15 Jul 2019
الدرس التاسع: الخشية والإنابة
عناصر الدرس:
•تمهيد
• الخشية
- معنى الخشية
- إخلاص الخشية
- حقيقة الخشية
- فضائل الخشية
- أسباب الخشية
- عناية السلف الصالح بالخشية
- درجات الخشية
- ثمرات الخشية
- تفاضل أهل الخشية
-أحكام خشية غير الله جل وعلا
• الإنابة
- معنى الإنابة
- أسباب الإنابة
- ثمرات الإنابة
- علامات الإنابة
- درجات الإنابة
- التوكل والإنابة
- تعرض الشيطان لأهل الإنابة
تفاضل أهل الخشية
وأهل خشية
الله تعالى يتفاضلون في الخشية تفاضلاً عظيماً فهم على درجات لا يحصيهم إلا
من خلقهم ، فمن كان معه أصل الإسلام فمعه أصل الخشية لأن خشيته لله حجزته
عن الشرك بالله جل وعلا،
وكلما ازداد العبد من الخشية ازداد نصيبه من تكميل منازل العبودية لله
تعالى والفوز بفضله ورحمته وما يفتح الله له به من الفضل العظيم بتذكر
آياته والانتفاع بعظاته واتباع هدى الله الذي أرشده إليه.
وأعلاهم درجة السابقون المقربون الذين وصفهم الله تعالى بقوله: {إِنَّ
الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ
هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ
لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا
نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ
بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)}
وعمادُ الخشية على العلم والتقوى وتفاضل العباد في هاتين الصفتين ظاهر وعظيم.
ثمرات الخشية
الخشية إذا حلَّت في القلب
أينعت ثمارها وظهرت فضائلها وتوالت بركاتها على العبد في حاله وعلمه وعمله؛
وكان كلما ازداد منها حظا ازداد نصيبا من العلم والعمل وحسن الحال، وازداد
تعرضاً لفضل الله تعالى وبركاته على أهل خشيته.
وأعظم ثمرات الخشية: الإنابة إلى الله تعالى، وهي مقصودها الأعظم.
ومن ثمراتها الجليلة: أنها سبب عظيم مبارك لفهم القرآن الكريم وحسن التذكر والاعتبار بما فيه كما تقدَّم، وما يتبع ذلك من بركات كثيرة.
ومن ثمراتها: أنها تعين على المسارعة إلى الخيرات، والانتهاء عن المحرمات وما لا يليق بأهل الخشية.
ومن ثمراتها: أنها
تهذب النفس وتزكيها، وتخلصها من علل وأدواء وآفات لا حصر لها يُبتلى بها
من يُبتلى؛ فهي تعين العبد على ترك ما لا يعنيه، وتزهّده في الدنيا، وتقطع
عليه طول الأمل، وتعين على المراقبة والمحاسبة، وعلى نهي النفس عن الهوى ،
وزجرها عن وساوسها المردية.
ومن ثمراتها: أنها
تحجز النفس عن الانبساط المذموم، ولا سيما في دعوى المحبة، فإن محبة الله
تعالى محبة مصحوبة بإجلال وخشية وتعظيم، وبعض الطوائف قد ضلت في هذا الباب
بدعوى المحبة من غير خشية.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (الحب المجرد تنبسط النفوس فيه حتى تتوسع في أهوائها إذا لم يزعها وازع الخشية لله حتى قالت اليهود والنصارى: {نحن أبناء الله وأحباؤه}ويوجد في مدّعي المحبة من مخالفة الشريعة ما لا يوجد في أهل الخشية، ولهذا قرن الخشية بها في قوله: {هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ . من خشى الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب . أدخلوها بسلام ذلك يوم الخلود}وكان
المشايخ المصنفون في السنة يذكرون في عقائدهم مجانبة من يكثر دعوى المحبة
والخوض فيها من غير خشية لما في ذلك من الفساد الذى وقع فيه طوائف من
المتصوفة) ا.هـ.
أسباب الإنابة
أمر الله تعالى عباده بالإنابة إليه فقال تعالى: {قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ
وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا
تُنْصَرُونَ}
فجمع الله تعالى في هاتين الآيتين الأسباب الثلاثة الحاملة على الإنابة:
فأما السبب الأول: فهو
تحبيبهم إليه تعالى، وتذكيرهم بصفاته المقتضية لمحبته فهو ربهم وهم عباده،
وهو الرحيم الذي لا ينبغي أن ييأس عبادُه من رحمته، ولا ينبغي أن تمنعهم
ذنوبهم من الإقبال عليه فهو الغفور الذي يغفر الذنوب جميعاً مهما بلغت؛ فلا
يستعظمه ذنب أن يغفره، وهو الودود الذي تودد إلى عباده بحسن مخاطبتهم رحمة
بهم وإحساناً إليهم مع غناه عنهم جل وعلا، وَرَفَع من شأنهم إذ أضافهم إليه في خطابه لهم {يَا عِبَادِيَ}.
فمن تأمل هذه الأسماء الحسنى والصفات العليا وآثارها ومقاصد هذا الخطاب العظيم أحبَّ الله تعالى فأنابَ إليه.
وأما السبب الثاني: فهو الرجاء في رحمته ومغفرته وفضله العظيم {لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا}
وأما السبب الثالث: فهو الخوف من عذابه جل وعلا: {مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ}
فمن تدبر هاتين الآيتين عرف أسباب الإنابة، وأنها ترجع إلى المحبة والخوف والرجاء التي هي أصول العبادة.
وقال تعالى: {فَأَقِمْ
وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ
عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ
وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ
وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)}
فإقامة الدين لا تكون إلا بالإنابة إلى الله تعالى.
الخشية
والإنابة عملان جليلان من أجلّ أعمال القلوب وأسماها، وأحبها إلى الله
وأدناها، وأعظمها بركة، وأكرمها منزلة، وأحسنها عاقبة، وهما قرينان لا
يفترقان ، وشفيعان مشفَّعان، بل هما للتوفيق والهداية بابان لا يُغلقَان،
ودليلان لا يَضِلان، من كان له حظ منهما أدركته الرعاية والوقاية، وسُلِكَ
به في زمرة المهتدين ، وكان أقرب إلى الاجتباء والاصطفاء ، وفُتِحَ له بهما
من خزائن الفضائل والبركات ما لا يقدر قدره إلا الله، والله واسع عليم.
ومن تدبر كتاب الله تعالى ورُزِق حسن فهم
القرآن عَلِمَ أن لهذين العملين شأناً عظيماً، وقَدْراً كريماً، فهما
يجمعان أنواعاً من الأعمال والخصال المحبوبة لله تعالى، وقد جمعهما الله في
مواضع من كتابه، فقال تعالى: {وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ
وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)}
{وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ}نكر المزيد للتشويق إليه ، وقد رُوي عن جماعة من الصحابة والتابعين أن المزيد هو رؤية المؤمنين ربَّهم جل وعلا، وهذا المزيد أفضل النعيم وأجلّه، نسأل الله تعالى من فضله.
وقال الله تعالى:{اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ
مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}
{ثم تلين جلودهم وقلوبهم إلى ذكر الله}عدَّى الفعل بـ(إلى) لتضمنه معنى الإنابة.
وقال تعالى: {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب}واتباع الذكر هو حقيقة الإنابة.
بل إن أصحاب الخشية والإنابة هم أهل الخطاب
الخاصّ في القرآن الكريم ، فهو للثقلين عامة، ولأهل الخشية والإنابة خاصة؛
فلهم فيه امتيازٌ لا يشارَكون فيه، وفضل لا يُزَاحَمون عليه، من التوفيق لحسن الفهم والتذكر ، والاعتبار والتبصر، والدلالة على ما يتبعون به رضوان الله جل وعلا، وينالون به فضله ورحمته وبركاته في الدنيا والآخرة.
فالخشية والإنابة دليل خاص إلى الفضائل
العظيمة والخزائن الكريمة التي ذكرها الله تعالى في كتابه، يبصرونها بصراً
لا يضلّون فيها ولا يُغالَطون، وسبب ذلك ما في قلوبهم من تعظيم الله
جلَّ وعلا والإقبال عليه وعلى كتابه؛ فكان من إكرام الله لهم أن أقبل عليهم
بخطابه الخاص؛ فالناس يقرؤون القرآن، وهؤلاء يقرؤونه، ولكن شتان بين
القراءتين!!
فأهل الخشية والإنابة هم أهل العلم الخاص
الخالص؛ لأنهم يدركون ما لا يدركُه غيرهم، ويفهمون ما لا يفهمه غيرهم،
ويعرفون معرفةً لا تحصل لغيرهم، معرفةً لها شأنها وبركاتها وفضائلها.
قد يكون أحدهم أمياً لا يقرأ ولا يكتب، ولم
يشتغل بما اشتغل به كثير من المتفقهة، لكنه عند الله من أهل العلم، وفي
ميزان الشريعة من أهل العلم، وعند الرعيل الأول والسلف الصالح هو العالِمُ
الموفَّق.
وهم بما يُوفَّقُون إليه من حسن التذكر
والتفكر والفهم والتبصر يعلمون علماً عظيماً يُفني بعض المتفقهة والأذكياء
من غيرهم أعمارَهم ولمَّا يحصّلوا عُشرَه.
ذلك بأنهم يرون ببصائرهم ما يحاول غيرهم
استنتاجه، ويصيبون كبد الحقيقة، وغيرهم يحوم حولها، ويأخذون صفو العلم
وخلاصته، وغيرهم يفني وقته ويضني نفسه في البحث والتنقيب؛ فيبعد ويقترب من
الهدى بحسب ما معه من أصل الخشية والإنابة.
فكانوا بما عرفوه وتيقنوه وانتفعوا به أهلَ علم نافع، قال الله تعالى: {أمن
هو قانت آناء الليل ساجداً وقائماً يحذر الآخرة ويرجو رحمة ربه قل هل
يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب}
فجعلهم أهلَ العلم، وغيرُهم قَسِيمُهم الذين لا يعلمون؛ ونفي العلم هنا فيه وجهان: نفي حقيقته ونفي فائدته.
قال عبادة بن الصامت رضي الله عنه – وهو من أهل هذا العلم - لجبير بن نفير رحمه الله: (إن شئتَ لأحدثنَّك بأوَّل علم يرفع من الناس! الخشوع، يوشك أن تدخل مسجدَ جماعةٍ فلا ترى فيه رجلا خاشعا!) رواه الدارمي والترمذي وغيرهما.
فسمَّى الخشوع علماً
، وهو كذلك، لأن الخاشع مقبل بقلبه على كلام ربه معظم له، كثير التفكر فيه
والتدبر له؛ فيوفق لفهمه والانتفاع به انتفاعاً لا يحصّله من يقرأ مئات
الكتب، وهو هاجر لكتاب ربه جل وعلا، ولا من يقرأ القرآن وصدره ضائق بقراءته يصبّر نفسه عليه، ويفرح ببلوغ آخر السورة لينصرف إلى دنياه.
قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: (كفَى بخشية اللهِ علماً، وَكفى بالاغْتِرارِ به جهلًا)رواه ابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني في الكبير والبيهقي في شعب الإيمان.
ورُوي نحوه عن الفضيل بن عياض وابن المبارك، رواهما ابن الأعرابي في معجمه وغيرُه.
وقد فُسّرت الحكمة بالخشية في قول الله تعالى: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خير كثيراً وما يذكر إلا أولوا الألباب}
قال الربيع بن أنس البكري في قوله: {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة...}الآية : قال: (الحكمة: الخشية، لأن رأس كل شيء خشية الله)
وقرأ: ({إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}). هذه رواية ابن جرير.
ورواه ابن أبي حاتم موصولاً إلى أبي العالية الرياحي قال: (الحكمة: الخَشية؛ فإنَّ خشية الله رأس كل حكمة).
وقال الطحاوي في شرح مشكل الآثار كلاماً خلاصته أن أهل العلم الذين يُسمَّون في الشريعة علماء على صنفين:
الصنف الأول: الفقهاء
في الكتاب والسنة، الذين تعلموا الأحكام والسنن وعلَّموها، وهم الذين
يُرحل إليهم في طلب العلم وفقه مسائل الأحكام في العبادات والمعاملات
والقضاء.
والصنف الآخر: أصحاب الخشية والخشوع على استقامة وسداد.
وأهل الخشية والإنابة بما
يجعل الله لهم من النور والفرقان الذي يميّزون به بين الحق والباطل،
والهدى والضلالة، والرشاد والزيغ، وما يحبه الله وما يبغضه: يحصل لهم من
اليقين والثبات على سلوك الصراط المستقيم ما هو من أعظم ثمرات العلم.
وقد قال الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ
فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ
وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ}
قال عبد الرحمن بن زيد: (فرقان يفرق في قلوبهم بين الحق والباطل، حتى يعرفوه ويهتدوا بذلك الفرقان). رواه ابن جرير.
وأهل الخشية والإنابة أعظم الناس حظاً بهذا الفرقان؛ وهو فرقان في القلوب التي استنارت بنور الله تعالى فمشت به.
قال الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ
يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ
بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}
ومن تأمَّل وصاياهم وأخبارهم علم من فقههم ومعرفتهم وبصيرتهم ما يدلّه على هذا المعنى الجليل .
فهذا الربيع بن خثيم الثوري الذي كان عبد الله بن مسعود إذا رآه مقبلاً قال: (بشّر المخبتين؛ أما والله لو رآك رسول الله صلى الله عليه وسلملأحبَّك). رواه ابن أبي شيبة.
وكان يقول له: (ما رأيتك إلا ذكرت المخبتين).
له وصايا جليلة نافعة تدل
على بصيرته وعلمه ، ومن ذلك وصيته لبكر بن ماعز التي رواها ابن أبي شيبة
أيضاً من طريق سفيان بن سعيد الثوري عن أبيه عن بكر بن ماعز أن الربيع بن
خثيم قال له:
«يا
بكر، اخزن عليك لسانك إلا مما لك ولا عليك، فإني اتهمت الناس على ديني،
أطع الله فيما علمت، وما استؤثر به عليك فكله إلى عالمه، لأنا عليكم في
العمد أخوف مني عليكم في الخطأ، ما خيركم اليوم بخيرٍ، ولكنه خيرٌ من آخر
شر منه، ما تتبعون الخير كل اتباعه، ولا تفرون من الشر حق فراره، ما كل ما
أنزل الله على محمدٍ أدركتم، ولا كل ما تقرءون تدرون ما هو.
السرائر اللاتي يخفين على الناس هن لله بَوَادٍ، ابتغوا دواءها»
ثم يقول لنفسه: «وما دواؤها؟ أن تتوب ثم لا تعود».ا.هـ.
فتأمل هذه الوصايا والحكم
التي تدل على ما وراءها من العلم الخاص الخالص الذي يفيض رحمة وفقهاً
ونصحاً لا يكدره تكلف، ولا يشينه تعنيف ولا إزراء بالمنصوح.
قال الفقيه ابن مفلح الحنبلي في كتابه الآداب الشرعية: (عن أحمد أنه قال: كان معروف الكرخي من الأبدال مجاب الدعوة وذكر في مجلس أحمد فقال بعض من حضر: هو قصير العلم.
فقال له أحمد: أمسك عافاك الله! وهل يراد من العلم إلا ما وصل إليه معروفٌ؟!
وقال عبد الله: قلت لأبي: هل كان مع معروفٍ شيءٌ من العلم؟
فقال لي: يا بني كان معه رأس العلم خشية الله تعالى)ا.هـ.
الخشية
معنى الخشية
الخشية: هي شدة الخوف المبني على العلم، وبذلك فُرق بينها وبين الخوف وإن كان بينهما تقارب في المعنى.
فالخشية فيها معنى الخوف الشديد المبني على العلم بعظمة المخشي منه والهيبة منه، قال الله تعالى: {إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَماءُ}.
وبين العلم الصحيح والخشية تلازم، ولا يكون المرء عالماً حقاً حتى يكون من أهل الخشية، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.
إخلاص الخشية
إفراد الله بالخشية من سمات الأنبياء كما قال الله تعالى:{الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيباً}.
وأمر الله تعالى عباده المؤمنين بإفراده بالخشية فقال: {أتخشونهم فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
وقال تعالى: {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين}
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقِهِ فَأُولَئِكَ هُمْ الْفَائِزُونَ }: (فَجَعَلَ الطَّاعَةَ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ وَجَعَلَ الْخَشْيَةَ وَالتَّقْوَى لِلَّهِ وَحْدَهُ)ا.هـ.
حقيقة الخشية
الخشية تاج أعمال القلوب، وعنوانها الجامع، وأما حقيقتها فهي عمل قلبي جامع لمعانٍ كثيرة قائمة على أصلين:
الأصل الأول: العلم.
والأصل الثاني: التقوى.
فالخشية إذا صحَّت كانت دليلاً على علم صاحبها وتقواه؛ وهذان الأمران قد جمعهما إمام المتقين صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين من حديث عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)).
فكان بذلك أخشى الناسِ لله جل وعلا، كما في الرواية الأخرى في الصحيحين أيضاً: ((والله إني لأرجو أن أكون أخشاكم لله وأعلمكم بما أتقي)).
وقيام الخشية على أصلي العلم والتقوى ظاهر لمن تأمل النصوص والآثار والواردة في شأن الخشية وأحوال أهلها.
واجتماع العلم والتقوى في قلب العبد يثمر له
أنواعاً من الأعمال التعبدية الجليلة، ولذلك كانت الخشية كالتاج لأعمال
القلوب لكثرة ما تجمع من الأعمال القلبية من التذلل والمحبة والتعظيم
والخضوع والانقياد والخوف الرجاء والرغب والرهب والحياء والإجلال والمراقبة
والمحاسبة والهيبة والأدب مع الله عز وجل.
فضائل الخشية
لخشية الله تعالى فضائل عظيمة، وبركات كثيرة، ومن تأمل ما ورد فيها من نصوص الكتاب والسنة علم أن لها شأناً عظيماً عند الله جل وعلا.
وقد أثنى
الله تعالى على عباده المؤمنين بأنهم يخشونه بالغيب ، ووعدهم على هذه
الخشية ما وعدهم من المغفرة والأجر الكريم والفضل العظيم في الدنيا والآخرة.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12)}
وقال جلَّ وعلا: {وَأُزْلِفَتِ
الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ
لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ
وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ
الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)}
وقال تبارك وتعالى:{إِنَّ
الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ
الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)}
وقال تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ
هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ
لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ
يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61) وَلَا
نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ
بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62)}
وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((سبعةٌ يظلهم الله في ظله يوم لا ظلَّ إلا ظله...))فذكرهم ومنهم: (( رجلٌ ذكر الله خالياً ففاضت عيناه)).
قال النووي: (فيه فضيلة البكاء من خشية الله تعالى) ، وهذا المعنى قد جاء منصوصاً عليه في أحاديث أخرى:
منها: ما
رواه أحمد وابن أبي شيبة والترمذي والنسائي وغيرهم من حديث محمد بن عبد
الرحمن مولى آل طلحة عن عيسى بن طلحة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يلج النار رجلٌ بكى من خشية الله حتى يعود اللبن في الضرع، ولا يجتمع غبارٌ في سبيل الله ودخان جهنم في منخري امرئ أبداً».
قال الترمذي: «حديثٌ حسنٌ صحيحٌ».
ومنها: ما رواه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان من حديث عطاء الخراساني عن عطاء بن أبي رباح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «عينان لا تمسهما النار: عينٌ بكت من خشية الله، وعينٌ باتت تحرس في سبيل الله».
وروي نحو هذا الحديث مرفوعاً عن عثمان بن عفان والعباس بن عبد المطلب وأبي سعيد الخدري وأبي ريحانة والزبير بن عبد الله القيسي.
وفي التاريخ الكبير للبخاري والمعجم الأوسط للطبراني من حديث أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((عينان لا تريان النار: عين بكت وجلا من خشية الله و عين باتت تكلأ في سبيل الله)). وقد صححه الألباني.
وقد رُوي عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أنس بن مالك وأبي هريرة وابن عمر وابن عباس وعبد الله بن أبي أوفى أنه قال: (( ثلاثٌ
مهلكاتٌ: شح مطاعٌ، وهوًى متبعٌ، وإعجاب المرء بنفسه، وثلاثٌ منجياتٌ:
خشية الله في السر والعلانية، والقصد في الغنى والفقر، وكلمة الحق في الرضا
والغضب)).
وهذه الروايات قد أحسن الألباني رحمه الله بيان طرقها وتخريجها في السلسلة الصحيحة، وخلَص إلى تحسين الحديث بمجموع تلك الطرق.
وروى عبد الرزاق في تفسيره عن سفيان بن عيينة، عن ابن أبي نجيح، عن مجاهد أو غيره في قوله تعالى: {هذا عطاؤنا ...}، قال: قال سليمان:
« أوتينا مما أوتي الناس ومما لم يؤتَوا، وعلمنا ما علم الناس وما لم
يعلموا؛ فلم نر شيئا أفضل من خشية الله في الغيب والشهادة ، والقصد في
الفقر والغنى، وكلمة الحق في الرضا والغضب».
وإخلاص عبادة الخشية لله تعالى باب عظيم لبركات كثيرة عظيمة لا يقدر قدرها إلا الله جل وعلا.
فهي مفتاح فهم القرآن وتدبره والاعتبار بما فيه،
وهي باب التذكر النافع الذي يزداد به اليقين ويرتفع به الإيمان وتزكو به
النفس، ويتيسَّر به اتباع الهدى، بل بيَّن الله تعالى أن مقصوده الأعظم من
إنزال كتابه هو تذكير أهل خشيته ومخاطبتهم به؛ فهم أحق الناس بهذا الكتاب
وأسعد الناس به، والرسالة لهم فيه خاصة وهي للناس عامة، وحسبك بهذا فضلاً
وشرفاً عظيماً تشرئب إليه أعناق المؤمنين، طمعاً أن يكونوا من هؤلاء
المكرَّمين، وينالوا ما اختصهم الله به من الفضل المبين؛ فيدعوهم ذلك إلى
التعرف على أسباب كرامتهم، وهديهم وسمتهم، رجاء أن يكونوا معهم، ويعدوا
منهم، ويحشروا في زمرتهم.
قال الله تعالى: {طه (1) مَا
أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآَنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ
يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ
الْعُلَا (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا
تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ
السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ
الْحُسْنَى (8)}
وقد تقدَّم ذكر آية الزمر
وقال تعالى: {إنما تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغيب}، وقال تعالى: {إنما تنذر الذين يخشون ربهم بالغيب وأقاموا الصلاة}
وقال تعالى: {فذكر إن نفعت الذكرى سيذكر من يخشى}وهذا وعد من الله لأهل خشيته أنهم سيذكرون وينتفعون بكتابه العظيم.
قال ابن كثير: (وقولُه: {سَيَذَكَّرُ مَنْ يَخْشَى}. أي: سَيَتَّعِظُ بما تُبَلِّغُه يا محمدُ, مَن قَلْبُه يَخْشَى اللَّهَ ويَعْلَمُ أَنَّه مُلاقيهِ).
فالذي تقوم
في قلبه خشية العبادة لله تعالى من شدة محبته لله، وتعظيمه إياه، وانقياده
لأمره، وتصديقه لوعده، ورجائه للقاء الله ورغبته في فضله وإحسانه، ورهبته
من سخطه وعقابه، وخوفه من أن يتخلى عنه ربه ووليه إذا هو ارتكب ما يسخطه،
مَنْ قامت في قلبه هذه المعاني الجليلة كان من أوفر الناس حظاً وانتفاعاً
بالقرآن العظيم ، لأنه يقرأ القرآن ويسمعه وقلبه معظّمٌ لله تعالى معظّم
لكلامه معظم لما فيه من الهدى، يفرح بما يفتح الله له من فهمه ويستبشر ،
ويعرف لما فتح الله عليه من ذلك قدره وفضله، ويتطلع إلى مزيد من الهدى الذي
يتعرَّف به على أسباب التقرب إلى الله تعالى والفوز برضوانه وفضله العظيم،
والسلامة من سخطه وعقابه.
ومن كان هذا حاله فهو موعود بما يسره ويرضيه، من الهداية لما يقربه إلى الله تعالى ويدنيه، ويسعده في الدنيا والآخرة ولا يشقيه.
وتأمَّلْ
وصفَ اللهِ تعالى حالَ أهلِ خشيته عند تلاوتهم لكتاب ربهم أو سماعهم لآيات
الله تتلى عليهم، وكيف أنهم تفطنوا إلى أنهم المعنيّون أولاً بما فيه من
العبر والبينات، قال الله تعالى: {أَفَمَنْ
شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ
فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي
ضَلَالٍ مُبِينٍ (22) اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا
مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ
رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ
ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ
فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)}
ومن تأمل العبر والآيات البينات التي جمعها الله لأهل خشيته وبيَّنها لهم وأرشدهم إلى التأمل فيها والاعتبار بها كما قال تعالى: {إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَىٰ}عَلِمَ
أن أهل الخشية خطاباً خاصاً في القرآن الكريم لأنهم هم أهل التذكر
والتفكر، وهم أهل الاعتبار والتبصر، وهم أحرص الناس على الهداية وأعظمهم
فرحاً بما يقربهم من الله تعالى ويدنيهم منه، وأشدهم حرصاً على التحرز مما
يسخطه جل وعلا،
لأنهم على يقين تام بأن فوزهم وفلاحهم ونجاتهم مداره على رضوان الله تعالى
عنهم، وأنه ليس بينهم وبين الله سبب يتمسكون به إلا ما يرشدهم إليه من
العمل الصالح واتباع هداه جل وعلا، فهم العلماء على الحقيقة وهم أولوا الألباب، كما قال الله تعالى: {أَمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ
وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ}
فحاول أن تصحّح هذه
المعاني الجليلة في قلبك؛ ثم تفكَّر في هذه الآيات العظيمة وتدبَّر ما فيها
من دلائل الخطاب الخاص لأهل الخشية وما ضرب الله لهم من الأمثال البيّنة
التي يتعظون بها ويعتبرون:
قال الله تعالى: {إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا
خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ
وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا
فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ
السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا
وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا
وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ
مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ
الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28) إِنَّ الَّذِينَ
يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29( لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)}
فجمع الله لهم في هذه
الآيات البينات مواضع جليلة للاعتبار والتفكر وضرب لهم الأمثال التي تنبههم
على ما وراءها، فأرشدهم إلى التفكر في آياته الكونية المخلوقة وآياته
المتلوة ، فهذا الماء الذي ينزل من السماء هو ماء واحد وتخرج به ثمراتٌ
مختلف ألوانها؛ فكذلك وحي الله تعالى المنزل هو وحي واحد ولكن انظر إلى
اختلاف آثاره في قلوب الناس وأعمالهم ؛ فمنتفع ومحروم، ومستقل ومستكثر، إن
في ذلك لعبرة لمن يخشى.
وسرِّح نظرك
في دلائل هذه الآيات العظيمة وحسن التناسب بين ذكر الآيات الكونية والآيات
المتلوة، ومدح أهل الخشية الذين هم العلماء على الحقيقة، وغيرهم أهل جهالة
وإن قرؤوا ما قرؤوا.
ثم تأمل ما أعده الله
لأهل خشيته من الفضائل العظيمة؛ فقد وعدهم أن يوفيهم أجورهم ويزيدهم زيادة
من عنده تليق بفضله وكرمه سبحانه لم يبينها لهم بل أخفاها لهم ليتشوقوا
إليها، وأخبرهم أنه غفور شكور ، فيغفر لهم ذنوبهم وسيئاتهم ويفتح لهم أبواب
الرجاء في مغفرته وعفوه وتجاوزه ، وهو تعالى شكور لا يضيع لهم أي عمل صالح
يعملونه ولو كان مثقال ذرة، بل يقبله منهم وينميه لهم ويضاعف لهم مثوبته.
وتأمل على هذا النحو قول الله تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ
الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ
جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ
وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا
يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ
الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ
تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)}
وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ}
وهذا وعد من
الله لعباده الذين يخشونه بالغيب أن يغفر لهم ذنوبهم، وهذا يدلك على أنه
ليس من شرط الذين يخشون ربهم السلامة من الوقوع في المعاصي والآثام، بل قد
يقعون في بعضها، وهم على ذلك يخشون ربهم ويخافون سوء الحساب، ويستغفرون
ربهم ويُتْبِعون السيئةَ الحسنة ويتوبون إلى الله ويستغفرونه وبذلك مدحهم
الله وأثنى عليهم ووعدهم بمغفرة ذنوبهم.
وقد جعل الله من اجتنب الكبائر والفواحش من أهل الإحسان كما دل على ذلك قول الله تعالى: {وَلِلَّهِ
مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى
(31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا
اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ
أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ
أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى
(32)}
فليس من شرط
أهل الخشية عصمتهم من الذنوب الخطايا، بل هم من جملة البشر ينسون ويغفلون
ويخطؤون ويذنبون، ويغان على قلوبهم، لكنهم يسرعون الإنابة إلى الله تعالى،
ويجتنبون كبائر الإثم، ولا يتكلفون، ولا يراؤون، ولا يتزينون بما ليس فيهم.
وأنت إذا
تأملت هذا المعنى جيداً وجدت أنَّ من سلم من الكبائر فهو من أهل الإحسان،
ذلك أن سيئاته سوى الكبائر تُغفر له إذا اجتنب الكبائر كما قال الله تعالى:
{إن تجتنبوا كبائر ما تُنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً}
ومن كُفِّرَت عنه سيئاته قدم على الله تعالى وليس له سيئة يُعاقَب عليها، وما الناس إلا محسن أو مسيء أو خالط إحسانه بالإساءة.
والذي يقدُم على الله يوم القيامة وليس له سيئة فهو من أهل الإحسان الخالص، نسأل الله من فضله.
قالت عائشة رضي الله عنها: (إنكم لن تلقوا الله عز وجل بشيء خير لكم من قلة الذنوب، فمن سرَّه أن يُدْرِكَ الدائب المجتهد، فليكفَّ نفسه عن الذنوب). رواه ابن المبارك وهناد بن السري وأحمد بن حنبل وأبو داوود السجستاني في كتب الزهد لهم.
أسباب الخشية
أسباب الخشية ثلاثة جامعة لمعانٍ كثيرة:
السبب الأول: محبة الله جل وعلا، فصدق المحبة يحمل على الخشية من الانقطاع عن الله جل وعلاوالحرمان
من رضوانه، ولذلك إذا وجد أصحاب هذه المحبة في نصوص الكتاب والسنة أن من
عقوبة بعض الذنوب أن الله لا يكلم فاعليها ولا ينظر إليهم أورثهم ذلك خشية
خاصة يجدونها في قلوبهم لما وقر فيها من معرفة الله جل وعلاومحبته والشوق إلى لقائه، واليقين بأن الحرمان من تكليمه والنظر إليه عقوبة عظيمة لا يحتملها من صدقت محبته لله جل وعلا.
والسبب الثاني: الرجاء ، فإنَّ صدق الرجاء يحمل على الخشية من فوات ثواب الله عز وجل وفضله العظيم.
والسبب الثالث: الخوف، فالخوف الصادق يحمل على خشية التعرض لسخط الله وعقابه.
فعادت أسباب الخشية إلى أصول العبادات القلبية الثلاثة: (المحبة والرجاء والخوف)فهي أركان العبادة، وعليها مدراها، وصلتها – إذا صحَّت - بالخشية وثيقة كما تقدَّم.
وبهذا تعلم شيئاً من الفرق بين الخشية والخوف، وأن خشية العبادة لها لوازم تعبدية من المحبة والخوف والرجاء.
وقول الله تعالى: {سيذكَّر من يخشى} يدل على أنواع التذكر الثلاثة:
1: التذكر الذي يحمل على محبة الله جل وعلا، ومحبة لقائه والتقرب إليه من تذكر صفات الله عز وجل وكرمه وفضله وإحسانه.
2: والتذكر الذي يحمل على رجاء فضل الله عز وجل وحسن ثوابه؛ فإنه إذا تذكر ما أعده الله لعباده من الثواب والفضل العظيم دعاه ذلك إلى الازدياد من الأعمال الصالحة لما يرجو من حسن ثوابها.
3: والتذكر الذي يحمل على الخوف سخط الله تعالى وعقابه، وهذا ما يزجره عن ارتكاب المحرمات والتفريط في أداء الفرائض.
والأصل الجامع لهذه الأصول الثلاثة والمغذي لها هو: العلم؛ فإذا صح العلم بالله وعظم في قلب العبد ازداد نصيبه من الخشية لمعرفته بما يستوجب محبةَ الله تعالى وخوفَه ورجاءَه.
قال ابن رجب رحمه الله: (فلما زادت معرفة الرسول بربه زادت خشيته له وتقواه ، فإن العلم التام يستلزم الخشية كما قال تعالى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء}فمن
كان بالله وبأسمائه وصفاته وأفعاله وأحكامه أعلم كان له أخشى وأتقى، إنما
تنقص الخشية والتقوى بحسب نقص المعرفة بالله . وقد خرج البخاري في آخر "صحيحه " عن مسروق قال : قالت عائشة: صنع النبيصلى الله عليه وسلم( شيئا ترخص فيه وتنزه عنه قوم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم؛ فحمد الله ثم قال: (( ما بال أقوام يتنزهون عن الشيء أصنعه؟ فو الله إني لأعلمهم بالله وأشدهم خشية)) (ا.هـ.
فالعلم الصحيح يهدي العبد إلى ربه جلَّ وعلا، وإذا اهتدى العبد إلى ربه وعرفه حق المعرفة خشيه ؛ كما قال تعالى لموسى عليه السلام: {اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19)}
عناية السلف الصالح بالخشية
من الأصول
المقررة لطلاب التحقيق في أي علم من العلوم أن عليهم أن يتعرفوا أحوال
أئمة ذلك العلم وأساتذته؛ لأنهم أهله وأعرف الناس به، فيلازموا أحياءهم
ويقرؤوا سِيَر من مات من أئمتهم؛ ليتبيَّنوا طرائقهم ويعرفوا أخبارهم في
ذلك العلم، وكيف حصَّلوه وانتفعوا به، وليترسموا هديهم، ويسيروا على نهجهم
حتى يكونوا منهم.
ومعرفة أحوال
السلف الصالح في مسائل السلوك والعبادات من الأصول المهمة في حسن فهم هذه
المسائل واتباع سبيلهم، والسير على طريقتهم؛ وما ابتلينا به في هذا الزمان
من كثرة الفتن وقلة المعين، وكثرة الشواغل عن لزوم أهل العلم والخشية ،
وتقلب القلوب بالفتن وتبدل الأحوال يجعل قراءة سير السلف الصالح وتأملها
أكثر أهمية وأعظم نفعاً ، ورب خصلة حميدة يكتسبها العبد من سيرة رجل صالح
تكون مفتاحاً لخير عظيم تصيبه بركته في دنياه مع ما يرجو من ثواب ذلك وحسن
عائدته عليه في آخرته.
قال ابن الجوزي في صيد الخاطر: (سبيل
طالب الكمال في طلب العلم الاطلاع على الكتب التي تخلفت من المصنفات
فليكثر من المطالعة فإنه يرى من علوم القوم وعلو هممهم ما يشحذ خاطره،
ويحرك عزيمته للجد، وما يخلو كتاب من فائدة، وأعوذ بالله من سير هؤلاء
الذين نعاشرهم، لا ترى فيهم ذا همة عالية فيقتدي به المبتدئ ولا صاحب ورع
فيستفيد منه الزاهد، فالله الله، وعليكم بملاحظة سير السلف ومطالعة
تصانيفهم وأخبارهم، والاستكثار من مطالعة كتبهم رؤية لهم).
وقال حمدون القصَّار فيما نقله الشاطبي في الاعتصام: (من نظر في سير السلف عرف تقصيره ، وتخلّفه عن درجات الرجال).
فقراءة سير
السلف الصالح من العلماء وأئمة الدين تثبت السائرين، وتشحذ عزائم
المتهاونين، وتبصر الإنسان بمعرفة قدر نفسه، فتعينه على مداواة ما في نفسه
من آفات لو استمرت به لأضرته وربما أردته من العجب والغرور والوهن والفتور،
واستصعاب معالي الأمور، وكم من سيرة استنزلت عَبرة، وأورثت عِبرة، وتسلى
بها محزون، وتبصر بها غافل، وانفتح بها باب من العلم والمعرفة، وتيسر بها
سبيل من الهدى وحسن العمل.
ومن أنفع الأشياء لطالب هذا العلم أن يدمن قراءة سير أئمته، ويرتسم أحوالهم.
وسأذكر لك
شذرات من أقوال السلف وأحوالهم في شأن خشية الله تعالى لعلها تكون سائقاً
ودليلاً يحفزك إلى مزيد من الاطلاع على أخبارهم وآثارهم والانتفاع
بوصاياهم:
- قال مغيرة بن سعد بن الأخرم، قال: «ما خرج عبد الله إلى السوق، فمر على الحدادين، فرأى ما يخرجون من النار إلا جعلت عيناه تسيلان» رواه ابن أبي شيبة.
عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه.
- وقال أُبَيُّ بن كعبٍ رضي الله عنه:(عليكم
بالسبيل والسنة، فإنه ليس من عبدٍ على سبيلٍ، وسنةٍ ذكر الرحمن ففاضت
عيناه من خشية الله فمسته النار أبدًا، وليس من عبدٍ على سبيلٍ، وسنةٍ ذكر
الله فاقشعر جلده من خشية الله إلا كان مثله كمثل شجرةٍ يبس ورقها، فهي
كذلك إذ أصابتها ريحٌ فتحات ورقها عنها إلا تحاتت خطاياه، كما يتحات من هذه
الشجرة ورقها، وإن اقتصادًا في سنةٍ وسبيلٍ خيرٌ من اجتهادٍ في غير سنةٍ
وسبيلٍ، فانظروا أعمالكم، فإن كانت اقتصادًا واجتهادًا أن تكون على منهاج
الأنبياء وسنتهم). رواه الإمام أحمد في الزهد وابن أبي شيبة في مصنفه، وأبو داوود في الزهد، وغيرهم.
- وقال
أبو رجاءٍ العطاردي: «كان هذا المكان من ابن عباسٍ مجرى الدموع، مثل
الشراك البالي من الدموع» رواه الإمام أحمد في فضائل الصحابة وابن أبي شيبة
في مصنفه ومحمد بن نصر المروزي وغيرهم.
- وقال محارب بن دثارٍ رحمه الله قال: دخلت على ابن عمر رضي الله عنهما بيته وهو يصلي، فإذا هو يبكي في صلاته، فلما انصرف أقبل عليَّ وعلم أني قد رأيته وهو يبكي، فقال: (إن هذه الشمس لتبكي من خشية الله، ابكوا فإن لم تبكوا فتباكوا).
- وقال عبد الله بن عمر أيضا: ((لأن أدمع دمعة من خشية الله أحب إلي من أن أتصدق بألف دينار)) ذكرهما محمد بن نصر المروزي في قيام الليل.
- وقال
ابن الجوزي في صفة الصفوة: (عن القاسم بن محمد قال: كنا نسافر مع ابن
المبارك؛ فكثيراً ما كان يخطر ببالي؛ فأقول في نفسي: بأي شيء فضل هذا الرجل
علينا حتى اشتهر في الناس هذه الشهرة؟
إن كان يصلي إنا نصلي، ولئن كان يصوم إنا لنصوم، وإن كان يغزو فإنا لنغزو، وإن كان يحج إنا لنحج!
قال: فكنا في بعض مسيرنا
في طريق الشام ليلةً نتعشى في بيت إذْ طفئ السراج؛ فقام بعضنا فأخذ السراج
وخرج يستصبح؛ فمكث هنيهة ثم جاء بالسراج فنظرت إلى وجه ابن المبارك ولحيته
قد ابتلت من الدموع؛ فقلت في نفسي: (بهذه الخشية فضل هذا الرجل علينا، ولعله حين فقد السراج فصار إلى الظلمة ذَكَر القيامة).
قال المروذي: وسمعت أبا عبد الله أحمد بن حنبل قال: (ما رفع الله ابن المبارك إلا بخبيئة كانت له) )ا.هـ.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (روى ابن أبي حاتم عن ابن وهب أخبرني عبد الرحمن بن زيد بن أسلم قال: قال عمرو يعني ابن دينار(
إني ليلة أطوف بالبيت إذ سمعت حنين رجل بين الأستار والكعبة وبكاءه وتضرعه
فوقفت لأعرفه فذهب ليل وجاء ليل وهو كذلك حتى كاد يسفر فانكشف الستور عنه
فإذا هو طاووس رضي الله عنه فقال
من هذا عمرو قلت نعم أمتع الله بك قال متى وقفت ههنا قال قلت منذ طويل قال
ما أوقفك قلت سمعت بكاءك فقال أعجبك بكائي قلت نعم قال وطلع القمر في حرف
أبي قبيس قال ورب هذه البنية إن هذا القمر ليبكي من خشية الله ولا ذنب له
ولا يسأل عما عمل ولا يجازى به فعجبت أن بكيت من خشية الله وأنا صاحب
الذنوب وهذا القمر يبكي من خشية الله)ا.هـ.
وأخبار السلف في هذا
الشأن كثيرة مشتهرة، وتعاهد مطالعتها وتذكير النفس بها، يعرّف العبد
بتقصيره وقصوره ، ويحفزّه إلى سلوك سبيلهم، ولذلك كانت عناية الأئمة بجمع
أخبارهم وآثارهم ووصاياهم عناية ظاهرة، وتأمل مصنفات أهل العلم في كتب
الزهد والرقائق تجد هذا الأمر ظاهراً جلياً.
درجات الخشية
الخشية على ثلاث درجات، ولكل درجة أحكامها وآثارها:
الدرجة الأولى: درجة أصل الخشية، وهي الخشية التي تحمل العبد على الدخول في الإسلام وعبادة الله وحده لا شريك له واجتناب الشرك وما ينقض الإسلام.
فيجتنب نواقض الإسلام من خشية الله تعالى، وخشية عذابه والخلود في نار جهنم، ورجاء دخول جنته والفوز برؤيته جل وعلا.
وهذه الدرجة
هي الفارقة بين الإسلام والكفر، ومن انتفت عنه هذه الخشية حتى ارتكب ناقضاً
من نواقض الإسلام فهو كافر خارج من ملة الإسلام والعياذ بالله.
وأهل هذه
الدرجة وإن كانوا يقعون في بعض الكبائر ويفرّطون في بعض الفرائض فلهم نصيب
من الثواب الذي أعده الله لأهل خشيته ما دام معهم أصل الخشية الذي يحجزهم
عن الكفر بالله جل وعلا.
وهذه الدرجة درجة عصاة المسلمين من أصحاب الكبائر.
الدرجة الثانية: درجة
عباد الله المتقين؛ الذين حملتهم خشية الله تعالى على اجتناب ما حرَّم
الله، وامتثال ما أمر الله؛ فاتقوا الله جلَّ وعلا، واستقاموا على أمره
ونهيه، وهؤلاء لهم الأمن والفضائل والبركات التي جعلها الله لعباده
المتقين؛ كما تقدَّم بيانه في نظائره.
والدرجة الثالثة: درجة
المحسنين ؛ الذين حملتهم خشية الله تعالى على عبادة الله كأنهم يرونه،
فسارعوا في الخيرات وتقربوا إلى الله بالنوافل بعد الفرائض، وتوقوا الشبهات
والمكروهات بعد المحرمات، فهؤلاء هم أصحاب مرتبة الإحسان التي هي أعلى
مراتب الدين.
أحكام خشية غير الله تعالى
ما سبق كله كان في خشية
العبادة، أما ما يطلق عليه لفظ الخشية وهو لا يحمل معاني تعبديه ؛ فهذا
حكمه حكم الخوف الطبيعي يكون بحسب ما يحمل عليه فإن لم يحمل صاحبه على
ارتكاب محظور أو ترك مأمور فهي خشية طبيعية لا يلام عليها كأن يخشى السباع
والهوام والطغاة.
أما مَن
حملته تلك الخشية على ارتكاب محظور لا يعذر بارتكابه أو ترك مأمور به لا
يعذر بتركه فإنه مذنب آثم وإثمه على حسب جرمه؛ فإنْ أدَّت به هذه الخشية
إلى فعل صغيرة من الصغائر فإثمه بحسبه، وإن أدَّت به إلى فعل كبيرة كان
إثمه أعظم، وهو ملوم مذموم على الحالين كما قال الله تعالى: {أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا
الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ
إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ
أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ
لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا
قَلِيلٌ وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا
تَكُونُوا يُدْرِكُكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ
مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ
اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ
كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ
يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78)}
ولهذا تكثر
هذه الخشية عند المنافقين حتى إنها ربما أخرجتهم من دائرة الإسلام والعياذ
بالله وذلك إذا حملتهم على موالاة الكفار على المؤمنين كما قال الله تعالى:
{يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى
أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ
فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
(51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ
يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ
يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا
أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52)وَيَقُولُ
الَّذِينَ آَمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ
أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا
خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ
عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ
وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى
الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ
لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ
عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ
آَمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ
رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ
آَمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ}
- وأما
من حملته خشيته من فوات بعض حظوظ الدنيا على التعلق بالدنيا تعلقاً يكون
فيه تذلل وخوف ورجاء فهذا قد وقع في الشرك الأصغر وعبودية الدنيا والعياذ
بالله.
فإن حملته
عبوديته للدنيا على ارتكاب ناقض من نواقض الإسلام كفر والعياذ بالله؛ كحال
الذين يخشون الناس كخشية الله تعالى، وكخشية الضعفاء من الذين استكبروا حتى
تبعوهم على دينهم فاستحقوا عذاب النار معهم كما قصَّ الله خبرهم في كتابه
الكريم.
الإنابة
معنى الإنابة ولقد رأيت مطية معكوسة ..... تمشي بكلكلها وتزجيها الصَّبا كأنَّ ظهورَها حُزُمٌ أنابَتْ ....ز بِها أُصُلاً إلى الحيِّ الإماءُ
الإنابة: هي الرجوع والإقبال إلى الله تعالى.
قال قتادة في قوله تعالى: {وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ}: أي أقبلوا إلى ربكم.
وقال عبد الرحمن بن زيد : (الإنابة: الرجوع إلى الطاعة، والنزوع عما كانوا عليه، ألا تراه يقول: {مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ}). رواه ابن جرير.
وقال أبو منصور الأزهري: (أناب فلان إلى الله إنابة، فهو مُنيب، إذا تاب ورجع إلى الطاعة).
فالإنابة فيها نزوع ورجوع، وفيها إقبال من
العبد على ربه، وهذه هي حقيقة المعنى اللغوي لهذا اللفظ في لسان العرب فإنه
جامع بين الرجوع والإقبال.
يقال: أنابت المرأة إلى زوجها إذا رجعت إليه بعد نشوز.
قال أبو علي القالي في أماليه: (وأنشدنا أبو بكر بن الانباري قال أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى [ثعلب]:
ولقد رأيت سبيئة من أرضها ..... تسبى القلوب وما تنيب إلى هوى).
وقال النابغة الشيباني:
(أُصُل)جمع
أصيل وهو العصر ، وهو وقت رجوع الإماء من أعمالهن حاملات حزم الحطب على
رؤوسهن مقبلات إلى منازل الحيّ؛ فسمى هذا الرجوع والإقبال إنابة.
وهذا الإطلاق إنما يراد به أصل المعنى
اللغوي ، وهو عارٍ من المعنى التعبدي ، وسبب التنبيه على ذلك أنه ينبغي
لطالب العلم أن يعلم أن هذه الألفاظ قد تطلق ويراد بها المعنى التعبدي ،
وقد تطلق ويراد بها المعنى اللغوي المجرد عن اللوازم التعبدية ، وهو
استعمال صحيح جائز في مواضعه لا حرج فيه.
ومن غفل عن هذا الأمر ربما تشدد في منع إطلاق هذه الألفاظ جهلاً منه بأنها تطلق إطلاقاً سائغاً على معانٍ لا محذور فيها.
ثمرات الإنابة
وعد الله تعالى أهل الإنابة في كتابه بالهداية إليه ، كما قال تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27)}
وقال تعالى: {اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ}
فتبيَّن بذلك
أن الإنابة إلى الله سبب عظيم للهداية إلى الله التي هي أعظم المطالب، وهي
سبب الفوز والفلاح في الدنيا والآخرة، وإذا اهتدى العبد إلى ربّه جلَّ
وعلا حصلت له الخشية كما قال تعالى: {وأهديك إلى ربك فتخشى}.
وبذلك تعلم
أن بين الخشية والإنابة تناسب وتلازم ؛ فالخشية تقتضي الإنابة ، والإنابة
ثمرة الخشية، والإنابة على درجات كما أن الخشية على درجات، وكلما ازداد
العبدُ درجة في الإنابة أورثته زيادة خشيةٍ لله تعالى، وكلما عظمت خشية
الله تعالى في قلب العبد ازداد من الإنابة إليه، ولا يزال العبد كذلك حتى
يبلغ في هاتين العبادتين الجليلتين مقاماً رفيعاً عند الله جل وعلا، نسأل الله من فضله.
فالإنابة هي من آثار خشية الله وهي علامة عليها؛ كما قال تعالى: {هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33)}
ومن أحب الله تعالى أناب إليه، ومن رجا فضله تعالى أناب إليه، ومن خاف عذابه أناب إليه.
فمصدر الخشية: المحبة والخوف والرجاء، وثمرة الخشية الإنابة إلى الله تعالى كما قال تعالى: {اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ
مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ
وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ
مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ}
وقد بين الله تعالى أن المنتفعين بآياته والمتذكرين والمتبصرين هم أهل الخشية، وأهل الإنابة.
فإذا أُطلقت الخشية فلأنها سبب الإنابة والحامل عليها، وإذا أطلقت الإنابة فلأنها هي الثمرة المقصودة من الخشية.
قال تعالى: {هُوَ
الَّذِي يُرِيكُمْ آَيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا
وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ
لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}
وقال تعالى: {تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ}
فالعبد المنيب هو الذي جمع الخشية وأسبابها من المحبة والخوف والرجاء، والخشية الصحيحة تثمر لصاحبها الإنابة إلى الله جلَّ وعلا.
والإنابة سبب
لصلاح القلب وزكاة النفس وتطهرها من كثير من العلل والأدواء ، وتخلصها من
كثير من الآفات المردية، قال ابن الجوزي في المدهش: (إذا وقعت عزيمة الإنابة في قلب من {سبقت لهم منا الحسنى}قلعت قواعد الهوى من مسناة الأمل).
علامات الإنابة
أصدق علامات الإنابة : طمأنينة القلب المؤمن بذكر الله جل وعلا، كما قال الله تعالى: {قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28)}
قال قتادة: (سكنت إلى ذكر الله واستأنست به). رواه ابن جرير.
فطمأنينة القلب بذكر الله: سكونه واستئناسه ورضاه بسبب ذكر الله جل وعلاوما دلَّ عليه.
والباء فسرت بالسببية والمصاحبة والملابسة والاستعانة والتبرك وكلها معانٍ صحيحة تتسع لها دلالة هذا الحرف.
وهذه العلامة [طمأنينة القلب المؤمن بذكر الله] جامعة لمعانٍ عظيمة، يدلّ عليها ما فسّر به ذِكْر الله هنا؛
فقيل: الذكر: هو القرآن.
وقيل: الذكر هو ذكر العبد لربه بلسانه.
وقيل: الذكر هو ذكر العبد ربَّه في نفسه.
وقيل: الذكر هو التذكر الذي ينتفع به العبد من تفكره في آيات الله ومخلوقاته.
وكل هذه
المعاني صحيحة وهي من مدلول معنى ذكر الله جلَّ وعلا، وبها تحصل طمأنينة
القلب، ؛ فإن القلب إذا دهمه ما يزعجه ويُجْزِعه ثم ذَكَرَ ربَّه في نفسه
وعلم أن له ربّا سميعاً بصيراً رحيماً ودوداً لا يخفى عليه شيء ولا يعجزه
شيء ولا يخذل أولياءه ولا يتخلَّى عنهم، بل يهديهم وينصرهم ويحفظهم اطمأنَّ
قلبُه لما تذكَّر من أسماء الله وصفاته وآثارها التي لا تتخلف عنها.
وإذا ذكرَ
وَعْدَ الله تعالى لمن اتبع هداه أن لا يخاف ولا يحزن وأن لا يضل ولا يشقى،
وأن الله مع عباده المؤمنين المتقين يحبهم ويؤيدهم وينصرهم، ويخرجهم من
الظلمات إلى النور: اطمأنَّ قلبه بذكر الله، وصدق وعده.
وإذا تلا آيات الله جل وعلا وجد من نفسه طمأنينة لها وفرحاً بها ورضا ينشرح به الصدر وتسكن به النفس فيطمّن القلب بذكر الله جل وعلاالذي
أنزله على عباده؛ فيتبع العبد ما فيه من الهدى، ويعتبر بما فيه من العبر
والمواعظ، ويعقل ما فيه من الأمثال، فيثبت بإذن ربه على الحق والهدى فيزيده
الله هدى وفضلاً وثباتاً على الحق.
وإذا تأمَّل
آيات الله الكونية واعتبر بما فيها من العبر العظيمة وتعرَّف بها على أسماء
الله وصفاته ، وأن من خلق هذا الكون العظيم فإنه أعظم منه، ومن سيَّر هذه
الأفلاك العظيمة بنظام دقيق عجيب محكم حكيم عليم قدير، وأن من يدبّر أمور
الكائنات على كثرتها الهائلة وتنوعها العظيم واختلافها وتزامنها لا يشغله
شأن عن شأن ، ولا يعجزه شيء، ولا يخفى عليه شيء.
ولا يزال
يتفكر في نفسه وفي الآفاق وفي ما يراه من عجائب خلق الله تعالى للكائنات
وتدبيره لأحوالها وتقديره لأوصافها وقسمه لأقواتها وأرزاقها وطبائعها
وأخلاقها.
فيكون هذا التفكر دليلاً يذكّره بالله جل وعلافيطمئنّ
قلبه بذكر الله، ويثمر له هذا التفكر ما يثمر من خشية الله والإنابة إليه
وتعظيمه ومحبته والخضوع لأمره، وإخلاص العبادة له وحده لا شريك له.
ويدلّ على هذا المعنى قول الله تعالى: {وَمَا
يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ
مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا
بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ
أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ
لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8)}
وقال تعالى: {أَفَلَمْ
يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ
وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ
عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ
عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)}
وإذا ذَكَرَ
العبدُ ربَّه بلسانه مؤمناً بالله جلَّ وعلا عَصَمَه الله من كيد الشيطان
الوسواس الخناس الذي يوسوس فإذا ذكر العبد ربَّه خنس، وَوُقِي أيضاً شرَّ
وسوسة نفسه الأمارة بالسوء وشر وسوسة شياطين الإنس والجن، وإذا اندفعت هذه
الوساوس عن القلب وعُصم العبد من شرها اطمأن القلب لعصمته من الأذى الذي
كان يزعجه ويقلقه ؛ فإن ما يحجب الطمأنينة عن القلب راجع إلى معانٍ التحزين
والتيئيس والتشكيك والتخويف وكلها إنما مصدرها شرور النفوس ووساوس
الشياطين؛ فإذا عُصم العبد منها بقي القلب مطمئناً بذكر الله جلَّ وعلا.
وهذه المعاني إذا تأملتها حقَّ التأمل وجدتها من أظهر علامات الإنابة إلى الله تعالى.
وأن الشقي
المحروم هو المعرض عن ذكر ربه ، الذي إذا ذكر الله اشْمَأَزَّ قلبه، وإذا
تليت عليه آياته أعرض عنها؛ فهذا من المجرمين كما قال الله تعالى: {وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)}
ومن تأمَّل العقوبات التي جعلها الله لمن أعرض عن ذكره علم شدة انتقام الله جلَّ وعلا ممن لا يُنيب إليه ولا يطمئنّ قلبه بذكره.
قال الله تعالى: {وَمَنْ
أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ
مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ
يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى
فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا}
فتأمّل شدة هذه العقوبة، وكيف أنها في مقابل ما يمنّ الله به على أهل الخشية والإنابة من الفهم القرآن وفقهه والانتفاع به.
وقال تعالى: {وَمَنْ
يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ
قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ
أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37)}.
فانظر حفظني
الله وإياك ووقانا أسباب سخطه ونقمته عظم هذا الذنب وهو عمل قلبي وكيف أنه
سبب لهذه العقوبات العظيمة من الشقاء والخذلان، وتسلط الشياطين ، والحرمان
من الهدى والانتفاع بالقرآن، وسبب ذلك : الإعراض عن ذكر الله.
وعلاجه : الإنابة إلى الله تعالى، وطمأنينة القلب بذكره.
وتقديم الجار والمجرور في قوله تعالى: {ألا بذكر الله تطمئن القلوب}يدلك على أن القلوب لا طمأنينة لها على الحقيقة إلا بذكر الله جلَّ وعلا؛ الذي هو ربّها وخالقها ومعبودها الحق لا إله إلا هو.
وأنَّ ما
يحصل لأهل المعصية والإعراض من الفرح والانبساط إنما هو سكرة نفسية وخفَّة
شيطانية كما يسكر صاحب الهمّ بالخمر فيجد لها انبساطاً فإذا صحا من سكرته
عاد إليه كدره وحضره ضيقُه وهمُّه أشد مما كان عليه؛ فيدفع السُّكْرَ
بِسُكْرٍ مثلِهِ أو أشد.
ومما يتصل
بهذا المبحث ما ذكره بعض أهل العلم من الجمع بين الطمأنينة وما يجده المؤمن
في قلبه من الوجل والخوف من سخط الله وعقابه، وخلاصة بيان هذه المسألة ما
قاله الإمام الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان: (ووجه الجمع بين الثناء عليهم بالوجل الذي هو الخوف عند ذكره جل وعلا،
مع الثناء عليهم بالطمأنينة بذكره، والخوف والطمأنينة متنافيان هو ما
أوضحناه في كتابنا: دفع إيهام الاضطراب عن آيات الكتاب، وهو أن الطمأنينة
بذكر الله تكون بانشراح الصدر بمعرفة التوحيد، وصدق ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم فطمأنينتهم
بذلك قوية لأنها لم تتطرقها الشكوك ولا الشُّبَه، والوجل عند ذكر الله
تعالى يكون بسبب خوف الزيغ عن الهدى، وعدم تقبل الأعمال، كما قال تعالى عن
الراسخين في العلم {رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا}وقال تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}وقال تعالى: {تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ} [الزمر:23] ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه: ((يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك)) )ا.هـ.
وكلامه في الأضواء هنا أتم من كلامه في الدفع.
درجات الإنابة
الإنابة على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: درجة
أصل الإنابة، وهي الإنابة من الشرك إلى التوحيد، ومن الكفر إلى الإيمان،
وهذه الإنابة هي الفارقة بين الإسلام والكفر، ومن لم يأتِ بها فهو مشرك
كافر ليس من أهل ملة الإسلام؛ فإن ادَّعى الإسلام فإنما هو منافق.
ومن أناب هذه الإنابة فهو من أهل الإنابة لما معه من أصلها، وهو موعود بما وعد الله به المسلمين المنيبين إليه، كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17)}.
الدرجة الثانية: إنابة
المتقين ، وهي الإنابة من المعصية إلى الطاعة، ومن لم يأت بهذه الإنابة
فهو من الذين أسرفوا على أنفسهم بالمعاصي من عصاة المسلمين يشملهم اسم
الإسلام ويخشى عليهم من العذاب كما قال الله تعالى: {قُلْ
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا
مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ
هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ
وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا
تُنْصَرُونَ (54)}
الدرجة الثالثة: إنابة المحسنين، وهي الإنابة التي تحمل على كثرة ذكر الله وشكره وحسن عبادته، فيكون في قلوب أصحابها من التوبة والإقبال على الله جل وعلا،
والتذكر النافع، والتفكر في آياته، والاتعاظ بمواعظه، وعقل الأمثال التي
صرفها في كتابه ؛ ما يثمر لهم خشية الله تعالى وتعظيمه والخضوع له جل وعلافيعبدون الله كأنهم يرونه.
وإنابة
المحسنين هي أحسن الإنابات وأحبها إلى الله ، لما تقتضيه من كثرة التوبة
والرجوع إلى الله، وحسن الإقبال إليه تعالى، ولذلك كانت من صفات أصفيائه من
خلقه.
قال الله تعالى: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ}
وقال عن شعيب أنه قال: {وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}
وأوحى الله تعالى إلى نبيه محمد صلى الله عليه وسلم قوله: {وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ}.
ومن دعاء النبي صلى الله عليه وسلم في استفتاح تهجده: ((اللَّهُمَّ لَكَ أَسْلَمْتُ، وَبِكَ آمَنْتُ، وَعَلَيْكَ تَوَكَّلْتُ، وَإِلَيْكَ أَنَبْتُ)) كما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما ، وتقديم الجار والمجرور يفيد الإخلاص.
التوكل والإنابة
من حقق التوكل والإنابة فقد حقق العبودية لله تعالى.
قال ابن القيم رحمه الله: (التوكل نصف الدين، والنصف الثاني الإنابة؛ فإن الدين استعانة وعبادة ؛ فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة).
وفي الفاتحة: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} وبهما اكتمال دين العبد.
تعرض الشيطان لأهل الإنابة
ومما ينبغي التفطن له ما نبه إليه شيخ الإسلام ابن تيمية بقول:(الشيطان
يكثر تعرضه للعبد إذا أراد الإنابة إلى ربه والتقرب إليه والاتصال به ؛
فلهذا يعرض للمصلين ما لا يعرض لغيرهم ويعرض لخاصة أهل العلم والدين أكثر
مما يعرض للعامة.
ولهذا يوجد عند طلاب العلم والعبادة من
الوساوس والشبهات ما ليس عند غيرهم لأنه لم يسلك شرع الله ومنهاجه؛ بل هو
مقبلٌ على هواه في غفلةٍ عن ذكر ربه؛ وهذا مطلوب الشيطان بخلاف المتوجهين
إلى ربهم بالعلم والعبادة؛ فإنه عدوهم يطلب صدهم عن الله.
قال تعالى: {إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا}ولهذا
أمر قارئ القرآن أن يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم؛ فإن قراءة القرآن على
الوجه المأمور به تورث القلبَ الإيمانَ العظيم وتزيده يقينًا وطمأنينةً
وشفاءً.
وقال تعالى: {وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا}وقال تعالى: {هَٰذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ} ). ا.هـ.