20 Jul 2019
الدرس الحادي عشر: الصبر والشكر
تمهيد
الصبر والشكر عملان جليلان من أعمال القلوب، وقد جمعهما الله تعالى في مواضع من كتابه الكريم فقال تعالى في أربعة مواضع: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33)}. وقد استنبط بعض أهل العلم أنّ الإيمان نصفه صبر، ونصفه شكر؛ فمن استكملهما فقد استكمل الإيمان.
- قال أبو ظَبيان حصين بن جندب الكوفي: كنا نعرض المصاحف عند علقمة فقرأ هذه الآية: [إن في ذلك لآيات للموقنين] فقال: قال عبد الله [بن مسعود]: « اليقين الإيمان كله » ، وقرأ هذه الآية: {إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور} قال: فقال عبد الله: « الصبر نصف الإيمان »).
رواه الحاكم في المستدرك والسياق له، وإسناده صحيح، وقد رواه مختصراً وكيع
في الزهد وعبد الله بن الإمام أحمد في كتاب السنة والطبراني في المعجم
الكبير كلهم من طريق الأعمش عن أبي ظبيان عن علقمة عن ابن مسعود قال:« الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله».
- وقال مغيرة بن مقسم الضبي: (الصبر نصف الإيمان، والشكر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله، ألم تر إلى قوله: {إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ لكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}، [إنَّ فِي ذلكَ لآياتٍ للْمُوقِنينَ]، {إنَّ فِي ذلكَ لآيَةً للْمُؤْمِنينَ}). رواه ابن جرير.
وقوله:
[إن في ذلك لآيات للموقنين ] هكذا في مستدرك الحاكم وتفسير ابن جرير
وتفسير ابن أبي حاتم، وهي ليست فيما بين أيدينا من المصاحف العثمانية،
لكنّها رويت عن ثلاثة من السلف: ابن مسعود ومغيرة بن مقسم والعلاء بن يزيد؛
فإن لم يكن ذلك وهم من بعض الرواة فربما كانت في بعض المصاحف القديمة مما
تركت القراءة به من الأحرف الأخرى، والذي في مصاحفنا قوله تعالى: {وفي
الأرض آيات للموقنين}.
والمقصود أنّ المؤمن لا
يكاد ينفكّ عن صبر وشكر، وذلك أنّه لا يخلو من أمرٍ يُؤمر به حالاً أو
استصحاباً، أو نهي يُنهى عنه حالاً أو استصحاباً، أو قدرٍ يُقدّر عليه من
سرَّاء أو ضرَّاء، وهذه الأحوال تستغرق حياته كلّها؛ فهو يتقلّب فيها بين
الصبر والشكر.
- وقال صهيب الرومي رضي الله عنه: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «
عجبا لأمر المؤمن!! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته
سراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء، صبر فكان خيرا له» رواه أحمد ومسلم من حديث سليمان بن المغيرة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (فهذا
الحديث يعم جميع أقضيته لعبده المؤمن، وأنها خير له إذا صبر على مكروهها
وشكر لمحبوبها، بل هذا داخل في مسمى الإيمان كما قال بعض السلف: "الإيمان
نصفان نصف صبر ونصف شكر" لقوله تعالى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ، وإذا اعتبر العبد الدين كله رآه يرجع بجملته إلى الصبر والشكر)ا.هـ.
الصبر
· معنى الصبر:
الصبر معناه معلوم مستقرّ في
النفوس، ولا يفسّر بأوضح من لفظه، وهو عمل قلبي، ولذلك اختلفت مسالك
العلماء في شرحه وتفسير معناه، فمنهم من فسّره بمعرفة نقيضه كما قال الخليل
بن أحمد: الصبر نقيض الجزع.
ومنهم من فسّر الصبر بأثره وثمرته كما قال أبو عبيد: (أصل الصَّبر الحَبْس، وكل من حَبَسَ شيئا فقد صبره).
وقريب منه قول أبي حيان: (الصبر حبس النفس على المكروه).
وشيخ الإسلام ابن تيمية وسّع النظر في حقيقته وأثره فقال: (الصبر فيه جمع وإمساك ولهذا قيل: الصبر حبس النفس عن الجزع).
أي: جَمع النفس على احتمال المشقة، وإمساكها عن الجزع.
ومنهم من فسّره ببيان أنواعه وأثره المطلوب شرعاً كما قال ابن القيّم رحمه الله: (الصبر هو حبس النفس عن محارم الله، وحبسها على فرائضه، وحبسها عن التسخط والشكاية لأقداره).
وقال الراغب الأصفهاني: (الصبر: الإمساك في ضيق).
وقال: (والصبر: حبس
النفس على ما يقتضيه العقل والشرع، أو عما يقتضيان حبسها عنه، فالصبر لفظ
عام، وربما خولف بين أسمائه بحسب اختلاف مواقعه، فإن كان حبس النفس لمصيبة
سمي صبرا لا غير، ويضاده الجزع، وإن كان في محاربة سمي شجاعة، ويضاده
الجبن، وإن كان في نائبة مضجرة سمي رحب الصدر، ويضاده الضجر، وإن كان في
إمساك الكلام سمي كتمانا، ويضاده المَذْل، وقد سمى الله تعالى كل ذلك صبرا،
ونبه عليه بقوله: {والصابرين في البأساء والضراء}).
هذا كلامه في المفردات فيما وقفت عليه، وقد نقله الحافظ ابن حجر في الفتح باختصار وزاد فيه: (وإن كان عن تعاطي ما نهي عنه سمي عفة).
وهذا كلّه يصدق عليه وصف الصبر متى وجد عمل للقلب يدلّ على هذا الصبر بالإمساك عمّا نهي عنه.
وأما الترك المجرد أو الذي سببه غفلة القلب عن الوارد فلا يُعدّ من الصبر حقيقة، إلا إذا كان مستصحباً من صبر أصلي.
وقال الحافظ ابن حجر: (أحسن ما وصف به الصبر أنه حبس النفس عن المكروه، وعقل اللسان عن الشكوى، والمكابدة في تحمله وانتظار الفرج).
وهذا تعريف أبي العباس ابن العريف
الصنهاجي(ت:536هـ) في كتابه "محاسن المجالس"، وهو مطبوع، وقد نقله عنه ابن
القيم في طريق الهجرتين وتعقّبه، وهو على ذلك تعريف للصبر بأشهر أنواعه عند
العامة وهو الصبر على البلاء.
وبحث ابن القيّم رحمه الله في كتابه "عدة الصابرين" اشتقاق هذه اللفظة في اللغة ومعانيها في مشتقّاتها ثم قال:
(والتحقيق أن في الصبر المعاني الثلاثة المنع والشدة والضم ويقال صبر إذا
أتى بالصبر وتصبر إذا تكلفه واستدعاه واصطبر إذا اكتسبه وتعمله وصابر إذا
وقف خصمه في مقام الصبر وصبر نفسه وغيره بالتشديد إذا حملها على الصبر)ا.هـ.
والصبر يتفاضل فيه أهله؛ فبعضهم أصبر من بعض، ويقال: صابر، وصبور، وصبّار، ومتصبّر، ومصطبر، ومصابر.
· منزلة الصبر:
للصبر منزلة عالية في الدين ، وفضائله الكثيرة تدلّ على عظيم منزلته، ويكفي دلالة على ذلك كثرة ذكره في القرآن.
قال الإمام أحمد رحمه الله: (ذكر الله سبحانه الصبر في القرآن في تسعين موضعا).
وقد أحسن ابن القيم رحمه الله في كتابه عدة الصابرين في ذكر هذه المواضع وتصنيفها تصنيفاً حسناً فليراجعه من أراد الاستزادة.
قال الله تعالى: {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ} وقال: {وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ}.
والصبر إذا اجتمع مع اليقين كان سبباً لنيل الإمامة في الدين كما قال الله تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.
وقال الله تعالى:
{وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا
بِالصَّبْرِ (3)}
فبيّن الله في هذه السورة
العظيمة أنه لا نجاة للإنسان من الخسران إلا بهذه الأمور الأربعة المذكورة
فيها: الإيمان، والعمل الصالح، والتواصي بالحق، والتواصي بالصبر.
وهذه الأمور الأربعة مترتبة بعضها على بعض؛ فالإيمان أساس العمل الصالح، فلا يصلح العمل إلا بالإيمان، والعمل الصالح من الإيمان.
والتواصي بالحق من الأعمال الصالحة، وخُص بالذكر لأهميته.
والتواصي بالصبر هو أيضاً من هو من التواصي بالحق.
فصارت مرتبة الإيمان هي الأصل وينبني عليها العمل الصالح وينبي عليهما التواصي بالحق وينبي على ذلك كله التواصي بالصبر.
فصار الصبر بمنزلة الرأس من الجسد، وقد روي عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال: «الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد، فإذا ذهب الصبر ذهب الإيمان» رواه
ابن أبي شيبة في المصنف والبيهقي في شعب الإيمان من طريق عمرو بن قيس عن
أبي إسحاق السبيعي عن علي، ورجاله ثقات لكنّه منقطع؛ فأبو إسحاق السبيعي لم
يدرك علياً، وقد يكون الواسطة بينهما الحارث الأعور، وكان أبو إسحاق
السبيعي قد تزوَّج امرأته بعد وفاته وقرأ كتبه، ويؤيّد هذا الاحتمال أنّ
هذا الخبر رواه الزبير بن عديّ قاضي مرو عن الحارث الأعور عن عليّ، والحارث
متروك الحديث.
لكن لهذا الخبر طريق آخر فقد
رواه ابن أبي عمر في الإيمان وابن أبي الدنيا في كتاب الصبر من طريق السرّي
بن إسماعيل عن الشعبي عن علي، لكن السريّ متروك الحديث أيضاً، وفي رواية
الشعبي عن عليّ خلاف.
ورواه وكيع في الزهد عن أبي جعفر الرازي عن رجل يقال له عمر عن محمد بن علي عن أبيه.
والمقصود أنّ هذا الأثر لا يثبت عن عليّ من طريق صحيح متّصل، وإن كان معناه له وجه صحيح.
وقد روي أيضاً من حديث أنس موقوفاً ومرفوعاً ولا يصح.
وقد ورد في فضل الصبر أحاديث كثيرة منها:
1. حديث أبي مالك الأشعري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والصبر ضياء)
رواه أحمد ومسلم والترمذي من طريق أبان بن يزيد العطار عن يحيى بن أبي
كثير عن زيد بن سلام، عن جده أبي سلام ممطور الحبشي عن أبي مالك الأشعري،
وله طرق أخرى.
2.
وحديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنَّ ناساً من الأنصار سألوا رسول الله
صلى الله عليه وسلم فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، ثم سألوه فأعطاهم، حتى نفد
ما عنده، فقال: « ما يكون عندي من خير فلن أدخره عنكم،
ومن يستعفف يعفّه الله، ومن يستغن يغنه الله، ومن يتصبَّر يصبره الله، وما
أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر» رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث ابن شهاب الزهري عن عطاء بن يزيد الليثي عن أبي سعيد.
- وقد تقدّم قول عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: ((الصبر نصف الإيمان، واليقين الإيمان كله)).
· أنواع الصبر:
والصبر على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: الصبر على طاعة الله
- قال الله تعالى: {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}.
- وقال تعالى: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}.
والنوع الثاني: الصبر عن معصية الله، بأن
يحبس نفسه عنها، وينهاها عن الهوى، وكل من أمسك عن معصية عند وجود الداعي
لها من هوى النفس أو وسوسة الشيطان أو غير ذلك فقد صبر عنها، وقد ذكر ابن
القيم رحمه الله في كتابه طريق الهجرتين عشرة أسباب تعين على الصبر عن
المعصية، هذا تلخيصها:
1: العلم بقبح الذنب، وأنه شر في نفسه.
2: الحياء من الله.
3: قصد المحافظة على نعم الله، فإن المعاصي تزيل النعم.
4: خوف الله تعالى وخشية عقابه.
5: محبة الله تعالى فإن المحب الصادق لا يعصي من أحب.
6: المحافظة على شرف النفس وزكائها وطهارتها لأن المعصية تدنسها.
7: قوة العلم بسوء عاقبة المعصية وقبح أثرها.
8: قصر الأمل واليقين بسرعة انقضاء الحياة.
9: مجانبة الفضول في الطعام والشراب والنوم والمخالطة وغيرها وترك ما لا يعني المرء.
10: قال :
(هو الجامع لهذه الأسباب كلها ثبات شجرة الإيمان في القلب فصبر العبد عن
المعاصي إنما هو بحسب قوة إيمانه فكلما كان إيمانه أقوى كان صبره أتم وإذا
ضعف الإيمان ضعف الصبر فإن من باشر قلبه الإيمان بقيام الله عليه ورؤيته له
وتحريمه لما حرم عليه وبغضه له ومقته لفاعله وباشر قلبه الإيمان بالثواب
والعقاب والجنة والنار امتنع من أن لا يعمل بموجب هذا العلم).
والنوع الثالث: الصبر على المصائب المقدرة على العبد بغير اختياره
- قال الله تعالى: {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ
بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ
وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا
أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ
رَاجِعُونَ * أُولَٰئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ
وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ}.
- قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وهي نوعان:
1. نوع لا اختيار للخلق فيه، كالأمراض وغيرها من المصائب السماوية، فهذه
يسهل الصبر فيها، لأن العبد يشهد فيها قضاء الله وقدره، وإنه لا مدخل للناس
فيها، فيصبر إما اضطرارا، وإما اختيارا، فإن فتح الله على قلبه باب الفكرة
في فوائدها وما في حشوها من النعم والألطاف انتقل من الصبر عليها إلى
الشكر والرضا بها، فانقلبت حينئذ في حقه نعمة، فلا يزال هجيرى قلبه ولسانه:
رب أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، وهذا يقوى ويضعف بحسب قوة محبة العبد
لله وضعفها، بل هذا يجده أحدنا في الشاهد كما قال الشاعر يخاطب محبوبا له
ناله ببعض ما يكره:
لئن ساءني أن نِلتِنِي بمساءة ... لقد سرني أني خطرت ببالِكِ
2. النوع الثاني: أن يحصل له بفعل الناس في ماله أو عرضه أو نفسه.
فهذا النوع يصعب الصبر عليه جداً، لأن النفس تستشعر المؤذي لها، وهي تكره الغلبة، فتطلب الانتقام).
قال: (وهذا النوع من الصبر عاقبته النصر والعز والسرور والأمن والقوة في
ذات الله، وزيادة محبة الله ومحبة الناس له وزيادة العلم، ولهذا قال الله
تعالى: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا
صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ} فبالصبر واليقين تُنال الإمامة
في الدين، فإذا انضاف إلى هذا الصبر قوة اليقين والإيمان ترقى العبد في
درجات السعادة بفضل الله، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل
العظيم)ا.هـ.
والمسلم مأمور بالصبر فيه بهذه الأنواع كلِّها، وقد اجتمعت أنواع الصبر كلها في قوله تعالى: {وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} فحكم الله تعالى إما كوني وإما شرعي.
فالحكم الكوني هو القضاء والقدر، والصبر عليه يراد به الصبر على المصائب المقدرة.
والحكم الشرعي هو الأمر والنهي: فامتثال الأمر هو فعل الطاعات، واجتناب النهي هو ترك المعاصي.
والصبر عن المعاصي أفضل من الصبر على المصائب، لأن المعاصي تكون باختيار العبد، والمصائب لا اختيار له فيها.
· حكم الصبر:
معرفة أنواع الصبر تفيد في بيان حكمه:
1: فالصبر على الطاعات الواجبة واجب، كالصبر على أداء الصلاة المفروضة {وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا}، وأما الصبر على الطاعات المستحبة فهو مستحب، يثاب عليه فاعله، ولا يأثم تاركه.
2: والصبر عن فعل المعاصي واجب، ويتأكد وجوبه في الصبر عن إتيان الكبائر، وأما الصبر عن المكروهات فهو مستحب، يثاب عليه فاعله، ولا يأثم تاركه.
3: وأما الصبر على المصائب المقدرة فهو واجب بحيث لا يجزع ولا يتسخط على الله،
وأما الرضا بالمصيبة فهو مستحب على الصحيح، ولا يناله إلا أصحاب البصائر
وأولوا الألباب لأنهم يدركون أن ما يقضيه الله تعالى للمؤمن خير له وأحسن
عاقبة إذا اتقى الله واتبع رضوانه.
وحزن القلب ودمع العين والتأذي الطبيعي من المصيبة ليس من الجزع إذا كان القلب مؤمناً بقضاء الله مسلماً لأمره.
والقدر الواجب من الصبر في هذه الأنواع متفق عليه بين أهل العلم، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (ولهذا
كان الصبر واجبا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات وترك المحظورات ويدخل
في ذلك الصبر على المصائب عن أن يجزع فيها، والصبر عن اتباع أهواء النفس
فيما نهى الله عنه).
وقال ابن القيم رحمه الله: (الصبر الواجب ثلاثة أنواع:
- أحدها: الصبر عن المحرمات.
- والثاني:الصبر على أداء الواجبات.
- والثالث: الصبر على المصائب التي لا صنع للعبد فيها كالأمراض والفقر وغيرها.
وأما الصبر المندوب فهو الصبر عن المكروهات والصبر على المستحبات والصبر على مقابلة الجاني بمثل فعله).
ومما ينبغي أن يُعلم أن الرضا بالمصيبة قدر زائد على الصبر؛ وقد اختلف في حكمه على قولين: واجب ومستحب.
وللرضا بعد القضاء سببان:
أحدهما: اليقين بأن الله مستحق للرضا في جميع الأحوال، وهذا رضا المحبة.
والآخر: الرضا لعلم العبد بأن ما أصابه من قضاء الله هو خير له، وهذا رضا حسن الظن بالله والتصديق بوعده.
ومن ثواب الرضا عن الله أن يرضي الله عبده، والله عليم بما يرضي عبده.
· صبر النبي صلى الله عليه وسلم:
كان النبي صلى الله عليه وسلم عظيم الصبر، وقد قال الله تعالى له: {فاصبر كما صبر أولوا العزم من الرسل}
فصبر صبراً عظيماً حتى كان خير الرسل صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين.
فصبر على طاعة الله وتبليغ رسالته واحتمال ما
يلقى من أذى قومه، ودأب في طاعة ربّه ليلاً ونهاراً، يدعو قومه ويصبر على
أذاهم وما يلقى منهم، ويقوم الليل حتى كان ربما قرأ في الليلة بالسبع
الطوال، ويقرأ القرآن آناء الليل وأطراف النهار، وكان كثير الصيام، كثير
الصدقة، عظيم الجود حتى وُصف أنه أسرع بالخير من الريح المرسلة، وكان كثير
الذكر لله عزّ وجلّ، وربمّا استغفر في المجلس الواحد مائة مرة، وكان أشجع
الناس لا يخشى في الله لومة لائم، وإذا اشتدّ القتال وحمي الوطيس كان في
مقدّمة أصحابه في وجاه العدوّ، فجمع أنواع الصبر على الطاعات، وكان هديه
فيها أحسن الهدي، وهذا صبر على الطاعات عظيم.
وعرض عليه قومه أفضل ما يُرغب فيه من متاع
الدنيا على أن يترك دعوتهم إلى الإسلام فلم يتركها، وكان أشدّ الناس
تعظيماً لحرمات الله، واجتناباً لمعاصيه.
وابتلي ببلايا شديدة فصبر عليها أحسن الصبر وأجمله.
- قال عاصم بن أبي النجود: سمعت مصعب بن سعد
يحدث عن أبيه سعد بن أبي وقاص قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي
الناس أشد بلاء؟
فقال: ((الأنبياء، ثم
الأمثل فالأمثل، فيبتلى الرجل علي حسب دينه، فإن كان رقيق الدين ابتلي على
حسب ذاك، وإن كان صلب الدين ابتلي على حسب ذاك)).
قال: ((فما تزال البلايا بالرجل حتى يمشي في الأرض وما عليه خطيئة)).
رواه أحمد والدارمي وابن ماجه والترمذي والنسائي في الكبرى وغيرهم، وبوّب
البخاري في صحيحه (باب أشد الناس بلاء الأنبياء، ثم الأمثل فالأمثل).
- وقال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: دخلت
على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يوعك، فمسسته بيدي، فقلت: يا رسول
الله إنك لتوعك وعكا شديدا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل إني أوعك كما يوعك رجلان منكم».
قال: فقلت: ذلك أن لك أجرين.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أجل»
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من مسلم يصيبه أذى من مرض، فما سواه إلا حط الله به سيئاته، كما تحط الشجرة ورقها» رواه أحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من حديث الأعمش، عن إبراهيم التيمي، عن الحارث بن سويد عن ابن مسعود.
والمقصود أنّ النبي صلى الله عليه وسلم كان إمام الصابرين، وأنّه وفّى مقامات الصبر، وكان هديه فيها أحسن الهدي.
· عناية السلف الصالح رضي الله عنهم بالصبر
أدرك السلف الصالح منزلة الصبر من الدين؛ فكانوا أئمة يُقتدى بهم في الصبر على الطاعات، والصبر عن المعاصي، والصبر على البلاء.
1. فكان
منهم العلماء والعُبَّاد الذين بلغوا في أبواب العبادات مبالغ عظيمة لا
تنال إلا بصبر عظيم، وأخبارهم في ذكر صبرهم في الدعوة إلى الله، والجهاد في
سبيله، وتعلّم العلم وتعليمه، والصيام والقيام والصدقات وسائر أبواب
الطاعات أخبار كثيرة مشهورة.
2. وكان منهم أئمة ابتلوا بألوانٍ من الفتن المزيّنة للمعاصي فكفّوا أنفسهم عنها وصبروا صبراً عظيماً حتى نجوا وسلموا.
3. وكان
منهم من ابتلي بألوان من المصائب في الأنفس والأولاد والأموال فصبروا صبراً
جميلاً حتى غدت أخبارُ صبرهم تُذكر فيؤتسى بها، ويَتعزّى بها من أصيب بمثل
مصابهم أو قريب منه.
ولولا خشية الإطالة لذكرت أخباراً كثيرة في كلّ نوع من هذه الأنواع.
ولكن المقصود أنّ الصبر عمل من أعمال القلوب،
وله أنواع، وأحسن الهدي فيه هدي النبي صلى الله عليه وسلم، ثم أمثل الأمّة
في الأخذ بالصبر الجميل المحمود هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ثمّ
التابعون لهم بإحسان، والأئمة الأعلام من بعدهم.
فأخبار صبرهم تقوّي العزيمة، وتثبّت المبتلى، وتبيّن له السبيل إلى الصبر الجميل وما يُعين عليه.
فهذا عمران بن الحصين رضي الله عنه؛ بعثه عمر
بن الخطاب رضي الله عنه معلّماً لأهل البصرة يفقّههم في الدين وكان قاضي
البصرة ثمّ إنه أصيب بداء في بطنه حتى جعل له سرير منقوب ثلاثين سنة؛ فصبر
صبراً جميلاً حتى كانت الملائكة تسلّم عليه.
- قال مطرف بن عبد الله بن الشخير: أتيت عمران بن حصين يومًا، فقلت: والله إني لأدع إتيانك لما أراك فيه ولما أراك تلقى.
فقال: (لا تفعل، فوالله إنَّ أحبَّه إلي أحبُّه إلى ربي). رواه ابن المبارك في الزهد عن جرير بن حازم قال: سمعت حميد بن هلال قال: حدثني مطرف فذكره.
وقال جرير بن حازم: (كان سقى بطنه فمكث على سرير منقوب ثلاثين سنة).
وفي صحيح مسلم من طريق شعبة عن حميد بن هلال عن مطرف عن عمران بن الحصين أنه قال له: « وقد كان يُسَلَّم عليَّ حتى اكتويت، فتُركت، ثم تركت الكي فعاد».
ورواه الإمام أحمد في الزهد من طريق جرير بن حازم قال: سمعت حميد بن هلال، يحدث عن مطرف قال: قال عمران بن حصين رحمه الله: (أشعرتَ أنه كان يُسَلَّم عليَّ فلما اكتويت انقطع التسليم)
فقلت له: (من قبل رأسك كان يأتيك التسليم أم من قبل رجليك؟).
فقال: (لا، بل من قبل رأسي).
قلت: فإني لا أرى أن تموت حتى يعود ذلك، فلما كان بعد قال: (أشعرت أن التسليم عاد لي) ثم لم يلبث إلا يسيراً حتى مات.
- وقال داود القطان: أصاب الربيعَ بن خثيم الفالجُ؛ فكان بكر بن ماعز يقوم عليه ويدهنه ويفلي رأسه ويغسله.
قال: فبينا هو ذات يوم يغسل رأس الربيع إذا سال لعاب الربيع؛ فبكى بكرٌ فرفع الربيع رأسه إليه؛ فقال له: (ما يبكيك؟ فوالله ما أحبُّ أنه بأعتى أهل الديلم على الله). رواه ابن سعد في الطبقات وابن المبارك في الزهد، وهناد بن السري في الزهد.
- وقال مصعب بن عثمان: (كان
سليمان بن يسار من أحسنِ الناس وجهاً؛ فدخلت عليه امرأة تستفتيه فسامته
نفسه؛ فامتنع عليها وذكَّرها؛ فقالت له: لئن لم تفعل لأشهرنك ولأصيحنَّ
بك).
قال: (فخرج وتركها في بيته؛ فرأى في منامه يوسف النبي عليه السلام؛ فقال له: أنت يوسف). رواه ابن أبي خيثمة.
وهذا عبد الله بن إدريس الأودي(ت:192هـ) وكان
إماما فقيهاً محدّثاً قارئاً حتى عدّه الكسائي أقرأ أهل زمانه لمّا سأله
هارون الرشيد عن القراء، وعرض عليه القضاء فأبى أشدّ الإباء.
- قال حسين بن عمرو العنقزي: لما نزل بابن إدريس الموت، بكت ابنته، فقال: (لا تبكي فقد ختمت القرآن في هذا البيت أربعة آلاف ختمة). رواه الخطيب البغدادي.
وكتب التفسير المسندة مليئة من مروياته.
- وهذا الربيع بن أنس البكري تلميذ أبي
العالية الرياحي وصاحب المرويات الكثيرة في كتب التفسير المسندة حُبس
ظُلماً سنوات طويلة، قيل: ثلاثين سنة، وقيل: تسع سنين.
والمقصود من ذكر هذه الأخبار التمثيل لبعض ما روي عنهم في أنواع الصبر الثلاثة.
· ما لا يقدح في الصبر
الصبر ينقضه الجزع والتسخّط، وأمّا ما يصنعه
المرء مما لا تسخّط فيه ولا جزع؛ فلا يقدح في الصبر، ومن ذلك أن يحزن قلبه
لما يصيبه، أو تدمع عينه، أو يتوجّع من ألمٍ يصيبه؛ أو يقول: وارأساه ،
واظهراه، ونحو ذلك مما يقوله المتألم.
- قالت عائشة رضي الله عنها: رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من جنازة، وأنا أجد صداعا في رأسي وأنا أقول: وارأساه قال: « بل أنا وارأساه ». رواه النسائي في الكبرى وأصله في الصحيحين.
- وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: أخذ رسول
الله صلى الله عليه وسلم إبراهيم، فقبَّله، وشمه، ثم دخلنا عليه بعد ذلك
وإبراهيم يجود بنفسه، فجعلت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم تذرفان،
فقال له عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه: وأنت يا رسول الله؟
فقال: «يا ابن عوف إنها رحمة»، ثم أتبعها بأخرى، فقال صلى الله عليه وسلم: « إن العين تدمع، والقلب يحزن، ولا نقول إلا ما يرضى ربنا، وإنا بفراقك يا إبراهيم لمحزونون». رواه البخاري.
· حاجة السالك إلى الصبر:
لا ينفكّ السالك من حاجة إلى الصبر؛ فهو بين
طاعات يصبر نفسه على أدائها، وبين معاصٍ يصبر نفسه عن مقارفتها، وبين أقدار
تُقدَّر عليه من مصائب صغرت أو عظمت فيصبر عليها.
حتى وهو في حال الصحة والغنى ونعم السرَّاء
يحتاج إلى الصبر عن اتّباع الهوى، وعن الاغترار بالنعم، وعن أن تلهيه عن
ذكر الله، ولذلك كان من السلف من يعدّ الصبر في السرَّاء أشدّ من الصبر في
الضرّاء، وقد روى الترمذي وغيره عن عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه
قال: (( ابتلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالضراء فصبرنا، ثم ابتلينا بالسراء بعده فلم نصبر)).
والسالك في طريق الهداية يعرض له الشيطان في
كلّ شيء من شأنه، كما في حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إنَّ الشيطان يحضر أحدكم عند كلّ شيء من شأنه)). رواه مسلم وغيره.
فيحتاج السالك إلى مصابرة هذا الشيطان الموسوس، والاستعاذة بالله من شرّه، وفعل الأسباب التي يوقى بها من شرّه، والصبر عليها.
وتعرض له فتنٌ يحتاج فيها إلى الصبر على اتّباع الهدى حتى يخرج منها بسلام.
وتعرض له أحوال في سلوكه يحتاج فيها إلى الصبر
على انتهاج المنهج الأصلح له، وإن كان فيه ما تكرهه النفس في بادئ الأمر
حتى يفضي به إلى العاقبة الحسنة.
- ومن سنن الله تعالى أنه يجعل للأنبياء وأتباعهم أعداءً من المجرمين يبتلي بهم صدق أولياءه ويقينهم قال الله تعالى: {وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}.
وأتباع الأنبياء على مثل منهجهم موعودون بما وُعد به أتباع الأنبياء من العاقبة الحسنة، ويصيبهم من الابتلاء بقدر اتّباعهم.
وقد تكفَّل الله لهم بالهداية والنصر، وهذا
يفيدك ببيان ما يحتاجه من يبتلى بعداوة المجرمين فهو يحتاج إلى الهداية
التي يرشد بها ويوفق بها لسلوك سبيل النجاة ، ويحتاج إلى من ينصره على من
ناصبه العداء واجتهد في الإضرار به، فتكفل الله له بهذين الأمرين العظيمين،
ولم يوكل ذلك إلى أحد من خلقه بل تولاه بنفسه جل وعلا فقال: {وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا}
فإذا أيقن الداعي إلى الله بهذه الحقيقة الإيمانية لم يخش إلا الله، وكان
وثوقه بهداية الله ونصره وتصديقه بوعده سبباً في طمأنينة قلبه ورباطة جأشه
وثباته على الحق والهدى.
وتأمل تقديم الله تعالى للهداية على النصر فهو
ترتيب أولوية فإن من عميت عليه سبيل الهداية كان احتياجه إلى الهداية أولى
من احتياجه للنصرة المترتبة عليها.
فيجب على الداعية أن يصبر على ما يدعو إليه من
الحق وأن يصبر على ما يصيبه منه المشقة والأذى، وقد وعد الله عباده
المؤمنين بالنصر، ووعده حق لا يتخلف قال تعالى: {إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ} وقال: {وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ} وقال الله تعالى: {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي}.
· سؤال الصبر
- قال أبو مسعود سعيد بن إياس الجريري عن أبي
الورد بن ثمامة عن اللجلاج عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: مر النبي صلى
الله عليه وسلم برجل وهو يقول: اللهم إني أسألك الصبر. فقال: ((قد سألت البلاء فسل الله العافية))
قال: ومر برجل يقول: يا ذا الجلال والإكرام، قال: ((قد استجيب لك فسل)). رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد، والترمذي وحسّنه، والبزّار، وغيرهم.
اللجلاج عدّه يحيى بن معين من الصحابة، والجريري ثقة من رجال الصحيحين، وهذا الحديث مستفيض عنه، وأبو الورد قال فيه ابن سعد: (وكان معروفا قليل الحديث)، وذكره ابن حبان في الثقات، وقال الحافظ ابن حجر في التقريب: مقبول.
وعلى كلّ حال فالأولى سؤال الله تعالى العافية
كما أرشد إليه النبي صلى الله عليه وسلم في هذا الحديث إن صحّ، وفي
الأحاديث الصحيحة الأخرى، ومنها:
- حديث عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنهما
قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أيامه التي لقي فيها، انتظر
حتى مالت الشمس، ثم قام في الناس خطيبا قال: «أيها الناس، لا تتمنوا لقاء العدو، وسلوا الله العافية، فإذا لقيتموهم فاصبروا، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف»، ثم قال: «اللهم منزل الكتاب، ومجري السحاب، وهازم الأحزاب، اهزمهم وانصرنا عليهم». رواه البخاري
- وحديث أبي مالك الأشجعي، عن أبيه، قال: كان
الرجل إذا أسلم، علمه النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة، ثم أمره أن يدعو
بهؤلاء الكلمات: «اللهم اغفر لي، وارحمني، واهدني، وعافني، وارزقني». رواه مسلم وغيره.
- وحديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه مرفوعاً: (سلوا الله العفو والعافية؛ فإنَّ الناس لم يعطوا بعد اليقين شيئاً خيراً من العافية)). الحديث وقد تقدّم ذكره.
فهذه الأحاديث وما في معناها تضمّنت الإرشاد إلى سؤال الله العافية، وهذا هو الأصل.
وأما من وقع في أمرٍ يحتاج معه إلى الصبر فإن سؤاله الصبر من الله لا حرج فيه، وقد قال الله تعالى: {
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ
عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ
الْكَافِرِينَ (250)}
فهم في هذا الحال يحتاجون إلى الصبر، وقد أثنى الله تعالى عليهم بسؤالهم إيّاه الصبر.
فكذلك من أصابه بلاء، أو وجد في نفسه ميلاً
إلى معصية، أو تكاسلاً عن طاعة فله أن يسأل الله تعالى الصبر على ما يحبّ
من ذلك، والعون على طاعته.
· الأسباب المعينة على الصبر:
قال الله تعالى: {واصبر وما صبرك إلا بالله} وهذا أسلوب حصر يفيد أنّه لا يُنال الصبر إلا بمنّة من الله وعون وتوفيق، ويبيّن ذلك ما تقدّم من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( ما أعطي أحد عطاء خيرا وأوسع من الصبر)).
فسمَّى الصبر عطاء يُعطاه العبد، والذي يعطيه إنما هو الله.
والله تعالى حكيم في عطائه ومنعه، وقد جعل
للعطاء أسباباً كما جعل للمنع أسباباً، ولذلك اجتهد أهل العلم في بحث
الأسباب المعينة على تحصيل الصبر ، وجمع أقوالهم في هذا الباب ونقلها يطول،
والذي ينفع طالب العلم في هذا المقام هو تلخيص ما ذكروه.
وقد تأملت ما وقفت عليه من تلك الأسباب فوجدت أصولها خمسة أسباب:
السبب الأول: الاستعانة بالله تعالى والتوكّل عليه في تحقيق الصبر إذ لا صبر إلا بالله.
والسبب الثاني: البصيرة بفضل الصبر إجمالاً وتفصيلاً، واليقين بحسن عاقبته، فالبصيرة معينة على الصبر بأنواعه، وإذا قويت ارتقت بصاحبها إلى اليقين.
- فيكون لديه بصيرة بفضل أداء الطاعة التي
تنازعه نفسه للتهاون فيها ومحبة الله لها وثوابه عليها، وقد قال النبي صلى
الله عليه وسلم في شأن تخلّف المنافقين عن صلاة الفجر وصلاة العشاء: ((وَلَوْ يَعْلَمُونَ مَا فِيهِمَا لَأَتَوْهُمَا وَلَوْ حَبْوًا)).
فلما حرموا البصيرة ثقلت عليهم الصلاة.
- ويكون لديه بصيرة بخطر المعصية، وبغض الله
لها، وسوء عاقبتها، واضمحلال منفعتها، وبقاء إثمها، وخوف الحرمان من التوبة
منها، وخشية الافتتان بها، وما يلزم من الاشتغال بها من تفويت قربات
متيسّرة له، وما تسبّبه من تخلّف عن منافسة الصالحين، إلى غير ذلك من
البصائر النافعة التي يكفي بعضها لبغض تلك المعصية والحذر منها.
- ويكون لديه بصيرة بفضل الصبر على البلاء،
ومحبة الله للصابرين، وعظم جزائهم، وما يثمره الصبر على البلاء من تكفير
للسيئات، وتطهير للقلب، وأنّ الله تعالى قدّرها عليه بحكمته، وأنّ حكمته
تقتضي أن لا يديم البلاء على عبده، وأن لا يكلّفه ما لا يطيق، وأن لا يدع
عبده من غير هدى يهديه به في ذلك البلاء؛ فيجتمع في قلبه من العبادات التي
يحبّها الله ويرضاها ويقرّب المتعبّدين له بها ما يهوّن عليه الصبر على
بلائه؛ بل ربما ارتقى به الحال إلى الرضا والشكر.
وقد قال نافع مولى ابن
عمر: كان ابن عمر إذا جلس مجلساً لم يقم حتى يدعو لجلسائه بهذه الكلمات،
وزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو بهن لجلسائه: «اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون علينا مصائب الدنيا ... » الحديث، رواه النسائي في الكبرى والطبراني في الدعاء والحاكم في المستدرك وغيرهم من طرق عن خالد بن أبي عمران عن نافع.
فهذه بصائر نافعة في كلّ نوع من أنواع الصبر تعين عليه،
ويجمعها البصيرة بأنّ الله مع الصابرين وأنّ الله يحبّ الصبر وأهله، وهذه
المحبة والمعية الخاصة لها لوازمها وآثارها التي لا تتخلّف عنها، فمن
اطمأنّ قلبه بها سهل عليه من الصبر ما لا يكاد يسهل على غيره.
السبب الثالث: تزيّن
الإيمان في القلب، وهو سبب عظيم البركة؛ فإنّ المرء إذا زيّن الله أعمال
الإيمان في قلبه وحبَّبه إليه؛ أحبّ ما يحبّه الله ، وأبغض ما يُبغضه الله،
فسهل عليه الصبر بأنواعه؛ لأن الصبر عمل قلبي، والقلب يدفعه الحبّ والبغض،
وكلما قويا قويت آثارهما، وقد قال الله تعالى: {
وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ
مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ
وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7)}
ولذلك فإنّ القلب الصحيح يسهل عليه من الصبر ما لا يسهل على القلب المريض بشبهة أو شهوة أو وهن.
السبب الرابع: التصبّر، وقد تقدّم قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((ومن يتصبَّر يصبره الله)).
السبب الخامس: التأسّي
بأهل الصبر، ولا سيّما من كانت لهم في القلب محبّة عظيمة، وعرض لهم مثل ما
عرض له؛ فإنّ نفسه تحمله على مشابهتهم وسلوك سبيلهم، وقد قال الله تعالى
لنبيّه صلى الله عليه وسلم: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ} ، وقال للمؤمنين: { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} ، وقال: { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ}.
ولم يزل الصالحون يتأسّى بعضهم ببعض.
والتأسي له أثر في تصبير النفس، كما قالت الخنساء في رثاء أخيها صخر:
فلولا كثرة الباكين حــــــــــولي ... على إخوانهـم لقتـلت نفسي
وما يبكون مثل أخي ولكن ... أعــــزي النفس عنه بالتأسي
· أيهما أفضل: المبتلى الصابر أم المعافى الشاكر
اختلف أهل العلم في المفاضلة بين المبتلى الصابر والمعافى الشاكر ، وفي المفاضلة بين الصبر والشكر.
وقد أطال شيخ الإسلام ابن
تيمية وتلميذه ابن القيم الكلام في هذه المسألة في مواضع من كتبهما، وأفرد
لها ابن القيم ثلاثة أبواب في كتابه "عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين".
والخلاصة أنّ المفاضلة العامّة تختلف عن المفاضلة الخاصّة.
فقد يكون جنس أحد العملين
أفضل من الآخر، لكن في حقّ المعيّن قد يقع العكس، لأنَّ الأكرم عند الله
تعالى والأفضل من الطائفتين هو الأتقى لله تعالى؛ كما قال الله تعالى: {إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم}
ومن الناس من يصلحه الغنى
والعافية فإذا ابتلي شقّ عليه الأمر وعجز عنه أو فتن به، ومنهم من هو على
العكس من ذلك؛ فيصبر على البلاء والضراء صبراً حسناً، فإذا عوفي وأنعم عليه
عجز عن الصبر في السراء فربما طغى أو ألهته دنياه عن ذكر الله.
فمعيار التفاضل هو التقوى.
- قال ابن القيّم رحمه الله: (ولا
يصح التفضيل بغير هذا البته؛ فإنَّ الغني قد يكون أتقى لله في شكره من
الفقير في صبره، وقد يكون الفقير أتقى لله في صبره من الغني في شكره؛ فلا
يصح أن يقال: هذا بغناه أفضل، ولا هذا بفقره أفضل.
ولا يصح أن يقال: هذا بالشكر أفضل من هذا
بالصبر، ولا بالعكس؛ لأنهما مطيتان للإيمان لا بد منهما، بل الواجب أن
يقال: أقومُهما بالواجب والمندوب هو الأفضل؛ فإن التفضيل تابع لهذين
الأمرين؛ كما قال تعالى فى الأثر الالهى: [ما تقرب إليَّ عبدي بمثل مداومة ما افترضت عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبَّه]
فأيّ الرجلين كان أقوم بالواجبات وأكثر نوافل كان أفضل)ا.هـ.
والسلف قد اختلفوا في المفاضلة الخاصة أيضاً:
فمنهم من لم يفضّل، وقال أحبّهما إليّ أحبهما إلى الله، كما تقدّم مثله عن عمران بن الحصين رضي الله عنه، وروي عن عمر بن الخطاب.
- وقال مطرّف بن عبد اللّه بن الشّخّير: (لأن أعافى فأشكر أحبّ إليّ من أن أبتلى فأصبر). رواه وكيع في الزهد.
- وقال مسلم البطين: قلت لسعيد بن جبيرٍ: الشّكر أفضل أو الصّبر؟ قال: (الصّبر، والعافية أحبّ إليّ ). رواه هناد في الزهد.
الشكر
· معنى الشكر
الشكر في اللغة: عرفان الإحسان ونشره وحمد موليه، كما قال الخليل بن أحمد وأبو منصور الأزهري وغيرهما.
- وقال ابن القيم:
(وأصل الشكر في وضع اللسان: ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهورا بينا.
يقال: شكرت الدابة تشكر شكرا على وزن سمنت تسمن سمنا: إذا ظهر عليها أثر
العلف، ودابة شكور: إذا ظهر عليها من السمن فوق ما تأكل وتعطى من العلف،
وفي صحيح مسلم حتى إن الدواب لتشكر من لحومهم أي لتسمن من كثرة ما تأكل
منها).
- قال: (وكذلك حقيقته في العبودية، وهو ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده ثناء واعترافا، وعلى قلبه شهودا ومحبة، وعلى جوارحه انقيادا وطاعة)ا.هـ.
فالشاكر من عباد الله هو الذي يقبل النعمة ويعترف بها لربّه جلّ وعلا، ويثني بها عليه، ويستعملها في طاعته.
· منزلة الشكر وفضائله
الشكر من أشرف أعمال القلوب، وأعلاها، وقد تقدّم ذكر أنّه نصف الإيمان، وأهله هم أهل المنن والعطايا والزيادات كما قال الله تعالى: {وإذ تأذن ربكم لئن شكرتم لأزيدنّكم .. }.
وقال تعالى: {وَكَذَلِكَ
فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
(53)}
وقال تعالى في الكفار: {ولو علم الله فيهم خيراً لأسمعهم} ، والخير هو عمل الشكر.
وقال تعالى: {إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يؤتكم خيراً مما أخذ منكم}
وقد أمر الله به رسوله صلى الله عليه وسلم كما أمر به من قبله من الرسل، وأثنى عليهم بالشكر.
قال الله تعالى: {بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}.
وقال لموسى: {فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}
وقال عن إبراهيم: {إِنَّ
إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ
الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى
صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121)}
وقال تعالى: {اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)}
بل أمر الله جميع خلقه بشكره فقال: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)}
وقال: {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172)}
وقال: { فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)}
ولفضل الشكر جعله سبباً لمنع العذاب ورفعه؛ فقال تعالى: {مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)}
والشكر قسيم الكفر ؛ كما قال تعالى: {إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)}
وقال تعالى: {وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7)}
وقال الله تعالى في خبر سليمان عليه السلام: {
فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي
لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ
لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)}.
فالابتلاء لتمييز الشاكر من الكافر، ولذلك جعل
الشكر علامة على الإيمان كما في الصحيحين من حديث زيد بن خالد الجهني رضي
الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ الصبح بالحديبية
في إثر سماءٍ كانت من الليل؛ فلما انصرف أقبل على الناس؛ فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟!)).
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: ((قال: [أصبح من
عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ؛ فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمنٌ بي
كافرٌ بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك كافرٌ بي مؤمن بالكوكب])).
وقال الله تعالى: {وَالْبَلَدُ
الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا
يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ
يَشْكُرُونَ (58)}
فخصّ أهل الشكر بهذا المثل الذي هو من أجلّ
أمثال القرآن، وأعظمها عبرة في باب النعم والمنع، والعطاء والحرمان،
والتوفيق والخذلان، وقضاء الخير وقضاء الشرّ.
فمثّل القلوب بالبلدان المختلفة، التي يتفاوت قبولها للماء وإمساكها للماء وإنباتها للنبات النافع.
فقلب الشاكر قلب طيّب تُثمر فيه النعمة، ويظهر أثرها عليه، فيزيده الله من فضله حتى يبلغه الدرجات العلى.
وقلب الكَفور قلب خبيث لا يقبل النعمة، ولا
يظهر أثرها عليه، وإن جهد في بعضها فلا يلبث خبث طبعه وسوء قصده أن يغلبه
فلا ينتفع بتلك النعمة، ولا يظهر عليه شيء من أثرها إلا بنكد ولأواء.
وقال الله تعالى: {وَكَذَلِكَ
فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ
(53)}
فبيّن الله تعالى أنّه يحبّ الإنعام على من
يشكره من عباده، وأنّه يعلم أهل شكر نعمته، هذا فيه إرشاد للمؤمن أن يُهيّئ
قلبه ونفسه لإحسان تلقّي نعمة الله وشكرها.
وقد أطلق الله جزاء الشاكرين ولم يحدّه بحدّ؛ فقال تعالى: {وسيجزي الله الشاكرين}
وقال: {وسنجزي الشاكرين}
وقد ردّ ابن القيّم رحمه الله على من زعم أن الشكر من مقامات العامة وليس من مقامات الخاصّة؛ ثم قال: (ويا
عجبا! أي مقام أرفع من الشكر الذي يندرج فيه جميع مقامات الإيمان، حتى
المحبة والرضا، والتوكل وغيرها؟!! فإن الشكر لا يصح إلا بعد حصولها، وتالله
ليس لخواصّ أولياء الله، وأهل القرب منه سبيل أرفع من الشكر ولا أعلى)ا.هـ
· درجات الشكر
الشكر عمل من أعمال القلوب في الأصل، ويظهر أثره على الجوارح، ويجري فيه ما يجري في سائر أعمال القلوب من درجات العبودية.
فالدرجة الأولى: درجة أصل الشكر، وهي متحققة لأهل الإسلام؛ الذين أدّوا أعظم أعمال الشكر وهو التوحيد.
والدرجة الثانية: شكر المتقين، وهم الذين قاموا بالشكر الواجب من أداء الواجبات، واجتناب المحرّمات.
والدرجة الثالثة: شكر المحسنين، وهم الذين قاموا بالشكر الواجب والمستحبّ.
· مراتب الشكر
ولشكر النعم مرتبتان:
المرتبة الأولى: الشكر عند تلقي النعمة، ويتحقق بأربعة أمور:
أحدها: الفرح بفضل الله والابتهاج بعطائه، وتعظيم قدر النعمة في النفس كما دلّ عليه قول الله تعالى: {قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا}.
والثاني: الاعتراف لله تعالى بنعمته، كما في الحديث ((أبوء لك بنعمتك علي))
والثالث: حمد الله تعالى على نعمته، وذكرها، والثناء على الله بنعمته، كما في قول الله تعالى: {وأما بنعمة ربك فحدث} ، وقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة فيحمده عليها أو يشرب الشربة فيحمده عليها» رواه مسلم وغيره من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه.
والرابع: الرضا بنعمة الله، وأن لا يعيبها ولا يزدريها، كما دلّ عليه قول الله تعالى: {فخذ ما آتيتك وكن من الشاكرين}
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي العلاء بن الشخير قال: حدثني أحدُ بني سليم ولا أحسبه الا قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله تبارك وتعالى يبتلي عبده بما أعطاه فمن رضي بما قسم الله عز وجل له بارك الله له فيه ووسّعه، ومن لم يرضَ لم يبارك له)). إسناده صحيح، وجهالة اسم الصحابي لا تضرّ.
وتلقّي نعمة الله بالشكر
له أثر عظيم في رضا الله تعالى عن العبد ومحبّته إيّاه، فإنّ الله تعالى
يُحبّ من عبده أن يُحسن تلقّي نعمته، وقد تقدّم ذكر حديث زيد بن خالد
الجهني رضي الله عنه قال: صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاةَ
الصبح بالحديبية في إثر سماءٍ كانت من الليل؛ فلما انصرف أقبل على الناس؛
فقال: ((هل تدرون ماذا قال ربكم؟!)).
قالوا: الله ورسوله أعلم.
قال: ((قال:
[أصبح من عبادي مؤمنٌ بي وكافرٌ؛ فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته
فذلك مؤمنٌ بي كافرٌ بالكوكب، وأما من قال: مطرنا بنوء كذا وكذا؛ فذلك
كافرٌ بي مؤمن بالكوكب])).
وهذا يدلّ على عظيم أثر
ما يكون من العبد من عمل القلب ونطق اللسان عند ورود النعمة؛ فمن أحسن
تلقّي النعمة وقبلها فقد أدّى نصف الشكر، ومن أعرض عن ذلك فقد كفر النعمة
وعرّض نفسه لسخط الله وعقوبته.
وينبغي أن يعي المؤمن هذا
الأصل في النعم كلها ما استطاع؛ وما ظنّ المؤمن إذا قال قولاً حسناً يرضى
الله به حين يتلقى نعمته ويعرف قدرها، ويفرح بفضل الله عليه بها!!
وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وابن عمر أنهما قالا: قرأ رسول الله صلى الله عليه و سلم سورة الرحمن على أصحابه حتى فرغ، قال: ((ما لي أراكم سكوتا؟!!
لَلجنُّ كانوا أحسنَ منكم ردا؛ ما قرأت عليهم من مرة {فبأي آلاء ربكما تكذبان} إلا قالوا: ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد)).
حديث جابر رواه الترمذي وابن عدي والحاكم وصححه وأبو الشيخ والبيهقي وغيرهم.
وحديث ابن عمر رواه البزار وابن جرير والخطيب البغدادي.
وفي كلا الحديثين ضعف في الإسناد، وقال الألباني: (لكن الحديث بمجموع الطريقين لا ينزل عن رتبة الحسن).
والمرتبة الثانية: شكر أداء حقّ النعمة، ويتحقق بأربعة أمور أيضاً:
أحدها: أن يعرف حقّ الله تعالى في تلك النعمة من العلم والعمل والحال؛ فيؤدّيه لله مخلصاً له في ذلك، سليم القلب، طيّب النفس.
والثاني:
أن يحفظ تلك النعمة بما أمر الله أن تُحفظ به، وفي مستدرك الحاكم من حديث
عقبة بن عامر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((من تعلم الرمي ثم تركه فهي نعمة كفرها)) وأصله في صحيح مسلم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم لرجل من أصحابه: ((لا تكن مثل فلان كان يقوم من الليل فترك قيام الليل)).
والثالث: أن لا يقابل النعمة بالمعصية وفي هذا المعنى أحاديث؛ ومن أسوأ ما يقع من العبد أن يستعمل نعمة الله في معصيته.
والرابع:
أن يقابل إحسان الله إليه بإحسان العمل، فيعمل عملا صالحا يشكر به ربه على
نعمته، ولما كُلّم النبي صلى الله عليه وسلم في صلاته وقيامه وقد غفر الله
له ما تقدم من ذنبه وما تأخر قال: ((أفلا أكون عبدا شكورا))، وقال الله تعالى: {اعملوا آل داوود شكراً وقليل من عبادي الشكور}.
فمن حقق هذه الأمور فإنه
يرجى له أن يكون من الشاكرين، وأن يُفتح له بسبب شكره ما لم يكن يخطر على
قلبه، أو يناله عمله، أو يبلغه أمله.
· الفرق بين الحمد والشكر
بين الشكر والحمد فرق وجهي؛ فالشكر أعمّ من الحمد من وجه، والحمد أعمّ من الشكر من وجه آخر.
- فالشكر يكون بالقلب واللسان والعمل؛ الحمد يكون بالقلب واللسان، فمن هذا الوجه يكون الشكر أعمّ من الحمد.
- والحمد يكون على ما أحسن به المحمود، وعلى
ما اتّصف به من صفات حسنة يُحمد عليها، والشكر أخصّ لأنه في مقابلة النعمة
والإحسان؛ فمن هذا الوجه يكون الحمد أعمّ من الشكر.
وقد قال بهذا التفريق شيخ الإسلام ابن تيمية
وابن القيم في مواضع من كتبهما، ومن أجمع العبارات في ذلك قول ابن القيّم
رحمه الله في مدارج السالكين: (والفرق بينهما: أن الشكر أعم من جهة أنواعه وأسبابه، وأخص من جهة متعلقاته، والحمد أعم من جهة المتعلقات، وأخص من جهة الأسباب.
ومعنى هذا: أن الشكر يكون بالقلب خضوعا
واستكانة، وباللسان ثناء واعترافا، وبالجوارح طاعة وانقيادا. ومتعلقه:
النعم، دون الأوصاف الذاتية، فلا يقال: شكرنا الله على حياته وسمعه وبصره
وعلمه. وهو المحمود عليها. كما هو محمود على إحسانه وعدله، والشكر يكون على
الإحسان والنعم.
فكل ما يتعلق به
الشكر يتعلق به الحمد من غير عكس وكل ما يقع به الحمد يقع به الشكر من غير
عكس. فإن الشكر يقع بالجوارح. والحمد يقع بالقلب واللسان) ا. هـ.
وقد ذهب ابن جرير الطبري والمبرّد وجماعة من
أهل العلم إلى أن الحمد يطلق في موضع الشكر، والشكر يطلق في موضع الحمد،
وأنه لا فرق بينهما في ذلك.
وهذا القول إنما يصحّ فيما يشترك فيه الحمد والشكر؛ وهو ما يكون بالقلب واللسان في مقابل الإحسان.
· الأسباب المعينة على الشكر
من الأسباب المعينة على الشكر:
1. الدعاء، {ربّ أوزعني أن أشكر نعمتك التي أنعمت عليّ وعلى والديّ} وقد كان من أدعية النبي صلى الله عليه وسلم: ((اللهم إنّي أسألك شكر نعمتك وحسن عبادتك))، ((ربّ أعنّي على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)) ، ((ربّ اجعلني لك شكّاراً، لك ذكَّاراً)).
2. مطالعة النعم وشهود منّة الله تعالى بها؛ فكثرة مطالعة المنن تورث الشكر.
3. التفكّر في حال من حُرم تلك النّعم ،
ولو شاء الله لجعله مثلهم؛ فيكون في قلبه من التعلّق بالله وخشية زوال تلك
النعم ما يورثه السعي لشكرها، وقد كان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: «اللهم إني أعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجأة نقمتك، وجميع سخطك» رواه مسلم من حديث ابن عمر.
4. البصيرة بأنّ النعم تُحفظ بالشكر، وتمحق بالكفر والبطر كما قال الله تعالى: {وكَمْ
أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ
لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ
الْوَارِثِينَ (58)}
5. نزع حجاب الاستحقاق، وهو بلاء أهل الغفلة والكبر، كما قال الله تعالى: { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي}، ومن اعتقد أنّ النعم التي منَّ الله بها عليه مستحقّة له، لم يجد في نفسه ما يدفعه لشكرها.
وهذا الحجاب يُنزع بالبصيرة بأنّ كلّ نعمة
أنعمها الله على عبده فله فيها الفضل والمنّة، وهي إما إنعام فتنة وابتلاء
وإما إنعام منّة واجتباء ، وكلاهما فضل من الله تعالى.
6. صحبة الشاكرين، فإن صحبتهم مباركة، يتذكّر بها المرء نعم ربّه فيثني عليه ويشكره مع الشاكرين، ويجد فيهم أسوة حسنة فترتاض نفسه للشكر وتعتاده.
7. كثرة الثناء على الله تعالى وحمده؛ فإنّ ذلك يسلكه في سبيل الشاكرين الحامدين.
8. سبب دقيق يُغفل عنه، وهو شُكر من أولى إليك معروفاً من الناس؛ وفي الحديث الصحيح «لا يشكر اللهَ من لا يشكر الناس» رواه أحمد والبخاري في الأدب المفرد من حديث الربيع بن مسلم عن محمد بن زياد عن أبي هريرة مرفوعاً.
وذلك أنّ الشكر من عمل القلب وخُلق النفس؛ فمن
أمارات اتّصاف المرء بالشكر أن يَشكر من يصنع إليه معروفاً من الناس،
وشكره أن يكافئه أو يثني عليه بما صنع أو يدعو له.
وفي حديث جابر بن عبد الله الأنصاري رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من
صُنع إليه معروف فليجزِه، فإن لم يجد ما يجزِه فليثن عليه، فإنه إذا أثنى
فقد شكره، وإن كتمه فقد كفره، ومن تحلَّى بما لم يُعْطَ، فكأنما لبس ثوبَي
زور» رواه البخاري في الأدب المفرد وأبو داوود والترمذي وغيرهم من طرق عن جابر رضي الله عنه.
ومن كان يستمرئ قبول
الإحسان من الناس ولا يشكرهم فهو دليل بيّن على تقصيره في الشكر الواجب لله
تعالى؛ فإنّ نفس الشكور لا تقبل الإحسان بلا شكر.
تمّت دروس دورة أعمال القلوب، والحمد لله الذي بنعمته تتمّ الصالحات.
اللهمّ تقبّل منّا إنّك أنت السميع العليم، واغفر لنا إنّك أنت الغفور الرحيم، واهدنا برحمتك الصراط المستقيم.
(اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا
ومتعنا
بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على
من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا
ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
الرياض
28 ذو القعدة 1440هـ
وقد راجعتها - بفضل الله تعالى - وأضفت إليها مباحث يسيرة في شهر رمضان من عام 1443هـ.