الدروس
course cover
باب ما جاء في السحر
26 Oct 2008
26 Oct 2008

4507

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم السادس

باب ما جاء في السحر
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

4507

0

0


0

0

0

0

0

باب ما جاء في السحر

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ فِي السِّحْرِ

وَقَوْلِ اللهِ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}[الْبَقَرَةُ:102].
وَقَوْلِهِ:
{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}[النِّسَاءُ:51].
قَالَ
عُمَرُ: ( الْجِبْتُ السِّحْرُ، وَالطَّاغُوتُ الشَّيْطَانُ).
وَقَالَ
جَابِرُ: (الطَّوَاغِيتُ كُهَّانٌ كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ، فِي كُلِّ حَيٍّ وَاحِدٌ).
عَنْ
أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟
قَالَ:
((الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ)).
وَعَنْ
جُنْدَبٍ مَرْفُوعًا: ((حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ)) رَوَاهُ التَّرْمَذِيُّ وَقَالَ: (الصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ).
وَفِي
(صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ) عَنْ بَجَالَةَ بْنِ عَبَدَةَ قَالَ: ( كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَسَاحِرَةٍ، قَالَ: فَقَتَلْنَا ثَلاَثَ سَوَاحِرَ ).

(وَصَحَّ عَنْ حَفْصَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا أَنَّهَا أَمَرَتْ بِقَتْلِ جَارِيةٍ لَهَا سَحَرَتْهَا، فَقُتِلَتْ).

 وَكَذَاَ صَحَّ عَنْ جُنْدَبٍ.
قَالَ
أَحْمَدُ: (عَنْ ثَلاَثَةٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم).

فِيهِ مَسَائِلُ:

الأُولَى: تَفْسِيرُ آيَةِ الْبَقَرَةِ.

الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ النِّسَاءِ.

الثَّالِثَةُ: تَفْسِيرُ الْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمَا.

الرَّابِعَةُ: أَنَّ الطَّاغُوتَ قَدْ يَكُونُ مِنَ الْجِنِّ، وَقَدْ يَكُونُ مِنَ الإِنْسِ.

الْخَامِسَةُ: مَعْرِفَةُ السَّبْعِ الْمُوبِقَاتِ الْمَخْصُوصَاتِ بِالنَّهْيِ.

السَّادِسَةُ: أَنَّ السَّاحِرَ يَكْفُرُ.

السَّابِعَةُ: أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلاَ يُسْتَتَابُ.

الثَّامِنَةُ: وُجُودُ هَذَا فِي الْمُسْلِمِينَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ فَكَيْفَ بَعْدَهُ؟

هيئة الإشراف

#2

27 Oct 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)

السِّحْرُ في اللُّغَةِ:

عِبارةٌ عمَّا خَفِيَ ولَطُفَ سَبَبُهُ، ولِهَذا جاءَ في الحديثِ: ((إِنَّ مِنَ الْبَيَانِ لَسِحْرًا)) وسُمِّيَ السَّحُورُ سَحُورًا؛ لأنَّهُ يَقَعُ خَفِيًّا آخِرَ الليلِ، وقالَ تعالى: {سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ}[الأعراف: 115] أيْ: أَخْفَوا عنهُم عِلْمَهم.
ولَمَّا كانَ السِّحْرُ مِنْ أنواعِ
الشِّرْكِ؛ إذْ لا يَأْتِي السِّحْرُ بِدُونِهِ؛ ولِهَذا جاءَ في الحديثِ: ((وَمَنْ سَحَرَ فَقَدْ أَشْرَكَ)) أَدْخَلَهُ المُصَنِّفُ في (كِتابِ التَّوحيدِ)؛ لِيُبَيِّنَ ذلكَ تَحْذِيرًا منهُ، كَمَا ذَكرَ غَيْرَهُ مِنْ أنواعِ الشِّركِ.
قالَ
أبو مُحَمَّدٍ الْمَقْدِسِيُّ في (الكافِي): (السِّحرُ عَزائِمُ وَرُقًى وعُقَدٌ، يُؤَثِّرُ في القلوبِ والأبدانِ فيُمْرِضُ ويَقْتُلُ، ويُفَرِّقُ المَرْءَ وزَوْجَتَهُ، ويَأْخُذُ أَحَدَ الزوجيْنِ عنْ صاحبِهِ، قالَ اللهُ تعالى: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}[البقرة:102].
وقالَ سُبْحَانَهُ:
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} إلى قولِهِ: {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ}[الفلق:1-4] يَعْنِي: السَّوَاحِرَ اللاَّتِي يَعْقِدْنَ في سِحْرِهنَّ ويَنْفُثْنَ في عُقَدِهنَّ، وَلَوْلا أَنَّ لِلسِّحْرِ حَقِيقةً لمْ يَأْمُرْ بالاستعاذةِ منهُ)
.
ورَوَتْ
عائِشةُ أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إليهِ أنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيءَ وما يَفْعَلُهُ، وأَنَّهُ قالَ لها ذاتَ يومٍ:((أَتَانِي مَلَكَانِ فَجَلَسَ أَحَدُهُمَا عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلَيَّ فَقَالَ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟
قَالَ: مَطْبُوبٌ، قَالَ: مَنْ طَبَّهُ؟
قَالَ: لَبِيدُ بْنُ أَعْصَمَ، فِي مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ، فِي جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ، فِي بِئْرِ ذِي أَرْوَانَ
))
رَواهُ البُخارِيُّ، انْتَهَى.
وقدْ زَعَمَ قَوْمٌ مِن
المُعْتَزِلةِ وغيرِهم أنَّ السِّحْرَ تَخْيِيلٌ لا حَقيقةَ لَهُ، وهذا ليسَ بِصَحِيحٍ على إِطْلاقِهِ، بلْ مِنْهُ ما هوَ تَخْيِيلٌ، ومِنْهُ ما لَهُ حَقيقةٌ، كَمَا يُفْهَمُ مِمَّا تَقَدَّمَ.


(2)

أَيْ: ولقَدْ عَلِمَ اليهودُ الَّذِينَ اسْتَبْدَلُوا السِّحْرَ عنْ مُتابَعةِ الرُّسلِ والإيمانِ باللهِ

{لَمَنِ اشْتَرَاهُ} أي: اسْتَبْدَلَ ما تَتْلُو الشَّياطِينُ بِكِتابِ اللهِ ومُتابَعةِ رُسلِهِ، {مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}.
قال
ابنُ عَبَّاسٍ: (مِنْ نَصِيبٍ).
قالَ
قَتادةُ: (وقدْ عَلِمَ أهلُ الكتابِ فيَما عَهِدَ اللهُ إليهِم أنَّ السَّاحِرَ لا خَلاقَ لهُ في الآخِرةِ).
وقالَ
الحَسَنُ: (ليسَ لهُ دِينٌ).
فدَلَّت الآيَةُ على تَحْرِيمِ السِّحْرِ، وهُوَ كذلكَ، بلْ هُوَ مُحَرَّمٌ في جميعِ أَدْيانِ الرُّسلِ عليهم السَّلامُ، كما قالَ تعالى:
{وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}[طه:19].
واسْتَدَلَّ بها بعضُهم على كُفْرِ السَّاحرِ لِعُمومِ قولِهِ:
{لَمَنِ اشْتَرَاهُ}، يَدُلُّ عليهِ قولُهُ: {فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}[البقرة:102].
وقدْ نَصَّ أَصْحابُ
أحمدَ على أنَّهُ يَكْفُرُ بِتَعَلُّمِهِ وتَعْلِيمِهِ.
ورَوَى
عبدُ الرَّزَّاقِ، عنْ صَفْوَانَ بنِ سُلَيْمٍ، قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ تَعَلَّمَ شَيْئًا مِنَ السِّحْرِ؛ قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا، كَانَ آخِرَ عَهْدِهِ مِنَ اللهِ)) وهذا مُرسَلٌ.
واخْتَلَفُوا
هَلْ يَكْفُرُ السَّاحِرُ أوْ لا؟


فذَهَبَ طائفةٌ مِن السَّلَفِ إلى أنَّهُ يَكْفُرُ.
وبهِ قالَ مالكٌ، وأَبُو حَنِيفةَ، وأَحْمَدُ.
قالَ أصحابُهُ: (إلاَّ أنْ يَكُونَ سِحرُهُ بأَدْوِيَةٍ وتَدْخِينٍ وسَقْيِ شَيءٍ يَضُرُّ فلا يَكْفُرُ).
وقِيلَ:
لا يَكْفُرُ، إلاَّ أنْ يَكونَ في سِحرِهِ شِرْكٌ فيَكْفُرُ، وهذا قولُ الشَّافِعيِّ وجماعتِهِ.
قالَ
الشَّافِعيُّ رَحِمَهُ اللهُ: (إذا تَعَلَّمَ السِّحْرَ قُلْنا لَهُ: صِفْ لنا سِحْرَكَ، فإنْ وَصَفَ ما يُوجِبُ الكُفْرَ؛ مثلَ ما اعْتَقَدَ أَهْلُ بابِلَ مِن التَّقَرُّبِ إلى الكَوَاكبِ السبعةِ، وأنَّها تَفْعَلُ ما يُلْتَمَسُ مِنها، فهوَ كافِرٌ، وإنْ كانَ لا يُوجِبُ الكُفْرَ فإن اعْتَقَدَ إِباحتَهُ كَفَرَ).
وعنْدَ التَّحقيقِ ليسَ بينَ القولَيْنِ اخْتِلافٌ؛ فإنَّ مَنْ لمْ يَكْفُرْ لِظَنِّهِ أنَّهُ يَتَأَتَّى بدونِ الشِّرْكِ، وليسَ كذلكَ، بلْ لا يَأْتِي السِّحرُ الَّذي مِنْ قِبَلِ الشَّياطِينِ إلاَّ بالشِّرْكِ وعِبادةِ الشيطانِ والكواكبِ؛ ولِهذا سَمَّاهُ اللهُ كُفْرًا في قولِهِ:
{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}، وقولِهِ: {وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا}.
وفي حديثٍ مَرْفوعٍ رَوَاهُ
رَزِينٌ: ((السَّاحِرُ كَافِرٌ)).
وقالَ
أبو العالِيَةِ: (السِّحْرُ مِن الكُفْرِ).
وقال
ابنُ عَبَّاسٍ في قولِهِ:( {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}.


وذلكَ أنَّهما عَلَّمَاهُ الخيرَ والشَّرَّ، والكفرَ والإيمانَ، فعَرَفَ أنَّ السِّحرَ مِن الكُفْرِ).


وقال
ابنُ جُرَيْجٍ في الآيَةِ: (لا يَجْتَرِئُ على السِّحرِ إلاَّ الكافرُ).


وأمَّا سِحرُ الأَدْوِيَةِ والتَّدْخِينِ ونحوُهُ فليسَ بسِحْرٍ،

وإنْ سُمِّيَ سِحرًا فعَلَى سَبِيلِ المَجازِ، كتَسْميَةِ القولِ البليغِ والنَّمِيمةِ سِحرًا، ولكنَّهُ يَكونُ حَرامًا لِمَضَرَّتِهِ، يُعَزَّرُ مَنْ يَفْعَلُهُ تَعْزِيرًا بَلِيغًا.


(3)

تَقَدَّمَ الكلامُ عليها في البابِ الذي قبلَهُ، ووَجْهُ إِيرادِها هنا ظاهرٌ؛ لأَنَّ السِّحرَ مِن الجِبْتِ، كَمَا قالَ عُمَرُ بنُ الخطَّابِ.


(4)

هذا الأَثَرُ رَواهُ ابنُ أَبِي حاتمٍ وغيرُهُ، وفيهِ معرفةُ الجِبْتِ والطَّاغُوتِ والفرقُ بينَهُما.


(5)

هذا الأَثَرُ رَوَاهُ ابنُ أَبِي حاتمٍ بنحوِهِ مُطَوَّلاً عنْ وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ قالَ: سَأَلْتُ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ عن الطَّوَاغِيتِ التي كانُوا يَتَحَاكَمُونَ إليها؟
قالَ:
(إنَّ في جُهَيْنَةَ واحِدًا، وفي أَسْلَمَ واحدًا، وفي هِلالٍ واحدًا، وفي كُلِّ حيٍّ واحدًا، وهُمْ كُهَّانٌ تَنْزِلُ عليهم الشَّياطِينُ).
قولُهُ: (قالَ جابرٌ) هوَ
ابنُ عبدِ اللهِ بنِ عَمْرِو بنِ حَرامٍ أَبُو عبدِ اللهِ الأَنْصارِيُّ ثُمَّ السَّلَمِيُّ بفتحتَيْنِ، صَحابيٌّ جَليلٌ ابنُ صَحابيٍّ جَليلٍ، مُكْثِرٌ عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ماتَ بالمدينةِ بعدَ السبعينَ، وقدْ كُفَّ بَصَرُهُ، ولَهُ أربعٌ وتسعونَ سنةً.
قولُهُ: (الطَّوَاغِيتُ كُهَّانٌ) إلى آخِرِهِ، المرادُ بهذا أنَّ الكُهَّانَ من الطواغيتِ، لا أنَّهم الطواغيتُ لا غيرَ.
وقولُهُ: (كَانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِم الشيطانُ) أَرادَ الجِنْسَ، لا الشيطانَ الذي هوَ إِبْلِيسُ فقطْ، بلْ تَتَنَزَّلُ عليهم الشياطينُ ويُخاطِبُونَهم ويُخْبِرُونَهم بِبَعضِ الغَيْبِ مِمَّا يَسْتَرِقُونَهُ من السَّمْعِ، فَيَصْدُقونَ مرَّةً ويَكْذِبُونَ مِائةً.
قولُهُ: (في كلِّ حيٍّ واحدٌ) الحيُّ: واحدُ الأحياءِ، وهم القبائلُ؛ أيْ: في كلِّ قبيلةٍ مِنْ قبائلِ العربِ كاهنٌ يَتَحاكَمُونَ إليهِ، ويَسْأَلُونَهُ عن الغيبِ.
وكذلكَ كانَ الأمرُ قَبْلَ مَبْعَثِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأَبْطَلَ اللهُ ذلكَ بالإسلامِ، وحُرِسَت السَّماءُ بالشُّهُبِ.
ومُطابَقةُ هذا للتَّرْجمةِ ظاهرٌ منْ جِهةِ أنَّ السَّاحرَ طاغوتٌ مِن الطواغيتِ؛ إذا كانَ هذا الاسمُ يُطْلَقُ على الكاهنِ فالسَّاحِرُ أَوْلَى؛ لأنَّهُ أَشَرُّ وأَخْبَثُ.


(6)

هكذا أَوْرَدَ المُصَنِّفُ هذا الحديثَ غيرَ مَعْزُوٍّ، وقدْ رَوَاهُ البُخارِيُّ ومُسْلِمٌ.
قولُهُ: (اجْتَنِبُوا السَّبْعَ) أي: ابْعُدُوا، وهوَ أَبْلَغُ مِنْ: لا تَفْعَلُوا؛ لأنَّ نَهْيَ القُرْبانِ أَبْلَغُ منْ نَهْيِ المُباشَرةِ، ذَكَرَهُ
الطِّيبِيُّ.


قولُهُ: (السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ) بمُوَحَّدةٍ وقافٍ؛ أي: المُهْلِكاتِ، وسُمِّيَت الكَبائِرُ مُوبِقاتٍ؛ لأنَّها تُهْلِكُ فاعلَها في الدُّنيا بِمَا يَتَرَتَّبُ عليها من العُقوباتِ، وفي الآخِرَةِ من العَذابِ.


قُلْتُ:

هكذا ثَبَتَ في هذهِ الرِّوايَةِ عن السَّبعِ المُوبِقَاتِ.
وكذلكَ في كِتابِ
عَمْرِو بنِ حَزْمٍ الذي أَخْرَجَهُ النَّسَائيُّ، وابنُ حِبَّانَ في (صحيحِهِ) والطَّبَرانِيُّ منْ طَرِيقِ سُلَيْمانَ بنِ داودَ، عن الزُّهْرِيِّ، عنْ أَبِي بَكْرِ بنِ مُحَمَّدِ بنِ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ، عنْ أَبِيهِ، عنْ جَدِّهِ قالَ: (كَتَبَ رَسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كِتابَ الفَرائضِ والدِّياتِ والسُّنَنِ، وبَعَثَ بهِ معَ عَمْرِو بنِ حَزْمٍ إلى اليمنِ … الحديثَ بطولِهِ.


وفيهِ:

وكَانَ فِي الكِتابِ: ((وَإِنَّ أَكْبَرَ الْكَبَائِرِ الشِّرْكُ)) فذَكَرَ مثلَ حديثِ أَبِي هُرَيْرَةَ سَواءً.
وأَخْرَجَهُ
البزَّارُ وابنُ المُنْذِرِ منْ طريقِ عَمْرِو بنِ أَبِي سَلَمَةَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ عنْ أَبِيهِ، عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَفَعَهُ: ((الْكَبَائِرُ: الشِّرْكُ بِاللهِ وَقَتْلُ النَّفْسِ)) الحديثَ، وذكَرَ بَدَلَ السِّحْرِ الانْتِقالَ إلى الأَعْرَابيَّةِ بعدَ الهِجْرةِ، وكذلكَ في حديثٍ عندَ الطَّبَرانِيِّ.
وقالَ
عبدُ الرَّزَّاقِ: أَنْبَأْنَا مَعْمَرٌ، عن الحَسَنِ قالَ: ((الْكَبَائِرُ الإِشْرَاكُ بِاللهِ)) فَذَكَرَ مِثْلَ الأَوَّلِ سَواءً، إِلاَّ أَنَّهُ قَالَ: ((الْيَمِينُ الفَاجِرَةُ)) بدلَ السِّحْرِ.
وفي حديثِ
ابنِ عُمَرَ عندَ البُخارِيِّ في (الأَدَبِ المُفْرَدِ)، والطَّبَريِّ في (التَّفْسِيرِ)، وعبدِ الرَّزَّاقِ مَرْفوعًا ومَوْقوفًا قالَ: ((الْكَبَائِرُ تِسْعٌ)) فَذَكَرَ السَّبْعَ المَذْكُورةَ وزَادَ: ((وَالإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ)).
وأَخَرَجَ
إِسْماعِيلُ القاضِي بسَنَدٍ صحيحٍ إلى سَعِيدِ بنِ المُسَيِّبِ قالَ: (هُنَّ عَشْرٌ) فَذَكَرَ السَّبْعَ التي في الأصلِ وزادَ: (عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، وَالْيَمِينُ الْغَمُوسُ، وَشُرْبُ الْخَمْرِ)ولابنِ أَبِي حاتمٍ عنْ عَلِيٍّ قالَ: (الكَبائرُ …) فذَكَرَ السَّبْعَ إلاَّ مالَ اليَتِيمِ.
وزَادَ:
(العُقوقَ والتَّعَرُّبَ بعدَ الهِجْرةِ وفِراقَ الجماعةِ ونَكْثَ الصَّفْقَةِ).


وللطَّبَرانِيِّ

عنْ أَبِي أُمَامَةَ أنَّهم تَذَاكَرُوا الكبائرَ فَقَالُوا: (الشِّرْكُ، ومالُ اليَتيمِ، والفِرارُ من الزَّحْفِ، والسِّحْرُ، والعُقوقُ، وقَوْلُ الزُّورِ، والغُلُولُ، والرِّبا؛ فقالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((فَأَيْنَ تَجْعَلُونَ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلاً؟)).
وقدْ جاءَ في أحاديثَ غيرِ ما ذَكَرْنَا جُملةٌ مِن الكبائرِ؛ منها اليَمينُ الغَمُوسُ، وشَهادةُ الزُّورِ، والأَمْنُ مِنْ مَكْرِ اللهِ، والقُنوطُ منْ رَحمةِ اللهِ، وسُوءُ الظَّنِّ باللهِ، والزِّنا، والسَّرِقةُ، وغيرُ ذلكَ.
قالَ
الحافظُ: (ويُحْتَاجُ عندَها إلى الجوابِ عن الحِكْمةِ في الاقتصارِ على سَبْعٍ، ويُجابُ بأنَّ مَفْهومَ العددِ ليسَ بِحُجَّةٍ، وهوَ جوابٌ ضعيفٌ، أوْ بأنَّهُ أَعْلَمَ أوَّلاً بالمَذْكُوراتِ، ثُمَّ أَعْلَمَ بما زادَ، فيَجِبُ الأَخْذُ بالزائدِ، أوْ أنَّ الاقتصارَ وَقَعَ بحَسَبِ المَقامِ بالنِّسبةِ للسائلِ، أوْ مَنْ وَقَعَتْ لهُ واقِعةٌ، ونَحْوِ ذلكَ).
وقدْ أَخْرَجَ
الطَّبَرِيُّ وإسماعيلُ القاضِي عن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ قِيلَ لهُ: الكبائرُ سَبْعٌ؟
فقالَ:
(هُنَّ أَكْثَرُ مِنْ سَبْعٍ).
وفي رِوايَةٍ عنهُ:
(هيَ إلى السبعينَ أَقْرَبُ).
وفي رِوايَةٍ:
(إلى السَّبْعِمِائةِ).
وإذا تَقَرَّرَ ذلكَ عُرِفَ فَسادُ مَنْ عَرَّفَ الكبيرةَ بأنَّها ما وَجَبَ فيها الحدُّ؛ لأنَّ أَكْثَرَ المَذْكُوراتِ لا يَجِبُ فيها الحَدُّ، انْتَهَى، وسيَأْتِي مَزِيدٌ لِذلكَ إنْ شاءَ اللهُ.
قولُهُ: (قالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ) هوَ أَنْ يَجْعَلَ للهِ نِدًّا يَدْعُوهُ كَمَا يَدْعُو اللهَ، ويَرْجُوهُ كَمَا يَرْجُو اللهَ، ويَخافُهُ كَمَا يَخافُ اللهَ، وبَدَأَ بهِ لأنَّهُ أَعْظَمُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بهِ، كَمَا في
(الصحيحَيْنِ) عن ابنِ مَسْعودٍ: سَأَلْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عندَ اللهِ؟ قالَ: ((أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)).
قولُهُ: (والسِّحْرُ) تَقَدَّمَ معناهُ، وهذا وَجْهُ إيرادِ المصنِّفِ لهذا الحديثِ في البابِ.
قولُهُ: (وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ) أيْ: حَرَّمَ قَتْلَها (إِلاَّ بِالْحَقِّ) أيْ: بِفَعْلٍ مُوجِبٍ لِلقَتْلِ، كقَتْلِ المشركِ المُحارِبِ، والنَّفسِ بالنَّفسِ، والزَّاني بعدَ الإِحْصانِ، كما قالَ تعالى:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا}[النساء:92].
وسواءٌ في ذلكَ القَتْلُ عَمْدًا أوْ شِبْهُ عَمْدٍ، كما صَرَّحَ بهِ طائفةٌ من الشافعيَّةِ، بخِلافِ قَتْلِ الخَطَأِ؛ فإنَّهُ لا كبيرةٌ ولا صغيرةٌ؛ لأنَّهُ غيرُ مَعْصيَةٍ.


قُلْتُ:

ويَلْتَحِقُ بذلكِ قتلُ المُعَاهَدِ، كما صَحَّ الحديثُ: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يَرُحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ …)) الحديثَ.
قولُهُ: (وَأَكْلُ الرِّبَا) أيْ: تَنَاوُلُهُ بأيِّ وجهٍ كانَ، كما قالَ تعالى:
{الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ}، إلى قولِهِ: {وَمَنْ عَادَ فَأُولَـئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}[البقرة:75].
قالَ
ابنُ دَقِيقِ العِيدِ: (وهوَ مُجَرِّبٌ لسُوءِ الخاتِمةِ، نَعوذُ باللهِ منْ ذلكَ).
قولُهُ: (وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ) يَعْنِي: التَّعَدِّي فيهِ.
وعَبَّرَ بالأكلِ لأنَّهُ أَهَمُّ وُجوهِ الانْتِفاعِ، كما قالَ تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء:10].
قولُهُ: (وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ) أي: الإِدْبارُ منْ وُجوهِ الكُفَّارِ وَقْتَ ازْدِحامِ الطائفتَيْنِ في القِتالِ، وإنَّما يَكونُ كبيرةً إذا فَرَّ إلى غيرِ فِئَةٍ، أوْ غيرَ مُتَحَرِّفٍ لِقِتالٍ، كما قالَ تعالى:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ}[الأنفال:15].
قولُهُ: (وَقَذْفُ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلاَتِ الْمُؤْمِنَاتِ) هُوَ بفَتْحِ الصَّادِ: المَحْفُوظَاتُ مِن الزِّنَا، وبكَسْرِهَا: الحافِظاتُ فُروجَهُنَّ منهُ.


والمرادُ الحَرَائِرُ العَفِيفاتُ،

ولا يُخْتَصُّ بالمُتَزَوِّجاتِ، بلْ حُكْمُ البِكْرِ كذلكِ بالإجماعِ كَمَا ذَكَرَهُ الحافظُ، إلاَّ إنْ كانَتْ دونَ تسعِ سنينَ، والمرادُ رَمْيُهِنَّ بزِنًا أوْ لِوَاطٍ.
و(الغافِلاتُ) أيْ: عن الفَوَاحشِ وما رُمِينَ بِهِ، لا خَبَرَ عِنْدَهُنَّ منْ ذلكَ؛ فهوَ كِنايَةٌ عن البَرِيئاتِ؛ لأنَّ الغافِلَ بَرِيءٌ عمَّا بُهِتَ بهِ من الزِّنا، والمُؤْمِناتُ؛ أيْ: باللهِ تعالى، احْتِرازًا عنْ قَذْفِ الكافِراتِ؛ فإنَّهُ من الصَّغائرِ.


(7)

هذا الحديثُ رَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ كَمَا قالَ المُصنِّفُ منْ طريقِ إسماعيلَ بنِ مُسْلِمٍ المَكِّيِّ، وقالَ بعدَ أنْ رَوَاهُ: لا نَعْرِفُهُ مَرْفُوعًا إلاَّ منْ هذا الوجهِ، وإسماعيلُ بنُ مُسْلِمٍ المَكِّيُّ يُضَعَّفُ في الحديثِ منْ قِبَلِ حِفْظِهِ، وإسماعيلُ بنُ مُسْلِمٍ العَبْدِيُّ البَصْرِيُّ، قالَ وَكِيعٌ: هوَ ثِقةٌ.
ويُرْوَى عن
الحَسَنِ أيضًا، والصحيحُ عنْ جُنْدُبٍ مَوْقوفٌ، انْتَهَى.
ورَوَاهُ أيضًا
الدَّارَقُطْنِيُّ والبَيْهَقِيُّ والحاكمُ وقالَ: (صَحِيحٌ غَرِيبٌ).
وقالَ
التِّرْمِذِيُّ في (الْعِلَلِ): (سَأَلْتُ عنهُ مُحَمَّدًا، يَعْنِي: البُخارِيَّ، فقالَ: هذا لا شَيْءَ، وإسماعيلُ ضَعِيفٌ جِدًّا).
وقالَ
الذَّهَبيُّ في (الكَبائِرِ): (إِنَّهُ مِنْ قَوْلِ جُنْدُبٍ، وأَشَارَ مُغْلَطَايْ إلى أنَّهُ وإنْ كانَ ضَعِيفًا يَتَقَوَّى بكَثْرَةِ طُرُقِهِ).
وقالَ:
(خَرَّجَهُ جَمْعٌ؛ منهم البَغَوِيُّ الكَبِيرُ، والصغيرُ، والطَّبَرانِيُّ، والبزَّارُ، ومَنْ لا يُحْصَى كَثْرَةً).
قولُهُ: (عنْ جُنْدُبٍ) ظاهرُ صَنيعِ
الطَّبَرانيِّ في (الكَبِيرِ) أنَّهُ جُنْدُبُ بنُ عبدِ اللهِ البَجَلِيِّ، لا جُنْدُبُ الخيرِ الأَزْدِيُّ قاتِلُ السَّاحرِ؛ فإنَّهُ رَوَاهُ في (تَرْجَمةِ) جُنْدُبٍ الْبَجَلِيِّ منْ طريقِ خالدٍ العبدِ، عن الحَسَنِ عنْ جُنْدُبٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وذَكَرَهُ، وخالدٌ العَبْدُ ضَعِيفٌ.
قالَ
الحافظُ: (والصَّوَابُ أنَّهُ غَيْرُهُ؛ فقدْ رَوَاهُ ابنُ قانِعٍ والحَسَنُ بنُ سُفْيانَ منْ وجهَيْنِ؛ عن الحَسَنِ عنْ جُنْدُبِ الخيرِ أنَّهُ جاءَ إلى ساحرٍ فَضَرَبَهُ بالسَّيْفِ حتَّى ماتَ وقالَ: سَمِعْتُ رَسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقولُ، فذَكَرَهُ).
و
جُنْدُبُ الخيرِ هوَ جُنْدُبُ بنُ كَعْبٍ.


وقِيلَ:

جُنْدُبُ بنُ زُهَيْرٍ.


وقِيلَ:

هُمَا واحدٌ، كَمَا قالَهُ ابنُ حِبَّانَ، أبو عبدِ اللهِ الأَزْدِيُّ الغامِدِيُّ، صَحابيٌّ.
ورَوَى
ابنُ السَّكَنِ منْ حديثِ بُرَيْدةَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: ((يُضْرَبُ ضَرْبَةً؛ فَيَكُونُ أُمَّةً وَحْدَهُ)).
قولُهُ: (حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ) رُوِيَ بالهاءِ والتاءِ، وكلاهُما صحيحٌ. وبهذا الحديثِ أَخَذَ
أحمدُ ومالكٌ وأَبُو حَنِيفةَ فقَالُوا: (يُقْتَلُ السَّاحرُ).
ورُوِيَ ذلكَ عَنْ
عُمَرَ، وعُثْمانَ، وابنِ عُمَرَ، وحَفْصَةَ، وجُنْدُبِ بنِ عبدِ اللهِ، وجُنْدُبِ بنِ كَعْبٍ، وقَيْسِ بنِ سَعْدٍ، وعُمَرَ بنِ عبدِ العزيزِ.


ولمْ يَرَ الشافِعيُّ عليهِ القتلَ بمُجَرَّدِ السِّحْرِ، إلاَّ إنْ عَمِلَ في سِحْرِهِ ما يَبْلُغُ الكُفْرَ.
وبهِ قالَ
ابنُ المُنْذِرِ، وهوَ رِوَايَةٌ عنْ أحمدَ.


والأوَّلُ أَوْلَى لِلحديثِ،

ولأَِثَرِ عُمَرَ الذي ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، وعَمِلَ بهِ النَّاسُ في خِلاَفَتِهِ مِنْ غيرِ نَكِيرٍ، فكانَ إجماعًا.


(8)

هذا الأَثَرُ رَوَاهُ البُخارِيُّ كما ذَكَرَهُ المُصَنِّفُ، لَكِنَّهُ لمْ يَذْكُرْ قَتْلَ السَّحَرةِ. ولفظُهُ: عنْ بَجَالَةَ بنِ عَبَدَةَ قالَ: كُنْتُ كاتبًا لِجَزْءِ بنِ مُعَاوِيَةَ عَمِّ الأَحْنَفِ، فأَتَانا كِتابُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ قبلَ موتِهِ بسنةٍ: (فَرِّقُوا بَيْنَ كُلِّ مَحْرَمٍ مِن الْمَجُوسِ).
ولمْ يَكُنْ
عُمَرُ أَخَذَ الجِزْيَةَ من المَجُوسِ حتَّى شَهِدَ عبدُ الرحمنِ بنُ عَوْفٍ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخَذَها مِنْ مَجُوسِ هَجَرَ.
وعلى هذا؛ فعَزْوُ
المُصَنِّفِ إلى البُخارِيِّ يَحْتَمِلُ أنَّهُ أَرادَ أَصْلَهُ لا لَفْظَهُ.
ورَوَاهُ
التِّرْمِذِيُّ والنَّسائيُّ مُخْتَصَرًا.
ورَوَاهُ
عبدُ الرَّزَّاقِ وأحمدُ وأَبو داودَ والبَيْهَقِيُّ مُطَوَّلاً، ورَوَاهُ القَطِيعيُّ في الجزءِ الثاني مِنْ (فوائدِهِ) بِزِيادةٍ، فقالَ: (حَدَّثَنا أَبُو عَلِيٍّ بِشْرُ بنُ مُوسَى الأَسَدِيُّ، ثَنَا هَوْذَةُ بنُ خَلِيفةَ، ثَنَا عَوْفٌ، عنْ عَمَّارٍ مَوْلَى بَنِي هاشِمٍ، عنْ بَجَالَةَ بنِ عَبَدَةَ قالَ: (كَتَبَ إِلَيْنَا عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ أَنْ أَعْرِضُوا عَلَى مَنْ كَانَ قِبَلَكُم مِن المَجُوسِ أَنْ يَدَعُوا نِكَاحَ أُمَّهَاتِهِمْ وَبَنَاتِهِمْ وَأَخَواتِهِمْ وَيَأْكُلُوا جَمِيعًا، كَيْما نُلْحِقَهُم بِأَهْلِ الكِتَابِ، ثُمَّ اقْتُلُوا كُلَّ كَاهنٍ وَسَاحرٍ) قُلْتُ: وإسنادُهُ حَسَنٌ).
قولُهُ: (عنْ بَجَالةَ) هوَ بفتحِ الموحَّدةِ بعدَها جِيمٌ،
ابنِ عَبَدَةَ -بفتحتَيْنِ- التَيَمِيِّ العَنْبَرِيِّ، بَصْرِيٌّ ثِقةٌ.
قولُهُ: (كَتَبَ إلينا عُمَرُ بنُ الخطَّابِ: أن اقْتُلُوا كلَّ ساحرٍ وساحِرَةٍ) إلى آخِرِهِ. صَرِيحٌ في قَتْلِ السَّاحِرِ والسَّاحرةِ، وهوَ مِنْ حُجَجِ الجُمْهورِ القائِلِينَ بأنَّهُ يُقْتَلُ.
وظاهرُهُ أنَّهُ يُقْتَلُ مِنْ غيرِ اسْتِتابةٍ. وهوَ كذلكَ على المَشْهورِ عنْ
أحمدَ، وبهِ قالَ مالكٌ: (إنَّ الصَّحابةَ لمْ يَسْتَتِيبُوهم؛ ولأنَّ عِلْمَ السِّحْرِ لا يَزُولُ بالتوبةِ).
وعنْ
أحمدَ:(يُسْتَتابُ، فإنْ تابَ قُبِلَتْ تَوْبتُهُ وخُلِّيَ سَبيلُهُ) وبهِ قالَ الشافعيُّ؛ لأنَّ ذَنْبَهُ لا يَزِيدُ على الشِّركِ، والمُشْرِكُ يُسْتَتابُ وتُقْبَلُ تَوْبتُهُ، فكذلكَ السَّاحرُ، وعِلْمُهُ بالسِّحْرِ لا يَمْنَعُ توبتَهُ، بدَليلِ ساحرِ أَهْلِ الكِتابِ إذا أَسْلَمَ؛ ولذلكَ صَحَّ إيمانُ سَحَرَةِ فِرْعَوْنَ وتَوْبَتُهم.
قُلْتُ:
الأوَّلُ أَصَحُّ؛ لِظاهرِ عَمَلِ الصَّحابةِ. فلوْ كانت الاسْتِتابةُ واجِبةً لَفَعَلُوهَا أوْ بَيَّنُوهَا.


وأمَّا قِياسُهُ على المُشْرِكِ فلا يَصِحُّ؛

لأنَّهُ أَكْثَرُ فَسادًا وتَشْوِيهًا مِن المشركِ، وكذلكَ لا يَصِحُّ قِياسُهُ على ساحرِ أَهْلِ الكتابِ؛ لأنَّ الإسلامَ يَجُبُّ ما قبلَهُ. وهذا الخِلافُ إنَّما هوَ في إِسْقاطِ الحدِّ عنهُ بالتَّوبةِ، أمَّا فيما بينَهُ وبينَ اللهِ فإنْ كانَ صادِقًا قُبِلَتْ توبتُهُ.


(9)

هذا الأَثَرُ رَوَاهُ مالكٌ في (المُوَطَّأِ): (عنْ مُحَمَّدِ بن عَبدِ الرَّحمنِ بنِ سَعْدِ بنِ زُرَارَةَ، أنَّهُ بَلَغَهُ أنَّ حَفْصَةَ زَوْجَ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَتَلَتْ جارِيَةً لَها سَحَرَتْها، وكانتْ قدْ دَبَّرَتْها فأَمَرَتْ بها فقُتِلَتْ) ورَوَاهُ عبدُ الرَّزَّاقِ.


وحَفْصَةُ

هيَ أُمُّ المؤمنينَ بِنْتُ عُمَرَ بنِ الخطَّابِ، تَزَوَّجَها النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ خُنَيْسِ بنِ حُذافَةَ سنةَ ثلاثٍ، وماتتْ سنةَ خمسٍ وأربعينَ.


(10)

المرادُ بهِ هُنَا قَطْعًا

جُنْدُبُ الخَيْرِ الأَزْدِيُّ قاتِلُ السَّاحرِ، وهوَ جُنْدُبُ بنُ كَعْبِ بنِ عبدِ اللهِ.
قالَ
أبو حاتمٍ: (جُنْدُبُ بنُ كَعْبٍ قاتِلُ السَّاحرِ، ويُقالُ: جُنْدُبُ بنُ زُهَيْرٍ.
فجَعَلَهُما واحدًا، وفَرَّقَ بينَهُما ابنُ الكَلْبِيِّ وغيرُهُ)
.
قالَ
ابنُ عبدِ البَرِّ: (ذَكَرَ الزُّبَيْرُ أنَّ جُنْدُبَ بنَ زُهَيْرٍ قاتلُ السَّاحرِ، والصَّحيحُ أنهُ غيرُهُ).


وأَشَارَ

المُصَنِّفُ بِهذا إلى قَتْلِهِ السَّاحرَ.
كما رَوَاهُ
البُخارِيُّ في (تارِيخِهِ) عنْ أَبِي عُثْمانَ النَّهْدِيِّ قالَ: (كان عندَ الوَلِيدِ رجلٌ يَلْعَبُ، فذَبَحَ إنسانًا وأَبانَ رَأْسَهُ، فعَجِبْنَا، فأَعَادَ رَأْسَهُ، فجاءَ جُنْدُبٌ الأَزْدِيُّ فقَتَلَهُ).
ورَوَاهُ
البَيْهَقِيُّ في (الدَّلائِلِ) مُطَوَّلاً، وفيهِ: (فَقَالَ النَّاسُ: سُبْحَانَ اللهِ! يُحْيِي المَوْتَى).


(ورَآهُ رَجُلٌ صالِحٌ من المُهاجِرِينَ فنَظَرَ إليهِ، فلمَّا كانَ من الغَدِ اشْتَمَلَ على سَيْفِهِ فذَهَبَ يَلْعَبُ لَعِبَهُ ذلكَ، فاخْتَرَطَ الرَّجلُ سَيْفَهُ فضَرَبَ عُنُقَهُ وقالَ: إنْ كانَ صادِقًا، فلْيُحْيِ نَفْسَهَ؛ فأَمَرَ بهِ الوَلِيدُ فسُجِنَ)

وذَكَرَ القِصَّةَ بتِمامِها، ولها طُرُقٌ كَثِيرةٌ.


(11)

أحمدُ هوَ الإمامُ أحمدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلٍ، وقولُهُ: (عنْ ثلاثَةٍ) أيْ: صَحَّ قَتْلُ السَّاحِرِ عنْ ثلاثةٍ، أوْ جَاءَ قَتْلُ السَّاحرِ عنْ ثلاثةٍ منْ أَصْحابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَعْنِي: عُمَرَ، وحَفْصَةَ، وجُنْدُبًا، واللهُ أَعْلَمُ.

هيئة الإشراف

#3

27 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (بابُ مَا جاءَ فِي السِّحْرِ) أيْ: والكَهانةِ.
السحْرُ في اللُّغةِ:عِبارةٌ عما خَفِيَ ولَطُفَ سَبَبُهُ، ولهذا جاءَ الحديثُ: ((إِنَّ مِنَ البَيَانِ لَسِحْرًا)) وَسُمِّيَ السِّحْرُ سِحْرًا؛ لأَنَّهُ يَقَعُ خَفِيًّا آخِرَ الليلِ.
قالَ
أبو مُحَمَّدٍ الْمَقدِسِيُّ في (الكافي): (السِّحْرُ عَزائمُ ورُقًى وعُقَدٌ يُؤَثِّرُ في القُلوبِ والأبدانِ؛ فَيُمْرِضُ ويَقْتُلُ، وَيُفَرِّقُ بينَ الْمَرءِ وزَوْجِهِ).
- قالَ اللهُ تعالَى:
{فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ}[البقرة:102] .
- وقالَ سُبحانَهُ:
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ} يعنِي: السواحِرَ اللاتِي يَعْقُدْنَ في سِحْرِهِنَّ ويَنْفُثْنَ في عُقَدِهِنَّ، ولولا أنَّ للسِّحْرِ حَقيقةً لم يَأْمُر اللهُ بالاستعاذةِ منهُ.
وعنْ
عائشةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهَا: ((أَنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سُحِرَ حَتَّى إِنَّهُ لَيُخَيَّلُ إِلَيْهِ أَنَّهُ يَفْعَلُ الشَّيْءَ وما يفْعَلُهُ، وَأَنَّهُ قالَ لَهَا ذَاتَ يَوْمٍ: أَتَانِي مَلَكَانِ؛ فَجَلَسَ أَحَدُهُما عِنْدَ رَأْسِي وَالآخَرُ عِنْدَ رِجْلِي، فَقَالَ: مَا وَجَعُ الرَّجُلِ؟
قَالَ: مَطْبُوبٌ.
قَالَ: وَمَنْ طَبَّهُ؟
قال: لَبِيدُ بنُ الأَعْصَمِ في مُشْطٍ وَمُشَاطَةٍ في جُفِّ طَلْعَةٍ ذَكَرٍ في بِئْرِ ذَرْوَانَ
))
رواهُ البخاريُّ.


(2)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولُ اللهِ تعالَى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}[البقرة:102]) قالَ ابنُ عبَّاسٍ(منْ نَصيبٍ).
قالَ
قَتادةُ: (وقدْ عَلِمَ أهلُ الكتابِ فيما عُهِدَ إليهم: أنَّ الساحرَ لا خَلاقَ لهُ في الآخِرَةِ).
وقالَ
الحسَنُ: (ليسَ لهُ دِينٌ).
فدَلَّت الآيَةُ علَى تَحريمِ السحْرِ، وكذلكَ هوَ مُحَرَّمٌ في جَميعِ أَديانِ الرُّسُلِ عليهم السلامُ؛ كما قالَ تعالَى:
{وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى}[طه:69] وقدْ نصَّ أصحابُ أحمدَ أنَّهُ يَكْفُرُ بتَعَلُّمِهِ وتَعليمِهِ.
ورَوَى
عبدُ الرَّزَّاقِ عنْ صَفوانَ بنِ سُليمٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ تَعلَّمَ شَيئًا مِنَ السِّحْرِ قَلِيلاً كَانَ أَوْ كَثِيرًا كَانَ آخِرَ عَهْدِهِ مِنَ اللهِ)) وهذا مُرْسَلٌ.
واخْتَلَفُوا: هلْ يَكْفُرُ الساحرُ أوْ لا؟


فذَهَبَ طائفةٌ من السَّلَفِ إلَى أنَّهُ يَكْفُرُ، وبهِ قالَ مالِكٌ، وأبو حَنيفةَ، وأحمدُ، قالَ أصحابُهُ: (إلاَّ أنْ يَكونَ سِحْرُهُ بأَدْوِيَةٍ وتَدخينٍ وسَقْيِ شَيءٍ لا يَضُرُّ فلا يَكْفُرُ).
وقالَ
الشافعيُّ: (إذا تَعَلَّمَ السِّحْرَ قلنا لهُ: صِفْ لنا سِحْرَكَ؛ فإن وَصَفَ ما يُوجِبُ الكُفْرَ؛ مثلَ ما اعْتَقَدَهُ أهلُ بابلَ من التَّقَرُّبِ إلَى الكَواكبِ السبعةِ، وأنَّها تَفعلُ ما يُلْتَمَسُ منها فهوَ كافِرٌ، وإنْ كان لا يُوجِبُ الكُفْرَ فإن اعْتَقَدَ إباحتَهُ كَفَرَ) انتهَى.
وقدْ سَمَّاهُ اللهُ كُفْرًا بقولِهِ:
{إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}[البقرة:102].
وقولِهِ:
{وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَـكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا}[البقرة:102].
قالَ
ابنُ عبَّاسٍ في قولِهِ:( {إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ}وذلكَ أنهما عَلِمَا الخيرَ والشرَّ والكُفْرَ والإِيمانَ؛ فعَرَفَا أنَّ السِّحْرَ من الكُفْرِ).


(3)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقولِهِ: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}[النساء:51]) تَقَدَّمَ الكلامُ عليهما في البابِ قَبْلَهُ.
وفيهِ:
أن السِّحْرَ مِن الْجِبْتِ، قالَهُ الْمُصَنِّفُ.


(4)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قالَ عُمَرُ: (الجِبتُ السِّحْرُ، والطَّاغُوتُ الشَّيْطانُ)) هذا الأَثَرُ رواهُ ابنُ أبي حاتمٍ وغيرُهُ.
(5) قالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وقالَ جابرٌ: (الطَّواغِيتُ كُهَّانٌ كانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ، فِي كُلِّ حَيٍّ واحِدٌ)).
هذا الأَثَرُ رواهُ
ابنُ أبي حاتمٍ بنَحوِهِ مُطَوَّلاً عنْ وَهْبِ بنِ مُنَبِّهٍ قالَ: (سألتُ جابرَ بنَ عبدِ اللهِ عن الطواغيتِ التي كانوا يَتحاكمونَ إليها؛ فقالَ: إنَّ في جُهَيْنَةَ واحدًا؛ وفي أَسْلَمَ واحدًا، وفي هِلالٍ واحدًا؛ وفي كلِّ حيٍّ واحدًا، وهم كُهَّانٌ كانت تَنْزِلُ عليهم الشياطينُ).
قولُهُ: (قالَ
جابرٌ) هوَ ابنُ عبدِ اللهِ بنِ حَرامٍ الأنصاريُّ.


قولُهُ: (الطَّواغيتُ كُهَّانٌ) أَرادَ أنَّ الكُهَّانَ من الطواغيتِ، فهوَ مِنْ أَفرادِ الْمَعْنَى.
قولُهُ: (كَانَ يَنْزِلُ عليهمُ الشيطانُ) أرادَ الْجِنْسَ لا الشيطانَ الذي هوَ إِبليسُ خَاصَّةً، بلْ تَنْزِلُ عليهم الشياطينُ ويُخاطِبُونَهم ويُخْبِرُونَهم بما يَسْتَرِقُونَهُ من السَّمْعِ، فَيَصْدُقُونَ مَرَّةً ويَكذِبونَ مائةً.
قولُهُ: (في كلِّ حَيٍّ واحدٌ) الحيُّ واحدُ الأحياءِ، وهم القبائلُ؛ أيْ: في كلِّ قَبيلةٍ كاهنٌ يَتَحَاكَمونَ إليهِ ويَسألونَهُ عن الْغَيْبِ، وكذلكَ كان الأَمْرُ قبلَ مَبْعَثِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فأَبْطَلَ اللهُ ذلكَ بالإِسلامِ وحُرِسَت السماءُ بكَثرةِ الشُّهُبِ.

(6)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ))قالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَمَا هُنَّ؟


قالَ: ((الشِّرْكُ بِاللهِ، وَالسِّحْرُ، وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إلاَّ بِالْحَقِّ، وَأَكْلُ الرِّبَا، وَأَكْلُ مَالِ الْيَتِيمِ، وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ، وَقَذْفُ الْمُحْصَناتِ الغَافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ))).
كذا أَوْرَدَهُ
الْمُصَنِّفُ غيرَ مَعْزُوٍّ، وقدْ رواهُ البخاريُّ، ومسلِمٌ.
قولُهُ:
((اجْتَنِبُوا)) أي: ابْعُدُوا، وهوَ أَبْلَغُ منْ قولِهِ: دَعُوا واتْرُكُوا؛ لأنَّ النهيَ عن القُربانِ أَبْلَغُ، كقولِهِ: {وَلاَ تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ}[الأنعام:151].
قولُهُ:
((المُوبِقَاتِ)) بِمُوَحَّدَةٍ وقافٍ؛ أي: الْمُهْلِكاتِ، وَسُمِّيَتْ هذه مُوبِقاتٌ؛ لأنَّها تُهْلِكُ فاعِلَها في الدنيا بما يَتَرَتَّبُ عليها من العُقوباتِ، وفي الآخِرَةِ من العَذابِ.
وفي حديثِ
ابنِ عمرَ عندَ البخاريِّ في (الأَدَبِ الْمُفْرَدِ)والطبريِّ في (التفسيرِ)، وعبدِ الرزَّاقِ مَرفوعًا ومَوقوفًا قالَ: ((الكَبَائِرُ تِسْعٌ -وذَكَرَ السبعةَ المذكورةَ- وَالإِلْحَادُ فِي الْحَرَمِ، وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ))ولابنِ أبي حاتمٍ عنْ عليٍّ قالَ: ((الكبائرُ -فذَكَرَ السبْعَ إلاَّ مالَ اليتيمِ- وزادَ: العُقوقَ، والتَّعَرُّبَ بَعْدَ الْهِجْرَةِ؛ وَفِرَاقَ الْجَمَاعَةِ، ونَكْثَ الصَّفْقَةِ)).
قالَ
الحافظُ: (ويُحْتَاجُ عندَ هذا إلَى الجوابِ عن الحِكمةِ في الاقتصارِ علَى سَبْعٍ).


ويُجابُ:

بأنَّ مَفهومَ العَدَدِ ليسَ بِحُجَّةٍ

وهوَ ضَعيفٌ، أوْ بأنَّهُ أُعْلِمَ أوَّلاً بالْمَذكوراتِ، ثمَّ أُعْلِمَ بما زادَ، فيَجِبُ الأَخْذُ بالزائدِ، أوْ أنَّ الاقتصارَ وَقَعَ بِحَسَبِ الْمَقامِ بالنسبةِ إلَى السائلِ.
وقدْ أَخرجَ
الطبرانيُّ وإسماعيلُ القاضي، عن ابنِ عَبَّاسٍ أنَّهُ قيلَ لهُ: (الكبائرُ سبعٌ؟)قالَ:(هُنَّ أَكْثَرُ منْ سَبْعٍ وسَبْعٍ).
وفي روايَةٍ:
(هيَ إلَى سبعينَ أَقْرَبُ).
وفي روايَةٍ:
(إلَى السَّبْعِمائةِ).
قولُهُ:
((قالَ: الشِّرْكُ بِاللهِ)) هوَ أنْ يَجْعَلَ للهِ نِدًّا يَدْعُوهُ كمَا يَدْعُو اللهَ، وَيَرْجُوهُ كمَا يَرْجُو اللهَ، ويَخافُهُ كما يَخافُ اللهَ، بَدَأَ بهِ؛ لأنَّهُ أَعْظَمُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ بهِ، كما في (الصحيحينِ) عن ابنِ مَسعودٍ: (سَأَلْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أَيُّ الذَّنْبِ أَعْظَمُ عِنْدَ اللهِ؟
قَالَ:
((أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ، الحديثَ)).
وأَخْرَجَ
التِّرمذيُّ بسَنَدِهِ، عنْ صَفوانَ بنِ عَسَّالٍ قالَ: (قَالَ يَهُودِيٌّ لِصَاحِبِهِ: اذْهَبْ بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِيِّ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُ: لاَ تَقُلْ نَبْيٌّ، إِنَّهُ لَوْ سَمِعَكَ لَكَانَ لَهُ أَرْبَعُ أَعْيُنٍ، فَأَتَيَا رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلاَهُ عَنْ تِسْعِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ، فَقَالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((لاَ تُشْرِكُوا بِاللهِ شَيْئًا، وَلاَ تَسْرِقُوا، وَلاَ تَزْنُوا، وَلاَ تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ، وَلاَ تَمْشُوا بِبَرِيءٍ إِلَى ذِي سُلْطَانٍ لِيَقْتُلَهُ، وَلاَ تَسْحَرُوا، وَلاَ تَأْكُلُوا الرِّبَا، وَلاَ تَقْذِفُوا مُحْصَنَةً، وَلاَ تُوَلُّوا الْفِرَارَ يَوْمَ الزَّحْفِ؛ وَعَلَيْكُمْ خَاصَّةً اليَهُودَ أَنْ لاَ تَعْتَدُوا في السَّبْتِ))، فَقَبَّلاَ يَدَيْهِ وَرِجْلَيْهِ وَقَالاَ: نَشْهَدُ أنَّكَ نَبِيٌّ) الحديثَ، وقالَ: (حسَنٌ صحيحٌ).
قولُهُ:
((والسِّحْرُ)) تَقَدَّمَ معناهُ، وهذا وَجهُ مُناسَبَةِ الحديثِ للترجمةِ.
قولُهُ:
((وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللهُ)) أيْ: حَرَّمَ قَتْلَها،((إِلاَّ بِالحَقِّ)) أيْ: بأنْ تَفعلَ ما يُوجِبُ قَتْلَها، كالشرْكِ، والنفْسِ بالنفسِ، والزانِي بعدَ الإحصانِ، وقَتْلِ الْمُعاهَدِ، كما في الحديثِ: ((مَنْ قَتَلَ مُعَاهَدًا لَمْ يُرَحْ رَائِحَةَ الْجَنَّةِ))الحديثَ.


واخْتَلَفَ العُلماءُ فيـمَن قَتَلَ مُؤمنًا مُتَعَمِّدًا، هلْ لهُ تَوبةٌ أمْ لا؟

فذَهَبَ ابنُ عَبَّاسٍ وأبو هُريرةَ وغيرُهما إلَى أنَّهُ لا تَوبةَ لهُ، استدلالاً بقولِهِ تعالَى: {وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا}[النساء: 93] قالَ ابنُ عَبَّاسٍ: (نَزَلَتْ هذه الآيَةُ وهيَ آخِرُ ما نَزَلَ، وما نَسَخَها شيءٌ).
وفي روايَةٍ: (لقدْ نَزَلَتْ في آخِرِ ما نَزَلَ، ما نَسَخَها شيءٌ حتَّى قُبِضَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وما نَزَلَ وَحْيٌ)
ورُوِيَ في ذلكَ آثارٌ تَدُلُّ لِمَا ذَهَبَ إليهِ هؤلاءِ، كما عندَ الإِمامِ أحمدَ، والنَّسائيِّ، وابنِ الْمُنْذِرِ عنْ مُعاويَةَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((كُلُّ ذَنْبٍ عَسَى اللهُ أَنْ يَغْفِرَهُ إِلاَّ الرَّجُلَ يَمُوتُ كَافِرًا، أَو الرَّجُلَ يَقْتُلُ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا)).
وذَهَبَ جُمهورُ الأُمَّةِ سَلَفًا وخَلَفًا إلَى أنَّ القاتلَ لهُ تَوبةٌ فيما بينَهُ وبينَ اللهِ، فإن تابَ وأَنابَ وعَمِلَ صالحًا بَدَّلَ اللهُ سَيِّئَاتِهِ حَسناتٍ، كما قالَ تعالَى:
{وَالَّذِينَ لاَ يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلَـهًا آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَلاَ يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآمَنْ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحًا فَأُولَـئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللهُ غَفُورًا رَحِيمًا}[الفرقان:68-70].
قولُهُ:
{وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا} فقدْ قالَ أبو هُريرةَ وغيرُهُ: (هذا جَزاؤُهُ إنْ جَازَاهُ).
وقدْ رُوِيَ عن
ابنِ عَبَّاسٍ ما يُوافِقُ قولَ الجمهورِ، فرَوَى عبدُ بنُ حُميدٍ، والنحَّاسُ، عنْ سَعيدِ بنِ عُبيدٍ، أنَّ ابنَ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كان يقولُ:( لِمَنْ قَتَلَ مُؤْمنًا تَوْبَةٌ ) وكذلكَ ابنُ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، ورُوِيَ مَرفوعًا: ((أَنَّ جَزَاءَهُ جَهَنَّمُ إِنْ جَازَاهُ)).
قولُهُ:
((وَأَكْلُ الرِّبَا)) أيْ: تَنَاوُلُهُ بأيِّ وَجْهٍ كانَ؛ كما قالَ تعالَى: {الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ} الآياتِ [البقرة: 275 - 280].
قالَ
ابنُ دَقيقِ العيدِ: (وهوَ مُجَرَّبٌ لسُوءِ الْخَاتِمَةِ، نَعوذُ باللهِ مِنْ ذلكَ).
قولُهُ:
((وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ)) يعنِي: التَّعَدِّيَ فيهِ، وعَبَّرَ بالأَكْلِ؛ لأنَّهُ أَعَمُّ وُجوهِ الانتفاعِ، كما قالَ تعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا}[النساء:10].
قولُهُ:
((وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ)) أي: الإِدبارُ عن الكُفَّارِ وَقْتَ التِحَامِ القِتالِ، وإنما يكونُ كبيرةً إذا فَرَّ إلَى غيرِ فِئةٍ، أوْ غيرَ مُتَحَرِّفٍ لقتالٍ. كما قُيِّدَ بهِ في الآيَةِ.
قولُهُ:
((وَقَذْفُ المُحْصَنَاتِ الغَافِلاَتِ المُؤْمِنَاتِ)) وهوَ بفَتْحِ الصادِ: المحفوظاتُ من الزِّنَا؛ وبِكَسْرِها الحافظاتُ فُرُوجَهُنَّ منهُ، والمرادُ: الحرائِرُ العَفيفاتُ، والمرادُ رَمْيُهُنَّ بزِنًا أوْ لِواطٍ.
و
((الغافلاتِ)) أيْ: عن الفَواحشِ وما رُمِينَ بهِ. فهوَ كِنايَةٌ عن البَرِيئاتِ؛ لأنَّ الغافلَ بَرِيءٌ عمَّا بُهِتَ بهِ.
و
((المؤمناتِ)) أيْ: باللهِ تعالَى؛ احْترازًا منْ قَذْفِ الكافراتِ.


(7)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَعَنْ جُنْدُبٍ مَرْفُوعًا: ((حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ)) رواهُ التِّرْمِذِيُّ وقالَ: (الصَّحيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ)).
قولُهُ: (عَنْ
جُنْدُبٍ) ظاهرُ صَنيعِ الطبرانيِّ في (الكبيرِ) أنَّهُ جُنْدُبُ بنُ عبدِ اللهِ البَجَلِيُّ، لا جُنْدُبُ الْخَيْرِ الأزديُّ قاتلُ الساحِرِ، فإنَّهُ رواهُ في تَرجمةِ جُنْدُبٍ البَجَلِيِّ منْ طَريقِ خالدٍ العَبْدِ، عن الْحَسَنِ، عنْ جُنْدُبٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وخالدٌ العَبْدُ ضَعيفٌ، قالَ الحافظُ: (والصوابُ أنَّهُ غيرُهُ).
وقدْ رواهُ
ابنُ قانِعٍ، والحسَنُ بنُ سُفيانَ منْ وَجهينِ، عن الْحَسَنِ، عنْ جُنْدُبِ الخيرِ: ( أنَّهُ جاءَ إلَى ساحرٍ فضَرَبَهُ بالسيفِ حتَّى ماتَ؛ وقالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ، فذَكَرَهُ ) وجُنْدُبُ الخيرِ هوَ جُنْدُبُ بنُ كَعْبٍ.


وقيلَ:

جُنْدُبُ بنُ زُهَيْرٍ.


وقيلَ:

هما واحدٌ، كما قالَ ابنُ حِبَّانَ: أبو عبدِ اللهِ الأزديُّ الغامديُّ صَحَابِيٌّ، روَى ابنُ السَّكَنِ منْ حديثِ بُرَيْدَةَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يُضْرَبُ ضَرْبَةً وَاحِدَةً فَيَكُونُ أُمَّةً وَحْدَهُ)).
قولُهُ:
((حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبُهُ بِالسَّيْفِ)) ورُوِيَ بالهاءِ وبالتاءِ، وكِلاَهما صَحيحٌ.
وبهذا الحديثِ أَخَذَ
مالِكٌ وأحمدُ وأبو حَنيفةَ، فقالوا: يُقْتَلُ الساحرُ.
ورُوِيَ ذلكَ عنْ
عمرَ، وعُثمانَ، وابنِ عمرَ، وحَفْصَةَ، وجُنْدُبِ بنِ عبدِ اللهِ، وجُنْدُبِ بنِ كَعْبٍ، وقَيْسِ بنِ سَعْدٍ، وعمرَ بنِ عبدِ العزيزِ؛ ولم يَرَ الشافعيُّ القَتْلَ عليهِ بِمُجَرَّدِ السحْرِ إلاَّ إنْ عَمِلَ في سِحْرِهِ ما يَبْلُغُ الكُفْرَ، وبهِ قالَ ابنُ الْمُنْذِرِ، وهوَ رِوايَةٌ عنْ أَحمدَ.
والأَوَّلُ أَوْلَى للحديثِ ولأَثَرِ
عُمَرَ، وعَمِلَ بهِ الناسُ في خِلافتِهِ منْ غيرِ نَكيرٍ.


(8)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: وَفِي (صَحِيحِ البُخاريِّ) عَنْ بَجَالةَ بنِ عَبَدَةَ قَال:(كَتَبَ عُمَرُ بنُ الْخَطابِ أَنِ اقْتُلُوا كُلَّ سَاحِرٍ وَساحِرَةٍ) قال: (فَقَتَلْنَا ثَلاثَ سَواحِرَ).
هذا الأَثَرُ رواهُ
البُخاريُّ، كما قالَ الْمُصَنِّفُ، لكن لم يَذْكُرْ قَتْلَ السواحرِ.
قولُهُ: (عَنْ
بَجَالَةَ) بفَتْحِ الْمُوَحَّدَةِ بعدَها جِيمٌ؛ ابنِ عَبَدَةَ بفَتْحَتَيْنِ، التميميِّ العَنْبَرِيِّ، بَصْرِيٌّ ثِقَةٌ.
قولُهُ: (كَتَبَ إلينا
عمرُ بنُ الْخَطَّابِ أن اقْتُلُوا كلَّ ساحرٍ وساحرةٍ) وظاهِرُهُ أنَّهُ يُقْتَلُ منْ غيرِ اسْتِتَابةٍ، وهوَ كذلكَ علَى المشهورِ عنْ أحمدَ، وبهِ قالَ مالِكٌ؛ لأنَّ عِلْمَ السِّحْرِ لا يَزولُ بالتوبةِ، وعنْ أحمدَ يُسْتَتَابُ؛ فإن تابَ قُبِلَتْ تَوْبَتُهُ؛ وبهِ قالَ الشافعيُّ؛ لأنَّ ذَنْبَهُ لا يَزيدُ عن الشرْكِ، والْمُشْرِكُ يُستتابُ وتُقْبَلُ تَوبَتُهُ، ولذلكَ صَحَّ إيمانُ سَحَرَةِ فِرعونَ وتَوْبَتُهُم.
قالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (وَصَحَّ عَنْ حَفْصَةَ، أَنَّها أَمَرَتْ بِقَتْلِ جَارِيَةٍ لَها سَحَرَتْهَا فَقُتِلَتْ).


هذا الأَثَرُ رواهُ مالِكٌ في (الْمُوَطَّأِ).
وحَفْصَةُ هيَ أمُّ المؤمنينَ بنتُ عمرَ بنِ الْخَطَّابِ، تَزَوَّجَها النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بعدَ خُنَيْسِ بنِ حُذافةَ، وماتَتْ سنةَ خمسٍ وأربعينَ.
قولُهُ: (وَكَذا صَحَّ عَنْ
جُنْدُبٍ) أشارَ الْمُصَنِّفُ بهذا إلَى قَتْلِهِ الساحرَ، كما رواهُ البخاريُّ في (تاريخِهِ)، عنْ أبي عُثمانَ النَّهْدِيِّ قالَ: (كان عندَ الوليدِ رجلٌ يَلْعَبُ، فذَبَحَ إنسانًا وأَبانَ رَأْسَهُ فعَجِبْنَا، فأَعادَ رَأْسَهُ فجَاءَ جُنْدُبٌ الأَزْدِيُّ فَقَتَلَهُ) ورواهُ البَيهقيُّ في (الدلائلِ) مُطَوَّلاً، وفيهِ (فَأَمَرَ بهِ الوليدُ فسُجِنَ) فذَكَرَ القِصَّةَ بتَمامِها ولها طُرُقٌ كثيرةٌ.
قالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى: (قالَ أَحْمَدُ: عَنْ ثَلاثَةٍ مِنْ أَصْحابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ)أحمدُ هوَ الإمامُ ابنُ مُحَمَّدِ بنِ حَنْبَلٍ.


قولُهُ: (عَنْ ثلاثةٍ) أيْ: صَحَّ قَتْلُ الساحرِ عنْ ثلاثةٍ، أوْ جاءَ قَتْلُ الساحِرِ عنْ ثَلاثةٍ مِنْ أصحابِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يعنِي:

عمرَ، وحَفْصَةَ، وجُنْدُبًا، واللهُ أَعْلَمُ.

هيئة الإشراف

#4

27 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)

السِّحْرُ لغةً:ما خَفِيَ وَلَطُفَ سَببُهُ،

ومنهُ سُمِّيَ السَّحَرُ لآخرِ الليلِ؛ لأنَّ الأفعالَ التي تقعُ فيهِ تكونُ خفيَّةً، وكذلكَ سُمِّيَ السَّحُورُ لما يُؤْكَلُ في آخرِ الليلِ؛ لأنَّهُ يكونُ خفيًّا، فكلُّ شيءٍ خَفِيَ سببُهُ يُسَمَّى سِحْرًا.


وأمَّا في الشرعِ فإنَّهُ ينْقَسِمُ إلى قسميْنِ:

الأوَّلُ: عُقَدٌ ورُقًى، أيْ: قراءاتٌ وطلاسمُ يَتَوَصَّلُ بها الساحرُ إلى استخدامِ الشياطينِ فيما يُرِيدُ بهِ ضررَ مسحورٍ، لكنْ قدْ قالَ تعالى: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إلاَّ بِإِذْنِ اللهِ}.
الثاني: أدويةٌ وعقاقيرُ تُؤَثِّرُ على بَدَنِ المسحورِ وعقلِهِ وإرادتِهِ وميلِهِ، فتجدُهُ ينصرفُ ويميلُ، وهو ما يُسَمَّى عنْدَهُم بالصَّرْفِ والعَطْفِ، فيجعلونَ الإنسانَ ينْعَطِفُ على زوْجَتِهِ أو امرأةٍ أخرى، حتَّى يكونَ كالبهيمةِ تقودُهُ كما تشاءُ، والصرفُ بالعكسِ منْ ذلكَ، فَيُؤَثِّرُ في بدنِ المسحورِ بإضعافِهِ شيئًا فشيئًا حتَّى يَهْلِكَ، وفي تصوُّرِهِ بأنْ يتخيَّلَ الأشياءَ على خلافِ ما هيَ عليهِ، وفي عقلِهِ فرُبَّما يصِلُ إلى الجنونِ، والعياذُ باللهِ.

فالسحرُ قسمانِ:

الأول: شِرْكٌ، وهوَ الأوَّلُ الذي يكُونُ بواسطةِ الشياطينِ؛ يعْبُدُهُم ويتقرَّبُ إليهم ليُسَلِّطَهُم على المسحورِ.

الثاني: عدوانٌ وفسقٌ، وهو الثاني الذي يكونُ بواسطةِ الأدويةِ والعقاقيرِ ونحْوِها.
وبهذا التقسيمِ الذي ذكَرْنَاهُ نتَوَصَّلُ بهِ إلى مسألةٍ مُهِمَّةٍ وهيَ:
هلْ يكْفُرُ الساحرُ أوْ لا يكْفُرُ؟


اختلفَ في هذا أهلُ العلمِ، فمِنْهُم مَنْ قالَ: إنَّهُ يكفرُ، ومنهم منْ قالَ: إنَّهُ لا يكفرُ.
ولكنَّ التقسيمَ السابقَ الذي ذكَرْنَاهُ يتبَيَّنُ بهِ حُكْمُ هذهِ المسألةِ، فمَنْ كانَ سحْرُهُ بواسطةِ الشياطينِ فإنَّهُ يكفرُ؛ لأنَّهُ لا يتأتَّى ذلكَ إلاَّ بالشركِ غالبًا؛ لقوْلِهِ تعالى:

{وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيْاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ...} إلى قوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ).
ومَنْ كانَ سحرُهُ بالأدويةِ والعقاقيرِ ونحوِها فلا يكفْرُ، ولكنْ يُعْتَبَرُ عاصيًا معتديًا.
وأمَّا قَتْلُ الساحرِ، فإنْ كانَ سحْرُهُ كُفْرًا قُتِلَ قَتْلَ رِدَّةٍ إلاَّ أنْ يتوبَ، على القولِ بقبولِ توْبَتِهِ، وهوَ الصحيحُ.
وإنْ كانَ سحرُهُ دونَ الكفرِ قُتِلَ قَتْلَ الصَّائِلِ، أيْ: قُتِلَ لدفعِ أذاهُ وفسادِهِ في الأرضِ. على هذا يُرْجَعُ في قَتْلِهِ إلى اجتهادِ الإمامِ.
وظاهرُ النصوصِ التي ذكرَها
المُؤَلِّفُ أنَّهُ يُقْتَلُ بكلِّ حالٍ، فالمُهِمُّ أنَّ السِّحْرَ يُؤَثِّرُ بلا شكٍّ، لكنَّهُ لا يُؤَثِّرُ بقلْبِ الأعيانِ إلى أعيانٍ أخرى؛ لأنَّهُ لا يَقْدِرُ على ذلكَ إلاَّ اللهُ عزَّ وجلَّ، وإنَّما يُخَيَّلُ للمسحورِ أنَّ هذا الشيءَ انقلبَ، وهذا الشيءَ تحرَّكَ أوْ مَشَى، وما أشبَهَ ذلكَ، كما جرى لموسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ أمامَ سحَرةِ آلِ فرعونَ، حيثُ كانَ يُخَيَّلُ إليهِ منْ سِحْرِهم أنَّها تسعى.


إذا قالَ قائلٌ:

ما وجهُ إدخالِ بابِ السحرِ في كتابِ التوحيدِ؟

نقولُ:

مناسبةُ البابِ لكتابِ التوحيدِ:

لأنَّ مِنْ أقسامِ السحرِ ما لا يتأَتَّي غالبًا إلاَّ بالشركِ،

فالشياطينُ لا تخْدِمُ الإنسانَ غالبًا إلاَّ لمصلحةٍ، ومعلومٌ أنَّ مصلحةَ الشيطانِ أنْ يغْوِيَ بني آدمَ فيُدْخِلَهم في الشركِ والمعاصي.


(2)

وقدْ ذكرَ المُؤَلِّفُ في البابِ آيتيْنِ:

الآيةُ الأولى: قوْلُهُ تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا}، ضميرُ الفاعلِ يعودُ على مُتَعَلِّمِي السحرِ، والجملةُ مُؤَكَّدَةٌ بالقسمِ المُقَدَّرِ واللامِ وقدْ.

ومعنى {اشْتَرَاهُ} أيْ: تعلَّمَهُ.
قولُهُ:
{مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} أيْ: ما لهُ منْ نصيبٍ، وكلُّ مَنْ ليسَ لهُ في الآخرةِ منْ خَلاقٍ فمقتضاهُ أنَّ عمَلَهُ حابطٌ باطلٌ، لكنْ إمَّا أنْ ينتفِيَ النصيبُ انتفاءً كُلِّيًّا فيكونَ العملُ كُفْرًا، أوْ ينتفيَ كمالُ النصيبِ فيكونَ فسقًا.
قال في
(تيسير العزيز الحميد) ص393: (قوله (عن جندب) الصحيح أنه جندب الخير، لا جندب بن عبد الله البجلي، وصوَّبه ابن حجر).


وأخرج البخاري

في (تأريخه): (أنه كان عند الوليد رجل يلعب، فذبح إنساناً فأبان رأسه، فعجبنا فأعاده؛ فجاء جندب الأزدي فقتله).


وزاد البيهقي:

(إن كان صادقاً فليحيي نفسه).
قتل جندب يوم صفين رضي الله عنه.


(3)

الآيةُ الثانيةُ:

قَوْلُهُ تعالى: {يُؤْمِنُونَ} أي: اليهودُ، {بِالْجِبْتِ} أي: السحْرِ، كما فسَّرَهَا عمرُ بنُ الخطَّابِ.


واليهودُ كانوا منْ أكثرِ الناسِ تعلُّمًا للسحرِ وممارسةً لهُ، ويدَّعُونَ أنَّ سليمانَ عليهِ السلامُ علَّمَهُم إيَّاهُ، وقد اعتَدَوْا فسَحَرُوا النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.
قولُهُ:
{الطَّاغُوتِ} أجمَعُ ما قيلَ فيهِ: هوَ ما تَجاوَزَ بهِ العبدُ حَدَّهُ منْ معبودٍ، أوْ متبوعٍ، أوْ مُطاعٍ.
ومعنى
{مِنْ مَعْبودٍ} أيْ: (بعِلْمِهِ ورضاهُ) هكذا قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ.
الشاهدُ: قولُهُ: {بِالْجِبْتِ} حيثُ فسَّرها أميرُ المؤمنينَ عُمرُ رضيَ اللهُ عنهُ بأنَّها (السِّحرُ) وأمَّا تفسيرُهُ الطاغوتَ بالشيطانِ فإنَّهُ منْ بابِ التفسيرِ بالمثالِ.
فتفسيرُ
عُمرَ رضيَ اللهُ عنهُ للطاغوتِ بالشيطانِ تفسيرٌ بالمثالِ؛ لأنَّ الطاغوتَ أعمُّ من الشيطانِ، فالأصنامُ تُعْتَبَرُ من الطواغيتِ، كما قالَ تعالى: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} والعلماءُ والأُمَرَاءُ الذينَ يُضِلُّونَ الناسَ يُعْتَبَرُونَ طواغيتَ؛ لأنَّهُم طَغَوْا وزادوا وفعلوا ما ليسَ لهم بهِ حقٌّ.


(4)

قولُهُ: (الطَّواغيتُ كُهَّانٌ كانَ يَنْزِلُ عَلَيْهِم الشَّيْطانُ، فِي كُلِّ حَيٍّ واحِدٌ) هذا أيضًا منْ بابِ التفسيرِ بالمثالِ، حيثُ إنَّهُ جعلَ منْ جُمْلَةِ الطواغيتِ الكُهَّانَ.

والكاهنُ قيلَ:

هوَ الذي يُخْبِرُ عمَّا في الضميرِ.


وقيلَ:

الذي يُخْبِرُ عن المُغَيَّبَاتِ في المستقبلِ.


وكانَ هؤلاءِ الكُهَّانُ تنزلُ عليهم الشياطينُ بما اسْتَرَقُوا من السَّمْعِ من السماءِ، وكان كلُّ حيٍّ منْ أحياءِ العربِ لهم كاهنٌ يستخدمُ الشياطينَ، فَتَسْتَرِقُ لهُ السمعَ فتأتي بخبرِ السماءِ إليهِ، وكانوا يتحاكَمُونَ إليهم في الجاهليَّةِ، والطواغيتُ ليْسُوا محصورينَ في هؤلاءِ، فتفسيرُ

جابرٍ رضيَ اللهُ عنهُ تفسيرٌ بالمثالِ كتفسيرِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهُ.


(5)

قولُهُ: ((اجْتَنِبُوا السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)) النبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنْصَحُ الخَلْقِ للخَلْقِ، فكلُّ شيءٍ يضرُّ الناسَ في دينِهم ودُنْيَاهُم يُحَذِّرُهُم منهُ، ولهذا قالَ: ((اجْتَنِبُوا)).
وهيَ أبْلَغُ منْ قوْلِهِ: اتْرُكُوا؛ لأنَّ الاجتنابَ معناهُ أنْ تكونَ في جانبٍ وهيَ في جانبٍ آخرَ، وهذا يستلزمُ البُعْدَ عنها.
و
((اجْتَنِبُوا)) أي: اترُكوا، بلْ أَشَدُّ منْ مُجَرَّدِ الترْكِ؛ لأنَّ الإنسانَ قدْ يتْرُكُ الشيءَ وهو قريبٌ منهُ، فإذا قيلَ: اجتَنِبْهُ، يعني: اتْرُكْهُ معَ البُعْدِ.
وقولُهُ:
((السَّبْعَ الْمُوبِقَاتِ)) هذا لا يقتضي الحصْرَ؛ فإنَّ هناكَ موبقاتٍ أُخْرَى، ولكنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يحْصُرُ أحيانًا بعضَ الأنواعِ والأجناسِ، ولا يعني بذلكَ عدمَ وجودِ غَيْرِها.
ومنْ ذلكَ حديثُ:
((السَّبعةِ الَّذينَ يُظِلُّهُم اللهُ فِي ظلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إلاَّ ظِلُّهُ)) فهناكَ غيرُهم، ومثلُهُ: ((ثَلاَثَةٌ لاَ يُكَلِّمُهُمُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)) وأمثلةُ هذا كثيرةٌ.
وإنْ قُلْنَا بدلالةِ حديثِ
أبي هُرَيْرَةَ في البابِ على الحَصْرِ لكونِهِ وقعَ بِـ((أَل)) المُعَرِّفَةِ، فإنَّهُ حصَرَها؛ لأنَّ هذهِ أعظمُ الكبائرِ.


(6)

قولُهُ: (قَالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَما هُنَّ؟) كانَ الصحابةُ رضيَ اللهُ عنهم أحرصَ الناسِ على العلمِ، والنبيُّ صَلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إذا ألْقَى إليهم الشيءَ مُبْهَمًا طَلَبُوا تفسيرَهُ وتبْيِينَهُ، فلَمَّا حذَّرَهُم النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ من السبعِ الموبقاتِ قالوا ذلكَ؛ لأجْلِ أنْ يجْتَنِبُوهُنَّ، فأخْبَرَهم.
وقولُهُ: ((الْمُوبِقَاتِ)) أي: الْمُهْلِكاتِ، قالَ تعالى: {وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا} أيْ: مكانَ هلاكٍ.
وقولُهُ: (قَالوا: يَا رَسُولَ اللهِ، وَما هُنَّ؟) سألوا عنْ تبْيِينِها، وبهِ تتَبَيَّنُ الفائدةُ من الإجمالِ، وهيَ أنْ يتطَلَّعَ المُخَاطَبُ لبيانِ هذا المُجْمَلِ؛ لأنَّهُ إذا جاءَ مُبَيَّنًا منْ أوَّلِ وَهْلَةٍ لم يكُنْ لهُ التَّلَقِّي والقبولُ كما إذا أُجْمِلَ ثمَّ بُيِّنَ.
قوْلُهُ: (وَمَا هُنَّ؟) (ما) اسمُ استفهامٍ مبتدأٌ، و(هنَّ) خبرُ المبتدأِ.
وقيلَ بالعكسِ: (ما) خبرٌ مُقَدَّمٌ وجوبًا؛ لأنَّ الاستفهامَ لهُ الصدارةُ. و(هُنَّ) مبتدأٌ مؤخرٌ؛ لأنَّ (هنَّ) ضميرٌ مَعْرِفةٌ و(ما) نكرَةٌ، والقاعدةُ المُتَّبَعَةُ أنَّهُ يُخْبَرُ بالنكرةِ عن المعرفةِ ولا عَكْسَ.


(7)

قولُهُ: (قالَ: ((الشركُ باللهِ))) قدَّمَهُ؛ لأنَّهُ أعظمُ الموبقاتِ؛ فإنَّ أعظَمَ الذنوبِ أنْ تجْعَلَ للهِ نِدًّا وهوَ خَلَقَكَ.
والشركُ باللهِ يتناولُ
الشركَ برُبُوبِيَّتِهِ، أوْ أُلُوهِيَّتِهِ، أوْ أسمائِهِ، أوْ صفاتِهِ.


فمَن اعتقدَ أنَّ معَ اللهِ خالِقًا أوْ مُعِينًا فهوَ مُشْرِكٌ، أوْ أنَّ أحدًا سوى اللهِ يسْتَحِقُّ أنْ يُعْبَدَ فهوَ مشركٌ، وإنْ لمْ يَعْبُدْهُ، فإنْ عَبَدَهُ فهوَ أعظمُ، أوْ أنَّ للهِ مثيلاً في أسمائِهِ فهوَ مشركٌ، أوْ أنَّ اللهَ استوى على العرشِ كاستواءِ المَلِكِ على عَرْشِ مملكتِهِ فهوَ مشركٌ، أوْ أنَّ اللهَ ينزلُ إلى السماءِ الدنيا كنزولِ الإنسانِ إلى أسفلِ بيْتِهِ منْ أعلى فهوَ مشركٌ.

-

قالَ تعالى: {إِنَّ اللهَ لاَ يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ}.

-

وقالَ تعالى: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ}.
وبَيَّنَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ الشركَ أعظمُ ما يكونُ من الجنايةِ والجُرْمِ بقوْلِهِ حينَ سُئِلَ: أيُّ الذنبِ أعظمُ؟:
((أَنْ تَجْعَلَ للهِ نِدًّا وَهُوَ خَلَقَكَ)).
فالَّذِي خلقَكَ وأوْجَدَكَ وأمَدَّكَ وأعدَّكَ ورزقَكَ كيفَ تجعلُ لهُ ندًّا؟
فلوْ أنَّ أحدًا من الناسِ أحسنَ إليكَ بما دونَ ذلكَ فجعَلْتَ لهُ نظيرًا، لكانَ هذا الأمرُ بالنسبةِ إليهِ كُفْرًا وجُحُودًا.


(8)

قولُهُ: ((والسِّحْرُ)) أيْ: من الموبِقاتِ. وظاهرُ كلامِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ لا فَرْقَ بينَ أنْ يكونَ ذلكَ بواسطةِ الشياطينِ أوْ بواسطةِ الأدويةِ والعقاقيرِ؛ لأنَّهُ إنْ كانَ بواسطةِ الشياطينِ فالَّذِي لا يأتي إلاَّ بالإشراكِ بهم فهوَ داخلٌ في الشركِ باللهِ.
وإنْ كانَ دونَ ذلكَ فهوَ أيضًا جُرْمٌ عظيمٌ؛ لأنَّ السحرَ منْ أعظمِ ما يكونُ في الجنايةِ على بني
آدمَ، فهوَ يُفْسِدُ على المسحورِ أمْرَ دينِهِ ودُنْياهُ، ويُقْلِقُهُ فيُصْبِحُ كالبهائمِ، بلْ أسوأَ منْ ذلكَ؛ لأنَّ البهيمةَ خُلِقَتْ هكذا على طبيعتِها، أمَّا الآدميُّ فإنَّهُ إذا صُرِفَ عنْ طبيعتِهِ وفِطْرَتِهِ لَحِقَهُ من الضيقِ والقلقِ ما لا يعلمُهُ إلاَّ ربُّ العبادِ، ولهذا كانَ السحرُ يلي الشركَ باللهِ عزَّ وجلَّ.


(9)

قولُهُ: ((وَقَتْلُ النَّفْسِ الَّتي حَرَّمَ اللهُ إلاَّ بِالْحَقِّ))القتلُ: إزْهَاقُ الرُّوحِ، والمرادُ بالنفسِ البدنُ الذي فيهِ الروحُ، والمرادُ بالنفسِ هنا نفسُ الآدميِّ، وليسَ نفسَ البعيرِ والحمارِ وما أشْبَهَها.
وقولُهُ:
((الَّتي حَرَّمَ اللهُ)) مفعولُ ((حَرَّمَ)) محذوفٌ تقديرُهُ حَرَّمَ قتْلَها، فالعائدُ على الموصولِ محذوفٌ.
وقولُهُ:
((إلاَّ بِالْحَقِّ)) أيْ: بالعَدْلِ؛ لأنَّ هذا حُكْمٌ، والحقُّ إذا ذُكِرَ بإزاءِ الأحكامِ فالمرادُ بهِ العدلُ، وإنْ ذُكِرَ بإزاءِ الأخبارِ فالمرادُ بهِ الصدقُ، والعدلُ هوَ ما أمرَ اللهُ بهِ ورسولُهُ، قالَ تعالى: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ}.
وقولُهُ:
((إلاَّ بِالْحَقِّ)) أيْ: ممَّا يُوجِبُ القتلَ، مثلَ: الثَّيِّبِ الزانِي، والنفسِ بالنفسِ، والتاركِ لدينِهِ المفارقِ للجماعةِ.


(10)

قولُهُ: ((وَأَكْلُ الرِّبَا))الرِّبَا في اللغةِ:الزيادةُ، ومنهُ قولُهُ تعالى: {فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ} يعني: زَادَتْ.


وفي الشرعِ:

تفاضُلٌ في عَقْدٍ بينَ أشياءَ يجبُ فيها التساوي، ونَسْأٌ في عَقْدٍ بينَ أشياءَ يجبُ فيها التقابُضُ.


(11)

قولُهُ: ((وَأَكْلُ مَالِ اليَتِيمِ))اليتيمُ: هوَ الذي ماتَ أبُوهُ قبلَ بُلُوغِهِ سواءٌ كانَ ذكرًا أمْ أُنْثَى.

أمَّا مَنْ ماتتْ أمُّهُ قبلَ بُلُوغِهِ فليسَ يتيمًا لا شرْعًا ولا لُغَةً؛ لأنَّ اليتيمَ مأخوذٌ من اليُتْمِ، وهوَ الانفرادُ، أي: انفردَ عن الكاسِبِ لهُ؛ لأنَّهُ أباهُ هوَ الذي يكْسِبُ لهُ.

وخصَّ اليتيمَ لأنَّهُ لا أحدَ يُدَافعُ عنهُ؛

ولأنَّهُ أوْلَى أنْ يُرْحَمَ، ولهذا جعلَ اللهُ لهُ حقًّا في الفَيْءِ، وإذا كانَ أحقَّ أنْ يُرْحَمَ؛ فكيفَ يسْطُو هذا الرجلُ الظالمُ على مالِهِ فيأْكُلُهُ؟


(12)

قولُهُ: ((وَالتَّوَلِّي يَوْمَ الزَّحْفِ)) التوَلِّي بمعنى الإدْبَارِ والإعراضِ، ويومُ الزحفِ أيْ: يومُ تلاحُمِ الصفَّيْنِ في القتالِ معَ الكُفَّارِ، وسُمِّيَ يومَ الزحفِ؛ لأنَّ الجُمُوعَ إذا تقَابَلَتْ تجِدُ أنَّ بعضَها يزحفُ إلى بعضٍ، كالذي يمْشِي زحفًا، كلُّ واحدٍ منهم يَهابُ الآخرَ فيمشي رُوَيْدًا رُوَيْدًا.


والتوَلِّي يومَ الزحفِ منْ كبائرِ الذنوبِ؛

لأنَّهُ يتضَمَّنُ الإعراضَ عن الجهادِ في سبيلِ اللهِ، وكَسْرَ قلوبِ المسلمينَ، وتقويةَ أعداءِ اللهِ، وهذا يُؤَدِّي إلى هزيمةِ المسلمينَ.
لكنَّ هذا الحديثَ خصَّصَتْهُ الآيةُ، وهيَ قولُهُ تعالى:
{وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ}.


(13)

قولُهُ: ((وَقَذْفُ الْمُحْصَناتِ))القذفُ: بمعنى الرَّمْيِ، والمرادُ بهِ هنا الرميُ بالزِّنَا، والمحصناتُ هنا الحرائرُ، وهوَ الصحيحُ.


وقيلَ: العَفِيفَاتُ عن الزِّنا.

((الغافلاتِ)) وهنَّ: العفيفاتُ عن الزنا، البعيداتُ عنهُ اللاَّتِي لا يخْطُرُ على بالِهِنَّ هذا الأمرُ.

الشاهدُ منْ هذا الحديثِ قولُهُ: ((السِّحْرُ)).

قال في (تيسير العزيز الحميد) (394): (هذا الأثر رواه البخاري كما ذكرها المصنف، لكنه لم يذكر قتل السحرة، ولعل المصنف أراد أن أصله في البخاري لا لفظه، ورواه الترمذي والنسائي مختصراً، ورواه عبد الرزاق وأحمد وأبو داود مطولاً) .


(14)

قولُهُ: (وعَنْ جُنْدُبٍ) ليسَ هوَ جُنْدُبَ بنَ عبدِ اللهِ الْبَجَلِيَّ، بلْ جُنْدُبَ الخيرِ المعروفَ بقاتلِ الساحرِ.
قولُهُ: (مَرْفُوعًا) أيْ: إلى النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فيكونُ منْ قولِ النبيِّ عليهِ الصلاةُ والسلامُ، لكنْ نقلَ المؤلِّفُ عن
الترمذيِّ قوْلَهُ: (والصحيحُ أنَّهُ موقوفٌ) أيْ: منْ قولِ جُنْدُبٍ.


(15)

قولُهُ: ((حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ)) حدُّهُ: عُقُوبتُهُ المُحَدَّدَةُ شرْعًا، وظاهرُهُ: أنَّهُ لا يكْفُرُ؛ لأنَّ الحدودَ تُطَهِّرُ المحدودَ من الإثمِ، والكافرُ إذا قُتِلَ على رِدَّتِهِ فالقتلُ لا يُطَهِّرُهُ.
وهذا محمولٌ على ما سبقَ، أنَّ منْ أقسامِ السِّحرِ ما لا يُخْرِجُ الإنسانَ عنِ الإسلامِ، وهو ما كانَ بالأدويةِ والعقاقيرِ التي تُوجِبُ الصرفَ والعطفَ وما أشبَهَ ذلكَ.
قولُهُ: (ضَرْبَةٌ بِالسَّيْفِ) رُوِيَ بالتاءِ بعدَ الباءِ، ورُوِيَ بالهاءِ، وكِلاهُما صحيحٌ، لكنَّ الأُولَى أبلغُ؛ لأنَّ التنكيرَ وصيغةَ الْوَحْدَةِ يدُلاَّنِ على أنَّها ضربةٌ قويَّةٌ قاضيةٌ، هذا كنايةٌ عن القتلِ، وليسَ معناهُ أنْ يُضْرَبَ بالسيفِ معَ كونِ ظهرِهِ مُصَفَّحًا.


(16)

قولُهُ: (وَفِي (صَحِيحِ البُخاريِّ))

ذَكَرَ في الشرحِ - أعني (تيسيرَ العزيزِ الحميدِ) - أنَّ هذا اللفظَ ليسَ في (البخاريِّ) والذي في (البخاريِّ) أنَّهُ: (أَمَرَ بَأَنْ يُفَرَّقَ بَيْنَ كُلِّ ذِي رَحِمٍ مِن الْمَجُوسِ) لأنَّهُم يُجَوِّزُونَ نكاحَ المحارمِ والعياذُ باللهِ، فأمرَ عُمَرُ أنْ يُفَرَّقَ بينَ ذويِ الرحمِ ورَحِمِهِ، لكنْ ذكرَ الشارحُ، صاحبُ (تيسيرِ العزيزِ الحميدِ)، أنَّ الْقَطِيعِيَّ رواهُ في الجزءِ الثاني منْ (فوائِدِهِ)، وفيهِ: (ثُمَّ اقْتُلُوا كُلَّ كَاهِنٍ وَسَاحِرٍ).
وقالَ، أي: الشارحُ:
(إسنادُهُ حَسَنٌ) قالَ: وعلى هذا فعَزْوُ المصنِّفِ إلى (البخاريِّ) يَحْتَمِلُ أنَّهُ أرادَ أصْلَهُ لا لَفْظَهُ. ا هـ.
قال
ابن عطية: (الخَلاق في أصله الحظ والنصيب؛ إلا أنه في الآية بمعنى الجاه والقدر).
وهذا القتلُ هلْ هوَ حدٌّ أمْ قتْلُهُ لكُفْرِهِ؟
يحْتَمِلُ هذا وهذا؛ بناءً على التفصيلِ السابقِ في كُفْرِ الساحرِ، ولكنْ بناءً على ما سبقَ من التفصيلِ نقولُ:
مَنْ خرجَ بهِ السِّحرُ إلى الكفرِ فقَتْلُهُ قتلُ رِدَّةٍ، ومَنْ لمْ يَخْرُجْ بهِ السحرُ إلى الكفرِ فقتْلُهُ منْ بابِ دفعِ الصائلِ، يَجِبُ تنفيذُهُ حيثُ يراهُ الإمامُ.
والحاصلُ: أنَّهُ يجبُ أنْ نَقْتُلَ السحرةَ سواءٌ قُلْنَا بكفرِهم أمْ لمْ نَقُلْ؛ لأنَّهُم يُمْرِضُونَ ويَقْتُلُونَ؛ ويُفَرِّقُونَ بينَ المرءِ وزوجِهِ، وكذلكَ بالعكسِ، فقدْ يعْطِفُونَ فيُؤَلِّفُونَ بينَ الأعداءِ ويتوَصَّلُونَ إلى أغراضِهم، فإنَّ بعضَهم قدْ يَسْحَرُ أحدًا ليَعْطِفَهُ إليهِ وينالَ مَأْرَبَهُ منهُ، كما لوْ سحرَ امرأةً ليبغيَ بها؛ ولأنَّهُم كانوا يسْعَوْنَ في الأرضِ فسادًا فكانَ واجبًا على وليِّ الأمرِ قتْلُهم بدونِ استتابةٍ ما دامَ أنَّهُ لدفعِ ضررِهم وفظاعةِ أمرِهِم، فإنَّ الحدَّ لا يُسْتَتَابُ صاحبُهُ، متى قُبِضَ عليهِ وَجَبَ أنْ يُنَفَّذَ فيهِ الحدُّ.


(17)

قولُهُ: (قالَ أَحْمَدُ: عَنْ ثَلاثَةٍ مِنْ أَصْحابِ النَّبِيِّ صلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) وهم: عمرُ، وحَفْصَةُ، وجُنْدُبُ الخيرِ، أيْ: صحَّ قتلُ الساحرِ عنْ ثلاثةٍ منْ أصحابِ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.


والقولُ بقتلِهِم موافقٌ للقواعدِ الشرعيَّةِ؛

لأنَّهُم يسْعَوْنَ في الأرضِ فسادًا، وفسادُهم منْ أعظمِ الفسادِ، فقتلُهم واجبٌ على الإمامِ، ولا يجوزُ للإمامِ أنْ يتخَلَّفَ عنْ قتلِهم؛ لأنَّ مثلَ هؤلاءِ إذا تُرِكوا وشأْنَهُم انتشرَ فسادُهم في أرضِهم وفي أرضِ غيرِهم؛ وإذا قُتِلُوا سَلِمَ الناسُ مِنْ شرِّهم؛ وارْتَدَعَ الناسُ عنْ تعاطي السحرِ.


(18)

فِيهِ مَسائِلُ:

الأُولى: ((تَفْسِيرُ آيةِ البَقَرَةِ)) وهيَ قولُهُ تعالى: {وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ} أيْ: نصيبٍ، ومَنْ لا خلاقَ لهُ في الآخرةِ فإنَّهُ كافرٌ؛ إذْ كُلُّ مَنْ لهُ نصيبٌ في الآخرةِ فإنَّ مآلَهُ إلى الجَنَّةِ.


(19)

الثانيةُ:

((تَفْسيرُ آيةِ النِّساءِ)) وهيَ قولُهُ تعالى: {يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}، وفسَّرَ عُمرُ الجبتَ بالسحرِ وبأنَّ الطاغوتَ الشيطانُ، وفُسِّرَ بأنَّ الجِبْتَ: كلُّ ما لا خيرَ فيهِ من السحرِ وغيْرِهِ.

وأمَّا الطاغوتُ فهوَ: كلُّ ما تجاوزَ بهِ الإنسانُ حدَّهُ منْ معبودٍ أوْ متبوعٍ أوْ مُطَاعٍ.


(20)

الثالثةُ: ((تَفْسِيرُ الْجِبْتِ والطَّاغُوتِ والفَرْقُ بَيْنَهُمَا))

وهذا بناءً على تفسيرِ عُمَرَ رضيَ اللهُ عنهُ.


(21)

الرَّابِعَةُ: ((أَنَّ الطاغوتَ قَدْ يَكُونُ مِن الْجِنَّ وَقَدْ يَكُونُ مِن الإنْسِ))

تُؤْخَذُ منْ قولِ جابرٍ: (الطواغيتُ كُهَّانٌ).


وكذلكَ:

قولُ عمرَ: (الطاغوتُ الشيطانُ) فإنَّ الطاغوتَ إذا أُطْلِقَ فالمرادُ بهِ: شيطانُ الجنِّ، والكُهَّانُ شياطينُ الإنسِ.


(22)

الخامِسَةُ:((مَعْرِفَةُ السَّبْعِ الْمُوبِقاتِ الْمَخْصوصاتِ بالنَّهْيِ))

وقدْ سبقَ بيانُها.


(23)

السَّادِسَةُ: ((أنَّ السَّاحِرَ يَكْفُرُ)).

تُؤْخَذُ منْ قولِهِ تعالى: {وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ...} الآيةَ.


(24)

السَّابِعَةُ: ((أَنَّهُ يُقْتَلُ وَلا يُسْتَتَابُ))

يُؤْخَذُ منْ قولِهِ: (حَدُّ السَّاحِرِ ضَرْبَةٌ بالسَّيفِ).
والحدُّ إذا بلغَ الإمامَ لا يُسْتَتَابُ صاحبُهُ، بلْ يُقْتَلُ بكلِّ حالٍ، أمَّا الكفرُ فإنَّهُ يستتابُ صاحبُهُ، وهذا هوَ الفرقُ بينَ الحدِّ وبينَ عقوبةِ الكفرِ، وبهذا نعرفُ خطأَ مَنْ أدخلَ حُكْمَ المُرْتَدِّ في الحدودِ، وذَكَرُوا من الحدودِ قتْلَ الرِّدَّةِ.


فقتْلُ المرْتَدِّ ليسَ من الحدودِ؛

لأنَّهُ يُسْتَتَابُ، فإذا تابَ ارتفعَ عنهُ القتلُ، وأمَّا الحدودُ فلا تَرْتَفِعُ بالتوبةِ إلاَّ أنْ يتُوبَ قبلَ القُدْرَةِ عليهِ، ثمَّ إنَّ الحدودَ كفَّارةٌ لصاحبِها وليسَ بكَافِرٍ، والقتلَ بالرِّدَّةِ ليسَ كفَّارةً، وصاحبُها كافرٌ لا يُصَلَّى عليهِ ولا يُغَسَّلُ ولا يُدْفَنُ في مقابرِ المسلمينَ.


(25)

الثامنةُ: ((وُجودُ هَذا فِي الْمُسْلِمينَ عَلَى عَهْدِ عُمَرَ))

فَكَيْفَ بَعْدَهُ؟
تُؤْخَذُ منْ قوْلِهِ: (كَتَبَ
عُمرُ أن اقْتُلُوا كلَّ سَاحِرٍ وسَاحِرَةٍ) فهذا إذا كانَ في زمنِ الخليفةِ الثاني في القرونِ المُفَضَّلَةِ، بلْ أفْضَلِها، فكيفَ بعدَهُ من العصورِ التي بَعُدَتْ عنْ وقتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وخلفائِهِ وأصحابِهِ، فهوَ أكثرُ انتشارًا بينَ المسلمينَ.

هيئة الإشراف

#5

27 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (هذا باب ما جاء في السحر

ومناسبة ذكر السحر لكتاب التوحيد: أن السحر نوع من الشرك، وقد قال عليه الصلاة والسلام: ((من سحر فقد أشرك)).
فالسحر أحد أنواع الشرك الأكبر بالله -جل وعلا-، ومناسبته ظاهرة: أنه مضاد لأصل التوحيد.
والسحر في اللغة: هو عبارة عما خفي ولَطُفَ سببه.


(خفي)

يعني: صار سبب ذلك الشيء خفيّاً لا يقع بظهور، وإنما يقع على وجه الخفاء،ولهذا سُمي آخر الليل (سحراً) لذلك، وكذلك قيل في أَكْلة آخرِ الليل (سُحور) وذلك لأنها تقع على وجه الخفاء وعدم الاشتهار والظهور من الناس.

فهذه اللفظة (سِحْرٌ) وما اشتقت منه تدل على خفاء في الشيء، ولهذا فإنه في اللغة يطلق السحر على أشياء كثيرة:

- منها ما يكون من جهة المقال.

- ومنها ما يكون من جهة الفعل.
- ومنها ما يكون من جهة الاعتقاد.
وسيأتي في هذا الباب وفي الباب الذي بعده:

(باب بيان شيء من أنواع السحر) ما يتصل بذلك.

وأما السحر الذي هو كفر وشرك أكبر بالله -جل وعلا-: فهو استخدام الشياطين والاستعانة بها لحصول أمر بواسطة التقرب لذلك الشيطان بشيء من أنواع العبادة.

والسحر عرّفه الفقهاء بقولهم: رُقَى.

قالوا السحر: هو رُقى، وعزائم، وعقد ينفث فيها فيكون سحراً يضرُّ حقيقةً، ويمرض حقيقة، ويقتل حقيقة.
فإذاً حقيقة السحر: أنه استخدام للشياطين في التأثير،

ولا يمكن للساحر أن يصل إلى إنفاذ سِحْرِه حتى يكون متقرباً إلى الشياطين، فإذا تقرب إليها خدمته الجنَّ _ يعني شياطين الجنَّ _ بأن أَثَّرَت في بَدَنِ المسحور.

فلكل سِحْرٍ خادم من الشياطين يخدمه، ولكل ساحر مستعان به من الشياطين، فلا يمكن للساحر أن يكون ساحراً على الحقيقة إلا وهو يتقرب إلى الشياطين.

ولهذا نقول: السحر شرك بالله -جل وعلا-.

وهناك شيء قد يكون في الظاهر أنه سحر، ولكنه في الباطن ليس بسحر، وهذا ليس الكلام فيه، وإنما الكلام فيما كان من السحر بالاستعانة بالشياطين، وباستخدام الرقى، والتعويذات، والعقد والنفث فيها.
- وقد قال -جل وعلا-: {ومن شر النفاثات في العقد}والنفاثات: هن السواحر اللاتي يعقدن العقد، وينفثن فيها.
خُصَّت الإناث بذلك بالاستعاذة؛ لأن الغالب في السحر ممن يستخدمه في الجاهلية وعند أهل الكتاب أن الذي يستخدمه النساء، فجرى ذلك مجرى الغالب.
- قال -جل وعلا-: {ومن شر النفاثات في العقد}النفاثات: جمع نفّاثة، صيغة مبالغة في النفث؛ لأنها تكثر النفث في العقدة، وتنفث برقى، وتعازيم، وتعويذات، تستخدم فيها الجنلتخدم هذه العقدة التي فيها شيء من بَدَن المسحور، أو فيها شيء يتعلق بالمسحور، حتى يكون ذلك مؤثراً فيه.
وقد سَحَرَ يهوديٌّ النبيَّ -صلى الله عليه وسلم- في مُشط ومُشاطة: يعني في أشياء من شَعْرِه عليه الصلاة والسلام، حتى يخيّل للنبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يفعل الشيء ولا يفعله من جهة نسائه عليه الصلاة والسلام، يعني كان سحر ذلك اليهودي مؤثراً في بدنه عليه الصلاة والسلام، لكنه لم يكن مؤثراً في علمه، ولا في عقله، ولا في روحه عليه الصلاة والسلام، وإنما في بدنه يخيل إليه أنه قد واقع نساءه وهو لم يواقع، ونحو ذلك، هذا السحر الذي فيه استخدام الشياطين شرك وكفر بالله -جل وعلا-.
- قد قال سبحانه: {واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان} والذي تلته الشياطين على ملك سليمان هو ما قرءوا في كتب السحر، وما يتصل بذلك من عمل السحر.
- قال -جل وعلا-: {وما كفر سليمان ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر}.

- فعلل كفر الشياطين بقوله {يعلمون الناس السحر وما أُنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت}.

- قال سبحانه: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} فإذا تَعلُّم السحر، تُعلّمه من جهة فهم كيف يكون السحر، وكيف يَعمل السحر.

هذا لا يمكن أن يكون إلا بالكفر والشرك.

- لكن هناك مرتبة: أنه يتعلم ذلك نظريّاً ولا يعمله.

- وهناك مرتبة:

أنه يتعلمه ويعمله ولو مرة.

- وهناك مرتبة:

الساحر الذي يتعلم ويعمل به دائماً.

قال -جل وعلا-: {وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} فدلَّ على أن تعلمه بمجرده كفر، ولهذا نقول الصحيح أن تعلم السحر ولو بدون عمل، شرك وكفر بالله -جل علا- بنص الآية، لِمَ ؟

لأنه لا يمكن أن يتعلم السحر إلا بتعلم الشرك بالله -جل وعلا- وكيف يشرك، وإذا تعلم الشرك فهو مشرك بالله -جل وعلا-.

بعض العلماء يقول: السحر قسمان:

- كقول الشافعي وغيره-:

منه: ما يكون بالاستعانة بالشياطين، فهذا كفر وشرك أكبر.

ومنه: ما يكون بالأدوية والتدخينات، فهذا فسق ومحرم، ولا يكفر فاعله إلا إذا استحله.

وهذا التقسيم من الشافعي وممن تبعه هو من جهة الواقع، يعني نظروا في الذين يمارسون ذلك، فمنهم من يقول: إنه ساحر وليس كذلك من جهة السحر الشرعي الحقيقي، يعني: السحر الذي وُصِفَ في الشرع، فيقول: هو ساحر وهو يستخدم أدوية وتعويذات، وفي الحقيقة هو مشعوذ ولا يصدق عليه اسم الساحر، وهذا في ما يفعل يؤثر عن طريق الأدوية.
وأما الصرف والعطف،

يعني: جلب محبة امرأة لزوجها، أو صرف محبة المرأة لزوجها، أو العكس، فهذا من القسم الأول؛ لأنه من نواقض الإسلام، فالسحر من نواقض الإسلام لأنه شرك بالله، ومنه الصرف والعطف. لأنه لا يمكن لأحد أن يصل إلى روحِ وقلبِ من يُراد صرفه أو العطف إليه إلا بالشرك. لأن الشيطان هو الذي يؤثر على النفس، ولن يخدم الشيطان الإنسي الساحر إلا بعد أن يشرك بالله -جل وعلا-.

إذاً: فتحصل أنَّ السحر بجميع أنواعه فيه استخدام للشياطين، واستعانة بها، والشياطين لا تخدم إلا من تقرَّب إليها يتقرب إليها، بأي شيء؟

بالذبح، يتقرب إليها بأي شيء؟

بالاستغاثة، يتقرب إليها بالاستعانة؛ ونحو ذلك، يعني: يصرف إليها شيئاً من أنواع العبادة.
بل قد نظرتُ في بعض كتب السحر، فوجدت أنَّ الساحر _ بحسب ما وصف ذلك الكاتب _ لا يصل إلى حقيقة السحر وتخدمه الجن كما ينبغي؛ حتى يهين القرآن، ويهين المصحف؛ وحتى يَكفر بالله، ويسب الله -جل وعلا- ونبيه -صلى الله عليه وسلم-، وهذا قد ذكره بعض -أيضاً- من اطَّلع على حقيقة الحال.
إذاً فنقول: السحر شرك بالله تعالى، وكل ساحر مشرك،وقتل الساحر فيما سيأتي على الصحيح أنه قتلُ رِدَّة، لا قتل تعزير؛ كما سيأتي، فالشيخ-رحمه الله- عقد هذا الباب، (باب ما جاء في السحر) لبيان تلك المسألة.
- قال: (وقول الله تعالى: {ولقد علموا لَمَن اشتراه ما له في الآخرة من خلاق}) وجه الاستدلال بهذه الآية قوله: {ما له في الآخرة من خلاق} يعني: ما له في الآخرة من نصيب، الخلاق: بمعنى النصيب.
{لمن اشتراه} يعني: اشترى السحر، والاشتراء فيه دفع شيء، يعني أن يأخذ شيئاً ويدفع عوضه، حقيقة الشراء: أن تشتري سلعة مثلاً تدفع ثمنها، تأخذ مُثْمناً وتدفع ثمناً، والساحر اشترى، مَن تَعلَّم السحر: اشترى أي شيء؟
اشترى السحر، بدل أي شيء؟
بدل توحيده، فالثمن هو التوحيد، الثمن هو الإيمان بالله وحده، والمثمن هو السحر، ولهذا قال -جل وعلا- هنا، {ولقد علموا لمن اشتراه} يعني من دفع دينه عوضاً عن ذلك الشيء الذي أخذه، وهو السحر.
{ماله في الآخرة من خلاق} يعني: من نصيب، وهكذا المشرك ليس له في الآخرة من نصيب.
فوجه الاستدلال ظاهر من أنَّ الساحر قد جعل دينه عوضاً عن ذلك الذي اشتراه وتعلَّمه وعمل به.
قال: (وقوله: {يؤمنون بالجبت والطاغوت} قال عمر: الجبت السحر) وهذا في ذم أهل الكتاب، فإن أهل الكتاب لما آمنوا بالسحر ذمهم الله -جل وعلا- ولعنهم، وغضب عليهم.
وهذا يكثر في اليهود، يكثر السحر واستعمال السحر في اليهود، ولهذا ذمهم الله -جل وعلا- ولعنهم، وغضب عليهم.
قال عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-: (الجبت: السحر).
وإذا كان الله ذمهم، ولعنهم، وغضب عليهم لأجل ذلك، هذا يفيد أنه من المحرمات ومن الكبائر، وإذا كان فيه إشراك بالله -جل وعلا- فظاهرٌ أنه شرك بالله -جل وعلا-، وهكذا جميع أصنافه كذلك.
قال: (الطاغوت: الشيطان) يعني: الجبتاسم عام يشمل أشياء كثيرة كما ذكرنا، ومن أبرزها وأظهرها عند اليهود السحر، فيؤمنون بالجبت: يعني بالسحر؛ لأنه هو أظهر الأشياء عندهم، ويؤمنون بالطاغوت: يعني بالشيطان، وهو كل ما توجهوا إليه بالطاعة، وبعد عن الحق، وعن الصواب.
وجه الاستدلال من ذلك: أنَّ السحر من الموبقات، والموبقات: هي التي توبق صاحبها وتجعله في هلاكٍ وخسارٍ في الدنيا وفي الآخرة، وهي أكبر الكبائر (هذه السبع) وعطف السحر على الشرك بالله ليس عطفاً بين متغايرين في الحقيقة، وإنما هو عطفٌ بين خاصٍّ وعام، فالشرك بالله يكون بالسِّحر ويكون بغيره، فعَطَف السحر على الشرك للتنصيص عليه، والسحر كما ذكرنا أحد أفراد الشرك بالله -جل وعلا-.
وعَطْفُ الخاص على العام أمثلته كثيرة؛ كقوله -جل وعلا-: {من كان عدواً لله وملائكته ورسله وجبريل وميكال فإن الله عدوٌّ للكافرين} فعطف جبريل وميكال على الملائكة، وهذا من عطف الخاص على العام.
((حدُّ الساحر ضربهُ بالسيف)) رويت هكذا ((ضربهُ)) وهو الأصح، ورويت ((ضربةٌ))((حد الساحر ضربةٌ بالسيف)) فعلى رواية ضربة لا يكون لها مفهوم، يعني إن مات بضربة، أو يضرب ضربتين، أو ثلاث، لأن العدد لا مفهوم له.
قوله: ((حد الساحر)) هنا لم يفصّل بين ساحر وساحر فقال: حد الساحر، ولم يأت في أدلة الكتاب والسنة التفصيل في اسم الساحر الذي يحد، أو الذي وصف بالكفر بين نوع ونوع من التأثير، فالأنواع التي يستخدمها السحرة مما يصدق عليه أنه سحر في التأثير، وفي الإمراض، وفي التفريق، وفي التأثير على العقول وعلى القلوب، ونحو ذلك من أنواع التأثير الخفي الذي يكون باستخدام الشياطين أو بأمورٍ خفيةٍ، فهذا كله لا يُفَرَّقُ فيه بين فاعل وفاعل، والأدلة ما فرَّقت، فلهذا قال العلماء: الصحيح أنَّ الساحر من أي نوع، حدُّه أن يقتل.
وهل حدّه حد كفر وردِّة؟ أو حد لأجل أنه قَتَل، فيكون حدّاً لأجل القتل، أو حد تعزير؟
اختلف العلماء في ذلك:
-

والصحيح من هذه: أنه في الجميع حد ردة؛ لأن حقيقة السحر أنه لا بد أن يكون فيه إشراك بالله -جل وعلا-، فمَن أشرك بالله -جل وعلا- فقد ارتد، وحل دمه وماله.


- شيخ الإسلام ابن تيمية له تفصيل، يقول فيه ما مقتضاه: (إنَّ الساحر قد لا تُدرك حقيقة سحره فيترك أمره في قتله إلى الإمام، إذا رأى المصلحة في قتله قتله، وإن لم ير المصلحة في قتله لم يقتله، ويعني بالمصلحة، المصلحة الشرعية.

هذا ظاهر في الأمر بقتل الساحر والساحرة بدون تفصيل، ولأن حقيقة السحر لا تكون إلا بشركٍ بالله -جل وعلا-، وذلك ردة).

قال: (وصح عن حفصة -رضي الله عنه-ا أنها أمرت بقتل جارية لها سحرتها فقُتِلَتْ، وكذلك صح عن جندب، قالأحمد: عن ثلاثة من أصحاب النبي -صلى الله عليه وسلم-) يعني أنَّ الساحر يجب أن يُقتل وهذا حده، سواء قلنا:
- يقتل لحد الردة.
-

أو يقتل لحد القتل.

-

أو يقتل تعزيراً، فالصحابة -رضوان الله عليهم- أفتوا بقتله وأمروا بقتله وذلك بدون تفريق، وهذا هو الواجب: أن لا يفرق بين نوع ونوع.

والواجب على المسلمين أن يحذروا السحر بأنواعه،

وأن يتعاونوا في الإبلاغ براءة للذمة، وإنكاراً للمنكر عن كل من يعلمون عنده شعوذةً، أو استخداماً لشيء من الخرافات أو السحر ونحو ذلك؛ لأنه كما قال الأئمة:(ما يدخل السحرة إلى بلد إلا ويفشوا فيها الفساد والظلم والاعتداء والطغيان، ذلك لأنهم يستخدمون الشياطين فتطيع الشياطين السحرة) أعاذنا الله منهم، ومن أقوالهم، وأعمالهم، وتأثيراتهم.

هيئة الإشراف

#6

27 Oct 2008

تخريج أحاديث منتقدة في كتاب التوحيد للشيخ: فريح بن صالح البهلال

قال الشيخ فريح بن صالح البهلال: (بابُ مَا جاءَ في السِّحْرِ

وعن جندبَ مرفوعاً ((حدُّ السَّاحرِ ضربةٌ بالسَّيفِ))أخرجـَهُ التّرمذيُّ، والدَّار قطنيُّ، والطَّبرانيُّ، وابنُ عديٍّ، والجصَّاصُ، والحاكمُ، والبيهقيُّ، والبغويُّ، وابنُ الأثيرِ، والمزيُّ.

من طريقِ إسماعيلَ بنِ مسلمٍ المكيِّ عن الحسنِ البصريِّ عن جندبِ الخيرِ - رضيَ اللهُ عنْهُ - قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الحديثُ.

قالَ الحاكمُ:(هذا حديثُ صحيحُ الإِسنادِ، وإن كانَ الشَّيخانِ قدْ تركَا حديثَ إسماعيلَ بنِ مسلمٍ؛ فإنَّهُ غريبٌ صحيحٌ، ووافقَهُ الذَّهبيُّ، ورمَزَ لصحَّتِهِ السّيوطيُّ، وحسَّنَهُ البغويُّ، وخالفَهُمْ آخرونَ فضعَّفُوهُ).
قالَ
ابنُ العربيِّ: (حديثٌ ضعيفٌ).
وقالَ الحافظُ
ابنُ حجرٍ:(فيه ضعفٌ).
وقالَ
البيهقيُّ:(إسماعيلُ بنُ مسلمٍ ضعيفٌ).
وقالَ
التِّرمذيُّ: (هذا حديثٌ لا نعرفُهُ مرفوعاً إلا من هذا الوجهِ، وإسماعيلُ بنُ مسلمٍ المكيُّ يضعَّفُ في الحديثِ).
قالَ الحافظُ
ابنُ كثيرٍ معقِّباً عليهِ: (قلـْتُ: قدْ رواهُ الطَّبرانيُّ من وجهٍ آخرٍ عن الحسنِ عن جندبَمرفوعاً، واللهُ أعلمُ) اهـ.
قلْتُ: وروايةُ
الطَّبرانيِّ له جاءتْ بالسَّندِ التَّالِي: (حدَّثَنَا محمَّدُ بنُ يوسفَ التّركيُّ، ثنَا محمَّدُ بنُ الحسنِ بنِ سيَّارٍ، ثنَا خالدُ العبدِ، عن الحسنِ، عن جندبَ، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ: ((حدُّ السَّاحرِ ضربةٌ بالسَّيفِ)).
ولا يفرحُ بهذا الوجهِ إن كانَ
خالدُ العبدِ هو خالدُ بنُ عبدِ الرَّحمنِ العبدُ؛ وذلك أنَّهُ قالَ فيه الحافظُ الذَّهبيُّ: (واهٍ، تركُوهُ).
قلْتُ: وحديثُ
إسماعيلَ بنِ مسلمٍ هذا جاءَ مرفوعاً متّصلاً، وذلك بروايةِ أبي معاويةَ محمَّدِ بنِ خازمٍ الضَّريرِ عنه وهي هذهِ.
وجاءَ عنه عن
الحسنِ البصريِّ أيضاً مرفوعاً مرسلاً، فقدْ أخرجَ عبدُ الرزَّاقِ ومن طريقهِ ابنِ حزمٍ عن سفيانَ بنِ عيينةَ عن إسماعيلَ بنِ مسلمٍ عن الحسنِ، قالَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((حدُّ السَّاحرِ ضربةٌ بالسَّيفِ)).
هذا وقد ذكرَ له الحافظُ
ابنُ حجرٍ وجهينِ أيضاً عن الحسنِ، عن جندبِ الخيرِ، مرفوعاً فقالَ: (روى التِّرمذيُّ من طريقِ الحسنِ عن جندبَ بنِ كعبٍ، قالَ: (حدُّ السَّاحرِ ضربةٌ بالسَّيفِ) ورجَّحَ أنَّهُ موقوفٌ.
أخرجَ
الطَّبرانيُّ حديثَ حَدِّ السَّاحرِ في ترجمةِ جندبَ بنِ عبدِ اللهِ البجليِّ، والصَّوابُ أنَّهُ غيرُهُ، وقد رواهُ ابنُ قانعٍ، والحسنُ بنُ سفيانَ من وجهينِ، عن الحسنِ، عن جندبِ الخيرِ: (أنَّهُ جاءَ إلى ساحرٍ فضربَهُ بالسَّيفِ حتَّى ماتَ).
وقالَ:
سمعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ فذكرَهُ) اهـ.
ولم أقفْ على إسنادِ هذينِ الوجهينِ، والظَّاهرُ أنَّهُمَا صالحانِ للاحتجاجِ؛ لأنَّ
الحافظَ احتجَّ بهما على وهمِ الطَّبرانيِّ المذكورِ.


فهذا الحديثُ جاءَ من طرقٍ أربعٍ- كما رأيْتَ-:

الأولى: طريقُ إسماعيلَ بنِ مسلمٍ المكيِّ وهو ضعيفٌ عندَ أهلِ العلمِ إلا أنَّ أبا حاتمٍ الرَّازيَّ قالَ: (هو ضعيفُ الحديثِ ليسَ بمتروكٍ، يكتَبُ حديثُهُ).
الثَّانيةِ: طريقُ خالدٍ العبدِ وهو متروكٌ.
والثَّالثةِ والرَّابعةِ: احتجَّ بهما الحافظُ ولم يتعقَّبْهُمَا بشيءٍ.
قالَ
المناويُّ: (وأشارَ مغلطاي إلى أنَّهُ وإنْ كانَ ضعيفاً يتقوَّى بكثرةِ طرقِهِ، وقالَ: خرَّجَهُ جمعٌ منهم البغويُّ الكبيرُ والصَّغيرُ والطَّبرانيُّ والبزَّارُ، ومن لا يُحْصَى كثرةً) اهـ.
قلْتُ: وممَّا يؤيِّدُ قوَّتَهُ وأنَّ له أصلاً، صحَّةُ قتلِ جندبٍ الخيرِ للسَّاحرِ، وأمرُ عمرَ بنِ الخطَّابِ بقتلِ كلِّ ساحرٍ وساحرةٍ.
أمَّا قتلُ
جندبَ للسَّاحرِ، فأخرجَهُ البخاريُّ والدَّارقطنيُّ، والطَّبرانيُّ، والبيهقيُّ، وابنُ مندهَ.


من طريقِ هشيمِ بنِ بشيرٍ أنبأَ خالد الحذَّاء عن أبي عثمانَ النَّهديِّ، عن جندبَ أنَّهُ قتلَ ساحراً كانَ عندَ الوليدِ بنِ عقبةَ، ثمَّ قالَ {أَفَتَأتُونَ السِحرَ وَأَنتُم تُبصِرُونَ}.


خالدُ الحذَّاءُ،

قالَ الحافظُ في (التَّقريبِ): (ثقةٌ يُرْسِلُ).
وقالَ الإِمامُ
أحمدُ: (لم يسمعْ من أبي عثمانَ النهديِّ شيئاً).


قلْتُ:

لم أقفْ على تاريخِ مولدِهِ، وأمَّا وفاتُهُ ففي سنةِ إحدى أو اثنتين وأربعين ومائةٍ للهجرةِ ووفاةُ أبي عثمانَ سنةَ خمسٍ وتسعينَ للهجرةِ، أي بينَ الوفاتينِ47 سنةً، فالمعاصرةُ ممكنةٌ والبلدُ واحدٌ، فبلدُ خالدٍ الشَّامُ ثمَّ البصرةُ، وبلدُ أبي عثمانَ الكوفةُ ثمَّ البصرةُ، وممَّا يؤيِّدُ سماعَهُ منه أنَّ عاصماً الأحولَ البصريَّ ماتَ سنةَ 141 أو 142 هـ، وقد سمعَ من أبي عثمانَ بدليلِ قولِ شعبةَ: (عاصمٌ أحبُّ إليَّ من قتادةَ في أبي عثمانَ النَّهديِّ لأنَّهُ أحفظُهُمَا).
طريقٌ أخرى، قالَ
البخاريُّ: (حدَّثنَا موسى، قالَ: ثنا عبدُ الواحدِ عن عاصمٍ عن أبي عثمانَ: قتلَهُ جندبُ بنُ كعبٍ).
رجالُهُ رجالُ الصَّحيحِ،
موسى هو ابنُ إسماعيلَ المنْقَريُّ ثقةٌ ثبتٌ.
و
عبدُ الواحدِ هو العبديُّ ثقةٌ، وعاصمٌ هو الأحولُ ثقةٌ.
طريقٌ أخرى، قالَ الحاكمُ: (أخبرَنَا أبو عبدِ الرَّحمنِ محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ أبي الوزيرِ التَّاجرُ، أنبأَ أبو حاتمٍ محمَّدُ بنُ إدريسَ الحنظليُّ بالرّيِّ ثنَا محمَّدُ بنُ عبدِ اللهِ الأنصاريُّ، ثنَا الأشعثُ بنُ عبدِ الملكِ، عن الحسنِأنَّ أميراً من أمراءِ الكوفةِ دعا ساحراً يلعبُ بينَ يدي النَّاسِ فبلغَ جندبَ، فأقبلَ بسيفِهِ واشتملَ عليهِ، فلمَّا رآهُ ضربَهُ بسيفِهِ، فتفرَّقَ النَّاسُ عنه، فقالَ: أيُّهَا النَّاسُ، لن تُرَاعُوا إنَّمَا أردْتُ السَّاحرَ؛ فأخذَهُ الأميرُ فحبسَهُ فبلغَ ذلك عثمانَ فقالَ: بئسَ ما صنعَا، لم يكنْ ينبغِي لهذا وهو إمامٌ يُؤْتَمُّ بهِ يدعُو ساحراً يلعبُ بينَ يديهِ، ولا ينبغِي لهذا أنْ يعاتِبَ أميرَهُ بالسَّيفِ).
رجالُهُ ثقاتٌ ما خلا
شيخَ الحاكمِ فلم أقفْ له على ترجمةٍ.


طريقٌ أخرى،

أخرجَ البيهقيُّ من طريقِ عبدِ اللهِ بنِ وهبٍ أخبرَنِي ابنُ لهيعةَ عن أبي الأسودِ، أنَّ الوليدَ بنَ عقبةَ كانَ بالعراقِ يلعبُ بينَ يديهِ ساحرٌ… الحديثُ.
إسنادُهُ قويٌّ،
ابنُ لهيعةَ، وإن كانَ فيه مقالٌ إلا أنَّ روايةَ عبدِ اللهِ بنِ وهبٍ عنه صحيحةٌ.
ومن هذه الطُّرقِ الصَّحيحةِ نعلمُ أنَّهُ صحَّ وثبتَ عن
جندبِ الخيرِ قَتْلُ السَّاحرِ، ولهذا قالَ التِّرمذيُّ: والصَّحيحُ عن جندبَ موقوفٌ، والعملُ على هذا عندَ بعضِ أهلِ العلمِ من أصحابِ النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وغيرِهِمْ.
وأمَّا أمرُ
عمرَ بنِ الخطَّابِ - رَضِي اللهُ عَنْهُ - بقتلِ كلِّ ساحرٍ وساحرةٍ، فأخرجَهُ أحمدُ والبخاريُّ، وأبو داودَ، وابنُ أبي شيبةَ، وعبدُ الرزَّاقِ، وسعيدُ بنُ منصورٍ، وعبدُ اللهِ بنُ الإِمامِ أحمدَ، والبيهقيُّ، وابنُ حزمٍ، وأبو عبيدٍ.


من طريقِ سفيانَ بنِ عُيَيْنةَ قالَ: سمعْتُ عمرو بنَ دينارٍ، سمعَ بجالةَ بنَ عَبَدَةَ يقولُ: (كنتُ كاتباً لِجَزْءِ بنِ معاويةَ عمِّ الأحنفِ بنِ قيسٍ، فأتانَا كتابُ عمرَ قبلَ موتِهِ بسنةٍ: أنْ اقتُلُوا كلَّ ساحرٍ، وربَّمَا قالَ سفيانُ: وساحرةٍ، وفرِّقُوا بينَ كلِّ ذي محرمٍ من المجوسِ وانهوهُمْ عن الزمزمةِ، فقتَلْنَا ثلاثةَ سواحرَ، وجعلْنَا نفرِّقُ بينَ الرَّجلِ وبين حريمِهِ في كتابِ اللهِ، وصنعَ جَزْءٌ طعاماً كثيراً وعرضَ السَّيفَ على فخذِهِ، ودعا المجوسَ، فألقوا وِقْرَ بغلٍ أو بغلينِ من وَرِقِ، وأكلُوا من غير زَمْزَمَةٍ، ولم يكنْ عمرُ أخذَ.
وربَّمَا قَالَ
سفيانُ: قَبِلَ الجزيةَ من المجوسِ حتَّى شهدَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذَهَا من مجوسِ هجرَ.
وقالَ أبي: قالَ
سفيانُ: حجَّ بجالةُ مع مصعبٍ سنةَ سبعينَ)
.
هذا لفظُ
أحمدَ، والباقونَ بنحوِهِ، غيرَ البخاريِّ فإنَّهُ اقتصرَ منه على الجزءِ الَّذي يدلُّ على التَّرجمةِ - كعادتِهِ - وهي: (بابُ الجزيةِ والمُوَادعَةِ معَ أهلِ الذِّمَّةِ والحربِ).
وهذا لفظـُهُ:
(حدَّثَنَا عليُّ بنُ عبدِ اللهِ حدَّثَنَا سفيانُ قالَ: سمعْتُ عمراً قالَ: كنْتُ جالساً معَ جابرِ بنِ زيدٍ وعمرو بنِ أوسٍ، فحدَّثَهُمَا بجالةُ سنةَ سبعينَ عامَ حجِّ مصعبِ بنِ الزُّبيرِ بأهلِ البصرةِ عندَ درجِ زمزمَ.
قالَ: كنتُ كاتباً
لجَزْءِ بنِ معاويةَ عمِّ الأحنفِ، فأتانَا كتابُ عمرَ بنِ الخطَّابِ قبلَ موتِهِ بسنةٍ: فرِّقوا بينَ كلِّ ذي محرّمٍ من المجوسِ، ولمْ يكنْ عمرُ أخذ الجزيةَ من المجوسِ، حتَّى شهدَ عبدُ الرَّحمنِ بنُ عوفٍ أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخذَهَا من مجوسِ هجرَ)
اهـ.
وبهذا يُعْلَمُ عمقُ فهمِ
المصنِّفِ رحمَهُ اللهُ لعلمِ الحديثِ حيثُ جزمَ بأنَّ البخاريَّ أخرجَهُ في (صحيحِهِ) سنداً ومتناً؛ لأنَّ الأمرَ بقتلِ السَّاحرِ ثابتٌ في كتابِ عمرَ هذا بلا ريبٍ، إلا أنَّ البخاريَّ رحمَهُ اللهُ ساقَ منه ما يناسبُ أخذَ الجزيةِ، كعادتِهِ المعروفةِ من تقطيعِ الحديثِ واختصارِهِ.
وأخرجَهُ
عبدُ الرزَّاقِ ومن طريقِهِ ابنُ حزمٍ عن معمرِ بنِ راشدٍ عن عمرو بن دينارٍ بهِ.
وأخرجَهُ
عبدُ الرزَّاقِ أيضاً من طريقِ ابنِ جريجٍ أخبرَنِي عمرو بنُ دينارٍ بهِ.


الحاصلُ أنَّ عمرَ -رَضِي اللهُ عَنْهُ- أمرَ بقتلِ السَّاحرِ - كمَا ترَى - قاطعاً بجوازِهِ بلا تردُّدٍ، وهو آنذاك الخليفةُ على المسلمينَ، فدلَّ ذلك على أنَّ قتلَ السَّاحرِ مستقِرٌّ عندَ الصَّحابةِ، وأنَّ له حكمَ الرَّفعِ لأنَّهُ ممَّا لا مجالَ للرَّأيِ فيهِ.
وهذا ممَّا يؤيِّدُ صحَّةَ حديثِ
جندبَ المرفوعِ ((حدُّ السَّاحرِ ضربةٌ بالسَّيفِ)) والعلمُ عندَ اللهِ.


الزَّمْزَمَةُ:

صوتٌ خفيٌّ لا يكادُ يُفْهَمُ كما في (النِّهايةِ)لابنِ الأثيرِ (313/2).

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

27 Oct 2008

العناصر


مناسبة باب (ما جاء في السحر) لكتاب التوحيد
- تعريف السحر لغة
- تعريف السحر شرعاً
- أقسام السحر وحكم كل قسم
- هل السحر حقيقة أم تخيل ؟
- حكم تعلم السحر
- الفرق بين السحر والشعوذة
تفسير قوله تعالى: (واتبعوا ما تتلوا الشياطين...) الآية
- معنى قوله (ولقد علموا لمن اشراه ما له في الآخرة من خلاق)، ونظائره
- حقيقة الشراء، ووجه الاستدلال من قوله تعالى (ولقد علموا لمن اشتراه) على كفر الساحر
تفسير قوله تعالى: (يؤمنون بالجبت والطاغوت)
- معنى قوله (يؤمنون بالجبت والطاغوت)
- بيان كثرة السحر في اليهود
تخريج أثر عمر
شرح أثر جابر رضي الله عنه
- ذكر أثر جابر بتمامه
- تخريج أثر جابر رضي الله عنه
- ترجمة جابر بن عبد الله رضي الله عنهما
- معنى قوله: (الطواغيت كهان)
- المراد بالشيطان في قوله (كان ينزل عليهم الشيطان)
- بيان معنى قوله (في كل حيٍّ واحد)، وأن ذلك كان في الجاهلية
شرح حديث أبي هريرة: (اجتنبوا السبع الموبقات...)
- تخريج حديث أبي هريرة رضي الله عنه
- معنى قوله: (اجتنبوا السبع الموبقات)
- الحكمة في الاقتصار على سبع
- معنى الشرك بالله
- المراد بقوله: (وقتل النفس التي حرم الله)
- الخلاف في قبول توبة القاتل المتعمد
- معنى قوله: (وأكل الربا)
- معنى قوله: (وأكل مال اليتيم)
- ذكر حد اليتيم
- معنى قوله: (والتولي يوم الزحف)، وشرط كونه من الكبائر
- معنى قوله: (وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات)، وهل قذف المحصنين مثله؟
- بيان وجه الشاهد من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
- ما يستفاد من سؤال الصحابة للرسول صلى الله عليه وسلم
- بيان حرص الصحابة على العلم
- بيان شمول الحديث لقسمي السحر
شرح حديث جندب رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
- تخريج حديث جندب ، وبيان درجته
- بيان أن جندب راوي الحديث هو الأزدي، لا البجلي
- ترجمة جندب الخير الأزدي رضي الله عنه
- مناسبة الحديث للباب
مسائل في حد الساحر وكفره
- أقوال العلماء في حد الساحر
- هل يدل حديث جندب على عدم كفر الساحر؟
- الفرق بين الحد وعقوبة الكفر، وبيان خطأ من أدخل الردة في الحدود
شرح حديث بجالة رضي الله عنه
- تخريج حديث بجالة
- ترجمة بجالة
- هل يقتل الساحر مطلقاً، أو إذا عمل مكفراً
- بيان أنه لا يجوز للإمام أن يتخلف عن قتل الساحر
- الخلاف في استتابة الساحر
التعليق على أثر عمر بن الخطاب وحفصة رضي الله عنهما
- تخريج أثر حفصة، وذكره بتمامه
- ترجمة حفصة رضي الله عنها
تحقيق المراد بجندب في قوله: (وكذلك صح عن جندب)، وذكر الرواية في قتله الساحر
المراد بالثلاثة في قول أحمد: (عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم)

شرح مسائل الباب.