الدروس
course cover
باب بيان شيء من أنواع السحر
26 Oct 2008
26 Oct 2008

4542

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم السادس

باب بيان شيء من أنواع السحر
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

4542

0

0


0

0

0

0

0

باب بيان شيء من أنواع السحر

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ أَنْوَاعِ السِّحْرِ

قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرَ، حَدَّثَنَا عَوْفٌ، حَدَّثَنَا حَيَّانُ بْنُ الْعَلاَءِ، حَدَّثَنَا قَطَنُ بْنُ قَبِيصَةَ، عَنْ أَبِيهِ، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنَّ الْعِيَافَةَ، وَالطَّرْقَ، وَالطِّيَرَةَ؛ مِنَ الْجِبْتِ)).
قَالَ
عَوْفٌ: (الْعِيَافَةُ: زَجْرُ الطَّيْرِ، وَالطَّرْقُ: الْخَطُّ يُخَطُّ بِالأَرْضِ)


وَالْجِبْتُ:

قَالَ الْحَسَنُ: (رَنَّةُ الشَّيْطَانِ).
إِسْنَادُهُ جَيِّدٌ،
وَلأَِبِي دَاوُدَ وَالنَّسَائِيِّ وَابْنِ حِبَّانَ فِي (صَحِيحِهِ) الْمُسْنَدُ مِنْهُ.
وَعَنِ
ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ)) رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ وَإِسْنَادُهُ صَحِيحٌ.


وَلِلنَّسَائِيِّ

مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)).
وَعَنِ
ابْنِ مَسْعُودٍ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((أَلاَ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ: الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ)) رَوَاهُ مُسْلِمٌ.
وَلَهُمَا عَنِ
ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)).


فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى:

أَنَّ الْعِيَافَةَ، وَالطَّرْقَ، وَالطِّيَرَةَ مِنَ الْجِبْتِ.


الثَّانِيَةُ:

تَفْسِيرُ الْعِيَافَةِ، وَالطَّرْقِ، وَالطِّيَرَةِ.


الثَّالِثَةُ:

أَنَّ عِلْمَ النُّجُومِ نَوْعٌ مِنَ السِّحْرِ.


الرَّابِعَةُ:

أَنَّ الْعَقْدَ مَعَ النَّفْثِ مِنْ ذَلِكَ.


الْخَامِسَةُ:

أَنَّ النَّمِيمَةَ مِنْ ذَلِكَ.


السَّادِسَةُ:

أَنَّ مِنْ ذَلِكَ بَعْضَ الْفَصَاحَةِ.

هيئة الإشراف

#2

27 Oct 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)

لَمَّا ذَكَرَ المُصَنِّفُ ما جاءَ في السِّحْرِ أَرَادَ -هنا- أنْ يُبَيِّنَ شيئًا مِن أنواعِهِ؛ لكَثْرةِ وُقوعِها، وخَفائِها على النَّاسِ، حتَّى اعْتَقَدَ كثيرٌ من النَّاسِ أَنَّ مَن صَدَرَتْ عنه هذهِ الأُمُورُ فهوَ مِن الأَوْلِياءِ، وعَدُّوهَا من كَرَاماتِ الأولياءِ، وآلَ الأَمْرُ إلى أن عُبِدَ أصحابُها، ورُجِيَ منهم النَّفْعُ والضَّرُّ، والحِفظُ والكَلاءةُ والنَّصْرُ أحياءً وأمواتًا، بل اعْتَقَدَ كثيرٌ في أُناسٍ مِن هؤلاءِ أنَّ لَهُم التَّصَرُّفَ التَّامَّ المُطْلَقَ في المُلْكِ، ولا بدَّ من ذِكْرِ فُرْقانٍ يُفَرِّقُ بهِ المؤمنُ بينَ وَلِيِ اللهِ وبينَ عَدُوِّ اللهِ، مِن ساحرٍ وكاهِنٍ وعائِفٍ وزاجِرٍ ومُتَطَيِّرٍ ونحوِهم، مِمَّن قد يَجْرِي على يَدِهِ شيءٌ من الخَوَارِقِ.
فاعْلَمْ أنهُ لَيْسَ كلُّ مَن جَرَى على يَدِهِ شيءٌ مِن خَوَارِقِ العادةِ يَجِبُ أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا للهِ تَعالى؛
لأَنَّ العادةَ تَنْخَرِقُ بفِعْلِ السَّاحرِ والمُشَعْوِذِ، وخَبَرِ المُنَجِّمِ والكاهِنِ بشيءٍ من الغَيْبِ مِمَّا يُخْبِرُهُ به الشَّياطِينُ المُسْتَرِقُونَ لِلسَّمْعِ، وفِعْلِ الشياطينِ بأُناسٍ مِمَّن يَنْتَسِبُونَ إلى دِينٍ وصلاحٍ ورِياضةٍ مُخالِفةٍ للشَّرِيعةِ، كأُناسٍ مِن الصُّوفِيَّةِ وكرُهْبانِ النَّصارَى ونحوِهم، فيَطِيرُونَ بِهم في الهواءِ، ويَمْشُونَ بِهم على الماءِ، ويَأْتُونَ بالطَّعامِ والشَّرابِ والدَّراهِم.


وقد يَكونُ ذلك بعَزَائِمَ ورُقًى شَيْطانيَّةٍ وبِحِيَلٍ وأَدْوِيةٍ،

كالذين يَدْخُلُونَ النَّارَ بحَجَرِ الطَّلْقِ ودُهْنِ النَّارِنْجِ، وقد يَكونُ برُؤْيا صادِقةٍ فيها وما يُسْتَدَلُّ بِهِ على وُقوعِ ما لم يَقَعْ، وهذهِ مُشْتَرَكةٌ بينَ وَلِيِّ اللهِ وعَدُوِّهِ، وقد يَكونُ ذلكَ بنَوْعِ طِيَرَةٍ يَجِدُها الإنسانُ في نفسِهِ فتُوَافِقُ القَدَرَ وتَقَعُ كمَا أَخْبَرَ، وقد يَكونُ بعِلْمِ الرَّمْلِ والضَّرْبِ بالحَصَى، وقد يَكونُ ذلكَ اسْتِدْراجًا، والأَحْوالُ الشيطانيَّةُ كَثِيرةٌ.


وقد فَرَّقَ اللهُ بينَ أوليائهِ وأعدائهِ في كتابِهِ،

فاعْتَصِمْ بِهِ وحدَه، لا إلهَ إلاَّ هُوَ، فإنهُ لا يَضِلُّ مَن اعْتَصَمَ بِهِ ولا يَشْقَى.
قالَ اللهُ تَعالى:
{أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}[يُونُس:62،63] فذَكَرَ تَعالى أَنَّ أولياءَهُ الذينَ لا خَوْفٌ عليهم، ولا هم يَحْزَنُونَ هم المُؤْمِنونَ المُتَّقُونَ، ولم يَشْتَرِطْ أنْ يَجْرِيَ على أَيْدِيهمْ شيءٌ مِن خَوَارِقِ العادةِ.
فدَلَّ أَنَّ الشَّخْصَ قدْ يَكُونُ وَلِيًّا للهِ وإنْ لم يَجْرِ على يَدَيْهِ شيءٌ من الخَوَارقِ إذا كانَ مُؤْمِنًا مُتَّقِيًا.
وقالَ تعالى:
{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}[آل عِمْرَان:31] فأولياءُ اللهِ المَحْبُوبُونَ عندَ اللهِ همُ المُتَّبِعونَ للرَّسولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطِنًا وظاهِرًا، ومَن كانَ بخِلافِ هذا فليسَ بمُؤْمِنٍ، فَضْلاً عنْ أنْ يَكونَ وَلِيًّا للهِ تَعالى.
وإنَّما أَحَبَّهُم اللهُ تَعالى؛ لأنَّهم وَالَوْهُ، فأَحَبُّوا ما يُحِبُّ، وأَبْغَضُوا ما يُبْغِضُ، ورَضُوا بما يَرْضَى، وسَخِطُوا ما يَسْخَطُ، وأَمَرُوا بمَا يَأْمُرُ، ونَهَوا عما يَنْهَى، وأَعْطَوا مَن يُحِبُّ أنْ يُعْطَى، ومَنَعُوا مَن يُحِبُّ أن يُمْنَعَ.


وأَصْلُ الوَلايةِ المَحَبَّةُ والقُرْبُ، وأصلُ العَداوَةِ البُغْضُ والبُعْدُ.

وبالجُملةِ، فأولياءُ اللهِ هم أحبابُهُ المُقَرَّبونَ إليهِ بالفَرائِضِ والنَّوَافلِ وتَرْكِ المَحارِمِ، المُوَحِّدونَ لهُ،

الذينَ لا يُشْرِكونَ باللهِ شيئًا، وإنْ لم تَجْرِ على أيدِيهم خَوَارقُ، فإن كانت الخوارقُ دَليلاً على وَلايةِ اللهِ فَلْتَكُنْ دَليلاً على وَلايةِ السَّاحرِ والكاهنِ والمُنَجِّمِ والمُتَفَرِّسِ، ورُهْبانِ اليهودِ والنَّصارَى، وعُبَّادِ الأَصْنامِ، فإنَّهم يَجْرِي لهم مِن الخَوَارقِ أُلوفٌ، ولكنْ هي مِن قِبَلِ الشياطِينِ، فإنَّهم يَتَنَزَّلُونَ عليهم لِمُجانَسَتِهِم لهم في الأفعالِ والأقوالِ، كما قالَ تعالى: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَن تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ}[الشعراء:221،222].
- وقالَ تعالى:
{وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَـنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ}[الزُّخْرُف:36]، وقد طارَت الشياطينُ ببعضِ مَن يَنْتَسِبُ إلى الوَلايةِ، فقالَ: لا إلهَ إلاَّ اللهُ، فَسَقَطَ.
وتَجِدُ عُمْدَةَ كثيرٍ من النَّاسِ في اعْتِقادِهم الوَلايةَ في شخصٍ أنَّه قد صَدَرَ عنهُ مُكاشَفةٌ في بَعضِ الأمورِ، أو بعضِ الخَوَارقِ لِلعادةِ، مثلُ أن يُشِيرَ إلى شَخْصٍ فيَمُوتُ، أو يَطِيرَ في الهواءِ إلى مَكَّةَ أو غيرِها أحيانًا، أو يَمْشِيَ على الماءِ، أو يَمْلأَ إِبْرِيقًا من الهواءِ، أو يُخْبِرَ في بعضِ الأوقاتِ بشيءٍ مِن الغَيْبِ، أو يَخْتَفِيَ أحيانًا عن أَعْيُنِ النَّاسِ، أو يُخْبِرَ بعضَ النَّاسِ بما سُرِقَ لَهُ، أو بِحالِ غائِبٍ أو مَرِيضٍ، أَوْ أَنَّ بعضَ النَّاسِ اسْتَغاثَ بهِ وهو غائبٌ أو مَيِّتٌ، فَرَآهُ قد جاءَ فقَضَى حاجَتَه أو نحوَ ذلك.


وليسَ في شيءٍ من هذهِ الأمورِ ما يَدُلُّ على أنَّ صاحِبَها مُسْلِمٌ،

فَضْلاً عن أَنْ يَكُونَ وَلِيًّا للهِ، بل قد اتَّفَقَ أولياءُ اللهِ على أنَّ الرَّجلَ لو طارَ في الهواءِ ومَشَى على الماءِ لم يُغْتَرَّ بهِ حتَّى يُنْظَرَ مُتابعَتُهُ لرسولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ومُوَافَقَتُهُ لأَمْرِه ونَهْيِه.


ومثلُ هذهِ الأمورِ قد يَكونُ صاحِبُها وَلِيًّا للهِ،

وقد يَكونُ عَدُوًّا لَهُ، فإنَّها قد تَكونُ لكَثِيرٍ مِن الكُفَّارِ والمُشْرِكِينَ واليَهودِ والنَّصارَى والمُنافِقِينَ وأهلِ البِدَعِ، وتَكونُ لهؤلاءِ مِن قِبَلِ الشياطينِ أو تَكونُ اسْتِدْراجًا، فلا يَجوزُ أَنْ يُظَنَّ أنَّ كلَّ مَنْ كانَ لهُ شيءٌ من هذهِ الأمورِ فهُوَ وَلِيٌّ للهِ، بل يُعْرَفُ أولياءُ اللهِ بصِفاتِهم وأحوالِهم وأفعالِهم التي دَلَّ عليها الكتابُ والسُّنَّةُ.
وأَكْثَرُ هذهِ الأمورِ قد تُوْجَدُ في أشخاصٍ يَكونُ أَحَدُهُم لا يَتَوَضَّأُ ولا يُصَلِّي المَكْتُوبةَ ولا يَتَنَظَّفُ ولا يَتَطَهَّرُ الطَّهارةَ الشَّرعيَّةَ، بل يَكونُ مُلابِسًا للنَّجاساتِ، مُعاشِرًا لِلكِلابِ، يَأْوِي إلى المَزابِلِ، رائِحَتُهُ خَبِيثةٌ، رَكَّابًا لِلفَوَاحِشِ، يَمْشِي في الأَسْواقِ كاشِفًا لِعَوْرتِهِ، غامِزًا لِلشَّرْعِ، مُسْتَهْزِئًا بهِ وبِحَمَلتِهِ، يَأْكُلُ العَقارِبَ والخَبائِثَ التي تُحِبُّها الشياطينُ، كافِرًا باللهِ، ساجِدًا لغيرِ اللهِ من القُبورِ وغيرِها، يَكْرَهُ سَماعَ القُرْآنِ ويَنْفِرُ منهُ، ويُؤْثِرُ سَماعَ الأَغانِي والأَشْعارِ ومَزامِيرِ الشيطانِ على كَلامِ الرحمنِ.
فلو جَرَى على يَدَي شَخْصٍ من الخَوَارقِ ماذا عَساهُ أنْ يَجْرِيَ فلا يَكونُ وَلِيًّا للهِ، مَحْبوبًا عندَهُ حتَّى يَكونَ مُتَّبِعًا لِرسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ باطِنًا وظاهِرًا.


فإن قُلْتَ:

فعَلَى هذا ما الفَرْقُ بينَ الكَرامةِ وبينَ الاسْتِدْراجِ

والأحوالِ الشيطانيَّةِ؟

قِيلَ:

إنْ عَلِمْتَ ما ذَكَرْنَا عَرَفْتَ الفَرْقَ؛

لأنَّهُ إذا كانَ الشَّخْصُ مُخالِفًا للشَّرْعِ، فما يَجْرِي لهُ منْ هذهِ الأمورِ ليسَ بِكَرامةٍ، بل هي إمَّا استدراجٌ، وإمَّا مِن عَمَلِ الشياطينِ، ويَكونُ سببُها هو ارْتِكابَ ما نَهَى اللهُ عنهُ ورسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.


فإنَّ المَعاصِيَ لاتَكونُ سَبَبًا لِكَرامةِ اللهِ،

ولا يُسْتَعانُ بالكراماتِ عليها، فإذا كانت لا تَحْصُلُ بالصَّلاةِ والذِّكْرِ وقِراءةِ القرآنِ والدُّعاءِ، بل تَحْصُلُ بما تُحِبُّهُ الشياطينُ كالاستغاثةِ بغيرِ اللهِ، أو كانتْ ممَّا يُسْتَعانُ بها على ظُلْمِ الخَلْقِ وفِعْلِ الفَوَاحشِ، فهيَ مِن الأحوالِ الشيطانيَّةِ، لا من الكَرَاماتِ الرَّحمانيَّةِ.
وكُلَّما كانَ الإنسانُ أَبْعَدَ عن الكتابِ والسُّنَّةِ كانت الخوارقُ الشيطانيَّةُ له أَقْوَى وأَكْثَرَ من غيرِهِ، فإنَّ الجِنَّ الذين يَقْتَرِنُونَ بالإِنْسِ من جِنْسِهم.
فإنْ كانَ كافرًا ووَافَقَهم على ما يَخْتارُونَهُ من الكُفْرِ والفُسُوقِ والضَّلالِ والإِقْسامِ عليهم بأسماءِ مَن يُعَظِّمُونَهُ، ولِلسُّجودِ لهم وكتابةِ أسماءِ اللهِ أو بعضِ كلامِهِ بالنَّجاسةِ فَعَلُوا مَعَه كَثِيرًا ممَّا يَشْتَهِيهِ بسببِ ما بَرْطَلَهم بهِ من الكُفْرِ، وقد يَأْتُونهُ بما يَهْوَاهُ من امرأةٍ وصَبِيٍّ، بخِلافِ الكَرامةِ، فإنَّها لا تَحْصُلُ إلاَّ بعِبادةِ اللهِ والتَّقَرُّبِ إليه ودُعائِهِ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، والتَّمَسُّكِ بكِتابهِ، واجْتِنابِ المُحَرَّماتِ، فما يَجْرِي مِنْ هذا الضَّرْبِ فهو كَرامةٌ، وقد اتَّفَقَ على هذا الفَرْقِ جَمِيعُ العُلماءِ.
وبالجُمْلةِ فإن عَرَفْتَ الأسبابَ التي بها تُنالُ وَلايةُ اللهِ عَرَفْتَ أهلَهَا وعَرَفْتَ أنَّهم أهلُ الكَرامةِ، وإن كُنْتَ مِمَّن يَسْمَعُ بالأولياءِ وهو لا يَعْرِفُ الوَلايةَ ولا أسبابَها ولا أهلَها بل يَمِيلُ معَ كلِّ ناعِقٍ وساحِرٍ فما تُغْنِي الآياتُ والنُّذُرُ عن قومٍ لا يُؤْمِنونَ، و
لِشَيْخِ الإسلامِ كتابُ (الفُرْقانِ بينَ أولياءِ الرحمنِ وأولياءِ الشيطانِ) فرَاجِعْه فإنَّه أَتَى فيهِ بالحَقِّ المُبِينِ.


(2)

قولُهُ: (قالَ أحمدُ) هو: الإمامُ أَحْمَدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلٍ، ومحمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ، هو: المَشْهورُ بغُنْدَرٍ، الهُذَلِيُّ البَصْرِيُّ ثِقةٌ مَشْهورٌ، ثَبْتٌ في شُعْبَةَ، حتَّى فَضَّلَهُ عَلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ فيه عَلَى عبدِ الرَّحمنِ بنِ مَهْدِيٍّ، بل أَقَرَّ له ابنُ مَهْدِيٍّ بذلك، ماتَ سنةَ ثلاثٍ وتسعينَ ومائةٍ أو أربعٍ وتسعينَ ومائةٍ.
و(
عَوْفٌ) هو ابنُ أَبِي جَمِيلةَ -بفتحِ الجيمِ- العَبَدِيُّ البَصْرِيُّ المَعْروفُ بعَوْفٍ الأَعْرابيِّ، ثِقةٌ. ماتَ سنةَ ستٍّ أو سبعٍ وأربعينَ ومائةٍ، وله سِتٌّ وثَمانونَ سنةً.
و(
حَيَّانُ بنُ العَلاءِ) هو بالتحتيَّةِ ويُقالُ: حَيَّانُ بنُ مَخارِقٍ، أَبُو العَلاءِ البَصْرِيُّ مَقْبولٌ.
و(
قَطَنٌ) -بفتحتَيْنِ- أَبُو سَهْلٍ البَصْرِيُّ صَدُوقٌ.
قولُهُ: (عن
أَبِيهِ) هو قَبِيصَةُ - بفتحِ أوَّلهِ وكسرِ الموحَّدةِ -ابنُ المُخارِقِ - بضَمِّ الميمِ وتَخْفيفِ المعجمةِ- أَبُو عبدِ اللهِ الهِلالِيُّ، صَحابيٌّ نَزَلَ البَصْرَةَ.
قولُهُ:
((إنَّ العِيافةَ والطَّرْقَ والطِّيَرَةَ مِن الجِبْتِ)) قال عَوْفٌ: (العِيافةُ: زَجْرُ الطَّيْرِ).
هذا التَّفْسِيرُ ذَكَرَهُ غيرُ واحدٍ كما قالَ
عَوْفٌ: وهو كذلكَ.
قال
أَبُو السَّعاداتِ: (العِيافةُ: زَجْرُ الطَّيْرِ والتَّفاؤُلُ بأسمائِها وأصواتِها ومَمَرِّها، وهوَ من عادةِ العربِ كَثِيرًا، وهوَ كثيرٌ في أشعارِهِم، يُقالُ: عافَ يَعِيفُ عَيْفًا: إذا زَجَرَ وحَدَسَ وظَنَّ).
قولُهُ: (والطَّرْقُ: الخطُّ يُخَطُّ في الأَرْضِ) هكذا فَسَّرَهُ
عَوْفٌ، وهو تَفْسِيرٌ صحِيحٌ.
وقالَ
أَبُو السَّعاداتِ: (هو الضَّرْبُ بالحَصَى الذي يَفْعَلُه النِّساءُ).
قُلْتُ: وأَيًّا ما كانَ فهوَ مِن الجِبْتِ، وأمَّا الطِّيَرَةُ، فسَيَأْتِي الكَلامُ عليها في بابِها إنْ شَاءَ اللهُ تعالى.
قولُهُ:
((مِن الجِبْتِ)) أيْ: مِن أعمالِ السِّحْرِ.
قال
القاضِي: (والجِبْتُ في الأصلِ الجِبْسُ الذي لا خيرَ فيهِ، ثُمَّ اسْتُعِيرَ لِمَا يُعْبَدُ مِنْ دونِ اللهِ ولِلسَّاحِرِ والسِّحْرِ).
وقال
الطِّيبِيُّ: ((مِن)) فيه إمَّا ابتدائيَّةٌ أو تَبْعِيضيَّةٌ، فعلى الأَوَّلِ المعنى: الطِّيَرَةُ ناشِئةٌ من السَّاحرِ، وعلى الثاني المعنى: الطِّيَرَةُ من جُمْلةِ السِّحْرِ والكَهانةِ، أو من جُمْلةِ عِبادةِ غيرِ اللهِ، أي: الشِّرْكُ، يُؤَيِّدُهُ قولُهُ في الحديثِ الآتِي: ((الطِّيَرَةُ شِرْكٌ)) انْتَهَى.
وفي الحديثِ دَليلٌ على تَحْرِيمِ التَّنْجِيمِ؛ لأنَّهُ إذا كانَ الخَطُّ ونحوُهُ الذي هوَ مِن فروعِ النَّجامَةِ مِن الجِبْتِ فكيفَ بالنَّجامةِ؟!
قولُهُ: (قالَ
الحَسَنُ: رَنَّةُ الشَّيْطانِ)لم أَجِدْ فيه كَلامًا.
قولُهُ: (
ولأَِبِي داودَ والنَّسائِيِّ وابْنِ حِبَّانَ في (صَحِيحِهِ) المُسْنَدُ مِنهُ) يَعْنِي: أَنَّ هؤلاء رَوَوا الحديثَ واقْتَصَرُوا على المَرْفُوعِ منه، ولم يَذْكُرُوا التَّفْسِيرَ الذي فَسَّرَهُ بهِ عَوْفٌ، وقد رَوَاهُ أَبُو داودَ في التَّفسيرِ المَذْكُورِ بدونِ كلامِ الحَسَنِ.
والنَّسائِيُّ هو الإمامُ الحافِظُ أحمدُ بنُ شُعَيْبِ بنِ عَلِيِّ بنِ سِنانِ بنِ بَحْرِ بنِ دِينارٍ أَبُو عَبْدِ الرَّحْمنِ صاحِبُ (السُّنَنِ) وغيرِها مِن المُصَنَّفاتِ.
رَوَى عن
مُحَمَّدِ بنِ المُثَنَّى وابنِ بَشَّارٍ وقُتَيْبَةَ بنِ سَعِيدٍ وخَلْقٍ، وكان إليه المُنْتَهَى في الحِفْظِ والعِلْمِ لعِلَلِ الحديثِ، ماتَ سنةَ ثلاثٍ وثلاثِمِائةٍ، وله ثمانٌ وثمانونَ سنةً.


(3)

هذا الحديثُ رَوَاه أَبُو داودَ كما قالَ المُصَنِّفُ بإسنادٍ صحيحٍ، وكذا صَحَّحَهُ النَّوَوِيُّ والذَّهَبِيُّ، ورَوَاهُ أحمدُ وابنُ ماجه.

قولُهُ: ((مَن اقْتَبَسَ)) قال أَبُو السَّعاداتِ: (قَبَسْتُ العِلْمَ واقْتَبَسْتُهُ: إذا تَعَلَّمْتهُ) انْتَهَى.

وعلى هذا، فالمعنى: مَنْ تَعَلَّمَ.
قولُهُ:
((شُعْبَةً)) أي: طائِفةً وقِطْعةً مِن النُّجومِ، والشُّعْبةُ: الطَّائِفةُ من الشَّيءِ والقِطْعةُ مِنه، ومنه الحديثُ: ((الحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ)) أي: جُزْءٌ منهُ.
قولُهُ:
((فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ)) أي: المعْلُومِ تَحْرِيمُهُ، قال شيخُ الإسلامِ: (فقد صَرَّحَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنَّ عِلْمَ النُّجومِ من السِّحْرِ، وقد قالَ اللهُ تعالى: {وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}[طه:69].
وهكذا الواقِعُ؛ فإنَّ الاسْتِقْراءَ يَدُلُّ على أنَّ أَهْلَ النُّجومِ لا يُفْلِحُونَ في الدُّنْيا ولا في الآخِرةِ)
.
قولُهُ:
((زادَ ما زادَ)) يَعْنِي: كُلَّمَا زادَ مِن عِلْمِ النُّجومِ زادَ لَهُ من الإِثْمِ مثلُ إِثْمِ السَّاحرِ، أو زادَ اقْتِباسَ شُعَبِ السِّحْرِ ما زاد اقتباسَ عِلْمِ النُّجومِ.


قُلْتُ:

والقَوْلانِ مُتَلازِمانِ؛ لأنَّ زِيادةَ الإِثْمِ فَرْعٌ عن زِيادةِ السِّحْرِ؛ وذلكَ لأنَّهُ تَحَكُّمٌ على الغَيْبِ الذي اسْتَأْثَرَ اللهُ بِعِلْمِهِ.

(فعُلِمَ أنَّ تَأْثِيرَ النجومِ باطِلٌ مُحَرَّمٌ، وكذا العملُ بمُقْتَضَاهُ، كالتَّقَرُّبِ إليها بتَقْرِيبِ القَرابِينِ لها كُفْرٌ)

قالَهُ ابنُ رَجَبٍ.


(4)

هذا الحديثُ ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ من حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وعَزَاهُ للنَّسائِيِّ، ولم يُبَيِّنْ هلْ هوَ مَوْقُوفٌ أو مَرْفوعٌ؟
وقد رَواهُ
النَّسائيُّ مَرْفوعًا، وذَكَرَ المُصَنِّفُ عن الذَّهَبِيِّ أنهُ قالَ: لا يَصِحُّ، وحَسَّنهُ ابنُ مُفْلِحٍ.


قولُهُ: ((مَن عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا فَقَدْ سَحَرَ)) اعْلَمْ أنَّ السَّحَرةَ إذا أَرادُوا عَمَلَ السِّحْرِ، عَقَدُوا الخُيوطَ، ونَفَثُوا على كُلِّ عُقْدَةٍ حتَّى يَنْعَقِدَ ما يُرِيدُونَه من السِّحْرِ.
ولهذا أَمَرَ اللهُ بالاستعاذةِ من شَرِّهم في قولِهِ:
{وَمِن شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}[الفلق:4] يَعْنِي: السَّواحِرَ اللاَّتِي يَفْعَلْنَ ذلكَ، والنَّفْثُ: هو النَّفْخُ معَ رِيقٍ، وهو دونَ التَّفْلِ وهو مَرْتَبةٌ بينَهُما، والنَّفْثُ فعلُ السَّاحرِ.
فإذا تَكَيَّفَتْ نفسُهُ بالخَبَثِ والشَّرِّ الذي يُرِيدُهُ بالمَسْحُورِ، ويَسْتَعِينُ عليهِ بالأَرْواحِ الخَبِيثةِ، نَفَخَ في تلكَ العُقَدِ نَفْخًا مَعَهُ رِيقٌ، فيَخْرُجُ من نَفْسِهِ الخَبِيثةِ نَفَسٌ مُمازِجٌ لِلشَّرِّ والأَذَى، مُقْتَرِنٌ بالرِّيقِ المُمازِجِ لذلك.


(وقد تَساعَدَ هو والرُّوحُ الشيطانيَّةُ على أَذَى المَسْحُورِ، فيُصِيبُه السِّحْرُ بإذنِ اللهِ الكَوْنِيِّ القَدَرِيِّ، لا الإِذْنِ الشَّرْعِيِّ)

قالَهُ ابنُ القَيِّمِ.


قولُهُ: ((ومَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ)) نَصٌّ في أنَّ السَّاحِرَ مُشْرِكٌ؛ إذ لا يَتَأَتَّى السِّحْرُ بدونِ الشِّرْكِ كما حَكَاهُ الحافظُ عن بعضِهم.
قولُهُ:
((ومَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيهِ)) أيْ: مَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ شيئًا بحيثُ يَتَوَكَّلُ عليهِ ويَرْجُوه وَكَلَهُ اللهُ إلى ذلكَ الشَّيْءِ.
فإن تَعَلَّقَ العبدُ على رَبِّهِ وإلَهِهِ وسَيِّدِهِ ومَوْلاهُ، رَبِّ كلِّ شيءٍ ومَلِيكِهِ وَكَلَهُ إليه فَكَفَاهُ ووَقَاهُ وحَفِظَهُ وتَوَلاَّهُ، ونِعْمَ المَوْلَى ونِعْمَ النَّصِيرُ كما قالَ تعالى:
{أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}[الزُّمَر:36] ومَنْ تَعَلَّقَ على السِّحْرِ والشياطِينِ وَكَلَهُ اللهُ إليهم فأَهْلَكُوه في الدُّنيا والآخِرةِ.
وبالجُمْلةِ فمَنْ تَوَكَّلَ على غيرِ اللهِ كائِنًا مَن كانَ وُكِلَ إليه، وأَتَاهُ الشَّرُّ في الدُّنيا والآخِرةِ مِن جِهتِهِ مُقابَلةً لَهُ بنَقِيضِ قَصْدِه، وهذهِ سُنَّةُ اللهِ في عِبادِهِ التي لا تُبَدَّلُ، وعادتُهُ التي لا تُحَوَّلُ، أنَّ مَن اطْمَأَنَّ إلى غيرهِ أو وَثِقَ بِسِوَاهُ، أو رَكَنَ إلى مَخْلُوقٍ يُدَبِّرُه، أَجْرَى اللهُ تَعالى لَهُ بسببِهِ أو مِن جِهتِهِ خِلافَ ما عَلَّقَ بِهِ آمَالَهُ، وهذا أَمْرٌ مَعْلُومٌ بالنَّصِّ والعِيانِ، ومَن تَأَمَّلَ ذلكَ في أَحْوَالِ الخَلْقِ بعَيْنِ البَصِيرةِ النَّافِذةِ رَأَى ذَلِكَ عِيَانًا.
وفائدةُ هذهِ الجُمْلةِ بعدَ ما قبلَها الإِشارةُ إلى أنَّ السَّاحِرَ مُتَعَلِّقٌ على غيرِ اللهِ، فإنَّهُ مُتَعَلِّقٌ على الشَّياطِينِ.


(5)

قولُه: ((هل أُنَبِّئُكُمْ)) أي: أُخْبِرُكُمْ.
قولُهُ:
((ما العَضْهُ)) هوَ بفتحِ العينِ المهْملةِ وسكونِ المعجمةِ، قال أبو السَّعاداتِ: (هكذا يُرْوَى في كُتُبِ الحديثِ).
والذي جاءَ في كُتُبِ الغَرِيبِ:
((أَلا أُنَبِّئُكُمْ ما الْعِضَةُ)) بكَسْرِ العَيْنِ وفَتْحِ الضَّادِ، وفي حديثٍ آخَرَ ((إِيَّاكُمْ وَالعِضَةَ)) قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (أصلُها العِضْهَةُ فِعْلةٌ من العِضَهِ، وهوَ البَهْتُ، فحُذِفَتْ لامُهُ كما حُذِفَتْ من السَّنَةِ والشَّفَةِ وتُجْمَعُ على عِضِينَ).
ثم فَسَّرَهُ بقولِهِ:
((هيَ النَّمِيمةُ القالةُ بينَ النَّاسِ)) وعلى هذا فأَطْلَقَ عليها العَضْهَ؛ لأنَّها لا تَنْفَكُّ عن الكَذِبِ والبُهْتانِ غالِبًا، ذَكَرَهُ القُرْطُبِيُّ.
قُلْتُ: ظاهرُ إيرادِ المُصَنِّفِ لهذا الحديثِ هنا يَدُلُّ على أنَّ معنى العِضَهِ عندَهُ هنا هو السِّحْرُ، ويَدُلُّ على ذلكَ حديثُ: ((كَادَتِ النَّمِيمَةُ أَنْ تَكُونَ سِحْرًا))رَوَاهُ ابنُ لالٍ في (مَكَارِمِ الأَخْلاقِ) بإسنادٍ ضَعِيفٍ.
وذَكَرَ
ابنُ عبدِ البَرِّ عن يَحْيَى بنِ أَبِي كَثِيرٍ قالَ: ( يُفْسِدُ النَّمَّامُ والكَذَّابُ في ساعةٍ ما لا يُفْسِدُ السَّاحرُ في سَنَةٍ).
وقال
أبو الخطَّابِ في (عُيونِ المَسَائِلِ): (ومِن السِّحْرِ السَّعْيُ بالنَّمِيمةِ والإِفْسادِ بينَ النَّاسِ).
قالَ في
(الفُروعِ): (ووَجْهُهُ أنهُ يَقْصِدُ الأَذَى بِكَلامِهِ وعَمَلِهِ على وَجْهِ المَكْرِ والحِيلةِ، أَشْبَهَ السِّحْرَ، ولهذا يُعْلَمُ بالعُرْفِ والعادةِ أنَّه يُؤَثِّرُ ويُنْتِجُ ما يَعْمَلُهُ السَّاحِرُ أو أَكْثَرَ، فَيُعْطَى حُكْمَهُ تَسْوِيةً بينَ المُتَماثِلَيْنِ أو المُتَقَارِبَيْنِ، لكنه يُقالُ: السَّاحِرُ إنَّما كَفَرَ لوَصْفِ السِّحْرِ وهو أَمْرٌ خاصٌّ، ودَليلُهُ خاصٌّ، وهذا ليسَ بِساحِرٍ وإنَّما يُؤَثِّرُ عَمَلُهُ ما يُؤَثِّرُهُ فيُعْطَى حُكْمَهُ، إلاَّ فيمَا اخْتَصَّ بهِ مِن الكُفْرِ وعَدَمِ قَبولِ التَّوْبةِ، انْتَهَى مُلَخَّصًا، وبِهِ يَظْهَرُ مُطابَقةُ الحديثِ للتَّرْجمةِ).


والحديثُ دليلٌ على تَحْرِيمِ الغِيبَةِ والنَّمِيمةِ،

وهو كذلكَ بالإجماعِ، وقد قالَ أَبُو مُحَمَّدِ بنُ حَزْمٍ: اتَّفَقُوا على تَحْرِيمِ الغِيبَةِ والنَّمِيمةِ في غيرِ النَّصِيحةِ الواجِبةِ، وفيه دَليلٌ على أنَّها مِن الكبائرِ.
وقولُهُ:
((القَالةُ بَيْنَ النَّاسِ)) قال أَبُو السَّعاداتِ: (أي: كَثْرَةُ القَوْلِ وإِيقاعُ الخُصومةِ بينَ النَّاسِ بمَا يُحْكَى لِلبعضِ عن البعضِ) ومنه الحديثُ: ((فَفَشَتِ القَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ)).


(6)

البَيانُ: البَلاغةُ والفَصاحةُ،

قال صَعْصَعةُ بنُ صَوْحانَ: صَدَقَ نَبِيُّ اللهِ أَمَّا قَوْلُهُ: ((إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا)) فالرَّجُلُ يَكُونُ عَلَيْهِ الحقُّ، وهو أَلْحَنُ بالحُجَجِ مِن صاحِبِ الحقِّ، فَيَسْحَرُ القومَ بِبَيانِهِ، فيَذْهَبُ بالحَقِّ.
وقالَ
ابنُ عبدِ البَرِّ: (تَأَوَّلَتْهُ طائفةٌ على الذَّمِّ؛ لأنَّ السِّحْرَ مَذْمُومٌ).
وذَهَبَ أَكْثَرُ أهلِ العِلْمِ وجماعةُ أَهْلِ الأَدَبِ إلى أنَّهُ على المَدْحِ؛ لأنَّ اللهَ تَعالى مَدَحَ البَيانَ.
قالَ: (وقد قالَ
عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ لِرَجُلٍ سَأَلَهُ عن حاجةٍ فأَحْسَنَ المَسْأَلةَ، فأَعْجَبَهُ قولُهُ فقالَ: (هذا واللهِ السِّحْرُ الحَلالُ).
قُلْتُ: الأوَّلُ أَصَحُّ، وهوَ أنَّهُ خَرَجَ مَخْرَجَ الذَّمِّ لبعضِ البَيانِ لا كلِّهِ، وهوَ الذي فيهِ تَصْوِيبُ الباطلِ وتَحْسِينُهُ، حتَّى يَتَوَهَّمَ السَامِعُ أنَّهُ حقٌّ أوْ يَكُونَ فيهِ بلاغةٌ زائِدةٌ عن الحَدِّ، أو قُوَّةٌ في الخُصومةِ حتَّى يَسْحَرَ القَوْمَ بِبَيانِهِ، فيَذْهَبُ بالحقِّ ونحوِ ذلكَ، فسَمَّاهُ سِحْرًا؛ لأنَّهُ يَسْتَمِيلُ القلوبَ كالسِّحْرِ، ولِهذا قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا جَاءَهُ رَجُلانِ من المَشْرِقِ، فخَطَبَا فعَجِبَ النَّاسُ لِبَيانِهِمَا فَقَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا))كَمَا رَوَاهُ مالكٌ والبُخارِيُّ وغيرُهُما.
وأما جِنْسُ البَيانِ فمَحْمُودٌ، بِخِلافِ الشِّعْرِ فجِنْسُهُ مَذْمُومٌ إِلاَّ مَا كانَ حِكَمًا، ولَكِنْ لا يُحْمَدُ البَيانُ إلاَّ إذا لم يَخْرُجْ إلى حَدِّ الإِسْهابِ والإِطْنابِ، أو تَصْوِيرِ الباطلِ في صُورةِ الحقِّ، فإذا خَرَجَ إلى هذا الحدِّ فهوَ مذمومٌ.
وعلى هذا تَدُلُّ الأحاديثُ كَقولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((إِنَّ اللهَ يُبْغِضُ الْبَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ البَقَرَةُ بِلِسَانِهَا)). رَوَاهُ أحمدُ وأَبُو داودَ.

وقولُهُ: ((لَقَدْ رَأَيْتُ أَوْ لَقَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَتَجَوَّزَ فِي القَوْلِ فَإِنَّ الجَوازَ هُوَ خَيْرٌ)) رَوَاهُ أَبُو دَاودَ.

هيئة الإشراف

#3

27 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ((1)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ بَيَانِ شَيْءٍ مِنْ أَنْواعِ السِّحْرِ).

قُلْتُ: ذَكَرَ الشارِحُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى ها هنا شَيئًا من الخوارقِ، وكَراماتِ الأولياءِ، وذَكَرَ ما اغْتَرَّ بهِ كثيرٌ من الناسِ من الأحوالِ الشيطانيَّةِ، التي غَرَّتْ كثيرًا من العوامِّ والْجُهَّالِ، وظَنُّوا أنَّها تَدُلُّ علَى وِلايةِ مَنْ جَرَتْ علَى يَدِهِ مِمَّنْ هُوَ منْ أَولياءِ الشيطانِ لا مِنْ أولياءِ الرحمنِ، ثمَّ قالَ: ولشيخِ الإِسلامِ كتابُ (الفرقانُ بينَ أولياءِ الرحمنِ وأولياءِ الشيطانِ) فرَاجِعْهُ، انْتَهَى.


(2)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قَالَ أَحْمَدُ: حَدَّثَنا مُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ، حَدَّثَنا عَوْفٌ، عنْ حَيَّانَ بنِ العَلاءِ، حَدَّثَنا قَطَنُ بنُ قَبيصةَ، عَنْ أَبِيه، أَنَّهُ سَمِعَ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ الْعِيَافَةَ، وَالطَّرْقَ، وَالطِّيَرَةَ، مِنَ الْجِبْتِ)).
قالَ
عَوْفٌ: (الْعِيافَةُ: زَجْرُ الطَّيْرِ، وَالطَّرْقُ: الْخَطُّ يُخَطُّ بِالأَرْضِ، وَالجِبْتُ) قالَ الْحَسَنُ:(رَنَّةُ الشَّيْطانِ)إِسنادُهُ جَيِّدٌ، وَلأبي دَاوُدَ، والنَّسائِيِّ، وابْنِ حِبَّانَفِي (صَحيحِهِ): الْمُسْنَدُمِنْهُ).
قَوْلُهُ: (قَالَ
أَحْمَدُ) هوَ الإِمامُ أحمدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلٍ.

ومُحَمَّدُ بنُ جَعْفَرٍ هوَ الْمَشهورُ بغُنْدَرٍ، الْهُذَلِيُّ البَصريُّ، ثِقةٌ مَشهورٌ، ماتَ سنةَ سِتٍّ ومائتينِ.

وعَوْفٌ هوَ ابنُ أبي جَميلةَ -بفَتحِ الجيمِ- العَبْدِيُّ البَصريُّ، المعروفُ بعَوفٍ الأعرابيِّ، ثِقَةٌ ماتَ سنةَ سِتٍّ أوْ سَبْعٍ وأربعينَ، ولهُ سِتٌّ وثَمانونَ سَنَةً.
و
حَيَّانُ بنُ العَلاءِ هوَ بالتَّحْتِيَّةِ، ويُقالُ: حَيَّانُ بنُ مُخارِقٍ، أبو العَلاءِ البَصريُّ، مَقبولٌ.
و
قَطَنٌ - بفَتحتينِ - أبو سَهْلٍ البَصْرِيُّ صَدوقٌ.
قَوْلُهُ: (عنْ أبيه) هوَ
قَبيصةُ -بفتْحِ أوَّلِهِ- ابنُ مُخَارِقٍ -بضَمِّ الميمِ- أبو عبدِ اللهِ الْهِلاَلِيُّ. صَحابِيٌّ، نَزَلَ البَصرةَ.
قَوْلُهُ:
((إِنَّ العِيَافَةَ، وَالطَّرْقَ، وَالطِّيَرَةَ، مِنَ الْجِبْتِ)) قالَ عَوْفٌ: (العِيافةُ زَجْرُ الطَّيْرِ والتفاؤُلُ بأسمائِها وأصواتِها ومَمَرِّها؛ وهوَ منْ عَاداتِ العرَبِ، وكثيرٌ في أشعارِهم؛ يُقالُ: عافَ يَعِيفُ عَيْفًا، إذا زَجَرَ وَحَدَسَ وظَنَّ).


قَوْلُهُ:

((وَالطَّرْقُ الخَطُّ يُخَطُّ بِالأَرْضِ)) كذا فَسَّرَه عَوْفٌ، وهوَ كذلكَ.
وقالَ
أبو السَّعَاداتِ: (هوَ الضَّرْبُ بالْحَصَى الذي يَفعلُهُ النساءُ) وأمَّا الطِّيَرَةُ فيأتي الكلامُ عليها في بابِها إن شاءَ اللهُ تعالَى.
قَوْلُهُ:
((مِنَ الْجِبْتِ)) أي: السِّحْرِ، قالَ القاضي: (والْجِبْتُ في الأَصْلِ: الْفَشَلُ الذي لا خَيْرَ فيهِ، ثمَّ استُعِيرَ لِمَا يُعْبَدُ منْ دُونِ اللهِ، وللساحِرِ والسِّحْرِ).


قَوْلُهُ: (قالَ الحسَنُ: رَنَّةُ الشيطانِ) قُلتُ: ذَكَرَ إبراهيمُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ مُفْلِحٍ أنَّ في تفسيرِ بَقِيَّةَ بنِ مَخْلَدٍ: (أنَّ إِبليسَ رَنَّ أربَعَ رَنَّاتٍ: رَنَّةً حِينَ لُعِنَ، ورَنَّةً حِينَ أُهْبِطَ، ورَنَّةً حينَ وُلِدَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ورَنَّةً حينَ نَزَلَتْ فَاتِحَةُ الكِتابِ) قالَ سعيدُ بنُ جُبَيْرٍ: (لَمَّا لَعَنَ اللهُ إبليسَ تَغَيَّرَتْ صُورتُهُ عنْ صُورةِ الملائكةِ، ورَنَّ رَنَّةً، فكُلُّ رَنَّةٍ منها في الدنيا إلَى يَومِ القِيامةِ) رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ.


وعنْ سَعيدِ بنِ جُبَيْرٍ، عن ابنِ عَبَّاسٍ قالَ: (لَمَّا فَتَحَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَكَّةَ رَنَّ إبليسُ رَنَّةً اجْتَمَعَتْ عليهِ جُنودُهُ) رواه الحافظُ الضِّياءُ في (الْمُخْتَارَةِ).
الرَّنِينُ: الصوتُ، وقدْ رَنَّ يَرِنُّ رَنِينًا، وبهذا يَظْهَرُ معنَى قولِ الحسَنِ رَحِمَهُ اللهُ.
قَوْلُهُ: (
ولأبي دَاوُدَ وابنِ حِبَّانَ في (صَحيحِهِ): الْمُسْنَدُ منهُ) ولم يَذْكُر التفسيرَ الذي فَسَّرَه بهِ عَوْفٌ، وقدْ رواه أبو دَاوُدَ بالتفسيرِ المذكورِ بدونِ كَلامِ الْحَسَنِ.


(3)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ: قالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ)) رواهُ أَبو دَاوُدَ، وإسنادُهُ صَحيحٌ، وكذا صَحَّحَه النوويُّ، والذهبيُّ، ورواه أحمدُ، وابنُ مَاجَه).
قَوْلُهُ:
((مَنِ اقْتَبَسَ)) قالَ أبو السَّعَاداتِ: (قَبَسْتُ العِلْمَ واقْتَبَسْتُهُ إذا عَلِمْتَهُ) انتهَى.
قَوْلُهُ:
((شُعْبَةً)) أيْ: طائفةً منْ عِلْمِ النُّجومِ، والشُّعْبَةُ الطائفةُ، ومنهُ الحديثُ: ((الْحَيَاءُ شُعْبَةٌ مِنَ الإِيمَانِ)) أيْ: جُزْءٌ منهُ.
قَوْلُهُ:
((فَقَد اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ)) الْمُحَرَّمِ تَعَلُّمُهُ.
قالَ
شيخُ الإِسلامِ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (فقدْ صَرَّحَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بأنَّ عِلْمَ النُّجومِ من السِّحْرِ) وقدْ قالَ تعالَى: {وَلاََ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}[طه:69].
قَوْلُهُ:
((زَادَ مَا زَادَ)) أيْ: كُلَّمَا زادَ مِنْ تَعَلُّمِ عِلْمِ النجومِ زادَ في الإِثْمِ الحاصلِ بزيادةِ الاقتباسِ منْ شُعَبِهِ، فإنَّ ما يَعْتَقِدُهُ في النجومِ من التأثيرِ باطلٌ، كما أنَّ تَأثيرَ السحْرِ باطلٌ، واللهُ أعلمُ.


(4)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وللنَّسائِيِّ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ: ((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيها فَقَدْ سَحَرَ، وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ، وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئاً وُكِلَ إِلَيْهِ))) هذا حديثٌ ذَكَرَه الْمُصَنِّفُ منْ حَديثِ أبي هُريرةَ، وعَزاهُ للنَّسائيِّ، وقدْ رَواهُ النسائيُّ مَرفوعًا وحَسَّنَه ابنُ مُفْلِحٍ.


قَوْلُهُ: (وللنَّسائيِّ) هوَ الإِمامُ الحافظُ أحمدُ بنُ شُعَيْبِ بنِ عَلِيِّ بنِ سِنانِ بنِ بَحْرِ بنِ دِينارٍ أبو عبدِ الرحمنِ، صاحبُ (السُّنَنِ) وغيرِها.
ورَوَى عنْ
مُحَمَّدِ بنِ الْمُثَنَّى، وابنِ بَشَّارٍ، وقُتَيْبَةَ، وخَلْقٍ، وكان إليه الْمُنْتَهَى في العِلْمِ بِعِلَلِ الحديثِ، ماتَ سنةَ ثلاثٍ وثلاثِمائةٍ، ولهُ ثَمانٌ وثَمانونَ سنةً، رَحِمَهُ اللهُ تعالَى.
قَوْلُهُ:
((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيها فَقَدْ سَحَرَ)) اعْلَمْ أنَّ السَّحَرَةَ إذا أَرَادُوا عَمَلَ السِّحْرِ عَقَدُوا الْخُيوطَ ونَفَثُوا علَى كُلِّ عُقْدَةٍ، حتَّى يَنْعَقِدَ ما يُريدونَ من السِّحْرِ، قالَ تعالَى: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} يعني: السواحِرَ اللاتِي يَفْعَلْنَ ذلكَ، والنَّفْثُ هوَ: النَّفْخُ معَ رِيقٍ، وهوَ دُونَ التَّفْلِ.


(والنَّفْثُ: فِعْلُ الساحرِ، فإذا تَكَيَّفَتْ نفسُهُ بالْخُبْثِ والشَّرِّ الذي يُرِيدُهُ لِلمسحورِ ويَستعينُ عليهِ بالأرواحِ الْخَبيثةِ نَفَخَ في تلكَ العُقْدَةِ نَفْخًا معه رِيقٌ، فيَخْرُجُ منْ نَفْسِهِ الخبيثةِ نفَسٌ مُمَازِجٌ للشَّرِّ والأَذَى، مُقترِنٌ للرِّيقِ الْمُمَازِجِ لذلكَ، وقدْ يَتَسَاعَدُ هوَ والروحُ الشيطانيَّةُ علَى أَذَى الْمَسحورِ، فيُصِيبُهُ السحْرُ بإِذْنِ اللهِ الكَوْنِيِّ القَدَرِيِّ لا الشرعيِّ) قالَه ابنُ الْقَيِّمِ.


قَوْلُهُ: ((وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ)) نَصٌّ في أنَّ الساحِرَ مُشْرِكٌ، إذْ لا يَتَأَتَّى السِّحْرَ بدُونِ الشِّرْكِ كما حَكاهُ الحافظُ عنْ بَعْضِهم.
قَوْلُهُ:
((وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئاً وُكِلَ إِلَيْهِ)) أيْ: مَنْ تَعَلَّقَ قَلْبُهُ شيئًا: بحيث يَعْتَمِدُ عليهِ ويَرجوهُ وَكَلَهُ اللهُ إلَى ذلكَ الشيءِ، فمَنْ تَعَلَّقَ علَى رَبِّهِ وإِلَهِهِ وسَيِّدِهِ ومَولاهُ رَبِّ كلِّ شيءٍ ومَلِيكِهِ، كَفَاهُ ووَقَاهُ وحَفِظَه وتَوَلاَّهُ، فنِعْمَ الْمَوْلَى ونِعْمَ النصيرُ، قالَ تعالَى: {أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ}؟ [الزمر:36].
ومَنْ تَعَلَّقَ علَى السَّحَرَةِ والشياطينِ وغيرِهم مِن المخلوقينِ، وَكَلَهُ اللهُ إلَى مَنْ تَعَلَّقَه فهَلَكَ، ومَنْ تَأَمَّلَ ذلكَ في أَحوالِ الْخَلْقِ ونَظَرَ بعينِ البصيرةِ رأَى ذلكَ عِيانًا؛ وهذا منْ جَوامعِ الكَلِمِ، واللهُ أَعْلَمُ.


(5)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وعن ابنِ مسعودٍ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ، الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ)) رواه مسلِمٌ).


قولُهُ: ((أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ)) أُخْبِرُكُم، و((العَضْهُ)) بفَتْحِ الْمُهمَلَةِ وسكونِ الْمُعْجَمَةِ؛ قالَ أبو السَّعاداتِ: (هكذا يُرْوَىَ في كُتُبِ الحديثِ، والذي في كُتُبِ الغريبِ: ((أَلاَ أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعِضَهُ)) بكَسْرِ العَيْنِ وفَتْحِ الضادِ).
قالَ
الزَّمَخْشَرِيُّ: (أَصْلُها (العِضْهَةُ) فِعْلَةٌ من الْعِضَهِ: وهوَ البَهْتُ، فحُذِفَتْ لامُهُ، كما حُذِفَتْ من السَّنَةِ والشَّفَةِ؛ وتُجْمَعُ علَى (عِضِينَ)).
ثم فَسَّرَه بقَوْلِهِ:
((هِيَ النَّمِيمَةُ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ)) فأُطْلِقَ عليها ((الْعِضَهَ)) لأنَّها لا تَنْفَكُّ عن الكَذِبِ والبُهتانِ غَالِبًا، ذَكَرَه القُرْطُبِيُّ.
وذَكَرَ
ابنُ عبدِ الْبَرِّ، عنْ يَحْيَى بنِ أبي كَثيرٍ قالَ: (يُفْسِدُ النَّمَّامُ وَالْكَذَّابُ فِي سَاعَةٍ مَا لاَ يُفْسِدُ السَّاحِرُ فِي سَنَةٍ).
وقالَ
أبو الْخَطَّابِ في (عُيونِ المسائلِ): (ومِن السحْرِ السعيُ بالنميمةِ والإفسادُ بينَ الناسِ).
قالَ في
(الفُروعِ): (ووَجْهُهُ أن يَقْصِدَ الأَذَى بكلامِهِ وعَمَلِهِ علَى وَجْهِ الْمَكْرِ والْحِيلَةِ، أَشْبَهَ السحْرَ، وهذا يُعْرَفُ بالعُرْفِ والعَادَةِ أنَّهُ يُؤَثِّرُ ويُنْتِجُ ما يَعْمَلُهُ السحْرُ، أوْ أَكْثَرَ، فيُعْطَى حُكْمَهُ تَسْوِيَةً بينَ الْمُتماثِلَيْنِ أو الْمُتقارِبَيْنِ، لكن يُقالُ: الساحرُ إنَّما يَكْفُرُ لوَصْفِ السِّحْرِ، وهوَ أَمْرٌ خاصٌّ ودَليلُهُ خاصٌّ، وهذا ليسَ بسَاحرٍ، وإنما يُؤَثِّرُ عَمَلُهُ ما يُؤَثِّرُهُ فيُعْطَى حُكْمَه إلاَّ فيما اخْتَصَّ بهِ من الكُفْرِ وعَدَمِ قَبولِ التَّوْبَةِ) انتهَى مُلَخَّصًا، وبهِ يَظْهَرُ مُطابَقَةُ الحديثِ للتَّرْجَمَةِ.
وهو يَدُلُّ علَى تَحريمِ النَّميمةِ؛ وهوَ مُجْمَعٌ عليهِ، قالَ
ابنُ حَزْمٍ: (اتَّفَقُوا علَى تَحريمِ الغِيبَةِ والنَّميمةِ في غيرِ النَّصيحةِ الواجبةِ، وفيهِ دَليلٌ علَى أنَّها من الكَبائرِ).
قَوْلُهُ:
((القالَةُ بَيْنَ النَّاسِ)) قالَ أبو السَّعاداتِ: (أيْ: كَثرةُ القولِ، وإيقاعُ الْخُصومةِ بينَ الناسِ، ومنهُ الحديثُ: ((فَفَشَتِ الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ))).


(6)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَلَهُما عَنِ ابنِ عُمَرَ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إنَّ مِنَ البَيانِ لَسِحْرًا))) البيانُ البَلاغةُ والفَصَاحَةُ.
قالَ
صَعْصَعَةُ بنُ صُوحانَ: ( صَدَقَ نبيُّ اللهِ، فإنَّ الرجُلَ يكونُ عليهِ الحَقُّ، وهوَ أَلْحَنُ بالْحُجَجِ منْ صاحبِ الْحَقِّ، فيَسْحَرُ القومَ ببيانِهِ فيَذْهَبُ بالحقِّ ).
وقالَ
ابنُ عبدِ الْبَرِّ: (تَأَوَّلَتْهُ طائفةٌ علَى الذَّمِّ؛ لأنَّ السِّحْرَ مَذمومٌ، وذَهَبَ أَكثرُ أَهْلِ العِلمِ وجَماعةُ أَهْلِ الأَدَبِ إلَى أنَّهُ علَى الْمَدْحِ؛ لأنَّ اللهَ تعالَى مَدَحَ الْبَيَانَ، قالَ: وقدْ قالَ عمرُ بنُ عبدِ العَزيزِ لرَجُلٍ سَأَلَه عنْ حَاجةٍ فأَحْسَنَ الْمَسألةَ فأَعْجَبَه قولُهُ، قالَ: (هذا واللهِ السِّحْرُ الحَلالُ)) انْتَهَى.
والأَوَّلُ أَصَحُّ، والمرادُ بهِ البيانُ الذي فيهِ تَمويهٌ علَى السامِعِ وتَلبيسٌ، كما قالَ بعضُهم:

في زُخْرُفِ القولِ تزيينٌ لبَاطِلِهِ والحقُّ قدْ يَعْتَرِيهِ سُوءُ تَعبِيرِ

مأخوذٌ منْ قولِ الشاعرِ:

تـَقـُولُ: هذا مُجَاجُ النَّحْلِ، تـَمْدَحُهُ وإنْ تـَشـَأْ قـُلـْتــَ: ذا قـَيْءُ الـزَّنـَابِيرِ
مَدْحًا وذَمًّا، وما جَاوَزْتَ وَصْفَهُما والـحـقـُّ قــدْ يـَعـْتـَرِيــهِ سـوءُ تـعـبيــرِ

قَوْلُهُ:

((إنَّ مِنَ البيانِ لَسِحْرًا)) هذا من التشبيهِ البليغِ؛ لكونِ ذلكَ يَعمَلُ عَمَلَ السحْرِ، فيَجْعَلُ الحقَّ في قالَبِ الباطِلِ، والباطلَ في قالَبِ الحقِّ، فيَسْتَمِيلُ بهِ قُلوبَ الْجُهَّالِ، حتَّى يَقْبَلُوا الباطِلَ ويُنْكِرُوا الحقَّ، ونَسألُ اللهَ الثباتَ والاستقامةَ علَى الْهُدَى.


وأمَّا البَيانُ الذي يُوَضِّحُ الحقَّ ويُقَرِّرُهُ،

ويُبْطِلُ الباطِلَ ويُبَيِّنُهُ، فهذا هوَ الممدوحُ، وهكذا حالُ الرُّسُلِ وأَتْبَاعِهم، ولهذا عَلَتْ مَراتِبُهم في الفَضائلِ وعَظُمَتْ حَسَنَاتُهم.


وبالْجُملةِ: فالبيانُ لا يُحْمَدُ إلاَّ إذا لم يَخْرُجْ إلَى حدِّ الإسهابِ والإِطنابِ،

وتَغطيةِ الحقِّ، وتَحسينِ الباطلِ، فإذا خَرَجَ إلَى هذا فهوَ مَذمومٌ، وعلَى هذا تَدُلُّ الأحاديثُ كحديثِ البابِ وحديثِ: ((إِنَّ اللهَ يَبْغَضُ الْبَلِيغَ مِنَ الرِّجَالِ الَّذِي يَتَخَلَّلُ بِلِسَانِهِ كَمَا تَتَخَلَّلُ الْبَقَرَةُ بِلِسَانِهَا))رواه أحمدُ وأبو دَاوُدَ.

هيئة الإشراف

#4

27 Oct 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1)

وَجْهُ إدخالِ السِّحْرِ في أبوابِ التوحيدِ: أنَّ كثيرًاً من أقسامِه لا يَتَأَتَّى إلا بالشركِ والتوسلِ بالأرواحِ الشيطانيةِ إلى مقاصدِ الساحِرِ؛ فلا يَتِمُّ للعبدِ توحيدٌ حتى يَدَعَ السحرَ كلَّه؛ قليلَه وكثيرَه.
ولهذا قرَنه الشارعُ بالشركِ،
فالسِّحْرُ يَدْخُلُ في الشركِ مِن جهتيْن:


من جهةِ:

ما فيه من استخدامِ الشياطينِ ومِن التعلُّقِ بهم وربما تقرَّب إليهم بما يُحِبُّونَ ليقوموا بخدمتِه ومطلوبِه.


ومن جهةِ:

ما فيه من دعوى علمِ الغيبِ

ودعوى مشاركةِ اللهِ في علمِه وسلوكِ الطرقِ المفضيةِ إلى ذلك، وذلك من شُعَبِ الشركِ والكفرِ.


وفيه أيضًاً

من التصرُّفاتِ المحرَّمةِ، والأفعالِ القبيحةِ؛ كالقتلِ، والتفريقِ بينَ المتحابِّيْنَ، والصَّرْفِ، والعَطْفِ، والسعيِ في تغييرِ العقولِ، وهذا مِن أفظعِ المحرماتِ، وذلك من الشركِ ووسائلِه؛ ولذلك تعيَّن قتلُ الساحرِ؛ لشدةِ مَضَرَّتهِ وإفسادِه.
ومِن أنواعِه الواقعةِ في كثيرٍ من الناسِ
، النميمةُ لمشاركتِهم للسحرِ في التفريقِ بينَ الناسِ وتغييرِ قلوبِ المُتَحَّابِّيْنَ وتلقيحِ الشرورِ.
فالسحرُ أنواعٌ ودَرَكَاتٌ بعضُها أقبحُ وأسفلُ مِن بعضٍ.

هيئة الإشراف

#5

27 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)

قولُهُ: ((بابُ بيانِ شَيْءٍ مِنْ أَنْواعِ السِّحْرِ)) أيْ: بيانُ حقائقِ هذهِ الأشياءِ معَ حُكْمِهَا.


وقدْ سبقَ أنَّ السحرَ ينقسمُ إلى قسميْنِ:

كُفْرٌ، وفِسْقٌ؛

فإنْ كانَ باستخدامِ الشياطينِ وما أشبهَ ذلكَ فهوَ كُفْرٌ.
وكذلكَ ما ذَكَرَهُ هنا منْ أنواعِ السِّحرِ، منها ما هوَ كفرٌ، ومنها ما هوَ فسقٌ حسَبَ ما تقتضيهِ الأدلَّةُ الشرعيَّةُ.
والأنواعُ: جمعُ نَوْعٍ، والنوعُ أخصُّ من الجنسِ؛ لأنَّ الجنسَ اسمٌ يدْخُلُ تحتَهُ أنواعٌ، والنوعُ يدخلُ تحْتَهُ أفرادٌ، وقدْ يكونُ الجنسُ نوعًا باعتبارِ ما فوقَهُ، والنوعُ جنسًا باعتبارِ ما تحْتَهُ.
فالإنسانُ نوعٌ باعتبارِ الحيوانِ، والحيوانُ باعتبارِ الإنسانِ جنسٌ؛ لأنَّهُ يدخلُ فيهِ الإنسانُ والإبلُ والبقرُ والغنمُ، والحيوانُ باعتبارِ الجسمِ نوعٌ؛ لأنَّ الجسمَ يشملُ الحيوانَ والجمادَ.
(وأَنْواعِ) هنا باعتبارِ الجنسِ العامِّ.
وسبقَ أنَّ
السحرَ في اللغةِ:كلُّ ما كانَ خَفِيَّ السببِ دقيقًا في إدراكِهِ، حتَّى عدَّ الرازيُّ منْ جملةِ أنواعِ السحرِ الساعاتُ، وهيَ في القديمِ عبارةٌ عنْ آلاتٍ مُرَكَّبَةٍ، فكيفَ بالساعاتِ الإِلِكْتِرُونِيَّةِ اليومَ؟!


(2)

قولُهُ: ((العِيافَةَ)) مصدرُ عافَ يَعِيفُ عِيَافَةً، وهيَ زَجْرُ الطيرِ للتشاؤُمِ أو التفاؤُلِ، فعندَ العربِ قواعدُ في هذا الأمرِ؛لأنَّ زجْرَ الطيرِ لهُ أقسامٌ:

- فتارةً يزْجُرُها للصيدِ:

كما قالَ أهلُ العلمِ في بابِ الصيدِ: إنَّ تعليمَ الطيرِ بأنْ ينْزَجِرَ إذا زُجِرَ؛ فهذا ليسَ منْ هذا البابِ.

- وتارةً يَزْجُرُ الطيرَ للتشاؤمِ أو التفاؤلِ:

فإذا زُجِرَ الطائرُ وذهبَ شمالاً تشاءَمَ، وإذا ذهَب يمينًا تفاءلَ، وإنْ ذَهب أَمَامًا فلا أدري أيتَوَقَّفُونَ، أمْ يُعِيدُونَ الزجْرَ؛ فهذا من الْجِبْتِ.


(3)

قولُهُ: ((الطَّرْقَ)) فَسَّرَهُ عَوْفٌ: (بأنَّهُ الخَطُّ يُخَطُّ في الأرضِ، وكأنَّهُ من الطَّرِيقِ، مِنْ طَرَقَ الأرضَ يَطْرُقُها إذا سارَ عليها، وتخطيطُها مثلُ المشيِ عليها يكونُ لهُ أثرٌ في الأرضِ كأثرِ السيرِ عليها).


ومعنى الخطِّ بالأرضِ معروفٌ عندَهُم، يضربونَ بهِ على الرملِ على سبيلِ السِّحرِ والكهانةِ، ويفعلُهُ النساءُ غالبًا، ولا أدري كيفَ يتوَصَّلُونَ إلى مقْصُودِهِم، وما يزْعُمُونَهُ منْ عِلْمِ الغيبِ، وأنَّهُ سيَحْصُلُ كذا على ما هوَ معروفٌ عنْدَهُم، وهذا نوعٌ من السحرِ.

أمَّا خطُّ الأرضِ ليكونَ سُتْرَةً في الصلاةِ،

أوْ لبيانِ حُدُودِها ونحوِ ذلكَ، فليسَ داخلاً في الحديثِ.


فإنْ قيلَ:

قدْ صحَّ عن الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ نبِيًّا من الأنبياءِ يَخُطُّ، وقالَ: ((مَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ)).
قُلْنَا: يُجَابُ عنهُ بجوابيْنِ:


الأوَّلُ:

أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عَلَّقَهُ بأمرٍ

لا يتحَقَّقُ الوصولُ إليهِ؛ لأنَّهُ قالَ: ((فَمَنْ وَافَقَ خَطَّهُ فَذَاكَ)) وما يُدْرِينَا هلْ وافقَ خَطَّهُ أمْ لا؟


الثاني:

أنَّهُ إذا كانَ الخطُّ بالوحيِ من اللهِ تعالى كما في حالِ هذا النبيِّ فلا بأسَ بهِ؛ لأنَّ اللهَ يجعلُ لهُ علامةً ينزلُ الوحيُ بها بخطوطٍ يُعْلِمُهُ إيَّاها، أمَّا هذهِ الخطوطُ السحريَّةُ فهيَ من الوحيِ الشيطانيِّ.


فإنْ قيلَ:

طريقةُ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ يَسُدُّ الأبوابَ جميعًا خاصَّةً في موضوعِ الشركِ، فلماذا لمْ يقْطَعْ ويسُدَّ هذا البابَ؟


فالجوابُ:

كأنَّ هذا واللهُ أعلمُ أمرٌ معلومٌ، وهو أنَّ فيهِ نبيًّا من الأنبياءِ يَخُطُّ، فلا بُدَّ أنْ يُجِيبَ عنهُ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
قولُهُ:
((وَالطِّيَرَةَ)) أيْ: من الجِبْتِ، على وَزْنِ فِعَلَةٍ، وهيَ اسمُ مصدرِ تَطَيَّرَ، والمصدرُ منهُ تَطَيُّرٌ، وهيَ التشاؤمُ بِمَرْئِيٍّ أوْ مَسْموعٍ.


وقيلَ:

التشاؤمُ بمعلومٍ مَرْئِيًّا كانَ أوْ مسموعًا،

زمانًا كانَ أوْ مكانًا، وهذا أشملُ، فيشملُ ما لا يُرى ولا يُسمعُ كالتَّطَيُّرِ بالزمانِ.


وأصلُ التَّطَيُّرِ التشاؤمُ،

لكنْ أُضِيفَتْ إلى الطيرِ؛ لأنَّ غالبَ التشاؤمِ عندَ العربِ بالطيرِ، فَعَلِقَتْ بهِ، وإلاَّ فإنَّ تعريفَها العامَّ: التشاؤمُ بمَرْئِيٍّ، أوْ مسموعٍ، أوْ معلومٍ.


وكانَ العربُ يتشاءَمُونَ بالطيرِ وبالزمانِ وبالمكانِ وبالأشخاصِ، وهذا من الشركِ كما قالَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
والإنسانُ إذا فتحَ على نفْسِهِ بابَ التشاؤمِ ضاقَتْ عليهِ الدُّنيا، وصارَ يتَخَيَّلُ كلَّ شيءٍ أنَّهُ شُؤْمٌ، حتَّى إنَّهُ يُوجَدُ أُناسٌ إذا أصبحَ وخرجَ منْ بيْتِهِ ثمَّ قابلَهُ رجلٌ ليسَ لهُ إلاَّ عينٌ واحدةٌ تشاءمَ، وقالَ: اليومُ يومُ سَوءٍ، وأغلقَ دُكَّانَهُ، ولم يَبِعْ ولمْ يَشْتَرِ والعياذُ باللهِ.

وكان بعضُهم يتشاءمُ بيومِ الأربِعاءِ ويقولُ:

(إنَّهُ يومُ نَحْسٍ وشُؤْمٍ).
ومنهم مَنْ يتشاءمُ (بشهرِ شَوَّالٍ) ولا سيَّما في النِّكاحِ، وقدْ نَقَضَتْ
عائشةُ رضيَ اللهُ عنها هذا التشاؤمَ بأنَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عقَدَ علَيْها في شوَّالٍ، وبنى بها في شَوَّالٍ، فكانتْ تقولُ: أيُّكُنَّ كانَ أحْظَى عنْدَهُ منِّي؟


والجوابُ: لا أَحَدَ.
فالمهمُّ:

أنَّ التشاؤمَ ينبغي للإنسانِ أنْ لا يطْرَأَ لهُ على بالٍ؛ لأنَّهُ يُنَكِّدُ عليهِ عَيْشَهُ، فالواجبُ الاقتداءُ بالنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ حيثُ كانَ يُعْجِبُهُ الْفَأْلُ، فينبغي للإنسانِ أنْ يتفاءلَ بالخيرِ ولا يتشاءمَ، وكذلكَ بعضُ الناسِ إذا حاولَ الأمرَ مَرَّةً بعدَ أخرى تشاءمَ بأنَّهُ لنْ ينْجَحَ فيهِ فيتركُهُ، وهذا خطأٌ، فكلُّ شيءٍ ترى فيهِ المصلحَةَ فلا تَتَقَاعَسْ عنهُ في أوَّلِ محاولةٍ، وحَاوِلْ مرَّةً بعدَ أخرى حتَّى يفتحَ اللهُ عليكَ.


(4)

قولُهُ: ((من الجِبْتِ)) سبقَ في البابِ قبْلَهُ عنْ عمرَ رضيَ اللهُ عنهُ، أنَّ الجبتَ السحرُ، وعلى هذا تكونُ ((مِنْ)) للتبعيضِ على الصحيحِ، وليْسَتْ للبيانِ، فالمعنى أنَّ هذهِ الثلاثةَ (العيافةَ، والطَّرْقَ، والطِّيَرَةَ) من الجبتِ.
وأمَّا قولُ
الحسنِ: (الجبتُ: رَنَّةُ الشيطانِ) فقالَ صاحبُ (تيسيرِ العزيزِ الحميدِ): (لمْ أجدْ فيهِ كلامًا، والظاهرُ أنَّ (رَنَّةَ الشيطانِ) أيْ: وحيُ الشيطانِ، فهذهِ منْ وحيِ الشيطانِ وإمْلاَئِهِ، ولا شكَّ أنَّ الذي يتلَقَّى أمرَهُ منْ وحيِ الشيطانِ أنَّهُ أتى نوْعًا من الكُفْرِ).
وقولُ
الحسنِ جاءَ في (تفسيرِ ابنِ كثيرٍ) باللفظِ الذي ذكَرَهُ المُؤَلِّفُ، وجاءَ في (المسندِ) (5/60) بلفظِ: (إنَّهُ الشيطانُ).
قال في
(تيسير العزيز الحميد) ص402 : (قوله (رنّة الشيطان) لم أجد فيه كلاماً.
قال في
(فتح المجيد)(قلت ذكره إبراهيم بن محمد بن مفلح أن في تفسير بقي بن مخلد أن إبليس رنّ أربع رنّات.....) الرنين: الصوت.
وقد رن يرُّنُّ رنيناً، وبهذا يظهر معنى قول
الحسن.
ا. هـ

لكن الذي في (المسند): ( إنه الشيطان ) وهو المقطوع بصحته.


ووجهُ كونِ العيافةِ من السحرِ:

أنَّ العيافةَ يستندُ فيها الإنسانُ إلى أمرٍ لا حقيقةَ لهُ، فماذا يعني كونُ الطائرِ يذهبُ يمينًا أوْ شمالاً أوْ أمامًا أوْ خَلْفًا؟ فهذا لا أصلَ لهُ، وليسَ بسببٍ شرعيٍّ ولا حسِّيٍّ، فإذا اعتَمدَ الإنسانُ على ذلكَ، فقد اعتمدَ على أمرٍ خفيٍّ لا حقيقةَ لهُ، وهذا سحرٌ كما سبَقَ تعريفُ السحرِ في اللغةِ.

وكذلكَ الطَّرْقُ من السحرِ؛

لأنَّهُم يستعمِلُونَهُ في السحرِ، ويتوَصَّلُونَ بهِ إليهِ.


والطِّيَرَةُ كذلكَ؛

لأنَّها مثلُ العيافةِ تمامًا، تستندُ إلى أمرٍ خفيٍّ لا يصحُّ الاعتمادُ عليهِ، وسيأتي في بابِ الطيرةِ ما يُسْتَثْنَى منهُ.


(5)

قولُهُ: (إِسنادُهُ جَيِّدٌ…) قالَ الشيخُ: (إسنادُهُ جيِّدٌ، وعندي أنَّهُ أقلُّ من الجيِّدِ في الواقعِ، إلاَّ أنْ يكونَ هناكَ مُتَابَعَاتٌ).


(6)

قولُهُ ((مَنْ)) شرطيَّةٌ، وفِعْلُ الشرطِ ((اقْتَبَسَ)) وجوابُهُ ((فَقَدِ اقْتَبَسَ)).
قولُهُ:
((اقْتَبَسَ)) أيْ: تَعَلَّمَ؛ لأنَّ التَّعَلُّمَ، وهوَ أخذُ الطالبِ من العالِمِ شيئًا منْ عِلْمِهِ، بمنزلةِ الرجلِ يقتبسُ منْ صاحبِ النارِ شُعْلَةً.
قولُهُ:
((شُعْبَةً)) أيْ: طائفةً، ومنهُ قولُهُ تعالى: { وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ }، أيْ: طوائفَ وقبائلَ.
قولُهُ:
((مِنَ النُّجومِ)) المرادُ: علمُ النجومِ، وليسَ المرادُ النجومَ أنْفُسَها؛ لأنَّ النجومَ لا يُمْكِنُ أنْ تُقْتَبَسَ وَتُتَعَلَّمَ، والمرادُ بهِ هنا: عِلْمُ النجومِ الذي يُسْتَدَلُّ بهِ على الحوادثِ الأرضيَّةِ، فيستدلُّ مثلاً باقترانِ النجمِ الفُلانيِّ بالنجمِ الفُلانيِّ على أنَّهُ سيَحْدُثُ كذا وكذا.


ويسْتَدَلُّ بولادةِ إنسانٍ في هذا النجمِ على أنَّهُ سيكونُ سعيدًا،

وفي هذا النجمِ الآخَرِ على أنَّهُ سيكونُ شَقِيًّا، فيستدِلُّونَ باختلافِ أحوالِ النجومِ على اختلافِ الحوادثِ الأرضيَّةِ، والحوادثُ الأرضيَّةُ منْ عنْدِ اللهِ، قدْ تكونُ أسبابُها معلومةً لنا، وقدْ تكونُ أسبابُها مجهولةً، لكنْ ليسَ للنجومِ بها علاقةٌ؛ ولهذا جاءَ في حديثِ زيدِ بنِ خالدٍ الْجُهَنِيِّفي غزوةِ الحديبيَّةِ قالَ: صلَّى بنا رسولُ اللهِ ذاتَ ليلةٍ على إِثْرِ سماءٍ من الليلِ فقالَ:((قالَ اللهُ تعالَى: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُؤْمِنٌ بِي وَكَافِرٌ، فَمَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا - بِنَوْءِ يَعْنِي: بِنَجْمِ، والباءُ للسببيَّةِ، يعني: هذا المطرُ من النجمِ - فَإِنَّهُ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ، ومَنْ قَالَ مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللهِ وَرَحْمَتِهِ فَذَلِكَ مُؤْمِنٌ بِي كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ)).


فالنجومُ لا تأتي بالمطرِ ولا تأتي بالرياحِ أيضًا،

ومنهُ نَأْخُذُ خطأَ العوامِّ الذينَ يقولونَ: إذا هبَّت الريحُ طلعَ النجمُ الفلانيُّ؛ لأنَّ النجومَ لا تأثيرَ لها بالرياحِ، صحيحٌ أنَّ بعضَ الأوقاتِ والفصولِ يكونُ فيها ريحٌ ومطرٌ، فهيَ ظَرْفٌ لهُمَا، وليستْ سببًا للريحِ أو المطرِ.

وعِلْمُ النجومِ ينقسمُ إلى قسميْنِ:


الأوَّلُ: علمُ التأثيرِ،

وهوَ أنْ يُسْتَدَلَّ بِالحوادثِ الفلكيَّةِ على الحوادثِ الأرضيَّةِ، فهذا مُحَرَّمٌ باطِلٌ لقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ)).
وقولـِهِ في حديثِ
زيدِ بنِ خالدٍ:((مَنْ قالَ مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي مُؤْمِنٌ بِالْكَوْكَبِ)).
ولقولِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الشمسِ والقمرِ:
((إِنَّهُمَا آيَتَانِ مِنْ آيَاتِ اللهِ لاَ يَنْكَسِفَانِ لِمَوْتِ أَحَدٍ وَلاَ لِحَيَاتِهِ)) فالأحوالُ الفلكيَّةُ لا عَلاقةَ بينَها وبينَ الحوادثِ الأرضيَّةِ.


الثاني:

علمُ التسييرِ، وهوَ ما يُسْتَدَلُّ بهِ على الجهاتِ والأوْقاتِ، فهذا جائزٌ.
وقدْ يكونُ واجبًا أحيانًا كَمَا قالَ الفقهاءُ: (إذا دخلَ وقتُ الصلاةِ يجبُ على الإنسانِ أنْ يتعَلَّمَ علاماتِ القِبْلةِ مِن النجومِ والشمسِ والقمرِ، قالَ تعالى:
{ وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } فلَمَّا ذكَرَ اللهُ العلاماتِ الأرضيَّةَ انتقلَ إلى العلاماتِ السماويَّةِ .
فقالَ تعالى:
{ وَعَلاَمَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ } فالاستدلالُ بهذهِ النجومِ على الأزمانِ لا بَأْسَ بهِ، مثلَ أنْ يُقالَ: إذا طلعَ النجمُ الفلانيُّ دخلَ وقتُ السيْلِ، ودخَلَ وقتُ الربيعِ، كذلكَ على الأماكنِ كالقبلةِ والشمالِ والجنوبِ).
قولُهُ:
((فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ)) المرادُ بالسحرِ هنا: ما هوَ أعمُّ مِن السحرِ المعروفِ؛ لأنَّ هذا من الاستدلالِ بالأمورِ الخفيَّةِ التي لا حقيقةَ لها، كما أنَّ السحرَ لا حقيقةَ لهُ ولا يَقْلِبُ الأشياءَ لكنَّهُ يُمَوِّهُ، وهكذا اختلافُ النجومِ لا تَتَغَيَّرُ بِها الأحوالُ.
وقولُهُ:
((زَادَ مَا زَادَ)) أيْ: كُلَّما زادَ شُعْبَةً مِنْ تَعَلُّمِ النجومِ ازدادَ شُعْبَةً مِن السحرِ.
وَوَجْهُ ذلِكَ أنَّ الشيءَ إذا كانَ مِن الشيءِ فإنَّهُ يَزْدَادُ بزِيَادَتِهِ.


وجهُ مناسبةِ الحديثِ لترجمةِ المؤلِّفِ:

أنَّ مِنْ أنواعِ السحرِ تَعَلُّمَ النجومِ لِيُسْتَدَلَّ بِها على الحوادثِ الأرضيَّةِ،

وهذا الحديثُ وإنْ كانَ ضعيفَ السندِ، لكنْ مِنْ حيثُ المعنى صحيحٌ تَشْهَدُ لهُ النصوصُ الأخرى.


(7)

قولُهُ: ((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً))((مَنْ)) شرطيَّةٌ، والعَقْدُ معروفٌ.


(8)

قولُهُ: ((ثُمَّ نَفَثَ فِيهَا))النَّفْثُ:النَّفْخُ بِرِيقٍ خفيفٍ، والمرادُ هنا النفثُ مِنْ أجلِ السحرِ، أمَّا لوْ عقَدَ عقدةً ثمَّ نَفَثَ فيها مِنْ أجْلِ أنْ تحْتَكِمَ بالرطوبةِ فليسَ بداخلٍ في الحديثِ، والنفثُ منْ أجلِ السحرِ يفعلونَهُ بعضَ الأحيانِ للصرفِ، فيصرفونَ بهِ الرجلَ عنْ زوجتِهِ، ولا سيَّما عندَ عَقْدِ النكاحِ، فيَبْعُدُ الرجلُ عنْ زوجتِهِ فلا يَقْوَى على جِمَاعِها، فمَنْ عقَدَ هذهِ العُقْدَةَ فقدْ وَقَعَ في السحرِ كَمَا قالَ تعالى: { وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ }.
قولُهُ:
((وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ))((مَنْ)) هذهِ شرطيَّةٌ، وفعلُ الشرطِ ((سحرَ)) وجوابُهُ ((فَقَدْ أَشْرَكَ)).
وقولُهُ:
((فقدْ أشْرَكَ)) هذا لا يتناولُ جميعَ السحرِ إنَّما مَنْ سَحَرَ بالطرقِ الشيطانيَّةِ، أمَّا مَنْ سحرَ بالأدويةِ والعقاقيرِ وما أشْبَهَها، فقدْ سَبَقَ أنَّهُ لا يكونُ مشركًا، لكن الذي يسْحَرُ بواسطةِ طاعةِ الشياطينِ واستخدامِهم فيما يُرِيدُ، فهذا لا شكَّ أنَّهُ مُشْرِكٌ.


(9)

وقولُهُ: ((وَمَنْ تَعَلَّقَ شَيْئًا وُكِلَ إِلَيْهِ)) تَعَلَّقَ شيئًا: أي: استمسكَ بهِ واعتمدَ عليهِ.
وُكِلَ إليهِ: أيْ: جُعِلَ هذا الشيءُ الذي تعَلَّقَ بهِ عِمَادًا لهُ، وَوَكَلَهُ اللهُ إليهِ، وتخَلَّى عنهُ.
ومناسبةُ هذه الجملةِ للَّتِي قَبْلَها: أنَّ النافخَ في العُقَدِ يُرِيدُ أنْ يتوَصَّلَ بهذا الشيءِ إلى حاجَتِهِ ومآرِبِهِ، فَيُوكَلُ إلى هذا الشيءِ المُحَرَّمِ.
ووجْهٌ آخرُ:وهوَ أنَّ مِن الناسِ مَنْ إذا سُحِرَ عَنْ طريقِ النفخِ بالعُقَدِ ذهبَ إلى السَّحَرَةِ، وتعَلَّقَ بِهم، ولا يَذْهَبُ إلى القُرَّاءِ والأدويةِ المباحةِ والأدعيةِ المشروعةِ، ومَنْ توكَّلَ على اللهِ كَفَاهُ، قالَ تعالى: { وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللهَ بَالِغُ أَمْرِهِ } وإذا كانَ اللهُ حَسْبَكَ فلا بُدَّ أنْ تَصِلَ إلى ما تُرِيدُ.


لكنْ مَنْ تعَلَّقَ شيئًا مِن المخلوقينَ وُكِلَ إليهِ،

ومَنْ وُكِلَ إلى شيءٍ من المخلوقينَ وُكِلَ إلى ضعفٍ وعجزٍ وعَوْرَةٍ، وقدْ يشملُ الحديثُ مَن اعتمدَ على نفسِهِ، وصارَ مُعْجَبًا بما يقولُ ويفعلُ، فإنَّهُ يُوكَلُ إلى نفسِهِ، ويوكلُ إلى ضعفٍ وعجزٍ وعورةٍ.
ولهذا ينبغي أنْ تكونَ دائمًا مُتَعَلِّقًا باللهِ في كلِّ أفعالِكَ وأحوالِكَ حتَّى في أهْوَنِ الأمورِ.
ونقولُ للإنسانِ:
اعتَمِدْ على نفْسِكَ بالنسبةِ للناسِ، فلا تسألْهُم ولا تسْتَذِلَّ أمامَهم واستَغْنِ عنهم ما استطَعْتَ، أمَّا بالنسبةِ للهِ فلا تسْتَغْنِ عنهُ، بلْ كُنْ دائمًا مُعْتَمِدًا على ربِّكَ حتَّى تتَيَسَّرَ لكَ الأمورُ.


ومنْ هذا النوعِ

مَنْ يتَعَلَّقُون ببعضِ الأحْرَازِ يُعَلِّقُونَها، فإنَّهُم يُوكَلُونَ إلى هذا، ولا يحْصُلُ لهم مقصودُهم، لكنَّهم لو اعتمدوا على اللهِ، وسلكوا السُّبُلَ الشرعيَّةَ حصلَ لهم ما يُرِيدونَ.
ومنْ هذا النوعِ أيضًا مَنْ تعلَّقَ شيئًا مِنْ هذهِ القبورِ، وجعلَها مَلْجَأَهُ ومُغِيثَهُ عندَ طلبِ الأمورِ، فإنَّهُ يُوكَلُ إليهِ، والإنسانُ قدْ يُفْتَنُ ويحْصُلُ لهُ المطلوبُ بدُعاءِ هؤلاءِ، ولكنَّ هذا المطلوبَ الذي حصلَ حصلَ عندَ دُعَائِهم لا بِدُعَائِهم، والآيةُ صريحةٌ في ذلكَ، قالَ تعالى:
{ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَنْ لاَ يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ... } لكنَّ اللهَ تعالى قَدْ يَفْتِنُ مَنْ شاءَ مِنْ عبادِهِ.


ومُنَاسَبَةُ الحديثِ:

أنَّ هؤلاءِ الذينَ يتعَلَّقُونَ بالسحرِ،

ويجعلونَهُ صناعةً يصِلُونَ بها إلى مَآربِهم يُوكَلُونَ إلى ذلكَ، وآخرُ أمْرِهم الخَسارةُ والندمُ.


(10)

قولُهُ: ((أَلاَ)) أداةُ استفتاحٍ، والغرضُ تنبيهُ المُخَاطَبِ والاعتناءُ بما يُلْقَى إليهِ لأهميَّتِهِ.
قولُهُ:
((هَلْ أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟))الاستفهامُ للتشويقِ.
قولُهُ:
((العَضْهُ)) على وزنِ الحبْلِ والصمْتِ والوعْدِ، بمعنى القطْعِ. وأمَّا روايةُ العِضَةِ على وزْنِ عِدَةٍ، فإنَّها بمعنى التفريقِ، وأيًّا كانَ فإنَّها تتضَمَّنُ قطْعًا وتفريقًا.


(11)

قولُهُ: ((هِيَ النَّمِيمَةُ)) فَعِيلَةُ بمعنى مفعولةٍ، وهيَ مِنْ نمَّ الحديثَ إلى غيرِهِ، أيْ: نقَلَهُ، والنميمةُ فسَّرَها بقوْلِهِ: ((الْقَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ)) أيْ: نقلُ القولِ بينَ الناسِ، فيَنْقُلُ مِنْ هذا إلى هذا، فيأتي لفلانٍ ويقولُ: فلانٌ يَسُبُّكَ، فهوَ نمَّ إليهِ الحديثَ ونقلَهُ، وسواءٌ كانَ صادقًا أوْ كاذبًا، فإنْ كانَ كاذبًا فهوَ بَهْتٌ ونميمةٌ، وإنْ كانَ صادقًا فهوَ نميمةٌ.
والنميمةُ كما أَخْبرَ الرسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ تقْطَعُ الصلةَ وتُفَرِّقُ بينَ الناسِ فتجدُ هذيْنِ الرجُلَيْنِ صديقَيْنَ، فيأتي هذا النَّمَّامُ فيقولُ لأحدِهما: (صاحِبُكَ يَسُبُّكَ) فتنْقَلِبُ هذهِ المودَّةُ إلى عداوةٍ فيحصلُ التفَرُّقُ، وهذا يُشْبِهُ السحرَ بالتفريقِ؛ لأنَّ السحرَ فيهِ تفريقٌ، قالَ تعالى: { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ }.
والنميمةُ مِنْ كبائرِ الذنوبِ، وهيَ سببٌ لعذابِ القبرِ، ومِنْ أسبابِ حرمانِ دخولِ الجنَّةِ، قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لاَ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ قَتَّاتٌ)) أيْ: نمَّامٌ.
وفي حديثِ
ابنِ عبَّاسٍ المُتَّفَقِ عليهِ أنَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((مرَّ بقبرَيْنِ يُعَذَّبَانِ؛ أحدُهُما كانَ يمْشِي بالنميمَةِ)).


(12)

قولُهُ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ))((إنَّ)) حرفُ توكيدٍ ينْصِبُ الاسمَ ويرفعُ الخبرَ، و((مِنْ)) يُحْتَمَلُ أنْ تكونَ للتبعيضِ، ويُحْتَمَلُ أنْ تكونَ لبيانِ الجنسِ،فعلى الأوَّلِ يكونُ المعنى: إنَّ بعضَ البيانِ سحرٌ، وبعْضَهُ ليسَ بسحرٍ، وعلى الثاني: يكونُ المعنى: إنَّ جنسَ البيانِ كُلِّهِ سحرٌ.
قولُهُ:
((لَسِحْرًا)) اللامُ للتوكيدِ، و(سِحْرًا) اسمُ إنَّ.


والبيانُ:

هوَ الفصاحةُ والبلاغةُ، وهوَ مِنْ نعمةِ اللهِ على الإنسانِ، قالَ تعالى: { خَلَقَ الإِنْسَانَ (2) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ }.

والبيانُ نوعانِ:


الأوَّلُ:

بيانُ ما لا بُدَّ منهُ، وهذا يشتركُ فيهِ جميعُ الناسِ، فكلُّ إنسانٍ إذا جاعَ قالَ: إنِّي جُعْتُ، وإذا عَطِشَ قالَ: إنِّي عَطِشْتُ، وهكذا.


الثاني:

بيانٌ بمعنى الفصاحةِ التامَّةِ التي تَسْبِي العقولَ وتُغَيِّرُ الأفكارَ،

وهيَ التي قالَ فيها الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)).
وعلى هذا التقسيمِ تكونُ
(مِنْ) للتبعيضِ، أيْ: بعضُ البيانِ - وهو البيانُ الكاملُ الذي هوَ الفصاحةُ - سِحْرٌ.
أمَّا إذا جعلْنا البيانَ بمعنى الفصاحةِ فَقَطْ، صارَتْ
((مِنْ)) لبيانِ الجنْسِ.
ووجهُ كونِ البيانِ سحرًا أنَّهُ يأخذُ بِلُبِّ السامعِ، فيصرفُهُ أوْ يعْطِفُهُ، فيظنُّ السامعُ أنَّ الباطلَ حقٌّ؛ لقوَّةِ تأثيرِ المُتكلِّمِ، فينصرفُ إليهِ، ولهذا إذا أتى إنسانٌ يتكلَّمُ بكلامٍ معناهُ باطلٌ لكنْ لقوَّةِ فصاحتِهِ وبيانِهِ يَسْحَرُ السامعَ حقًّا، فينصرفُ إليهِ، وإذا تكلَّمَ إنسانٌ بليغٌ يُحَذِّرُ مِنْ حقٍّ، وَلِفَصَاحَتِهِ وبيانهِ يظنُّ السامعُ أنَّ هذا الحقَّ باطلٌ، فينصرفُ عنهُ، وهذا مِنَ جنسِ السحرِ الذي يُسمُّونَهُ العطفَ والصرفَ.


والبيانُ يحصلُ بهِ عطفٌ وصرفٌ،

فالبيانُ في الحقيقةِ بمعنى الفصاحةِ، ولا شكَّ أنَّها تفعلُ فِعْلَ السحرِ.
وقولُهُ:
((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)) هلْ هذا على سبيلِ الذمِّ، أوْ على سبيلِ المدحِ، أوْ لبيانِ الواقعِ ثمَّ يُنْظَرُ إلى أثَرِهِ؟


الجوابُ: الأخيرُ هوَ المرادُ، فالبيانُ مِنْ حيثُ هوَ بيانٌ لا يُمْدَحُ عليهِ ولا يُذَمُّ،

ولكنْ يُنْظَرُ إلى أثرِهِ والمقصودِ منهُ، فإنْ كانَ المقصودُ منهُ ردَّ الحقِّ وإثباتَ الباطلِ فهوَ مذمومٌ؛ لأنَّهُ استعمالٌ لنعمةِ اللهِ في معصيتِهِ، وإنْ كانَ المقصودُ منهُ إثباتَ الحقِّ وإبطالَ الباطلِ فهوَ ممدوحٌ، وإذا كانَ البيانُ يُسْتَعْمَلُ في طاعةِ اللهِ وفي الدعوةِ إلى اللهِ فهوَ خَيْرٌ مِن الْعِيِّ، لكنْ إذا ابْتُلِيَ الإنسانُ ببيانٍ ليَصُدَّ الناسَ عَنْ دينِ اللهِ، فهذا لا خَيْرَ فيهِ والْعِيُّ خيرٌ مِنْهُ.


والبيانُ منْ حيثُ هوَ لا شكَّ أنَّهُ نعمةٌ؛

ولهذا امتنَّ اللهُ بهِ على الإنسانِ فقالَ تعالى: { عَلَّمَهُ البَيَانَ }.
وهذا الذي ذكره المصنف حسن؛ لكن قال
ابن رجب: (من تأمل طرق الحديث، وسياقه علم أنه لا يصلح له إلا هذا المعنى يعني: الذم) .
وقد كان المؤلِّفُ حكيمًا في تعبيرِهِ بالترجمةِ حيثُ قالَ:
(بابُ بيانِ شيءٍ مِنْ أنواعِ السحرِ) ولمْ يحكُمْ عليها بشيءٍ؛ لأنَّ منها ما هوَ شركٌ، ومنها ما هوَ مِنْ كبائرِ الذنوبِ، ومنها ما دونَ ذلكَ، ومنها ما هوَ جائزٌ على حسَبِ ما يُقْصَدُ بِهِ وعلى حسبِ تأثيرِهِ وآثارِهِ.


(13)

قالَ:

فيهِ مَسائِلُ: أيْ: في هذا البابِ وما تضمَّنَهُ من الأحاديثِ والآثارِ مسائلُ.


المسألةُ الأولى:

(أنَّ العِيَافَةَ والطَّرْقَ والطِّيَرَةَ مِن الْجِبْتِ) وقدْ سَبَقَ تفسيرُ هذهِ الثلاثةِ وتفسيرُ الجبتِ.


(14)

الثانيةُ: (تفسيرُ العيافةِ والطَّرْقِ) وقدْ بُيِّنَتْ في البابِ أيضًا وشُرِحَتْ.


(15)

الثالثةُ: (أنَّ عِلْمَ النجومِ نَوْعٌ مِن السِّحرِ) لقوْلِهِ: ((مَنِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ النُّجُومِ فَقَدِ اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ)) وسبقَ الكلامُ عليها أيضًا.


(16)

الرَّابِعَةُ: (أن العَقْدَ مَعَ النَّفْثِ مِنْ ذلِك) لحديثِ أبي هريرَةَ:((مَنْ عَقَدَ عُقْدَةً ثُمَّ نَفَثَ فِيها فَقَدْ سَحَرَ)) وقدْ تقدَّمَ الكلامُ على ذلِكَ.


(17)

الخامسةُ: (أنَّ النَّميمةَ مِنْ ذلِكَ) لحديثِ ابنِ مسعودٍ:((أَلاَ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ مَا الْعَضْهُ؟ هِيَ النَّمِيمَةُ)) وهيَ من السحرِ؛ لأنَّها تفعلُ ما يفعلُ الساحرُ مِن التفريقِ بينَ الناسِ والتحريشِ بَيْنَهُم، وقدْ سَبَقَ بيانُ ذلِكَ.


(18)

السَّادسةُ: (أَنَّ مِنْ ذلِكَ بَعْضَ الفَصاحَةِ) أيْ: مِن السحرِ بعضَ الفصاحةِ؛ لقولِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)).


والمؤلِّفُ

رَحِمَهُ اللهُ قالَ: بعضُ الفصاحةِ، استدلالاً بقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ)) لأنَّ ((مِنْ)) هنا عندَ المُؤَلِّفِ للتبعيضِ.
ووجْهُ كونِ ذلِكَ مِن السحرِ أنَّ لسانَ البليغِ ذي البيانِ قَدْ يَصْرِفُ الهِمَمَ، وقَدْ يُلْهِبُ الهممَ بما عندَهُ مِن الفصاحةِ.

هيئة الإشراف

#6

27 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (هذا باب بيان شيء من أنواع السحر

لَمَّا ذكر الإمام -رحمه الله تعالى- ما جاء في السحر وما اتصل بذلك من حُكمه وتفصيل الكلام عليه، ذكر أنَّ السحر قد يأتي في النصوص ولا يُراد منه السحر الذي يكون بالشرك بالله جل وعلا، فإنَّ اسم السحر عام في اللغة، يدخل فيه ذلك الاسم الخاص الذي فيه استعانة بالشياطين، وتقربٌ إلى الشياطين؛ وعبادة الشياطين لتخدم الساحر.


وقد يكون بأسماء أخر،

يُطلقُ عليها الشارع أنها سحر؛ وليست كالسحر الأول في الحقيقة ولا في الحكم، وهو درجات.


فمما يسمَّى سحراً: البيان

والبيان

كما جاء في آخر الباب ((إنَّ من البيان لسحراً)).

البيان ليس سحراً فيه استعانة بالشياطين، ولكنه داخل في حقيقة السحر اللغوية؛ لأنه تأثير خفي على القلوب، فإن الرجل البليغ ذا البيان، وذا الإيضاح، وذا اللسان الجميل الفصيح، يؤثر على القلوب حتى يسبيها، وربما قلب الحق باطلاً والباطل حقّاً ببيانه، فسُمِّيَ سحراً لخفاء وصوله إلى القلوب، وقلبِ الرأي وفهمِ المخاطَب من شيء إلى آخر.


كذلك:

ما ذكر من أن (الطيرة) من السحر، فالطيرة نوع اعتقاد.


كذلك:

(العيافة) وهي شبيهة بها أو بعض أنواعها.


كذلك:

(الخط) في الرمل، ونحو ذلك من الأشياء التي ربما أُطلق عليها أنها سحر وهي ليست كالسحر الأول في الحدِّ والحقيقة ولا في الحكم.

إذاً هذا الباب قال فيه الإمام رحمه الله تعالى: (باب بيان شيء من أنواع السحر) وأنواع السحر:

منها:

ما هو شرك أكبر بالله جل وعلا،

وهو المراد إذا قلنا السحر، وهذه هي الحقيقة العرفية، وهناك في ألفاظ الشرع أشياء يكون المرجع فيها:

-

إلى الحقيقة اللغوية.

-

وهناك أشياء يكون المرجع فيها إلى الحقيقة العرفية.

-

ويكون هناك أشياء المرجع فيها إلى الحقيقة الشرعية.

وهنا في هذا الباب فيما يشمل ما يُطلق عليه لغة أنه سحر، ويطلق عليه عرفاً أنه سحر، ويطلق عليه شرعاً أنه سحر، فإذاً التفريق بين هذه الأنواع مهم؛ ولهذا ذكر الإمام هذا الباب حتى تفرق بين نوع وآخر.


فالحد

الذي فيه ((حد الساحر ضَرْبُهُ بالسيف)) لا ينطبق على كل هذه الأنواع التي سَتُذْكَر؛ لأنها سحر لغة، وليست بسحر شرعاً.


((العيافة)):

مأخوذة من عياف الشيء، وهو تركه، عاف الشيء يعافُه، إذا تركه فلم تبغه نفسه.


(والعيافة)

كما فسرها

عوف: (زجر الطير) وهذا أحد تفسيرات العيافة.


(وزجر الطير)

أن يُحَرِّك طيراً حتى ينظر إلى أين تتحرك، ويزجر الطير في حركته، ثم يفهم مِنْ ذلك الزجر هل هذا الأمر الذي سيقدم عليه أنه أمر محمود أو أمر مذموم؟

أو يطّلع بحقيقة زجر الطير على مستقبل الحال.


فهذا نوع من (الجبت) وهو السحر، لِمَ؟

ذكرتُ لكم أن معنى الجبت هو: الشيء المرذول المطَّرح الذي يصرف الواحد عن الحق، والسحر شيء خفي يؤثر على النفوس.
والعيافة:

من التأثر بالطير وبزجرها وبانتقالها من هنا إلى هنا، أو بحركتها، شيء خفي دخل في النفس فأثر عليها من جهة الإقدام، أو الكفِّ، فصار نوعاً من السحر لأجل ذلك، وهو (جبت) لأنه شيء مرذول أدّى إلى الإقبال أو الامتناع.


((والطيرة))

أعم من العيافة، لأن العيافة على حسب تفسير (عوف) وهو أحد تفسيراتها، متعلق بالطير وحده.


-

وأما الطيرة فهو: اسم عام لما فيه تشاؤم أو تفاؤل بشيء من الأشياء.


وسيأتي باب مستقل لذكر أحكام الطيرة وصورتها وما يقي منها، يأتي إن شاء الله تعالى.


وحقيقة الطيرة:

أنه يرى شيئاً كان في الأول من الطير تحرك يميناً أو يساراً، فلما رآه تحرك يميناً قال: هذا تفاؤل أنني سأنجح في هذا العمل أو في هذا السفر، وإذا رآه تحرك شِمالاً قال: هذا معناه أني سأنضَرُّ في هذا السفر أو سيصيبني مكروه؛ فرجع.


وقد قال عليه الصلاة والسلام :

((من ردَّته الطيرة عن حاجته فقد أشرك))قد يتشاءم بحركة شيء، بكلمة يسمعها، بشيء في الجو، بتصادم سيارة أمامه، بسوادٍ في الجو حصل أمامه، أو في ذلك اليوم الذي سينتقل فيه، أو تشاءم بشيء حصل له في أول زواجه، ونحو ذلك من أنواع التشاؤم، أو التشاؤم بالأشهر أو بالأيام،هذا كله من أنواع (الطيرة).


ومتى يكون طيرة؟

إذا ردَّه عن حاجته، أو جعله يُقبل عن حاجته.

فإذا تشاءم، وذلك التشاؤم حينما سيطر على قلبه جعله يُقدِم، أو يُحجم، فإنه يكون متطيراً.
وكذلك:

في باب التفاؤل، إذا رأى شيئاً فجعله ذلك الشيء يُقدِم، ولولا ذلك الشيء أنه رآه لما جعله يُقدِم، فإن ذلك أيضاً من الطيرة، وهي نوع من أنواع التأثيرات الخفية على القلوب، وذلك ضرب من السحر.

وأما ((الطرق)) فهو: مأخوذ من وضع طُرقٍ في الأرض وهي الخطوط، فيأتي بخطوط متنوعة ويخطها في الأرض، خطوط كثيرة ليس لها عدد، ثم يبدأ الكاهن الذي يستخدم الخطوط، فيمسح خطاً خطاً أو يمسح خطين خطين بسرعة ثم ينظر ما بقي فيقول هذا الذي بقي يدل على كذا وكذا، هذا الذي بقي يدل على أنك ستغتني، يدل على أنك سيصيبك كذا وكذا، ونحو ذلك.


وهو نوع من أنواع الكهانة، والكهانة ضرب من السحر.

قال هنا: (والطرق الخط يخط بالأرض، والجبت، قال الحسن: رنة الشيطان) وهو من أنواع السحر؛ لأن الشيطان يدعو إلى ذلك بصوته وبعويله.
(وَعَنْ ابنِ عبَّاسَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صلّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ: ((من اقتبس شعبة من النجوم فقد اقتبس شعبةً من السحر زاد ما زاد))

رواه أبو داود بإسناد صحيح) هذا فيه بيان أن تعلّم النجوم تعلّمٌ للسحر .

ويأتي في باب خاص:(باب ما جاء في التنجيم) أنواع تعلّم النجوم وما جعل الله -جل وعلا- النجوم له.

قوله هنا:((من اقتبس شعبة)) يعني: من تعلّم بعضاً من علم النجوم؛ لأن الشعبة هي الطائفة من الشيء، أو جزء من أجزائه، فكل جزء من أجزاء علم النجوم الذي هو علم التأثير، نوع من أنواع السحر.

قال: ((فقد اقتبس شعبةً من السحر زاد ما زاد)) يعني: كلما زاد في تعلم علم النجوم كلما زاد في تعلم السحر، حتى يصل إلى آخر حقيقة علم التأثير كما يسمّونه، فيصبح سحراً وكهانةً على الحقيقة.
ويأتي أن التنجيم منه علم التأثير، وهو: جعل الكواكب والنجوم في حركتها والتقائها وافتراقها وطلوعها وغروبها، مؤثرة في الحوادث الأرضية، أو دالة على ما سيحدث في الأرض، فيجعلونها دالةً على علم الغيب، دالةً على المغيَّبات.
وهذا القدر من السحر؛ لأنه يشترك معه في حقيقته، وهو أنه جعلٌ للتأثير بأمرٍ خفيّ.
قوله: ((من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر)) أنَّ عقد العُقد والنفث فيها من أنواع السحر.
والنفث المقصود به هنا: النفث الذي فيه استعاذة واستعانة بالشياطين، فليس كل نفث في عقدة يعقد السحر، بل لابد أن يكون النفث بأدعية معينة، وَرُقىً شركيّة، وتعويذات، وكلام تحضر الجنّ عند تلاوته، وتخدم هذه العقدة السحرية.
((من عقد عقدة ثم نفث فيها فقد سحر))

على ما كان يتعاطاه الناس المرَدَة في ذلك الزمان، زمان النبي -صلى الله عليه وسلم- من النفث في العقد؛ كما قال جل وعلا: {ومن شر النفاثات في العقد} وهُنَّ السَّواحر.

قال: ((فقد سحر)) لأن الجنّي يخدم هذا السحر بالنفث في العقدة.


وفائدة العقدة عند السحرة:

أنه لا يَنْحلُّ السحر مادامت معقودة.
فينعقد الأمر الذي أراده الساحر بشيئين:
- بالعقدة.

- وبالنفث.


العقدة:

عقدة حبل أو خيط أو نحو ذلك.


وبالنفث:

فيها بالأدعية الشركية، والاستعانة بالشياطين.

ومن الأمور المهمة أن تُعْلَمَ في هذا الباب أنَّ العُقَدَ هذه:

- تارة تكون مرئية واضحة.

- وتارة تكون صغيرة جدّاً.


قال:

((ومن سحر فقد أشرك)) هذا عام؛ لأنه رتَّب جزاءً على فعلٍ بصيغة (مَنْ) فكأنه قال: (كل من سحر فقد أشرك) يعني سَحَرَ بذلك النحو الذي ذُكِرَ، وهو أن يعقد عقدةً ثم ينفث فيها.


((من سحر فقد أشرك))

هذا دليل لما ذكرنا لكم في الباب قبله، أن كل سحرٍ يُعَدُّ من أنواع الشرك؛ لأنه لا يمكن أن يحدث السحر إلا بالنفث في العقد أو باستحضار الجنّي وبعبادة الجنِّ، ونحو ذلك، وهذا شركٌ بالله.


قال: ((ومن تعلق شيئاً وُكِلَ إليه)) هذا مرَّ معنا مثاله، ومعنى هذا الحديث أن القلب إذا تعلق شيئاً، بمعنى أحبَّه ورضيَه وتعلق القلب به فإنه يوكَلُ إليه ويُجعل هو السبب الذي من أجله يَجيءُ نفعُه أو يَجيءُ ضَرُّهُ.

ومعلوم أن كل الأسباب الشركية، تعود على فاعلها أو على الراضي بها بالضرر لا بالنفع، والعبد إذا تخلى عن الله جل وعلا ووكل إلى نفسه، أو وكل إلى غير الله جل وعلا؛ فقد خاب وخسر وضُرَّ أعظم الضرر، فسعادة العبد وعظم صلاح قلبه، وعظم صلاح روحه بأن يكون تعلقه بالله جل وعلا وحده.

وقوله هنا: ((ومن تعلق شيئاً وكل إليه)) فإنه من تعلق بالله فإن الله كافيه.
من تعلق قلبه بالله إنزالاً لحوائجه بالله، ورغباً فيما عند الله، ورهباً مما يخافه ويؤذيه، يعني يؤذي العبد؛ فإن الله جل وعلا كافيه، ومن يتوكل على الله فهو حسبه، وإذا تعلق العبد بغير الله فإنه يوكل إلى ذلك العبد.
والعباد فقراء إلى الله،

والله جل وعلا هو ولي النعمة وولي الفضل: {يا أيها الناس أنتم الفقراء إلى الله والله هو الغني الحميد} فمن أنزل حاجته بالله أفلح، ومن تعلق قلبه بالله أفلح، وأما من تعلق بالخرافات، أو تعلق بالأمور الشركية كالسحر، أو كالذهاب إلى الأولياء، وطلب المدد منهم، وطلب الإغاثة منهم؛ فإنه يوكل إلى المخلوق، ومن وُكِل إلى المخلوق فإنه يضره ذلك أعظم الضرر كما قال جل وعلا: {يدعو لمن ضره أقرب من نفعه}.

قال بعد ذلك: ((وعن ابن مسعودٍ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: ((ألا هل أنبئكم ما العَضْهُ هِيَ النَّمِيمَة القَالَةُ بَيْنَ النَّاسِ))رواه مسلم).


((العضْهُ))

هكذا تُروى في كتب الحديث ((العَضْهُ)) وفي كتب غريب الحديث واللغة، تنطق هكذا ((العِضَه)) هل أنبئكم ما العِضَهْ؟

لأشباهِها في وزنها.

وهي كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم:((النميمة القالة بين الناس)) .

وأصل العَضْهِ في اللغة: يطلق على أشياء ومنها السحر، والنميمةُ، القالة بين الناس: نوع من أنواع السحر، وهي كبيرة من الكبائر ومحرم من المحرمات.
ووجه الشبه بين النميمة وبين السحر،

أن تأثير السحر في التفريق بين المتحابّين، أو في جمع المتفارقين تأثيره على القلوب خفيّ، وهذا عمل النمام، فإنه يفرق بين الأحباب؛ لأجل كلامٍ يسوقه لهذا، وكلام يسوقه لذاك؛ فيفرق بين القلوب، ويجعل العداوة والبغضاء بين قلب هذا وهذا.


فحقيقة النميمة:

كما قال -جل وعلا- عن السحر: {فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه}والنميمة:هي القالة بين الناس، وهذا كما هو ظاهر من أنواع السحر، وهذا النوع محرم؛ لأنه كبيرة من الكبائر، لأن النميمة نوع من أنواع الكبائر، والكبائر من أعظم الذنوب العملية.

قال: (ولهما عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن من البيان لسحراً))).


((إن من البيان لسحراً))

قال عن البيان: إنَّ منه ما هو سحر.


والمقصود بالبيان هنا:

التبيين عما في النفس بالألفاظ الفصيحة البينة التي تأخذ المسامع والقلوب، فتسحر القلوب، فتقلبُ ربما الحقَّ باطلاً والباطل حقّاً، حتى يغدو ذلك الذي يُعدُّ من أهل البيان والفصاحة، يغدو في قلوب الناس أن ما قاله هو الحق، وأن ما لم يقله أو ردَّه هو الباطل.

وهذا ضربٌ من السحر؛ لأنه تأثير خفي على النفوس بالألفاظ، هذا التأثير الخفي بقلب الحقِّ باطلاً، وبقلب الباطل حقّاً، تأثيره خفيّ كتأثير السحر في الخفاء، ولهذا قال ((إن من البيان لسحراً)).

- والصحيح من أقوال أهل العلم:

أنَّ هذا فيه ذم للبيان، وليس مدحاً له.

قال: ((إن من البيان لسحراً))على جهة الذمّ.

- وبعض أهل العلم يقول:

إنَّ ذاك على جهة المدح؛

لأنه يصل في التأثير إلى أن يؤثر تأثيراً بالغاً كتأثير السحر في النفوس، والتأثير البالغ إذا كان من جهة البيان يقولون: فإنه جائز، وهذا من جهة المدح له، وبيان عِظَمَ تأثيره.

ولكن هذا فيه نظر، والظاهر أنه لما جعل البيان سِحْراً، عَلِمْنا أنه (أراد) ذَمَّهُ، ولهذا أورده الشيخ -رحمه الله- في هذا الباب الذي اشتمل على أنواع من المحرمات.

فالذي يستغل ما آتاه الله -جل وعلا- من اللسان، والبيان، والفصاحة، في قلب الباطل حقاً وفي قلب الحق باطلاً، هذا لاشك أنه من أهل الوعيد، ومذموم على فعله؛ لأن البيان إنما يُقصد به نصرة الحق، لا أن يَجعل ما أبطله الله -جل وعلا- حقّاً في أنفس الناس وفي قلوبهم.

هيئة الإشراف

#7

27 Oct 2008

تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال

قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابُ بيانِ شيءٍ من أنواعِ السِّحرِ

قالَ أحمدُ: حدَّثَنَا مُحَمَّدُ بنُ جعفرَ ثنَا عَوْفٌ عن حيَّانَ بنِ العَلاءِ، حدَّثَنَا قطنُ بنُ قَبيصَةَ عن أبِيهِ أنَّهُ سَمِعَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إنَّ العِيَافَةَ والطّرقَ والطِّيَرَةَ منَ الجِبْتِ))… الخ.
أخرجَهُ
أحمدُ، وأبو داودَ، والنّسائيُّ، وابنُ حبَّانَ، والطَّحاويُّ، والحربيُّ، وأبو عبيدٍ، وعبدُ الرزَّاقِ، وابنُ سعد، وابنُ أبي شيبةَ، والطَّبرانيُّ، والبغويُّ، والدّولابيُّ، والخطيبُ البغداديُّ، وأبو نعيمٍ، والبخاريُّ، والبيهقيُّ، والمزّيُّ.


كلُّهُمْ من طريقِ

عوفٍ عن حيَّانَ بنِ العلاءِ حدَّثَنِي قطنُ بنُ قبيصةَ عن أبيهِ قبيصَةَ بنِ مخارقٍ أنَّهُ سمعَ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ … الحديثُ.
وقعَ في سندِهِ اضطرابٌ شديدٌ؛ وذلك أنَّهُ اختلفَ الرُّواةُ في
شيخِ عوفٍ هذا:
فجاءَ عندَ
أبي داودَ:(حيـَّانُ بنُ العلاءِ).
وجاءَ عندَ
ابنِ حبَّانَ: (حيـَّانُ بنُ مخارقٍ أبو العلاءِ).
وجاءَ عندَ
أحمدَ: (حيـَّانُ أبو العلاءِ).
وجاءَ عندَ
الحربيِّ :(حيـَّانُ بنُ عميرٍ) وجاءَ غيرُ ذلِكَ.
وهذا الاختلافُ يدلُّ على أنَّ الرَّاوي لم يضبطْ، وعدمُ ضبطِهِ دليلٌ على ضعفِهِ.
والحديثُ صحَّحَهُ
ابن حبَّانَ، ورمزَ لصحَّتِهِ السّيوطيُّ، وسكتَ عنه أبو داودَ فهو صالحٌ عندَهُ، وقالَ شيخُ الإِسلامِ ابنُ تيميَّةَ:(إسنادُهُ حسنٌ) وكذلك قالَ النَّوويُّ، وقالَ المصنِّفُ: (إسنادُهُ جيِّدٌ).
قلْتُ:
عوفٌ هذا هو ابنُ أبي جميلةَ الأعرابيُّ العبديُّ البصريُّ، قالَ فيه الحافظُ في (التَّقريبِ): (ثقةٌ).
ورواهُ عنه من الثِّقاتِ الحفَّاظِ أحدَ عشرَ رجلاً، أو أكثرُ، وهم:
روحُ بنُ عبادةَ، ومحمَّدُ بنُ جعفر غندر، عندَ أحمدَ،ويحيى بنُ سعيدِ القطَّانُ، عندَ أحمدَ أيضاً وأبي داودَ، والمعتمرُ بنُ سليمانَ، عندَ النّسائيِّ،وعبدُ اللهِ بنُ المباركِ، عندَ الطَّحاويِّ،ومعمرُ بنُ راشدٍ عندَ عبدِ الرزَّاقِ، والبغويِّ، والخطيبِ البغداديِّ، والطّبرانيِّ،وإسحاقُ الأزرقُ، عندَ أبي عبيدٍ.
ومروانُ بنُ معاويةَ،
عندَ أبي عبيدٍ، أيضاً وابنِ أبي شيبةَ.


وهوذةُ بنُ خليفةَ، عندَ ابنِ سعدٍ، وأبي نعيمٍ، والطَّبرانيِّ، والمزّيِّ.
و
سفيانُ الثَّوريُّ، عندَ الطَّبرانيِّ.
وح
مَّادُ بنُ سلمةَ، عندَهُ أيضاً.
و
حمَّادُ بنُ زيدٍ، عندَ ابنِ حبَّانَ.


وأمَّا

حيَّانُ فالصَّوابُ أنَّهُ ابنُ عميرٍ أبو العلاءِ؛ لوجوهٍ:
الوجهِ الأوَّلِ: أنَّهُ نصَّ عليه هوذةُ بنُ خليفةَ كما عندَ إبراهيمَ الحربيِّ، وهوذةُ قالَ فيه ابنُ أبي حاتمٍ: (قالَ أبو عبدِ اللهِ أحمدُ بنُ حنبلَ: ما أضبطَ هذا الأصمَّ - يعني هوذةَ - عن عوفٍ، أرجو أن يكونَ صدوقاً، سألْتُ أبي عن هوذةَ بنِ خليفةَ فقالَ: صدوقٌ).اهـ.


الوجهِ الثَّانِي:

أنَّهُ نصَّ الحافظُ المزّيُّ، والحافظُ ابنُ حجرٍ في ترجمةِ :(حيـَّانِ بنِ عميرٍ أبي العلاءِ) على أنـَّهُ يروي عن قطنِ بنِ قبيصةَ، ويروي عنه عوفٌ العرابيُّ.


الوجهِ الثَّالثِ:

أنَّ المحشِّي(للتَّاريخِ الكبيرِ)للبخاريِّ نقلَ عن ابنِ أبي حاتمٍ في (الجرحِ والتَّعديلِ) أنَّهُ قالَ: (وقالَ بعضُهُمْ: حيَّانُ بنُ عميرٍ، وقالَ أحمدُ بنُ حنبلَ ويحيى بنُ معينٍ: هو ابنُ عميرٍ - فيما ذكرَهُ أبي عن إسحاقَ بنِ منصورٍ عنهُمَا).
وفي
(تهذيبِ المزّيِّ) ما ملخَّصُهُ كما في (تهذيبِهِ لابنِ حجرٍ) (3/68) … إلى أنْ قالَ: وقالَ إسحاقُ بنُ منصورٍ: عن أحمدَ ويحيى ليسَ هو ابنَ عميرٍ … كذا في الكتابينِ عن ابنِ منصورٍ عن أحمدَ ويحيى (ليسَ هو ابنَ عميرٍ) والـَّذِي في نسختِنَا من كتابِ ابنِ أبي حاتمٍ بدونِ كلمةِ (ليسَ) كما مرَّ، وقد تقدَّمَتْ ترجمةُ حيَّانَ بنِ عميرٍ أبي العلاءِ رقم (205) فلا يبعدُ أنْ يكونَ وقعَ في روايةِ (عن حيـَّانَ أبي العلاء) فتصحـَّفَ فصارَ (عن حيـَّانَ بنِ العلاءِ) واللهُ أعلمُ). اهـ باختصارٍ.


قلْتُ:

مصدرُ قولِ أحمدَ وابنِ معينٍ هذا هو كتابُ (الجرحِ والتَّعديلِ) لابنِ أبي حاتمٍ، وقد جاءَ هكذا: (وقالَ أحمدُ بنُ حنبلَ ويحيى بنُ معينٍ: [ليسَ -4] هو ابنُ عميرٍ، فيما ذكرَهُ أبي عن إسحاقَ بنِ منصورٍ عنهُمَا). اهـ بحروفِهِ.
فجاءَ لفظُ (ليسَ) بينَ حاجزينِ.
ثمَّ عُلِقَ عليهِ برمزِ (م) قالَ محقِّقُهُ العلَّامةُ
عبدُ الرَّحمنِ بنِ يحيى المعلميُّ اليمنيُّ رحمَهُ اللهُ: (إنَّ الكتابَ طُبِعَ عن أصولٍ ثلاثةٍ:


الأصلِ الأوَّلِ:

نسخةُ مرادِ ملا، وقالَ: إنَّها جيّدةٌ ورمزَ لها ب (د).


والأصلِ الثَّاني:

نسخةُ دارِ الكتبِ المصريَّةِ ووصفَهَا بأنَّهَا يكثرُ فيها التَّحريفُ ورمزَ لها ب (م).


والأصلِ الثَّالثِ:

نسخةُ مكتبةِ كوبر يلي، ووصفَهَا بأنَّهَا جيّدةٌ، ورمزَ لها ب (ك).
وقالَ:
(وما وُضِعَ من المتنِ بين حاجزينِ هكذا [ ] فهو زيادةٌ في بعضِ النُّسَخِ، وفي آخرِ الزِّيادةِ رقمٌ يشيرُ إلى الحاشيةِ الَّتِي تتعلَّقُ به واقتصرْتُ في تلكَ الحواشي على قولي مثلاً (من م) أعنـِي أنَّهَا زيادةٌ من المصريَّةِ…) الخ اهـ.
وبهذا اتَّضَحَ أنَّ لفظَ (ليسَ) في قولِ
أحمدَ وابنِ معينٍ زيادةٌ من النّسخةِ المصريَّةِ الموصوفةِ بكثرةِ التَّحريفِ وقد انفردَتْ بهذه الزّيادةِ، فخالفَتِ النُّسختينِ الموصوفتَيْنِ بالجودةِ، حيثُ لم توجَدْ فيهما هذه اللفظةُ.
والموصوفُ بالجودةِ أوثقُ وأضبطُ ممَّا لا يُوصَفُ بها.
وعلى هذا فتكونُ هذه الزِّيادةُ منكرَةٌ لمخالفتِهَا ما هو أوثقُ وأضبطُ وأكثرُ، والعلمُ عندَ اللهِ.
ومن هنا فلا يبعدُ أنْ يكونَ مصدرُ الحافظِ
المزّيِّ، والحافظِ ابنِ حجرٍ، هو هذه النُّسخةُ المصريَّةُ.
وأمَّا ما جاء من أنَّهُ ابنُ مخارقٍ، كما عندَ
ابنِ حبَّانَ فلم يظهرْ توجيهُهُ، اللهمَّ إلا أن يكونَ وهماً من إبراهيمَ بنِ الحجَّاجِ السَّامي، فقدْ ذكرَ الحافظُ في (التَّقريبِ)(أنَّهُ ثقةٌ يَهِمُ قليلاً) واللهُ أعلمُ.


الحاصلُأنَّ حيَّانَ راويَ هذا الحديثِ هو ابنُ عميرٍ أبو العلاءِ، وقد وثَّقَهُ النّسائيُّ وابنُ سعدٍ وابنُ حبَّانَ كما في ترجمتِهِ من (تهذيبِ التَّهذيبِ).
وعليهِ فالحديثُ صحيحُ الإِسنادِ، والعلمُ عندَ اللهِ.
قالَ
المصنِّفُ رحمَهُ اللهُ: وللنّسائيِّ من حديثِ أبي هريرةَ((من عقدَ عقدةً ثمَّ نفثَ فيها فقدْ سَحَرَ، ومن سَحَرَ فقدْ أشرَكَ، ومن تعلَّقَ شيئاً وُكِلَ إليهِ))قلـْتُ: تقدَّمَ تخريجُهُ في بابِ ما جاءَ في الرُّقى والتَّمائمِ وأنَّ إسنادَهُ حسنٌ.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#8

27 Oct 2008

العناصر


مناسبة باب (بيان شيء من أنواع السحر) لكتاب التوحيد


مناسبة باب (بيان شيء من أنواع السحر) لما قبله

- بيان أقسام السحر
- بيان معنى قوله (أنواع)
- بيان الغرض من إيراد هذا الباب


شرح حديث قبيصة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ

- تخريج حديث قبيصة

- ترجمة الإمام أحمد بن حنبل
- ترجمة محمد بن جعفر
- ترجمة عوف بن أبي جميلة
- ترجمة حيان بن العلاء
- ترجمة قطن بن قبيصة
- ترجمة قبيصة
- معنى (العيافة)
- معنى (الطَّرق)
- بيان معنى (الطيرة) وأصلها، ووجوب ترك التطير
- بيان الفرق بين الطيرة والعيافة
- معنى قوله: (من الجبت)
- وجه كون العيافة والطرق والطيرة من السحر
- معنى قول الحسن: (رنة الشيطان)
- ترجمة الإمام النسائي
- الجمع بين ما ورد من أن نبياً كان يخط، وبين قوله في هذا الحديث (إن العيافة والطرق.. من الجبت)
- في حديث قبيصة دليل على تحريم التنجيم

الفرق بين أولياء الله وأعدائه في حصول خوارق العادات


بيان الفرق بين الكرامة وبين الاستدراج والأحوال الشيطانية


شرح حديث ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (من اقتبس شعبة من النجوم...) الحديث

- تخريج حديث ابن عباس

- مناسبة الحديث للباب
- معنى قوله: (من اقتبس)
- معنى قوله: (شعبة من النجوم)
- المراد بقوله: (فقد اقتبس شعبة من السحر)
- المعاني المحتملة في قوله (زاد ما زاد)
- بيان أقسام علم النجوم

شرح حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ (من عقد عقدة...) الحديث

- بيان درجة حديث (من عقد عقدة..) الحديث

- مناسبة الحديث للباب
- بيان معنى النفث، ولماذا يستخدمه السحرة
- معنى قوله: (من تعلق شيئاً وُكِل إليه)، ومناسبته لما قبله
- السحر لايكون إلا بشرك

شرح حديث ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (ألا هل أنبئكم ما العضه...) الحديث

- مناسبة حديث (ألا هل أنبئكم..) لباب (بيان شيء من أنواع السحر)

- معنى (العضه) في قوله (ألا هل أنبئكم ما العضه؟)
- معنى قوله (القالة بين الناس)
- بيان حكم النميمة، وقبحها، وخطرها
- وجه كون النميمة من السحر

شرح حديث ابن عمر رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: (إن من البيان لسحراً)

- مناسبة حديث (إن من البيان لسحراً) للباب

- هل المراد من الحديث ذم البيان أو مدحه
- بيان أنواع البيان
- معنى السحر لغة
- وجه كون البيان من السحر

شرح مسائل الباب.