الدروس
course cover
باب ما جاء في الكهان ونحوهم
26 Oct 2008
26 Oct 2008

5657

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم السادس

باب ما جاء في الكهان ونحوهم
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

5657

0

0


0

0

0

0

0

باب ما جاء في الكهان ونحوهم

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ فِي الْكُهَّانِ وَنَحْوِهِمْ

رَوَى مُسْلِمٌ فِي (صَحِيحِهِ) عَنْ بَعْضِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةٌ أَرْبَعِينَ يَوْمًا)).

وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم))رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ.


وَلِلأَرْبَعَةِ وَالْحَاكِمِ

-وَقَالَ: صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِهِمَا- عَنْ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم)).


وَلأَِبِي يَعْلَى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ مِثْلُهُ مَوْقُوفًا.

وَعَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أَوْ تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم)) رَوَاهُ الْبَزَّارُ بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ.

وَرَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ فِي (الأَوْسَطِ) بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ دُونَ قَوْلِهِ: ((وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا ...)) إلى آخره.

قَالَ الْبَغَوِيُّ:(الْعَرَّافُ: الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأُمُورِ بِمُقَدِّمَاتٍ يَسْتَدِلُّ بِهَا عَلَى الْمَسْرُوقِ وَمَكَانِ الضَّالَّةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ).

وَقِيلَ: هُوَ الْكَاهِنُ، وَالْكَاهِنُ هُوَ الَّذِي يُخْبِرُ عَنِ الْمُغَيَّبَاتِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ.


وَقِيلَ:

الَّذِي يُخْبِرُ عَمَّا فِي الضَّمِيرِ .

وَقَالَ أَبُو الْعَبَّاسِ ابْنُ تَيْمِيَّةَ(الْعَرَّافُ: اسْمٌ لِلْكَاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ وَالرَّمَّالِ وَنَحْوِهِمْ مِمَّنْ يَتَكَلَّمُ فِي مَعْرِفَةِ الأُمُورِ بِهَذِهِ الطُّرُقِ).

وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ فِي قَوْمٍ يَكْتُبُونَ أَبَاجَادٍ وَيَنْظُرُونَ فِي النُّجُومِ: (مَا أَرَى مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ خَلاَقٍ ).


فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: أَنَّهُ لاَ يَجْتَمِعُ تَصْدِيقُ الْكَاهِنِ مَعَ الإِيمَانِ بِالْقُرْآنِ.

الثَّانِيةُ: التَّصْرِيحُ بِأَنَّهُ كُفْرٌ.

الثَّالِثَةُ: ذِكْرُ مَنْ تُكُهِّنَ لَهُ.

الرَّابِعَةُ: ذِكْرُ مَنْ تُطُيِّرَ لَهُ.

الْخَامِسَةُذِكْرُ مَنْ سُحِرَ لَهُ.

السَّادِسَةُذِكْرُ مَنْ تَعَلَّمَ أباجاد.

السَّابِعَةُ: ذِكْرُ الْفَرْقِ بَيْنَ الْكَاهِنِ وَالْعَرَّافِ.

هيئة الإشراف

#2

27 Oct 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)

اعْلَمْ أنَّ الكُهَّانَ الذينَ يَأْخُذُونَ عن مُسْتَرِقِي السَّمْعِ مَوْجودونَ إلى اليومِ،

لكنَّهم قليلٌ بالنِّسْبةِ لِمَا كانُوا عليهِ في الجاهِلِيَّةِ؛ لأنَّ اللهَ تعالى حَرَسَ السَّماءَ بالشُّهُبِ، ولم يَبْقَ مِن اسْتِراقِهم إلاَّ ما يَخْطَفُهُ الأعلى، فيُلْقِيه إلى الأسفلِ قبلَ أن يُصِيبَهُ الشِّهابُ.

وأمَّا ما يُخْبِرُ به الجِنِّيُّ مَوَالِيَه مِن الإنسِ بِمَا غابَ عن غيرِه مِمَّا لا يَطَّلِعُ عَلَيْهِ الإنسانُ غالِبًا فكثيرٌ جِدًّا في أُناسٍ يَنْتَسِبُونَ إلى الوِلايةِ والكَشْفِ، وهم مِن الكُهَّانِ إخوانِ الشياطينِ، لا مِن الأَوْلِياءِ.

ولَمَّا ذَكَرَ المُصَنِّفُ شيئًا مِمَّا يَتَعَلَّقُ بالسِّحْرِ ذَكَرَ ما جاءَ في الكُهَّانِ ونحوِهم، كالعَرَّافِ لِمُشابَهةِ هؤلاءِ لِلسَّحَرةِ.

والكَهانةُ: ادِّعاءُ عِلْمِ الغَيْبِ كالإخبارِ بِمَا سَيَقَعُ في الأَرْضِ مع الاسْتِنادِ إلى سَبَبٍ. والأَصْلُ فيه اسْتِراقُ الجِنِّ السَّمْعَ من كلامِ الملائكةِ، فتُلْقِيهِ في أُذُنِ الكاهِنِ.


والكاهِنُ: لفظٌ يُطْلَقُ على العَرَّافِ والذي يَضْرِبُ الحَصَى والمُنَجِّمِ.

وقالَ في (المُحْكَمِ)(الكاهِنُ: القاضيِ بالغَيْبِ).

وقال الخطَّابيُّ(الكُهَّانُ فيما عُلِمَ بِشَهادةِ الامتحانِ: قومٌ لهم أَذْهانٌ حادَّةٌ ونُفوسٌ شِرِّيرةٌ، وطَبائِعُ ناريَّةٌ، فهم يَفْزَعُونَ إلى الجِنِّ في أُمورِهم، ويَسْتَفْتُونَهم في الحَوَادِثِ، فيُلْقُونَ إليهم الكِلماتِ).


(2)

هذا الحديثُ رَوَاهُ مُسْلِمٌ كما قالَ المُصَنِّفُ، ولَفْظُهُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ المُثَنَّى العَنَزِيُّ، ثَنَا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، عن عُبَيْدِ اللهِ - في نُسْخةٍ: عبدِ اللهِ - عن نافِعٍ، عن صَفِيَّةَ، عن بعضِ أزواجِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةُ أَرْبَعينَ يَوْمًا وَلَيْلَةً)) هَكَذا رَوَاهُ، وليسَ فيه: ((فَصَدَّقَهُ)).

قولُهُ: ((عن بعضِ أزواجِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) هي حَفْصَةُ، على ما ذَكَرَهُ أبو مَسْعُودٍ الدِّمَشْقِيُّ؛ لأنَّه ذَكَرَ هذا الحديثَ في الأطرافِ في مُسْنَدِها، وكذلك سَمَّاهُ بعضُ

وظاهرُ الحديثِ أنَّ هذا الوَعِيدَ مُرَتَّبٌ على مَجِيئِهِ وسُؤالِهِ، سَواءٌ صَدَّقَهُ أو شَكَّ في خَبَرِه؛ لأنَّ الرُّواةِ.

قولُهُ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ)) العَرَّافُ سيَأْتِي بَيانُه، وهوَ مِن أنواعِ الكُهَّانِ.


إِتْيانَ الكُهَّانِ مَنْهِيٌّ عنهُ

كمَا في حديثِ مُعاوِيةَ بنِ الحَكَمِ السُّلَمِيِّقُلْتُ: يا رَسُولَ اللهِ إِنَّ مِنَّا رِجالاً يَأْتُونَ الكُهَّانَ قال:((فَلاَ تَأْتِهِمْ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.

ولأنَّهُ إذا شَكَّ في خَبَرِهِ، فقد شَكَّ في أنَّهُ لا يَعْلَمُ الغيبَ، وذلكَ مُوجِبٌ لِلوعيدِ، بل يَجِبُ عليهِ أن يَقْطَعَ ويَعْتَقِدَ أنَّهُ لا يَعْلَمُ الغيبَ إلاَّ اللهُ.

قولُهُ:((لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا)) إذا كانَتْ هذهِ حالَ السَّائلِ، فكيفَ بالمَسْؤُولِ؟

قال النَّوَوِيُّ وغيرُهُ: (معناهُ: أنَّهُ لا ثَوابَ له فِيهَا، وإن كانَتْ مُجْزِئةً في سُقوطِ الفَرْضِ عنهُ، ولا يُحْتاجُ معها إلى إِعادةٍ، ونَظِيرُ هذهِ الصَّلاةُ في أَرْضٍ مَغْصُوبةٍ، مُجْزِئةٌ مُسْقِطةٌ للقَضاءِ، لكن لا ثَوابَ له فِيهَا، قالَهُ جُمْهورُ أَصْحابِنا، قالُوا: فصَلاةُ الفَرْضِ إذا أَتَى بها على وَجْهِهَا الكاملِ، تَرَتَّبَ عليها شيئانِ:

-

سُقوطُ الفَرْضِ.

-

وحُصولُ الثَّوابِ.

فإذا أدَّاهَا في أَرْضٍ مَغْصُوبةٍ، حَصَلَ لهُ الأوَّلُ دونَ الثاني، ولا بدَّ مِنْ هذا التَّأْوِيلِ في هذا الحديثِ؛ فإنَّ العلماءَ مُتَّفِقونَ على أنَّهُ لا يَلْزَمُ مَن أَتَى العَرَّافَ إعادةُ صلاةِ أَرْبَعِينَ ليلةً فَوَجَبَ تَأْوِيلُهُ)

هذا كلامُهُ.

وهو مَبْنِيٌّ على المُلازَمةِ بينَ الإِجْزاءِ وعَدَمِ الإعادةِ.


والصَّوَابُ أَنَّ عدمَ الإعادةِ لا يَسْتَلْزِمُ الإجزاءَ،

لكنَّ الصَّلاةَ في الأرضِ المَغْصُوبةِ في إجزائِها نِزاعٌ، والمَشْهورُ من مَذْهبِ أحمدَ أنَّها لا تُجْزِئُ وتَجِبُ إِعادتُها.

وفي الحديثِ النَّهْيُ عن إتيانِ الكاهِنِ ونحوِهِ.


قال القُرْطُبِيُّ(يَجِبُ على مَن قَدَرَ على ذلكَ مِنْ مُحْتَسِبٍ وغيرِهِ أن يُقِيمَ على مَنْ يَتَعاطَى شيئًا مِن ذلكَ مِن التَّعْزِيراتِ، ويُنْكِرَ عليهم أَشْدَّ النَّكِيرِ، وعلى مَن يَجِيءُ إليهم، ولا يُغْتَرُّ بصِدْقِهم في بعضِ الأمورِ، ولا بِكَثْرةِ مَن يَجِيءُ إليهم مِمَّنْ يُنْسَبُ إلى العِلْمِ، إنَّهم غيرُ راسِخِين في العِلْمِ، بل مِن الجُهَّالِ بما في إتيانِهم مِن المَحْذُورِ).


(3)

هذا الحديثُ رَوَاهُ

أبو داودَ ولفظُهُ: حَدَّثَنا مُوسَى بنُ إِسْماعِيلَ، ثَنَا حَمَّادٌ، ح، وحَدَّثَنا مُسَدَّدٌ، ثَنَا يَحْيَى، عن حَمَّادِ بنِ سَلَمَةَ، عن حَكِيمٍ الأَثْرَمِ، عن أَبِي تَمِيمةَ، عن أَبِي هُرَيْرَةَ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا -قَالَ مُوسَى فِي حَدِيثِهِ- فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ، أَوْ أَتَى امْرَأَةً -قَالَ مُسَدَّدٌامْرَأَتَهُ- حَائِضًا، أَوْ أَتَى امْرَأَةً -قَالَ مُسَدَّدٌ: يَعْنِي: امْرَأَتَهُ- فِي دُبُرِها، فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))ورَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، والنَّسائيُّ، وابنُ ماجةَ بنحوِه.

وقالَ التِّرْمِذِيُّ(لا نَعْرِفُهُ إلاَّ مِن حديثِ الأَثْرَمِ، وضَعَّفَ محمدٌ هذا الحديثَ من جِهةِ إسنادِهِ).

وقالَ البَغَوِيُّ(سَنَدُهُ ضَعِيفٌ).

وقال الذَّهَبِيُّ(ليسَ إسنادُهُ بالقائمِ).

قُلْتُ: أَطَالَ أَبُو الفَتْحِ اليَعْمَرِيُّ في بَيانِ ضَعْفِهِ وادَّعَى أن مَتْنَهُ مُنْكَرٌ، وأَخْطَأَ في إطلاقِ ذلكَ، فإن إِتْيانَ الكاهِنِ لهُ شَوَاهدُ صَحِيحَةٌ، مِنهَا ما ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ بعدَهُ.


وكذلكَ إِتْيانُ المرأةِ في الدُّبُرِ لَهُ شَواهدُ:

مِنهَا:

ما رَوَاهُ عبدُ بنُ حُمَيْدٍ بإسنادٍ صَحِيحٍ، عن طَاووسٍ أنَّ رَجُلاً سَأَلَ ابنَ عَبَّاسٍ عن إتيانِ المرأةِ في دُبُرِهَا فَقَالَ: تَسْأَلُنِي عن الكُفْرِ؟!

ومنهَا:

ما رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ، والنَّسائِيُّ، وابنُ حِبَّانَ في (صَحِيحِهِ) وصَحَّحَهُ ابنُ حَزْمٍ، عن ابنِ عَبَّاسُ مَرْفُوعًا: ((لا يَنْظُرُ اللهُ إِلَى رَجُلٍ أَتَى رَجُلاً أَوْ امْرَأَةً فِي الدُّبُرِ)).

والأحاديثُ في ذلكَ كثيرةٌ، وغايةُ ما يُنْكَرُ مِن مَتْنِهِ ذِكْرُ إِتْيانِ الحائِضِ، واللهُ أَعْلَمُ.


(4)

هَكَذَا بَيَّضَ المُصَنِّفُ اسمَ الرَّاوِي، وقد رَوَاهُ أحمدُ، والبَيْهَقِيُّ، والحاكمُ عن أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفوعًا، ولفظُ أحمدَ: حَدَّثَنا يَحْيَى بنُ سَعِيدٍ، عن عَوْفٍ، عن خَلاَّسٍ، عن أَبِي هُرَيْرةَ والحَسَنِ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فذَكَرَه.

وهذا إسنادٌ صَحِيحٌ على شَرْطِ البُخارِيِّ، فقد رَوَى عن عَوْفٍ، عن خَلاَّسٍ، عن أَبِي هُرَيْرةَ حديثَ: ((أنَّ مُوسَى كَانَ رَجُلاً حَيِيًّا …)) الحديثَ.

قال العِراقِيُّ في (أَمالِيهِ)(حديثٌ صحيحٌ).

وقالَ الذَّهَبيُّ(إسنادُهُ قَوِيٌّ).

وعلى هذا فعَزْوُ المُصَنِّفِ إلى الأَرْبعةِ ليسَ كذلك، فإنه لم يَرْوِهِ أَحَدٌ مِنهم، وأَظنُّهُ تَبِعَ في ذلك الحافِظَ، فإنَّهُ عَزَاهُ في (الفَتْحِ) إلى أَصْحابِ السُّنَنِ والحاكمِ فَوَهِمَ، ولَعلَّهُ أَرادَ الذي قَبْلَهُ.

قولُه: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا)) إلى آخِرِه، قال بعضُهم: لا تَعارُضَ بينَ هذا الخبرِ، وبينَ حديثِ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)) إذ الغَرَضُ في هذا الحديثِ أنَّهُ سَأَلَهُ مُعْتَقِدًا صِدْقَهُ، وأنَّهُ يَعْلَمُ الغَيْبَ فإنَّهُ يَكْفُرُ، فإن اعْتَقَدَ أنَّ الجِنَّ تُلْقِي إليهِ مَا سَمِعَتْهُ مِن الملائكةِ، أو أنَّه بإِلْهامٍ فصَدَّقَهُ مِن هذهِ الجِهةِ لا يَكْفُرُ، كذا قالَ وفيه نَظَرٌ.

وظاهرُ الحديثِ أنَّهُ يَكْفُرُ مَتَى اعْتَقَدَ صِدْقَه بأيِّ وَجْهٍ كانَ؛ لاعتقادِه أنَّهُ يَعْلَمُ الغيبَ، وسَواءٌ كان ذلكَ مِن قِبَلِ الشياطينِ، أو مِنْ قِبَلِ الإِلْهامِ، لا سِيَّما وغالِبُ الكُهَّانِ في وَقْتِ النُّبوَّةِ إنَّما كانُوا يَأْخُذُونَ عن الشياطينِ.

وفي حديثٍ رَوَاهُ الطَّبَرانِيُّ عن وَاثِلةَ مَرْفُوعًا: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ حُجِبَتْ عَنْهُ التَّوْبَةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً فَإِنْ صَدَّقَهُ بِمَا قَالَ كَفَرَ)) قال المُنْذِرِيُّ(ضعيفٌ).

فهذا - لو ثَبَتَ - نَصٌّ في المَسْأَلةِ، لكنْ ما تَقَدَّمَ من الأحاديثِ يَشْهَدُ له، فإنَّ الحديثَ الذي فيه الوعيدُ بعدمِ قَبولِ الصَّلاةِ أربعينَ ليلةً ليسَ فيه ذِكْرُ تَصْدِيقِهِ، والأحاديثُ التي فيها إطلاقُ الكُفْرِ مُقَيَّدةٌ بتَصْدِيقِهِ.

قولُهُ: ((فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) قال الطِّيبِيُّ(المرادُ بالمُنْزَلِ الكتابُ والسُّنَّةُ، أيْ: مَن ارْتَكَبَ هذهِ فقدْ بَرِئَ مِن دينِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وما أُنْزِلَ عليهِ) انْتَهَى.

وهلِ الكُفْرُ في هذا الموضوعِ كُفْرٌ دونَ كفرٍ، أو يَجِبُ التَّوَقُّفُ؟

فلا يُقالَ: يُنْقَلُ عن المِلَّةِ، ذَكَرُوا فيهَا رِوايتَيْنِ عن أحمدَ.


وقِيلَ:

هذا على التَّشْدِيدِ والتَّأْكِيدِ، أي: قارَبَ الكُفْرَ، والمرادُ كُفْرُ النِّعْمةِ، وهذانِ القَوْلانِ باطِلانِ.


(5)

(أَبُو يَعْلَى) اسْمُهُ أحمدُ بنُ عَلِيِّ بنِ المُثَنَّى المَوْصِلِيُّ الإمامُ صاحِبُ التَّصانِيفِ كـ (المُسْنَدِ) وغيرِه، رَوَى عن يَحْيَى بنِ مَعِينٍ، وأَبِي خَيْثَمَةَ، وأَبِي بَكْرِ بنِ أَبِي شَيْبَةَ وخَلْقٍ، وكانَ من الأئِمَّةِ الحُفَّاظِ، ماتَ سنةَ سبعٍ وثلاثِمائةٍ.

وهذا الأَثَرُ رَوَاهُ البَزَّارُ أيضًا، وإسنادُهُ على شَرْطِ مُسْلِمٍ، ولفظُهُ: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ سَاحِرًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)).


وفيه دَلِيلٌ على كُفْرِ الكاهِنِ والسَّاحِرِ والمُصَدِّقِ لَهُما؛

لأنَّهما يَدَّعِيانِ عِلْمَ الغَيْبِ وذلكَ كُفْرٌ، والمُصَدِّقُ لَهُما يَعْتَقِدُ ذلكَ ويَرْضَى بهِ، وذلكَ كُفْرٌ أيضًا.


(6)

هذا الحديثُ رَوَاهُ الطَّبَرانِيُّ كما قالَ المُصَنِّفُ في (الأَوْسَطِ) قالَ المُنْذِرِيُّ(إسنادُ الطَّبَرانيِّ حَسَنٌ وإسنادُ البَزَّارِ جَيِّدٌ).

قولُهُ: ((لَيْسَ مِنَّا)) أي: ليسَ يَفْعَلُ ذلكَ مَنْ هوَ مِنْ أَشْياعِنَا العامِلِينَ باتِّباعِنَا المُقْتَفِينَ لشَرْعِنا.

قولُهُ: ((مَنْ تَطَيَّرَ)) أيْ: فَعَلَ الطِّيَرَةَ ((أو تُطُيِّرَ لهُ)) أي: أَمَرَ مَن يَتَطَيَّرُ لهُ، وكذلكَ معنى تَكَهَّنَ أو تُكُهِّنَ لَهُ أو سُحِرَ لَهُ.

قولُهُ: (رَوَاهُ البَزَّارُ) اسْمُهُ: أحمدُ بنُ عَمْرِو بنِ عبدِ الخالقِ أَبُو بَكْرٍ البَزَّارُ البَصْرِيُّ، صاحِبُ (المُسْنَدِ الكَبِيرِ) الذي عَزَا إليهِ المُصَنِّفُ، رَوَى عن ابنِ بَشَّارٍ وابنِ المُثَنَّى وخَلْقٍ.

قالَ الدَّارَقُطْنيُّ(ثِقةٌ يُخْطِئُ ويَتَّكِلُ على حِفْظِه، ماتَ سنةَ: اثنتينِ وتسعينَ ومِائتين).


(7)

البَغَوِيُّ بفتحتَيْنِ اسمهُ الحُسَيْنُ بنُ مَسْعودِ بنِ الفَرَّاءِ، المعروفُ بمُحْيِي السُّنَّةِ الشَّافِعيُّ، صاحبُ التَّصانِيفِ، وعالِمُ أهلِ خُراسانَ، وكان ثِقةً فَقِيهًا زاهِدًا، ماتَ في شَوَّالٍ سنةَ: ستَّ عَشْرةَ وخمسِمائةٍ.

قولُهُ: ((العَرَّافُ الَّذِي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأُمُورِ)) إلى آخِرِه، هذا تَفْسِيرٌ حَسَنٌ، وظاهِرُه يَقْتَضِي أنَّ العَرَّافَ هو الذي يُخْبِرُ عن الوَاقِعِ كالمَسْرُوقِ والضَّالةِ، وأَحْسَنُ منهُ كلامُ شيخِ الإسلامِ(أنَّ العرَّافَ اسمٌ لِلكاهِنِ والمُنَجِّمِ والرَّمَّالِ ونحوِهم، كالحازِرِ الذي يَدَّعِي عِلْمَ الغَيْبِ أو يَدَّعِي الكَشْفَ).

وقالَ أيضًا: (والمُنَجِّمُ يَدْخُلُ في اسمِ العَرَّافِ وعندَ بعضِهِم هو في معناه).

وقالَ أيضًا: (والمُنَجِّمُ يَدْخُلُ في اسمِ الكاهِنِ عندَ الخطَّابيِّ وغيرِه مِن العُلماءِ، وحَكَى ذلكَ عن العربِ، وعندَ آخَرِينَ منْ جِنْسِ الكاهِنِ وأَسْوَأُ حالاً منه، فيُلْحَقُ بهِ من جِهةِ المعنى).

وقالَ الإمامُ أحمدُ(العَرَّافُ طَرَفٌ مِن السِّحْرِ، والسَّاحِرُ أَخْبَثُ).

وقالَ أَبُو السَّعاداتِ: (العَرَّافُ المُنَجِّمُ والحازِرُ الذي يَدَّعِي عِلْمَ الغيبِ وقد اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعالى بِهِ).

وقالَ ابنُ القَيِّمِ: (من اشْتُهِرَ بإحسانِ الزَّجْرِ عندَهم سَمَّوْه عائِفًا وعَرَّافًا، والمَقْصُودُ مِنْ هذا مَعْرفةُ أَنَّ مَنْ يَدَّعِي عِلْمَ شيءٍ مِن المُغَيَّبَاتِ، فهوَ إمَّا دَاخِلٌ في اسمِ الكاهِنِ، وإما مُشارِكٌ لَهُ في المعنى فيُلْحَقُ بِهِ، وذلك أنَّ إصابَةَ المُخْبِرِ ببعضِ الأُمورِ الغائِبةِ في بعضِ الأحيانِ يَكونُ بالكَشْفِ ومنهُ ما هوَ مِن الشياطينِ، ويَكونُ بالفَأْلِ والزَّجْرِ والطَّيْرِ والضَّرْبِ بالحَصَى والخَطِّ في الأَرْضِ).

والتَّنْجِيمِ والكَهانةِ والسِّحْرِ ونحوِ هذا من عُلومِ الجاهِلِيَّةِ، ونَعْنِي بالجاهِلِيَّةِ: كلَّ مَنْ ليسَ مِن أَتْباعِ الرُّسلِ كالفَلاسِفةِ والكُهَّانِ والمُنَجِّمِينَ وجاهِلِيَّةِ العربِ الذين كانوا قبلَ مَبْعَثِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّ هذه عُلومُ قَوْمٍ ليسَ لهم عِلْمٌ بما جاءَتْ بِهِ الرُّسلُ عليهم السَّلامُ، وكلُّ هذهِ الأمورِ يُسَمَّى صاحبُها كاهِنًا وعَرَّافًا أو في مَعناهُما، فمَنْ أَتَاهُم فصَدَّقَهم بما يَقُولونَ لَحِقَهُ الوَعِيدُ.

وقد وَرِثَ هذهِ العُلومَ عنهُم أقوامٌ فادَّعَوا بِها عِلْمَ الغَيْبِ الذِي اسْتَأْثَرَ اللهُ تَعالى بعِلْمِهِ، وادّعَوا أنَّهم أولياءُ وأنَّ ذلك كَرامةٌ، ولا رَيْبَ أنَّ مَن ادَّعَى الوِلايةَ، واسْتَدَلَّ عليها بإِخْبارِه ببعضِ المُغَيَّباتِ، فهوَ مِن أَوْلِياءِ الشَّيْطانِ، لا مِن أولياءِ الرَّحمنِ؛ إذ الكَرامةُ أَمْرٌ يُجْرِيهِ اللهُ على يَدِ عبدِهِ المُؤْمِنِ المُتَّقِي، إما بِدُعاءٍ أو أعمالٍ صالحةٍ لا صُنْعَ لِلوَلِيِّ فِيهَا، ولا قُدْرَةَ لَهُ عليهَا بِخِلافِ مَن يَدَّعِي أَنَّهُ وَلِيٌّ للهِ، ويَقُولُ للنَّاسِ: اعْلَمُوا أَنِّي أَعْلَمُ المُغَيَّباتِ، فإنَّ مثلَ هذهِ الأمورِ قد تَحْصُلُ بما ذَكَرْنَا من الأسبابِ وإنْ كانت أسبابًا مُحَرَّمةً كاذِبةً في الغالِبِ، ولهذا قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وَصْفِ الكُهَّانِ: ((فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ)).


فبَيَّنَ أنَّهم يَصْدُقونَ مرَّةً ويَكْذِبُونَ مِائةً،

وهكذا حالُ مَنْ سَلَكَ سبيلَ الكُهَّانِ مِمَّن يَدَّعِي الوِلايةَ والعِلْمَ بما في ضَمائرِ النَّاسِ مع أنَّ نَفْسَ دَعْوَاه دَليلٌ على كَذِبهِ؛ لأنَّ في دَعْوَاهُ الوِلايةَ تَزْكِيةُ النَّفْسِ المَنْهِيُّ عَنْهَا بقولِهِ: {فَلا تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ}[النجم: 32] وليسَ هذا مِن شَأْنِ الأولياءِ، بل شأنُهم الإِزْراءُ على نُفوسِهم وعَيْبُهم لها وخَوْفُهم مِن رَبِّهم.

فكيفَ يَأْتُون النَّاسَ يَقُولُونَ: (اعْرِفُوا أنَّا أَوْلِياءُ، وأَنَّا نَعْلَمُ الغيبَ) وفي ضِمْنِ ذلكَ طَلَبُ المَنْزِلةِ في قُلوبِ الخَلْقِ، واقْتِناصُ الدُّنيا بهذهِ الأمورِ، وحَسْبُكَ بحالِ الصَّحابةِ والتَّابِعينَ وهم ساداتُ الأولياءِ، أَفَكَانَ عندَهم مِن هذهِ الدَّعَاوَى والشَّطَحاتِ شيءٌ؟

لا واللهِ، بل كانَ أحدُهم لا يَمْلِكُ نَفْسَهُ مِن البُكاءِ إذا قَرَأَ القُرْآنَكالصِّدِّيقِ، وكانَ عُمَرُ يُسْمَعُ نَشِيجُه مِن وراءِ الصُّفوفِ يَبْكِي في صَلاتِهِ، وكان يَمُرُّ بالآيةِ في وِرْدِهِ باللَّيْلِ فيَمْرَضُ منها لياليَ يَعُودُه النَّاسُ.

وكان تَمِيمٌ الدَّارِيُّ يَتَقَلَّبُ في فِراشِهِ لا يَسْتَطِيعُ النَّومَ إلاَّ قليلاً خَوْفًا مِن النَّارِ، ثم يَقُومُ إلى صَلاتِهِ، ويَكْفِيكَ في صِفاتِ الأولياءِ ما ذَكَرَ اللهُ تعالى مِن صِفاتهِم في سورةِ الرَّعْدِ، والمؤمنينَ، والفُرْقانِ، والذَّارِياتِ، والطُّورِ.

فالمُتَّصِفونَ بتلكَ الصِّفاتِ هم الأولياءُ الأَصْفياءُ، لا أهلُ الدَّعْوَى والكَذِبِ، ومُنازَعةِ ربِّ العالَمِينَ فيما اخْتَصَّ مِن الكِبْرِياءِ والعظمةِ وعِلْمِ الغيبِ، بل مُجَرَّدُ دَعْوَاهُ عِلْمَ الغيبِ كُفْرٌ، فكيفَ يَكونُ المُدَّعِي لذلكَ وَلِيًّا للهِ؟.


ولقد عَظُمَ الضَّرَرُ،

واشْتَدَّ الخَطْبُ بهؤلاءِ المُفْتَرِينَ الذينَ وَرِثُوا هذهِ العُلومَ عن المشركينَ، ولَبَّسُوا بها على خَفافِيشِ البصائرِ، نَسْأَلُ اللهَ السَّلامةَ والعافيةَ في الدُّنيا والآخِرةِ.

فإنْ قُلْتَ: كيف يَكونُ عِلْمُ الخَطِّ من الكَهاَنةِ؟

وقد رَوَى أحمدُ ومُسْلِمٌ عن مُعاوِيةَ بنِ الحَكَمِ أنَّهُ قالَ لِرسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ومِنَّا رِجالٌ يَخُطُّونَ فقالَ: ((كَانَ نَبِيٌّ مِنَ الأَنْبِياءِ يَخُطُّ فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ)).

قُلْتُ: قالَ النَّوَوِيُّ(معناهُ أَنَّ مَن وافَقَ خَطَّهُ، فهو مُباحٌ لهُ، لكن لا طريقَ لنا إلى العِلْمِ باليَقِينِ بالموافقةِ، فلا يُباحُ، والقَصْدُ أنَّه لا يُباحُ إلاَّ بيَقِينِ الموافقةِ وليسَ لنا يَقِينٌ).

وقالَ غيرُهُ: (المرادُ به النَّهْيُ عنهُ والزَّجْرُ عنْ تَعاطِيه؛ لأنَّ خطَّ ذلك النبيِّ كانَ مُعْجِزةً وعَلَمًا لنُبوَّتِه، وقد انْقَطَعَتْ نبوَّتُه ولم يَقُلْ: فذلكَ الخطُّ حرامٌ دَفْعًا لِتَوَهُّمِ أنَّ خَطَّ ذلك النَّبيِّ حرامٌ).

قُلْتُ: ويُحْتَمَلُ أنَّ المعنى أنَّ سببَ إصابةِ صاحبِ الخطِّ هو مُوافقتُهُ لِخَطِّ ذلك النبيِّ، فمَنْ وافَقَ خطَّه أصابَ، وإذا كانَ كذلكَ وكانت الإصابةُ نادِرةً بالنِّسبةِ إلى الخَطِّ، ولا طريقَ إلى اليقينِ بالموافقةِ صارَ ذلك بالنِّسبةِ إلى مَن يَتَعاطَاهُ مِن أنواعِ الكَهانةِ لِمُشاركتِهِ لها في المعنى.

إذا عَلِمْتَ ذلكَ فاعْلَمْ أَنَّ مَذْهبَ الإمامِ أحمدَ أنَّ حُكْمَ الكاهِنِ والعرَّافِ الاسْتِتابةُ، فإنْ تابَا وإلاَّ قُتِلا، ذَكَرَهُ غيرُ واحدٍ من الأصحابِ.


فأَمَّا المُعَزِّمُ الذي يُعَزِّمُ على المَصْرُوعِ،

ويَزْعُمُ أنَّهُ يَجْمَعُ الجِنَّ، وأَنَّها تُطِيعُه، والذي يَحُلُّ السِّحْرَ، فقالَ في (الكافي)(ذَكَرَهما أصحابُنا في السَّحَرةِ الذين ذَكَرْنَا حُكْمَهُم).

وقد تَوَقَّفَ أحمدُ لَمَّا سُئِلَ عن الرَّجلِ يَحُلُّ السَّحْرَ، فقالَ: (قد رَخَّصَ فيهِ بعضُ النَّاسِ).

قِيلَ:إنَّه يَجْعَلُ في الطِّنْجِيرِ ماءً ويَغِيبُ فيهِ، فنَفَضَ يدَهُ وقالَ: ما أَدْرِي ما هذا؟.


قِيلَ لهُ:

فتَرَى أن يُؤْتَى مثلُ هذا يَحُلُّ؟

قال: ما أَدْرِي ما هذا؟!.

قالَ: وهذا يَدُلُّ على أنَّه لا يَكْفُرُ صاحبُهُ، ولا يُقْتَلُ.

قُلْتُ: إنْ كانَ ذلكَ لا يَحْصُلُ إلاَّ بالشِّرْكِ والتَّقَرُّبِ إلى الجِنِّ، فإنَّه يَكْفُرُ ويُقْتَلُ، ونَصُّ أحمدَ لا يَدُلُّ على أنَّهُ لا يَكْفُرُ، فإنَّه قد يَقولُ مثلَ هذا في الحَرامِ البَيِّنِ.


(8)

هذا الأَثَرُ ذَكَرَهُ

المُصَنِّفُ عن ابنِ عَبَّاسٍ، ولم يَعْزُهُ، وقد رَوَاهُ الطَّبَرانِيُّ عن ابنِ عَبَّاسٍ مَرْفوعًا، وإسنادُهُ ضعيفٌ، ولفظُهُ: ((رُبَّ مُعَلِّمٍ حُرُوفَ أَبِي جَادٍ دَارِسٍ فِي النُّجُومِ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ خَلاقٍ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) ورَوَاهُ أيضًا حُمَيْدُ بنُ زَنْجُويَه عنه بلفظِ ((رُبَّ نَاظِرٍ فِي النُّجُومِ وَمُتَعَلِّمٍ حُرُوفَ أَبِي جَادٍ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَلاقٌ)).

قولُهُ: (ما أَرَى) يَجوزُ فَتْحُ الهمزةِ مِن (أَرَى) بمعنى: لا أَعْلَمُ له عندَ اللهِ مِن خَلاقٍ، أي: مِن نَصِيبٍ، ويَجوزُ ضَمُّها بمعنى: لا أَظُنُّ ذلكَ؛ لاشْتِغالِه بما فيهِ مِن اقْتِحامِ الخَطَرِ والجَهالةِ وادِّعاءِ عِلْمِ الغيبِ الذي اسْتَأْثَرَ اللهُ بهِ، وكِتابةُ أَبِي جَادٍ وتَعَلُّمُها لِمَنْ يَدَّعِي بها مَعْرَفةَ عِلْمِ الغيبِ هو الذي يُسَمَّى عِلْمَ الحرفِ.


ولبعضِ المُبْتَدِعةِ فيه مُصَنَّفٌ،

فأمَّا تَعْلِيمُها للتَّهَجِّي وحِسابِ الجُمَّلِ، فلا بأسَ بذلكَ.

قولُهُ: (ويَنْظُرُونَ فِي النُّجُومِ) هذا مَحْمولٌ على عِلْمِ التَّأْثِيرِ لا التَّسْيِيرِ، كما سيَجِيءُ في بابِ التَّنْجِيمِ، وفيهِ عَدَمُ الاغْتِرارِ بمَا يُؤْتَاهُ أهلُ الباطلِ من مَعارِفِهم وعُلومِهم، كَمَا قالَ تعالى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[غافر:83].

هيئة الإشراف

#3

27 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ((1)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (بابُ مَا جَاءَ فِي الكُهَّانِ وَنَحْوِهِمْ).

(الكَاهِنُ) هوَ الذي يَأْخُذُ عنْ مُسْتَرِقِ السَّمْعِ؛ وكانوا قبلَ الْمَبْعَثِ كَثيرًا، وأَمَّا بعدَ الْمَبْعَثِ فإنَّهُم قَليلٌ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى حَرَسَ السماءَ بالشُّهُبِ، وأَكْثَرُ ما يَقَعُ في هذه الأُمَّةِ ما يُخْبِرُ بهِ الجِنُّ مَوَالِيَهم من الإِنْسِ عن الأشياءِ الغائبةِ بما يَقَعُ في الأَرْضِ من الأَخبارِ، فيَظُنُّهُ الجاهِلُ كَشْفًا وكَرامةً.

وقد اغْتَرَّ بذلكَ كثيرٌ من الناسِ يَظُنُّونَ ذلكَ الْمُخْبِرَ لهم عن الْجِنِّ وَليًّا للهِ، وهوَ مِنْ أولياءِ الشيطانِ؛ كما قالَ تعالَى: {وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ}[الأنعام:128].


(2)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (رَوَى مُسْلِمٌ في (صحِيحِهِ) عَنْ بَعْضِ أزواجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ بِما يَقولُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعينَ يَوْمًا))).

قولُهُ: (عَنْ بَعْضِ أزواجِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) هيَ حَفْصَةُ، وذَكَرَهُ أبو مَسعودٍ الدِّمِشْقِيُّ؛ لأنَّهُ ذَكَرَ هذا الحديثَ في الأطرافِ في مُسْنَدِها.

قولُهُ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا)) سَيأتِي بَيانُ الْعَرَّافِ إنْ شاءَ اللهُ تعالَى.

وظَاهِرُ الحديثِ أنَّ الوَعيدَ مُرَتَّبٌ علَى مَجِيئِهِ وسُؤالِهِ، سواءٌ صَدَّقَهُ أوْ شَكَّ في خَبَرِهِ؛ فإنَّ في بعضِ رِواياتِ الصحيحِ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)).


قولُهُ:

((لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صلاةُ)) إذا كانت هذه حالَ السائلِ، فكيفَ بالمسؤولِ؟

قالَ النَّوَوِيُّ وغيرُهُ: (مَعناهُ أنَّهُ لا ثَوابَ لهُ فيها، وإن كانتْ مُجْزِئَةً بسُقوطِ الْفَرْضِ عنه، ولا بُدَّ منْ هذا التأويلِ في هذا الحديثِ؛ فإنَّ العُلماءَ مُتَّفِقُونَ علَى أنَّهُ لا يَلْزَمُ مَنْ أَتَى العَرَّافَ إعادةُ صَلاةِ أربعينَ ليلةً) انتهَى مُلَخَّصًا.


وفي الحديثِ:

النَّهْيُ عنْ إِتيانِ الكاهنِ ونحوِهِ، قالَ القُرطبيُّ(يَجِبُ علَى مَنْ قَدَرَ علَى ذلكَ مِنْ مُحْتَسِبٍ وغيرِهِ أن يُقِيمَ مَنْ يَتَعَاطَى شَيْئًا منْ ذلكَ في الأسواقِ ويُنْكِرَ عليهم أَشَدَّ النَّكيرِ، وعلَى مَنْ يَجيءُ إليهم، ولا يُغْتَرُّ بصِدْقِهم في بعضِ الأُمورِ ولا بِكثرةِ مَنْ يَجيءُ إليهم مِمَّنْ يَنتسِبُ إلَى العِلْمِ، فإنَّهُم غيرُ رَاسخينَ في العِلْمِ، بلْ من الْجُهَّالِ بما في إِتيانِهم من الْمَحْذُورِ).


(3)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (وَعَنْ أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِما يَقولُ فَقَدْ كَفَرَ بِما أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) رواهُ أبو دَاوُدَ).


- وفي روايَةِ أبي دَاوُدَ: ((أَوْ أَتَى امْرَأَةً - قالَ مُسَدَّدٌ: امْرَأَتَهُ - حَائِضًا، أَوْ أَتَى امْرَأَةً - قَالَ مُسَدَّدٌ: امْرَأَتَهُ - في دُبُرِهَا، فَقَدْ بَرِئَ مِمَّا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) فنَاقِلُ هذا الحديثِ من (السُّنَنِ) حَذَفَ منهُ هذه الجُملةَ واقْتَصَرَ علَى ما يُناسِبُ التَّرْجَمَةَ.


(4)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (وَلِلأَرْبَعَةِ، والحاكمِ، وَقَالَ: صحيحٌ علَى شَرْطِهِما عَنْ...: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِما يَقولُ فَقَدْ كَفَرَ بِما أُنْزِلَ علَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) هكذا بَيَّضَ الْمُصَنِّفُ لاسمِ الراوي، وقدْ رواهُ أَحمدُ، والبيهقيُّ، والحاكمُ، عنْ أبي هُريرةَ مَرفوعًا.

قولُهُ: ((مَنْ أَتَى كاهِنًا)) قالَ بعضُهم: لا تَعَارُضَ بينَ هذا وبينَ حَديثِ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً)) هذا علَى قولِ مَنْ يَقولُ: هوَ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، أمَّا علَى قولِ مَنْ يَقولُ بظَاهِرِ الحديثِ فيُسْأَلُ عنْ وَجْهِ الجَمْعِ بينَ الحديثينِ.


وظاهِرُ الحديثِ

أنَّهُ يَكْفُرُ مَتَى اعْتَقَدَ صِدْقَهُ بأيِّ وَجْهٍ كان، وكان غالِبُ الْكُهَّانِ قَبلَ النُّبُوَّةِ إنَّما كانوا يَأخذونَ عن الشياطينِ.

قولُهُ: ((فَقَدْ كَفَرَ بِما أُنْزِلَ علَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) قالَ القُرْطُبِيُّ(الْمُرَادُ بالْمُنْزَلِ: الكتابُ والسُّنَّةُ) انتهَى.

وهل الكُفْرُ في هذا الْمَوْضِعِ كُفْرٌ دُونَ كُفْرٍ، فلا يَنْقُلُ عن الْمِلَّةِ، أَمْ يُتَوَقَّفُ فيهِ فلا يُقالُ: يُخْرِجُ عن الْمِلَّةِ ولا يُخْرِجُ؟

وهذا أَشْهَرُ الروايتينِ عنْ أَحْمَدَ، رَحِمَهُ اللهُ.

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: لأبي يَعْلَى بِسَنَدٍ جَيِّدٍ عَنِ ابنِ مَسْعودٍ مِثلُهُ موْقُوفًا).


أبو يَعْلَى

اسمُهُ أَحمدُ بنُ عليِّ بنِ الْمُثَنَّى الْمَوْصِلِيُّ الإِمامُ، صاحبُ التصانيفِ (كالْمُسْنَدِ) وغيرِهِ، روَى عنْ يَحْيَى بنِ مَعينٍ، وأبي خَيْثَمَةَ، وأبي بكرِ بنِ أبي شَيْبَةَ، وخَلْقٍ، وكان من الأَئِمَّةِ الْحُفَّاظِ؛ ماتَ سَنَةَ سَبْعٍ وثلاثِمائةٍ.

وهذا الأَثَرُ رواهُ البزَّارُ أيضًا ولَفْظُهُ: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا أَوْ سَاحِرًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))


وفيهِ:

دَليلٌ علَى كُفْرِ الكاهِنِ والساحرِ؛

لأنهما يَدَّعِيَانِ عِلْمَ الغَيْبِ وذلكَ كُفْرٌ؛ والْمُصَدِّقُ لهما يَعْتَقِدُ ذلكَ ويَرَى بهِ، وذلكَ كُفْرٌ أيضًا.


(5)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: وَعَنْ عِمْرانَ بنِ حُصَيْنٍ مَرْفوعًا: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أوْ تُطُيِّرَ لَهُ، أوْ تَكَهَّنَ أوْ تُكُهِّنَ لَهُ، أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِما أُنْزِلَ علَى مُحَمّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)) رواهُ البزَّارُ بإسنادٍ جيِّدٍ.

ورواهُ الطَّبرانيُّ بإسنادٍ حَسَنٍ مِنْ حَديثِ ابنِ عَبَّاسٍ دونَ قوْلِهِ: ((وَمَنْ أَتَى كاهنًا)) إلَى آخِرِهِ.

قولُهُ: ((لَيْسَ مِنَّا)) فيهِ وَعِيدٌ شَديدٌ يَدُلُّ علَى أنَّ هذه الأمورَ من الكبائرِ، وتَقَدَّمَ أنَّ الكَهانةَ والسِّحْرَ كُفْرٌ.

قولُهُ: ((مَنْ تَطَيَّرَ)) أيْ: فَعَلَ الطِّيَرَةَ ((أوْ تُطُيِّرَ لَهُ)) أيْ: قَبِلَ قولَ الْمُتَطَيِّرِ لهُ وتَابَعَهُ، كذا معنَى: ((أوْ تَكَهَّنَ أوْ تُكُهِّنَ لَهُ)) كالذي يأتي الكاهِنَ ويُصَدِّقُهُ ويُتَابِعُهُ، وكذلكَ مَنْ عَمِلَ الساحِرُ لهُ السحْرَ.

فكُلُّ مَنْ تَلَقَّى هذه الأُمورَ عَمَّنْ تَعاطاها فقدْ بَرِئَ منهُ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ لكَوْنِها إمَّا شِرْكًا: كالطِّيَرَةِ، أوْ كُفْرًا: كالكَهانةِ والسحْرِ، فمَنْ رَضِيَ بذلكَ وتَابَعَ فهوَ كالفاعِلِ لقَبولِهِ الباطِلَ واتِّبَاعِهِ.

قولُهُ: (رواهُ الْبَزَّارُ) هوَ أَحمدُ بنُ عمرِو بنِ عبدِ الخالِقِ؛ أبو بَكرٍ الْبَزَّارُ البَصْرِيُّ صاحبُ (الْمُسْنَدِ الكبيرِ) ورَوَى عن ابنِ بَشَّارٍ، وابنِ الْمُثَنَّى، وخَلْقٍ؛ ماتَ سنةَ اثنتينِ وتِسعينَ ومائتينِ.

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: قالَ البَغَوِيُّ(العَرَّافُ الذي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأُمُورِ بمُقَدِّمَاتٍ يَسْتَدِلُ بِهَا علَى المَسْرُوقِ ومكانِ الضالَّةِ ونحوِ ذلكَ).


وقيلَ: هوَ الكاهِنُ، والكاهِنُهوَ الذي يُخْبِرُ عن المُغَيَّبَاتِ في المُسْتَقْبَلِ.


وقيلَ: الذي يُخْبِرُ عمَّا في الضميرِ.

وقالَ أبو العبَّاسِ ابنُ تَيْمِيَّةَ: (العرَّافُ اسمٌ للكاهِنِ والمُنَجِّمِ والرَّمَّالِ، ونحوِهم مِمَّن يَتَكَلَّمُ في مَعْرِفَةِ الأُمُورِ بهذه الطُّرُقِ).


(6)

قولُهُ: (قالَ الْبَغَوِيُّ إلَى آخِرِهِ) الْبَغَوِيُّ - بفَتحتينِ - هوَ الْحُسينُ بنُ مَسعودٍ الفَرَّاءُ الشافعيُّ؛ صاحبُ التصانيفِ، وعالِمُ أَهْلِ خُراسانَ، كان ثِقَةً فَقيهًا زَاهدًا؛ ماتَ في شَوَّالٍ سنةَ سِتَّ عَشْرَةَ وخَمسِمائةٍ.

قولُهُ: (العَرَّافُ: الذي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأمورِ) ظاهِرُهُ أنَّ العَرَّافَ هوَ الذي يُخْبِرُ عن الواقِعِ كالسَّرِقَةِ وسارِقِها، والضَّالَّةِ ومَكَانِها.

وقالَ شيخُ الإِسلامِ ابنُ تَيميَةَ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (إنَّ العَرَّافَ اسمٌ للكاهِنِ وَالْمُنَجِّمِ وَالرَّمَّالِ ونَحْوِهم، كالحازِرِ الذي يَدَّعِي عِلْمَ الْغَيْبِ أوْ يَدَّعِي الْكَشْفَ).

وقالَ أَيْضًا: (والْمُنَجِّمُ يَدْخُلُ في اسمِ الْعَرَّافِ، وعندَ بعضِهم هوَ في مَعناهُ).

وقالَ أَيْضًا: (والْمُنَجِّمُ يَدْخُلُ في اسمِ الكاهِنِ عندَ الْخَطَّابِيِّ وغيرِهِ من العُلماءِ، وحُكِيَ ذلكَ عن العَرَب)ِ.

وعندَ آخَرِينَ هوَ مِنْ جِنْسِ الكَاهِنِ؛ وأَسوأُ حالاً منهُ، فيَلْحَقُ بهِ مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى.

وقالَ الإِمامُ أحمدُ(العَرَافَةُ طَرَفٌ من السِّحْرِ، والساحِرُ أَخْبَثُ).

وقالَ أبو السَّعاداتِ: (العَرَّافُ الْمُنَجِّمُ، والحازِرُ الذي يَدَّعِي عِلْمَ الْغَيْبِ؛ وقد اسْتَأْثَرَ اللهُ تعالَى بهِ).

وقالَ ابنُ الْقَيِّمِ: (مَن اشْتُهِرَ بإحسانِ الزَّجْرِ عندَهم سَمَّوْهُ عائفًا، وعَرَّافًا).


والمقصودُ منْ هذا:

مَعرِفَةُ أنَّ مَنْ يَدَّعِي مَعرِفةَ عِلْمِ الشيءِ من الْمُغَيَّبَاتِ فهوَ إمَّا داخِلٌ في اسمِ الكاهِنِ، وإمَّا مُشارِكٌ لهُ في المعنَى فيَلْحَقُ بهِ، وذلكَ أنَّ إصابةَ الْمُخْبِرِ ببَعضِ الأمورِ الغائبةِ في بعضِ الأحيانِ يَكونُ بالكَشْفِ.


ومنهُ ما هوَ من الشياطينِ ويَكونُ:

بالفَأْلِ، والزَّجْرِ، والطِّيَرَةِ، والضرْبِ بالْحَصَى، والْخَطِّ في الأَرْضِ، والتنجيمِ، والكَهانةِ والسحْرِ، ونحوِ هذا منْ عُلومِ الجاهليَّةِ، ونَعْنِي بالجَاهِلِيَّةِ كلَّ مَنْ ليسَ منْ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ عليهم السلامُ؛ كالفلاسفةِ والْكُهَّانِ والْمُنَجِّمِينَ، وجَاهِلِيَّةِ العَرَبِ الذينَ كانوا قَبلَ مَبْعَثِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّ هذه عُلومٌ لقَوْمٍ ليسَ لهم عِلْمٌ بما جَاءَتْ بهِ الرُّسُلُ عَلَيْهِمُ السلامُ، وكلُّ هذه الأمورُ يُسَمَّى صاحبُها كاهنًا أوْ عَرَّافًا أوْ في معناهما، فمَنْ أَتَاهُم فصَدَّقَهم بما يَقولونَ لَحِقَهُ الوَعِيدُ.

وقدْ وَرِثَ هذه العلومَ عنهم أقوامٌ فادَّعَوْا بها عِلْمَ الْغَيْبِ الذي اسْتَأْثَرَ اللهُ تعالَى بعِلْمِهِ، وادَّعَوْا أنَّهُم أَولياءُ وأنَّ ذلكَ كَرامةٌ.


ولا رَيْبَ أنَّ مَن ادَّعَى الوِلايَةَ،

واسْتَدَلَّ بإخبارِهِ ببَعْضِ الْمُغَيَّبَاتِ فهوَ منْ أَولياءِ الشيطانِ لا منْ أولياءِ الرحمنِ؛ إذ الكَرَامَةُ أَمْرٌ يُجْرِيهِ اللهُ علَى يَدِ عَبْدِهِ المؤمنِ التَّقِيِّ، إمَّا بدُعاءٍ أوْ أعمالٍ صالِحَةٍ لا صُنْعَ للْوَلِيِّ فيها، ولا يَدَ لهُ عليها، بخِلافِ مَنْ يَدَّعِي أنَّهُ وَلِيٌّ للهِ، ويَقولُ للناسِ: اعْلَمُوا أَنِّي أَعْلَمُ الْمُغَيَّبَاتِ، فإنَّ مثلَ هذه الأمورِ قدْ تَحْصُلُ بما ذَكَرْنَا من الأسبابِ، وإنْ كانتْ أسبابًا مُحَرَّمَةً كاذبةً في الغالِبِ، ولهذا قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في وَصْفِ الكُهَّانِ: ((فَيَكْذِبُونَ مَعَهَا مِائَةَ كِذْبَةٍ))فبَيَّنَ أنَّهُم يَصْدُقُون مَرَّةً ويَكْذِبون مائةً.

وهكذا حالُ مَنْ سَلَكَ سبيلَ الكُهَّانِ مِمَّنْ يَدَّعِي الوِلايَةَ والعِلْمَ بما في ضَمائرِ الناسِ، معَ أنَّ نَفْسَ دَعواهُ دَليلٌ علَى كَذِبِهِ؛ لأنَّ في دَعواهُ الوِلايَةَ تَزكيَةَ النفْسِ الْمَنْهِيَّ عنها بقولِهِ تعالَى: {فَلاَ تُزَكُّوا أَنفُسَكُمْ}[النجم:32] وليسَ هذا منْ شأنِ الأولياءِ، بلْ شأنُهم الإزراءُ علَى نُفوسِهم وعَيْبُهم لها؛ وخَوْفُهم مِنْ رَبِّهم، فكيفَ يَأْتُونَ الناسَ يقولونَ: اعْرَفُوا أنَّا أولياءُ، وأنَّا نَعْلَمُ الغيبَ؟

وفي ضِمْنِ ذلكَ طَلَبُ الْمَنْزِلةِ في قُلوبِ الْخَلْقِ، واقْتِناصُ الدنيا بهذه الأمورِ.

وحَسْبُكَ بحالِ الصَّحَابةِ والتابعينَ وهم سَاداتُ الأولياءِ، رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، أَفَكَانَ عندَهم منْ هذه الدَّعَاوَى والشَّطَحَاتِ شيءٌ؟

لا واللهِ، بلْ كان أحدُهم لا يَمْلِكُ نفسَهُ من الْبُكَاءِ إذا قَرَأَ القُرآنَ كالصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وكان عمرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ يُسْمَعُ نَشِيجُهُ منْ وراءِ الصفوفِ يَبْكِي في صَلاتِهِ، وكان يَمُرُّ بالآيَةِ في وِرْدِهِ من الليلِ فيَمْرَضُ منها لَيالِيَ يَعودونَهُ.

وكان تَمِيمٌ الدارِيُّ يَتَقَلَّبُ في فِراشِهِ، لا يَستطيعُ النَّوْمَ إلاَّ قليلاً خوفًا من النارِ، ثمَّ يَقومُ إلَى صَلاتِهِ.

ويَكفيكَ في صِفاتِ الأولياءِ ما ذَكَرَهُ اللهُ تعالَى في صِفاتِهم في سُورةِ الرَّعْدِ، والمؤمنينَ، والفُرقانِ، والذارياتِ، والطُّورِ، فالْمُتَّصِفُونَ بتلكَ الصِّفاتِ هم الأولياءُ الأصفياءُ، لا أهلُ الدَّعْوَى والكَذِبِ ومُنازَعَةِ ربِّ العالمينَ فيما اخْتُصَّ بهِ من الكِبرياءِ والعَظَمَةِ، وعِلْمِ الغيبِ؛ بلْ مُجَرَّدُ دَعواهُ عِلْمَ الغَيبِ كُفْرٌ.

فكيفَ يكونُ الْمُدَّعِي لذلكَ وَلِيًّا للهِ؟

وقدْ عَظُمَ الضرَرُ واشْتَدَّ الْخَطبُ بهؤلاءِ الْمُغْتَرِّينَ الذينَ وَرِثُوا هذه العُلومَ عن الْمُشركينَ، ولَبَّسوا بها علَى خَفافيشِ القلوبِ، نَسألُ اللهَ السلامةَ والعافيَةَ في الدنيا والآخِرَةِ.


(7)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَقالَ ابنُ عَباسٍ فِي قَومٍ يَكْتُبونَ أَبَا جَادٍ ويَنْظُرُونَ في النُّجُومِ: (ما أرَى فِعْلَ ذلكَ لهُ عندَ اللهِ منْ خَلاقٍ))هذا الأَثَرُ رواهُ الطبرانيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ مرفوعًا، وإسنادُهُ ضَعيفٌ، ولفظُهُ:( رُبَّ مُعَلِّمٍ حُرُوفَ أَبي جَادٍ - دَارِسٍ في النُّجُومِ - لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَلاَقٌ يَوْمَ القِيَامَةِ) ورواهُ حُمَيْدُ بنُ زَنْجُوَيْهِ عنه بلَفْظِ: (رُبَّ نَاظِرٍ في النُّجُومِ وَمُتَعَلِّمٍ حُرُوفَ أَبي جَادٍ لَيْسَ لَهُ عِنْدَ اللهِ خَلاَقٌ ).

قولُهُ: ((ما أَرَى)) يَجوزُ فَتْحُ الهمزةِ بمعنَى: لا أَعْلَمُ، ويَجوزُ ضَمُّها بمعنَى: لا أَظُنُّ.

وكتابةُ (أبي جادٍ) وتَعَلُّمُها لِمَنْ يَدَّعِي بها عِلْمَ الغيبِ هوَ الذي يُسَمَّى عِلْمَ الْحَرْفِ، وهوَ الذي فيهِ الوَعيدُ، فأَمَّا تَعَلُّمُها للتَّهَجِّي وحِسابِ الجُمَّلِ فلا بَأْسَ بهِ.

قولُهُ: (وَيَنْظُرُونَ في النُّجُومِ) أيْ: ويَعتقدونَ أنَّ لها تأثيرًا، كما سَيَأْتِي في بابِ التنجيمِ.

وفيهِ من الفوائدِ عَدَمُ الاغترارِ بما يُؤْتَاهُ أهلُ الباطلِ منْ مَعارِفِهم وعُلومِهم، كما قالَ تعالَى: {فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ}[غافر:83].

هيئة الإشراف

#4

27 Oct 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ((1) أي:

مِنْ كُلِّ مَن يَدَّعِي علمَ الغيبِ بأيِّ طريقٍ مِن الطرقِ، وذلك أنَّ اللهَ تعالى هو المنفردُ بعلمِ الغيبِ، فمَن ادَّعَى مشاركةَ اللهِ في شيءٍ من ذلك بكَهانةٍ أو عرافةٍ أو غيرِها، أو صَدَّقَ مَن ادَّعى ذلك فقدْ جعَلَ للهِ شريكاً فيما هو من خصائِصه، وقد كذَّب اللهَ ورسولَه.

وكثيرٌ من الكَهانةِ المتعلِّقةِ بالشياطينِ لا تخلو من الشركِ، والتقرُّبِ إلى الوسائطِ التي تستعينُ بها على دعوى العلومِ الغيبيَّةِ، فهو شركٌ من جهةِ دعوى مشاركةِ اللهِ في علمِه الذي اختصَّ به، ومِن جهةِ التقرُّبِ إلى غيرِ اللهِ.


وفيه:إبعادُ الشارعِ للخلقِ عن الخرافاتِ المفسدةِ للأديانِ والعقولِ.

هيئة الإشراف

#5

27 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1) (الكُهَّانُ)

جمعُ كاهنٍ، والكَهَنَةُ أيضًا جمعُ كاهنٍ، وهمْ قومٌ يكونونَ في أحياءِ العربِ يتحاكمُ الناسُ إليهمْ، وتتَّصِلُ بِهم الشياطينُ، وتُخْبِرُهم عمَّا كانَ في السماءِ، تَسْتَرِقُ السمعَ مِن السماءِ، وتُخْبِرُ الكاهنَ بهِ، ثَمَّ الكاهنُ يُضِيفُ إلى هذا الخبرِ ما يُضِيفُ مِن الأخبارِ الكاذبةِ ويُخْبِرُ الناسَ، فإذا وقعَ ممَّا أخْبَرَ بهِ شيءٌ اعتقَدَهُ الناسُ عالمًا بالغيبِ، فصاروا يتحاكمونَ إليْهِم، فهمْ مَرْجِعٌ للناسِ في الحُكْمِ، ولهذا يُسَمَّوْنَ الكهنةَ إذْ همْ يُخْبِرُونَ عَن الأمورِ في المستقبلِ، يقولونَ: سيقعُ كذا وسيقعُ كذا.

قال في (تيسير العزيز الحميد) ص409: ( اعلم أن الكهان الذين يأخذون عن مسترقي السمع موجودون إلى اليوم، لكنهم قليل بالنسبة لما كانوا عليه في الجاهلية؛ لأن الله حرس السماء بالشهب، ولم يبقى من استراقهم إلا ما يخطفه الأعلى، فيلقيه إلى الأسفل قبل أن يصيبه الشهاب) .

ولَيْسَ مِن الكَهَانةِ في شيءٍ مَنْ يُخْبِرُ عَنْ أمورٍ تُدْرَكُ بالحسابِ؛ فإنَّ الأمورَ التي تُدْرَكُ بالحسابِ لَيْسَتْ مِن الكهانةِ في شيءٍ، كَمَا لوْ أخْبَرَ عَنْ كسوفِ الشمسِ أوْ خسوفِ القمرِ، فهذا لَيْسَ مِن الكهانةِ؛ لأنَّهُ يُدْرَكُ بالحسابِ، وكما لوْ أخبَرَ أنَّ الشمسَ تَغْرُبُ في مِنَ بُرْجِ الميزانِ مثلاً، في الساعةِ كذا وكذا، فهذا لِيْسَ مِنْ عِلْمِ الغيبِ.

وكما يقولونَ: (إنَّهُ سيخرجُ في أوَّلِ العامِ أو العامِ الذي بعدَهُ مُذَنَّبُ (هالي)، وهو نجمٌ لهُ ذَنَبٌ طويلٌ) فهذا لَيْسَ مِن الكهانةِ في شيءٍ؛ لأنَّهُ مِن الأمورِ التي تُدْرَكُ بالحسابِ، فكلُّ شيءٍ يُدْرَكُ بالحسابِ، فإنَّ الإخبارَ عَنْهُ ولوْ كانَ مستقبلاً لا يُعْتَبرُ مِنْ عِلْمِ الغيبِ، ولا مِن الكهانةِ.


(2)

قولُهُ: ((مَنْ)) شرطيَّةٌ فهيَ للعمومِ.

والعرَّافُ: صيغةُ مبالغةٍ مِن العارفِ، أوْ نسبةٌ، أيْ: مَنْ ينتسبُ إلى العرافةِ.


والعرَّافُ قيلَ:

هوَ الكاهنُ، وهو الذي يُخْبِرُ عَن المستقبلِ.


وقيلَ:

هوَ اسمٌ عامٌّ للكاهنِ والمُنَجِّمِ والرَّمَّالِ ونحوِهم

ممَّنْ يَسْتَدِلُّ على معرفةِ الغيبِ بمُقَدِّمَاتٍ يستعملُها، وهذا المعنى أعمُّ، ويدلُّ عليهِ الاشتقاقُ؛ إذْ هوَ مشتَقٌّ مِن المعرفةِ، فيشملُ كلَّ مَنْ تعاطى هذهِ الأمورَ وادَّعى بها المعرفةَ.

قولُهُ: ((فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ فَصَدَّقَهُ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا)) ظاهرُ الحديثِ أنَّ مُجَرَّدَ سُؤَالِهِ يُوجِبُ عدَمَ قبولِ صلاتِهِ أربعينَ يومًا، ولكنَّهُ لَيْسَ على إطلاقِهِ.


فسؤالُ العرَّافِ ونحوِهِ ينقسمُ إلى أقسامٍ:


القسمُ الأوَّلُ:

أنْ يسألَهُ سؤالاً مُجرَّدًا،

فهذا حرامٌ؛ لقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَنْ أَتَى عَرَّافًا...)) فإثباتُ العقوبةِ على سؤالِهِ يدلُّ على تحريمِهِ؛ إذْ لا عقوبةَ إلاَّ على فعلٍ مُحرَّمٍ.


القسمُ الثاني:

أنْ يسألَهُ فيُصَدِّقَهُ،

ويَعْتَبِرَ قولَهُ، فهذا كفرٌ؛ لأنَّ تصديقَهُ في علمِ الغيبِ تكذيبٌ للقرآنِ، حيثُ قالَ تعالى: { قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ }.


القسمُ الثالثُ:

أنْ يسألَهُ ليختبرَهُ،

هَلْ هوَ صادقٌ أوْ كاذبٌ، لا لأجْلِ أنْ يأخذَ بقولِهِ، فهذا لا بأسَ بهِ، ولا يدخلُ في الحديثِ.


وقَدْ سألَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ

ابنَ صَيَّادٍ فقالَ:

((مَاذَا خَبَّأْتُ لَكَ؟)).

قَالَ: الدُّخْ.

فقالَ: ((اخْسَأْ فَلَنْ تَعْدُوَ قَدْرَكَ)).

فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ سألَهُ عَنْ شَيْءٍ أضْمَرَهُ لهُ؛ لأجْلِ أنْ يختبرَهُ، فأخبرَهُ بهِ.


القسمُ الرابعُ:

أنْ يسألَهُ ليُظْهِرَ عجزَهُ وكذبَهُ،

فيمتحنَهُ في أمورٍ يتبيَّنُ بها كذِبُه وعجْزُهُ، وهذا مطلوبٌ وقدْ يكونُ واجبًا.


وإبطالُ قولِ الكهنةِ لا شكَّ أنَّهُ أمرٌ مطلوبٌ،

وقدْ يكونُ واجبًا، فصارَ السؤالُ هنا لَيْسَ على إطلاقِهِ، بِلْ يُفَصَّلُ فيهِ هذا التفصيلُ على حَسَبِ ما دلَّتْ عليهِ الأدلَّةُ الشرعيَّةُ الأخرى.

وقدْ أخْبَرَ شيخُ الإسلامِ عَنْهُمْ، أنَّ الجنَّ يَخْدِمُونَ الإنسَ في أمورٍ، والكُهَّانَ يستخدِمُونَ الجنَّ، ليأْتُوهُم بخبرِ السماءِ، فيُضِيفُونَ إليه مِن الكذِبِ ما يضيفونَ.


وخدمةُ الجنِّ للإنسِ ليْسَتْ مُحَرَّمةً على كلِّ حالٍ،

بَلْ هيَ على حَسَبِ الحالِ.

فالجِنِّيُّ يخدمُ الإنسَ في أمورٍ لمصلحةِ الإنسِ، وقدْ يكونُ للجنِّ فيها مصلحةٌ، وقدْ لا يكونُ لهُ فيها مصلحةٌ؛ بَلْ لأنَّهُ يُحِبُّهُ في اللهِ ولِلَّهِ، ولا شكَّ أنَّ مِن الجنِّ مؤمنينَ يُحِبُّونَ المؤمنينَ مِن الإنسِ؛ لأنَّهُ يجمعُهُم الإيمانُ باللهِ.

وقدْ يخدِمُونَهم لطاعةِ الإنسِ لهُم فيما لا يُرْضِي اللهَ عزَّ وجلَّ؛ إمَّا في الذَّبْحِ لهم، أوْ في عبادتِهِم، أوْ ما أَشْبَهَ ذلِكَ.

والنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حضرَ إليهِ الجنُّ وخاطبَهم، وأرْشَدَهُم، ووعَدَهُم بعطاءٍ لا نظيرَ لهُ، فقالَ لهُم: ((كُلُّ عَظْمٍ ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ تَجِدُونَهُ أَوْفَرَ مَا يَكُونُ لَحْمًا، وَكُلُّ بَعْرَةٍ فَهِيَ عَلَفٌ لِدَوَابِّكُمْ)).

وذُكِرَ أنَّ في عهْدِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهُ امرأةً لها رِئْيٌ مِن الجنِّ، وكانَتْ تُوصِيهِ بأشياءَ، حتَّى إنَّهُ تَأَخَّرَ عُمَرُ ذاتَ يومٍ، فأَتَوْا إليها فقالوا: ابْحَثِي لنا عنهُ، فذهبَ هذا الجنِّيُّ الذي فيها، وبحَثَ وأخبرَهم أنَّهُ في مكانِ كذا، وأنَّهُ يَسِمُ إِبِلَ الصدقةِ.

وقولُهُ: ((فَصَدَّقَهُ)) لَيْسَتْ في (صحيحِ مسلمٍ)، بَل الذي في (مسلمٍ)((فَسَأَلَهُ عَنْ شَيْءٍ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا)) وزيادَتُها في نَقْلِ المؤلِّفِ، إمَّا أنَّ النسخَةَ التي نقلَ مِنها بهذا اللفظِ ((فَصَدَّقَهُ)) أوْ أنَّ المؤلِّفَ عَزَاهُ إلى مسلمٍ باعتبارِ أصلِهِ، فأخَذَ مِنْ (مسلمٍ)((فَسَأَلَهُ)) وأخذَ مِنْ أحمدَ((فَصَدَّقَهُ)).

قولُهُ: ((لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا)) نفيُ القبولِ هنا هلْ يَلْزَمُ منهُ نفيُ الصحَّةِ أوْ لا؟


نقولُ:

نفيُ القبولِ إمَّا أنْ يكونَ لفَوَاتِ شرطٍ، أوْ لوجودِ مانعٍ، ففي هاتيْنِ الحالينِ يكونُ نفيُ القبولِ نفيًا للصحَّةِ، كما لوْ قُلْتَ: مَنْ صلَّى بغيرِ وُضُوءٍ لمْ يَقْبَل اللهُ صلاتَهُ، ومَنْ صلَّى في مكانٍ مغصوبٍ لم يَقْبَل اللهُ صلاتَهُ، عَنْدَ مَنْ يَرى ذلِكَ.


وإنْ كانَ نفيُ القبولِ لا يتعلَّقُ بفواتِ شرطٍ ولا وجودِ مانعٍ،

فلا يلْزَمُ مِنْ نفيِ القبولِ نفيُ الصحَّةِ، وإنَّما يكونُ المرادُ بالقبولِ المنفِيَّ:


إمَّا نفيُ القبولِ التامِّ،

أيْ: لمْ تُقْبَلْ على وجهِ التمامِ الذي يحْصُلُ بِهِ تمامُ الرِّضا وتمامُ المثُوبَةِ.

وإمَّا أنْ يُرَادَ بهِ أنَّ هذه السيِّئَةَ التي فعلَها تُقَابِلُ تِلْكَ الحسنةَ في الميزانِ فتُسْقِطُها، ويكونُ وِزْرُها موازيًا لأجرِ تِلْكَ الحسنةِ، وإذا لمْ يكُنْ لهُ أجرٌ صارَتْ كأنَّها غيرُ مقبولةٍ، وإنْ كانَتْ مُجْزِئَةً ومُبْرِئَةً للذِّمَّةِ، لكنَّ الثوابَ الذي حصلَ بِها قُوبِلَ بالسيِّئَةِ فأسقَطَتْهُ.

ومثلُهُ قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَنْ شَرِبَ الْخَمْرَ لَمْ تُقْبَلْ لَهُ صَلاَةُ أَرْبَعِينَ يَوْمًا)).

وقولُهُ: ((أَرْبَعينَ يَوْمًا)) تخصيصُ هذا العددِ لا يُمْكِنُنا أنْ نُعَلِّلَهُ؛ لأنَّ الشيءَ المقدَّرَ بعددٍ لا يستطيعُ الإنسانُ غالبًا أنْ يعْرِفَ حكْمَتَهُ، فكونُ الصلاةِ خمسَ صلواتٍ أوْ خمسينَ لا نعلمُ لماذا خُصِّصَتْ بذلِكَ، فهذا مِن الأمورِ التي يُقْصَدُ بِها التعبُّدُ للهِ، والتعبُّدُ للهِ بما لا تُعرفُ حكمَتُهُ أبْلَغُ مِن التعبُّدِ لهُ بما تُعْرَفُ حكمتُهُ، فعَلَيْنَا التسليمُ والانقيادُ وتفويضُ الأمرِ إلى اللهِ تعالى.


ويُؤْخَذُ مِن الحديثِ: تحريمُ إتيانِ العرَّافِ وسؤَالِهِ؛

إلاَّ ما استُثْنِيَ كالقسمِ الثالثِ والرابعِ؛ لِمَا في إتيانِهم وسؤالِهِم مِن المفاسدِ العظيمةِ، التي تَرَتَّبُ على تشجِيعِهِم وإغراءِ الناسِ بِهم. وهُمْ في الغالبِ يأتونَ بأشياءَ كلُّها باطلةٌ.


(3)

قولُهُ: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا)) تقدَّمَ معنى الكُهَّانِ، وأنَّهم كانوا رجالاً في أحياءِ العربِ تَنْزِلُ عليهم الشياطينُ، وتُخْبِرُهم بما سَمِعَتْ مِنْ أخبارِ السماءِ.

قولُهُ: ((فَصَدَّقَهُ)) أيْ: نَسَبَهُ إلى الصِّدْقِ وقالَ: إنَّهُ صادقٌ، وتصديقُ الخبرِ بمعنى تثْبِيتِهِ وتحقيقِهِ، فقالَ: هذا حقٌّ وصحيحٌ وثابتٌ.

قولُهُ: ((بِمَا يَقُولُ)) (ما) عامَّةٌ في كلِّ ما يقولُ، حتَّى ما يَحْتَمِلُ أنَّهُ صِدْقٌ، فإنَّهُ لا يجوزُ أنْ يُصَدِّقَهُ؛ لأنَّ الأصلَ فيهم الكذِبُ.

قولُهُ: ((فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)) أيْ: بالَّذِي أُنْزِلَ، والذي أُنْزِلَ على محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ القرآنُ، أُنزلَ إليهِ بواسطةِ جبريلَ، قالَ تعالى: { وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ }وقالَ تعالى: { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ }.

وقولُهُ: ((بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)) ذكَرَ أهلُ السنَّةِ أنَّ كلَّ كلمةٍ وُصِفَ فيها القرآنُ بأنَّهُ مُنَزَّلٌ أوْ أُنزِلَ مِن اللهِ، فهيَ دالَّةٌ على عُلُوِّ اللهِ سبحانَهُ وتعالى بذاتِهِ، وعلى أنَّ القرآنَ كلامُ اللهِ؛ لأنَّ النزولَ يكونُ مِنْ أعلى، والكلامَ لا يكونُ إلاَّ مِن المتكلِّمِ بِهِ.

وقولُهُ: ((كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)) وجهُ ذلِكَ أنَّ ما أُنْزِلَ على محمَّدٍ قالَ اللهُ تعالى فيهِ: { قُلْ لاَ يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاواتِ والأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللهُ } وهذا مِنْ أقْوَى طُرُقِ الحصرِ؛ لأنَّ فيهِ النفيَ والإثباتَ، فالذي يُصَدِّقُ الكاهنَ في علمِ الغيبِ وهوَ يعلمُ أنَّهُ لا يعلمُ الغيبَ إلاَّ اللهُ فهوَ كافرٌ كُفْرًا أكبرَ مُخْرِجًا عَن الملَّةِ، وإنْ كانَ جاهلاً ولا يعتقدُ أنَّ القرآنَ فيهِ كذبٌ فكفرُهُ كفرٌ دونَ كُفْرٍ.


(4)

قولُهُ: ((وَلِلأَرْبَعَةِ والحاكمِ)) الأربعةُ هُمْ: أبو داودَ، والنَّسَائِيُّ، والتِّرْمِذِيُّ، وابنُ مَاجَةَ.


والحاكمُ

ليسَ مِنْ أهلِ السُّنَنِ، لكنْ لهُ كتابٌ سُمِّيَ (صحيحَ الحاكمِ).

قولُهُ: ((صحيحٌ علَى شَرْطِهِما)) أيْ: شرْطِ البخاريِّ ومسلمٍ، لكنَّ قولَهُ على شرْطِهِما هذا على ما يَعْتَقِدُ، وإلاَّ فَقَدْ يكونُ الأمرُ على خلافِ ذلِكَ.

ومعنى قولِهِ:((على شرْطِهِما)) أيْ: أنَّ رجالَهُ رجالُ (الصحيحيْنِ)، وأنَّ ما اشترَطَهُ البخاريُّ ومسلمٌ موجودٌ فيهِ.


(5)

قولُهُ:

((مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا))((أوْ)) يُحْتَمَلُ أنْ تكونَ للشكِّ، ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ للتنويعِ، فالحديثُ الأوَّلُ بلفظِ ((عَرَّافٍ)) والثاني بلفظِ ((كَاهِنٍ)) والثالثُ جَمَعَ بينَهُما، فتكونُ ((أوْ)) للتنويعِ.

وجاءَ المؤلِّفُ بهذا الحديثِ معَ أنَّ الأوَّلَ والثانيَ مُغْنِيَانِ عنهُ؛ لأنَّ كثرةَ الأدلَّةِ ممَّا يُقَوِّي المدلولَ، أرَأَيْتَ لوْ أنَّ رَجُلاً أخبرَكَ بخبرٍ فوَثِقْتَ بهِ، ثمَّ جاءَ آخرُ وأخبَرَكَ بهِ ازْدَدْتَ تَوَثُّقًا وقوَّةً.

ولهذا فَرَّقَ الشارعُ بَيْنَ أنْ يأتيَ الإنسانُ بشاهدٍ واحدٍ أوْ شاهديْنِ.

وظاهرُ صنيعِ المؤلِّفِ أنَّ حديثَ أبي هريرةَ:((مَنْ أَتَى عَرَّافًا أَوْ كَاهِنًا)) أنَّهُ موقوفٌ؛ لأنَّهُ قالَ: عَنْ أبي هريرةَ، ولكنَّهُ لمَّا قالَ في الَّذِي بعْدَهُ ((موقوفًا)) ترَجَّحَ عِنْدَنا أنَّ الحديثَ الذي قبلَهُ مرفوعٌ.


(6)

قولُهُ: (مرْفوعًا) أيْ: إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.

قولُهُ:

((لَيْسَ مِنَّا)) تقَدَّمَ الكلامُ على هذِهِ الكلمةِ، وأنَّها لا تدلُّ على خروجِ الفاعلِ عَن الإسلامِ، بَلْ على حَسَبِ الحالِ.

قولُهُ: ((تَطَيَّرَ)) التَّطَيُّرُ هوَ التشاؤمُ بالمَرْئِيِّ أو المسموعِ أو المعلومِ أوْ غيرِ ذلكَ، وأصلُهُ مِن الطَّيْرِ؛ لأنَّ العربَ كانوا يتَشَاءَمُونَ أوْ يتفاءَلُون بِها، وقدْ سَبَقَ ذلكَ.

ومنهُ ما يحْصُلُ لبعضِ الناسِ إذا شَرَعَ في عملٍ، ثُمَّ حصلَ لهُ في أوَّلِهِ تعَثُّرٌ، تركَهُ وتشاءمَ، فهذا غيرُ جائزٍ، بلْ يعتمدُ على اللهِ، ويتَوَكَّلُ عليهِ، وما دُمْتَ أنَّكَ تعلمُ أنَّ في هذا الأمرِ خيرًا فغَامِرْ فيهِ ولا تَشَاءَمْ؛ لأنَّكَ لمْ تُوَفَّقْ فيهِ لأوَّلِ مَرَّةٍ.

فَكَمْ منْ إنسانٍ لم يُوَفَّقْ في العملِ أوَّلَ مَرَّةٍ، ثمَّ وُفِّقَ في ثاني مَرَّةٍ أوْ ثالثِ مَرَّةٍ.

قولُهُ: ((أوْ تُطُيِّرَ لَهُ)) بالبناءِ للمفعولِ، أيْ: أَمَرُ مَنْ يَتَطَيَّرُ لهُ، مثلَ: أنْ يأتيَ شخصٌ ويقولُ: (سأُسَافِرُ إلى المكانِ الفلانيِّ، وأَنْتَ صاحبُ طَيْرٍ، وأُرِيدُ أنْ تَزْجُرَ طَيْرَكَ؛ لأنْظُرَ هَلْ هذهِ الوِجْهةُ مباركةٌ أمْ لا) فَمَنْ فَعَلَ ذلِكَ فَقَدْ تبرَّأَ مِنْهُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.

وقولُهُ: ((مَنْ تَطَيَّرَ)) يشملُ مَنْ تطيَّرَ لنفسِهِ أوْ تطَيَّرَ لغيرِهِ.


(7)

وقولُهُ:

((أوْ تَكَهَّنَ أوْ تُكُهِّنَ لَهُ)) سَبَقَ أنَّ الكهانةَ ادِّعَاءُ علمِ الغيبِ في المستقبلِ، يقولُ: سيكونُ كذا وكذا، وربَّما يقعُ، فهذا مُتَكَهِّنٌ، ومِن الغريبِ أنَّهُ شاعَ الآنَ في أُسْلُوبِ الناسِ قوْلُهُم: (تَكَهَّنَ بأنَّ فلانًا سيأتي) ويُطْلِقُونَ هذا اللفظَ الدالَّ على عَمَلٍ محرَّمٍ على أمْرٍ مُباحٍ، وهذا لا ينبغِي؛ لأنَّ العامِّيَّ الذي لا يُفَرِّقُ بينَ الأمورِ يظُنُّ أنَّ الكَهَانَةَ كُلَّها مباحةٌ بدليلِ إطلاقِ هذا اللفظِ على شيءٍ مباحٍ معلوْمٍ إباحتُهُ.

قولُهُ: ((أوْ تُكُهِّنَ لَهُ)) أيْ: طَلَبَ مِن الكاهنِ أنْ يتكَهَّنَ لهُ، كأنْ يقولَ للكاهِنِ: ماذا يُصِيبُنِي غدًا؟

أوْ في الشهرِ الفلانيِّ؟

أوْ في السنةِ الفُلانيَّةِ؟

وهذا تَبَرَّأَ مِنْهُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.


(8)

قولُهُ:

((أَوْ سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ)) تقدَّمَ تعريفُ السحرِ؛ وتقدَّمَ بيانُ أقسامِهِ.

قولُهُ: ((أَوْ سُحِرَ لَهُ)) أيْ: طلَبَ مِن الساحِرِ أنْ يسْحَرَ لهُ؛ ومنهُ: النُّشْرَةُ عَنْ طريقِ السحرِ، فهيَ داخلةٌ فيهِ؛ وكانوا يستعملونَها على وُجُوهٍ متنوِّعَةٍ:


منها:

أنَّهم يأتونَ بطَسْتٍ فيهِ ماءٌ، ويصُبُّونَ فيهِ رَصَاصًا، فيتكَوَّنُ هذا الرصاصُ بوجهِ الساحرِ، أيْ: تكونُ صورةُ الساحرِ في هذا الرصاصِ، ويُسَمِّيهَا العامَّةُ عنْدَنا (صَبَّ الرصاصِ) وهذا مِنْ أنواعِ السحرِ المُحَرَّمِ، وقدْ تبَرَّأَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ منْ فاعلِهِ.


والشاهدُ مِنْ هذا الحديثِ: قولُهُ: ((وَمَنْ أَتَى كَاهِنًا..)) إلخ.


(9)

وقولُهُ: (ورواهُ 

الطَّبرانيُّ في (الأوسطِ) بإسنادٍ حسنٍ مِنْ حَديثِ ابنِ عبَّاسٍ... إلخ) فيكونُ هذا مُقَوِّيًا للأوَّلِ.


(10)

قولُهُ: (قالَ

البَغَوِيُّالعَرَّافُ الذي يَدَّعِي مَعْرِفَةَ الأمورِ بِمُقدِّمَاتٍ...) العرَّافُ: صيغةُ مبالغةٍ، فإمَّا أنْ يُرَادَ بها الصيغةُ، وإمَّا أنْ يُرَادَ بها النسبةُ، وهوَ الذي يَدَّعِي معرفةَ الأشياءِ، وليسَ كلُّ مَنْ يدَّعِي معرفةً يكونُ عرَّافًا، لكنْ مَنْ يدَّعِي معرفةً تتعلَّقُ بعلمِ الغيبِ، فيدَّعِي معرفةَ الأمورِ بمقدِّماتٍ يستدلُّ بِها على مكانِ المسروقِ والضالَّةِ ونحوِها.

وظاهرُ كلامِ البَغَوِيِّ رَحِمَهُ اللهُ أنَّهُ شاملٌ لِمَن ادَّعى معرفةَ المستقبلِ والماضي؛ لأنَّ مكانَ المسروقِ يُعْلَمُ بعدَ السرقةِ، وكذلكَ الضالَّةُ قَدْ حَصَلَ الضَّيَاعُ، ولكنَّ المسألةَ لَيْسَت اتفاقيَّةً بَيْنَ أهلِ العلمِ؛ ولهذا قالَ المُؤَلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: ( وقيلَ: هوَ - أي العرَّافُ - الكاهنُ ).


والكاهنُ

هوَ الذي يُخْبِرُ عَن المُغَيَّبَاتِ في المستقبلِ.


(11)

قولُهُ: (وقيلَ: هُوَ الذي يُخْبِرُ عَمَّا في الضَّمِيرِ) أيْ: أنْ تُضْمِرَ شيئًا ، فتقولُ: ما أَضْمَرْتُ؟

فيقولُ: أضمرْتَ كذا وكذا.

أو المُغَيَّبَاتِ في المستقبلِ، تقولُ: ماذا سيحدثُ في الشهرِ الفلانِيِّ في اليومِ الفلانِيِّ؟ ماذا ستلدُ امرَأَتِي؟

متى يَقْدَمُ ولَدِي؟

وهوَ لا يدْرِي؟

والخلاصةُ:

أنَّ العلماءَ اختلفوا في تعريفِ العرَّافِ:


فقيلَ:

هوَ الذي يدَّعِي معرفةَ الأمورِ بمقدِّمَاتٍ

يستدلُّ بِها على مكانِ المسروقِ والضَّالَّةِ ونحْوِها، فيكونُ شاملاً لِمَنْ يُخْبِرُ عَنْ أُمُورٍ وَقَعَتْ.


وقيلَ:

الذي يُخْبِرُ عمَّا في الضميرِ.


وقيلَ:

هوَ الكاهنُ، والكاهنُ هوَ الذي يُخْبِرُ عَن المغيَّباتِ في المستقبلِ.


(12)

قولُهُ: (وَقالَ

أَبو العَبَّاسِ ابنُ تَيْمِيَةَ) ظاهرُ كلامِ الشيخِ: أنَّ شيخَ الإسلامِ جزَمَ بهذا، ولكنَّ شيخَ الإسلامِ قالَ: (وقيلَ العَرَّافُ) وذكَرَهُ بقيلَ، ومعلومٌ أنَّ ما ذُكِرَ بقيلَ لَيْسَ مِمَّا يُجْزَمُ بأنَّ الناقلَ يقولُ بهِ، صحيحٌ أنَّهُ إذا نَقَلَهُ ولمْ ينْقُضْهُ، فهذا دليلٌ على أنَّهُ ارْتَضَاهُ.

وعلى كلِّ حالٍ فشيخُ الإسلامِ ساقَ هذا القولَ وارْتَضَاهُ ثُمَّ قالَ: ولوْ قيلَ: إنَّهُ اسمٌ خاصٌّ لبعضِ هؤلاءِ؛ الرَّمَّالِ والمُنَجِّمِ ونحوِهم، فإنَّهمْ يدخلونَ فيهِ بالعمومِ المعنويِّ؛ لأنَّ عندَنا عمومًا معنويًّا، وهو ما ثبتَ عَنْ طريقِ القياسِ، وعمومًا لفظيًّا، وهوَ ما دلَّ عليهِ اللفظُ، بحيثُ يكونُ اللفظُ شاملاً لهُ.

وقدْ ذكَرَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَةَ رَحِمَهُ اللهُ أنَّ استخدامَ الإنسِ للجنِّ لهُ ثلاثُ حالاتٍ:


الحالُ الأُولَى:

أنْ يستخدِمَهم في طاعةِ اللهِ،

كأنْ يكونَ لهُ نائبًا في تبليغِ الشرعِ، فمثلاً إذا كانَ لهُ صاحبٌ مِن الجنِّ مُؤْمِنٌ يأخذُ عنهُ العلمَ ويتَلقَّى منهُ، وهذا شيءٌ ثَبَتَ أنَّ الجنَّ قدْ يتعَلَّمُونَ مِن الإنسِ، فيستخدمُهُ في تبليغِ الشرعِ لنُظَرَائِهِ مِن الجنِّ، أوْ في المعونةِ على أمورٍ مطلوبةٍ شرعًا، فهذا لا بأسَ بهِ، بلْ إنَّهُ قدْ يكونُ أمرًا محمودًا أوْ مطلوبًا، وهوَ مِن الدعوةِ إلى اللهِ عزَّ وجلَّ.


والجنُّ حَضَرُوا النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ،

وقرأَ عليهم القرآنَ، ووَلَّوْا إلى قومِهِم مُنْذِرينَ، والجنُّ فيهم الصلحاءُ والعُبَّادُ والزُّهَّادُ والعلماءُ؛ لأنَّ المُنْذِرَ لا بُدَّ أنْ يكونَ عالمًا بما يُنْذِرُ، عابدًا مُطِيعًا للهِ سبحانَهُ في الإنذارِ.


الحالُ الثانيةُ:

أنْ يستخدمَهُم في أمورٍ مُبَاحَةٍ،

مثلَ: أنْ يطْلُبَ منهم العونَ على أمرٍ مِن الأمورِ المباحةِ، قالَ: فهذا جائزٌ بشرطِ أنْ تكونَ الوسيلةُ مباحةً، فإنْ كانَتْ مُحَرَّمةً صارَ حرامًا، كما لوْ كانَ الجنِّيُّ لا يُسَاعِدُهُ في أمورِهِ إلاَّ إذا ذَبَحَ لهُ، أوْ سَجَدَ لهُ، أوْ ما أَشْبَهَ ذلِكَ.

ثم ذكَرَ ما وَرَدَ أنَّ عُمَرَ تأخَّرَ ذاتَ مَرَّةٍ في سفرِهِ، فاشتغلَ فِكْرُ أبي موسى، فقالوا لهُ: إنَّ امرأةً مِنْ أهلِ المدينةِ لها صاحبٌ مِن الجنِّ، فلوْ أمرْتَها أنْ تُرْسِلَ صاحبَها للبحثِ عَنْ عُمَرَ، ففعلَ، فذهبَ الجنِّيُّ ثمَّ رجعَ فقالَ: إنَّ أميرَ المؤمنينَ ليسَ بِهِ بَأْسٌ، وهوَ يَسِمُ إِبِلَ الصَّدَقَةِ في المكانِ الفلانيِّ، فهذا استخدامٌ في أمْرٍ مُبَاحٍ.


الحالُ الثالثةُ:

أنْ يستخدمَهُم في أمورٍ مُحَرَّمةٍ،

كنهبِ أموالِ الناسِ وترويعِهم، وما أشبَهَ ذلِكَ، فهذا مُحَرَّمٌ، ثُمَّ إنْ كانَت الوسيلةُ شِرْكًا صارَ شِرْكًا، وإنْ كانَتْ وسيلَتُهُ غيرَ شركٍ صارَ معصيةً، كما لوْ كانَ هذا الجنِّيُّ الفاسقُ يَأْلَفُ هذا الإنسيَّ الفاسقَ، ويتعاونُ معهُ على الإثمِ والعُدْوَانِ، فهذا يكونُ إثمًا وعدوانًا، ولا يصلُ إلى حدِّ الشِّركِ.

ثُمَّ قالَ: إنَّ مَنْ يسألُ الجنَّ، أوْ يسألُ مَنْ يسألُ الجنَّ، ويُصَدِّقُهم في كلِّ ما يقولونَ، فهذا معصيةٌ وكفْرٌ.


والطَّريقُ للحِفْظِ من الجنِّ هوَ قراءةُ آيةِ الكُرْسِيِّ،

فمَنْ قرَأَها في ليلةٍ لمْ يَزَلْ عليهِ مِن اللهِ حافظٌ، ولا يقْرَبُهُ شيطانٌ حتَّى يُصْبِحَ، كما ثبتَ ذلِكَ عنهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّم، وهيَ: { اللهُ لاَ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ } الآيةَ.


(13)

قولُهُ:

((يَكْتُبُونَ أَبَاجَادٍ وَيَنْظُرونَ فِي النُّجومِ)) الواوُ هنا لَيْسَتْ عطفًا، ولكنَّها للحالِ، يعني: والحالُ أنَّهم ينظرونَ فيرْبِطُونَ ما يكتبونَ بسَيْرِ النجومِ وحرَكَتِها.


(14)

قولُهُ:

((ما أُرَى مَنْ فَعَلَ ذلِكَ)) ويجوزُ فتح الهمزةِ بمعنى: أعلَمُ، وبالضمِّ بمعنى: ما أظُنُّ.

وقولُهُ: ((أَبَاجَادٍ)) هيَ: أَبْجَدْ هَوَّزْ حُطِّي كَلَمَنْ سَعْفَصْ قَرَشَتْ ثَخِذٌ ضَظِغ....


وتعلُّمُ (أَبَاجَادٍ) ينقسمُ إلى قسميْنِ:

الأوَّلُ:

تعلُّمٌ مباحٌ بأنْ نتَعَلَّمَها لحسابِ الجُمَلِ وما أشَبْهَ ذلِكَ، فهذا لا بأسَ بهِ، وما زالَ أناسٌ يستعْمِلُونَها، حتَّى العلماءُ يُؤَرِّخُونَ بِها، ولم يُرِد ابنُ عبَّاسٍ هذا القسمَ.


الثاني:

مُحَرَّمٌ، وهو كتابةُ (أَبَاجَادٍ) كتابةً مربوطةً بسَيْرِ النجومِ وحركتِها وطلوعِها وغروبِها، وينظرونَ في النجومِ؛ ليسْتَدِلُّوا بالموافقةِ أو المخالفةِ على ما سيحْدُثُ في الأرضِ، إمَّا على سبيلِ العمومِ كالجَدْبِ والمرضِ والحربِ وما أشْبَهَ ذلكَ، أوْ على سبيلِ الخصوصِ، كأنْ يقولَ لشخصٍ: سيحدثُ لكَ مرضٌ أوْ فقرٌ أوْ سعادةٌ أوْ نحسٌ في هذا، وما أشْبَهَ ذلِكَ.

فهم يرْبِطُونَ هذهِ بهذهِ، ولَيْسَ هناكَ عَلاقةٌ بينَ حركاتِ النجومِ واختلافِ الوقائعِ في الأرضِ.

وقولُهُ: ((ما أُرَى مَنْ فَعَلَ ذلِكَ لَهُ عِنْدَ اللهِ مِنْ خَلاقٍ)) قولُهُ: ((خلاقٍ)) أيْ: نصيبٍ.

ظاهرُ كلامِ ابنِ عبَّاسٍ أنَّهُ يرى كُفْرَهم؛ لأنَّ الذي لَيْسَ لهُ نصيبٌ عِنْدَ اللهِ هوَ الكافرُ؛ إذْ لا يُنْفَى النصيبُ مُطْلَقًا عَنْ أحدٍ من المؤمنينَ.

وإنْ كانَ لهُ ذنوبٌ عُذِّبَ بقَدْرِ ذنوبِهِ، أوْ تَجَاوَزَ اللهُ عنها، ثُمَّ صارَ آخِرَ أمْرِهِ إلى نصيبِهِ الذي يجدُهُ عندَ اللهِ.

ولم يُبيِّن المؤلِّفُ رَحِمَهُ اللهُ حُكْمَ الكاهنِ والمنجِّمِ والرَّمَّالِ مِنْ حيثُ العقوبةُ في الدُّنْيا، وذلكَ أنَّنا إنْ حكَمْنا بكُفْرِهِم، فحُكْمُهم في الدُّنْيا أنَّهُم يُسْتَتَابُونَ، فإنْ تَابُوا وإلاَّ قُتِلُوا كُفَّارًا.


وإنْ حكَمْنا بعدمِ كفرِهِم،

إمَّا لكونِ السحرِ لا يصلُ إلى الكفرِ، أوْ قُلْنا: إنَّهم لا يكْفُرونَ؛ لأنَّ المسألةَ فيها خلافٌ، فإنَّهُ يجبُ قتْلُهم لدفعِ مفسدتِهم ومضَرَّتِهم، حتَّى وإنْ قُلْنا بعدمِ كُفْرِهِم؛ لأنَّ أسبابَ القتلِ ليسَتْ مُخْتَصَّةً بالكفرِ فَقَطْ.


والنظرُ في النجومِ ينقسمُ إلى أقسامٍ:

الأوَّلُ:

أنْ يُسْتَدَلَّ بحركاتِها وسيْرِها على الحوادثِ الأرضيَّةِ،

سواءٌ كانَتْ عامَّةً أوْ خاصَّةً، فهوَ إن اعتقدَ أنَّ هذهِ النجومَ هيَ المُدَبِّرةُ للأمورِ، أوْ أنَّ لها شِرْكًا فهوَ كُفْرٌ مُخْرِجٌ عَن الملَّةِ، وإن اعتقدَ أنَّها سببٌ فقطْ، فكفرُهُ غيرُ مُخْرِجٍ عَن الملَّةِ.

ولكنْ يُسمَّى كفرًا؛ لقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ على إِثْرِ سماءٍ كانَتْ مِن اللَّيْلِ: ((هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟)) قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.

قالَ: ((قَالَ: أَصْبَحَ مِنْ عِبادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، أَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ)).

وقدْ سَبَقَ لنا أنَّ هذا الكُفْرَ ينْقَسِمُ إلى قِسْمَيْنِ بحسَبِ اعتقادِ قائلِهِ.


الثاني:

أنْ يتعلَّمَ علمَ النجومِ؛

ليستدلَّ بحركاتِها وسيْرِها على الفصولِ وأوقاتِ البَّذْرِ والحصادِ والغرسِ وما أشَبْهَهُ؛ فهذا مِن الأمورِ المباحةِ؛ لأنَّهُ يُسْتَعَانُ بذلِكَ على أمورٍ دنيويَّةٍ.


القسمُ الثالثُ:

أنْ يتعلَّمَها لمعرفةِ أوقاتِ الصلواتِ وجهاتِ القِبْلَةِ

وما أشَبْهَ ذلِكَ مِن الأمورِ المشروعةِ، فالتَّعَلُّمُ هنا مشروعٌ، وقدْ يكونُ فَرْضَ كفايةٍ، أوْ فرضَ عَيْنٍ.


(15)

فيهِ مَسائِلُ:

الأُولَى:

(لا يَجْتَمِعُ تَصْديقُ الكاهِنِ مَعَ الإيمانِ بالقرآنِ)

يُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَنْ أَتَى كَاهِنًا فَصَدَّقَهُ بِمَا يَقُولُ فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)) صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم.

ووجْهُهُ أنَّهُ كَذَّبَ بالقرآنِ، وهذا مِنْ أعظمِ الكفرِ.


(16)

الثانيةُ: (التَّصْريحُ بأنَّهُ كُفْرٌ)

تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: ((فَقَدْ كَفَرَ بِمَا أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ)).


(17)

الثالثةُ:

(ذِكْرُ مَنْ تُكُهِّنَ لَهُ) تُؤْخَذُ مِنْ حديثِ عمرانَ بنِ حُصَيْنٍ؛ حيثُ قالَ:((لَيْسَ مِنَّا)) أيْ: أنَّهُ كالكاهنِ في براءةِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ منهُ.


(18)

الرابعةُ:

(ذِكْرُ مَنْ تُطُيِّرَ لَهُ) تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ: ((أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ)).


(19)

الخامسةُ:

(ذِكْرُ مَنْ سُحِرَ لَهُ) تُؤْخَذُ مِنْ قولِهِ:((أَوْ سُحِرَ لَهُ)).


وأتى المؤلِّفُ بذِكْرِ مَنْ تُكُهِّنَ لهُ، أوْ سُحِرَ لهُ، أوْ تُطُيَّرَ لهُ؛ لأنَّهُ قدْ يُعَارِضُ فيهِ معارضٌ فيقولُ: هذا في الكُهَّانِ، وهذا في المتطَيِّرينَ، وهذا في السَّحرةِ، فقالَ: إنَّ مَنْ طَلَبَ أنْ يُفعلَ لهُ ذلكَ فهوَ مثْلُهُم في العقوبةِ.


(20)

السَّادسةُ:

(ذِكْرُ مَنْ تَعَلَّمَ أَبَاجَادٍ) وتعَلُّمُ ذلِكَ فيهِ تفصيلٌ، لا يُحْمَدُ ولا يُذَمُّ؛ إلاَّ على حسَبِ الحالِ التي تنْزِلُ عليها، وقدْ سبقَ ذلِكَ.


(21)

السابعةُ:

(ذِكْرُ الفَرْقِ بَيْنَ الكاهِنِ والعرَّافِ).


وفي هذهِ المسألةِ خلافٌ بَيْنَ أهلِ العلمِ:


القولُ الأوَّلُ:

أنَّ العرَّافَ هوَ الكاهنُ،

والكاهنُ هوَ الذي يُخْبِرُ عن المُغَيَّباتِ في المستقبلِ، فهما مترادفانِ، فلا فَرْقَ بَيْنَهُما.


القولُ الثاني:

أنَّ العرَّافَ هوَ الذي يَسْتَدِلُّ على معرفةِ الأمورِ

بمُقَدِّمَاتٍ يستدلُّ بها على معرفةِ المسروقِ ومكانِ الضَّالَّةِ ونحْوِها، فهوَ أعمُّ مِن الكاهنِ؛ لأنَّهُ يشملُ الكاهنَ وغيرَهُ، فهما مِنْ بابِ العامِّ والخاصِّ.


القولُ الثالثُ:

أنَّ العرَّافَ هوَ الذي يُخْبِرُ عمَّا في الضميرِ،

والكاهنُ هوَ الذي يُخْبِرُ عَن المُغَيَّباتِ في المستقبلِ.


فالعرَّافُ هوَ الكاهنُ أوْ أنَّهُ أعمَّ منهُ،

أوْ أنَّ العرَّافَ يختصُّ بالماضِي، والكاهِنَ بالمستَقْبَلِ، فهما متباينانِ.


فالظاهرُ أنَّهما متباينانِ،

فالكاهنُ منْ يُخْبِرُ عن المُغيَّبَاتِ في المستقبلِ.


((والعرَّافُ: مَنْ يدَّعِي معرفةَ الأمورِ بمقدِّماتٍ يستدِلُّ بها عن المسروقِ ومكانِ الضَّالَّةِ ونحْوِ ذلكَ) غيرُ واضحٍ؛ لأنَّهُما لوْ كانا متباينيْنِ لقُلْنَا: والعَرَّافُ هوَ الذي يُخْبِرُ عمَّا في الضميرِ، أوْ أنْ يكُونَا منْ بابِ العامِّ والخاصِّ، فيُقَالُ في العرَّافِ ما هوَ مطبوعٌ هنا بينَ القوسيْنِ.

هيئة الإشراف

#6

27 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ 

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (باب ما جاء في الكهان ونحوهم


هذا الباب أتى بعد أبواب السحر؛

لأن حقيقة عمل الكاهن: أنه يستخدم الجنّ لإخباره بالأمور المغيبة:

إما التي غابت في الماضي.

أو الأمور المغيبة في المستقبل، التي لا يعلمها إلا الله جل جلاله.

فالكاهن يجتمع مع الساحر في أن كلاًّ منهما يستخدم الجنّ لغرضه، ويستمتع بالجن لغرضه.

ومناسبة الباب لكتاب التوحيد: أن الكهانة استخدامٌ للجنّ، واستخدام الجن كفرٌ، وشرك أكبر بالله جل وعلا؛ لأنه لا يجوز أن يستخدم الجنَّ في مثل هذه الأشياء، واستخدام الجن في مثل هذه الأشياء لا يكون إلا بأن يتقرب إلى الجنّ بشيء من العبادات.

فالكُهَّان لا بد -حتى يُخدموا بذكر الأمور المغيبة لهم-

أن يتقربوا إلى الجنّ ببعض العبادات:

إما بالذبح.

أو الاستغاثة.

أو بالكفر بالله جل وعلا:

- بإهانة المصحف.

- أو بسبِّ الله.

- أو نحو ذلك من الأعمال الشركية الكفرية.

فالكهانة صنعة مضادة لأصل التوحيد،

والكاهن مشرك بالله جل وعلا؛ لأنه يستخدم الجنَّ، ويتقرب إلى الجن بالعبادات حتى تخدمه الجن، حتى تخبره الجن بالمغيبات، هذا لا يمكن إلا بأن يتقرب إلى الجن بأنواع العبادات.


وأصل الكُهَّان في الجاهلية:

كانوا كما مرّ معنا في حديث جابر في باب سبق، أنَّ الكهان كانت منتشرة في بلاد العرب في الجزيرة وفي غيرها، والكهان أناس يُدَّعى فيهم الولاية والصلاح عندهم، وأنَّ عندهم علم ما سيكون في المستقبل، أو عندهم علم المغيبات التي ستحدث للناس أو تحدث في الأرض، ولهذا كانت العرب تُعَظّم الكهان، وكانت تخاف من الكهان، وكانت تُعطي الكاهن أجراً عظيماً؛ لأجل ما يخبر عنه.


والكاهن

كما ذكرنا لا يَصِلُ إلى حقيقة عمله بأن يخبر عن الأمور المغيبة؛ إلا باستخدام الجنّ، والتقرب إلى الجن التقربات الشركية؛ فتستمتع الجن به من جهة ما صرف لها من العبادة، ويستمتع هو بالجن من جهة ما يخبره به الجنّ من الأمور المغيبة.


والجن تصل إلى الأمور المغيبة التي تَصْدق فيها عن طريق استراق السمع؛ فإن بعضهم يركب بعضاً حتى يسمعوا الوحي الذي يوحيه الله -جل وعلا- في السماء:

- فربما أدرك الشهابُ الجنيَّ قبل أن يلقي الكلمة لمن تحته.

- وربما أدرك الشهابُ الجنيَّ بعد أن ألقى الكلمة.

فتأتي هذه الكلمة للجنّ فيعطونها الكهان فيكذب معها الكاهن، أو تكذب معها الجنّ مائة كذبة، حتى يعظم شأن الكهان، وحتى تعظم عبادة الإنس للجنّ.

وقبل بعثة النبي -صلى الله عليه وسلم- كان استراق السمع كثيراً جدّاً،

وبعد بعثته -عليه الصلاة والسلام- حُرست السماء من أن تسترق الجن السمع؛ لأجل تَنَـزُّل القرآن والوحي، حتى لا يقع الاشتباه في أصل الوحي والنبوة.

وبعد وفاة النبي -عليه الصلاة والسلام- يقع الاستراق، ولكنه قليل بالنسبة لما كان عليه قبل البعثة.


فصارت عندنا أحوال استراق السمع ثلاثة:

قبل البعثة كثيرٌ جدّاً.

- وبعد بعثة النبي -عليه الصلاة والسلام- لم يحصل استراق من الجن، وإنْ حصل فهو نادر، في غير وحي الله جل وعلا بكتابه لنبيه.

والحالة الثالثة بعد وفاته -عليه الصلاة والسلام- رجع استراق السمع أيضاً، ولكنه ليس بالكثرة التي كانت قبل ذلك؛ لأن السماء ملئت حرساً شديداً وشهباً، والله -جل وعلا- بيّن ذلك في القرآن في آيات كثيرة، من أنَّ النجوم والشهب ترمي الجنّ؛ كما قال جل وعلا: {إلا من استرق السمع فأتبعه شهاب مبين} ونحو ذلك من الآيات التي فيها أن الشُّهب مرصدة للجن.


تبينتْ لك حقيقة الكاهن،

إذا ظهر ذلك فالكاهن قد يُطلق عليه العرَّاف، وهذا الاسم: الكاهن، أو العراف، اسمان متداخلان قد يكون أحدهما يدل على الآخر.

وعند بعض الناس أو في بعض الفئات يُستخدم الكاهن للإخبار بما يحصل في المستقبل.

وتُستخدم لفظ العرّاف لمن يخبر عن الغائب عن الأعين مما حصل في الماضي، من مثل مكان المسروق، أو السارق من هو؟

ونحو ذلك مما هو غائب عن الأنظار، وإنما يعلمه العراف بواسطة الجن.

والصحيح في ذلك ما ذكره شيخ الإسلام ابنتيمية(أن العراف اسم للكاهن، والمنجّم، والرّمال، ونحوهم ممّن يتكلمون في معرفة الأمور بتلك الطرق، من تكلم في معرفة الأمور المغيبة إما الماضية أو المستقبلة بتلك الطرق، طريق التنجيم، أو طريق الخط في الرمل أو طريق الطرق على الحصى أو الخط في الرمل بطريق الطرق أو بالودع، أو نحو ذلك من الأساليب، أو بالخشبة المكتوب عليها باجاد، ونحو ذلك من قراءة الفنجان أو قراءة الكف).

كل من يخبر عن الأمور المغيبة بشيء يجعله وسيلة لمعرفة الأمور المغيبة، يُسمى كاهناً ويسمى عرافاً؛ لأنه لا يحصل له أمره؛ إلا بنوعٍ من أنواع الكهانة، وسيأتي ذلك إن شاء الله.

قال رحمه الله: (باب ما جاء في الكهان ونحوهم) يعني من:

العرافين.

والمنجمين.

- والذين يخطّون في الرمل.

- والذين يكتبون على الخشب، ونحو ذلك.

قال: (روى مسلم في صحيحه عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قال:((من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً))).

هذا الحديث نبّه الشُّراح على أنَّ لفظه في مسلم: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) بدون كلمة (فصدّقه) وكلمة ( فصدَّقه) في هذا الحديث موجودة في (مسند الإمام أحمد) فالشيخ -رحمه الله- ذكر هذا اللفظ وعزاه لمسلم على طريقة أهل العلم في عزو الحديث لأحد صاحبي الصحيح إذا كان أصله فيهما لاتحاد الطريق، أو نحو ذلك.


((من أتى عرافاً فسأله عن شيء لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً))

هذا الحديث فيه جزاء الذي يأتي العرّاف فيسأل العرّاف، وقلنا: إن العراف يشمل اسم الكاهن ونحو ذلك.

فمن أتى عرافاً فسأله بمجرد سؤال، ولم يصدقه، فإنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً، والمقصود من قوله: ((لم تُقبل له صلاة أربعين يوماً)) أنها تقع مجزئةً، لا يجب عليه قضاؤها، ولكن لا ثواب له فيها؛ لأن الذنب والإثم الذي حصَّله حين أتى العراف فسأله عن شيء يُقابل ثواب الصلاة أربعين يوماً فأَسقط هذا هذا.


ويدل ذلك على عِظَمِ ذنب الذي يأتي العراف؛

فيسأل العراف عن شيء ولو لم يصدقه، وهذا عند أهل العلم في حق من أتى العراف فسأله عن شيء رغبةً في الاطلاع، أما من أتى العراف فسأله للإنكار عليه، وحتى يتحقق أنه عراف؛ فلا يدخل في ذلك؛ لأن الوسائل لها أحكام المقاصد.


الحال الثانية:

أن يأتي العرافَ أو الكاهنَ فيسأل عن شيء،

فإذا أخبره الكاهن أو العراف صدّقه بما يقول. فالحديث الأول الذي عن بعض أزواج النبي -صلى الله عليه وسلم- فيه أنه: (لم تقبل له صلاة أربعين يوماً ).


والحديث الثاني:

فيه أنه: (كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ) .

فيتضح بالحديثين أنَّ الحال الثانية وهي من أتى العراف، أو الكاهن فسأله عن شيء فصدقه:

أنه كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم.

- وأنه لا تقبل له صلاة أربعين يوماً.

وهذا الحال يدل على أنَّ الذي أتى الكاهن أو العراف؛ فصدقه، أنه لم يَخرج من الملة؛ لأنه حدَّ -عليه الصلاة والسلام- عدم قبول صلاته بأربعين يوماً.

من أتى الكاهن إذ حُكم عليه بأنه كافر كفراً أكبر ومرتد وخارج من الملة؛ فإن صلاته لا تقبل بتاتاً حتى يرجع إلى الإسلام.

قال طائفة من أهل العلم: دلَّ قوله: ((فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) على أنَّ قوله ((كفر بما أنزل على محمد))أنه كفرٌ أصغر، وليس بالكفر المخرج من الملة، وهذا القول صحيح، وهو الذي يتعين جمعاً بين النصوص، فإن قول النبي عليه الصلاة والسلام: ((من أتى عرافاً فسأله عن شيء فصدقه لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) يدل على أنه لم يخرج من الإسلام.

والحديث الآخر وهو قوله: ((من أتى كاهناً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أُنزل على محمد))يدل على كفره، فعلمنا بذلك أن كفره كفرٌ أصغر، وليس كفراً مخرجاً من الملة.


هذا أحد الأقوال:

في مسألة كفر من أتى الكاهن فصدقه بما يقول.


والقول الثاني:

أنه يُتوَقَّف فيه، فلا يقال : يكفركفراً أكبر، ولا يقال: أصغر، وإنما يقال: هو كفر، إتيان الكاهن وتصديقه كفر بالله جل وعلا، ويُسكت عن ذلك ويُطلق القول، كما جاء في الأحاديث، وهذا لأجل التهديد والتخويف حتى لا يتجاسر الناس على هذا الأمر، وهذا هو مذهب الإمام أحمد في المنصوص عنه.


والقول الثالث

من أقوال أهل العلم في ذلك: أنَّ الذي يُصدِّق الكاهن كافر كفراً أكبر، كفره مخرج من الملة إذا أتى الكاهن فسأله فصدقه، أو صدَّق الكهَّان بما يقولون، قال طائفة من أهل العلم: كفره كفرٌ مخرج من الملة، وهذا القول فيه نظر من جهتين:


الجهة الأولى:

ما ذكرنا من الدليل من أنَّ قوله عليه الصلاة والسلام:

((لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)) يدلّ على أنه لم يكفر الكفر الأكبر، ولو كان كفر الكفر الأكبر لم يحدَّ عدم قبول صلاته بتلك المدة من الأيام.


والثاني:

أن تصديق الكاهن فيه شبهة،

وادعاء علم الغيب أو تصديق أحد ممن يدّعي علم الغيب كفرٌ بالله -جل وعلا- كفر أكبر، لكن هذا الكاهن الذي ادعى علم الغيب كما نعلم أنه يخبر بالأمور المغيبة فيما صدق فيه عن طريق استراق الجن للسمع، فيكون إذاً هو نقل ذلك الخبر عن الجنّي، والجنّ نقلوه عما سمعوه في السماء.

وهذه شبهة قد يأتي الآتي الذي يأتي للكاهن ويقول: (أنا أصدقه فيما أخبر من الغيب؛ لأنه قد جاءه علم ذلك الغيب من السماء عن طريق الجن).

وهذه الشبهة تمنع من التكفير،

تكفير من صدّق الكاهن الكفر الأكبر.

فصار عندنا إذاً: أنَّ القول الأظهر أنَّ كفره كفر أصغر، وليس بأكبر؛ لدلالة الأحاديث، ولظهور التعليل في ذلك.

قال: ((فقد كفر بما أُنزل على محمد صلى الله عليه وسلم)) وهو القرآن؛ لأنه قد جاء في القرآن وما بينه النبي -عليه الصلاة والسلام- من السُّنة، أنَّ الكاهن والساحر والعراف لا يفلحون، وأنهم إنما يكذبون ولا يَصدقون.

قال: (ولأبي يعلىبسند جيد عن ابن مسعود مثله موقوفاً، وعن عمران بن حصين مرفوعاً: ((ليسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ)) يأتي في باب ما جاء في التطير، ((أو تَكَهَّنَ أَوْ تُكُهِّنَ لَهُ))((لَيْسَ مِنَّا)) يدل على أنَّ الفعل محرَّم.

وبعض أهل العلم يقول: (إن قوله عليه الصلاة والسلام ((لَيْسَ مِنَّا)) يدل على أنه من الكبائر).

فقال: ((لَيْسَ مِنَّا مَنْ تَطَيَّرَ أَوْ تُطُيِّرَ لَهُ)) وَالطِّيرَة من الكبائر.

((أَوْ تَكَهَّنَ))

يعني: ادعى علم الغيب وادعى أنه كاهن، أو أخبر بأمور من المغيبة يخدع من رآه بأنه كاهن.

قال: ((أو تُكُهِّنَ لَهُ)) يعني: من رَضِيَ بأن يُتَكَهَّنُ لَهُ فأتى فسأل عن شيء.

((أو سَحَرَ أَوْ سُحِرَ لَهُ، ومن أتى كاهناً فصدَّقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم))

وهذا كله لأجل أن تصديق الكاهن فيه إعانة له على الشرك الأكبر بالله جل وعلا، هذا حكم الذي يأتي الكاهن.

أما الكاهن فذكرنا حكمه، وهو: أنه مشرك الشرك الأكبر بالله؛

لأنه لا يمكن له أن يُخبَر بالأمور المغيبة إلا بأن يشرك.


(قال البغويالعراف الذي يدّعي معرفة الأمور بمقدماتٍ يستدل بها على المسروق ومكان الضالة ونحو ذلك)

هذا الذي ذكرنا من أن العراف عند بعض أهل العلم: من يخبر بأمور سبقت لكنها خفية غيبية عن الناس، لكنها من حيث الوجود وقعت في ملكوت الله.

قال: (وقيل: هو الكاهن) يعني: أن العراف والكاهن اسمان لشيء واحد.

قال: (والكاهن هو الذي يُخبِر عن المغيبات في المستقبل.

وقيل: الذي يخبر عما في الضمير.

وقال أبو العباس ابن تيمية(العراف اسم للكاهن والمنجم والرمال ونحوهم).

المنجم: هوالذي يستخدم علم التأثير، يقول: (ظهر نجم كذا والتقى بنجم كذا) فمعناه أنه سيحدث كذا وكذا، أو إذا وُلِد فلان أو إذا ولد لفلان ولد في برج كذا؛ فإنه سيحصل كذا وكذا له من الغنى، والفقر، أو السعادة، أو الشقاوة، ونحو ذلك.

فيستدلون بحركة النجوم على حال الأرض وحال الناس فيها، وسيأتي تفصيله إن شاء الله.

قال: (والرّمال) الرّمال: هو صاحب الطرق، أو الذي يخط في الرمل أو يستخدم الحصى على الرمل، يقال له رمّال (ونحوهم) يعني:

- من مثل الذين يقرءون الكف ويقرءون الفنجان.

- أو في هذا العصر الذين يكتبون في الصحف والجرائد والمجلات البروج وما يحصل في ذلك البرج، وأنت إذا ولدت في هذا البرج معناه سيحصل لك في هذا الشهر كذا وكذا.

هذه كلها من أنواع الكهانة كما سيأتي.

قال: (وقال ابن عباس في قوم يكتبون أباجاد وينظرون في النجوم: ما أرى من فعل ذلك له عند الله من خلاق) ذلك لأن كتابة أباجاد والنظر في النجوم، يعني: للتأثير نوع من أنواع الكهانة، والكهانة محرمة وكفر بالله جل وعلا.

بقي أن نقول: إن أصناف الكهانة كثيرة جدّاً، وجامعها الذي يجمعها أنه يستخدم الكاهن وسيلةً ظاهريةً عنده ليقنع السائل بأنه وصل إليه العلم عن طريق أمورٍ ظاهرية علمية:

تارة يقول: عن طريق النجوم.

وتارة يقول: عن طريق الخط.

- أو عن طريق الطرق.

أو عن طريق الودع.

- أو عن طريق الفنجان.

أو عن طريق الكف.

- أو عن طريق النظر في الأرض في حصىً يجعله.

- أو عن طريق الخشب، ونحو ذلك.

هذه كلها وسائل يَغَرُّ بها الكاهن من يأتيه،

في الحقيقة هي وسائل لا تحصِّل العلم ذاك، ولكنَّ العلم جاءه عن طريق الجنّ، وهذه الوسيلة إنما هي وسيلة للضحك على الناس، وسيلة لكي يظن الظان أنها تؤدي إلى العلم، وأن هؤلاء أصحاب علم وفنّ بهذه الأمور، وفي الواقع هو لا يتحصل على العلم الغيبي عن طريق خطٍّ، أو عن طريق فنجانٍ، أو عن طريق النظر في البروج، أو نحو ذلك، وإنما يأتيه العلم عن طريق الجنّ.


وهو يُظهر هذه الأشياء حتى يحصل على المقصود،

حتى يصدقه الناس أنه لا يستخدم الجن ولكنه ولي من الأولياء، كيف يستنتج المغيبات من هذه الأمور الظاهرية؟


في بعض البلاد كغرب إفريقيا وبعض شمالها؛

ونحو ذلك -وهذا منتشر أيضاً في الشرق، وفي كثير من البلاد- يجعلون من يتعاطى هذه الأشياء ولياً من الأولياء، ويقولون: الملائكة تخبره بكذا، فهو لا يفعل الفعل إلا بإرشادٍ من الملائكة.

فالذين يفعلون هذه الأفعال من الأمور السحرية،

أو الكهانية، عندهم أنهم أولياء، ولهذا ترى بعض الشراح يذكر في مقدمة هذه الأبواب أنَّ أولياء الله -جل وعلا- لا يتعاطون الشرك، ولا يتعاطون مثل هذه الأمور، فأولياء الله مقيدون بالشرع وليسوا من أولياء الجنّ.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

27 Oct 2008

العناصر


مناسبة باب (ما جاء في الكهان ونحوهم) لكتاب التوحيد


مناسبة باب (ما جاء في الكهان ونحوهم) لما قبله

شرح قول المصنف: (باب ما جاء في الكهان..)

- تعريف الكهانة، والكاهن

- كيف كانت الكهانة في جزيرة العرب

- الكهانة لا تكون إلا باستخدام الجن

- أحوال استراق الجن للسمع

- سبب قلة الكهانة بعد بعثة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم

- بيان أن علوم الكهانة من أعمال الجاهلية، وأن من يتعاطاها فهو من أولياء الشيطان

شرح حديث (من أتى عرَّافاً...) الحديث

- استدراك على المصنف في عزو المؤلف لفظة (فصدَّقه) إلى مسلم

- بيان معنى العرَّاف

- المراد ببعض أزواج النبي في قوله (عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم)

- بيان أقسام سؤال العرافين

- الفرق بين العراف والكاهن

- أحوال وأحكام من أتى العراف

- أقوال العلماء في من صدق العراف

- المراد بقوله: (لم تقبل له صلاة أربعين يوماً) هل هو الإجزاء أو الثواب؟

- هل الوعيد في قوله: (لم تقبل له صلاة..) الحديث، مترتب على الإتيان فقط، أو مع التصديق

- يجب أن نؤمن بما علمنا وما خفي علينا من حكمة الله تعالى

- ما يستفاد من حديث (من أتى عرافاً..) الحديث

شرح حديث أبي هريرة (من أتى كاهنا فصدقه...)

- تخريج حديث (من أتى كاهناً فصدقه..)، والحكم عليه

- ذكر لفظ مسلم لحديث (من أتى كاهناً..)

- معنى قوله: (من أتى كاهناً فصدقه بما يقول)

- وجه كون الكهانة ونحوها كفراً

- المراد بالكفر في قوله: (فقد كفر بما أنزل على محمد)

- بيان المراد بما أنزل على محمد

الإخبار عما يُدرك بالحساب كالكسوف، وعما يدرك بالحس كالطقس ليس من الكهانة


كلام للقرطبي في وجوب تعزير الكهنة ونحوهم، ومن يأتيهم


الجمع بين اختلاف الوعيد بقوله: (لم تقبل له صلاة أربعين يوماً)، وقوله: (فقد كفر بما أنزل على محمد)


شرح حديث (من أتى عرافاً أو كاهناً...)

- تخريج حديث (من أتى عرافا أوكاهنا..)

- بيان المراد بالأربعة في قوله: (رواه الأربعة)

- بيان المراد بقوله (صحيح على شرطهما)، وهل هذا إطلاق صحيح

- ترجمة أبي يعلى

- ذكر لفظ أثر ابن مسعود عند أبي يعلى، وما يستفاد منه

- كثرة الأدلة تقوي المدلول

- بيان معنى (أو) في قوله: (من أتى كاهناً أو عرافاً)

شرح حديث عمران بن حصين رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (ليس منا من تطير...)

- معنى قوله: (ليس منا من تطير أو تطير له، أو تكهن أو تُكهن له..) إلخ

- ترجمة البزار

التعليق على كلام البغوي وابن تيمية رحمهما الله

- ترجمة البغوي

- ذكر الخلاف في الفرق بين الكاهن والعراف

- بيان حكم الكاهن والعراف في الدنيا

- الفرق بين العراف والكاهن والمنجم

مسألة خدمة الجن للإنس

- بيان أحوال استخدام الجن

- الجمع بين كون علم الخط من الكهانة، وقول النبي (كان نبي من الأنبياء يخطُّ..) الحديث

شرح أثر ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما

- تخريج أثر ابن عباس (ما أرى من فعل ذلك..)، والحكم عليه

- معنى قوله: (ما أرى)

- المراد بقوله: (وينظرون في النجوم)

- بيان أقسام النظر في النجوم

- السبب في كون النظر في النجوم حراماً

- بيان أن الظاهر من كلام ابن عباس أنه يرى كفر من نظر في النجوم

- التفصيل في حكم تعلم (أبي جاد)

- ما يستفاد من أثر ابن عباس

شرح مسائل باب (ما جاء في الكهان ونحوهم)