الدروس
course cover
باب ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان
26 Oct 2008
26 Oct 2008

6209

0

0

course cover
كتاب التوحيد

القسم السادس

باب ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان
26 Oct 2008
26 Oct 2008

26 Oct 2008

6209

0

0


0

0

0

0

0

باب ما جاء أن بعض هذه الأمة تعبد الأوثان

قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب بن سليمان التميمي (ت: 1206هـ): (بَابُ مَا جَاءَ أَنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأُمَّةِ تَعْبُدُ الأَوْثَانَ

وَقَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}[النِّسَاءُ:51]
وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}[الْمَائِدَةُ:61].
وَقَوْلِهِ تَعَالَى:
{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُواْ عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}[الْكَهْفُ:21].
عَنْ
أَبِي سَعِيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ:((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ)).
قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى؟
قَالَ:
((فَمَنْ؟)) أَخْرَجَاهُ.
وَلِمُسْلِمٍ عَنْ ثَوْبَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ: ((إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا.
وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ.
وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُِمَّتِي أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ.
وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ، وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لأُِمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا
)).
وَرَوَاهُ
الْبَرْقَانِيُّ فِي (صَحِيحِهِ) وَزَادَ: ((وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمُ السَّيْفُ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ فِئَامٌ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلاَثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لاَ نَبِيَّ بَعْدِي، وَلاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى)).

فِيهِ مَسَائِلُ:
الأُولَى:تَفْسِيرُ آيَةِ النِّسَاءِ.

الثَّانِيَةُ: تَفْسِيرُ آيَةِ الْمَائِدَةِ.

الثَّالِثَةُ:تَفْسِيرُ آيَةِ الْكَهْفِ.

الرَّابِعَةُ:وَهِي مِنْ أَهَمِّهَا - مَا مَعْنَى الإِيمَانِ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ فِي هَذَا
الْمَوْضِعِ ؟
هَلْ هُوَ اعْتِقَادُ قَلْبٍ؟
أَوْ هُوَ مُوافَقَةُ أَصْحَابِهَا مَعَ بُغْضِهَا وَمَعْرِفَةِ بُطْلاَنِهَا؟
الْخَامِسَةُ:قَوْلُهُمْ: إِنَّ الْكُفَّارَ الَّذِينَ يَعْرِفُونَ كُفْرَهُمْ أَهْدَى سَبِيلاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ.

السَّادِسَةُ:وَهِيَ الْمَقْصُودُ بِالتَّرْجَمَةِ - أَنَّ هَذَا لاَ بُدَّ أَنْ يُوجَدَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ كَمَا تَقَرَّرَ فِي حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ.

السَّابِعَةُ: التَّصْرِيحُ بِوُقُوعِهَا - أَعْنِي عِبَادَةَ الأَوْثَانِ - فِي هَذِهِ الأُمَّةِ فِي جُمُوعٍ كَثِيرَةٍ.

الثَّامِنَةُ: الْعَجَبُ الْعُجَابُ خُرُوجُ مَنْ يَدَّعِي النُّبُوَّةَ مِثْلَ الْمُخْتَارِ مَعَ تَكَلُّمِهِ بِالشَّهَادَتَيْنِ وَتَصْرِيحِهِ بِأَنَّهُ مِنْ هَذِهِ الأُمَّةِ، وَأَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَأَنَّ الْقُرْآنَ حَقٌّ، وَفِيهِ أَنَّ مُحَمَّدًا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، وَمَعَ هَذَا يُصَدَّقُ فِي هَذَا كُلِّهِ مَعَ التَّضَادِّ الْوَاضِحِ، وَقَدْ خَرَجَ الْمُخْتَارُ فِي آخِرِ عَهْدِ الصَّحَابَةِ وَتَبِعَهُ فِئَامٌ كَثِيرَةٌ.

التَّاسِعَةُ:الْبِشَارَةُ بِأَنَّ الْحَقَّ لاَ يَزُولُ بِالْكُلِّيَّةِ كَمَا زَالَ فِيمَا مَضَى، بَلْ لاَ تَزَالُ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ.

الْعَاشِرَةُ: الآيَةُ الْعُظْمَى أَنَّهُمْ مَعَ قِلَّتِهِمْ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ.

الْحَادِيَةَ عَشْرَةَ:أَنَّ ذَلِكَ الشَّرْطَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ.

الثَّانِيَةَ عَشْرَةَ:مَا فِيهِ مِنَ الآيَاتِ الْعَظِيمَةِ: مِنْهَا إِخْبَارُهُ بَأَنَّ اللهَ زَوَى لَهُ الْمَشَارِقَ وَالْمَغَارِبَ وَأَخْبَرَ بِمَعْنَى ذَلِكَ فَوَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ بِخِلاَفِ الْجَنُوبِ وَالشَّمَالِ، وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ أُعْطِي الْكَنْزَيْنِ، وَإِخْبَارُهُ بِإِجَابَةِ دَعْوَتِهِ لأُِمَّتِهِ فِي الاِثْنَتَيْنِ، وَإِخْبَارُهُ بِأَنَّهُ مُنِعَ الثَّالِثَةَ، وَإِخْبَارُهُ بِوُقُوعِ السَّيْفِ وَأَنَّهُ لاَ يُرْفَعُ إِذَا وَقَعَ، وَإِخْبَارُهُ بِإِهْلاَكِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا، وَسَبْيِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَخَوْفِهِ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ، وَإِخْبَارُهُ بِظُهُورِ الْمُتَنَبِّئِينَ فِي هَذِهِ الأُمَّةِ، وَإِخْبَارُهُ ِ بِبَقَاءِ الطَّائِفَةِ الْمَنْصُورَةِ، وَكُلُّ هَذَا وَقَعَ كَمَا أَخْبَرَ، مَعَ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهَا مِنْ أَبْعَدِ مَا يَكُونُ فِي الْعُقُولِ.
الثَّالِثَةَ عَشْرَةَ:حَصْرُهُ الْخَوْفَ عَلَى أُمَّتِهِ مِنَ الأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ.

الرَّابِعَةَ عَشْرَةَ:التَّنْبِيهُ عَلَى مَعْنَى عِبَادَةِ الأَوْثَانِ.

هيئة الإشراف

#2

27 Oct 2008

تيسير العزيز الحميد للشيخ: سليمان بن عبدالله آل الشيخ

قال الشيخ سليمان بن عبدالله آل الشيخ (ت: 1233هـ): ( (1)

أَرَادَ المُصَنِّفُ بهَذِهِ التَّرْجَمَةِ الرَّدَّ عَلَى عُبَّادِ القُبُورِ، الَّذِينَ يَفْعَلُونَ الشِّرْكَ ويَقُولُونَ: (إنَّهُ لاَ يَقَعُ في هَذِهِ الأُمَّةِ المُحَمَّدِيَّةِ وهُم يَقُولُونَ: لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللهِ).
فَبَيَّنَ في هَذَا البَابِ مِن كَلاَمِ اللهِ وَكَلاَمِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ما يَدُلُّ عَلَى تَنَوُّعِ الشِّرْكِ في هذه الأُمَّةِ ورُجُوعِ كَثِيرٍ منها إِلَى عِبَادَةِ الأوْثَانِ، وإِنْ كَانَتْ طَائِفَةٌ منها لاَ تَزَالُ عَلَى الحَقِّ لاَ يَضُرُّهُم مَن خَذَلَهُم حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَبَارَكَ وتَعَالَى.
(2)
يَقُولُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا} أي: أُعْطُوا نَصِيبًا، أي: حَظًّا مِن الكِتَابِ {يُؤْمِنُونَ بالجِبْتِ والطَّاغُوتِ}.
رَوَى الإِمَامُ
أَحْمَدُ، عن ابنِ عبَّاسٍ، قالَ: لَمَّا قَدِمَ كَعْبُ بنُ الأَشْرَفِ مَكَّةَ قالَتْ قُرَيْشٌ: (أَلاَ تَرَى إِلَى هَذَا الصُّنْبُورِ المُنْبَتِرِ مِن قَوْمِهِ، يَزْعُمُ أنَّهُ خَيْرٌ مِنَّا ونَحْنُ أَهْلُ الحَجِيجِ، وأَهْلُ السَّدَنَةِ وأَهْلُ السِّقَايَةِ؟!
قَالَ: أَنْتُم خَيْرٌ، قَالَ فنَزَلَتْ فيهم:
{إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ}[الكوثر:3] .
ونَزَلَ:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ} إلى {نَصِير}.
ورَوَى
ابنُ أَبِي حَاتِمٍ عن عِكْرِمَةَ، قالَ: (جَاءَ حُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ، وكَعْبُ بنُ الأَشْرَفِ، إلى أَهْلِ مَكَّةَ فَقَالُوا لَهُم: أنتم أَهْلُ الكِتَابِ، وأهلُ العِلْمِ فأخْبِرُونَا عَنَّا وعن مُحَمَّدٍ؟ فَقَالَ: ما أنتم وما مُحَمَّدٌ؟
فَقَالُوا: نحن نَصِلُ الأرْحامَ، ونَنْحَرُ الكَوْمَاءَ، ونَسْقِي الماءَ عَلَى اللَّبَنِ، ونَفُكُّ العناةَ، ونَسْقِي الحَجِيجَ، و
مُحَمَّدٌ صُنبورٌ قَطَعَ أَرْحَامَنَا، واتَّبَعَهُ سُرَّاقُ الحَجِيجِ مِن غِفَارٍ، فنَحْنُ خَيْرٌ أم هو؟
فقالُوا: أنتم خَيْرٌ وأَهْدَى سَبِيلاً.
فَأَنْزَلَ اللهُ:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذينَ أُوتُواْ نَصِيبًا مِّنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذينَ آمَنُواْ سَبِيلاً}[النساء:50])
.
قَالَ
عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: (الجِبْتُ: السِّحْرُ، والطَّاغُوتُ: الشَّيْطَانُ).


وكذلِكَ:

قالَ ابنُ عبَّاسٍ، وأبو العَالِيَةِ، ومُجاهدٌ، والحَسَنُ، وغيرُهُم.

-

وعن ابنِ عبَّاسٍ وعِكْرِمَةَ، وأَبِي مَالِكٍ: (الجِبْتُ: الشَّيْطَانُ).

-

زَادَ ابنُ عبَّاسٍ:(بالحبشيَّةِ).

-

وعن ابنِ عبَّاسٍ أيضًا: (الجِبْتُ: الشِّرْكُ).

-

وعنه: (الجِبْتُ: الأَصْنَامُ).

-

وعنه: (الجِبْتُ:حُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ).

-

وعن الشَّعْبِيِّ: (الجِبْتُ: الكَاهِنُ).

-

وعن مُجاهدٍ: (الجِبْتُ:كَعْبُ بنُ الأَشْرَفِ).


قلْتُ:

الظَّاهرُ أنَّهُ يَعُمُّ ذلك كلَّهُ كمَا قالَ الجَوْهَرِيُّ: (الجِبْتُ: كَلِمَةٌ تَقَعُ عَلَى الصَّنَمِ والكَاهِنِ والسَّاحِرِ ونحوِ ذلك).
وفي الحَدِيثِ:
((الطِّيَرَةُ وَالعِيافَةُ وَالطَرْقُ مِنَ الجِبْتِ)) قالَ: (وَهَذَا ليسَ مِن مَحْضِ العَرَبِيَّةِ لاجْتِمَاعِ الجِيمِ والبَاءِ في حَرْفٍ واحِدٍ مِن غيرِ حَرْفٍ ذَولَقِيٍّ).
قالَ
المُصَنِّفُ: (وفيه مَعْرِفَةُ الإيمانِ بالجِبْتِ والطَّاغُوتِ في المَوْضِعِ، هل هو اعْتِقَادُ قَلْبٍ، أو هو مُوافَقَةُ أَصْحَابِهَا مَعَ بُغْضِهَا ومَعْرِفَةِ بُطْلاَنِهَا؟
وأمَّا الطَّاغُوتُ فتَقَدَّمَ الكَلاَمُ عَلَيْهِ في أَوَّلِ الكِتَابِ).


يقولُ تَعَالَى لنَبِيِّه مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يَا مُحَمَّدُ لِهَؤُلاَءِ الَّذينَ اتَّخَذُوا دِينَكُم هُزُوًا ولَعِبًا مِن أَهْلِ الكِتَابِ، الطَّاعِنِينَ في دِينِكُم الَّذي هو تَوْحيدُ اللهِ وإِفْرَادُهُ بالعِبَادَةِ، دونَ ما سِوَاهُ: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللهِ}[المائدة:63]، أي: هَلْ أُخْبِرُكُم بِشَرِّ جَزَاءٍ عندَ اللهِ يَوْمَ القِيَامَةِ مِمَّا تَظُنُّونَهُ بِنَا، هم أنتم أيُّها المُتَّصِفُونَ بهذِه الصِّفاتِ المَذْمُومَةِ المُفَسَّرةِ بِقَوْلِهِ: {مَن لَّعَنَهُ اللهُ} أي: أَبْعَدَهُ وطَرَدَهُ مِن رَحْمَتِهِ {وَغَضِبَ عَلَيْهِ} أي: غَضَبًا لاَ يَرْضَى بَعْدَهُ، {وَجَعَلَ مِنْهُمُ القِرَدَةَ والخَنَازِيرَ} أي: مَسَخَ مِنْهُم الَّذينَ عَصَوْا أَمْرَهُ، فجَعَلَهُم قِرَدَةً وخَنَازِيرَ كَمَا قَالَ تَعَالَى: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لهمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[البقرة:65].
وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أخَذَ عليهم تَعْظِيمَ السَّبْتِ، والقِيَامَ بأَمْرِهِ، وتَرْكَ الاصْطِيَادِ فيهِ، وكانَتِ الحِيتَانُ لا تَأْتِيهِم إِلاَّ يَوْمَ السَّبْتِ فتَحَيَّلُوا اصْطِيَادَهَا فيه بِمَا وَضَعُوه لَهَا مِن الشُّصُوصِ والحَبائلِ والبِرَكِ قَبْلَ يَوْمِ السَّبتِ، فلَمَّا جَاءَتِ الحِيتَانُ يَوْمَ السَّبتِ عَلَى عادتِهَا نَشِبَتْ تِلْكَ الحَبَائِلَ فَلَمْ تَخْلُصْ منها يَوْمَهَا ذلك، فَلَمَّا كَانَ اللَّيْلُ أَخَذُوهَا بَعْدَ انْقِضَاءِ السَّبْتِ، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ مَسَخَهُم اللهُ تعالى إلى صُورَةِ القِرَدَةِ، وهي أَشْبَهُ شَيْءٍ بالأَنَاسِيِّ في الشَّكْلِ الظَّاهِرِ وليسَتْ بإنسانٍ حقيقةً، فكذلِكَ أَعْمالُ هؤلاءِ وحياتُهم كانَتْ مُشابهَةً للحَقِّ في الظَّاهِرِ ومُخَالِفَةً له في البَاطِنِ، فكَانَ جَزَاؤُهُم مِن جِنْسِ عَمَلِهِم.
قالَ
العَوْفِيُّ عن ابنِ عبَّاسٍ في قَوْلِهِ: {فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ}[البقرة:65]. فجَعَلَ اللهُ مِنْهُم القِرَدَةَ والخَنَازِيرَ، فزَعَمَ أنَّ شَبابَ القَوْمِ صَارُوا قِرَدَةً، والمَشْيَخَةَ صاروا خنازيرَ.
ورَوَى
مُسْلِمٌ في (صَحِيحِه) عن ابنِ مَسْعُودٍ قَالَ: (سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ القِرَدَةِ وَالخَنَازِيرِ أَهِيَ مِمَّا مَسَخَ اللهُ؟


فَقالَ:

((إِنَّ اللهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا أَوْ قالَ: لَمْ يَمْسَخْ قَوْمًا فَيَجْعَلَ اللهُ لَهُمْ نَسْلاً وَلاَ عَاقِبَةً، وَإنَّ القِرَدَةَ وَالخَنَازِيرَ كانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ))وفي هذه القصَّةِ دَلِيلٌ قاطِعٌ على تَحْرِيمِ الحِيَلِ التي يُتَوَصَّلُ بهَا إلى تَحْلِيلِ الحَرَامِ وتَحْرِيمِ الحَلاَلِ ونحوِ ذلك.
وقولُهُ:
{وعَبَدَ الطَّاغُوتَ} قالَ شيخُ الإسلامِ:(الصَّوابُ أنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى قولِهِ:{مَن لَّعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ}[المائدة:63].
فهو فِعْلٌ ماضٍ مَعْطُوفٌ عَلَى ما قَبْلَهُ مِن الأَفْعَالِ المَاضِيَةِ؛ أي: مَن لَعَنَهُ اللهُ ومَن غَضِبَ عليه، ومَن جَعَلَ منهم القِرَدَةَ والخَنَازِيرَ، ومَن عَبَدَ الطَّاغوتَ).
لكنَّ الأَفْعَالَ المُقَدَّمَ الفَاعِلُ فيها هو اسمُ اللهِ مُظْهَرًا ومُضْمَرًا، وهنا الفَاعِلُ اسْمٌ مِن عَبَدَ الطَّاغُوتَ، وهو الضَّميرُ في
{عَبَدَ} ولم يُعِدْ سبحانَهُ لفظَ {مَن}لأِنَّهُ جَعَلَ هذه الأَفْعَالَ كُلَّهَا صِفَةً لصِنْفٍ واحِدٍ وهم اليَهُودُ.


(4)

يُخْبِرُ تعالى عن الَّذينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِ أصحابِ الكَهْفِ أنَّهُم قالُوا هذه المَقَالَةَ: {لنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِم مَّسْجِدًا}[الكهف:22].
وَقَدْ حَكَى
ابنُ جَرِيرٍفي القَائِلِينَ في ذَلِكَ قَوْلَيْنِ:

أَحَدُهما: أنَّهُم المُسْلِمُونَ.

والثَّاني:أنَّهُم المُشْرِكُونَ، وعَلَى القَوْلَيْنِ فَهُم مَذْمُومُونَ؛ لأَِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((لَعَنَ اللهُ اليَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيائِهِم وَصَالِحِيهِم مَسَاجِدَ)) يُحَذِّرُ مَا فَعَلُوا، رَوَاهُ البخاريُّ ومسلمٌ.

ولِمَا يُفْضِي إليه ذلك مِن الإِشْرَاكِ بأَصْحَابِها كَمَا هو الوَاقِعُ.
وَلِهَذَا لَمَّا فَعَلَتْهُ اليَهُودُ والنَّصارَى جَرَّهُمْ ذَلِكَ إِلَى الشِّرْكِ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أنَّ هذِهِ الأُمَّةَ تَفْعَلُهُ كَمَا فَعَلَتْهُ اليَهُودُ والنَّصارَى، فيَجُرُّهَا ذَلِكَ إِلَى الشِّرْكِِ؛ لأَِنَّ مَا فَعَلَتْهُ اليَهُودُ والنَّصارَى سَتَفْعَلُهُ هذه الأُمَّةُ شِبْرًا بِشِبْرٍ وذِرَاعًا بذِرَاعٍ، كَمَا أَخْبَرَ بذلك الصَّادِقُ المَصْدُوقُ الَّذِي لاَ يَنطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هو إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى وبهَذَا يَظْهَرُ وَجْهُ اسْتِشْهَادِ
المُصَنِّفِ بهذه الآياتِ.


(5)

هَذَا الحَدِيثُ أَوْرَدَهُ المُصَنِّفُ بهذَا اللَّفْظِ مَعْزُوًّا (للصَّحِيحَينِ) ولَعَلَّهُ نَقَلَهُ عن غَيْرِهِ، ولَفْظُهُما -والسِّياقُ لمسلمٍ-: عن أَبِي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَكُم شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِراعٍ حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لاتَّبَعْتُمُوهُمْ)).


قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللهِ اليَهودُ وَالنَّصَارَى؟

قالَ: ((فَمَنْ))؟!
ويَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَرْويًّا عندَ غيرِهِما باللَّفْظِ الَّذِي ذَكَرَهُ
المُصَنِّفُ وأَرَادَ أَصْلَهُ لا لَفْظَهُ.
قولُهُ:
((لَتَتَّبِعُنَّ)) هو بِضَمِّ العَيْنِ وتَشْدِيدِ النُّونِ.
قولُهُ:
((سَننَ)) بفَتْحِ المُهْمَلَةِ، أي: طَرِيقَ مَن كَانَ قَبْلَكُم. أي: الَّذينَ قَبْلَكُم، قَالَ المُهَلَّبُ: الفَتْحُ أوْلَى.
وقَالَ
ابنُ التِّينِ: قَرَأْنَاهُ بِضَمِّها.
قولُهُ:
((حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ)) هو بنَصْبِ (حَذْوَ) عَلَى المَصْدَرِ، والقُذَّةُ -بضَمِّ القَافِ- واحِدَةُ القُذَذِ وهي رِيشُ السَّهْمِ، وله قُذَّتَانِ مُتَساويتانِ، أي: لتَفْعَلُنَّ أَفْعَالَهُم، ولتَتَّبِعُنَّ طرائقَهُم حتى تُشْبِهُوهُم وتُحَاذُوهُم، كمَا تُشْبِهُ قُذَّةُ السَّهْمِ القُذَّةَ الأُخْرَى.
ثُمَّ إنَّ هَذَا لَفْظُ خَبَرٍ مَعْنَاهُ النَّهْيُ عن مُتَابَعَتِهِم، ومَنْعُهُم مِن الالْتِفَاتِ لغَيْرِ دِينِ الإِسْلاَمِ؛ لأَِنَّ نُورَهُ قَد بَهَرَ الأنْوارَ وشريعتَهُ نَسَخَتِ الشَّرَائِعَ، وهذا مِن مُعْجِزاتِهِ، فقد اتَّبعَ كَثِيرٌ مِن أُمَّتهِ سَنَنَ اليَهُودِ والنَّصارَى وفَارِسَ في شِيَمِهِم ومَرَاكِبِهم ومَلاَبِسِهِم، وإِقَامَةِ شِعَارِهِم في الأَدْيانِ والحُرُوبِ والعَادَاتِ مِن زَخْرَفَةِ المَسَاجِدِ، وتَعْظِيمِ القُبُورِ واتِّخَاذِهَا مَسَاجِدَ، حَتَّى عَبَدُوها ومَنْ فيها مِن دونِ اللهِ، وإِقَامَةِ الحُدودِ والتَّعْزِيراتِ عَلَى الضُّعفاءِ دونَ الأَقْويَاءِ، وتَرْكِ العَمَلِ يَوْمَ الجُمُعَةِ، والتَّسْلِيمِ بالأَصَابِعِ، وعَدَمِ عِيَادَةِ المَرِيضِ يومَ السَّبتِ، والسُّرورِ بخميسِ البيضِ، وأَنَّ الحَائِضَ لاَ تَمَسُّ عَجِينًا، واتِّخَاذِ الأَحْبارِ والرُّهْبانِ أَرْبابًا مِن دونِ اللهِ، والإِعْرَاضِ عن كِتَابِ اللهِ، والإِقْبَالِ عَلَى كُتُبِ الضَّلاَلِ من السِّحْرِ والفَلْسَفَةِ والكَلاَمِ والتَّكْذِيبِ بصِفَاتِ اللهِ التي وَصَفَ اللهُ بها نَفْسَهُ أو وَصَفَهُ بها رسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ووَصَفَه بما لا يَلِيقُ بهِ مِن النَّقَائِصِ والعُيوبِ إلى غيرِ ذلك مِمَّا اتَّبَعُوا فيهِ اليَهُودَ والنَّصارَى.
قولُهُ:
((حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لدَخَلْتُمُوهُ))الجُحْرُ -بِضَمٍّ بَعْدَهَا حَاءٌ مُهْمَلَةٌ- مَعْرُوفٌ.

-

وفي حَدِيثٍ آخرَ: ((حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِم مَنْ أَتَى أُمَّهُ عَلاَنِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَصْنَعُ ذَلِكَ))

-

وفي حَدِيثٍ آخَرَ: ((حَتَّى لَوْ أَنَّ أَحَدَهُم جَامَعَ امْرأَتَهُ فِي الطَّرِيقِ لَفَعَلْتُمُوهُ)) صَحَّتْ بذَلِكَ الأَحَادِيثُ، فأَخْبَرَ أنَّ أُمَّتَهُ سَتَفْعَلُ ما فَعَلَتْهُ اليهودُ والنَّصارَى وفارسُ مِن الأَدْيانِ والعَادَاتِ والاخْتِلاَفِ.
قَالَ
شيخُ الإِسْلاَمِ:(هَذَا خَرَجَ مَخْرَجَ الخَبَرِ والذَّمِّ لمَنْ يَفْعَلُهُ كَمَا كَانَ يُخْبِرُ عَمَّا يكونُ بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ مِن الأَشْرَاطِ والأُمُورِ المُحَرَّمَةِ).
وقَالَ غَيْرُهُ: (وجَمَعَ ذَلِكَ أنَّ كُفْرَ اليهودِ أَشَدُّ مِن جِهَةِ عَدَمِ العَمَلِ بعِلْمِهِم، فَهُم يَعْلَمُونَ الحَقَّ وَلاَ يَتَّبِعُونَهُ عَمَلاً وَلاَ قَوْلاً، وكُفْرَ النَّصارَى مِن جِهَةِ عَمَلِهِم بِلاَ عِلْمٍ، فَهُم يَجْتَهِدُونَ في أَصْنَافِ العِبَادَاتِ بِلاَ شَرِيعَةٍ مِنَ اللهِ، ويَقُولُونَ ما لاَ يَعْلَمُونَ، ففِي هذِهِ الأُمَّةِ مَن يَحْذُو حَذْوَ الفَرِيقَيْنِ).
ولهَذَا كَانَ السَّلفُ
كسُفْيَانَ بنِ عُيَيْنَةَ يَقُولُونَ: (مَن فَسَدَ مِن عُلَمَائِنَا، ففيهِ شَبَهٌ مِن اليَهُودِ، ومَن فَسَدَ مِن عُبَّادِنَا ففيه شَبَهٌ مِن النَّصارَى، وقَضَاءُ اللهِ نَافِذٌ بما أَخْبَرَ بِهِ رَسُولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَا سَبَقَ في عِلْمِهِ، لكن ليسَ الحَدِيثُ إِخْبَارًا عن جَمِيعِ الأُمَّةِ لِمَا تَوَاتَرَ عنه أَنَّهَا لاَ تَجْتَمِعُ عَلَى ضَلاَلَةٍ).
قولُهُ: (قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ: اليَهُودُ وَالنَّصَارَى؟ قالَ:
((فَمَنْ))؟) هو بِرَفْعِ اليَهُودِ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أي: أَهُمُ اليَهُودُ والنَّصارَى الَّذينَ نَتَّبِعُ سُنَّتَهُم؟
وقَوْلُهُ: (قَالَ:
((فَمَنْ))) اسْتِفْهَامُ إِنْكَارٍ، أي: فَمَنْ هُمْ غَيْرُ أُولَئِكَ؟
ثُمَّ إنَّهُ فُسِّرَ هنا باليَهُودِ والنَّصارَى، وفي رِوَايَةِ
أَبِي هُرَيْرَةَ في (البُخَارِيِّ) بفَارِسَ والرُّومِ، ولا تَعَارُضَ، كمَا قالَ بَعْضُهُم لاِخْتِلاَفِ الجَوَابِ بحَسَبِ اخْتِلاَفِ المَقَامِ، فحَيْثُ قِيلَ: فَارِسُ والرُّومُ كَانَ ثَمَّ قَرِينَةٌ تَتَعلَّقُ بالحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ وسِياسَةِ الرَّعِيَّةِ، وحيثُ قيلَ: اليهودُ والنَّصارَى كَانَ هناكَ قَرِينَةٌ تَتَعَلَّقُ بأُمُورِ الدِّيانَاتِ، أُصُولِهَا وفُرُوعِهَا، كَذَا قَالَ، وَلاَ يَلْزَمُ وجُودُ قَرِينَةٍ، بل الظَّاهِرُ أنَّهُ أَخْبَرَ أنَّ هَذِهِ الأُمَّةَ سَتَفْعَلُ ما فَعَلَتْهُ الأُمَمُ قبلَهَا مِن الدِّياناتِ والعَادَاتِ والسِّياسَاتِ مطلقًا، والتَّفسيرُ ببعضِ الأُمَمِ لا يَنْفِي التَّفْسيرَ بأمَّةٍ أُخْرَى؛ إذ المَقْصودُ التَّمثيلُ لا الحَصْرُ.


ووجْهُ مُطَابَقةِ الحديثِ للتَّرْجَمَةِ واضِحٌ؛

لأَِنَّ الأُمَمَ قبْلَنَا وُجِدَ فيها الشِّرْكُ، فكذلِكَ يُوجَدُ في هذهِ الأُمَّةِ كمَا هو الوَاقِعُ.


(6)

هَذَا الحَدِيثُ رَوَاهُ أبو داودَ في (سُنَنِهِ)وابْنُ مَاجَه بالزِّيَادَةِ التي ذَكَرَها المُصَنِّفُ، ورَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مُخْتَصَرًا ببَعْضِهَا.
قَوْلُهُ: (عَن
ثَوْبَانَ) هو ثَوْبَانُ مَوْلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَحِبَهُ ولاَزَمَهُ ونَزَلَ بَعْدَه الشَّامَ، ومَاتَ بحِمْصَ سَنَةَ أَرْبَعٍ وخَمْسينَ.
قولُه:
((زَوَى لِيَ الأَرْضَ)) قَالَ التُّوربشْتِيُّ: (زَوَيْتُ الشَّيءَ جَمَعْتُه وقَبَضْتُه، يُرِيدُ به تَقْرِيبَ البَعِيدِ منها حتَّى اطَّلَعَ عَلَيْهِ اطِّلاَعَهُ عَلَى القَرِيبِ).
وحَاصِلُه أنَّ اللهَ طَوَى له الأرضَ وجَعَلَها مَجْمُوعَةً كَهَيْئَةِ كَفٍّ في مِرْآةِ نَظَرِه.
وَقَالَ
القُرْطُبِيُّ: (أيْ: جَمَعَها لِي حَتَّى أَبْصَرْتُ مَا تَمْلِكُ أُمَّتِي مِن أَقْصَى المَشَارِقِ والمَغَارِبِ منها، وظَاهِرُ هَذَا اللَّفْظِ يَقْتَضِي أَنَّ اللهَ تَعَالَى قَوَّى إِدْرَاكَ بَصَرِه، ورَفَعَ عنه المَوَانِعَ المُعْتَادَةَ فَأَدْرَكَ البَعِيدَ مِن مَوْضِعِه كَمَا أَدْرَكَ بَيْتَ المَقْدِسِ مِن مَكَّةَ، وَأَخَذَ يُخْبِرُهم عن آياتِهِ وهو يَنْظُرُ إليه وكما قال:((إِنِّي لأَُبْصِرُ قَصْرَ المَدائِنِ الأَبْيَضَ)) ويَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَثَّلَها اللهُ له، والأَوَّلُ أَوْلَى).
قولُه:
((وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا)) قَالَ القُرْطُبِيُّ: (هَذَا الخَبَرُ وُجِدَ مَخْبَرُه كَمَا قَالَهُ، فَكَانَ ذَلِكَ مِن دَلاَئِلِ نُبُوَّتِهِ، وذَلِكَ أَنَّ مُلْكَ أُمَّتِهِ اتَّسَعَ إلى أَنْ بَلَغَ أَقْصَى بَحْرِ طَنْجَةَ - بالنُّونِ والجِيمِ - الذِي هو مُنْتَهَى عِمَارَةِ المَغْرِبِ وإلى أَقْصَى المَشْرِقِ، ما وَرَاءَ خُرَاسَانَ والنَّهْرِ وكَثِيرٍ مِن بِلاَدِ الهِنْدِ والسِّنْدِ والصُّغْدِ، وَلَمْ يَتَّسِعْ ذلك الاتِّسَاعَ مِن جِهَةِ الجَنُوبِ والشَّمَالِ، ولذَلِكَ لَمْ يَذْكُرْ عَلَيْهِ السَّلاَمُ أَنَّه أُرِيَه ولاَ أُخْبِرَ أَنَّ مُلْكَ أُمَّتِهِ يَبْلُغُه).
وقولُه:
((زَوَى)) يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا للفَاعِلِ، وأَنْ يَكُونَ مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ، والأَوَّلُ أَظْهَرُ.
قولُه:
((وأُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ الأَحْمَرَ والأَبْيَضَ)).
قال
القُرْطُبِيُّ: (يَعْنِي بِهِمَا كَنْزَ كِسْرَى وهو مَلِكُ الفُرْسِ، وكَنْزَ قَيْصَرَ وهو مَلِكُ الرُّومِ، وقُصُورَهُمَا وبِلاَدَهُمَا).
وقَدْ دَلَّ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلاَمُ حِينَ أَخْبَر عن هَلاَكِهِمَا:
((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ)) وعَبَّرَ بالأَحْمَرِ عَنْ كَنْزِ قَيْصَرَ؛ لأَِنَّ الغَالِبَ عندَهُمْ كانَ الذَّهَبَ، وبالأَبْيَضِ عَنْ كَنْزِ كِسْرَى؛ لأَِنَّ الغَالِبَ عِندَهُمْ -كانَ- الجَوْهَرَ والفِضَّةَ، وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ ووُجِدَ كذلِكَ في زَمانِ الفُتُوحِ في إِمارَةِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ فَإِنَّه سِيقَ إليه تَاجُ كِسْرَى وَحِلْيَتُه، وَمَا كَانَ في بُيوتِ أَمْوَالِهِ وَجَمِيعُ مَا حَوَتْهُ مَمْلَكَتُهُ على سَعَتِهَا وعَظَمَتِهَا، وكذلكَ فَعَلَ اللهُ بِـقَيْصرَ لمَّا فُتِحتْ بِلاَدُهُ، كذا قال في الغالبِ على كُنُوزِ كِسرَى وقَيصرَ، وَعَكَسَ ذلك التُّورْبَشْتِيُّ والخَلْخَالِيُّ، و((الأَبْيَضَ)) و((الأَحْمَرَ)) منصوبانِ على البَدَلِ.
قولُه:
((وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُِمَّتِي أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعامَّةٍ)) هكذا ثَبَتَ في أَصْلِ المُصَنِّفِ((بِعَامَّةٍ)) بالباءِ، وهي رِوَايَةٌ صَحِيحَةٌ في أَصْلِ (مُسْلِمٍ) وفي بعضِ أُصُولِهِ ((بسَنَةٍ عَامَّةٍ)) بحذْفِها.
قَالَ
القُرْطُبِيُّ: (وكَأَنَّهَا زَائِدَةٌ؛ لأَِنَّ ((عَامَّةٍ)) صِفَةٌ لـ((سَنَةٍ))، فكَأَنَّه قَالَ: بسَنَةٍ عَامَّةٍ، ويَعْنِي بالسَّنَةِ: الجَدْبَ العَامَّ الذي يَكُونُ بِهِ الهَلاَكُ العَامُّ، ويُسَمَّى الجَدْبُ والقَحْطُ سَنَةً، ويُجْمَعُ عَلَى سِنينَ كَمَا قَالَ تَعَالَى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ}[الأعراف:119] أي: بالجَدْبِ المُتَوَالِي).
قولُهُ:
((مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ)) أي: مِن غيرِهِم، يَعْنِي الكُفَّارَ.
قولُه:
((فيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ)) قال الجَوْهَرِيُّ: (بَيْضَةُ كُلِّ شَيْءٍ: حَوْزَتُه، وبَيْضَةُ القَوْمِ سَاحَتُهم، وعَلَى هَذَا فيَكُونُ مَعْنَى الحَدِيثِ: أنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يُسَلِّطُ العَدُوَّ عَلَى كَافَّةِ المُسْلِمِينَ حَتَّى يَسْتَبِيحَ جَمِيعَ مَا حَازُوهُ مِن البِلاَدِ والأَرْضِ، وَلَو اجْتَمَعَ عَلَيْهِم كلُّ مَن بينَ أَقْطَارِ الأرضِ، وهي جَوانِبُهَا).
وقيلَ:
((بَيْضَتُهُمْ))مُعْظَمُهُمْ وجَمَاعتُهُمْ.
قُلْتُ: وهَذَا هو الظَّاهِرُ، وأنَّ اللهَ تَعَالَى لاَ يُسلِّطُ الكُفَّارَ عَلَى مُعْظَمِ المُسْلِمِينَ وجَمَاعَتِهِمْ وإمامِهِمْ ما دَامُوا بِضِدِّ هذِهِ الأَوْصَافِ المَذْكُورَةِ في قَوْلِهِ:
((حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهلِكُ بعْضًا)) فأمَّا إذا وُجِدَتْ هذه الأَوْصَافُ، فَقَدْ يُسلِّطُ الكُفَّارَ عَلَى جَمَاعَتِهِم ومُعْظَمِهِم وإمامِهِم كما وَقَعَ.
قولُه:
((وإنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ)) قَالَ بَعْضُهُم: أي: إِذَا حَكَمْتُ حُكْمًا مُبْرَمًا فَإِنَّهُ نَافِذٌ لاَ يُرَدُّ بِشَيْءٍ، وَلاَ يَقْدِرُ أَحَدٌ عَلَى رَدِّهِ، بل جَمِيعُ الخَلْقِ تَمْضِي عليهم الأقْدَارُ طوْعًا وكَرْهًا كَمَا قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لاَ رَادَّ لِمَا قَضَيْتَ)) .


قُلْتُ:

الظَّاهِرُ أَنَّهُ سَواءٌ في ذَلِكَ المُبْرَمُ والمُعَلَّقُ، فالكُلُّ لاَ يُرَدُّ، فإنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عن عَدَمِ الرَّدِّ لجِنْسِ القَضَاءِ، والنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ ذلكَ مُطْلَقًا فأُجِيبَ بهَذَا واسْتَجَابَ لهُ دُعَاءهُ مَا لَمْ يُوجَد الشَّرْطُ المُقْتَضِي لتَسْلِيطِ العَدُوِّ، فإِذَا وُجِدَ ذلكَ وُجِدَ القَضَاءُ المُعَلَّقُ.
قولُه:
((حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُم يُهْلِكُ بَعْضًا)) إلى آخِرِه، أي: حتَّى يُوجَدَ ذلكَ مِنْهُمْ، فإنْ وُجِدَ فإنَّهُ يُسلِّطُ عَلَيْهم عَدُوَّهُم مِن الكُفَّارِ، فيَسْتَبِيحُ جَمَاعَتَهُم وإمامَهُم ومُعْظَمَهُم لاَ كُلَّ الأُمَّةِ، ثمَّ أَيْضًا تَكُونُ العَاقِبَةُ لهذهِ الأُمَّةِ، وإِنْ رَجَعُوا عَمَّا هُم فيه مِن الأَسْبابِ المُوجِبَةِ للتَّسْلِيطِ، وكذلك وَقَعَ، فإنَّ هذه الأُمَّةَ لَمَّا جُعِلَ بأْسُها بينَها اقْتَتَلُوا فأَهْلَكَ بعْضُهُم بَعضًا، وَسَبَى بَعْضُهُم بَعْضًا، فَلَمَّا فَعَلُوا ذَلِكَ تَفَرَّقَتْ جَمَاعتُهُم، واشْتَغَلَ بعْضُهُم بِبعضٍ عن جِهادِ العدُوِّ، واسْتَوْلَوْا عليْهِم.
كَما وَقَعَ ذلكَ في المِائةِ السَّابِعَةِ في المَشْرِقِ والمَغْرِبِ، فاخْتَلَفَتْ مُلُوكُ المَشْرِقِ وتَخَاذَلُوا واسْتَوْلَى التَّتَارُ على غَالِبِ أَرْضِ خُرَاسَانَ، وعَلَى العِرَاقِ وديارِ الرُّومِ، وقَتَلُوا الخَلِيفَةَ والعُلمَاءَ والمُلُوكَ الكِبَارَ، وكذلكَ مُلُوكُ المَغْرِبِ اخْتَلَفُوا وتَخَاذَلُوا واسْتَوْلَتْ الإِفْرِنْجُ عَلَى جَمِيعِ بِلاَدِ الأندَلُسِ والجُزرِ القَريبةِ منها، فهي في أَيْديهمْ إلى اليومِ، بل اسْتَوْلَوْا على كَثِيرٍ مِن بُلْدَانِ الشَّامِ حتَّى اسْتَنْقَذَها منهم
صَلاَحُ الدِّينِ بنُ أَيُّوبَ وغَيْرُهُ.
قولُه: (ورَوَاهُ
البُرْقَانِيُّ في (صحيحِهِ)) البرقانيُّ هو الحافظُ الكبيرُ أبو بكرٍ محمدُ بنُ أحمدَ بنِ غالِبٍ الخَوارِزميُّ الشَّافِعِيُّ، وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وثَلاَثِينَ وثَلاَثِمِائَةٍ، ومَاتَ سَنَةَ خَمْسٍ وعِشْرِينَ وأَرْبَعِمِائَةٍ.
قَالَ
الخَطِيبُ: (كَانَ ثَبْتًا ورِعًا، لمْ نَرَ في شُيوخِنا أَثْبَتَ مِنه، عَارِفًا بالفِقْهِ، كَثِيرَ التَّصْنيفِ، صَنَّفَ مُسْنَدًا ضَمَّنهُ ما اشْتَمَلَ عَلَيْهِ (الصَّحِيحَانِ) وجَمَعَ حَدِيثَ الثَّوْرِيِّ، وحَدِيثَ شُعْبَةَ، وطَائِفَةٍ، وكَانَ حَرِيصًا على العِلْمِ، مُنْصَرِفَ الهِمَّةِ إليه).


قُلْتُ:

وهَذَا (المُسْنَدُ) الذي ذكَرهُ الخَطِيبُ هو (صَحِيحُه) الذي عَزَا إليه المُصَنِّفُ.
قولُه:
((وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ المُضِلِّينَ)) أيِ: الأُمَراءَ والعُلَمَاءَ والعُبَّادَ، الذينَ يَقْتَدِي بِهم النَّاسُ، ويَحْكُمُونَ فيهمْ بغيرِ عِلْمٍ فيَضِلُّونَ ويُضِلُّونَ، فهم ضَالُّونَ عن الحَقِّ مُضِلُّونَ لغَيْرِهِم، كَمَا قَالَ تعالى عن أهْلِ النَّارِ: {حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُِولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاَءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِّنَ النَّارِ}[الأعراف:37]
وقالَ تَعَالَى:
{رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ}[الأحزاب:67]
وقَالَ تَعَالَى:
{قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً (104) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا}[الكهف:104-105] ولشِدَّةِ الضَّرُورَةِ إِلَى اتِّباعِ أَئِمَّةِ الهُدَى ومَعْرفَتِهِم، والتَّفريقِ بينَهم وبينَ أئِمَّةِ الضَّلاَلِ المَغْضُوبِ عليهم والضَّالِّينَ، أَمَرَنَا اللهُ أَنْ نَسْأَلَهُ الهِدَايَةَ إِلَى سُلُوكِ صِرَاطِ أَئِمَّةِ الهُدَى وهمُ المُنْعَمُ عليهم مِنَ النَّبِيِّينَ والصِّدِّيقِينَ والشُّهَدَاءِ والصَّالِحِينَ، غيرِ المُغْضُوبِ عليهم الذينَ يَعْلَمُونَ الحَقَّ وَلاَ يَعْمَلُونَ بِهِ، وَلاَ الضَّالِّينَ الذِينَ يَعْمَلُونَ عَلَى غَيْرِ شَرْعٍ مِن اللهِ، بل بما تَهْوَى أَنْفُسُهُم.
فصِرَاطُ المُنْعَمِ عليهمْ هو الجَامِعُ بينَ العِلْمِ بالهُدَى والعَمَلِ بِهِ، وقد وَصَفَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَئِمَّةَ الهُدَى لمَّا ذَكَرَ التَّفرُّقَ مِن بَعْدِهِ، بأَنَّهُم الذِينَ كانُوا عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَصْحَابُهُ، كما رَوَاهُ
أَبُو دَاودَ وغَيْرُهُ.
فَمَنْ كَانَ عَلَى مَا عَلَيْهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وأَصْحَابُهُ فهو مِنَ الأئِمَّةِ المَهْدِيِّينَ، ومَن خالفَهُمْ فهو مِن الضَّالِّينَ، كالذي يقولُ لأصْحَابِهِ: مَن كَانَتْ لهُ حَاجَةٌ فلْيَأْتِ إلى قَبْرِي فَإِنِّي أَقْضِيهَا لَهُ، وَلاَ خَيْرَ في رَجُلٍ يَحْجُبُه عن أَصْحَابِهِ ذِرَاعٌ مِن تُرَابٍ، أو نَحْوِ هذا كالذي يَدَّعِي أَنَّهُ يُخَلِّصُ أَصْحَابَهُ ومُرِيدِيهِ مِن النَّارِ، وَأَنَّه يَحْفَظُ النَّاسَ ويَكْلَؤُهُم إِذَا اعْتَقَدُوهُ، ويَضُرُّ بِهِم إِذَا كَفَرُوا بِهِ وحَارَبُوهُ، ويَدَّعِي أَنَّ ذَلِكَ مِن كَرَامَاتِهِ.
وكالذي يَمْشِي في الأَسْواقِ عُرْيَانًا، وَلاَ يَشْهَدُ صَلاَةً وَلاَ ذَكَرَ اللهَ وَلاَ عَالِمًا، بل يَعِيبُ عُلَمَاءَ الشَّرْعِ، ويَغْمِزُهُمْ ويُسَمِّيهِم أَهْلَ عِلْمِ الظَّاهِرِ، ويَدَّعِي أَنَّهُ صَاحِبُ عِلْمِ الباطِنِ، وربَّما يَدَّعِي أَنَّه يَسَعُهُ الخُرُوجُ مِن شَرِيعَةِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَمَا وَسِعَ الخَضِرَ الخروجُ عن شَرِيعَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلامُ، ونحوِ ذلكَ مِن الكُفْرِ والهَذَيانِ.
وكالذي يَدَّعِي أنَّ العَبْدَ يَصِلُ مَعَ اللهِ إلى حَالٍ تَسْقُطُ عنهُ التَّكَالِيفُ، أو يَدَّعِي أَنَّ الأَوْلِياءَ يُدْعَونَ، ويُسْتَغاثُ بِهِمْ في حَياتِهِم ومَمَاتِهِم، وأَنَّهُم يَنْفَعُونَ ويَضُرُّونَ ويُدَبِّرُونَ الأُمُورَ عَلَى سَبِيلِ الكَرَامَةِ، أو أَنَّهُ يَطَّلِعُ عَلَى اللَّوْحِ المَحْفُوظِ، ويَعْلَمُ أَسْرَارَ النَّاسِ وَمَا في ضَمَائِرِهِم، أو يُجَوِّزُ بِنَاءَ المَسَاجِدِ عَلَى قُبُورِ الأَنْبِيَاءِ والصَّالِحِينَ، وإِيقَادَها بالسُّرُجِ والشُّموعِ، وكسوتَهَا بالحَرِيرِ والدِّيبَاجِ، والفُرُشِ النَّفِيسَةِ، أو يَدَّعِي أَنَّ مَنْ عَمِلَ بالقُرْآنِ والسُّنَّةِ في أُصُولِ الدِّينِ وفُرُوعِهِ، فَقَدْ ضَلَّ وأَضَلَّ وابْتَدَعَ.
أو أنَّ ظَوَاهِرَ القُرْآنِ في آياتِ الصِّفَاتِ تَشبِيهٌ وتَمْثِيلٌ، وأَنَّ الهُدَى لاَ يُؤْخَذُ منهُ في هَذَا البَابِ وَلاَ في غَيْرِهِ، وَإِنَّما يُؤْخَذُ مِن الشُّبُهاتِ الوَهْمِيَّةِ التي يُسَمِّيهَا بِزَعْمِهِ بَرَاهِينَ عَقْلِيَّةً.
فكُلُّ هؤلاءِ وأشباهِهِمْ مِن أئِمَّةِ الضَّلالِ الذينَ خَافَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى أُمَّتِهِ وحَذَّرَ مِنهُم.
والضَّابِطُ في الفَرْقِ بينَ أَئِمَّةِ المُتَّقِينَ وبينَ الأئِمَّةِ المُضِلِّينَ: قولُهُ تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُواْ اللهَ وَالرَّسُولَ فإِن تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللهَ لاَ يُحِبُّ الْكَافِرِينَ}[آل عمران:31-32] فافْهَمْ عنْ رَبِّكَ وكُنْ عَلَى بَصِيرَةٍ، ولاَ يَغُرَّكَ جَلاَلَةُ شَخْصٍ أو عَظَمَتُهُ في النُّفُوسِ، فَرَبُّكَ أَعْظَمُ واتِّبَاعُكَ لِكَلاَمِهِ وكَلاَمِ رَسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو الفَرْضُ، والعِصْمَةُ مُنْتَفِيَةٌ عن غيرِ الرَّسُولِ، ورَبُّكَ أدْرَى بِمَا في الضَّمَائِرِ، فَرُبَّ مَن تَعْتَقِدُه إِمَامَ هُدًى لَيْسَ كذلك، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى لنَبِيِّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِّنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاََ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}[الجاثية:17].
فَكُلُّ مَن أَتَى بِشَيْءٍ يُخَالِفُ ما جَاءَ عنِ اللهِ وعَن رَسُولِهِ، فَهُوَ مِنْ أَهْوَاءِ الذينَ لاَ يَعْلَمُونَ، ومَنْ لمْ يَسْتَجِبْ للرَّسُولِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فإنَّما يَتَّبعُ هَوَاهُ، قَالَ اللهُ تَعَالَى:
{فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}[القصص:50] .

-

وقَالَ تَعَالَى: {اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ}[الأعراف:2] وعن زيادِ بنِ حُدَيرٍ قَالَ: (قَالَ لِي عُمَرُ: هل تَعْرِفُ مَا يَهْدِمُ الإِسْلاَمَ؟
قُلْتُ: لاَ.
قَالَ: (يَهْدِمُهُ زَلَّةُ العَالِمِ، وجِدَالُ المُنافِقِ بِالكِتَابِ، وحُكْمُ الأَئِمَّةِ المُضِلِّينَ)
رَوَاهُ الدَّارِمِيُّ.
وقَالَ
يَزِيدُ بنُ عُميرةَ: (كَانَ مُعَاذُ بنُ جبلٍ لاَ يَجْلِسُ مَجْلِسًا للذِّكْرِ إِلاَّ قَالَ حِينَ يَجْلِسُ: اللهُ حَكَمٌ قِسْطٌ، هَلَكَ المُرْتَابُونَ… الحَدِيثَ).


وفيه:

واحْذَرُوا زَيْغَةَ الحَكِيمِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ الضَّلاَلَةَ عَلَى لِسَانِ الحَكِيمِ، وَقَدْ يَقُولُ المُنَافِقُ كَلِمَةَ الحَقِّ.


(قلتُ لمُعَاذٍ: مَا يُدْرِينِي رَحِمَكَ اللهُ أَنَّ الحَكِيمَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الضَّلاَلَةِ، وأنَّ المُنَافِقَ قَدْ يَقُولُ كَلِمَةَ الحَقِّ؟
قَالَ لِي: اجْتَنِبْ مِن كَلاَمِ الحَكِيمِ المُشْتَبِهَاتِ التي يُقَالُ: مَا هَذِهِ؟
ولاَ يُثْنِيكَ ذَلِكَ عنهُ، فَإِنَّه لَعَلَّهُ يُرَاجِعُ الحَقَّ، وتَلَقَّ الحَقَّ إِذَا سَمِعْتَهُ فَإِنَّ عَلَى الحَقِّ نُورًا)

رَوَاهُ أبو داودَ وغيرُه.

وَمَا أَحْسَنَ مَا قَالَ ابْنُ المُبَارَكِ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-:

وَهَلْ أَفْسَدَ الدِّينَ إِلاَّ المُلُوكُ وأَحـْبـارُ سـَوْءٍ ورُهـْبــَانُهـَا

قولُه: ((وإِذَا وَقَعَ عَلَيْهم السَّيْفُ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى يَوْمِ القِيَامَةِ)) أي: إِذَا وَقَعَتِ الفِتْنَةُ والقِتَالُ بَيْنَهُم بَقِيَ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، وكَذَلِكَ وَقَعَ، فَإِنَّ السَّيْفَ لَمَّا وُضِعَ فيهم بقَتْلِ عُثْمَانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لَمْ يَرْتَفِعْ إلى اليَوْمِ، وكذلكَ يَكُونُ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ، ولكن يَكْثُرُ تَارَةً ويَقِلُّ أُخْرَى، ويَكُونُ في جِهَةٍ ويَرْتَفِعُ عَنْ أُخْرَى.
قَوْلُه:
((وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِن أُمَّتِي بالمُشْرِكِينَ)) الحَيُّ واحِدُ الأَحْيَاءِ، وهيَ القَبَائِلُ، وفي رِوَايَةِ أَبِي دَاودَ:((وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالمُشْرِكِينَ))والمَعْنَى: أَنَّهُم يَنْزِلُونَ مَعَهُمْ في دِيَارِهِمْ، ويَصِيرُونَ منهم بالرِّدَّةِ ونحوِها.
قَوْلُه:
((وحَتَّى تَعْبُدَ فِئامٌ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ))(الفِئَامُ -مَهْمُوزٌ- الجَمَاعَاتُ الكَثِيرَةُ) قَالَهُ أَبُو السَّعَادَاتِ، وفي رِوَايَةِ أَبِي دَاودَ:((وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبائِلُ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ)) ومعْناهُ ظَاهِرٌ، وهَذَا هو شَاهِدُ التَّرْجَمَةِ، ففيه الرَّدُّ عَلَى مَن قَالَ بخِلاَفِهِ مِن عُبَّادِ القُبُورِ الذِينَ يُنْكِرُونَ وقُوعَ الشِّرْكِ، وعِبَادَةِ الأَوْثانِ في هذِهِ الأُمَّةِ، وفي مَعْنَى هَذَا مَا في (الصَّحِيحَيْنِ) عن أَبي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلْيَاتٌ لنِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الخَلَصَةِ)).


قَالَ: وذُو الخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ التي كَانُوا يَعْبُدُونَ في الجَاهِلِيَّةِ.

ورَوَى ابنُ حِبَّانَ عن مَعْمَرٍ قَالَ: (إنَّ عَلَيْهِ الآنَ بَيْتًا مَبْنِيًّا مُغْلَقًا).
وفي
(صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عن عَائِشَةَ مَرْفُوعًا: ((لاَ يَذْهَبُ اللَّيْلُ والنَّهارُ حتَّى تُعبَدَ اللاَّتُ والعُزَّى))


وقِيلَ:

إنَّ القَبْرَ المَنْسُوبَ إِلَىابنِ عَبَّاسٍ بالطَّائِفِ إِنَّه قَبْرُ اللاَّتِ، وكَانُوا يَعْبُدُونَهُ، ويَطُوفُونَ بِهِ ويُقَرِّبُونَ إليهِ القَرَابِينَ ويَنْذِرُونَ لَهُ النُّذُورَ ويَسْأَلُونَه قَضَاءَ حَاجَتِهِمْ وتَفْرِيجَ كُرْبَتهِم.
قَوْلُه:
((وإنَّهُ سَيَكُونُ في أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلاَثُونَ، كُلُّهمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ)) قَالَ القُرْطُبِيُّ: (وَقَدْ جَاءَ عَددُهُمْ مُعيَّنًا في حديثِ حُذَيْفَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ سَبعٌ وَعِشْرُونَ، مِنْهُمْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ)) أَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيمٍ وَقَالَ: (هَذَا حَدِيثٌ غَرِيبٌ تَفَرَّدَ بِهِ مُعَاوِيَةُ بنُ هِشَامٍ)
قُلْتُ: حَدِيثُ
ثَوْبَانَ أَصَحُّ مِن هَذَا)
.
قَالَ
القَاضِي عِياضٌ:(عُدَّ مَن تَنَبَّأَ مِن زَمَنِ رَسُولِ اللهِ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- إلى الآنَ ممَّنْ اشْتَهَرَ بذلكَ، وعُرِفَ واتَّبَعَهُ جَمَاعَةٌ على ضَلاَلَتِهِ، فوُجِدَ هذا العَدَدُ فيهم، ومَن طَالَعَ كُتُبَ الأَخْبَارِ والتَّواريخِ عَرَفَ صِحَّةَ هذا).


وقَالَ الحَافِظُ: (قَدْ ظَهَرَ مِصْدَاقُ ذَلِكَ في زَمَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَخَرَجَ مُسيْلِمَةُ الكَذَّابُ باليَمَامَةِ.
والأَسْودُ العَنْسِيُّ باليَمَنِ.
ثُمَّ خَرَجَ في خِلافَةِ
أبي بَكْرٍ، طُلَيْحَةُ بنُ خُوَيْلِدٍ في بَنِي أَسَدِ بنِ خُزَيْمَةَ، وسَجَاحِ التميميَّةُ في بني تميمٍ.
وقُتِلَ
الأسودُ قبلَ أن يموتَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقُتِلَ
مُسيلمةُ الكذَّابُ في خلافَةِ أبي بكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
وتابَ
طُلَيْحَةُ وَمَاتَ عَلَى الإِسْلاَمِ عَلَى الصَّحِيحِ في زَمَنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ.
ويُقَالُ: إِنَّ
سجاحِ تابَتْ أيضًا.
ثم خَرَجَ
المُخْتَارُ بنُ أَبِي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ وغَلَبَ عَلَى الكُوفةِ في أَوَّلِ خِلاَفَةِ ابنِ الزُّبَيْرِ، فَأَظْهَرَ مَحَبَّةَ أَهْلِ البَيْتِ، ودَعَا النَّاسَ إلى طَلَبِ قَتَلةِ الحُسَيْنِ، فاتَّبَعَهُم فَقَتَلَ كَثِيرًا مِمَّن باشَرَ ذلكَ، أو أَعانَ عَليهِ فأَحَبَّهُ النَّاسُ، ثم إِنَّه زَيَّنَ لهُ الشَّيْطانُ أنْ يَدَّعِيَ النُّبُوَّةَ، وزَعَمَ أنَّ جِبْرِيلَ عَلَيْهِ السَّلاَمُ يَأْتِيهِ.
ومنهم
الحَارِثُ الكذَّابُ، خَرَجَ في خِلاَفَةِ عبدِ الملك بنِ مَرْوَانَ فقُتِلَ.
وخَرَجَ في خِلاَفَةِ
بني العبَّاسِ جماعةٌ، وليسَ المرادُ بالحديثِ مَن ادَّعَى النُّبوَّةَ مطلقًا فإنَّهم لا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً لكَوْنِ غَالِبِهم يَنْشَأُ عن جُنُونٍ أو سوداءَ، وإِنَّما المُرَادُ مَن قَامَتْ لهُ شَوْكَةٌ، وبَدَتْ لَهُ شُبْهَةٌ، كَمَن وصَفْنَا، وقد أَهْلَكَ اللهُ -تعالى- مَن وَقَعَ لَهُ منْهُمْ ذلك، وبَقِيَ منهُمْ مَن يُلْحِقُهُ بأصْحابِهِ وآخِرُهُمْ الدَّجَّالُ الأكْبَرُ)
.
قَوْلُه:
((وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ)) الخَاتَمُ - بفَتْحِ التَّاءِ - بمَعْنَى الطَّابِعِ، وبِكَسْرِهَا بمَعْنَى فاعِلُ الطَّبْعِ والخَتْمِ.
قَالَ
الحَسَنُ: (خَاتَمُ: الذي خُتِمَ بِهِ، أيْ: آخِرُ النَّبِيِّينَ، كما قالَ تَعَالَى:{مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ وَلَـكِن رَّسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}[الأحزاب:40]).
وإنَّما يَنْزِلُ
عِيسَى ابنُ مَرْيمَ عليه السَّلاَمُ في آخِرِ الزَّمانِ حَاكِمًا بشَرِيعَةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مُصَلِّيًا إِلَى قِبْلَتِهِ، فهو كآحَادِ أُمَّتِهِ كما قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمُ ابنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الخِنْزِيرَ، وَلَيضَعَنَّ الجِزْيَةَ)).
قَوْلُه:
((وَلاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الحَقِّ مَنْصُورَةً لاَ يَضُرُّهُمْ مَن خَذَلهمْ ولاَ مَنْ خَالَفَهُمْ)) قَالَ يَزِيدُ بنُ هَارُونَ، وأحمدُ بنُ حَنْبلٍ:(إنْ لَمْ يَكُونُوا أَهْلَ الحَدِيثِ فَلاَ أَدْرِي مَنْ هُمْ).
وكذلك قالَ إنَّهمْ أهلُ الحديثِ
عبدُ اللهِ بنُ المباركِ، وعلِيُّ بنُ المَدِينِيِّ، وأحمدُ بنُ سِنانٍ والبخاريُّ وغيرُهم.
وقَالَ
ابنُ المَدِينِيِّ في رِوَايةٍ: (هُمُ العَرَبُ، واسْتَدَلَّ بِرِوَايَةِ مَن رَوَى هُمْ أَهْلُ الغَرْبِ، وفُسِّرَ الغَرْبُ بالدَّلْوِ العَظِيمَةِ؛ لأَِنَّ العَرَبَ هم الذينَ يَسْتَقُونَ بِهَا).
قلتُ: ولاَ تَعَارُضَ بينَ القَوْلَينِ؛ إذ يَمْتَنِعُ أَنْ تَكُونَ الطَّائِفَةُ المَنْصُورَةُ لاَ تَعْرِفُ الحَدِيثَ، وَلاَ سُنَنَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بلْ لاَ يَكُونُ مَنْصُورًا على الحَقِّ إِلاَّ مَنْ عَمِلَ بكتَابِ اللهِ وسُنَّةِ رسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وهُمْ أهلُ الحديثِ مِنَ العَرَبِ وغيرِهِمْ.
فإن قيلَ:
فَلِمَ خَصَّصَهُ بالعَرَبِ؟


قيلَ: المرادُ التَّمْثيلُ لا الحصرُ، أيْ: أنَّ العَرَبَ إنِ اسْتَقَامُوا على العَمَلِ بكِتَابِ اللهِ وسُنَّةِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فهم الطَّائِفَةُ المَنْصُورةُ حَالَ اسْتِقَامَتِهِمْ.
قَالَ
القُرْطُبِيُّ: (وفيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الإِجْمَاعَ حُجَّةٌ؛ لأَِنَّ الأُمَّةَ إِذَا أَجْمَعَتْ فقدْ دَخلَ فيهم الطَّائِفَةُ المَنْصُورَةُ).
وقَالَ
المُصَنِّفُ: (وفيهِ الآيةُ العَظِيمَةُ أنَّهم مَعَ قِلَّتِهِم لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهَمْ وَلاَ مَنْ خالَفَهُم، والبِشَارَةُ بأَنَّ الحَقَّ لا يَزُولُ بالكُلِّيَّةِ كما زَالَ فيما مَضَى، بل لاَ تَزَالُ عَلَيْهِ طَائِفَةٌ).


قولُه: ((حتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ))الظَّاهِرُ أَنَّ المُرَادَ بأمْرِ اللهِ ما رُوِيَ مِن قَبْضِ مَنْ بَقِيَ مِنَ المُؤْمِنِينَ بالرِّيحِ الطَّيِّبَةِ، ووُقُوعِ الآياتِ العِظَامِ، ثُمَّ لاَ يَبْقَى إِلاَّ شِرَارُ النَّاسِ كَمَا رَوَى الحَاكِمُ، وأصْلُهُ في (مُسْلِمٍ)عنْ عبدِ الرَّحْمَنِ بنِ شِماسةَ أنَّ عَبْدَ اللهِ بنَ عَمْرٍو قَالَ: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ الخَلْقِ، هُمْ شَرٌّ مِنْ أَهْلِ الجَاهِلِيَّةِ)).
فَقَالَ
عُقْبةُ بنُ عَامِرٍ لِعَبْدِ اللهِ:(اعْلَمْ ما تَقُولُ، وَأَمَّا أَنَا فسَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:((لاَ تَزَالُ عِصابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ، ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُم مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُم السَّاعَةُ عَلَى ذَلِكَ)).
فَقَال
َ عَبْدُ اللهِ:وَيَبْعَثُ اللهُ رِيحًا رِيحُها المِسْكُ، وَمَسُّها مَسُّ الحَرِيرِ، فَلاَ تَتْرُكُ أَحَدًا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ إِيمانٍ إِلاَّ قَبَضَتْهُ، ثُمَّ يَبْقَى شِرَارُ النَّاسِ فَعَلَيهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ).
وفي
(صَحِيحِ مُسْلِمٍ) عن ابنِ مَسْعُودٍ مَرْفُوعًا: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ إِلاَّ عَلَى شِرَارِ النَّاسِ)) وفي (صَحِيحِهِ) أَيْضًا: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لاَ يُقَالَ فِي الأَرْضِ اللهُ اللهُ)) وذَلِكَ إنَّما يَقَعُ بعدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ مِن مَغْرِبِهَا وخُرُوجِ الدَّابَّةِ وسَائِرِ الآياتِ العِظَامِ.
وقد ثَبَتَ أنَّ الآياتِ العِظَامَ مِثْلُ السِّلكِ إِذَا انْقَطَعَ تَنَاثَرَ الخَرَزُ بِسُرْعَةٍ، رَوَاهُ
أَحْمَدُ، ويُؤَيِّدُهُ حديثُ عِمْرانَ بنِ حُصَينٍ مَرْفُوعًا: ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتي يُقَاتِلُونَ عَلَى الحَقِّ ظَاهِرِينَ عَلَى مَنْ ناوَأَهُمْ حَتَّى يُقاتِلَ آخِرُهُمُ الدَّجَّالَ)) رَوَاهُ أَبُو دَاودَ والحَاكِمُ.


وعَلَى هَذَا فالمُرَادُ بقَوْلِهِ في حَدِيثِ عُقْبَةَ ومَا أَشْبَهَهُ مِن الأحاديثِ: ((حَتَّى تَأْتِيَهُم السَّاعَةُ)) ساعتُهُمْ وهي وقتُ موتِهِم بهبوبِ الرِّيحِ؛ ذَكَرَهُ الحافِظُ وهو المُعْتَمَدُ.


وقدِ اخْتُلِفَ في مَحَلِّ هذهِ الطَّائِفَةِ:

فَقَالَ ابنُ بَطَّالٍ:(إنَّها تَكُونُ ببَيْتِ المَقْدِسِ إلى أَنْ تَقُومَ السَّاعةُ، كمَا رَوَى الطَّبَرِيُّ مِنْ حديثِ أَبِي أُمامَةَ قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، وَأَيْنَ هُمْ؟
قَالَ:
((بِبَيْتِ المَقْدِسِ)).
وقالَ
مُعَاذُ بنُ جبلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هُمْ بِالشَّامِ وهذا قولُ أكثرِ الشَّارحينَ.
وفي كَلاَمِ
الطَّبَرِيِّ ما يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لاَ يَجِبُ أَنْ تَكُونَ في الشَّامِ أو في بَيْتِ المَقْدِسِ دَائِمًا إلى أَنْ يُقَاتِلُوا الدَّجَّالَ، بلْ قد تَكُونُ في مَوْضِعٍ آخَرَ، لكنْ لاَ تَخْلُو الأَرْضُ منهَا حتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ)
.


قلْتُ:

وهَذَا هُوَ الحَقُّ فإِنَّهُ ليسَ في الشَّامِ منذُ أَزْمَانٍ أَحَدٌ بهذهِ الصِّفَاتِ، بلْ ليسَ فيهِ إِلاَّ عُبَّادُ القُبُورِ، وأهلُ الفِسقِ وأنواعِ الفواحشِ والمُنْكَرَاتِ، ويَمْتَنِعُ أنْ يَكُونُوا هم الطَّائِفَةَ المَنْصُورَةَ، وأَيْضًا فهم منذُ أزمانٍ لا يُقَاتِلُونَ أحَدًا منْ أهلِ الكُفْرِ، وإنَّما بَأْسُهم وقِتَالُهُم بينَهم.
وعَلَى هذا فقَوْلُهُ في الحَدِيثِ:
((هُمْ ببَيْتِ المَقْدِسِ))وقولُ مُعَاذٍ: (هُمْ بالشَّامِ) المُرادُ أَنَّهُم يَكُونُونَ في بَعْضِ الأزمَانِ دونَ بعضٍ، وكذلِكَ الواقعُ فَدَلَّ على ما ذكَرْنَا.
قولُهُ:
((تَبَارَكَ وتَعَالَى)) قَالَ ابنُ القَيِّمِ:(البَرَكَةُ نَوْعَانِ:


أَحَدُهُما:

بَرَكَةٌ وهي فِعْلُه تَبَارَكَ وتَعَالَى، والفِعْلُ منها بَارَكَ، ويَتَعَدَّى بنَفْسِه تَارَةً وبأَدَاةِ ((عَلَى)) تَارَةً، وبأَدَاةِ ((في)) تَارَةً والمَفْعُولُ مِنها مُبارَكٌ، وهو ما جُعِلَ كذلكَ فكَانَ مُبَارَكًا بجَعْلِهِ تعالى.


والنَّوْعُ الثَّانِي:

بَرَكَةٌ تُضَافُ إلى إِضَافَةِ الرَّحْمَةِ والعِزَّةِ، والفِعْلُ منها تَبَارَكَ، ولهذا لا يُقَالُ لغيرهِ ذلكَ، ولاَ يَصْلُحُ إِلاَّ لَهُ عزَّ وجلَّ، فهو سبحانهُ المُتَبَارِكُ وعَبْدُه ورَسُولُه المُبَارَكُ.
كما قالَ
المَسِيحُ عليهِ السَّلاَمُ: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ}[مريم:31].
فمَنْ بَارَكَ اللهُ فيهِ وعليهِ فهوَ المُبَارَكُ، وأمَّا صِفَةُ تَبَارَكَ، فمُخْتَصَّةٌ بهِ كَمَا أَطْلَقَها عَلَى نَفْسِهِ بقَوْلِهِ:
{فَتَـبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[غافر:64]{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1].


أفَلاَ تَرَاهَا كيفَ اطَّرَدَتْ في القُرْآنِ جَارِيَةً عليهِ مُخْتَصَّةً بهِ لاتُطْلَقُ على غيرِه؟

وجَاءتْ على بِنَاءِ السَّعَةِ والمُبَالَغَةِ، كتَعَالَى وتَعَاظَمَ ونحوِه، فجَاءتْ تَبَارَكَ على بِنَاءِ تَعَالَى الذي هوَ دَالٌّ على كَمَالِ العُلُوِّ ونِهَايَتِه، فكذلك تَبَارَكَ، دَالٌّ عَلَى كَمَالِ بَرَكَتِه وعَظَمَتِهَا وسَعَتِهَا، وهذا مَعْنَى قَوْلِ مَنْ قالَ مِنَ السَّلفِ تَبَارَكَ؛ تَعَاظَمَ).

 
وقالَ
ابنُ عبَّاسٍ:(جَاءَ بكُلِّ بَرَكَةٍ).
واعْلَمْ أَنَّ هَذَا الحَدِيثَ بجُمْلَتِهِ مِمَّا عُدَّ مِنَ الأَدِلَّةِ عَلَى الشَّهَادَتَيْنِ فإنَّ كلَّ جُمْلَةٍ منهُ وَقَعَتْ كَمَا أَخْبَرَ بِهَا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

هيئة الإشراف

#3

27 Oct 2008

فتح المجيد للشيخ: عبد الرحمن بن حسن آل الشيخ

قال الشيخ عبدالرحمن بن حسن آل الشيخ (ت: 1285هـ): ( (1)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (بابُ مَا جَاءَ أنَّ بَعْضَ هَذِهِ الأُمَّةِ يَعبُدُ الأوثانَ).
(2)
وقَوْلِ اللهِ تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ}[النساء:51].


الْوَثَنُ:

يُطْلَقُ على ما قُصِدَ بنوعٍ منْ أنواعِ العِبادةِ منْ دُونِ اللهِ من القبورِ والْمَشاهدِ وغيرِها؛ لقولِ الخليلِ عليهِ السلامُ: {إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا}[العنكبوت:17]، ومعَ قولِهِ: {قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ}[الشعراء:71].
وقولِهِ:
{أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ}[الصَّافَّات:95].
فَبِذَلِكَ يُعْلَمُ أنَّ الوَثَنَ يُطْلَقُ على الأصنامِ وغيرِها مِمَّا عُبِدَ منْ دونِ اللهِ، كما تَقَدَّمَ في الحديثِ.
وقولُهُ:
{يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ} رَوَى ابنُ أبي حاتمٍ عنْ عِكرمةَ قالَ: (جاءَ حُيَيُّ بنُ أخْطَبَ وكَعْبُ بنُ الأشرَفِ إلى أهلِ مَكَّةَ فقالُوا لَهُمْ: أنْتُمْ أهلُ الكتابِ وأهلُ العِلمِ، فأَخْبِرُونا عَنَّا وَعَنْ مُحَمَّدٍ.
فقالُوا: ما أَنْتُمْ ومَا
مُحَمَّدٌ؟


فقالوا: نَحْنُ نَصِلُ الأرحامَ، ونَنْحَرُ الْكَوْمَاءَ، ونَسْقِي الماءَ على اللَّبَنِ، ونَفُكُّ العُنَاةَ؛ ونَسقِي الْحَجيجَ،

ومُحَمَّدٌ صُنْبُورٌ، قَطَّعَ أَرحامَنا، واتَّبَعَهُ سُرَّاقُ الْحَجيجِ مِنْ غِفارٍ، فنحنُ خيرٌ أمْ هوَ؟
فقالُوا: أنتمْ خيرٌ وأَهْدَى سَبيلاً.
فأَنْزَلَ اللهُ تعالى:
{أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً}).
وفي
(مُسنَدِ أحمدَ) عن ابنِ عبَّاسٍ نَحْوُهُ.
قالَ
عمرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (الْجِبْتُ السِّحْرُ، والطَّاغوتُ الشَّيطانُ) وكذا قولُ ابنِ عبَّاسٍ وأبي العاليَةِ ومُجاهِدٍ والحسَنِ وغيرِهم.
وعن
ابنِ عبَّاسٍ وعِكرمةَ وأبي مَالكٍ: (الْجِبْتُ الشيطانُ)
زادَ
ابنُ عَبَّاسٍ: (بِالْحَبَشِيَّةِ).
وعن
ابنِ عبَّاسٍ أيضًا: (الْجِبْتُ الشرْكُ)
وعنهُ:
(الْجِبْتُ الأصنامُ)
وعنهُ:
(الْجِبْتُ: حُيَيُّ بنُ أَخْطَبَ).
وعن
الشَّعبيِّ: (الْجِبْتُ الكاهنُ).
وعنْ
مُجاهِدٍ: (الْجِبْتُ كَعْبُ بنُ الأَشْرَفِ).
قالَ
الْجَوْهَرِيُّ: (الْجِبْتُ: كَلِمَةٌ تَقَعُ على الصنَمِ والكاهنِ والساحِرِ ونحوِ ذلكَ).
قالَ
الْمُصَنِّفُ: (وفيهِ مَعرِفَةُ الإِيمانِ بالْجِبْتِ والطاغوتِ في هذا الْمَوضِعِ، هلْ هوَ اعتقادُ قلبٍ، أوْ هوَ مُوافَقَةُ أصحابِها معَ بُغْضِها ومَعرِفةِ بُطلانِها؟).
(3)
قالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (وقَوْلِهِ تعالى: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}[المائدة:60]).
يقولُ تعالى لنَبِيِّهِ
مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قُلْ يا مُحَمَّدُ: هلْ أُخبِرُكُمْ بشَرِّ جَزاءٍ عندَ اللهِ يومَ القِيامةِ مِمَّا تَظُنُّونَهُ بِنَا؟
وهم أنْتُمْ أيُّها الْمُتَّصِفُونَ بهذهِ الصِّفاتِ الْمُفَسَّرَةِ بقولِهِ:
{مَنْ لَعَنَهُ اللهُ}؛ أيْ: أَبْعَدَهُ مِنْ رَحْمَتِهِ، {وَغَضِبَ عَلَيْهِ}؛ أيْ: غَضَبًا لا يَرْضَى بعدَهُ أبدًا، {وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ}.
وقدْ قالَ
الثَّوْرِيُّ: (عنْ عَلْقمةَ بنِ مَرْثَدٍ، عن الْمُغِيرةِ بنِ عبدِ اللهِ، عن الْمَعْرُورِ بنِ سُوَيْدٍ، أنَّ ابنَ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: سُئِلَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَن الْقِرَدَةِ وَالْخَنَازِيرِ، أَهِيَ مِمَّا مَسَخَ اللهُ؟


فَقَالَ: ((إِنَّ اللهَ لَمْ يُهْلِكْ قَوْمًا -أَوْ قَالَ: لَمْ يَمْسَخْ قَوْمًا-فَيَجْعَلَ لَهُمْ نَسْلاً وَلاَ عَقِبًا، وَإِنَّ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ كَانَتْ قَبْلَ ذَلِكَ)) ورَوَاهُ مسلِمٌ.
قالَ
البَغَوِيُّ في (تفسيرِهِ): {قُلْ} يا مُحَمَّدُ: {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} أُخْبِرُكُم، {بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ} يَعْنِي: قَوْلِهِم: لمْ نَرَ أَهلَ دِينٍ أقلَّ حَظًّا في الدنيا والآخِرَةِ منكم، ولا دِينًا شَرًّا منْ دينِكُم، فذَكَرَ الجوابَ بلفظِ الابتداءِ: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ}[الحجّ:72].
وقولُهُ:
{مَثُوبَةً} ثوابًا وجَزاءً، نُصِبَ على التفسيرِ، {عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ} فالقِرَدَةُ أصحابُ السَّبْتِ، والْخَنازِيرُ كُفَّارُ مائدةِ عِيسَى.
وعنْ
عليِّ بنِ أبي طَلْحَةَ عن ابنِ عَبَّاسٍ، أنَّ الْمَسخَيْنِ كِلاهُمَا منْ أصحابِ السَّبْتِ، فشَبَابُهُم مُسِخُوا قِرَدَةً، ومشايِخُهم مُسِخُوا خَنازِيرَ.
{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} أيْ: وجَعَلَ منهم مَنْ عَبَدَ الطاغوتَ؛ أيْ: أَطاعَ الشيطانَ فيما سَوَّلَ لهُ، وقَرَأَ ابنُ مَسعودٍ: {وَعَبَدُوا الطَّاغُوتَ}.
وقَرَأَ
حَمزةُ: {وَعَبُدِ الطَّاغُوتِ} بضَمِّ الباءِ وجَرِّ التاءِ، أَرادَ العَبْدَ.
وهُمَا لُغتانِ: عَبْدٌ بجزمِ الباءِ؛ وعَبُدٌ بضَمِّها، مثلُ سَبْعٍ وسَبُعٍ. وقَرأَ الْحَسَنُ: {وَعَبْدَ الطَّاغُوتِ} على الواحدِ.
وفي
(تفسيرِ الطَّبْرَسِيِّ): قرأَ حَمزةُ وَحْدَهُ: {وَعَبُدَ الطَّاغُوتِ} بضَمِّ الباءِ وجَرِّ التاءِ، والباقونَ {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ} بنَصبِ الباءِ وفَتْحِ التاءِ.
وقَرَأَ
ابنُ عَبَّاسٍ وابنُ مَسعودٍ وإبراهيمُ النَّخَعِيُّ والأَعْمَشُ وأَبانُ بنُ تَغْلِبَ: {وعُبُدَ الطاغوتِ} بضَمِّ العَينِ والباءِ وفَتْحِ الدالِ وخَفْضِ التاءِ، قالَ: وحُجَّةُ حَمزةَ في قِراءتِهِ {وعَبُدَ الطاغوتِ} أنَّهُ يَحْمِلُهُ على ما عَمِلَ فيهِ {جَعَلَ} كأنَّهُ: وجَعَلَ منهم عَبُدَ الطاغوتِ.
ومعنى
{جَعَلَ} خَلَقَ، كقولِهِ: {وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ} وليسَ {عَبُدَ} لفْظَ جَمْعٍ؛ لأنَّهُ ليسَ منْ أَبْنِيَةِ الجُمُوعِ شيءٌ على هذا البِناءِ، ولكِنَّهُ واحدٌ يُرادُ بهِ الكَثرةُ، ألا ترى أنَّ في الأسماءِ الْمُفْرَدَةِ الْمُضافَةِ إلى الْمَعارِفِ ما لَفْظُهُ لفظُ الإفرادِ ومعناهُ الْجَمْعُ، كما في قولِهِ تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللهِ لاَ تُحْصُوهَا}[إبراهيم:34]؛ لأنَّ بِناءَ (فَعُلٍ) يُرادُ بهِ الْمُبالَغَةُ والكَثرةُ، نحوُ: يَقُظٍ ودَنُسٍ، وكأنَّ تَقديرَهُ: أنَّهُ قدْ ذَهَبَ في عِبادةِ الطاغوتِ كُلَّ مَذْهَبٍ.
وأمَّا مَنْ فَتَحَ فقالَ:
{وعَبَدَ الطاغوتَ} فإنَّهُ عَطَفَهُ على بِناءِ الْمُضِيِّ الذي في الصِّلَةِ: وهوَ قولُهُ {لَعَنَهُ اللهُ} وأَفْرَدَ الضميرَ في {عَبَدَ} وإنْ كانَ المعنى فيهِ الكَثرةَ؛ لأنَّ الكلامَ مَحمولٌ على لَفْظِهِ دُونَ معناهُ، وفاعلُهُ ضَميرُ {مَنْ} كما أنَّ فاعلَ الأَمثِلَةِ المعطوفِ عليها ضَميرُ {مَنْ} فأُفْرِدَ لِحَمْلِ ذلكَ جَميعًا على اللفظِ.
وأمَّا قولُهُ:
{عُبُدَ الطاغوتِ} فهوَ جَمْعُ عَبْدٍ.
وقالَ
أحمدُ بنُ يَحْيَى: (عُبُدٌ جَمْعُ عَابِدٍ؛ كبازِلٍ وبُزُلٍ، وشارِفٍ وشُرُفٍ، وكذلكَ عُبَّدٌ جَمْعُ عابدٍ، ومِثلُهُ عِبادٌ وعُبَّادٌ) انتَهَى.
وقالَ
شيخُ الإِسلامِ في قولِهِ: {وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}: (الصوابُ أنَّهُ مَعطوفٌ على ما قَبْلَهُ من الأفعالِ؛ أيْ: مَنْ لَعَنَهُ وغَضِبَ عليهِ، ومَنْ جَعَلَ منهم القِرَدَةَ والْخَنازيرَ وعَبَدَ الطاغوتَ).
قالَ:
(والأفعالُ الْمُتَقَدِّمَةُ الفاعلُ فيها اسمُ اللهِ تعالى مُظْهَرًا ومُضْمَرًا، وهنا الفاعلُ اسمُ مَنْ عَبَدَ الطاغوتَ).
وهوَ الضميرُ في
{عَبَدَ} ولمْ يُعِدْ سُبحانَهُ {مَنْ} لأنَّهُ جَعَلَ هذهِ الأفعالَ صفةً لصِنْفٍ واحدٍ وهم اليَهودُ.
قولُهُ:
{أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا} مِمَّا تَظُنُّونَ بنا {وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ}.
وهذا مِنْ بابِ استعمالِ أَفْعَلَ التفضيلِ فيما ليسَ في الطَّرَفِ الآخَرِ لهُ مُشَارَكَةٌ، كقولِهِ تعالى:
{أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلاً}[الفرقان:24] قالَهُ العِمادُ ابنُ كثيرٍ في (تَفسيرِهِ)، وهوَ ظاهِرٌ.


(4)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (وقولُهُ تعالى: {قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا}[الكهف:21] والمرادُ أنَّهُم فَعَلُوا معَ الْفِتْيَةِ بعدَ مَوْتِهم ما يُذَمُّ فاعلُهُ؛ لأنَّ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ:((لَعَنَ اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا قُبُورَ أَنْبِيَائِهِمْ مَسَاجِدَ)) أرادَ تَحذيرَ أُمَّتِهِ أن يَفْعَلُوا كَفِعْلِهم).
(5)
قالَ
المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (وَعَنْأَبِي سعيدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ))، قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، اليهودُ والنَّصَارى؟ قالَ:((فَمَنْ؟))أَخْرَجاهُ)وهذا سِياقُ مُسْلِمٍ.
قولُهُ:
((سَنَنَ)) بفَتْحِ الْمُهْمَلَةِ؛ أيْ: طريقَ مَنْ كانَ قَبْلَكم، قالَ الْمُهَلَّبُ: الفَتْحُ أَوْلَى.
قولُهُ:
((حَذْوَ القُذَّةِ بِالقُذَّةِ)) بنَصْبِ ((حَذْوَ)) على الْمَصْدَرِ. والقُذَّةُ بضَمِّ القافِ، واحِدَةُ الْقِذَاذِ، وهوَ رِيشُ السَّهْمِ؛ أيْ: لتَتَّبِعُنَّ طَريقَهم في كلِّ ما فَعَلُوهُ، وتُشْبِهُونَهُم في ذلكَ كما تُشْبِهُ قُذَّةُ السَّهْمِ القُذَّةَ الأُخرى، فوَقَعَ كمَا أخْبَرَ صلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، وبهذا تَظْهَرُ مُناسَبَةُ الآياتِ للتَّرْجَمَةِ، وقدْ وَقَعَ كما أَخْبَرَ، وهوَ عَلَمٌ منْ أعلامِ النُّبُوَّةِ.
قولُهُ:
((حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ)) وفي حديثٍ آخَرَ: ((حَتَّى لَوْ كَانَ فِيهِمْ مَنْ يَأْتِي أُمَّهُ عَلاَنِيَةً لَكَانَ فِي أُمَّتِي مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ)).
أَرادَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنَّ أُمَّتَهُ لا تَدَعُ شَيئًا مِمَّا كانَ يَفْعَلُهُ اليَهودُ والنَّصارَى إلاَّ فَعَلَتْهُ كُلَّهُ لا تَتْرُكُ منهُ شَيْئًا؛ ولهذا قالَ
سُفيانُ بنُ عُيَيْنَةَ: (مَنْ فَسَدَ مِنْ عُلمائِنا ففيهِ شَبَهٌ من اليَهودِ؛ ومَنْ فَسَدَ منْ عُبَّادِنا ففيهِ شَبَهٌ من النَّصَارَى) انتهى.


قُلْتُ: فما أَكثرَ الفريقَيْنِ؛

لكنْ منْ رَحمةِ اللهِ تعالى ونِعمتِهِ أنْ جَعَلَ هذهِ الأُمَّةَ لا تَجْتَمِعُ على ضَلالةٍ كما في حديثِ ثَوْبَانَ الآتِي قَرِيبًا.
قولُهُ: (قالُوا: يا رَسُولَ اللهِ، اليهودُ والنَّصَارى؟ قالَ:
((فَمَنْ؟))) هُوَ بِرَفْعِ (اليهودُ) خَبَرُ مُبتدأٍ محذوفٍ؛ أيْ: أَهُم اليهودُ والنَّصَارَى الذينَ نَتَّبِعُ سَنَنَهُمْ؟ ويَجوزُ النَّصْبُ بفِعْلٍ مَحذوفٍ تَقديرُهُ: تَعْنِي.
قولُهُ: (قَال:
((فَمَنْ؟))) استفهامُ إِنكارٍ؛ أيْ: فَمَنْ هُمْ غيرُ أولئكَ؟


(6)

قالَ المُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ تعالَى: (ولِمُسْلِمٍ عَنْ ثَوبانَ، أنَّ رسُولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ اللهَ زَوَى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا.
وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ.
وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُِمَّتِي أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ.
وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ.
وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لأُِمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنةٍ بِعَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا
))
ورواهُ الْبَرْقَانِيُّ في (صحيحِهِ)، وزَادَ: ((إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمُ السَّيْفُ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ فِئَامٌ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ، وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلاَثُونَ، كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ، لاَ نَبِيَّ بَعْدِي، وَلاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى))).
هذا الحديثُ رَواهُ
أبو دَاوُدَ في (سُنَنِهِ) وابنُ مَاجَهْ بالزيادةِ التي ذَكَرَها الْمُصَنِّفُ.
قولُهُ: (عنْ
ثَوبانَ) هوَ مَوْلَى النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَحِبَهُ وَلازَمَهُ، ونَزَلَ بعْدَهُ الشامَ، وماتَ بِحِمْصَ سَنَةَ أربعٍ وخَمسينَ.
قولُهُ:
((زَوَى لِيَ الأَرْضَ)) قال التُّورِبِشْتِيُّ: (زَوَيْتُ الشَّيْءَ جَمَعْتُهُ وقَبَضْتُهُ، يُريدُ تَقريبَ البَعيدِ منها حتَّى اطَّلَعَ عليهِ اطِّلاَعَهُ على القَريبِ).
وحاصِلُهُ أنَّهُ طَوَى لهُ الأَرْضَ وجَعَلَها مَجموعةً كهَيْئَةِ كَفٍّ في مِرْآةٍ يَنْظُرُهُ، قالَ
الطِّيبِيُّ: أيْ جَمَعَها لي حتَّى بَصُرْتُ ما تَمْلِكُهُ أُمَّتِي مِنْ أَقْصَى الْمَشارِقِ والْمَغارِبِ منها.
قولُهُ:
((وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا)) قالَ القُرْطُبِيُّ: (هذا الْخَبَرُ وُجِدَ مَخْبَرُهُ كما قالَ، وكانَ ذلكَ منْ دَلائلِ نُبُوَّتِهِ، وذلكَ أنَّ مُلْكَ أُمَّتِهِ اتَّسَعَ إلى أنْ بَلَغَ أَقْصَى طَنْجَةَ -بالنُّونِ والجيمِ- الذي هوَ مُنْتَهَى عِمارةِ الْمَغْرِبِ، إلى أَقْصَى الْمَشْرِقِ مِمَّا هوَ وَراءَ خُراسانَ والنهْرِ، وكثيرٍ منْ بِلادِ السِّنْدِ والْهِنْدِ والصُّغْدِ؛ ولمْ يَتَّسِعْ ذلكَ الاتِّساعَ منْ جِهةِ الجنوبِ والشَّمال، ولذلكَ لم يَذْكُرْ عليهِ السلامُ أنَّهُ أُرِيَهُ، ولا أَخْبَرَ أنَّ مُلْكَ أُمَّتِهِ يَبْلُغُهُ).
قولُهُ:
((زُوِيَ لِيَ مِنْهَا)) يَحْتَمِلُ أنْ يكونَ مَبْنِيًّا للفاعلِ، وأنْ يكونَ مَبْنِيًّا للمفعولِ.
قولُهُ:
((وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ)) قالَ القُرْطُبِيُّ: (يَعْنِي بها: كَنْزَ كِسْرَى وهوَ مَلِكُ الْفُرْسِ، وكَنْزَ قَيْصَرَ وهوَ مَلِكُ الرُّومِ، وقُصُورَهُما وبلادَهما).
وقدْ قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَتُنْفَقَنَّ كُنُوزُهُمَا فِي سَبِيلِ اللهِ)) وعَبَّرَ بالأَحْمَرِ عنْ كَنْزِ قَيْصَرَ؛ لأنَّ الغالِبَ عندَهم كانَ الذَّهَبَ، وبالأبيضِ عنْ كَنـزِ كِسْرَى؛ لأنَّ الغالِبَ عندَهم كانَ الْجَوْهَرَ والفِضَّةَ.
وَوُجِدَ ذلكَ في خِلافةِ
عُمَرَ، فَإِنَّهُ سِيقَ إليهِ تَاجُ كِسْرَى وَحِلْيَتُهُ وما كانَ في بُيُوتِ أموالِهِ، وجميعُ ما حَوَتْهُ مَمْلَكَتُهُ على سَعَتِها وعَظَمَتِها، وكذلكَ فَعَلَ اللهُ بقَيْصَرَ. و((الأبيضَ والأحمرَ)) مَنصوبانِ على الْبَدَلِ.
قولُهُ:
((وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُِمَّتِي أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ)) هكذا ثَبَتَ في أَصْلِ الْمُصَنِّفِ رَحِمَهُ اللهُ تعالى ((بِعَامَّةٍ)) بالباءِ، وهيَ روايَةٌ صَحيحةٌ في (صَحيحِ مسلِمٍ)، وفي بعضِها بِحَذْفِها.
قالَ
القُرْطُبِيُّ: (وكأنَّها زائدةٌ؛ لأنَّ ((عَامَّةً)) صِفةُ السَّنَةِ، والسَّنَةُ الْجَدْبُ الذي يَكونُ بهِ الْهَلاكُ الْعَامُّ، ويُسَمَّى الْجَدْبُ والْقَحْطُ: سَنَةً. ويُجْمَعُ على سِنِينَ، كما قالَ تعالى:{وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ}[الأعراف: 130] أي: الْجَدْبِ الْمُتَوَالِي).
قولُهُ:
((وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ)) أيْ: مِنْ غَيْرِهم مِن الكُفَّارِ منْ إِهلاكِ بعضِهم بَعْضًا، وسَبْيِ بعضِهم بَعْضًا؛ كما هوَ مَبسوطٌ في التاريخِ فيما قِيلَ، وفي زَمَانِنا هذا، نَسألُ اللهَ العَفْوَ والعافيَةَ.
قولُهُ:
((فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ)) قالَ الْجَوْهَرِيُّ: (بَيْضَةُ كلِّ شيءٍ حَوْزَتُهُ، وبَيْضَةُ الْقَوْمِ ساحَتُهم، وعلى هذا فيكونُ معنى الحديثِ: أنَّ اللهَ تعالى لا يُسَلِّطُ العَدُوَّ على كَافَّةِ المسلمينَ حتَّى يَسْتَبِيحَ جَميعَ ما حَازُوهُ مِن البلادِ والأرضِ، ولو اجْتَمَعَ عليهم مَنْ بأقطارِ الأرضِ وهيَ جَوَانِبُها. وقِيلَ: بَيْضَتُهم مُعْظَمُهُم وجَماعتُهم وإنْ قَلُّوا).

قولُهُ: ((حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهلِكُ بَعْضًا، وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا)) والظاهِرُ أنَّ ((حَتَّى)) عاطِفَةٌ، أوْ تكونُ لانتهاءِ الغايَةِ؛ أيْ: إنَّ أَمْرَ الأُمَّةِ يَنْتَهِي إلى أَنْ ((يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا)) الحديثَ، وقدْ سُلِّطَ بعضُهم على بَعْضٍ كما هوَ الوَاقعُ، وذلكَ لكَثرةِ اختلافِهم وتَفَرُّقِهم.

قولُهُ: ((وَإِنَّ رَبِّي قَالَ: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ)) قالَ بعضُهم: أيْ: إذا حَكَمْتُ حُكْمًا مُبْرَمًا نافِذًا فإنَّهُ لا يُرَدُّ بشيءٍ، ولا يَقْدِرُ أَحَدٌ على رَدِّهِ، كما قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَلاَ رَادَّ لِمَا قَضَيْتَ)).
قولُهُ: (ورَوَاهُ
الْبَرْقَانِيُّ في (صَحِيحِهِ)) هوَ الحافِظُ الكبيرُ أبو بكرٍ أحمدُ بنُ مُحَمَّدِ بنِ أحمدَ بنِ غالِبٍ الخُوَارَزْمِيُّ الشافعيُّ.
وُلِدَ سَنَةَ سِتٍّ وثلاثينَ وثلاثِمائةٍ، وماتَ سنةَ خَمْسٍ وعشرينَ وأربعِمائةٍ.
قالَ
الخطيبُ: (كانَ ثَبَتًا وَرِعًا، لمْ نَرَ في شُيُوخِنا أَثْبَتَ منهُ؛ عارِفًا بالفِقْهِ كثيرَ التَّصَانيفِ، صَنَّفَ مُسْنَدًا ضَمَّنَهُ ما اشْتَمَلَ عليهِ(الصحيحانِ)وجَمَعَ حديثَالثوريِّ وحديثَشُعبةَ وطائفةٍ).
وهذا الحديثُ رواهُ
أبو دَاوُدَ بتَمامِهِ بسَنَدِهِ إلى أبي قِلابةَ، عنْ أبي أَسماءَ، عنْ ثَوبانَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:((إِنَّ اللهَ -أَوْ قَالَ: إِنَّ رَبِّي- زَوى لِيَ الأَرْضَ فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا، وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا.
وَأُعْطِيتُ الْكَنْزَيْنِ: الأَحْمَرَ وَالأَبْيَضَ.
وَإِنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُِمَّتِي أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ.
وَأَنَّ رَبِّي قَالَ لِي: يَا مُحَمَّدُ، إِنِّي إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ، وَلاَ أُهْلِكُهُمْ بِسَنَةٍ عَامَّةٍ، وَلاَ أُسَلِّطُ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بَيْنَ أَقْطَارِهَا -أَوْ قَالَ: بِأَقْطَارِهَا- حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا، وَحَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يَسْبِي بَعْضًا.
وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ، وَإِذَا وُضِعَ السَّيْفُ فِي أُمَّتِي لَمْ يُرْفَعْ عَنْهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ.
وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلاَثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ.
وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ لاَ نَبِيَّ بَعْدِي.
وَلاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ-قَالَ ابنُ عيسى: ظَاهِرِينَ، ثُمَّ اتَّفَقَا- لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ
))
.
ورَوَى
أبو دَاوُدَ أيضًا عنْ عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: ((تَدُورُ رَحَى الإِسْلاَمِ لِخَمْسٍ وَثَلاَثِينَ، أَوْ سِتٍّ وَثَلاَثِينَ، أَوْ سَبْعٍ وَثَلاَثِينَ، فَإِنْ يَهْلِكُوا فَسَبِيلُ مَنْ هَلَكَ، وَإِنْ يَقُمْ لَهُمْ دِينُهُمْ يَقُمْ سَبْعِينَ عَامًا)) قالَ: قُلْتُ: أَمِمَّا بَقِيَ أَوْ مِمَّا مَضَى؟
قَالَ:
((مِمَّا مَضَى)).
ورَوَى في
(سُنَنِهِ) أيضًا عنْ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَتَقَارَبُ الزَّمَانُ، وَيَنْقُصُ الْعِلْمُ، وَتَظْهَرُ الْفِتَنُ، وَيُلْقَى الشُّحُّ، وَيَكْثُرُ الْهَرْجُ)).
قِيلَ: يَا رَسُولُ اللهِ، أَيُّهْ هُوَ؟
قَالَ:
((الْقَتْلُ الْقَتْلُ)).

قولُهُ: ((وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ)) أي: الأُمراءَ والعُلماءَ والعُبَّادَ، فيَحْكُمُونَ فيهم بغيرِ عِلْمٍ فيُضِلُّونَهم، كما قالَ تعالى: {وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلاَ}[الأحزاب:67].
وكان بعضُ هؤلاءِ يَقولُ لأصحابِهِ: مَنْ كانَ لهُ حَاجةٌ فَيَأْتِ إلى قَبْرِي فَإِنِّي أَقْضِيها لهُ، ولا خَيْرَ في رَجُلٍ يَحْجُبُهُ عنْ أصحابِهِ ذِراعٌ منْ تُرابٍ، أوْ نحوَ هذا.
وهذا هوَ الضَّلاَلُ البعيدُ، يَدْعُو أصحابَهُ إلى أنْ يَعْبُدُوهُ منْ دُونِ اللهِ ويَسأَلُوهُ ما لا يَقْدِرُ عليهِ منْ قَضاءِ حاجاتِهم وتَفريجِ كُرُبَاتِهم، وقدْ قالَ تعالى: {يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ}[الحجّ:12،13].
وقالَ تعالى:
{وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلاَ يَمْلِكُونَ لأَِنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلاَ نَفْعًا وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلاَ حَيَـاةً وَلاَ نُشُورًا}[الفُرْقَان:3].
وقالَ تعالى:
{فَابْتَغُوا عِنْدَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ}[العنكبوت:17]، وأمثالُ هذا في القرآنِ كثيرٌ، يُبَيِّنُ اللهُ تعالى بهِ الْهُدَى من الضَّلالِ.
ومِنْ هذا الضَّرْبِ: مَنْ يَدَّعِي أنَّهُ يَصِلُ معَ اللهِ إلى حَالٍ تَسْقُطُ عنهُ التكاليفُ؛ أوْ يَدَّعِي أنَّ الأولياءَ يُدْعَوْنَ ويُسْتَغَاثُ بهم في حَياتِهم ومَمَاتِهم، وأنَّهُم يَنْفَعُونَ ويَضُرُّونَ ويُدَبِّرُونَ الأُمورَ على سَبيلِ الكَرامةِ، أوْ أنَّهُ يَطَّلِعُ على اللَّوْحِ المحفوظِ، يَعلَمُ أسرارَ الناسِ ومَا في ضَمائِرِهم؛ أوْ يُجَوِّزُ بِناءَ الْمَساجِدِ على قُبورِ الأنبياءِ والصالحينَ وإيقادُها بالسُّرُجِ، ونحوُ ذلكَ من الْغُلُوِّ والإفراطِ والعِبادةِ لغيرِ اللهِ.
فما أَكْثَرَ هذا الْهَذَيانَ والكُفْرَ والْمُحَادَّةَ للهِ ولكتابِهِ ولرسولِهِ.
وقولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ))أَتَى بِإِنَّمَا التي قدْ تَأْتِي للحَصْرِ بَيانًا لشِدَّةِ خَوْفِهِ على أُمَّتِهِ منْ أَئِمَّةِ الضَّلاَلِ.
وما وَقَعَ في خَلَدِ النبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ذلكَ إلاَّ لِمَا أَطْلَعَهُ اللهُ عليهِ منْ غَيْبِهِ أنَّهُ سَيَقَعُ نَظيرَ ما في الحديثِ قَبْلَهُ منْ قولِهِ:
((لَتَتَّبِعُنَّ سَنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)) الحديثَ.
[وَعَنْ
أَبي الدَّرْدَاءِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةُ الْمُضِلِّينَ))رواهُ أبو دَاوُدَ الطَّيَالِسيُّ، وعنْ ثَوبانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ))رواهُ الدَّارِمِيُّ.
وقدْ بَيَّنَ اللهُ تعالى في كتابِهِ صِراطَهُ الْمُستقيمَ الذي هوَ سَبيلُ المؤمنينَ، فكُلُّ مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا ليسَ في كتابِ اللهِ ولا في سُنَّةِ رسولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فهوَ مَلعونٌ، وحَدَثُهُ مَردودٌ، كما قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا أَوْ آوَى مُحْدِثًا فَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً)).

وقالَ:

((مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ)).
وقالَ:
((كُلُّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ، وَكُلُّ بِدْعَةٍ ضَلاَلَةٌ)) وهذهِ أحاديثُ صَحيحةٌ.
ومَدارُ أُصولِ الدِّينِ وأَحكامِهِ على هذهِ الأحاديثِ ونَحْوِهَا.
وقدْ بَيَّنَ اللهُ تعالى هذا الأَصْلَ في مَواضِعَ منْ كتابِهِ العَزيزِ، كما قالَ تعالى:
{اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ}[الأعراف:3].
وقالَ تعالى:
{ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللهِ شَيْئًَا}[الجاثيَة:18،19]، ونظائِرُها في القرآنِ كَثيرةٌ.
وعنْ
زِيادِ بنِ حُدَيْرٍ قالَ: قالَ لي عُمَرُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: هلْ تَعْرِفُ ما يَهْدِمُ الإسلامَ؟
قُلْتُ: لا، قالَ:
(يَهْدِمُهُ زَلَّةُ العالِمِ، وجِدالُ الْمُنافِقِ بالكتابِ، وحُكْمُ الأَئِمَّةِ الْمُضِلِّينَ) رواهُ الدَّارِمِيُّ.
وقالَ
يَزيدُ بنُ عُمَيْرٍ: (كانَ مُعاذُ بنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لا يَجْلِسُ مَجْلِسًا للذِّكْرٍ إلاَّ قالَ: (اللهُ حَكَمٌ قِسْطٌ: هَلَكَ الْمُرْتَابُونَ).
وفيهِ:
(وَاحْذَرُوا زَيْغَةَ الْحَكِيمِ؛ فَإِنَّ الشَّيْطَانَ قَدْ يَقُولُ الضَّلاَلَةَ عَلَى لِسَانِ الْحَكِيمِ، وقدْ يَقولُ الْمُنافِقُ كَلِمَةَ الْحَقِّ).
قُلتُ
لِمُعاذٍ: (وما يُدْرِينِي رَحِمَكَ اللهُ أنَّ الحكيمَ قدْ يَقولُ كَلمةَ الضَّلاَلِ، والْمُنافِقَ قدْ يَقولُ كَلمةَ الْحَقِّ؟
قالَ: قالَ لي: (اجْتَنِبْ مِنْ كلامِ الحكيمِ الْمُشْتَبِهَاتِ التي يُقالُ: ما هذهِ؟
ولا يُثْنِيكَ عنهُ، فَإِنَّهُ لَعَلَّهُ يُراجِعُ الْحَقَّ. وتَلَقَّ الحقَّ إذا سَمِعْتَهُ؛ فإنَّ على الحَقِّ نُورًا)
رواهُ أبو دَاوُدَ وغَيْرُهُ.
قولُهُ:((وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِم السَّيْفُ لَمْ يُرْفَعْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) وكذلكَ وَقَعَ؛ فإنَّ السيفَ لَمَّا وَقَعَ بقَتْلِ عُثمانَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ لمْ يُرْفَعْ، وكذلكَ يكونُ إلى يومِ القِيامةِ.
ولكنْ قدْ يَكْثُرُ تَارةً ويَقِلُّ أُخْرى، ويكونُ في جِهةٍ ويَرْتَفِعُ عنْ أُخْرَى.
قولُهُ:
((وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ)) الْحَيُّ: واحدُ الأحياءِ، وهيَ القبائلُ.


وفي روايَةِ أبي دَاوُدَ: ((حَتَّى يَلْحَقَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكينَ)) والمعنى: أنَّهُم يَكونونَ معهم ويَرْتَدُّونَ برَغْبَتِهم عنْ أَهْلِ الإِسلامِ ويَلحقونَ بأَهْلِ الشِّرْكِ.
قولُهُ:
((حَتَّى تَعْبُدَ فِئَامٌ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ))الْفِئَامُ: بكَسْرِ الفاءِ مَهموزٌ: الجماعاتُ الكبيرةُ. قالَهُ أبو السَّعَادَاتِ.


وفي روايَةِ

أبي دَاوُدَ: ((وَحتَّى تَعْبُدَ قَبَائِلُ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ)).
وهذا هوَ شاهِدُ الترجمةِ؛ ففيهِ الرَّدُّ على مَنْ قالَ بخِلافِهِ مِنْ عُبَّادِ القُبورِ الجاحدينَ لِمَا يَقَعُ منهم من الشِّرْكِ باللهِ بعِبادَتِهم الأوثانَ، وذلكَ لِجَهْلِهِم بحقيقةِ التوحيدِ وما يُنَاقِضُهُ من الشِّرْكِ والتنديدِ؛ فالتوحيدُ هوَ أَعْظَمُ مَطلوبٍ، والشِّرْكُ هوَ أَعظَمُ الذنوبِ.
وفي معنى هذا الحديثِ ما في
(الصحيحيْنِ) عنْ أبي هُريرةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ مَرْفُوعًا: ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَضْطَرِبَ أَلْيَاتُ نِسَاءِ دَوْسٍ عَلَى ذِي الْخَلَصَةِ)).
قَالَ:
((وَذُو الْخَلَصَةِ طَاغِيَةُ دَوْسٍ الَّتِي كَانُوا يَعْبُدُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ)) ورَوَى ابنُ حِبَّانَ عنْ مَعْمَرٍ قالَ: إِنَّ عَلَيْهِ الآنَ بَيْتًا مَبْنِيًّا مُغْلَقًا.
قالَ العَلاَّمَةُ
ابنُ الْقَيِّمِ في قِصَّةِ هَدْمِ اللاَّتِ لَمَّا أَسْلَمَتْ ثَقيفٌ: فيهِ أنَّهُ لا يَجُوزُ إِبْقَاءُ مَواضِعِ الشِّرْكِ والطواغيتِ بعدَ القُدْرَةِ على هَدْمِها وإِبْطَالِها يَوْمًا واحدًا.
وكذلكَ حُكْمُ الْمَشَاهِدِ التي بُنِيَتْ على الْقُبُورِ،
والتي اتُّخِذَتْ أوثانًا تُعْبَدُ منْ دُونِ اللهِ؛ والأحجارُ التي تُقْصَدُ للتَّبَرُّكِ والنَّذْرِ، لا يَجوزُ إبقاءُ شيءٍ منها على وَجْهِ الأرضِ معَ الْقُدْرَةِ على إِزالتِها، وكَثيرٌ منها بِمَنْزِلَةِ اللاَّتِ والْعُزَّى ومَناةَ، أوْ أَعظمَ شِرْكًا عندَها وَبِهَا.
فاتَّبَعَ هؤلاءِ سَنَنَ مَنْ كانَ قَبْلَهم، وسَلَكُوا سَبيلَهم حَذْوَ القُذَّةِ بالْقُذَّةِ، وغَلَبَ الشِّرْكُ على أَكثرِ النُّفُوسِ لظُهورِ الجَهْلِ وخَفاءِ العِلْمِ، وصارَ المعروفُ مُنْكَرًا والْمُنْكَرُ مَعروفًا، والسُّنَّةُ بِدْعَةً والْبِدْعَةُ سُنَّةً.


وطُمِسَت الأعلامُ،

واشْتَدَّتْ غُربةُ الإِسلامِ، وقَلَّ العُلماءُ، وغَلَبَ السُّفهاءُ، وتَفَاقَمَ الأَمْرُ، واشْتَدَّ البأسُ؛ وظَهَرَ الفَسادُ في الْبَرِّ والبَحْرِ بما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ.
ولكنْ لا تَزالُ طائفةٌ من العِصابةِ الْمُحَمَّدِيَّةِ بالحقِّ قَائِمِينَ؛ ولأهلِ الشرْكِ والبِدَعِ مُجاهِدِينَ، إلى أنْ يَرِثَ اللهُ الأَرْضَ ومَنْ عَلَيْهَا وهوَ خَيْرُ الوارثينَ، انتهى مُلَخَّصًا.
قُلْتُ: فإذا كانَ هذا في القرنِ السابعِ وقَبْلَهُ، فَمَا بَعدَهُ أَعظَمُ فَسادًا كما هوَ الوَاقعُ.
قولُهُ:
((وَإِنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلاَثُونَ كُلُّهُمْ يَزْعُمُ أَنَّهُ نَبِيٌّ)).
قالَ
القُرطبيُّ: (وقدْ جاءَ عَدَدُهم مُعَيَّنًا في حديثِ حُذيفةَ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ سَبْعٌ وَعِشْرُونَ؛ مِنْهُمْ أَرْبَعُ نِسْوَةٍ)) أخْرَجَهُ أبو نُعَيْمٍ.
وقالَ: هذا حَديثٌ غريبٌ)
انتهى.
وحديثُ
ثَوْبَانَ أَصَحُّ منْ هذا.
قالَ القاضي
عِياضٌ: (عُدَّ مَنْ تَنَبَّأَ مِنْ زَمَنِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلى الآنَ مِمَّن اشْتُهِرَ بذلكَ وَعُرِفَ واتَّبَعَهُ جَماعةٌ على ضَلالةٍ، فَوُجِدَ هذا العَدَدُ فيهم، ومَنْ طالَعَ كُتُبَ الأخبارِ والتواريخِ عَرَفَ صِحَّةَ هذا).
وقالَ
الحافظُ: (وقدْ ظَهَرَ مِصْدَاقُ ذلكَ في زَمَنِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فخَرَجَ مُسَيْلِمَةُ الكَذَّابُ باليَمامةِ، والأسودُ العَنْسِيُّ باليَمَنِ.
وفي خِلافةِ
أبي بَكْرٍ: طُلَيْحَةُ بنُ خُوَيْلِدٍ في بني أَسَدِ بنِ خُزَيْمَةَ، وسَجَاحِ في بني تَميمٍ.
وَقُتِلَ
الأسودُ قبلَ أنْ يَموتَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وقُتِلَ مُسَيْلِمَةُ في خِلافةِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وتَابَ طُلَيْحَةُ وماتَ على الإِسلامِ في زَمَنِ عمرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، ونُقِلَ أنَّ سَجَاحِ تَابَتْ أيضًا.
ثمَّ خَرَجَ
الْمُخْتَارُ بنُ أبي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ وغَلَبَ على الكُوفةِ في أَوَّلِ خِلافةِ ابنِ الزُّبَيْرِ.
فَأَظْهَرَ مَحَبَّةَ أهلِ البيتِ ودَعَا الناسَ إلى طَلَبِ قَتَلَةِ
الْحُسينِ، فتَتَبَّعَهُم فقَتَلَ كثيرًا مِمَّنْ باشَرَ ذلكَ؛ وأَعانَ عليهِ، فأَحَبَّهُ الناسُ، ثمَّ ادَّعَى النُّبُوَّةَ وزَعَمَ أنَّ جِبريلَ عليهِ السلامُ يَأْتِيهِ.
ومنهم
الْحَارِثُ الكَذَّابُ، خَرَجَ في خِلافةِ عبدِ الْمَلِكِ بنِ مَرْوانَ فَقُتِلَ، وخَرَجَ في خِلافةِ بني العَبَّاسِ جَماعةٌ.
وليسَ الْمُرادُ بالحديثِ مَن ادَّعَى النُّبُوَّةَ مُطْلَقًا؛ فإنَّهُم لا يُحْصَوْنَ كَثْرَةً؛ لكونِ غالِبِهم يَنْشَأُ عنْ جُنونٍ أوْ سَوْدَاءَ، وإنَّما المرادُ مَنْ قامَتْ لهُ شَوكةٌ، وبَدَا لهُ شُبْهَةٌ كمَنْ وَصَفْنَا.
وقدْ أَهْلَكَ اللهُ تعالى مَنْ وَقَعَ لهُ منهم ذلكَ، وبَقِيَ منهم مَنْ يُلْحِقُهُ بأصحابِهِ، وآخِرُهم الدَّجَّالُ الأَكْبَرُ.
قولُهُ:
((وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ)) قالَ الحسَنُ: (خاتَمُ: الذي خُتِمَ بهِ؛ أيْ: أنَّهُ آخِرُ النَّبِيِّينَ، كما قالَ تعالى: {مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَـكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ}[الأحزاب: 40] وإنَّما يَنْـزِلُ عِيسَى ابنُ مَريمَ في آخِرِ الزمانِ حاكِمًا بشريعةِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مُصَلِّيًا إلى قِبْلَتِهِ، فهوَ كأَحَدِ أُمَّتِهِ، بلْ هوَ أَفْضَلُ هذهِ الأُمَّةِ، قالَ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، لَيَنْزِلَنَّ فِيكُمُ ابْنُ مَرْيَمَ حَكَمًا مُقْسِطًا، فَلَيَكْسِرَنَّ الصَّلِيبَ، وَلَيَقْتُلَنَّ الْخِنْزِيرَ، وَلَيَضَعَنَّ الْجِزْيَةَ)).
قولُهُ:
((وَلاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ)) قالَ يَزيدُ بنُ هَارونَ وأحمدُ بنُ حَنْبَلٍ: (إِنْ لَمْ يَكُونوا أهلَ الحديثِ، فلا أَدْرِي مَنْ هُمْ؟).
قالَ
ابنُ الْمُبَارَكِ، وعليُّ بنُ الْمَدِينِيِّ، وأحمدُ بنُ سِنانٍ، والبخاريُّ، وغيرُهم: (إنَّهُم أهلُ الحديثِ).
وعن
ابنِ الْمَدِينِيِّ روايَةٌ: (هُم الْعَرَبُ) واسْتَدَلَّ برِوايَةِ مَنْ رَوَى: ((هُمْ أَهْلُ الْغَرْبِ)) وَفَسَّرَ الغَرْبَ بِالدَّلْوِ العَظِيمَةِ؛ لأنَّ العَرَبَ هم الذينَ يَسْتَقُونَ بها.
قالَ
النَّوَوِيُّ: (يَجوزُ أنْ تَكُونَ الطائفةُ جماعةً مُتَعَدِّدَةً منْ أنواعِ المؤمنينَ ما بينَ شُجاعٍ وبَصيرٍ بالْحَرْبِ، وفقيهٍ ومُحَدِّثٍ ومُفَسِّرٍ؛ وقائمٍ بالأمْرِ بالمعروفِ والنهيِ عن الْمُنْكَرِ، وزاهِدٍ وعابِدٍ).
ولا يَلْزَمُ أن يكونوا مُجْتَمِعِينَ في بَلَدٍ واحدٍ؛ بلْ يَجوزُ اجْتِمَاعُهُم في قُطْرٍ واحدٍ، وافْتِرَاقُهم في أقطارِ الأرضِ، ويَجوزُ أنْ يَجْتَمِعُوا في البلَدِ الواحدِ وأنْ يكُونُوا في بعضٍ دونَ بعضٍ منهُ، ويَجوزُ إخلاءُ الأرضِ منْ بعضِهم أوَّلاً فأوَّلاً إلى أنْ لا يَبْقَى إلاَّ فِرقةٌ وَاحدةٌ ببَلَدٍ واحدٍ، فإذا انْقَرَضُوا جاءَ أَمْرُ اللهِ) انتهَى مُلَخَّصًا معَ زِيادةٍ فيهِ، قالَهُ الحافِظُ.
قالَ
القُرْطُبِيُّ: (وفيهِ دَليلٌ على أنَّ الإجماعَ حُجَّةٌ؛ لأنَّ الأُمَّةَ إذا اجْتَمَعَتْ فقدْ دَخَلَ فيهم الطائفةُ المنصورةُ).
قالَ
الْمُصَنِّفُ رَحِمَهُ اللهُ: (وفيهِ الآيَةُ العَظيمةُ: أنَّهُم معَ قِلَّتِهِم لا يَضُرُّهُم مَنْ خَذَلَهم ولا مَنْ خَالَفَهم، والبِشارةُ بأنَّ الْحَقَّ لا يَزولُ بالْكُلِّيَّةِ) قُلْتُ: واحْتَجَّ بهِ الإمامُ أحمدُ على أنَّ الاجتهادَ لا يَنْقَطِعُ ما دَامَتْ هذهِ الطائفةُ مَوجودةً.
قولُهُ:
((حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ)) الظاهِرُ أنَّ المرادَ بهِ ما رُوِيَ مِنْ قَبْضِ مَنْ بَقِيَ مِن المؤمنينَ بالريحِ الطَّيِّبَةِ؛ ووُقوعِ الآياتِ العِظامِ، ثمَّ لا يَبْقَى إلاَّ شِرارُ الناسِ، كما رَوَى الحاكِمُ أنَّ عبدَ اللهِ بنَ عُمَرَ قالَ: (لاَ تَقُومُ الساعةُ إلاَّ على شِرارِ الْخَلْقِ، هُم شَرُّ أهلِ الْجَاهليَّةِ).
فقالَ
عُقبةُ بنُ عامرٍ لعبدِ اللهِ: (أَعْلَمُ ما تَقولُ، وأمَّا أنا فسَمِعْتُ النبيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ:((لاَ تَزَالُ عِصَابَةٌ مِنْ أُمَّتِي يُقَاتِلُونَ عَلَى أَمْرِ اللهِ ظَاهِرِينَ لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ))).

-

قالَ عبدُ اللهِ: (وَيَبْعَثُ اللهُ رِيحًا رِيحُها الْمِسْكُ، ومَسُّها مَسُّ الحريرِ، فلا تَتْرُكُ أَحَدًا في قَلْبِهِ مِثقالُ ذَرَّةٍ منْ إيمانٍ إلاَّ قَبَضَتْهُ، ثمَّ يَبْقَى شِرارُ الناسِ، فعليهم تَقومُ الساعةُ).
وفي
(صحيحِ مسلِمٍ): ((لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لاَ يُقَالَ فِي الأَرْضِ: اللهُ اللهُ)).
وعلى هذا؛ فالمرادُ بقولِهِ في حديثِ
عُقبةَ وما أَشْبَهَهُ: ((حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ)) ساعتُهم، وهيَ وقتُ مَوْتِهم بِهُبوبِ الريحِ، ذَكَرَهُ الحافِظُ.
وقد اخْتُلِفَ في مَحَلِّ هذهِ الطائفةِ؛ فقالَ
ابنُ بَطَّالٍ: (إنَّها تَكونُ في بيتِ الْمَقْدِسِ، كما رواهُ الطبرانيُّ مِنْ حديثِ أبي أُمامةَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَيْنَ هُمْ؟
قَالَ:
((بِبَيْتِ الْمَقْدِسِ))).
وقالَ
مُعاذُ بنُ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (هُمْ بِالشَّامِ).
وفي كلامِ
الطبريِّ ما يَدُلُّ على أنَّهُ لا يَجِبُ أن تَكونَ في الشامِ أوْ في بيتِ الْمَقْدِسِ دائمًا، بلْ قدْ تكونُ في مَوْضِعٍ آخَرَ في بعضِ الأَزْمِنَةِ.
قلتُ: ويَشهَدُ لهُ الواقعُ وحالُ أهلِ الشامِ وأهلِ بيتِ الْمَقْدِسِ، فإنَّهُم منْ أَزْمِنَةٍ طَويلةٍ لا يُعْرَفُ فيهم مَنْ قامَ بهذا الأَمْرِ بعدَ شيخِ الإِسلامِ
ابنِ تَيْمِيَّةَ وأصحابِهِ في القَرنِ السابعِ وأَوَّلِ الثامنِ، فإنَّهُم كانوا في زَمانِهم على الحقِّ يَدْعُون إليهِ، ويُنَاظِرونَ عليهِ، ويُجَاهِدونَ فيهِ.
وقدْ يَجيءُ منْ أمثالِهم بَعْدُ بالشامِ مَنْ يَقومُ مَقامَهم بالدعوةِ إلى الحقِّ والتَّمَسُّكِ بالسُّنَّةِ. واللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ.
ومِمَّا يُؤَيِّدُ هذا أنَّ أهلَ الْحَقِّ والسُّنَّةِ في زَمَنِ الأَئِمَّةِ الأربعةِ وتَوافُرِ العلماءِ في ذلكَ الزمانِ وقَبْلَهُ وبَعْدَهُ لمْ يكُونوا في مَحَلٍّ واحدٍ، بلْ هم في غَالبِ الأمصارِ؛ في الشامِ منهم أئِمَّةٌ، وفي الْحِجازِ وفي مِصْرَ، وفي العِراقِ واليَمَنِ، وكلُّهم على الحقِّ يُنَاضِلونَ، ويُجاهِدونَ أَهْلَ الْبِدَعِ، ولهم الْمُصَنَّفاتُ التي صارَتْ أَعلامًا لأَهْلِ السُّنَّةِ، وحُجَّةً على كُلِّ مُبْتَدِعٍ.
فعلى هذا؛ فهذهِ الطائفةُ قدْ تَجْتَمِعُ وقدْ تَفْتَرِقُ، وقدْ تكونُ في الشَّامِ، وقدْ تكونُ في غيرِهِ؛ فإنَّ حديثَ
أبي أُمامةَ وقولَ مُعاذٍ لا يُفيدُ حَصْرَها بالشامِ، وإنَّما يُفيدُ أنَّها تَكونُ في الشامِ في بعضِ الأزمانِ لا في كُلِّها.
وكلُّ جُملةٍ منْ هذا الحديثِ عَلَمٌ منْ أعلامِ النُّبُوَّةِ؛ فإنَّ كُلَّ ما أَخْبَرَ بهِ النبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذا الحديثِ وَقَعَ كما أَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.

وقولُهُ:
((تَبَارَكَ وَتَعَالى)) قالَ ابنُ القَيِّمِ رَحِمَهُ اللهُ: البَرَكَةُ نَوْعَانِ:

أحدُهما: بَرَكَةٌ هيَ فَعَلَةٌ، والفِعْلُ منها بارَكَ، ويَتَعَدَّى بنَفْسِهِ تارةً وبأداةِ (على) تارةً، وبأداةِ (فِي) تارةً، والمفعولُ منها مُبَارَكٌ، وهوَ ما جُعِلَ منها كذلكَ؛ فكانَ مُبارَكًا بِجَعْلِهِ تعالى.

والنوعُ الثاني:

بَرَكَةٌ تُضافُ إليهِ إضافةَ الرحمةِ والْعِزَّةِ؛

والفِعْلُ منها تَبَارَكَ، ولهذا لا يُقالُ لغيرِهِ ذلكَ، ولا يَصْلُحُ إلاَّ لهُ عزَّ وجَلَّ؛ فهوَ سُبحانَهُ الْمُبارِكُ، وعبدُهُ ورسولُهُ الْمُبَارَكُ، كما قالَ المسيحُ عليهِ السلامُ: {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ}[مريم:31]، فَمَنْ يُبَارِكُ اللهُ فيهِ وَعَلَيْهِ فهوَ المُبَارَكُ.
وأمَّا صِفَتُهُ تَبَارَكَ فمُخْتَصَّةٌ بهِ، كما أَطْلَقَهُ على نفسِهِ في قولِهِ: {تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ}[الأعراف:54]{تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}[الملك:1].
أفلا تَرَاهَا كيفَ اطَّرَدَتْ في القرآنِ جَاريَةً عليهِ مُخْتَصَّةً بهِ لا تُطْلَقُ على غيرِهِ؟
وجاءَتْ على بِناءِ السَّعَةِ والْمُبالَغَةِ، كتعالَى وتَعَاظَمَ ونحْوِهِ، فجاءَ بِناءُ (تَبَارَكَ) على بِناءِ (تعالى) الذي هوَ دَالٌّ على كَمالِ الْعُلُوِّ ونِهايتِهِ.
فكذلكَ تَبَارَكَ دَالٌّ على كَمالِ بَرَكَتِهِ وعَظَمَتِهِ وسَعَتِها، وهذا معنى قولِ مَنْ قالَ من السلَفِ:
{تَبَارَكَ} تَعَاظَمَ، وقالَ ابنُ عَبَّاسٍ: (جاءَ بكلِّ بَرَكَةٍ).

هيئة الإشراف

#4

27 Oct 2008

القول السديد للشيخ: عبدالرحمن بن ناصر السعدي

قال الشيخ عبدالرحمن بن ناصر السعدي (ت: 1376هـ): ( (1)

مَقْصودُ هذه الترجمةِ الحذرُ مِن الشرْكِ والخَوْفُ منه،

وأنَّه أَمْرٌ واقِعٌ في هذِه الأمةِ لا مَحَالةَ، والرَّدُّ على من زَعَمَ أنَّ مَن قالَ: لاَ إِلَهَ إلاَّ اللهُ وَتَسَمَّى بالإِسلامِ، أنَّه يَبْقَى عَلَى إِسْلاَمِه ولو فَعَلَ ما يُنافِيهِ مِن الاسْتِغاثَةِ بأهلِ القُبُورِ ودُعَائِهِم، وسَمَّى ذلك تَوَسُّلاً لا عبادةً؛ فإنَّ هذا باطلٌ.


فإنَّ الوَثَنَ اسْمٌ جَامِعٌ لكلِّ ما عُبِدَ من دونِ اللهِ،

لا فَرْقَ بَيْنَ الأشْجارِ والأحْجارِ والأبْنِيةِ، ولا بَيْنَ الأنبياءِ والصالحينَ والطالِحِينَ في هذا المَوْضِعِ وهو العبادةُ؛ فإنَّها حَقُّ اللهِ وحدَه.
فمَن دَعَا غَيْرَ اللهِ أو عَبَدَهُ فَقَد اتَّخذَه وثنًا وخَرَجَ بذلك عن الدِّينِ، ولَمْ يَنْفَعْهُ انْتِسابُه إلى الإِسلامِ، فكم انْتَسَبَ إلى الإِسلامِ مِن مشركٍ ومُلْحِدٍ وكافرٍ منافقٍ.
والعِبْرَةُ بِرُوحِ الدِّينِ وحَقِيقَتِه، لاَ بِمُجَرَّدِ الأسامِي، والألفاظِ التي لاَ حَقِيقَةَ لَهَا.

هيئة الإشراف

#5

27 Oct 2008

تهذيب القول المفيد للشيخ: صالح بن عبدالله العصيمي

قال الشيخ صالح بن عبدالله العصيمي: ( (1)

سببُ مجيءِ المؤلِّفِ بهذا البابِ دحضِ حُجَّةِ مَنْ يقولُ: إنَّ الشركَ لا يُمْكِنُ أنْ يقعَ في هذهِ الأُمَّةِ، وأنكَروا أنْ تكونَ عبادةُ القبورِ والأولياءِ مِن الشركِ؛ لأنَّ هذهِ الأمَّةَ معصومةٌ منهُ لقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((إِنَّ الشَّيْطَانَ أَيِسَ أَنْ يَعْبُدَهُ الْمُصَلُّونَ فِي جَزِيرَةِ الْعَرَبِ، وَلَكِنْ فِي التَّحْرِيشِ بَيْنَهُمْ)).


والجوابُ:

عنْ هذا سبقَ عندَ الكلامِ على المسألةِ الثامنةَ عشرةَ منْ مسائلِ بابِ (مَنْ تبرَّكَ بشجرٍ أوْ حجرٍ ونحْوِهما).
قولُهُ: (أنَّ بعضَ هذهِ الأُمَّةِ) أيْ: لا كُلَّها؛ لأنَّ في هذِهِ الأمَّةِ طائفةً لا تزالُ منصورةً على الحقِّ إلى قيامِ الساعةِ، لكنَّهُ سيأتِي في آخرِ الزمانِ رِيحٌ تَقْبِضُ رُوحَ كلِّ مسلمٍ فلا يَبقى إلاَّ شرارُ الناسِ.
قولُهُ: (الأوْثانَ)
جمعُ وثَنٍ، هُوَ كلُّ ما عُبِدَ مِنْ دُونِ اللهِ.


(2)

قولُه تعالى: { أَلَمْ تَرَ } الاستفهامُ هنا للتقريرِ والتعجُّبِ، والرُّؤْيَةُ بصَريَّةٌ، بدليلِ أنَّها عُدِّيَتْ بإلى، وإذا عُدِّيتْ بإِلى صارَتْ بمعنى النظرِ.
والخطابُ إمَّا للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أوْ لكلِّ مَنْ يَصِحُّ توجيهُ الخطابِ إِليهِ، أيْ: ألمْ ترَ أيُّها المُخاطَبُ؟
قولُهُ:
{ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا } أيْ: أُعْطُوا، ولم يُعْطَوا كلَّ الكتابِ؛ لأنَّهمْ حُرِمُوا بسببِ معصيتِهِم، فليسَ عنْدَهُم العلمُ الكاملُ بما في الكتابِ.
قولُهُ:
{ نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ } المُنَزَّلِ، والمُرادُ بالكتابِ التوراةُ والإنجيلُ.
وقدْ ذكَرُوا لذلِكَ مثلاً وهوَ
كعبُ بنُ الأشرفِ حينَ جاءَ إلى مَكَّةَ فاجتمعَ إليهِ المشركونَ وقالوا: ما تقولُ في هذا الرجلِ، أي: النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، الذي سفَّهَ أحلامَنا ورأى أنَّهُ خيرٌ منَّا؟
فقالَ لهُمْ: أَنْتُم خيرٌ مِنْ
مُحَمَّدٍ؛ ولهذا جاءَ في آخرِ الآيةِ: { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلاَءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً }.

-

قولُهُ: { يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } أيْ: يُصَدِّقونَ بهِمَا ويُقَرِّرُونَهُمَا ولا يُنْكِرُونَهُمَا، فإذا أقرَّ الإنسانُ هذهِ الأوثانَ فقدْ آمنَ بها.


والجبتُ

قيلَ: السحرُ.


وقيلَ:

هوَ الصَّنمُ، والأصحُّ أنَّهُ عامٌّ لكلِّ صنمٍ، أوْ سحرٍ، أوْ كهانةٍ، أوْ ما أَشْبَهَ ذلِكَ.


والطاغوتُ:

ما تجاوزَ بِه العبدُ حدَّهُ مِنْ معبودٍ أوْ مَتْبوعٍ أوْ مُطاعٍ، وتقدم شرح هذه الجملة.


ووجهُ المناسبةِ في الآيةِ للبابِ

لا يتبيَّنُ إلاَّ بالحديثِ، وهُوَ: ((لَتَرْكَبُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)) فإذا كانَ الذينَ أُوتوا نصيبًا مِن الكتابِ يُؤْمِنُونَ بالجبتِ والطاغوتِ، وأنَّ مِنْ هذِهِ الأمَّةِ مَنْ يرْتَكِبُ سُنَنَ مَنْ كانَ قبلَهُ، يلْزَمُ مِنْ هذا أنَّ في هذِهِ الأمَّةِ مَنْ يُؤْمِنُ بالجبتِ والطاغوتِ، فتكونُ الآيةُ مطابقةً للترجمةِ تمامًا.


(3)

قولُهُ: {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ} الخطابُ للنبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ردًّا على هؤلاءِ اليهودِ الذي اتَّخَذُوا دينَ الإسلامِ هُزُوًا ولَعِبًا.
وقولُهُ:
{أُنَبِّئُكُمْ} أيْ: أُخْبِرُكُم.
والاستفهامُ هنا للتقريرِ والتشويقِ، أيْ: سأُقَرِّرُ علَيْكُم هذا الخبرَ.
قولُهُ:
{ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ } شرٌّ هنا اسمُ تفضيلٍ، وأصلُها أشَرُّ، لكنْ حُذِفَت الهمزةُ تخفيفًا لكثرةِ الاستعمالِ، ومثلُها كلمةُ خيرٍ مُخَفَّفَةٌ مِنْ أخْيَرَ، والناسُ مُخَفَّفةٌ مِن الأُنَاسِ، وكذا كلمةُ اللهِ مُخَفَّفةٌ مِن الإلهِ.
وقولُهُ:
{ذلِكَ} المشارُ إليهِ ما كانَ عليهِ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأصحابُهُ، فإنَّ اليهودَ يزعمونَ أنَّهم هُم الذينَ على الحقِّ، وأنَّهُم خيرٌ من الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وآلِهِ وسلَّمَ وأصحابِهِ، وأنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وأصحابَهُ ليْسُوا على الحقِّ، فقالَ اللهُ تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ }.


والمثوبةُ:

مِنْ ثابَ يثُوبُ، إذا رجعَ، ويُطلقُ على الجزاءِ، أيْ: بشرٍّ مِنْ ذلِكَ جزاءً عندَ اللهِ.
قولُهُ:
{عِندَ اللهِ} أيْ: في علمِهِ وجزائِهِ عقوبةً أوْ ثوابًا.


(4)

قولُهُ: { مَنْ لَعَنَهُ اللهُ } مَن: اسمُ موصولٍ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ، تقديرُهُ: هوَ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ؛ لأنَّ الاستفهامَ انتَهى عندَ قولِهِ: { مَثُوبَةً عِندَ اللهِ }.
- وجوابُ الاستفهامِ:
{ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ }.


ولعَنَهُ:

أيْ: طرَدَهُ وأبْعَدَهُ عَنْ رحمتِهِ.
قولُهُ:
{ وَغَضِبَ عَلَيْهِ } أيْ: أحلَّ عليهِ غَضَبَهُ.


والغضبُ:

صفةٌ مِنْ صفاتِ اللهِ الحقيقيَّةِ تقتضِي الانتقامَ مِن المغضوبِ عَلَيْهِ، ولا يصِحُّ تحريفُهُ إلى معنى الانتقامِ، وقدْ سَبَقَ الكلامُ عليهِ.


والقاعدةُ العامَّةُ عندَ أهلِ السُّنةِ:

أنَّ آياتِ الصفاتِ وأحاديثَها تجْرِي على ظاهرِها اللائِقِ باللهِ عزَّ وجلَّ،

فلا تُجْعَلُ مِنْ جنسِ صفاتِ المخلوقينَ، ولا تُحَرَّفُ فَتُنْفَى عَن اللهِ، فلا نَغْلُو في الإثباتِ ولا في النفْيِ.
قولُهُ:
{ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ }القِرَدَةُ:جمعُ قِرْدٍ، وهوَ حيوانٌ معروفٌ أقْرَبُ ما يكونُ شبهًا بالإنسانِ.


والخنازيرُ:

جمعُ خِنزيرٍ، وهوَ ذلِكَ الحيوانُ الخبيثُ المعروفُ الذي وصَفَهُ اللهُ بأنَّهُ رِجْسٌ.


والإشارةُ هنا إلى اليهودِ، فإنَّهم لُعِنُوا كَمَا قالَ تعالى: { لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ } الآيةَ.

-

وجُعِلُوا قردةً بقولِهِ تعالى: { كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ }.

-

وغَضِبَ اللهُ عَلَيْهِم بقولِهِ: { فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ }.
- قولُهُ:
{ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } فيها قراءتَانِ في {عَبَدَ} وفي {الطاغوتَ}.


الأُولَى:

بضمِّ الباءِ {عَبُدَ} وعليها تُكْسَرُ التاءُ في الطاغوتِ؛ لأنَّهُ مجرورٌ بالإضافةِ.


الثانيةُ:

بفتحِ الباءِ {عَبَدَ} على أنَّهُ فعلٌ ماضٍ معطوفٌ على قولِهِ: {لعنَهُ اللهُ} صلةُ الموصولِ، أيْ: ومَنْ عَبَدَ الطاغوتَ، ولمْ يُعِدْ {مَنْ} معَ طُولِ الفصلِ؛ لأنَّ هذا ينْطَبِقُ على موصوفٍ واحدٍ، فلوْ أُعِيدَتْ {مَنْ} لأَوَّلَهُمْ أنَّهُم جماعةٌ آخرونَ، وهُم جماعةٌ واحدةٌ.
فعلى هذِهِ القراءةِ يكونُ
{عَبَدَ} فعلاً ماضيًا، والفاعلُ ضميرٌ مستترٌ جوازًا تقديرُهُ هوَ، يعودُ على {مَنْ} في قولِهِ: { مَنْ لَعَنَهُ اللهُ } و{الطَّاغُوتَ} بفتحِ التاءِ مفعولٌ بهِ.
وبهذا نعرفُ اختلافَ الفاعلِ في صلةِ الموصولِ وما عُطِفَ عليهِ؛ لأنَّ الفاعلَ في صلةِ الموصولِ هوَ
{اللهُ} والفاعلَ في {عَبَدَ} يعودُ على مَنْ، وعلى كلِّ حالٍ فالمرادُ بها عابدُ الطاغوتِ.
فالفرقُ بينَ القراءتينِ بالباءِ فَقَطْ، فعلى قراءةِ الفعلِ مفتوحةٌ، وعلى قراءةِ الاسمِ مضمومةٌ.
والطاغوتُ على قراءةِ الفعلِ في
{عَبَدَ} تكونُ مفتوحةً {عَبَدَ الطَّاغُوتَ}، وعلى قراءةِ الاسمِ تكونُ مكسورةً بالإضافةِ {عَبُدَ الطَّاغُوتِ}.
وذُكِرَ في تركيبِ
{عَبَدَ} معَ {الطاغوتَ} أربعٌ وعشرونَ قراءةً، ولكنَّها قِرَاءاتٌ شاذَّةٌ غيرَ القراءتينِ السَّبْعِيَّتَيْنِ؛{عَبَدَ} و{عَبُدَ}.
قال
شيخ الإسلام- كما في (الفتاوى) (14/455) -: (قوله: {وعبد الطاغوت}الصواب عطفه على قوله {من لعنه الله}فعل ماض معطوف على ما قبله من الأفعال الماضية.
لكن المتقدمة ـ أي الأفعال ـ الفاعل الله مظهراً أو مضمرا، وهذا الفعل اسم من عبد الطاغوت وهو الضمير في عبد، ولم يعد حرف
{من} لأن هذه الأفعال لصنف واحد وهم اليهود)
.
(5) قولُهُ تعالى:
{ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا }.
هذِهِ الآيةُ في سياقِ قصَّةِ أصحابِ الكهفِ، وقصتُّهُمْ عجيبةٌ كَمَا قالَ اللهُ تعالى:
{ أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا }.
وهُم فتيةٌ آمنوا باللهِ وكانوا في بلادِ شركٍ فخرَجُوا مِنْها إلى اللهِ عزَّ وجلَّ، فيَسَّرَ اللهُ لهم غَارًا فدخلوا فيهِ وناموا نومةً طويلةً بلَغَتْ
{ ثَلاَثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا }، وهُمْ نائمونَ لا يحتاجونَ إلى أكْلٍ وشُرْبٍ، ومِنْ حكمةِ اللهِ أنَّ اللهَ يُقَلِّبُهُم ذاتَ اليمينِ وذاتَ الشمالِ حتَّى لا يَتَرَسَّبَ الدمُ في أحدِ الجانبيْنِ، ولمَّا خرجوا بعَثوا بأحدِهم إلى المدينةِ ليشتريَ لهُم طعامًا، وآخِرُ الأمرِ أنَّ أهلَ المدينةِ اطَّلَعُوا على أمْرِهم، وقالُوا: لا بُدَّ أنْ نبْنِيَ على قُبُورِهم مسجدًا.
وقولُهُ:
{قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ} المرادُ بِهم الحُكَّامُ في ذلِكَ الوقتِ، قالوا مُقْسِمِينَ مؤَكِّدِينَ: لَنَتَّخِذَنَّ عليهمْ مسْجِدًا.
وبناءُ المساجدِ على القبورِ مِنْ وسائلِ الشركِ كما سَبَقَ.
(6) قولُهُ:
((لَتَتَّبِعُنَّ)) اللامُ مُوَطِّئَةٌ للقسمِ، والنونُ للتوكيدِ، فالكلامُ مُؤَكَّدٌ بثلاثِ مُؤَكِّدَاتٍ:
-
القسمُ المُقَدَّرُ.

-

واللامُ.

-

والنونُ.


والتقديرُ:

واللهِ لَتَتَّبِعُنَّ.


قولُهُ: ((سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)) فيها رِوَايَتَانِ: ((سُنَنَ)) و((سَنَنَ)).
أمَّا
((سُنَنَ)) بضَمِّ السينِ جمعُ سُنَّةٍ وهيَ الطريقةُ.
وأمَّا
((سَنَنَ)) بالفتحِ، فهيَ مُفْرَدٌ بمعنى الطريقِ.
وفَعَلٌ تأْتِي مفردةً، مثلَ فَنَنٍ جمعُها أفنانٌ، وسببٍ جمعُها أسبابٌ.
وقولُهُ:
((مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)) أيْ: مِن الأُمَمِ.
وقوْلُهُ:
((لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)) لَيْسَ على ظاهرِهِ، بَلْ هوَ عامٌّ مخصوصٌ؛ لأنَّنا لوْ أخَذْنا بظاهرِهِ كانَتْ جميعُ هذهِ الأمَّةِ تَتَّبِعُ سُنَنَ مَنْ كانَ قبلَها، لكنَّنا نقولُ: إنَّهُ عامٌّ مخصوصٌ؛ لأنَّ في هذِهِ الأُمَّةِ مَنْ لا يَتَّبِعُ تلكَ السننَ، كما أخبرَ النبيُّ صلَّى اللهُ علَيْهِ وسلَّمَ؛ لأنَّهُ لا تزالُ طائفةٌ منْ هذهِ الأُمَّةِ على الحقِّ.
وقَدْ يُقالُ: إنَّ الحديثَ على عُمُومِهِ، وإنَّهُ لا يلْزَمُ أنْ تَتَّبِعَ هذِهِ الأُمَّةُ الأممَ السابقةَ في جميعِ سُنَنِها، بَلْ منها مَنْ يَتْبَعُها في شيءٍ، وبعضُ الأُمَّةِ يتبعُها في شيءٍ آخرَ، وحينئذٍ لا يقتضي خروجَ هذهِ الأمَّةِ مِن الإسلامِ، وهذا أوْلَى لبقاءِ الحديثِ على عُمُومِهِ، ومِن المعلومِ أنَّ مِنْ طُرُقِ مَنْ كانَ قبلَنا ما لا يُخْرِجُ مِن المِلَّةِ، مثلَ: أكْلِ الرِّبا والحسدِ والبغيِ والكذبِ، ومنهُ ما يُخْرِجُ مِن المِلَّةِ، كعبادةِ الأوثانِ.


والسننُ:

هيَ الطَّرَائقُ،

وهيَ متنَوِّعَةٌ، منها ما هوَ اعتداءٌ على حقِّ الخالقِ، ومنها ما هوَ اعتداءٌ على حقِّ لمخلوقِ، ولْنَسْتَعْرِضْ شيئًا مِنْ هذه السُّنَنِ:


فَمِنْ هذهِ السننِ:

عبادةُ القبورِ والصالحينَ، فإنَّها موجودةٌ في الأممِ السابقةِ، وقدْ وُجِدَتْ في هذهِ الأمَّةِ، قالَ تعالى عَنْ قومِ نوحٍ: { وَقَالُوا لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدًّا وَلاَ سُوَاعًا وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا }.


ومِنْ ذلكَ الغُلُوُّ في الصالحينَ:

كَمَا وُجِدَ في الأممِ السابقةِ وُجِدَ في هذهِ الأمَّةِ، ومنها دُعَاءُ غيرِ اللهِ، وقَدْ وُجِدَ في هذهِ الأمَّةِ.


ومِنْها:

بناءُ المساجدِ على القبورِ موجودٌ في السابقينَ،

وقدْ وُجِدَ في هذهِ الأمَّةِ.
ومنها:
وصفُ اللهِ بالنقائصِ والعُيُوبِ، فَقَدْ قالت اليهودُ: { يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ }، وقالوا: { إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ } وقالوا: إنَّ اللهَ تَعِبَ مِنْ خلْقِ السماواتِ والأرضِ.
وقدْ وُجِدَ في هذهِ الأمَّةِ مَنْ قالَ بذلكَ أوْ أشدَّ منهُ، فَقَدْ وُجِدَ مَنْ قالَ: لَيْسَ لهُ يدٌ، ومِنْهُمْ مَنْ قالَ: لا يستطيعُ أنْ يفعلَ ما يُرِيدُ، فلمْ يسْتَوِ على العرشِ، ولا ينزلُ إلى السماءِ الدنيا ولا يتكَلَّمُ، بَلْ وُجِدَ في هذه الأمَّةِ مَنْ يقولُ: بأنَّهُ لَيْسَ داخلاً في العالمِ، ولَيْسَ خارجًا عَنْهُ، ولا مُتَّصِلاً بهِ، ولا مُنْفَصلاً عنهُ، فوصفوهُ بما لا يُمْكِنُ وُجودُه.
ومنهم مَنْ قالَ:
لا تجوزُ الإشارةُ الحسِّيَّةُ إليهِ، ولا يفعلُ، ولا يغْضَبُ، ولا يرْضَى، ولا يُحِبُّ، وهذا مذهبُ الأشاعرةِ.


ومنها:

أكْلُ السُّحتِ،

فَقَدْ وُجِدَ في الأممِ السابقةِ وَوُجِدَ في هذِهِ الأمَّةِ.
ومنها:
أكْلُ الرِّبا، فَقَدْ وُجِدَ في الأممِ السابقةِ ووُجِدَ في هذهِ الأمَّةِ.


ومنها:

التَّحَايُلُ على محارمِ اللهِ،

فَقَدْ وُجِدَ في الأممِ السابقةِ ووُجِدَ في هذِهِ الأمَّةِ.


ومنها:

إقامةُ الحدودِ على الضعفاءِ ورفعُها عَن الشرفاءِ،

فقدْ وُجِدَ في الأممِ السابقة ووُجِدَ في هذهِ الأُمَّةِ.


ومِنْها:

تحريفُ كلامِ اللهِ عَنْ مواضِعِه لفظًا ومعْنًى،

كاليهودِ حينَ قيلَ لهُم: { ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ }، فدَخَلُوا على قَفَاهُمْ وقالوا: حِنْطَةٌ، ولم يقولوا: حِطَّةٌ.


ووُجِدَ في هذهِ الأمَّةِ مَنْ فعلَ كذلِكَ،

فحرَّفَ لفظَ الاستواءِ إلى الاستيلاءِ، قالَ تعالى: { الرَّحْمَـنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى } وقالوا هُم: الرحمنُ على العرشِ اسْتَوْلَى.
فإذا تأمَّلْتَ كلامَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ وجدْتَهُ مُطَابقًا للواقعِ
((لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ)) ولكنْ يبقى النظرُ هَلْ هذا الحديثُ للتحذيرِ أوْ للإقرارِ؟


الجوابُ: لا شكَّ أنَّهُ للتحذيرِ ولَيْسَ للإقرارِ،

فلا يقولُ أحدٌ: سأَحْسُدُ وسآكُلُ الرِّبا، وسأعتدِي على الخلْقِ؛ لأنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ ذلِكَ، فَمَنْ قالَ ذلِكَ فإنَّنا نقولُ لهُ: أخْطَأْتَ؛ لأنَّ قولَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لا شكَّ أنَّهُ للتحذيرِ، ولهذا قالَ الصحابةُ: اليهودُ والنصارى؟
قالَ: فَمَنْ؟


ثُمَّ نقولُ لهمْ أيضًا:

إنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أخبرَ بأشياءَ ستَقَعُ، ومَعَ ذلِكَ أخبرَ بأنَّها حرامٌ بنصِّ القرآنِ.
فمِنْ ذلِكَ أنَّهُ أخبرَ أنَّ الرجلَ يُكْرِمُ زوجَتَهُ ويَعُقُّ أُمَّهُ، وأخبرَ أنَّ الإنسانَ يعْصِي أباهُ ويُدْنِي صديقَهُ، وهذا لَيْسَ بجائزٍ بنصِّ القرآنِ، لكنْ قصدَ التحذيرَ مِنْ هذا العملِ.
وَوُجِدَ في الأممِ السابقةِ مَنْ يقولُ للمؤمنينَ: إنَّ هؤلاءِ لضالُّونَ، وَوُجِدَ في هذه الأمَّةِ مَنْ يقولُ: هؤلاءِ رَجْعيُّونَ.
فالمعاصِي لها أصلٌ في الأممِ على حَسَبِ ما سَبَقَ، ولكنْ مَنْ وفَّقَهُ اللهُ للهدايةِ اهتدى.


والحاصلُ:

أنَّكَ لا تكادُ تجدُ معصيةً في هذه الأمَّةِ إلاَّ وَجَدْتَ لها أصلاً في الأممِ السابقةِ، ولا تجدُ معصيةً في الأممِ السابقةِ إلاَّ وَجَدْتَ لها وارثًا في هذه الأمَّةِ.


أمَّا مناسبةُ الحديثِ للبابِ:

فلأنَّهُ لمَّا عَبَدَت الأممُ السابقةُ الأصنامَ والأوثانَ،

فسيكونُ في هذه الأمَّةِ مَنْ يعْبُدُ الأصنامَ والأوثانَ.


(7)

قولُهُ: ((حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ)) حَذْوَ بمعنى محاذيًا، وهيَ منصوبةٌ على الحالِ مِنْ فاعلِ ((تَتَّبِعُنَّ)) أيْ: حالَ كونِكُم مُحَاذِينَ لهم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ.


والقُذَّةُ:

هيَ ريشةُ السهمِ، والسهمُ لهُ رِيَشٌ لا بُدَّ أنْ تكُونَ متساويةً تمامًا، وإلاَّ صارَ الرَّمْيُ بهِ مُخْتَلًّا.


(8)

قولُهُ:((حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ)) هذِهِ الجملةُ تأكيدٌ مِنْهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ للمُتَابَعَةِ.
وجُحْرُ الضبِّ مِنْ أصغرِ الجحورِ، ولوْ دخَلُوا جُحْرَ أسدٍ مِنْ بابِ أَوْلى أنْ نَدْخُلَهُ، فالنبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قالَ ذلِكَ على سبيلِ المبالغةِ، كقولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
((مَنِ اقتَطَعَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا طَوَّقَهُ اللهُ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ سَبْعِ أَرَضِينَ)) ومَنِ اقْتَطَعَ ذِراعًا فَمِنْ بابِ أَوْلَى.


(9)

قولُهُ: (قالُوا: اليهودُ والنَّصَارى؟)

يجوزُ فيها وجهانِ:


الأولُ:

نصبُ اليهودِ والنصارى

على أنَّهُ مفعولٌ لفعلٍ محذوفٍ ، تقديرُهُ: أتعني اليهودَ والنصارى؟


الثاني:

الرفعُ على أنَّهُ خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ تقديرُهُ: أهُم اليهودُ والنصارى؟ وعلى كلِّ تقديرٍ فالجملةُ إنشائيَّةٌ؛ لأنَّهمْ يسألونَ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فهيَ استفهاميَّةٌ، والاستفهامُ مِنْ بابِ الإنشاءِ.


واليهودُ:

أتباعُ موسى عليهِ السلامُ، وسُمُّوا يهودًا نسبةً إلى يَهُوذَا مِنْ أحفادِ إسحاقَ؛ أوْ لأنَّهم هادوا إلى اللهِ، أيْ: رجَعُوا إليهِ بالتوبةِ مِنْ عبادةِ العِجْلِ.


والنصارى:

همْ أتباعُ عيسى عليهِ الصلاةُ والسلامُ، وسُمُّوا بذلكَ نسبةً إلى بَلْدَةٍ تُسمَّى النَّاصِرَةَ.


وقيلَ:

مِن النُّصْرةِ، كَمَا قالَ تعالى: { مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللهِ }.


(10)

قولُهُ: (قالَ: ((فَمَنْ؟))) مَنْ هُنا اسمُ استفهامٍ، والمرادُ بهِ التقريرُ، أيْ: فَمَنْ أعني غيرَ هؤلاءِ، أوْ فمَنْ هُم غيرُ هؤلاءِ؟
فالصحابةُ رَضِيَ اللهُ عنهم لمَّا حدَّثَهُم صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بهذا الحديثِ كأنَّهُ حصَلَ في نفوسِهِم بعضُ الغرابةِ، فلَمَّا سألُوا قرَّرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهم اليهودُ والنصارى.

مسألةٌ: ما هيَ الحكمةُ مِن ابتلاءِ الأمَّةِ بهذا الأمرِ

((لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ))إلخ، وأنْ يكونَ فيها مِنْ كلِّ مساوئِ مَنْ سبقَها؟


الجوابُ:

الحكمةُ لِيتبيَّنَ بذلِكَ كمالُ الدينِ، فإنَّ الدينَ يُعَارِضُ كلَّ هذِهِ الأخلاقِ، فإذا كانَ يُعارضُها دلَّ هذا على أنَّ كلَّ نقصٍ في الأممِ السابقةِ فإنَّ هذهِ الشريعةَ جاءتْ بتكميلِهِ؛ لأنَّ الأشياءَ لا تتبَيَّنُ إلاَّ بضدِّها كَمَا قيلَ: وبضدِّها تتبيَّنُ الأشياءُ.


تنبيهٌ:

قولُهُ: ((حذو القذة بالقذة))فلمْ أجِدْهُ في مَظَانِّهِ في (الصحيحيْنِ)، فليُحَرَّرْ.


(11)

قولُهُ: ((زَوى لِيَ)) بمعنى: جمعَ وضمَّ، أيْ: جمعَ لهُ الأرضَ وضمَّها.
قولُهُ:
((فَرَأَيْتُ)) أيْ: بعيْنَيَّ، فهيَ رؤيةٌ عينيَّةٌ.
قولُهُ:
((مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا)) وهذا لَيْسَ على اللهِ بعزيزٍ؛ لأنَّهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، فَمِنْ قُدْرَتِهِ أنْ يجمعَ الأرضَ حتَّى يُشَاهِدَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ما سيبلغُ مُلكُ أمَّتِهِ.
وهل المرادُ هنا بالزَّوْيِ أنَّ الأرضَ جُمِعَتْ، أوْ أنَّ الرسولَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ قَوِيَ نظرُهُ حتَّى رأى البعيدَ؟
الأقربُ إلى ظاهرِ اللفظِ أنَّ الأرضَ جُمِعَتْ، لا أنَّ بصرَهُ قَوِيَ حتَّى رأى البعيدَ.


وقالَ بعضُ العلماءِ:

(المرادُ قُوَّةُ بصرِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، أيْ: أنَّ اللهَ أعطاهُ قُوَّةَ بصرٍ حتَّى أبصرَ مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، لكنَّ الأقربَ الأوَّلُ).
ونحنُ إذا أردْنَا تقريبَ هذا الأمرِ نجدُ أنَّ صورةَ الكرةِ الأرضيَّةِ الآنَ مجموعةٌ يُشَاهِدُ الإنسانُ فيها مشارقَ الأرضِ ومغاربَها، فاللهُ على كلِّ شيءٍ قديرٌ، فهوَ قادرٌ على أنْ يجْمَعَ لهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ الأرضَ حتَّى تكونَ صغيرةً فيُدْرِكَها مِنْ مشارقِها إلى مغاربِها.


اعتراضٌ وجوابُهُ:

فإنْ قيلَ: هذا إنْ حُمِلَ على الواقعِ فَلَيْسَ بموافقٍ للواقعِ؛ لأنَّهُ لوْ حُصِرَت الأرضُ بحيثُ يُدْرِكُهَا بصرُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ المُجَرَّدُ، فأينَ يذهبُ الناسُ والبحارُ والجبالُ والصَّحَارِي؟

والجوابُ:

بأنَّ هذا مِن الأمورِ الغيبيَّةِ

التي لا يجوزُ أنْ تُورَدَ عليها كَيْفَ وَ لِمَ؟
بَلْ نقولُ: إنَّ اللهَ على كلِّ شيءٍ قديرٌ؛ إذْ قوَّةُ اللهِ سبحانَهُ أعظمُ مِنْ قُوَّتِنا وأعظمُ مِنْ أنْ نُحِيطَ بِها، ولهذا أخبرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّ الشيطانَ يجْرِي مِن ابنِ آدمَ مجرى الدَّمِ، فلا يجوزُ أنْ نقولَ: كيفَ يجْرِي مجرى الدمِ؟ فاللهُ أعلمُ بذلِكَ.
وهذه المسائلُ التي لا نُدْرِكُها يجبُ التسليمُ المَحْضُ لها، ولهذا نقولُ في بابِ الأسماءِ والصفاتِ: تُجرَى على ظاهرِها معَ التنزيهِ عَن التكييفِ والتمثيلِ، وهذا ما اتَّفَقَ عليهِ أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ.
وقولُهُ:
((فَرَأَيْتُ مَشَارِقَهَا وَمَغَارِبَهَا)) أيْ: أماكنَ الشَّرْقِ والغَرْبِ مِنْها.


(12)

قولُهُ: ((وَإِنَّ أُمَّتِي سَيَبْلُغُ مُلْكُهَا مَا زُوِيَ لِي مِنْهَا)) والمرادُ: أُمَّةُ الإجابةِ التي آمنَتْ بالرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، سيبلغُ ملكُها ما زُوِيَ للرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ منها، وهذا هوَ الواقعُ، فإنَّ مُلْكَ هذِهِ الأمَّةِ اتَّسَعَ مِن المشرقِ ومِن المغربِ اتِّسَاعًا بالغًا، لكنَّهُ مِن الشمالِ والجنوبِ أقلُّ بكثيرٍ، والأمَّةُ الإسلاميَّةُ وصَلَتْ مِن المشرقِ إلى السِّندِ والهندِ وما وراءَ ذلِكَ، ومِن المغربِ إلى ما وراءِ المحيطِ، وهذا يُحقِّقُ رُؤْيَا النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.


(13)

قولُهُ: ((وَأُعْطِيتُ الكَنْزَيْنِ: الأَحْمَرَ والأَبْيَضَ)) الذي أعطاهُ هُوَ اللهُ.


والكَنْزَانِ:

هما الذهبُ والفضَّةُ كنوزُ كِسْرَى وقَيْصَرَ.
فالذهبُ عندَ
قيصرَ، والفضَّةُ عِنْدَ كِسْرَى، وكلٌّ مِنْهُما عندَهُ ذهبٌ وفضَّةٌ، لكن الأغلبُ على كنوزِ قيصرَ الذهبُ، وعلى كنوزِ كسرى الفضَّةُ.
وقولُهُ:
((وَأُعْطِيتُ)) هَلْ هُوَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أُعطِيَهَا في حياتِهِ أمْ بعدَ موتِهِ؟


الجوابُ:

بعدَ مَوْتِهِ أُعطِيَتْ أُمَّتُهُ ذلِكَ، لكنْ ما أُعْطِيَتْ أُمَّتُهُ فهو كالمُعْطَى لهُ؛ لأنَّهُ امتدادُ مُلْكِ الأمَّةِ، لا لأنَّها أُمَّةٌ عربيَّةٌ كَمَا يقولُهُ الجُهَّالُ، بَلْ لأنَّها أمَّةٌ إسلاميَّةٌ أخذَتْ بِما كانَ عليهِ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ.


(14)

قولُهُ: ((وَإنِّي سَأَلْتُ رَبِّي لأُِمَّتِي أَنْ لاَ يُهْلِكَهَا بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ)) هكذا في الأصلِ ((بِعَامَّةٍ)) والمعنى بمَهْلَكَةٍ عامَّةٍ، وفي روايةٍ في بعضِ النُّسَخِ:((بِسَنَةٍ عَامَّةٍ)).


والسَّنةُ:

الجَدْبُ والقحطُ، وهو يُهلِكُ ويُدمِّرُ، قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((اللهُمَّ اجْعَلْهَا عَلَيْهِمْ سِنِينَ كَسِنِي يُوسُفَ)) وقالَ تعالى: { وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ } ويُحْتَمَلُ أنْ يكونَ المعنى بعامٍ واحدٍ، فتكونُ الباءُ للظرفيَّةِ، وَعَامَّةٍ: أيْ: عُمُومًا تعمُّهُمْ، هذهِ دعْوَةٌ.


(15)

قولُهُ: ((وَأَنْ لاَ يُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ، فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ)) أيْ: لا يُسلِّطَ عليْهِم عدوًّا، والعَدُوُّ: ضدُّ الوَلِيِّ، وهوَ: المُعَادِي المُبْغِضُ الحاقِدُ، وأعداءُ المسلمينَ هنا هم الكفَّارُ، ولهذا قالَ: ((مِنْ سِوَى أنْفُسِهِم)).
ومعنى
((يَسْتَبيحَ)) يستحلَّ، والبيضةُ: ما يُجْعَلُ على الرأسِ وقايةً مِن السِّهامِ، والمرادُ: يظْهَرُ عليهم ويغلِبُهم.


(16)

قولُهُ: ((إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ))اعلمْ أنَّ قضاءَ اللهِ نوعانِ:

1- قضاءٌ شرعيٌّ قدْ يُرَدُّ، فقدْ يُرِيدُهُ اللهُ ولا يقْبَلُونَهُ.


2- قضاءٌ كونيٌّ لا يُردُّ ولا بُدَّ أنْ يَنْفُذَ.
وكلا القضائَيْنِ قضاءٌ بالحقِّ،

وقدْ جَمَعَهُما قولُهُ تعالى: { وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ }.


ومثالُ القضاءِ الشرعيِّ

قولُهُ تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ } لأنَّهُ لوْ كانَ كوْنِيًّا لكانَ كلُّ الناسِ لا يعبدونَ إلاَّ اللهَ.


ومثالُ القضاءِ الكونيِّ

قولُهُ تعالى: { وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا } لأنَّ اللهَ تعالى لا يقْضِي شرعًا بالفسادِ، لكنَّهُ يقضِي بهِ كوْنًا وإنْ كانَ يكرهُهُ سبحانَهُ، فإنَّ اللهَ لا يُحِبُّ الفسادَ ولا المفسدينَ، لكنَّهُ يقضِي بذلِكَ لحكمةٍ بالغةٍ، كَمَا قسَّمَ خلْقَهُ إلى مؤمنٍ وكافرٍ، لِمَا يترَتَّبُ على ذلِكَ مِن المصالحِ العظيمةِ.


والمرادُ بالقضاءِ في هذا الحديثِ القضاءُ الكونيُّ،

فلا أحدَ يستطيعُ ردَّهُ مهما كانَ مِن الكُفْرِ والفسوقِ، فقضاءُ اللهِ نافذٌ على أكبرِ الناسِ عُتُوًّا واستكبارًا، فَقَدْ نَفَذَ على فرعونَ وأُغرِقَ بالماءِ الذي كانَ يفْتَخِرُ بهِ، وعلى طواغيتِ بني آدمَ فأهلكَهُم اللهُ ودمَّرَهُم.
وفي قولِهِ:
((إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ)) مِنْ كمالِ سُلطانِ اللهِ وقُدْرَتِهِ وربُوبِيَّتِهِ ما هوَ ظاهرٌ؛ لأنَّهُ ما مِنْ مَلِكٍ سوى اللهِ إلاَّ يُمْكِنُ أنْ يُردَّ ما قضى بهِ، أمَّا قضاءُ اللهِ فلا يُمْكِنُ ردُّهُ.
واعلمْ أنَّ قضاءَ اللهِ الكونيَّ كمشيئَتِهِ لا يكونُ إلاَّ لحكمةٍ، كقضائِهِ الشرعيِّ فهوَ لا يقضِي قضاءً إلاَّ والحكمةُ تقتضِيهِ، كَمَا لا يشاءُ شيئًا إلاَّ والحكمةُ تقتضِيهِ، ويدلُّ عليهِ قولُهُ تعالى:
{ وَمَا تَشَاءُونَ إِلاَّ أَنْ يَشَاءَ اللهُ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا } فيتبينُ أنَّهُ لا يشاءُ شيئًا إلاَّ عَنْ عِلْمٍ وحكمةٍ، ولَيْسَ لمُجَرَّدِ المشيئةِ، خلافًا لِمَنْ أنكرَ حكمةَ اللهِ مِن الجهْميَّةِ وغيرِهم، فقالوا: إنَّهُ لا يفعلُ الأشياءَ إلاَّ لمجرَّدِ المشيئةِ، فجعلوا على زعمِهِم المخلوقينَ أكْمَلَ تصرُّفًا مِن اللهِ؛ لأنَّ كلَّ عاقلٍ مِن المخلوقينَ لا يتصرَّفُ إلاَّ لحكمةٍ، ولهذا كانَ الذي يتصرَّفُ بسفهٍ يُحْجَرُ عليهِ، قالَ تعالى: { وَلاَ تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللهُ لَكُمْ قِيَامًا }.


فنحنُ نقولُ: إنَّ اللهَ جلَّ وعلا لا يفعلُ شيئًا ولا يحكمُ بشيءٍ إلاَّ لحكمةٍ، ولكنْ هَلْ يلْزَمُ مِن الحكمةِ أنْ نُحِيطَ بها عِلْمًا؟

الجوابُ:

لا يلْزَمُ؛ لأنَّنا أقصرُ منْ أنْ نُحِيطَ عِلْمًا بحِكَمِ اللهِ كُلِّها عزَّ وجلَّ، صحيحٌ أنَّ بعضَ الأشياءِ نَعْرِفُ حكمَتَها، لكنَّ بعضَ الأشياءِ تعْجَزُ العقولُ عنْ إدراكِها.
والمقصودُ منْ قولِهِ:
((إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ)) بيانُ أنَّ مِن الأشياءِ التي سألَها النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ما لمْ يُعْطَهَا؛ لأنَّ اللهَ قضى بعِلْمِهِ وحكمتِه ذلكَ، ولا يُمْكِنُ أنْ يُرَدَّ ما قضاهُ اللهُ عزَّ وجلَّ.


والقضاءُ قدْ يتوقَّفُ على الدعاءِ،

بلْ إنَّ كلَّ القضاءِ أوْ أكثرَ القضاءِ لهُ أسبابٌ إمَّا معلومةٌ أوْ مجهولةٌ، فدخولُ الجنَّةِ لا يُمْكِنُ إلاَّ بِسَبَبٍ يترتَّبُ دخولُ الجنَّةِ عليهِ، وهوَ الإيمانُ والعملُ الصالحُ.


كذلِكَ حصولُ المطلوبِ،

قدْ يكونُ اللهُ عزَّ وجلَّ مَنعَهُ حتَّى نسألَ، لكنَّ من الأشياءِ ما لا تقتضي الحكمةُ وُجُودَهُ، وحينئذٍ يُجَازَى الداعي بما هوَ أكملُ، أوْ يُؤَخَّرُ لهُ ويُدَّخَرُ لهُ عندَ اللهِ عزَّ وجلَّ، أوْ يُصْرَفُ عنهُ من السوءِ ما هوَ أعظمُ. والدعاءُ إذا تمَّتْ فيهِ شروطُ القبولِ ولمْ يُجَبْ فإنَّنا نَجْزِمُ بأنَّهُ ادُّخِرَ لهُ.


(17)

وقولُهُ: ((وَإِنِّي أَعْطَيْتُكَ لأُِمَّتِكَ أَنْ لاَ أُهْلِكَهُمْ بِسَنَةٍ بِعَامَّةٍ))، هذهِ واحدةٌ.


والثانيةُ:

قولُهُ:((وَأَنْ لاَ أُسَلِّطَ عَلَيْهِمْ عَدُوًّا مِنْ سِوَى أَنْفُسِهِمْ فَيَسْتَبِيحَ بَيْضَتَهُمْ، وَلَوِ اجْتَمَعَ عَلَيْهِمْ مَنْ بِأَقْطَارِهَا، حَتَّى يَكُونَ بَعْضُهُمْ يُهْلِكُ بَعْضًا وَيَسْبِي بَعْضُهُمْ بَعْضًا)) وهذهِ الإجابةُ قُيِّدَتْ بقولِهِ: ((حتَّى يكونَ بعضُهم يُهْلِكُ بعضًا ويَسْبِي بعْضُهُم بعضًا)) إذا وقعَ ذلكَ منهمْ فقَدْ يُسلِّطُ عليهم عدوًّا منْ سوى أنفسِهم فيستبيحُ بيضتَهم، فكأنَّ إجابَةَ اللهِ لرسولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في الجملةِ الأُولَى بدونِ استثناءٍ، وفي الجملةِ الثانيةِ باستثناءِ ((حتَّى يكونَ بعضُهم...)).


وهذهِ هيَ الحكمةُ منْ تقديمِ قولِهِ:

((إِذَا قَضَيْتُ قَضَاءً فَإِنَّهُ لاَ يُرَدُّ)) فصارتْ إجابةُ اللهِ لرسولِهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ مُقَيَّدَةً.
ومِنْ نعمةِ اللهِ أنَّ هذهِ الأُمَّةَ لنْ تَهْلِكَ بسَنَةٍ بِعَامَّةٍ أبدًا، فكلُّ مَنْ يَدِينُ بدينِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فإنَّهُ لنْ يهْلِكَ، وإنْ هلكَ قومٌ في جهةٍ بسَنَةٍ فإنَّهُ لا يهْلِكُ الآخرونَ.
فإذا صارَ بعضُهم يقْتُلُ بعضًا، ويَسْبِي بعضُهم بعضًا، فإنَّهُ يُسَلِّطُ عليهم عدُوًّا منْ سوى أنفُسِهم، وهذا هوَ الواقعُ، فالأُمَّةُ الإسلاميَّةُ حينَ كانتْ أُمَّةً واحدةً عَوْنًا في الحقِّ ضدَّ الباطلِ كانتْ أُمَّةً مَهِيبَةً.
ولمَّا تفرَّقَتْ وصارَ بعضُهم يُهْلِكُ بعضًا ويَسْبِي بعضُهم بعضًا، سلَّطَ اللهُ عليهم عدُوًّا منْ سوى أنفسِهم، وأعظمُ مَنْ سُلِّطَ عليهم فِيمَا أعلمُ التَّتَارُ، فقدْ سُلِّطوا على المسلمينَ تسليطًا لا نظيرَ لهُ.


وفي الحديثِ دليلٌ على تحريمِ القتالِ بينَ المسلمينَ،

وإهلاكِ بعضِهم بعضًا، وسبيِ بعضِهم بعضًا، وأنَّهُ يجبُ أنْ يكونوا أُمَّةً واحدةً حتَّى تبْقَى هيبتُهم بينَ الناسِ وتخْشَاهُم الأممُ.


(18)

قولُهُ: ((وَإِنَّمَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ)) بَيَّنَ الرسولُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أنَّهُ لا يخَافُ على الأُمَّةِ إلاَّ الأئِمَّةَ المضِلِّينَ.


والأئِمَّةُ:

جمعُ إمامٍ، والإمامُ قدْ يكونُ إمامًا في الخيرِ أو الشرِّ، قالَ تعالى في أئِمَّةِ الخيرِ: { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ }.
وقالَ تعالى عنْ آلِ
فرعونَ أَئِمَّةِ الشَّرِّ: { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيامَةِ لاَ يُنْصَرُونَ }.
والذي في حديثِ البابِ:
((الأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ)) أئِمَّةَ الشرِّ، وصدقَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، إنَّ أعظمَ ما يُخافُ على الأُمَّةِ الأئِمَّةُ المُضِلُّونَ، كرُؤَسَاءِ الجهميَّةِ والمعتزلةِ وغيرِهم الذينَ تفرَّقت الأمَّةُ بسببِهم.
والمرادُ بقولِهِ:
((الأَئِمةَ المضِلِّينَ))الذينَ يقودونَ الناسَ باسمِ الشرعِ، والذينَ يأخذونَ الناسَ بالقهرِ والسلطانِ، فيشملُ الحُكَّامَ الفاسدينَ، والعلماءَ المضلِّينَ، الذينَ يَدَّعُونَ أنَّ ما هُمْ عليهِ شَرْعُ اللهِ، وهُم أشدُّ الناسِ عداوةً لهُ.


(19)

قولُهُ: ((وَإِذَا وَقَعَ عَلَيْهِمُ السَّيْفُ...)) الخ، هذا منْ آياتِ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وهذا حَقٌّ واقعٌ، فإنَّهُ لمَّا وَقَعَ السَّيفُ في هذهِ الأُمَّةِ لم يُرْفَعْ، فما زالَ بينَهم القتالُ منذُ قُتِلَ الخليفةُ الثالثُ عثمانُ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وصارت الأُمَّةُ يَقْتُلُ بعضُهم بعضًا، ويسْبِي بعضُهم بعضًا.


(20)

قولُهُ: ((وَلاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكِينَ)) الحيُّ بمعنى القبيلةِ.
وهل المرادُ باللُّحُوقِ هنا اللُّحُوقُ البدنيُّ، بمعنى أنَّه يذْهَبُ هذا الحيُّ إلى المشركينَ ويدْخُلُونَ فيهمْ؟
أو اللحوقُ الحُكْميُّ، بمعنى أنْ يعمَلُوا بعملِ المشركينَ، أو الأمرانِ معًا؟


الظاهرُ:

أنَّ المُرادَ جميعُ ذلكَ.


وأمَّا الحيُّ:

فالظاهرُ أنَّ المرادَ بهِ الجنسُ، وليسَ واحدَ الأحياءِ، وإنْ قيلَ: إنَّ المرادَ واحدُ الأحياءِ، فلا بُدَّ أنْ يكونَ لهذا الحيِّ أثَرُهُ وقيمتُهُ في الأمَّةِ الإسلاميَّةِ بحيثُ يتبيَّنُ ويظهَرُ، ورُبَّما يكونُ لهذا الحيِّ إمامٌ يزِيغُ والعياذُ باللهِ ويُفْسِدُ فيتَّبِعُهُ كلُّ الحيِّ ويتبيَّنُ ويظهرُ أمرُهُ.


(21)

قولُهُ: ((وَحَتَّى تَعْبُدَ فِئَامٌ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ)) الْفِئَامُ ، أي: الجماعاتُ، وهذا وَقَعَ، ففي كلِّ جهةٍ منْ جهاتِ المسلمينَ يَعْبُدُونَ القبورَ ويُعَظِّمونَ أصحابَها ويسألونَهم الحاجاتِ والرغباتِ، ويَلْتَجِئُونَ إليهم.


وفئامٌ،

أيْ: ليْسُوا أحياءً، فقدْ يكونُ بعضُهم منْ قبيلةٍ، والبعضُ الآخرُ منْ قبيلةٍ، فيجتمعونَ.


(22)

قولُهُ: ((وَإنَّهُ سَيَكُونُ فِي أُمَّتِي كَذَّابُونَ ثَلاَثُونَ)) حصَرَهُم النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ بعددٍ، وكلُّهمْ يزعُمُ أنَّهُ نبيٌّ أُوحِيَ إليهِ وهُمْ كذَّابُونَ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خاتمُ النبيِّينَ ولا نبيَّ بعدَهُ.
فَمَنْ زعَمَ أنَّهُ نبيٌّ بعدَ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فهوَ كاذبٌ كافرٌ حلالُ الدمِ والمالِ، وَمَنْ صَدَّقَهُ في ذلِكَ فهوَ كافرٌ حلالُ الدمِ والمالِ وليسَ من المسلمينَ ولا مِنْ أُمَّةِ
مُحَمَّدٍ صلى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، ومَنْ زعمَ أنَّهُ أفضلُ منْ محمَّدٍ، وأنَّهُ يتلقَّى من اللهِ مباشرةً، ومحمَّدٌ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يتلقَّى منهُ بواسطةِ المَلَكِ فهوَ كاذبٌ كافرٌ حلالُ الدمِ والمالِ.
وقولُهُ:
((كَذَّابُونَ ثَلاَثُونَ)) هلْ ظهَرُوا أمْ لا؟


الجوابُ:

ظهرَ بعضُهم،

وبعضُهم يُنْتَظَرُ؛ لأنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ لم يحْصُرْهم في زمنٍ معيَّنٍ، وما دامت الساعةُ لمْ تقُمْ فهم يُنْتَظَرُونَ.


(23)

قولُهُ: ((كُلُّهُمْ يَزْعُمُ)) أيْ: يدَّعِي.
قولُهُ:
((وَأَنَا خَاتَمُ النَّبِيِّينَ)) أيْ: آخرُهُم. وأكَّدَ ذلكَ بقوْلِهِ:((لاَ نَبِيَّ بَعْدِي))فإنْ قيلَ: ما الجوابُ عمَّا ثبتَ في نُزُولِ عيسى ابنِ مريمَ في آخرِ الزمانِ معَ أنَّهُ نبيٌّ، ويضعُ الجزيةَ ولا يَقْبَلُ إلاَّ الإسلامَ؟


فالجوابُ:

أنَّ نبُوَّتَهُ سابقةٌ لنبُوَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، وأمَّا كوْنُهُ يضعُ الجزيةَ ولا يَقْبَلُ إلاَّ الإسلامَ فليسَ تشْرِيعًا جديدًا يَنْسَخُ قبولَ الجزيةِ، بلْ هوَ تشريعٌ منْ مُحَمَّدٍ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ؛ لأنَّهُ أخبرَ بهِ مُقَرِّرًا لهُ.


(24)

قولُهُ: ((وَلاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً)) المعنى: أنَّهُم يَبْقَونَ إلى آخِرِ وجودِهم مَنْصُورينَ.
هذا منْ نعمةِ اللهِ، فلمَّا ذكَرَ أنَّ حيًّا من الأحياءِ يلْتَحِقُونَ بالمشركينَ، وأنَّ فِئَامًا يعبدونَ الأصنامَ، وأنَّ أُنَاسًا يدَّعونَ النبوَّةَ، فيكونُ هنا الإخلالُ بالشهادتينِ؛ شهادةِ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ بالشركِ، وأنَّ
محمَّدًا رسولُ اللهِ بادِّعَاءِ النبوَّةِ، وذلكَ أصْلُ التوحيدِ، بلْ أصلُ الإسلامِ شهادةُ أنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ، وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ.
فلَمَّا بيَّنَ ذلكَ لمْ يجعل الناسَ يَيْأَسُونَ فقالَ:
((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً))والطائفةُ: الجماعةُ.


وقولُهُ: ((على الحقِّ)) جارٌّ ومجرورٌ خبرُ ((تَزَالُ)).
قولُهُ:
((منصورةً)) خبرٌ ثانٍ، ويجوزُ أنْ يكونَ حالاً، والمعنى: لا تزالُ على الحقِّ وهيَ كذلكَ أيضًا منصورةٌ.

(25)

قولُهُ: ((لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ)) خذَلَهُم ، أيْ: لا ينْصُرُهم ويُوَافقُهم على ما ذهبوا إليهِ.
وفي هذا دليلٌ على أنَّهُ سَيُوجَدُ مَنْ يَخْذُلُهم لكنَّهُ لا يضُرُّهم؛ لأنَّ الأمورَ بيدِ اللهِ، وقدْ قالَ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ:
((وَاعْلَمْ أَنَّ الأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ بِشَيْءٍ لَمْ يَضُرُّوكَ إِلاَّ بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ)).


وكذلكَ لا يضُرُّهم مَنْ خالَفَهم؛

لأنَّهمْ منصورونَ بنصرِ اللهِ، فاللهُ عزَّ وجلَّ إذا نَصَرَ أحدًا فلنْ يستطيعَ أحدٌ أنْ يُذِلَّهُ.
قولُهُ:
((حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ)) أي: الكونيُّ، وذلكَ عندَ قيامِ الساعةِ، عنْدَما يأتي أمرُهُ سُبحانَهُ وتعالى بأنْ تُقْبَضَ نفسُ كلِّ مؤمنٍ، حتَّى لا يبقى إلاَّ شرارُ الخلْقِ، فعليهمْ تقومُ الساعةُ.


والشاهدُ منْ هذا الحديثِ:

قولُهُ في روايةِ الْبُرْقَانِيِّ: ((حَتَّى يَلْحَقَ حَيٌّ مِنْ أُمَّتِي بِالْمُشْرِكينَ، وَحَتَّى تَعْبُدَ فِئَامٌ مِنْ أُمَّتِي الأَوْثَانَ)).
وقولُهُ:
((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورَةً)) هذهِ لمْ يُحَدَّدْ مكانُها فتَشْمَلَ جميعَ بقاعِ الأرضِ في الحرميْنِ والعراقِ وغيرِهما.
فالمُهِمُّ أنَّ هذهِ الطائفةَ مهما نَأَتْ بهم الديارُ فهيَ طائفةٌ واحدةٌ منصورةٌ على الحقِّ لا يضُرُّهم مَنْ خَذَلَهم ولا مَنْ خالَفَهُم حتَّى يأتيَ أمرُ اللهِ.


مسألةٌ: قالَ بعضُ السلفِ: إنَّ الطائفةَ المنصورةَ هُمْ أهلُ الحديثِ، ما مدَى صحَّةِ هذا القولِ؟


الجوابُ:

هذا ليسَ بصحيحٍ على إطلاقِهِ، بلْ لا بُدَّ من التفصيلِ، فإنْ أُرِيدَ بذلكَ أهلُ الحديثِ المُصْطَلَحِ عليهِ، الذينَ يأْخُذُونَ الحديثَ روايةً ودرايةً، وأُخْرِجَ منهم الفقهاءُ وعلماءُ التفسيرِ، وما أشبَهَ ذلكَ، فهذَا ليسَ بصحيحٍ؛ لأنَّ علماءَ التفسيرِ والفقهاءَ الذينَ يتحَرَّوْنَ البناءَ على الدليلِ هم في الحقيقةِ منْ أهلِ الحديثِ، ولا يخْتَصُّ بأهلِ الحديثِ صناعةً؛ لأنَّ العلومَ الشرعيَّةَ تفسيرٌ وحديثٌ وفقهٌ... إلخ.


فالمقصودُ:

أنَّ كلَّ مَنْ تحاكمَ إلى الكتابِ والسُّنَّةِ فهوَ منْ أهلِ الحديثِ بالمعنى العامِّ.
وأهلُ الحديثِ هُمْ: كلُّ مَنْ يتحرَّى العملَ بسُنَّةِ الرسولِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ، فيشملُ الفقهاءَ الذينَ يتحرَّوْنَ العملَ بالسُّنَّةِ، وإنْ لمْ يكونُوا منْ أهلِ الحديثِ اصطلاحًا.
فشيخُ الإسلامِ
ابنُ تيميَةَ مثلاً لا يُعْتَبَرُ اصطلاحًا من المحدِّثينَ، ومعَ ذلكَ فهوَ رافعٌ لرايةِ الحديثِ.
والإمامُ
أحمدُ رَحِمَهُ اللهُ تنازَعَهُ طائفتانِ؛ أهلُ الفقهِ قالوا: إنَّهُ فقيهٌ، وأهلُ الحديثِ قالوا: إنَّه مُحَدِّثٌ.
وهوَ إمامٌ في الفقهِ والحديثِ والتفسيرِ، ولا شكَّ أنَّ أقربَ الناسِ تمسُّكًا بالحديثِ هم الذينَ يعْتَنُونَ بهِ.
ويُخْشَى من التعبيرِ بأنَّ الطائفةَ المنصورةَ هُمْ أهلُ الحديثِ أنْ يُظَنَّ أنَّهُم أهلُ الحديثِ الذينَ يعْتَنُونَ بهِ اصطلاحًا، فيَخْرُجُ غيرُهم.


فإذا قيلَ:

أهلُ الحديثِ بالمعنى الأعمِّ الذينَ يأخذونَ بالحديثِ

سواءً انْتَسَبُوا إليهِ اصطلاحًا واعْتَنَوْا بهِ، أوْ لمْ يعْتَنُوا لكنَّهُم أخَذُوا بهِ، فحينئذٍ يكونُ صحيحًا.


(26)

فيهِ مسائلُ:

(27)

الأُولَى:((تفسيرُ آيةِ النساءِ))

وهيَ قولُهُ تعالى: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ } وقدْ سبَقَ ذلكَ.


(28)

الثانيةُ:((تفسيرُ آيةِ المائدةِ))

وهيَ قولُهُ تعالى: { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللهِ مَنْ لَعَنَهُ اللهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ } وقدْ سبقَ تفسيرُها، والشاهدُ مِنْها هنا قولُهُ:{وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ}.


(29)

الثالثةُ:((تفسيرُ آيةِ الكهفِ))

يعني قولَهُ تعالى: { قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا } وقدْ سبقَ بيانُ معناها.


(30)

الرابعةُ:

((وهيَ أهمُّها، ما معنى الإيمانِ بالجِبْتِ والطاغوتِ؟ هلْ هوَ اعتقادُ القلبِ؟ أوْ موافقةُ أصحابِها معَ بُغْضِها ومعرفةِ بُطْلانِها))؟
أمَّا إيمانُ القلبِ واعتقادُهُ، فهذا لا شكَّ في دُخُولِهِ في الآيةِ.
وأمَّا موافقةُ أصحابِها في العملِ معَ بُغْضِها ومعرفةِ بُطْلانِها فهذا يحْتَاجُ إلى تفصيلٍ، فإنْ كانَ وافقَ أصحابَها بناءً على أنَّها صحيحةٌ فهذا كُفْرٌ، وإنْ كانَ وافقَ أصحابَها ولا يعتقدُ أنَّها صحيحةٌ فإنَّهُ لا يَكْفُرُ، لكنَّهُ لا شكَّ على خَطَرٍ عظيمٍ يُخْشَى أنْ يُؤَدِّيَ بهِ الحالُ إلى الكُفْرِ والعياذُ باللهِ.


(31)

الخامسةُ:((قولُهُم: إنَّ الكُفَّارَ الذينَ يعرفونَ كُفْرَهم أهْدَى سبيلاً من المؤمنينَ))

يعني أنَّ هذا القولَ كُفْرٌ ورِدَّةٌ؛ لأنَّ مَنْ زَعمَ أنَّ الكُفَّارَ الذينَ يُعْرَفُ كُفْرُهم أهدى سبيلاً من المؤمنينَ فإنَّهُ كافرٌ لتعْظِيمِهِ الكفرَ على الإيمانِ.


(32)

السادسةُ:((وهيَ المقصودةُ بالترجمةِ، أنَّ هذا لا بُدَّ أنْ يُوجَدَ في هذهِ الأمَّةِ كما تَقرَّرَ في حديثِ أبي سعيدٍ)).


(33)

السابعةُ:((تصريحُهُ بوُقُوعِها، أعني عبادةَ الأوثانِ))

وقدْ سبقَ بيانُها، والترجمةُ التي أشارَ إليها رَحِمَهُ اللهُ هيَ قولُهُ: (بابُ ما جاءَ أنَّ بعْضَ هذهِ الأُمَّةِ يَعْبُدُ الأوثانَ).
وحديثُ
أبي سعيدٍ هوَ قولُهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ: ((لَتَتَّبِعُنَّ سُنَنَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَذْوَ الْقُذَّةِ بِالْقُذَّةِ، حَتَّى لَوْ دَخَلُوا جُحْرَ ضَبٍّ لَدَخَلْتُمُوهُ))قالوا: يا رسولَ اللهِ، اليهودُ والنَّصَارى؟
قالَ:
((فَمَنْ؟)) أخْرَجَاهُ.
وهذا يتضَمَّنُ التحذيرَ منْ أنْ تقَعَ هذهِ الأُمَّةُ في مِثْلِ ما وقعَ فيهِ مَنْ سبَقَها.


(34)

الثامنةُ:

((العَجَبُ العُجَابُ خُرُوجُ مَنْ يدَّعي النبوَّةَ مثلَ المختارِ معَ تكَلُّمِهِ بالشهادتينِ وتصريحِهِ بأنَّهُ منْ هذهِ الأُمَّةِ، وأنَّ الرسولَ حقٌّ وأنَّ القرآنَ حقٌّ، وفيهِ أنَّ محمَّدًا خاتَمُ النبيِّينَ، ومعَ هذا يُصَدَّقُ في هذا كُلِّهِ معَ التضادِّ الواضحِ، وقدْ خرجَ المختارُ في آخرِ عهدِ الصحابةِ وتَبِعَهُ فئامٌ كثيرةٌ))والمُخْتَارُ هوَ ابنُ أبي عُبَيْدٍ الثَّقَفِيُّ، خَرجَ وغلَبَ على الكوفةِ في أوَّلِ خلافةِ ابنِ الزبيرِ رَضِيَ اللهُ عنهُ، وأظهرَ محبَّةَ آلِ البيتِ، ودعا الناسَ إلى الثَّأْرِ منْ قَتَلَةِ الحُسَيْنِ، فتَتَبَّعَهُم وقَتَلَ كثيرًا ممَّنْ باشرَ ذلكَ أوْ أعانَ عليهِ، فانْخَدَعَ بهِ العامَّةُ، ثمَّ ادَّعَى النبوَّةَ وزعَمَ أنَّ جبريلَ يأْتِيهِ.
ولا شكَّ أنَّ هذهِ المسألةَ من العجبِ العجابِ أنْ يَدَّعِيَ النبوَّةَ وهوَ مؤمِنٌ أنَّ القرآنَ حقٌّ، وفي القرآنِ أنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ خاتمُ النبيِّينَ، فكيفَ يكونُ صادقًا؟ وكيفَ يُصَدَّقُ معَ هذا التناقضِ؟!
ولكنْ مَنْ لمْ يَجْعَل اللهُ لهُ نورًا فما لهُ منْ نورٍ.


(35)

التاسعةُ: ((البِشارةُ بأنَّ الحقَّ لا يزولُ بالكُلِّيَّةِ كما زالَ فيما مضى، بلْ لا تزالُ عليهِ طائفةٌ)) يعني: مِنْ هذهِ الأُمَّةِ، منصورةٌ إلى يومِ القيامةِ، يُؤْخَذُ هذا منْ آخرِ الحديثِ: ((لاَ تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي عَلَى الْحَقِّ مَنْصُورةً، لاَ يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ وَلاَ مَنْ خَالَفَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى)).


(36)

العاشرةُ:

((الآيةُ العظمى أنَّهُم معَ قِلَّتِهِم لا يَضُرُّهم مَنْ خَذَلَهُم ولا مَنْ خَالَفَهم)) وهذهِ آيةٌ عظمى، أنَّ الكثرَةَ الكاثرةَ منْ بني آدمَ على خلافِ ذلكَ، ومعَ ذلكَ لا يضُرُّونَهُم { كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ واللهُ مَعَ الصَّابِرِينَ }.


(37)

الحاديةَ عشرةَ:

((أنَّ ذلكَ الشرْطَ إلى قيامِ الساعةِ)) وقدْ سبقَ.


(38)

الثانيةَ عشرةَ:((ما فيهِ من الآياتِ العظيمةِ))

أيْ: ما في هذا الحديثِ من الآياتِ العظيمةِ، والآياتُ جمعُ آيةٍ، وهيَ العلامةُ، والآياتُ التي يُؤَيِّدُ اللهُ بها رُسَلَهُ عليهم الصلاةُ والسلامُ هيَ العلاماتُ الدالَّةُ على صدقِهِم.


فَمِمَّا في هذا الحديثِ إخبارُه:

بأنَّ اللهَ سُبحانَهُ وتعالى زَوَى لهُ المشارقَ والمغاربَ،

وأخْبرَ بمعنى ذلكَ، فوَقَعَ كما أخبرَ بخلافِ الجنوبِ والشمالِ، فإنَّ رسالةَ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ امْتَدَّتْ نحوَ الشرقِ والغربِ أكثرَ من امتدادِها نحوَ الجنوبِ والشمالِ، وهذا منْ عِلْمِ الغيبِ الذي أطْلَعَ اللهُ رسولَهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ عليهِ.


ومنها:

إخبارُهُ أنَّهُ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أُعْطِيَ الكنْزَيْنِ؛

وهما كنزُ كِسْرَى وقيْصَرَ.


ومنها:

إخبارُهُ بإجابةِ دعوتِهِ لأمَّتِهِ في الاثنتينِ،

وهُما:
-
ألاَّ يُهلِكَها بسنةٍ بعامَّةٍ.

-

وألاَّ يُسَلِّطَ عليهم عدُوًّا مِنْ سِوَى أنفُسِهم فيستبِيحَ بيضَتَهُم حتَّى يكونَ بعضُهم يُهْلِكُ بعضًا... إلخ، ومنعِ الثالثةِ وهيَ ألاَّ يجْعَلَ بأسَ هذهِ الأُمَّةِ بيْنَها، فإنَّ هذا سوفَ يكونُ كما صَرَّحَ بهِ حديثُ عامرِ بنِ سعدٍ عنْ أبيهِ، أنَّ النبيَّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ أقْبَلَ ذاتَ يومٍ من العاليةِ حتَّى إذا مرَّ بمسجدِ بني مُعاوِيةَ دَخَلَ فرَكَعَ فيهِ ركعتيْنِ وصلَّيْنَا معهُ ودَعَا دُعاءً طويلاً وانصرفَ إليْنَا فقالَ: ((سَأَلْتُ رَبِّي ثَلاَثًا فَأَعْطَانِي اثنَتَيْنِ وَمَنَعَنِي وَاحِدَةً، سَأَلْتُ رَبِّي أَلاَّ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالسَّنَةِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلاَّ يُهْلِكَ أُمَّتِي بِالْغَرَقِ فَأَعْطَانِيهَا، وَسَأَلْتُهُ أَلاَّ يَجْعَلَ بَأْسَهُمْ بَينَهُمْ فَمَنَعَنِيهَا)) أيْ: مَنَعَنِي إيَّاها.


ومن الآياتِ التي تضَمَّنَها هذا الحديثُ:

إخبارُهُ بوُقُوعِ السيفِ في أُمَّتهِ، وأنَّهُ إذا وقعَ فإنَّهُ لا يُرْفَعُ حتَّى تقومَ الساعةُ، وقدْ كانَ الأمرُ كذلكَ، فإنَّهُ منذُ سُلَّت السيوفُ على المسلمينَ منْ بعْضِهم على بعضٍ بقِيَ هذا إلى يومِنا هذا.


ومنها:

إخبارُهُ بإهلاكِ بعضهِم بعضًا وسبْيِ بعضِهم بعضًا،

وهذا أيضًا واقعٌ.


ومنها:

خوفُهُ على أُمَّتِهِ من الأئِمَّةِ المُضلِّينَ،

والأئِمَّةُ جمْعُ إمامٍ، والإمامُ هوَ مَنْ يُقْتَدَى بهِ، إمَّا لِعِلْمِهِ، وإمَّا لسُلْطَتِهِ، وإمَّا لعبَادَتِهِ.
ومنها:
إخبارُهُ بظُهورِ المتنَبِّئِينَ في هذهِ الأُمَّةِ، وأنَّهُم ثلاثونَ.
قالَ
ابنُ حَجَرٍ:(هذا الحصرُ بالثلاثينَ لا يعني انحصارَ المُتَنَبِّئِينَ بذلكَ؛ لأنَّهُم أكثرُ منْ ذلكَ)، قلتُ: فيكونُ ذكرُ الثلاثينَ لبيانِ الحدِّ الأدْنَى، أيْ: إِنَّهُم لا ينْقُصُونَ عنْ ذلكَ العددِ، وإنَّما عدَلْنَا عنْ ظاهرِ اللَّفْظِ للأمرِ الواقعِ، وهذا واللهُ أعلمُ هوَ السرُّ في ترْكِ المؤَلِّفِ رَحِمَهُ اللهُ العددَ في مسائلِ البابِ معَ أنَّهُ صريحٌ في الحديثِ، ولعل من تعظم الفتنة بهم منهم يبلغون ثلاثين فأُسقط غيرهم من العد لعدم المبالاة به .


ومنها:

إخبارُهُ ببقاءِ الطائفةِ المنصورةِ،

وهذا كُلُّهُ وَقَعَ كما أخبرَ، قالَ الشيخُ رَحِمَهُ اللهُ: (معَ أنَّ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْها أَبْعَدُ ما يَكونُ فِي العُقولِ).


(39)

الثالثةَ عشرةَ:

((حَصْرُ الخَوْفِ على أُمَّتِهِ من الأئِمَّةِ المُضِلِّينَ))ووجهُ هذا الحصرِ أنَّ الأئِمَّةَ ثلاثةُ أقسامٍ:أُمَرَاءُ، وعُلَمَاءُ، وعُبَّادٌ، فهم الذينَ يُخْشَى منْ إضْلالِهِم؛ لأنَّهُم مَتْبُوعُونَ، فالأمراءُ لهم السلطةُ والتنفيذُ، والعلماءُ لهم التوجيهُ والإرشادُ، والعُبَّادُ لهم تغريرُ الناسِ وخدَاعُهم بأحوَالِهِم، فهؤلاءِ يُطَاعُونَ ويُقْتَدَى بهم، فيُخَافُ على الأُمَّةِ منهم؛ لأنَّهُم إذا كانوا مُضِلِّينَ ضلَّ بهِم كثيرٌ من الناسِ ، وإذا كانوا هادينَ اهتدى بهم كثيرٌ من الناسِ.


(40)

الرابعةَ عشرةَ:((التنبيهُ علَى معنى عبادةِ الأوثانِ))

يعني: أنَّ عبادَةَ الأوثانِ لا تختصُّ بالركوعِ والسجودِ لها، بلْ تشملُ اتِّبَاعَ المُضِلِّينَ الذينَ يُحِلُّونَ ما حَرَّمَ اللهُ فيُحِلَُّهُ الناسُ، ويُحَرِّمونَ ما أحلَّهُ اللهُ فَيُحَرِّمُهُ الناسُ.

هيئة الإشراف

#6

27 Oct 2008

شرح الشيخ: صالح بن عبدالعزيز بن محمد آل الشيخ

قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ: (فهذا باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان

و(كتاب التوحيد) من أول ما أخذنا إلى هذا الموضع: ذكر فيه الإمام محمد بن عبد الوهاب -رحمه الله- مسائل كثيرة من بيان وجوب معرفة التوحيد، والعلم به، والخوف من الشرك؛ وبيان بعض أفراد التوحيد، وبعض أفراد الشرك الأكبر والأصغر.

ثم بيَّن شيئاً مما يتعلق بوسائل ذلك، وما يتعلق بالصور المختلفة التي وقعت من هذا الشرك في الأمم قبلنا وعند الجاهليين، يعني: في الأميين، وفي أهل الكتاب؛ وكذلك مما وقع في هذه الأمة.

ثم ذكر وسائل ذلك، وطرقه الموصلة إلى الشرك؛ وسائل الشرك التي توصل إليه، وطرق الشرك الموصلة إليه.
بعد هذا يأتي احتجاج المشركين والخرافيين،

من أن هذه الأمة حماها الله -جل وعلا- من أن تعود إلى عبادة الأوثان؛ فاستحضر بعد كل ما سبق أن قائلاً يقول له: (كل هذا صحيح؛ ولكن هذه الأمة عُصِمَتْ أن تقع في الشرك الأكبر؛ وذلك لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب؛ ولكن في التحريش بينهم)) فلما قال عليه الصلاة والسلام: ((إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب))علمنا أن عبادة الشيطان لا تكون في هذه الأمة؛ وأن الشرك الأكبر لا يكون، هكذا قال الخرافيون.


والجواب:

أن هذا الاحتجاج في غير موضعه،

وفهم ذلك الدليل وذلك الحديث ليس على ذلك النحو، وجواب ما قالوا من أن قوله عليه الصلاة والسلام: ((إن الشيطان أيس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب)) نقول: أيس الشيطان؛ والشيطان لا يعلم الغيب، وهو حريص على إغواء بني آدم{لأحتنكن ذريته إلا قليلاً} هو أيس، ولكن لم يؤيسه الله جل وعلا؛ أيس بنفسه لما رأى عز الإسلام، ولما رأى ظهور التوحيد على الكفر في جزيرة العرب، فأيس لما رأى ذلك؛ ولكنه لم يؤيسه الله -جل وعلا- من أن يعبد في جزيرة العرب.
ثم إن في قوله: ((أيس أن يعبده المصلون)) أن المصلين لاشك أنهم آمرون بالمعروف ناهون عن المنكر؛ لأن المصلي هو الذي أقام الصلاة، ومن أقام الصلاة فإن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وأعظم المنكر الذي سينكره المصلي هو الشرك بالله جل وعلا؛ فإن الشيطان ييأس أن يعبده من قام بالصلاة على حقيقتها، وأقامها كما أراد الله جل وعلا.

فإذاً نقول: هذا الحديث ليس فيه أن العبادة - عبادة الشيطان - لا تكون في هذه الأمة؛ بل فيه أن الشيطان أيس لما رأى عز الإسلام، ولكنه لم يؤيِّس.
ولهذا لما كان بعد وفاة النبي -صلى الله عليه وسلم- بقليل، وارتدت طائفة من العرب: كان ذلك من عبادة الشيطان؛ لأن عبادة الشيطان بطاعته؛ كما قال جل وعلا: {ألم أعهد إليكم يا بني آدم ألا تعبدوا الشيطان إنه لكم عدو مبين} وعبادة الشيطان كما في تفسير الآية:
-

بطاعته في الأمر والنهي.

-

طاعته في الشرك.

-

وطاعته في ترك الإيمان، وترك لوازمه.
إذاً هذا الدليل استحضره

الإمام -رحمه الله- وقال: (إن هذا الدليل ليس واقعاً كما زعمه أولئك، والدليل على ذلك التفسير: ما جاء في الأدلة، أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان، فيصحح ما فهمنا من أن معنى الحديث أن الشيطان أيس بنفسه ولم يؤيَّس، وإياسه بنفسه: لأجل عدم اطلاعه على علم الغيب، مع حرصه على دعوة الناس إلى عبادة غير الله تبارك وتعالى، وجل وتقدس).

قال الإمام رحمه الله: (باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان) يعني: أن عبادة الأوثان واقعة في هذه الأمة بنص النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما وقعت في الأمم السالفة، فهذه الأمة تقع فيها عبادة غير الله جل وعلا.

وقوله: (باب ما جاء) يعني: من النصوص في الكتاب وفي السنة (ما جاء أن بعض هذه الأمة) بعض هذه الأمة: هذا التبعيض لأن عبادة الأوثان لم تكن من الأمة كلها، وإنما كانت من بعض هذه الأمة؛ وإلا فلا تزال طائفة من هذه الأمة ظاهرة على الحق؛ كما قال عليه الصلاة والسلام: ((ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم إلى قيام الساعة)).

فإذاً قوله: (بعض هذه الأمة) يعني: ذلك البعض المرذول، فنفهم منه: أن هناك من يقوم بالاستمساك بالأمر الأول الذي كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان عليه صحابته في أمر التوحيد، وأمر العبادة والسنن.
(بعض هذه الأمة)

المقصود بقوله: (هذه الأمة)

أمة الدعوة، أو أمة الإجابة.
-

إذا قلنا: أمة الدعوة، فلا شك أن هناك من أمة الدعوة وهم جميع الناس، بل من الجن والإنس، أن منهم من عبد الأوثان، واستمر على عبادتها بعد بعثة النبي صلى الله عليه وسلم؛ ولم يرض ببعثته، ولم يقبل ذلك.

-

وإذا قلنا إن المراد بالأمة: أمة الإجابة، يعني: أن من أجاب الرسول -صلى الله عليه وسلم- في دعوته: تتقادم بهم العهود حتى يرتدوا على أدبارهم ويتركوا دينهم؛ كما جاء في باب سَلَفَ، في أن سبب كفر بني آدم وتركهم دينهم: الغلو في الصالحين، فإذاً: الظاهر هنا أن قوله: (بعض هذه الأمة يعبد الأوثان) يعني به: أمة الإجابة، في أنهم يتركون دينهم، ويتوجهون إلى الأوثان يعبدونها.

والأوثان: جمع وثن، والوثن هو:كل شيء توجَّه إليه الناس بالعبادة:

-

إما بأن يدعوه مع الله جل وعلا.

-

أو أن يستغيثوا به.

-

أو أن يعتقدوا فيه أنه ينفع ويضر بدون إذن الله جل وعلا.

-

أو أنه يرجى رجاء العبادة، ويخاف منه كخوفٍ من الله جل وعلا - خوف السر- ونحو ذلك من الأشياء، من اعتقد فيه ذلك، فذلك الشيء وثن من الأوثان؛ وقد يكون راضياً بتلك العبادة، وقد لا يكون راضياً بتلك العبادة.

والوثن ليس مصوراً على شكل صورة.

والصنم: هو ما كان على شكل صورة كما سبق أن ذكرنا، فالفرق بين الأوثان والأصنام:
- أن الأصنام هي الآلهة التي صورت على شكل صور، كأن يجعل لنبي من الأنبياء صورة ويعبدها؛ أو يجعل لرجل من الرجال كبوذا ونحوه صورة، ويسجد لها، ويعبدها؛ هذه أصنام.
-

أو أن تكون أوثاناً، والأوثان هي الأشياء التي تُعبد:

-

قد يكون جداراً.

- قد يكون قبراً.

- قد يكون رجلاً ميتاً.
- قد يكون صفة من الصفات يتخذها معبودة من دون الله، فكل ما توجه إليه العباد بنوع من أنواع العبادة، فهو وثن من الأوثان.

قال: (وقول الله تعالى: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت}) الجبت اسم عام لكل ما فيه مخالفة لأمر الله جل وعلا، وأمر رسوله -صلى الله عليه وسلم- في الاعتقاد.

-

قد يكون الجبت سحراً، وهذا هو الذي فسرها كثير من السلف بأن الجبت السحر.

-

وقد يكون الجبت الكاهن.

-

وقد يكون الجبت الشيء المرذول الذي يضر صاحبه {يؤمنون بالجبت والطاغوت}

يعني: يؤمنون بالسحر؛ ويؤمنون بالباطل، وبعبادة غير الله جل وعلا.

ويؤمنون بالطاغوت،

والطاغوت: مشتق من الطغيان، وهو مجاوزة الحد؛ فالطاغية هو الذي تجاوز الحد في أمر الدين، بأن جعل ما لله له.

ولهذا يُعَرِّف ابن القيم -رحمه الله- الطاغوت بأنه: (كل ما تجاوز به العبد حده، من معبود، أو متبوع، أو مطاع).

فإذا تجاوز به العبد حده، يعني: حد ذلك الشيء الذي توجهوا إليه، الذي أُذن به شرعاً له؛ تجاوزوا الحد به فتوجهوا إليه بالعبادة؛ أو اعتقدوا فيه بعض خصائص الإلهية، من أنه يغيثهم كيفما شاء؛ ومن أنه يملك غوثهم، ويملك الاستشفاع لهم، ويملك أن يغفر لهم وأن يعطيهم، ويملك أن يقربهم إلى الله جل وعلا، ونحو ذلك مما لا يملكه المعبودون.
فإن ذلك مجاوزة بذلك عن الحد الذي جُعل له في الشرع، مجاوزة الحد في المعبودين أو المتبوعين، (ما تجاوز به العبد حدَّه من معبود، أو متبوع).
أو متبوع مثل: العلماء والقادة في أمر الدين، إذا تجاوز الناس بهم حدهم، فصاروا يتبعونهم في كل ما قالوا، وإن أحلو لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال، أو جعلوا لهم السنة بدعة والبدعة سنة، وهم يعلمون أصل الدين، ولكنهم خالفوا لأجل ما قال فلان، فإن هذا قد تُجُوِّز به حده.
فإن حد المتبوع في الدين أن يكون آمراً بما أمر به الشرع، ناهياً عمّا نهى عنه الشرع؛ فإذا أحل الحرام أو حرم الحلال فإنه يعتبر طاغوتاً، ومن اتبعه فإنه يكون قد تجاوز به حده، وقد أقر بأنه طاغوت واتخذه كذلك.
(أو مطاع) يطاع كذلك، من الأمراء والملوك والحكام والرؤساء الذين يأمرون بالحرام فيطاعون، ويأمرون بتحريم الحلال فيطاعون في ذلك، مع علم المطيع بما أمر الله جل وعلا به؛ فهؤلاء اتخذوهم طواغيت لأنهم جاوزوا بهم حدهم.
قال: {يؤمنون بالجبت والطاغوت} فيدخل في الطاغوت كل هذه الأنواع: الذين عُبدوا، والذين اتُّبعوا، والذين أُطيعوا.
وجه المناسبة من هذه الآية للباب: أن ذلك، وهو الإيمان بالجبت والطاغوت: حصل ووقع من الذين أوتوا نصيباً من الكتاب، من اليهود والنصارى؛ والنبي -عليه الصلاة والسلام- أخبر أن ما وقع في الأمم قبلنا سيقع في هذه الأمة؛ كما قال في حديث أبي سعيد الآتي: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)) فمثَّل بشيء صغير وهو دخول جحر الضب الذي لا يمكن أن يُفعل، تنبيهاً على أن ما هو أعلى من ذلك سيقع من هذه الأمة كما وقع من الأمم قبلنا.
- قال: {ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب يؤمنون بالجبت والطاغوت ويقولون للذين كفروا هؤلاء أهدى من الذين آمنوا سبيلاً} وهذا حصل من هذه الأمة؛ فإن منهم من آمن بالسحر، ومنهم من آمن بعبادة غير الله، ومنهم من أطاع العلماء والأمراء في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله؛ فكانوا بذلك متبعين سنن من كان قبلهم؛ وحصل منهم إيمان بالجبت والطاغوت، كما حصل من الأمم قبلهم.
- قال: (وقوله تعالى: {قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت}) وجه الشاهد من هذه الآية: قوله جل وعلا: {وعبد الطاغوت} على هذه القراءة {عَبَدَ الطاغوت}: فإن الطاغوت مفعول {عبد} و{عبد} تكون معطوفة على قوله {لعن} من لعنه الله، إلى أن قال {وعبد الطاغوت} يعني: كأنه قال -بتقديم وتأخير-: من لعنه الله ومن عبد الطاغوت.
وعبادة الطاغوت وقعت في أولئك الملعونين، وبما أن ما وقع في الأمم السالفة بخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- سيقع في هذه الأمة: فإننا نعلم أن في هذه الأمة من سيعبد الطاغوت كما عبدها أولئك.
وعبادة الطاغوت عامة كما ذكرنا، يدخل فيها عبادة الأوثان من عبادة القبور، وتأليه أصحابها والتوسل بهم إلى الله جل وعلا، يعني: الاستشفاع بهم إلى الله جل وعلا، أو طلب الشفاعة منهم، ونحو ذلك من الوسائل الشركية، أو ما هو من الشرك الأكبر.
فحصلت عبادة للأوثان؛ من القبور، ومن المشاهد، ومن الأشجار، ومن الأحجار، ونحو ذلك مما اعتقد فيه الجهلة الذين تركوا دين محمد عليه الصلاة والسلام.
قال: (وقوله تعالى: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً}) قصة أصحاب الكهف معروفة، وهذه الجملة بعض آية من قصة أصحاب الكهف؛ ولما حصل أن جعلهم الله -جل وعلا- آية، ولبثوا في كهفهم ثلاث مائةٍ سنين وازدادوا تسعاً، ثم أحياهم الله جل وعلا، واطَّلع الناس على أنهم مكثوا أحياء هذه المدة الطويلة، وأنهم أماتهم الله ثم أحياهم: اعتقدوا فيهم؛ ولما اعتقدوا فيهم وماتوا: تنازعوا في أمرهم: فمنهم من قال: افعلوا لهم كذا، ابنوا عليهم بنيانا؛ ومنهم من قال: اجعلوا لهم فناءً وداراً وعظموا مكانهم؛ واختلف الناس فيهم في ذلك الزمان.
قال الله جل وعلا: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً}من الذين غلبوا على الأمر؟.
اختلف المفسرون في ذلك:
فقال قائلون: هم المسلمون؛ مسلمو ذلك الزمان، حصل منهم تعظيم لأصحاب الكهف، فقالوا: ابنوا عليهم بنياناً، وقالوا: اتخذوا عليهم مسجداً، تعظيماً لهم ودلالة للناس عليهم.
فإذا كان هذا القول راجحاً، فإنه من وسائل الشرك بالله، ويؤدي إلى عبادة تلك القبور والاعتقاد في أصحاب الكهف؛ وهذا القدر حصل في هذه الأمة.
والقول الثاني: أن الذين غلبوا على أمرهم هم المشركون، يعني: أتباع ذلك الدين لاعتقادهم الجاهلي، ولما في قلوبهم من الشرك والبدع التي خالفوا بها أنبياءهم- قالوا: ابنوا عليهم مسجدا؛ كما قال -جل وعلا- هنا: {قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً}
والقول الثالث: وهو الذي رجحهابن كثير رحمه الله، ورجحه عدد أيضاً من أهل العلم: أن الذين غلبوا على أمرهم: هم الكبراء والأمراء وأصحاب النفوذ فيهم، يعني: الذين كانت لهم الغلبة في الأمر، والذي له الغلبة في الأمر هو من يملك الأمر والنهي في الناس، وهم الكبراء وأصحاب النفوذ، وملوك ذلك الزمان وأمراء ذلك الزمان؛ فأولئك عظموا أولئك الصالحين، وقالوا: (لنتخذن عليهم مسجداً) وقد حصل هذا في تلك الأمة.
وما دام أنه حصل فإنه سيحصل في هذه الأمة، لأنه ما من خصلة من الشرك حصلت في الأمم قبلنا إلا وحصلت في هذه الأمة، حتى ادَّعى بعض هذه الأمة أنه هو الله جل وعلا وأن الله يحل فيه ونحو ذلك، بل قد ادعوا أن روح الإله تتناسخ في أناس معينين كما هو اعتقاد طوائف من الباطنيين ونحو ذلك، وهذا كما قال عليه الصلاة والسلام: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة)).
وهو حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لتتبعن سنن من كان قبلكم)) قوله: ((سَنَنَ)) هذه تروى هكذا ((سَنَن))بفتحتين، فتح السين والنون، وتروى أيضاً سُنَن، والسُّنن جمع سُنَّة، وهي الطريقة، يعني كأنه قال: ((لتتبعن سُنن من كان قبلكم)) يعني طرائق من كان قبلكم، يعني في الدين.
وعلى الضبط الآخر الذي أقرأ به ((لتتبعن سَنَن من كان قبلكم)) السَّنَنُ مفرد، وهو السبيل والطريق، يعني لتتبعن سبيل من كان قبلكم، و(اللام) في قوله: ((لتتبعن)) هي الواقعة في جواب القسم، نفهم من وجود اللام أن النبي صلى الله عليه وسلم أقسم على ذلك، فقال مؤكداً:((والله لتتبعن سَنَن من كان قبلكم)) لأن (اللام) هذه واقعة في جواب القسم، فإذا رأيت اللام هذه المفتوحة فهي الواقعة في جواب القسم، فكأنه بل قد أقسم عليه، والقسم محذوف، واللام واقعة في جوابه.
لم أقسم عليه الصلاة والسلام؟
ليؤكد هذا الأمر تأكيداً عظيماً بأن هذه الأمة ستتبع طريق وسبيل من كان قبلها من الأمم.
وهذا تحذير لأن الأمم السالفة إما أن تكون من أهل الكتاب اليهود والنصارى، وهؤلاء قد وصفهم الله جل وعلا بأنهم مغضوب عليهم وضالون.
فإذا اتخذت سبيلهم سبيلاً في هذه الأمة، معنى ذلك أن هذه الأمة تعرضت للغضب واللعنة، وهذا حصل في هذه الأمة فإن منهم من سلك سبيل اليهود، ومنهم من سلك سبيل النصارى.
ولهذا قال بعض السلف: (من فسد من علمائنا ففيه شبهٌ من اليهود، ومن فسد من عُبَّادنا ففيه شبهٌ من النصارى) لأن اليهود خالفوا على علم، والنصارى خالفت على ضلالة، وقد قال جل وعلا: {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} والمغضوب عليهم: هم اليهود، والضالون: هم النصارى؛ كما فسرها النبي صلى الله عليه وسلم.
قال: ((حذو القذة بالقذة)) يعني: من التساوي، القذة والقذة تكون في السهم، وتكون هذه مساوية لتلك، لا تفرق بين واحدة والأخرى.
فإذا نظرت، في هذه ونظرت في هذه، وجدت أن هذه وهذه متماثلتان لا فرق بينهما، وهذا هو الواقع فإنه في هذه الأمة وقع التماثل، ففي هذه الأمة حصل من مثل ما حصل من الأمم قبلنا:
في:
- أبواب الربوبية.

- وفي أبواب الإلهية.

- وفي الأسماء والصفات.
- وكذلك في العمل.

- وكذلك في السلوك.

- وكذلك في أفعال الله جل وعلا.
فكل شيء كان فيمن قبلنا جاء في ووقع، في هذه الأمة، نسأل الله جل وعلا السلامة والعافية.
قال النبي عليه الصلاة والسلام:

((حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)).

قالوا يا رسول الله: اليهود والنصارى.

قال:((فمن؟)) أخرجاه)، يعني: البخاري ومسلم.
وجه الدلالة من هذا الحديث ظاهرة،

بل عماد هذا الباب على هذا الحديث: مِنْ أَنَّ كُلَّ كُفْرٍ وشركٍ وقع في الأمم السالفة؛ فسيقع في هذه الأمة؛ الأمم السالفة عبدت الأوثان وكفرت بالله جل وعلا، فسيقع في هذه الأمة:
-

من يعبد الأوثان.

- ومن يكفر بالله جل وعلا:

- في الربوبية.
- وفي الإلهية.
- وفي الأسماء والصفات.
- وفي أفعال الله جل وعلا.
- وفي الحكم والتحاكم.
وهكذا في أنواع كثيرة مما حصل فيمن قبلنا، حتى في أمور السلوك والبدع؛ بل حتى في أمور الأخلاق والعادات التي قد تتصل بالدين؛ فإنه سلكت هذه الأمة مسلك الأمم قبلها، مخالفةً نهي النبي صلى الله عليه وسلم.
قال بعد ذلك: (ولمسلم عن ثوبان -رضي الله عنه- وساق الحديث) حديث ثوبان، وهو حديث طويل.
ووجه الشاهد منه: قوله عليه الصلاة والسلام: ((وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)) والأئمة المضلون: هم الذين اتخذهم الناس أئمة؛ قد يكون من جهة الدين، وقد يكون من جهة الولاية، يعني: ولاية الحكم؛ والأئمة المضلون يملكون زمام الناس، فيضلون الناس بالبدع وبالشركيات، ويحسنونها لهم حتى تغدو في أعينهم حقّاً.
وكذلك أصحاب النفوذ، وأصحاب الحكم: فإنهم إذا كانوا مضلين، فإن بيدهم الأمر الذي يجعلهم يفرضون على الناس أشياء، ويلزمونهم بأشياء مضادة لشرع محمد صلى الله عليه وسلم:
-

من أمور العقيدة والتوحيد.

- ومن أمور السلوك والعمل.

- ومن أمور الحكم والتحاكم، وهكذا وقع في هذه الأمة.
وخوف النبي -عليه الصلاة والسلام- من الأئمة المضلين: وقع ما خاف منه عليه الصلاة والسلام، فكثر الأئمة المضلون في الأمة، الأئمة المضلون من جهة الاتباع، والأئمة المضلون من جهة الطاعة.
قال: ((وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة؛ ولا تقوم الساعة حتى يلحق حيّ من أمتي بالمشركين، وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان)) هذا نص صحيح من رواية البرقاني في (صحيحه)، قال: ((حتى يلحق حيٌّ من أمتي بالمشركين)) يلحقوا بالمشركين: هل هو من جهة ترك بلاد المسلمين والذهاب إلى أرض المشركين؛ أم يلحقوا بالمشركين في الصفات الخصال؟
يحتمل هذا وهذا.
((حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين)) يعني: من جهة ترك بلاد الإسلام، والذهاب إلى بلاد المشركين رضاً بهم وبدينهم: أو حتى يلحق حيّ من أمتي بالمشركين من جهة الصفات، فيشركون كما أشرك المشركون: ويرتدوا على أدبارهم.
قال: ((وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان))الفئام: هي الجماعات الكبيرة، قال: ((وحتى تعبد فئام من أمتي الأوثان)) وهذا ظاهر المناسبة للباب، في قول الشيخ -رحمه الله- في الباب: (باب ما جاء أن بعض هذه الأمة يعبد الأوثان) إلى أن قال -عليه الصلاة والسلام- في هذا الحديث: (((ولا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة ، لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله تبارك وتعالى))((لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة)).
-

هذه الطائفة المنصورة: هي التي قال فيها -عليه الصلاة والسلام- في حديث آخر: ((ولا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)).

- وهي التي قال فيها -عليه الصلاة والسلام-: ((وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة، كلها في النار إلا واحدة)) وهي الجماعة.

فالطائفة المنصورة: هي الفرقة الناجية، وهي الجماعة بجمع أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام.
وسميت ((منصورة)) لأن الله -جل وعلا- نصرها على من ناوأها بالحجة والبيان، نصرها الذي وعدت به ليس نصراً بالسنان، ولكنه نصر بالحجة والبيان؛ فهم وإن هزموا في بعض المعارك أو أديلت دولتهم في بعض الأحيان: فهم الظاهرون على من سواهم بالحجة والبيان، وهم المنصورون بما أعطاهم الله -جل وعلا- من الحجة والنصوص والصواب والحق على من سواهم؛ فهم على الحق وسواهم على الباطل.
هذان اللفظان: فرقة ناجية وطائفة منصورة، اسمان لشيء واحد؛ وإنما هو من باب تنوع الصفات، فقال عنها الطائفة المنصورة هنا: ((لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة))لأنها موعودة بالنصر.
-

كما قال جل وعلا: {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد} فهم منصورون.

- كما قال أيضاً: {ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين إنهم لهم المنصورون وإن جندنا لهم الغالبون} فقولهم: هو المنصور، وهو الظاهر، وحجتهم هي الظاهرة.

وقد يكون أيضاً لهم من النصر والتمكين في أرض الله

ما أعطاهم الله -جل وعلا- من ذلك.

وهم أيضاً الفرقة الناجية التي جاءت في حديث الافتراق، ناجية: يعني: موعودة بالنجاة من النار؛ فهم موصوفون بالنصر، وموصوفون بالنجاة، بالنجاة من النار، وموصوفون بالنصر على عدوهم بالحجة والبيان، وقد يكون مع ذلك نصر بالسيف والسنان ونحو ذلك.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

27 Oct 2008

العناصر


شرح ترجمة الباب (ما جاء في هذه الأمة...)
- بيان سبب إيراد المصنف لهذا الباب
- مناسبة باب (ما جاء أن بعض هذه الأمة...) لما قبله
- ذكر شبهة من قال إن الشرك الأكبر لا يقع في جزيرة العرب
- الجواب عن هذه الشبهة
تفسير قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب...) الآية
- مناسبة قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً..) للباب
- سبب نزول قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً..) الآية
- معنى قوله: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً من الكتاب)
- معنى (الجبت) في قوله: (يؤمنون بالجبت والطاغوت)
- معنى الطاغوت في قوله تعالى: (يؤمنون بالجبت والطاغوت)
- شرح تعريف ابن القيم للطاغوت
- معنى الإيمان بالجبت والطاغوت
- بعض ما يستفاد من قوله تعالى: (ألم تر إلى الذين أوتوا نصيباً)
تفسير قوله تعالى: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك...) الآية
- معنى قوله: (قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه)
- المراد بقوله: (وجعل منهم القردة والخنازير)، وبيان أنه ليس للممسوخين ذرية
- معنى قوله: (وعبد الطاغوت)، والقراءات فيها، وما يترتب على ذلك من المعنى
- معنى قوله: (أولئك شر مكاناً وأضل عن سواء السبيل)
معنى قوله: (قال الذين غلبوا على أمرهم لنتخذن عليهم مسجداً)
- بيان أقوال المفسرين في قوله تعالى: (الذين غلبوا على أمرهم)
- بيان مناسبة الآية للترجمة
شرح حديث أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: (لتتبعن سنن من كان قبلكم ...) الحديث
- تخريج حديث أبي سعيد
- مناسبة حديث أبي سعيد (لتتبعن..) للباب
- معنى قوله: (لتتبعن سنن من كان قبلكم)
- بيان معنى قوله: (حذو القذة بالقذة)، وما يستفاد منه
- بيان معنى قوله: (حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه)
- معنى قولهم: (يا رسول الله، اليهود والنصارى؟..)، وعدم منافاة ذلك لرواية أبي هريرة: (فارس والروم)
- بيان وجه الشاهد من حديث أبي سعيد الخدري رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
- بيان الحكمة من ابتلاء هذه الأمة باتباع سَنَن السابقين
شرح حديث ثوبان رضي الله عنه: (إن الله زوى لي الأرض ...) الحديث
- تخريج حديث ثوبان
- ذكر حديث ثوبان بتمامه كما رواه أبو داود، وذكر شواهد له
- ترجمة ثوبان رضي الله عنه
- بيان معنى قوله: (زوى لي الأرض)
- إشكال في كيفية زوي الأرض للنبي صلى الله عليه وسلم، وجوابه
- في قوله: (وإن أمتي سيبلغ ملكها ما زوي لي منها) علم من أعلام نبوة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم
- المراد بقوله: (وأعطيت الكنزين؛ الأحمر، والأبيض)
- معنى قوله: (إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد...) الحديث، وأنواع قضاء الله تعالى
- لا يلزم من ترتب الحكمة على أفعال الله تعالى أن يعلمها العباد
- معنى قوله: (بسنة بعامة)
- معنى قوله: (من سوى أنفسهم فيستبيح بيضتهم)
- معنى قوله: (حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً...)، وذكر شيء من تصديق ذلك
شرح رواية البرقاني لحديث ثوبان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
- ترجمة البرقاني
- معنى قوله: (وإنما أخاف على أمتي الأئمة المضلين)، ونظائره
- الفرق بين أئمة المتقين والضالين، وذكر بعض الآثار في ذلك
- معنى قوله: (وإذا وقع عليهم السيف لم يرفع إلى يوم القيامة)
- معنى قوله: (ولا تقوم الساعة حتى يلحق حي من أمتي بالمشركين..)، ونظائره من السنة
- بيان تعريف الوثن والفرق بينه وبين الصنم
- بيان المراد بقوله: (وإنه سيكون في أمتي كذابون ثلاثون..)، وذكر بعض هؤلاء الكذابين
- معنى قوله: (وأنا خاتم النبيين)، وذكر بعض نظائره
- المراد بالطائفة في قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق منصورة)
- في قوله: (لا تزال طائفة من أمتي على الحق) دليل على حجية الإجماع
- معنى قوله: (لا يضرهم من خذلهم، ولا من خالفهم)
- الفرقة الناجية هي الطائفة المنصورة
- ذكر الخلاف في محل الطائفة المنصورة وبيان الصواب في هذه المسألة
- المراد بأمر الله في قوله: (حتى يأتي أمر الله)
- أنواع البركة، وبيان معنى (تبارك وتعالى)
- بيان وجه الشاهد من حديث ثوبان رَضِيَ اللهُ عَنْهُ
- ذكر علامات النبوة الواردة في حديث ثوبان

شرح مسائل الباب