطائر يميناً أو
شِمالاً، أو السانح، أو البارح، أو النطيحة، والقعيد، لا أثر لها في حِكم
الله، وفي ملكوت الله، وفي قضائه، وقدره.
فإذاً: الخبر قوله: ((ولا طيرة)) يعني: تقدره بقولك: (ولا طيرة مؤثرة) بل الطيرة شيء وهميّ، ولا هامة، ولا صفر.. إلى آخر الحديث.
وسبق أن ذكرت لكم أنَّ خبر (لا) النافية للجنس يحذف كثيراً في لغة العرب؛ كما قال ابن مالك في آخر باب (لا) النافية للجنس في الألفية:
وشاع في ذا الباب إسقاط الخبر إذا الـمــراد مع سـقـوطه ظهر
وهذا مهم في العربية.
قال: (ولهما عن أنس، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طيرة))) يعني:
- لا عدوى مؤثرة بنفسها؛ بل بإذن الله جل وعلا.
- ولا طيرة مؤثرة أصلاً، وإنما ذلك راجع إلى قضاء الله وقدره.
قال: ((ويعجبني الفأل)) قالوا: وما الفأل؟
قال: ((الكلمة الطيبة)).
الفأل كان عليه الصلاة والسلام يحبه، وفسره بأنه ((الكلمة الطيبة)) لأن الكلمة الطيبة إذا سمعها فتفاءل بها أنه سيحصل له كذا وكذا من الخيرات، ففيها أنها حُسْنُ ظنٍّ بالله جل وعلا.
الفأل: حسن ظن بالله.
والتشاؤم: سوء ظن بالله جل وعلا.
ولهذا صار الفأل ممدوحاً ومحموداً، وصار الشؤم مذموماً، والفأل ممدوح من جهة أنه فيه تحسين الظن بالربِّ جل وعلا، وهذا مأمورٌ العبدُ به؛ لهذا كان -عليه الصلاة والسلام- يتفاءل، وكل ذلك من تعظيم الله جل وعلا، وحسن الظن به، وتعلق القلب به، وأنه لا يفعل للعبد إلا ما هو أصلح له.
قال: (ولأبي داود بسند صحيح عنعقبة بن عامر قال: ذُكرت الطيرة عند رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : ((أحسنها الفأل)) ).
(الطيرة)
يعني: التأثر بالكلمة؛ لأننا ذكرنا لكم أنَّ الطيرة عامة تشمل الأقوال والأعمال التي تحصل أمام العبد، فإذا كان ثمَّ تطير
فإن أحسنه الفأل، يعني أن يقع في قلبه أنه سيحصل له كذا وكذا من جرّاء:
- كلمة سمعها.
- أو من جرّاء فعل حصل له، أحسنُ ذلك الفأل، وغيره مذموم.
لم كان الفأل ممدوحاً، ومحموداً، ومأذوناً به؟
لما ذكرنا من أنه إذا تطير متفائلاً؛ فإنه مُحَسِّنٌ الظن بالله جل وعلا، وأما الفأل في نفسه فهو مطلوب؛ لأن التفاؤل:
- يشرح الصدر.
- ويُؤنس العبد.
- ويُذهب الضيق الذي يوحيه الشيطان، ويسببه الشيطان في قلب العبد.
والشيطان
يأتي للعبد فيجعله يتوهم أشياء وأشياء كلها في مضرته، فإذا فتح العبد على
قلبه باب التفاؤل، أبعد عن قلبه باب تأثير الشيطان على النفس.
قال: ((ولا ترد مسلماً))
لا ترد مسلماً: هذا خبر؛ لكنه مضمنٌ النهي، وقد ذكرت لكم أن النهي قد
يُعدل عنه للخبر، كما أن الأمر قد يُعدل عنه إلى الخبر؛ لتأكيد النهي،
ولتأكيد الأمر، قال: {ولله يسجد ما في السموات وما في الأرض من دابة} هذا خبر؛ لكنه كالأمر المؤكد، هذا خبر مثبت.
والخبر المنفي كقوله هنا: لا ترد مسلماً، هذا خبر لكن فيه نهي أن ترد الطيرة مسلماً عن حاجته؛ فإذا ردته عن حاجته فقد حصل له الشرك بالتطير، قال: ((فإذا رأى أحدكم ما يكره فليقل: اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت ولا يدفع السيئات إلا أنت ولا حول ولا قوة إلا بك)) هذا دعاء عظيم في دفع ما يأتي للقلب من أنواع التشاؤم، وأنواع الطيرة.
قال: ((الطيرة شرك)) يعني: شرك أصغر بالله جل وعلا.
قال:((وما منا إلا)) يعني: إلا وقد أتى لقلبه بعض التطير؛ لأن هذا من الشيطان، والشيطان يأتي القلوب فيغريها بما يفسدها؛ ومن ذلك التطير.
قال: ((وما منا إلا)) يعني: ويعرض له ذلك ((ولكن الله يذهبه بالتوكل)) لأن حسنة التوكل، وإتيان العبد بواجب التوكل، يذهب عنه كيد الشيطان بالتطير.
فالواجب على العبد إذا عرض
له شيء من التشاؤم ألاَّ يرجع عما أراد عمله، بل يعظم التوكل على الله جل
وعلا؛ لأن هذه الأشياء التي تحصل لا تدل على الأمور المغيبة؛ لأنها أمورٌ
طرأت ووافقت هكذا أمام العبد، وليس لها أثر فيما يحصل مستقبلاً.
قال: (ولأحمد من حديث ابن عمروٍ: ((من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك))).
هذا الضابط ذكرناه لكم في أول الباب، أن ضابط كون الطيرة شركاً، أن ترد المتطير عن حاجته، فإذا لم ترده عن حاجته فإنه لم يستأنس لها؛
فلا حرج عليه في ذلك؛ إلا أن عَظُمَتْ في قلبه، فربما دخلت في أنواع
محرمات القلوب، والذي يجب أن يُذهبه بالتوكل، وتعظيم الرغب فيما عند الله،
وحسن الظن بالله جل وعلا.
(قالوا: فما كفارة ذلك قال: ((أن تقول: اللهم لا خير إلا خيرك ولا طير إلا طيرك)))
((لا طير إلا طيرك))يعني: لن يحصل إلا قضاؤك الذي قضيته، أو لن يحصل ويُقضى إلا ما قدَّرته على العبد.
والعلم - علم المغيبات - إنما هو عند الله جل وعلا.
العناصر
مناسبة باب (ما جاء في التطير) لكتاب التوحيد
مناسبة باب (ما جاء في التطير) لما قبله شرح ترجمة الباب (ما جاء في التطير)
- بيان حقيقة التطير تفسير قوله تعالى: (فإذا جاءتهم الحسنة... ألا إنما طائرهم عند الله..) الآية
- معنى قوله تعالى: (قالوا طائركم معكم..) الآية تفسير قوله تعالى: (قالوا طائركم معكم) الآية - مناسبة الآيتين للباب، قوله: (ألا إنما طائرهم عند الله)، وقوله: (قالوا طائركم معكم) شرح حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا صفر)
- توجيه إنكار أبي هريرة تحديثه بهذا الحديث شرح حديث أنس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل)
- بيان موافقة (الفأل) للفطرة شرح حديث عروة بن عامر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (أحسنها الفأل...)
- ترجمة عروة بن عامر شرح حديث ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ(الطيرة شرك...)
- بيان المراد بالشرك في قوله: (الطيرة شرك) قاعدة في الشرك الأصغر شرح حديث عبدالله بن عمرو رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (من ردته طيرته...)
- ترجمة عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما شرح مسائل الباب بيان حسن تعليم النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه توجيه حديث: (الشؤم في ثلاثة...) الجواب عما ورد من أن الطيرة تكون سبباً لوقوع الشر بالمتطير
- بيان حكم الطيرة وسبب كونها شركاً
- أقسام التطيُّر بالأشياء
- بيان حد الطيرة المنهي عنها
- بيان أثر التطير على العبد
- الواجب على من وجد في نفسه شيئاً من التطير
- معنى قوله صلى الله عليه وسلم (لا عدوى)
- الجمع بين الأحاديث التي قد يظن فيها اختلاف في هذا الباب
- معنى قوله صلى الله عليه وسلم: (ولا طيرة)
- بيان المراد بالهامة وذكر شيء من معتقدات أهل الجاهلية فيها
- معنى قوله: (ولا صفر)
- بيان معنى قوله: (النوء)، وصفة تشاؤم العرب به
- بيان بطلان التشاؤم بالأزمنة، وأن الواجب على المسلم التوكل على الله تعالى
- الإرشاد إلى عدم التوسع في ذكر النسبة السببية لنزول المطر إلى الضغط الجوي والمنخفضات الجوية
- بيان معنى (الغول) في قوله: (ولا غول)، وأن النفي لأثرها لا لوجودها
- بيان أن نفي العدوى، والطيرة.. إلخ، ليس نفياً للوجود، بل هو نفي للتأثير
- بيان سبب محبة النبي صلى الله عليه وسلم (الفأل)
- ذكر أمثلة لتفاؤل النبي صلى الله عليه وسلم
- بيان حسن أثر الكلمة الطيبة على النفس، والعمل
- نوع الذكر في قوله: (ذكرت الطيرة)
- معنى قوله: (أحسنها الفأل)
- ما يدل عليه قوله: (ولا تردُّ مسلماُ)
- معنى قوله: (اللهم لا يأتي بالحسنات إلا أنت، ولا يدفع السيئات إلا أنت)
- معنى قوله: (ولا حول ولا قوة إلا بك)، وبيان مناسبتها للتطير
- معنى قوله: (وما منا إلاّ..)
- معنى قوله: (ولكن الله يذهبه بالتوكل)
- بيان أن قوله: (وما منا إلا؛ ولكن الله...) مدرج من كلام ابن مسعود
- معنى قوله: (من ردته الطيرة عن حاجته فقد أشرك)
- إطلاقات الكفارة في الشرع
- معنى قوله: (اللهم لا خير إلا خيرك ، ولا طير إلا طيرك ،ولا إله غيرك)
- ما يستفاد من حديث (من ردته الطيرة عن حاجته)
- شرح حديث الفضل بن عباس: (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك)
- ذكر حديث (إنما الطيرة ما أمضاك أو ردك) بتمامه، والكلام على إسناده
- ترجمة الفضل بن العباس رضي الله عنهما
- بيان متى يكون الإمضاء والرد من الطيرة