26 Oct 2008
باب ما جاء في النشرة
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ فِي النُّشْرَةِ
عَنْ جَابِرٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم سُئِلَ عَنِ النُّشْرَةِ فَقَالَ:((هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ))رَوَاهُ أَحْمَدُ بِسَنَدٍ جَيِّدٍ وَأَبُو دَاوُدَ وَقَالَ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْهَا فَقَالَ: ابْنُ مَسْعُودٍ يَكْرَهُ هَذَا كُلَّهُ.
وَفِي الْبُخَارِيِّ عَنْ قَتَادَةَ: قُلْتُ لاِبْنِ الْمُسَيِّبِ: (رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ أَوْ يُؤْخَذُ عَنِ امْرَأَتِهِ أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنَشَّرُ؟
قَالَ: (لاَ بَأْسَ بِهِ، إِنَّمَا يُرِيدُونَ بِهِ الإِصْلاَحَ فَأَمَّا مَا يَنْفَعُ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ) انْتَهَى. وَيُرْوَى عَنِ الْحَسَنِ أَنَّهُ قَالَ: ( لاَ يَحُلُّ السِّحْرَ إِلاَّ سَاحِرٌ). قَالَ ابْنُ الْقَيِّمِ: (النُّشْرَةُ: حَلُّ السِّحْرِ عَنِ الْمَسْحُورِ، وَهِيَ نَوْعَانِ: أَحَدُهُمَا: حَلٌّ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ، وَهُوَ الَّذِي مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ، وَعَلَيْهِ يُحْمَلُ قَوْلُ الْحَسَنِ فَيَتَقَرَّبُ النَّاشِرُ وَالْمُنْتَشِرُ إِلَى الشَّيْطَانِ بِمَا يُحِبُّ فَيُبْطِلُ عَمَلَهُ عَنِ الْمَسْحُورِ. وَالثَّانِي: النُّشْرَةُ بِالرُّقْيَةِ وَالتَّعَوُّذَاتِ وَالأَدْوِيَةِ وَالدَّعَوَاتِ الْمُبَاحَةِ فَهَذَا جَائِزٌ ). فِيهِ مَسَائِلُ: الأُولَى: النَّهْيُ عَنِ النُّشْرَةِ. الثَّانِيَةُ: الْفَرْقُ بَيْنَ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ وَالْمُرَخَّصِ فِيهِ مِمَّا يُزِيلُ الإِشْكَالَ.
تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ
قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (9)
لَمَّا ذَكَرَ المُصَنِّفُ حُكْمَ السَّحَرةِ والكَهانةِ ذَكَرَ ما جاءَ في النُّشْرةِ؛ لأنَّها قد تَكونُ مِنْ قِبَلِ الشَّياطينِ والسَّحَرةِ، فتَكونُ مُضادَّةً للتَّوحيدِ، وقد تَكونُ مُباحةً، كما سَيَأْتِي تَفْصِيلُهُ.
قال أَبُو السَّعاداتِ: (النُّشْرةُ ضَرْبٌ مِن العِلاجِ والرُّقْيةِ، يُعالَجُ بهِ مَنْ كانَ يُظَنُّ أنَّ به مَسًّا مِن الجِنِّ، سُمِّيَتْ نُشْرةً؛ لأنَّه يُنْشَرُ بها عنهُ ما خامَرهُ مِن الدَّاءِ، أي: يُكْشَفُ ويُزالُ).
وقالَ الحَسَنُ: (النُّشْرةُ مِن السِّحْرِ، وقد نَشَّرْتُ عنه تَنْشِيرًا، ومِنْه الحديثُ:((فَلَعَلَّ طِبًّا أَصَابَهُ ثُمَّ نَشَّرَهُ))بـ{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ} [الناس:1] أي: رَقَاهُ.
وقال غيرُهُ: (ونَشَّرَهُ أيضًا إذا كَتَبَ له النُّشْرةَ، وهي كالتَّعْوِيذِ والرُّقْيةِ).
وقال ابنُ الجَوْزِيِّ: (النُّشْرةُ حَلُّ السِّحْرِ عن المَسْحورِ، ولا يَكادُ يَقْدِرُ عليهِ إلاَّ مَن يَعْرِفُ السِّحْرَ).
(10)
هذا الحديثُ رَوَاهُ أحمدُ، ورَوَاهُ عنهُ أبو داودَ في (سُنَنِهِ) والفَضْلُ بنُ زِيادٍ في كتابِ (المَسائِلِ) عن عبدِ الرَّزَّاقِ، عن عَقِيلِ بنِ مَعْقِلِ بنِ مُنَبِّهٍ، عن عَمِّهِ وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ، عن جابرٍ، فَذَكَرَه، قال ابنُ مُفْلِحٍ: إسنادُهُ جَيِّدٌ، وحَسَّنَ الحافظُ إسنادَهُ، ورَواهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ، وأبو داودَ في (المَراسِيلِ) عن الحَسَنِ رَفَعَهُ: ((النُّشْرَةُ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)).
قولُهُ: (سُئِلَ عَن النُّشْرةِ) الألفُ واللامُ في النُّشْرةِ للعَهْدِ، أي: النُّشْرةِ المَعْهُودةِ التي كانَ أهلُ الجاهِلِيَّةِ يَصْنَعُونَها، هي مِن عملِ الشَّيطانِ، لا النُّشْرةِ بالرُّقَى والتَّعُوُّذاتِ الشَّرْعيَّةِ والأَدْوِيةِ المُباحَةِ، فإنَّ ذلكَ جائزٌ كما قَرَّرَهُ ابنُ القَيِّمِ كما سَيَأْتِي.
قولُهُ: (وقالَ: سُئِلَ أَحْمَدُ عَنْهَا فَقَالَ: ابنُ مَسْعُودٍ يَكْرَهُ هَذَا كُلَّهُ) مُرادُ أَحْمَدَ - واللهُ أَعْلَمُ - أنَّ ابنَ مَسْعُودٍ يَكْرَهُ النُّشْرةَ التي مِن عَمَلِ الشَّيطانِ، والنُّشْرةَ التي بكتابةٍ وتَعْلِيقٍ كالتَّمائِمِ، فإنَّ ابنَ مَسْعُودٍ كانَ يَكْرَهُ التَّمائِمَ كُلَّها مِن القرآنِ وغيرِ القرآنِ، أما النُّشْرةُ بالتَّعْوِيذِ والرُّقَى بأسماءِ اللهِ وكلامهِ من غيرِ تَعْلِيقٍ فلا أَعْلَمُ أحدًا كَرِهَهُ، وكذلكَ ما رَوَاهُ ابنُ أَبِي شَيْبَةَ عن إبراهيمَ: كانوا يَكْرَهُونَ التَّمائمَ والرُّقَى والنُّشْرَ، مَحْمُولٌ على ما ذَكَرْنَا.
(11)
هذا الأَثَرُ عَلَّقَهُ البُخارِيُّ، ووَصَلَهُ أَبُو بَكْرٍ الأَثْرَمُ في كتابِ (السُّنَنِ) مِن طريقِ أَبَانٍ العَطَّارِ عنقَتادةَ مِثلَه، ومن طريقِ هِشامٍ الدُّسْتُوَائِيِّ عن قَتَادَةَ بلفظِ: ((يَلْتَمِسُ مَنْ يُدَاوِيهِ)) فَقَالَ: إنَّما نَهَى اللهُ عمَّا يَضُرُّ ولم يَنْهَ عمَّا يَنْفَعُ.
قولُهُ: ((عن قَتادةَ)) هو ابنُ دِعامةَ، بكسرِ الدَّالِ، السُّدُوسِيُّ البَصْرِيُّ ثِقةٌ ثَبَتٌ فَقِيهٌ من أَحْفَظِ التَّابِعِينَ، يُقالُ: إنهُ وُلِدَ أَكْمَهَ، ماتَ سَنَةَ بِضْعَ عشرةَ ومائةٍ.
قولُهُ: ((رَجُلٌ به طِبٌّ)) بكسرِ الطَّاءِ، أي: سِحْرٌ، يُقالُ: طُبَّ الرَّجُلُ بالضَّمِّ: إذا سُحِرَ، ويُقالُ: كَنَّوا عن السِّحْرِ بالطِّبِّ تَفاؤُلاً، كما قالُوا للَّدِيغِ: سَلِيمٌ، وقال ابنُ الأَنْبارِيِّ: (الطِّبُّ من الأَضْدادِ يُقالُ لِعِلاجِ الدَّاءِ: طِبٌّ، والسِّحْرُ من الدَّاءِ، يُقالُ له: طِبٌّ).
قولُهُ: ((أو يُؤَخَّذُ)) بفتحِ الواوِ مَهْمُوزٌ، وتَشْدِيدِ الخاءِ المُعْجَمةِ وبعدَهَا ذالٌ مُعْجَمةٌ، أي: يُحْبَسُ عنِ امرأتِهِ، ولا يَصِلُ إلى جِمَاعِها، والأُخَّذُ بضَمِّ الهَمْزَةِ: الكلامُ الذي يَقولُهُ السَّاحِرُ.
قولُهُ: (يُحَلُّ) بضَمِّ الياءِ وفتحِ الحاءِ مَبْنِيٌ للمَفْعُولِ.
قولُهُ: (ويُنَشَّرُ) بتَشْدِيدِ المعجمةِ.
قولُهُ: (قَالَ لا بَأْسَ بِهِ …) إلى آخِرِهِ، يَعْنِي أنَّ النُّشْرةَ لا بَأْسَ بِها؛ لأنَّهم يُرِيدُونَ بها الإِصْلاحَ، أي: إِزَالةَ السِّحْرِ، ولم يُنْهَ عمَّا يُرادُ به الإصلاحُ، إنَّمَا يُنْهَى عمَّا يَضُرُّ.
وهذا الكلامُ مِن ابنِ المُسَيِّبِ يُحْمَلُ على نوعٍ من النُّشْرةِ لا يُعْلَمُ هل هو نوعٌ مِن السِّحْرِ أم لا؟
فأمَّا أن يَكونَ ابنُ المُسَيِّبِ يُفْتِي بِجَوازِ قَصْدِ السَّاحرِ الكافِرِ المَأْمُورِ بقَتْلِهِ لِيَعْمَلَ السِّحْرَ، فلا يُظَنُّ بِهِ ذلكَ، حاشاه منهُ، ويَدُلُّ على ذلكَ قولُهُ: إنَّما يُرِيدُونَ به الإِصْلاحَ، فأيُّ إصلاحٍ في السِّحْرِ؟!
بل كُلُّهُ فَسادٌ وكُفْرٌ، واللهُ أَعْلَمُ.
(12)
هذا الأَثَرُ ذَكَرَهُ ابنُ الجَوْزِيِّ في (جامعِ المَسانِيدِ) بغيرِ إسنادٍ، ولفظُهُ: ((لاَ يُطْلِقُ السِّحْرَ إِلاَّ سَاحِرٌ)).
ورَوَى ابنُ جَرِيرٍ في (التَّهْذِيبِ) مِن طريقِ يَزِيدَ بنِ زُرَيْعٍ، عن قَتادةَ، عن سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ:( أنَّهُ كانَ لا يَرَى بَأْسًا إذا كانَ بالرَّجلِ سِحْرٌ أن يَمْشِيَ إلى مَن يُطْلِقُ عنهُ، فقالُ: (هو صَلاحٌ).
قال قَتادةُ:(وكانَ الحَسَنُ يَكْرَهُ ذلك يَقولُ: لا يَعْلَمُ ذلك إلاَّ ساحِرٌ).
قالَ: فقالَ سَعِيدُ بنُ المُسَيِّبِ: (إنَّما نَهَى اللهُ عمَّا يَضُرُّ، ولم يَنْهَ عمَّا يَنْفَعُ).
قولُهُ: (عن الحَسَنِ) هو ابنُ أَبِي الحَسَنِ، واسمُهُ يَسارٌ، بالتَّحتانيَّةِ والمُهْملةِ، البَصْرِيُّ الأَنْصارِيُّ مَولاهُم ثِقةٌ فَقِيهٌ إمامٌ فاضِلٌ مِن خِيارِ التَّابِعينَ، ماتَ سنةَ عَشْرٍ ومائةٍ، وقد قارَبَ التِّسْعِينَ.
(13)
هذا الثاني هو الذي يُحْمَلُ عليه كلامُ
ابنِ المُسَيِّبِ، أو على نوعٍ لا يُدْرَى هل هو مِن السِّحْرِ أم لا؟
وكذلكَ:
ما رُوِيَ عن الإمامِ أحمدَ من إِجازةِ النُّشْرةِ، فإنه مَحْمُولٌ على ذلكَ، وَغَلِطَ مَن ظَنَّ أنَّهُ أَجَازَ النُّشْرةَ السِّحْريَّةَ، وليسَ في كلامِهِ مَا يَدُلُّ على ذلكَ، بل لَمَّا سُئِلَ عن الرَّجلِ يَحُلُّ السِّحْرَ قالَ: قد رَخَّصَ فيه بعضُ النَّاسِ.
قِيلَ:
إنَّه يَجْعَلُ في الطِّنْجِيرِ ماءً ويَغِيبُ فيه؟
فنَفَضَ يدَهُ وقال: لا أَدْرِي ما هذا؟
قِيلَ له:
أَفَتَرَى أن يُؤْتَى مثلُ هذا؟
قال: لا أَدْرِي ما هذا؟
وهذا صَرِيحٌ في النَّهْيِ عن النُّشْرةِ على الوَجْهِ المَكْرُوهِ.
وكيف يُجِيزُهُ؟
وهو الذي رَوَى الحديثَ أنَّها مِن عَمَلِ الشَّيطانِ؟
ولكنْ لَمَّا كانَ لفظُ النُّشْرةِ مُشْتَرَكًا بينَ الجائِزةِ والتي مِن عَمَلِ الشَّيطانِ، ورَأَوْهُ قد أَجازَ النُّشْرةَ ظَنُّوا أنَّه قدْ أَجازَ التي مِن عَملِ الشَّيطانِ، وحاشَاه من ذلكَ.
وممَّا جاءَ في صِفةِ النُّشْرةِ الجائزةِ:
ما رَوَاهُ ابنُ أَبِي حاتِمٍ وأَبُو الشَّيْخِ عن لَيْثِ بنِ أَبِي سُلَيْمٍ قالَ: (بَلَغَنِي أنَّ هؤلاءِ الآياتِ شِفاءٌ مِن السِّحْرِ بإِذْنِ اللهِ تُقْرَأُ في إنِاءٍ فيه ماءٌ ثم تُصَبُّ على رَأْسِ المَسْحُورِ، الآيةُ التي في يُونُسَ: {فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ …}إلى قولِهِ: {وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[يُونُس:81،82] وقولُهُ: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}[الأعراف:117] إلى آخِرِ أربعِ آياتٍ).
- وقولُهُ: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}[طه:69] .
- وقالَ ابنُ بَطَّالٍ: في كِتابِ وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ: (إنَّهُ يَأْخُذُ سَبْعَ وَرَقاتٍ مِن سِدْرٍ أَخْضَرَ فيَدُقُّه بينَ حَجَرَيْنِ، ثم يَضْرِبُهُ بالماءِ ويَقْرَأُ فيه آيةَ الكُرْسِيِّ والقَوَاقِلَ، ثمَ يَحْسُو منه ثلاثَ حَسَواتٍ، ثم يَغْتَسِلُ به فإنَّه يُذْهِبُ عنهُ كلَّ ما بِهِ، وهو جَيِّدٌ للرَّجلِ إذا حُبِسَ عن أَهْلِهِ).
فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ
قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (8)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((بابُ مَا جَاءَ في النُّشْرَةِ)) بضَمِّ النونِ، كما في (القاموسِ). قالَ أبو السَّعاداتِ: (النُّشْرَةُ ضَرْبٌ من العِلاجِ والرُّقْيَةِ، يُعَالَجُ بِهِ مَنْ كانَ يُظَنُّ أنَّ بهِ مَسًّا من الْجِنِّ، سُمِّيَتْ نُشْرَةً؛ لأنَّهُ يُنْشَرُ بها عنه ما خَامَرَهُ من الداءِ؛ أيْ: يُكْشَفُ ويُزالُ).
قالَ الْحَسَنُ: (النُّشْرَةُ من السِّحْرِ، وقدْ نَشَّرْتُ عنه تَنشيرًا، ومنهُ الحديثُ:((فَلَعَلَّ طِبًّا أَصَابَهُ، ثُمَّ نَشَرَهُ بِـ: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ)) أيْ: رَقَاهُ).
وقالَ ابنُ الْجَوْزِيِّ: (النُّشرةُ حَلُّ السِّحْرِ عن المسحورِ، ولا يَكادُ يَقْدِرُ عليهِ إلاَّ مَنْ يَعْرِفُ السحْرَ).
(9) قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ((عَنْ جابرٍ: أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُئِلَ عَنِ النُّشْرَةِ فَقَالَ: ((هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ)) رواهُ أَحْمدُ بسَنَدٍ جَيِّدٍ، وأبو داوُدَ وقالَ: سُئِلَ أحمدُ عنها فقالَ: ابنُ مسعودٍ يَكْرَهُ هذا كلَّهُ)). هذا الحديثُ رواهُ أَحمدُ، ورَواهُ أبو دَاوُدَ في (سُنَنِهِ)، والفَضْلُ بنُ زِيادٍ في كِتابِ (المسائلِ)، عنْ عبدِ الرزَّاقِ، عنْ عَقِيلِ بنِ مَعْقِلِ بنِ مُنَبِّهٍ، عنْ عمِّهِ وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ، عنْ جَابِرٍ، فذَكَرَهُ، قالَ ابنُ مُفْلِحٍ: إسنادُهُ جَيِّدٌ، وحَسَّنَ الحافظُ إسنادَهُ. قولُهُ: ((سُئِلَ عن النُّشْرَةِ)) الألِفُ واللامُ في ((النُّشْرَةِ)) للعَهْدِ؛ أي: النُّشرةِ الْمَعهودةِ التي كان أهلُ الجاهليَّةِ يَصْنَعُونَها هيَ منْ عَمَلِ الشيطانِ. قولُهُ: ((وقالَ: سُئِلَ أحمدُ عنها فقالَ: ابنُ مَسعودٍ يَكْرَهُ هذا كُلَّهُ)) أرادَ أحمدُ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ ابنَ مَسعودٍ يَكْرَهُ النُّشْرَةَ التي هيَ منْ عَمَلِ الشيطانِ كما يَكْرَهُ تَعليقَ التمائمِ مُطْلَقًا.
(10)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وللبخاريِّ عنْ قَتَادَةَ: قُلْتُلابنِ الْمُسيِّبِ: رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ أَوْ يُؤَخَّذُ عَنِ امْرَأَتِهِ: أَيُحَلُّ عَنْهُ أَو يُنَشَّرُ؟
قالَ: لا بأسَ بِهِ، إنَّما يُريدونَ بِهِ الإصْلاحَ، فأمَّا ما يَنفَعُ فَلَمْ يُنْهَ عَنْهُ).
قولُهُ: ((عَنْ قَتَادَةَ)) هوَ ابنُ دِعامةَ -بكسْرِ الدالِ- السَّدوسيُّ، ثِقَةٌ فَقيهٌ، منْ أَحْفَظِ التابعينَ، قالُوا: إنَّهُ وُلِدَ أَكْمَهَ، ماتَ سنةَ بِضْعَ عشرةَ ومائةٍ.
قولُهُ: ((رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ)) بكسْرِ الطاءِ؛ أيْ: سِحْرٌ، يُقالُ: طُبَّ الرجُلُ - بالضَّمِّ - إذا سُحِرَ، ويُقالُ: كَنَّوا عن السحْرِ بالطِّبِّ تَفَاؤُلاً، كما يُقالُ لِلدِيغِ: سَلِيمٌ.
- وقالَ ابنُ الأَنباريِّ: (الطِّبُّ من الأَضدادِ، يُقالُ لعِلاجِ الداءِ: طِبٌّ، والسحْرُ من الداءِ، ويُقالُ لهُ: طِبٌّ).
قولُهُ: ((يُؤَخَّذُ)) بفَتْحِ الواوِ مَهموزةً، وتَشديدِ الخاءِ الْمُعْجَمَةِ، وبعدَها ذالٌ مُعْجَمَةٌ؛ أيْ: يُحْبَسُ عن امرأتِهِ، ولا يَصِلُ إلَى جِمَاعِها، والأُخْذَةُ - بضَمِّ الْهَمزةِ - الكلامُ الذي يَقولُهُ الساحرُ.
قولُهُ: ((أُيُحَلُّ)) بضَمِّ الياءِ وفَتْحِ الحاءِ مَبْنِيٌّ للمفعولِ.
قولُهُ: ((أَوْ يُنَشَّرُ)) بتشديدِ الْمُعْجَمَةِ.
قولُهُ: ((لا بَأْسَ بهِ)) يَعْنِي أنَّ النُّشْرَةَ لا بَأْسَ بها؛ لأنَّهُم يُريدونَ بها الإصلاحَ؛ أيْ: إزالةَ السِّحْرِ؛ ولم يُنْهَ عما يُرادُ بهِ الإصلاحُ، وهذا مِن ابنِ الْمُسَيِّبِ يُحْمَلُ علَى نَوْعٍ من النُّشْرَةِ لا يَعْلَمُ أنَّهُ سِحْرٌ.
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: ويُرْوَى عن الْحَسَنِ أنَّهُ قالَ: (لا يَحُلُّ السِّحْرَ إلاَّ ساحرٌ) هذا الأَثَرُ ذَكَرَهُ ابنُ الْجَوْزِيِّ في (جامِعِ الْمَسانيدِ).
والحسَنُ هوَ ابنُ أبي الْحَسَنِ واسمُهُ: يَسارٌ - بالتَّحْتِيَّةِ والْمُهْمَلَةِ - البَصريُّ الأنصاريُّ، مَولاهُم، ثِقَةٌ فقيهٌ، إمامٌ منْ خِيارِ التابعينَ، ماتَ سنةَ عَشْرٍ ومائةٍ وقدْ قارَبَ التسعينَ.
(11)
قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قالَ ابنُ الْقَيِّمِ: (النُّشرةُ حَلُّ السحْرِ عن المسحورِ، وهيَ نَوعانِ:
أحدُهما:
حَلٌّ بسِحْرٍ مثلِهِ،
وهوَ الذي مِنْ عَمَلِ الشيطانِ، وَعَلَيْهِ يُحمَلُ قولُ الحسنِ، فيَتَقَرَّبُ الناشِرُ والمُنْتَشِرُ إلَى الشَّيطانِ بما يُحِبُّ، فيُبْطِلُ عَمَلَهُ عَنِ الْمَسْحُورِ.
والثاني:
النُّشْرَةُ بالرُّقْيَةِ والتَّعُوُّذَاتِ والأَدْوِيَةِ والدَّعواتِ الْمُبَاحَةِ،
فَهذا جائِزٌ).
ومِمَّا جاءَ في صِفَةِ النُّشرةِ الجائزةِ ما رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ، وأبو الشيخِ، عنْ ليثِ بنِ أبي سُلَيْمٍ قالَ: بَلَغَني أنَّ هَؤلاءِ الآياتِ شِفاءٌ من السِّحْرِ بإذنِ اللهِ؛ تُقرأُ في إناءٍ فيهِ ماءٌ، ثمَّ يُصَبُّ علَى رَأْسِ المسحورِ: الآيَةُ التي في سورةِ يُونُسَ:{فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}[يونس:81،82]، وقولُهُ: {فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}، [الأعراف:118] إلَى آخِرِ الآياتِ الأَرْبَعِ.
- وقولُهُ: {إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}.[طه:69].
وقالَ ابنُ بَطَّالٍ: في كتابِ وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ: (أن يَأْخُذَ سَبْعَ وَرَقَاتٍ منْ سِدْرٍ أَخْضَرَ فيَدُقَّهُ بينَ حَجَرَيْنِ، ثمَّ يَضْرِبَهُ بالماءِ، ويَقرأَ فيهِ آيَةَ الْكُرْسِيِّ والقواقِلَ، ثمَّ يَحْسُوَ منهُ ثلاثَ حَسَوَاتٍ، ثمَّ يَغْتَسِلَ بهِ يَذْهَبْ عنه كلُّ ما بهِ، هوَ جَيِّدٌ للرَّجُلِ إذا حُبِسَ عنْ أَهْلِهِ).
قُلْتُ: قولُ العَلاَّمَةِ ابنِ الْقَيِّمِ (والثاني: بالرُّقْيَةِ والتَّعَوُّذَاتِ والدَّعَوَاتِ والأَدْوِيَةِ الْمُباحَةِ فهذا جائزٌ) يُشيرُ إلَى مِثْلِ هذا، وعليهِ يُحْمَلُ كلامُ مَنْ أَجازَ النُّشرةَ من العُلماءِ.
والحاصلُ: أنَّ ما كان منهُ بالسِّحْرِ فيَحْرُمُ، وما كان بالقرآنِ والدعواتِ والأَدْوِيَةِ الْمُباحَةِ فجائزٌ، واللهُ أَعْلَمُ.
القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي
قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (2)
وهو حَلُّ السِّحْرِ عن المسحورِ، ذكر فيه المصنِّفُ كلامَ ابنِ القيمِ في التفصيلِ بينَ الجائزِ منه والممنوعِ، وفيه كفايةٌ.
تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي
قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ((22)
تعريفُ النُّشْرَةِ:
في اللغةِ:
بضمِّ النونِ فُعْلَةٌ من النَّشْرِ وهوَ التفريقُ.
وفي الاصطلاحِ: حلُّ السِّحرِ عَن المسحورِ؛ لأنَّ هذا الذي يَحُلُّ السحرَ عَن المسحورِ يرفعُهُ ويُزِيلُهُ ويُفَرِّقُهُ. أمَّا حكمُها: فهوَ يتبيَّنُ ممَّا قالَهُ المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ، وهوَ مِنْ أحسنِ البياناتِ. ولا رَيْبَ أنَّ حَلَّ السحرِ عَن المسحورِ مِنْ بابِ الدواءِ والمعالجةِ،
وفيهِ فضلٌ كبيرٌ لِمَن ابتغى بِهِ وَجْهَ اللهِ، لكنْ في القسمِ المباحِ
مِنْها؛ لأنَّ السحرَ لهُ تأثيرٌ على بدنِ المسحورِ وعقْلِهِ ونفسِهِ وضيقِ
الصدرِ، حيثُ لا يأْنَسُ إلاَّ بِمَن اسْتُعْطِفَ عَلَيْهِ. وأحيانًا يكونُ التأثير أمراضًا نفسيَّةً بالعكسِ، تُنَفِّرُ هذا المسحورَ
عَمَّنْ تُنَفِّرُهُ عَنْهُ مِن الناسِ، وأحيانًا يكونُ التأثير أمراضًا
عقليَّةً، فالسحرُ لهُ تأثيرٌ إمَّا على البدنِ، أو العقلِ، أو النفسِ. قولُهُ: (عن النُّشْرَةِ) ألْ للعهدِ الذهنِيِّ، أي: المعروفةِ عندَهُم التي كانوا يستعملُونَها في الجاهليَّةِ، وذلِكَ طريقٌ مِنْ طُرُقِ حَلِّ السِّحْرِ، نوعان:
الأوَّلُ:
أنْ تكونَ باستخدامِ الشياطينِ،
فإنْ كانَ لا يَصِلُ إلى حاجَتِهِ مِنْهُمْ إلاَّ بالشركِ كانتْ شِرْكًا، وإنْ كانَ يتوَصَّلُ لذلكَ بمعصيةٍ دونَ الشركِ كانَ لها حُكْمُ تلكَ المعصيةِ.
الثاني:
أنْ تكونَ بالسحرِ كالأدويةِ والرُّقَى والعَقْدِ والنَّفْثِ
وما أشَبْهَ ذلِكَ، فهذا لهُ حكمُ السحرِ على ما سبقَ.
ومِنْ ذلِكَ ما يفعلُهُ بعضُ الناسِ، أنَّهم يضعونَ فوقَ رأسِ المسحورِ طَسْتًا فيهِ ماءٌ، ويصُبُّونَ عليهِ رَصاصًا، ويزْعُمونَ أنَّ الساحرَ يَظْهَرُ وجهُهُ في هذا الرصاصِ، فيُسْتَدَلُّ بذلِكَ على مَنْ سحَرَهُ.
وقدْ سُئِلَ الإمامُ أحمدُ عَن النُّشْرةِ؟
فقالَ: (إنَّ بعضَ الناسِ أجازَها).
فقيلَ لهُ: إنَّهم يجعلونَ ماءً في طَسْتٍ، وإنَّهُ يغُوصُ فيهِ، وإنَّهُ يبدو وجْهُهُ، فنفضَ يدَهُ.
فقالَ: (ما أدرِي ما هذا؟!.. ما أدْرِي ما هذا؟!)
فكأنَّهُ رَحِمَهُ اللهُ توَقَّفَ في الأمرِ وكَرِهَ الخوضَ فيهِ.
(23)
قولُهُ: ((مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)) أيْ: من العملِ الذي يأمرُ بهِ الشيطانُ ويُوحِي بهِ؛ لأنَّ الشيطانَ يأمرُ بالفحشاءِ ويُوحِي إلى أوليائِهِ بالمنكرِ، وهذا يُغْنِي عنْ قوْلِهِ: إنَّها حرامٌ، بلْ هوَ أشدُّ؛ لأنَّ نِسْبَتَهَا للشيطانِ أبلغُ في تقبيحِها والتنفيرِ منها، ودلالةُ النصوصِ على التحريمِ لا تنحصرُ في لفظِ التحريمِ أوْ نفيِ الجوازِ، بلْ إذا رُتِّبَت العقوباتُ على الفعلِ كانَ دليلاً على تحريمِهِ.
قولُهُ:((فقالَ: ابنُ مسعودٍ يكْرَهُ هذا كُلَّهُ)) أجابَ رَحِمَهُ اللهُ بقولِ الصحابيِّ، وكأنَّهُ لَيْسَ عِنْدَهُ أَثَرٌ صحيحٌ عَن النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في ذلِكَ، وإلاَّ ما استدلَّ بهِ.
والمُشَارُ إليهِ في قولِهِ: ((يَكْرَهُ هذا كُلَّهُ)) كلُّ أنواعِ النُّشرةِ، وظاهرُهُ ولوْ كانَتْ على الوجهِ المباحِ على ما يأتي، لكِنَّهُ غيرُ مرادٍ؛ لأنَّ النُّشْرَةَ بالقرآنِ والتعَوُّذَاتِ المشروعةِ لم يقُلْ أحدٌ بكَرَاهَتِها.
وسبقَ أنَّ ابنَ مسعودٍ رضيَ اللهُ عنهُ كانَ يكْرَهُ تعليقَ التمائمِ من القرآنِ وغيرِ القرآنِ.
وعلى هذا فالكُلِّيَّةُ في قولِ أحمدَ(يكْرَهُ هذا كُلَّهُ) يرادُ بها النُّشْرَةُ التي منْ عملِ الشيطانِ، وهيَ النُّشْرَةُ بالسحرِ، والنُّشْرَةُ التي من التمائمِ.
وقولُهُ: ((يَكْرَهُ)) الكراهةُ عندَ المتقدِّمِينَ يُرادُ بها التحريمُ غالبًا، ولا تخرجُ عنهُ إلاَّ بقرينةٍ، وعِنْدَ المتأخِّرِينَ خلافُ الأُولَى.
(24)
قولُهُ: ((رَجُلٌ بِهِ طِبٌّ)) أيْ: سِحْرٌ، ومِن المعلومِ أنَّ الطبَّ هوَ علاجُ المرضِ، لكنْ سُمِّيَ السحرُ طِبًّا مِنْ بابِ التَّفَاؤُلِ، كَمَا سُمِّيَ اللدِيغُ سليمًا، والكسيرُ جبيرًا.
(25)
قولُهُ: ((أَوْ يُؤَخَّذُ عَن امْرَأَتِهِ)) أيْ: يُحْبَسُ عنها فلا يَصِلُ إلى جِمَاعِها، وهوَ لَيْسَ بهِ بَأْسٌ، وهذا نوعٌ مِن السحرِ.
وقدْ ذَكَرَ بعضُ أهلِ العلمِ أنَّ مِن العلاجِ أنْ يُطَلِّقَها، ثمَّ يُرَاجِعَها، فينفكُّ السِّحْرُ، لكنْ لا أدري هلْ هذا يصحُّ أمْ لا؟
فإذا صحَّ، فالطلاقُ هنا جائزٌ؛ لأنَّهُ طلاقٌ للاستبقاءِ، فيُطلِّقُ كعلاجٍ، ونحنُ لا نُفْتِي بشيءٍ منْ هذا، بَلْ نقولُ: لا نعرفُ عنهُ شيئًا.
و ((أوْ)) في قوْلِهِ: ((أَوْ يُؤَخَّذُ)) يُحتَمَلُ أنَّها للشكِّ من الرَّاوي، هلْ قالَ قتادةُ:((بهِ طِبٌّ)) أوْ قالَ:((يُؤَخَّذُ عن امْرَأَتِهِ)) أيْ: أوْ قُلْتُ: يُؤَخَّذُ، ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ للتنويعِ، أيْ: سألْتُهُ عَنْ أمْرَيْنِ؛ عن المسحورِ وعَن الذي يُؤَخَّذُ عَن امرأتِهِ.
(26)
قولُهُ: ((أَيُحَلُّ عَنْهُ أَوْ يُنْشَرُ)) لا شكَّ أنَّ (أوْ) هنا للشكِّ؛ لأنَّ الحَلَّ هوَ النُّشْرَةُ.
(27)
قولُهُ: (لا بَأْسَ بِهِ، إنَّما يُريدونَ بِهِ الإصْلاحَ) كأنَّ ابنَ المُسَيِّبِ رَحِمَهُ اللهُ قسَّمَ السحرَ إلى قسميْنِ:ضارٌّ، ونافعٌ.
- فـالضارُّ مُحَرَّمٌ، قالَ تعالى: { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ }.
- والنافعُ لا بأسَ بهِ، وهذا ظاهرُ ما رُوِيَ عنهُ.
وبِهذا أخذَ أصحابُنا الفقهاءُ فقالوا: يجوزُ حلُّ السحرِ بالسحرِ للضرورةِ، وقالَ بعضُ أهلِ العلمِ: إنَّهُ لا يجوزُ حلُّ السحرِ بالسحرِ، وحمَلُوا ما رُوِيَ عَن ابنِ المسيِّبِ بأنَّ المرادَ بهِ ما لا يُعْلَمُ عَنْ حالِهِ، هَلْ هوَ سحرٌ، أمْ غيرُ سحرٍ، أمَّا إذا عُلِمَ أنَّهُ سحرٌ فلا يَحِلُّ واللهُ أعلمُ.
ولكنْ على كلِّ حالٍ حتَّى ولوْ كانَ ابنُ المُسَيِّبِ ومَنْ فَوْقَ ابنِ المُسَيِّبِ مِمَّنْ ليسَ قولُهُ حُجَّةً يرى أنَّهُ جائزٌ، فلَيْسَ معنى ذلكَ أنْ يكونَ جائزًا في حُكْمِ اللهِ حتَّى يُعْرَضَ على الكتابِ والسُّنَّةِ، وقدْ سُئِلَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عَن النُّشْرَةِ؟
فقالَ: ((هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)).
قولُهُ: (ورُوِيَ عن الحسنِ: لا يَحُلُّ السحرَ إلاَّ ساحرٌ) هذا الأثرُ إنْ صحَّ فمُرَادُ الحسنِ الحَلُّ المعروفُ غالبًا، وأنَّهُ لا يقَعُ إلاَّ من السحرةِ.
قولُهُ: (قالَ ابنُ القَيِّمِ: (النُّشْرَةُ حلُّ السحرِ عن المسحورِ... إلخ ) هذا الكلامُ جيِّدٌ، ولا مَزِيدَ عليهِ.
(28)
فيهِ مَسائِلُ:
الأُولَى: (النهيُ عن النُّشرةِ) تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((هِيَ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ)) ولَيْسَ فيهِ صيغَةُ نَهْيٍ، لكنْ فيهِ ما يدُلُّ عليه؛ لأنَّ طُرُقَ إثباتِ النهيِ لَيْسَت الصيغةَ فَقَطْ، بَلْ ذمُّ فاعلِهِ ونحْوُهُ، وتقبيحُ الشيءِ وما أشَبْهَ ذلِكَ يدلُّ على النهيِ.
(29)
الثانيةُ: (الفَرْقُ بينَ الْمَنْهِيِّ عنهُ والْمُرَخَّصِ فيهِ) تُؤْخَذُ مِنْ كلامِ ابنِ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ وتفصيلِهِ.
ما الجمعُ بينَ قولِ الفقهاءِ رَحِمَهُم اللهُ: يجوزُ حَلُّ السحرِ بالسحرِ، وبينَ قولِهم: يجبُ قَتْلُ الساحرِ؟
الجَمْعُ:
أنَّ مُرَادَهُم بقتلِ الساحرِ مَنْ يضرُّ بسحْرِهِ دونَ مَنْ ينْفَعُ، فلا يُقْتَلُ، أوْ أنَّ مُرَادَهُم: بيانُ حُكْمِ حَلِّ السحرِ بالسحرِ للضرورةِ، وأمَّا الإبقاءُ على الساحرِ فَلَهُ نظرٌ آخر، واللهُ أعلمُ.
شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب ما جاء في النُّشرة:
النشرة متعلقة بالسحر، وأصلها من النشر، وهو قيام المريض صحيحاً. النشرة اسم لعلاج المسحور، سُميت نشرة لأنه ينتشر بها، أي: يقوم ويرجع إلى حاله المعتادة، وقول الشيخ -رحمه الله- هنا: (باب ما جاء في النشرة) يعني من التفصيل، وهل النشرة جميعاً - وهي حل السحر - مذمومة، أو أن منها ما هو مذموم ومنها ما هو مأذون به؟ ومناسبة هذا الباب لكتاب التوحيد ظاهرة، وهي: أنه كما أن السحر شرك بالله -جل وعلا- يقدح في أصل التوحيد وأن الساحر
مشرك الشرك الأكبر بالله، فالنشرة التي هي حل السحر قد يكون من ساحر وقد
يكون من غير ساحر بالأدوية المأذون بها أو الأدعية ونحو ذلك. وكذلك: مناسبتها لباب التوحيد؛ لأن كثيرين ممن يستعملون النشرة يشركون بالله جل وعلا. والنشرة كما سمعتم في الباب قسمان: - نشرة جائزة. - ونشرة ممنوعة. النشرة الجائزة: هي ما كانت بالقرآن، أو بالأدعية المعروفة، أو بالأدوية عند الأطباء،
ونحو ذلك، فإن السحر يكون كما ذكرنا عن طريق الجن، والسحر يحصل منه إمراض
حقيقة في البدن، ويحصل منه تغيير حقيقة في العقل والذهن والفهم، وإذا كان
كذلك فإنه يُعالجَ بالمضادات التي تزيل ذلك السحر. فمما يزيله: القرآن، والقرآن هو أعظم ما ينفع في إزالة السحر. كذلك: الأدعية والأوراد ونحو ذلك مما هو معروف من الرقى الشرعية. - بالرقى. - والأدعية. - والقرآن. - وأحياناً يعالج عن طريق الأطباء العضويين، وذلك لأن السحر كما قلنا يُمرض حقيقة، فإذا أُزيل المرض أو سبب المرض فإنه يبطل السحر، ولهذا قال لك ابن القيم في آخر الكلام: (والثاني: النشرة بالرقية والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة فهذا جائز لأنه يحصل منه المرض، وإذا كان كذلك فإنه يعالج بما أذن به شرعاً من الرقى والأدوية المباحة. والقسم الثاني من النشرة: وهي التي من أنواع الشرك: أن يُنشَّر عنه بغير الطريق الأول؛ بطريق السحر فيحلُّ السحر بسحر آخر). وذكرنا أن السحر لا ينعقد أصلاً إلاّ بأن يتقرب الساحر إلى الجني، أو أن يكون الجني يخدم الساحر الذي يشرك بالله دائماً فيخدمه. كذلك حلّ السحر لابد فيه من إزالة سببه، وهو خدمة شياطين الجن للسحر، وهذا لا يمكن إلا للجنّ. فإن الساحر الثاني: الذي يُنشِّر السحر، ويرفع السحر لابد أن يستغيث
أو أن يتوجه إلى بعض جنّه في أن يرفع أولئك الجن الذي عقدوا هذا السحر، أن
يرفعوا أثره، فصار إذاً هذه الجهة أنها من حيث العقد والابتداء لا تكون
إلا بالشرك بالله، ومن حيث الرفع والنشر لا تكون إلا بالشرك بالله -جل
وعلا- ولهذا قال: ((لا يحل السحر إلا ساحر))يعني: لا يحل السحر بغير الطريق الشرعية المعروفة إلا ساحر، لا يأتي أحد ويقول أنا أحل السحر، هل تستخدم القراءة والتلاوة والأدعية؟ وقال: (سُئِل أحمد عنها فقال: ابن مسعود يكره هذا كله). (يكره هذا كله) يعني: أن تكون النّشرة عن طريق التمائم التي فيها القرآن، لأنه مرَّ معنا في ما سبق أن ابن مسعود كان يكره جميع أنواع التمائم حتى من القرآن؛ كما قال إبراهيم النَّخعيّ رحمه الله: (كانوا يكرهون التمائم كلها من القرآن ومن غير القرآن). أما النشرة باستخدام النفث والرقية من غير تعليق فلا يمكن للإمام أحمد، ولا لابن مسعود أن يكرهوا ذلك؛ لأن النبي -عليه الصلاة والسلام- استخدم ذلك وأذن به عملاً في نفسه، وكذلك في غيره عليه الصلاة والسلام. أما النشرة التي هي بالسحر، فابن مسعود أرفع من أن يقول إنها جائزة، ولم يُنه عنها، والنبي -عليه الصلاة والسلام- يقول: ((هي من عمل الشيطان)) لهذا قال: لا بأس به، إنما يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم يُنه عنه. أما ما ينفع، يعني: من الأدوية المباحة، ومن الرقى، والتعوذات الشرعية، وقراءة القرآن ونحو ذلك، فهذا لم يُنه عنه بل أُذن فيه، إذاً: فالسحر بلاء، وسُئل ابن المسيّب عن هذا الذي به طِبٌّ، يعني: سحر، أو يؤخَّذ عن امرأته بصرف القلب عنها، أيحل عنه أو ينشر؛ بأصل الحل والنشر؟ قال: (فيتقرب الناشر والمنتشر إلى الشيطان بما يحب) كما ذكرنا لكم سلفاً (فيبطل عمله عن المسحور) هذه حقيقة النشرة الشركية. يرى جواز حل السحر بمثله إذا كان للضرورة؛ كما قال فقهاء مذهب الإمام أحمد في بعض كتبهم: وله أو ويجوز حلّ سحرٍ بمثله ضرورة. معروف أن الأصول الخمسة أولها حفظ -يعني التي جاءت بها الشرائع- حفظ
الدين، وما هو دونها مرتبة: لا يُبذل ما هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى،
وضرورة الحفاظ على النفس. هذه لا شك أنها من الضروريات الخمس؛ لكنها دون
حفظ الدين مرتبة، ولهذا لا يُقدم ما هو أدنى على ما هو اعلى، أو أن يبذل ما
هو أعلى لتحصيل ما هو أدنى من الضروريات الخمس. والأنفس لا يجوز حفظها بالشرك، وهذا أن يموت وهو على التوحيد لاشك أنه خير له من أن يعافى وقد أتى بشركٍ
بالله جل وعلا، والسحر لا يكون إلا بشرك، والذي يأتي الساحر ويطلب منه حل
السحر، هذا معناه أنه رضي قوله وعمله، ورضي أن يعمل به ذاك، رضي أن يشرك ذاك بالله لأجل منفعته، وهذا غير جائز. - فإذاً: تحصَّل أن السحر وقوعاً.
فإذا كان من ساحر فإنها مناقضة لأصل التوحيد ومنافية لأصله، فإذاً: المناسبة ظاهرة في الصلة بين هذا الباب وباب ما جاء في السحر.
ونوعٌ من السحر يكون في البدن، يعني: من جهة عضوية؛ فهذا أحياناً يعالج:
قال لا.
هل أنت طبيب تُطب ذلك المسحور؟
قال لا، إذاً: فهو ساحر، إذا لم يستخدم الطريق الثانية فإنه لا يمكن أن
يحلّ السحر إلاّ ساحر؛ لأنه فكُّ أثر الجنّ في ذلك السحر، ولا يمكن إلا عن
طريق شياطين الجنّ الذين يؤثرون على ذاك.
قال رحمه الله: (عن جابرٍ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- سُئِل عن النشرة فقال هي من عمل الشيطان) سُئِل عن النشرة، السائل
سأله عمَّا كان معهوداً معروفاً في هذا الاسم وهو اسم النشرة، والذي كان
معروفاً معهوداً هو أن اسم النشرة، إنما هو من جهة الساحر.
النشرة عند العرب: هي حلّ السحر بمثله، هذه هي النشرة عند العرب، ولهذا سُئل النبي -عليه الصلاة والسلام- عن النشرة، فقال: ((هي من عمل الشيطان)).
قال العلماء (أل) أو لامَ التعريف في قوله (النشرة) هذه لام العهد، يعني: النشرة المعهود استعمالها، وهي حَلُّ السحر بمثله، فقال عليه الصلاة والسلام: ((هي من عمل الشيطان))لأن رفع السحر لا يكون إلا بعمل شيطان جني.
ولهذا قال عليه الصلاة والسلام (هي) يعني الرفع والنّشر من عمل الشيطان؛ لأن العقد أصلاً (من عمل الشيطان) والرفع والنشر من عمل الشيطان، فإذاً: هو سؤالٌ عن (النشرة) التي كانت تستخدم في الجاهلية،رواه أحمد بسند جيد وأبو داود.
يعني أصحاب ابن مسعود، وابن مسعود كذلك، فابن مسعود كان يكره التمائم من القرآن، وهو أن يُعلِّق شيئاً من القرآن لأي غرض: لدفع العين أو لإزالة السحر ورفع الضرر، لهذا الإمام أحمد، لما قال أبو داود سُئِل أحمد عنها، يعني: عن النشرة التي تكون بالتمائم من القرآن، فقال: ابن مسعود يكره هذا كله.
قال: (وفي البخاريّ عن قتادة، قلتُ لابن المسيب: رجل به طِبٌّ أو يُؤَخَّذُ عن امرأته أيُحل عنه أو يُنشّر؟
قال: لا بأس به إنما، يريدون به الإصلاح، فأما ما ينفع فلم يُنه عنه).
يُريد ابن المسيب بذلك: ما ينفع من النشرة بالتعوذات، والأدعية، والقرآن، والدواء المباح، ونحو ذلك.
يعني أيجوز أن يُرفع ذلك الطب الذي به، أو ذلك الأخذ عن امرأته بأي وسيلة.
قال: (نعم، ما ينفع فلم يُنه عنه، إنما يريدون به الإصلاح) ومعلوم أنه يريد بذلك ما أذن به في الشرع من القسم الذي ذكرنا فيه من جواز استخدام الرقى والتعوذات والأدوية والدعوات المباحة.
قال: (ورُوي عن الحسن أنه قال: لا يحل السحر إلا ساحر) وهذا بيّنا معناه.
قال ابن القيم: (النشرة
حل السحر عن المسحور، وهي نوعان:حل بسحر مثله، وهو الذي من عمل الشيطان
،وعليه يحمل قول الحسن -فيتقرب- هذه حقيقة النشرة الشركية).
قال: (والثاني النشرة بالرقية، والتعوذات، والأدوية، والدعوات المباحة،
فهذا جائز) إذا تبين ذلك فإن حكم حل السحر بمثله أنه لا يجوز ومحرّم، بل هو
شرك بالله جل وعلا؛ لأنه لا يحل السحر إلا ساحر.
بعض العلماء من أتباع المذاهب
وهذا القول ليس بصواب بل هو غلط؛ لأن الضرورة لا تكون جائزة ببذل الدين والتوحيد عوضاً عنها.
- وأن السحر نشراً، لا يكون إلا بالشرك الأكبر بالله جل وعلا؛ وعليه فلا يجوز أن يحل لا من جهة الضرورة، ولا من جهة غير الضرورة من باب أولى بسحرٍ مثله، بل يُحل وينشر بالرقى الشرعية.
العناصر
مناسبة باب (ما جاء في النشرة) لكتاب التوحي
مناسبة باب (ما جاء في النشرة) لباب السحر
- بيان المراد بالنشرة، وسبب تسميتها بذلك
- أقسام النشرة وأحكامها شرح حديث جابر رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
- بيان المراد بالنشرة التي سئل عنها النبي صلى الله عليه وسلم التعليق على قول الإمام أحمد رحمه الله
- تخريج أثر ابن مسعود التعليق على أثر قتادة رحمه الله
- ترجمة قتادة شرح أثر الحسن (لا يحل السحر إلا ساحر) - تخريج أثر الحسن (لا يحل السحر إلا ساحر) التعليق على كلام ابن القيم رحمه الله الجمع بين قول بعض الفقهاء: يجوز حل السحر بالسحر، وقولهم: يجب قتل الساحر بيان حكم المعزِّم الذي يعزم على المصروع، والذي يحل السحر ويزعم أن الجن تطيعه
- أنواع النشرة عند أهل الجاهلية
- معنى قوله: (من عمل الشيطان)
- بيان المراد بالكراهة عند السلف
- معنى قوله: (رجل به طب)
- معنى قوله: (أو يؤخذ)
- بيان مراد ابن المسيب بقوله في النشرة (لابأس به..)
- حكم حل السحر بالسحر للضرورة
- بيان أن من أجاز النشرة من العلماء فمراده النشرة المباحة
- ذكر بعض ما جاء في النشرة الجائزة
- ترجمة الحسن البصري رحمه الله
بيان غلط من قال من الفقهاء: يجوز حل السحر بمثله
شرح مسائل الباب.