10 Jul 2019
● الخوف.
الخوف والرجاء عملان
جليلان من أجلّ أعمال القلوب، وكلام أهل العلم فيهما مستفيض في كتب السلوك
والاعتقاد والتفسير وشروح الأحاديث، وتلخيصه في المباحث التالية:
-أنواع الخوف.
- موجِبات الخوف من الله تعالى.
- آثار الخوف من الله.
- الفرق بين خوف العبادة وغيره.
- أقسام الناس في الخوف من الله.
الخوف
منزلة الخوف
الخوف
عبادة من أجل العبادات، بل هو أصل التقوى، وإنما سمِّي المتقي متقيًا
لأنه يجعل بينه وبين ما يخاف وقاية؛ فالحامل على التقوى في الأصل هو الخوف.
وقد أمر الله تعالى بإفراده بالخوف وتعظيم مقامه جلَّ وعلا فقال تعالى: {إنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيطَانُ يُخَوِّفُ أوْلِيَآءَهُ فَلاَ تَخَافُـوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ}
وقال تعالى: {وإياي فارهبون}
وقال تعالى: {وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً}
وقال تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى}
وقال تعالى: {ولمن خاف مقام ربه جنتان}
فالخوف من الله تعالى أصل عظيم من أصول
الدين، لا يصح الإيمان إلا به، وهو أصل التقوى، ورأس الحكمة، ومفتاح
التوفيق، وجُنَّة المؤمن، وقيدُه عن المعاصي والتفريط، وهو عبادة من أجل
العبادات ، وقد عرفنا أنه عبادة بأمور:
أولها: أن الله تعالى أمر به فقال :{وخافون}، وقال تعالى: {وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا}، وهو يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، وامتثال أمر الله عبادة.
وثانيها : أن الله تعالى جعل الخوف منه شرطاً للإيمان ومقتضى من مقتضياته فقال تعالى: {وخافون إن كنتم مؤمنين}.
وثالثها: أن
الله تعالى يحب أن نخاف منه، ووعد الذين يخافون مقامه بالثواب العظيم ؛
وقد عرفنا أن كل ما يحبّ الله أن نعملَه عملَ قلبٍ أو عملَ جوارحٍ أو
نقولَه فهو عبادة.
ورابعها: أن الله تعالى أثنى على الذين يخافونه ومدحهم بل جعل وَجَلَ القلوب من مخافة الله تعالى شرطاً لحقيقة الإيمان، قال تعالى: {إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ
وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى
رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا
رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا
لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)}
-وقال تعالى في مدح المصلّين الذين تنفعهم صلاتهم: {وَالَّذِينَ
يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ
رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ
(28)}
-وقال تعالى في مدح المنفقين الذين ينفعهم إنفاقهم: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60)}.
- وقال تعالى في مدح أهل القرآن الذين يتلونه حق تلاوته: {اللَّهُ
نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ
تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ
جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ
يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ
(23)}.
وهذه العبادات: الصلاة والصدقة والتلاوة والذكر هي أصول أعمال الجوارح، كما أن المحبة والخوف والرجاء أصول أعمال القلوب.
وخامسها: أن
الله تعالى أمر بالاتساء بنبيه صلى الله عليه وسلم، وقد بيَّن النبي صلى
الله عليه وسلم بفعله وبما أخبر به عن نفسه أحسن الهدي في أعمال القلوب
وغيرها، ومنها الخوف من الله عز وجل، فقال: ((أما والله إني لأتقاكم لله وأخشاكم له)). متفق عليه.
فتبيَّن بذلك أن الخوف من الله عبادة من أجل العبادات .
أنواع الخوف:
الخوف له أنواع ثلاثة:
النوع الأول:
الخوف من سخط الله تعالى ، والحرمان من رضوانه ، وهذا هو خوف المحبّين ،
فإن خوف المؤمن من فوات ما يحبه ويتعلق به قلبه من رضوان الله عز وجل
ومحبته وما يتبع ذلك من بركات عظيمة أشد من خوف كل خائف على أعظم كنز عنده،
أو صحة نفسه أو حياة حبيبه.
ويكفي في ذلك أن تعلم أن غاية من تعلقت قلوبهم بمحبة الله جل وعلاأن ينظروا إليه، فهذه أغلى الأمنيات وأعز المطالب، وكان من دعاء النبي صلى الله عليه وسلم:((وأسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم، والشوق إلى لقائك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة)).
فأعظم عقوبة للمحب حرمانه من رؤية
محبوبه الأعظم ورضاه، وخوفُه على هذا المطلب لا يعادله خوفٌ على غيره، وقد
جعل الله من عقوبة الكفار حرمانهم من رؤيته فقال تعالى: {كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون . ثم إنهم لصالوا الجحيم}
فبدأ بعقوبة الحجاب قبل الجحيم؛
والتقديم مشعر بالتعظيم، ويعلم الله ما يكون في قلوبهم من الحسرة العظيمة
يوم القيامة بسبب هذا الحرمان.
قال شيخ الإسلام: (فعذاب الحجاب أعظم أنواع العذاب، ولذة النظر إلى وجهه أعلى اللذات ؛ ولا تقوم حظوظهم من سائر المخلوقات مقامَ حظهم منه تعالى).
ثم إنَّ أنس المؤمن في حياته ونعيم روحه
إنما هو في رضوان الله عز وجل عليه، فإذا تعرَّض لسخط الله باقتراف معصية
كان خوفه على فقد أنسه بالله وما تنعُم به روحُه من بركات رضوان الله
أعظمَ من خوف أصحاب الأموال على أموالهم، بل إنه في حال الاستقامة يخاف من
زوال هذه النعمة، ويخاف أن لا يدرك درجاتٍ تتوق إليها نفسه ويسعى
لبلوغها؛ فيخاف من اقتراف ما يحول بينه وبينها.
وخوف
المؤمن من الحرمان من رضوان الله عز وجل في الدنيا ناشئ من شهوده افتقاره
الشديد إلى ربّه جلّ وعلا، ومعرفته بضعف نفسه وعجزها وأنه لا حول له ولا
قوة إلا بالله، وأنه إذا لم يرض الله عنه ولم يهيئ له أسباب رحمته وفضله
وبركاته فهو حليف الحرمان والشقاء والعياذ بالله.
فإذا تيقَّن المؤمن ذلك يقينا يحلّ في
سويداء القلب، ويجده في نفسه كان أحرصَ شيء على رضوان الله، ولا أخوف عنده
على نفسه من أمر يجلب له مقت الله تعالى وسخطه ويحرمه من رضوانه.
وَسَخَطُ الله تعالى له سبب واحد: هو
معصية الله، لأن العبد إذا اجتنب فعل المعصية لم يأتِ ما يُعاقَب عليه،
ولذلك قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (خمسٌ
احفظوهن، لو ركبتم الإبل لأنضيتموهنّ قبل أن تدركوهن: لا يخافنّ العبدُ
إلا ذنبَه، ولا يرجُ إلا ربَّه، ولا يستحيِ جاهلٌ أن يسأل، ولا يستحيِ
عالمٌ إن لم يعلم أن يقول الله أعلم، والصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من
الجسد، إذا قطع الرأس نتن باقي الجسد، و لا إيمان لمن لا صبر له).
رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والبيهقي في شعب الإيمان وأبو نعيم في
الحلية وابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله، من طرق لا تخلو من ضعف لكن يشدّ بعضها بعضاً.
فقوله: (لا يخافنّ العبد إلا ذنبه) مقصده أن مصدر شقاء العبد وحرمانه وعذابه هو ذَنْبه، ولذلك كان الشيطان أحرص شيء على أن يوقع العبد في الذنب.
النوع الثاني: الخوف من العذاب الدنيوي والأخروي، وهذا الخوف ملازم لقلب المؤمن، قال الله تعالى في صفات المؤمنين {وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)}.
وأشدّ
ذلك وأوقعه في القلب الخوف من عذاب الآخرة، وذلك يشمل عذاب القبر وأهوال
يوم القيامة وعذاب النار، وهو مع ذلك يخاف من العذاب الدنيوي أيضاً.
ومن ذلك: أن كل معصية توعد عليها بلعنة
الله وغضبه فهي سبب خوف عظيم ، وكم من إنسان بقي معذباً سنوات من عمره
بسبب لَعنةٍ لُعنها على كبيرة عملها، استهان بما عمل، ونسي وغفل، فلم يتب
من ذنبه، ولم يسترح من عذابه.
فهذا من عذاب الدنيا الذي يخافه
المؤمنون، فيوجب لهم ذلك محاسبة النفس وتأمل ما يعانونه من العذاب ومناسبته
لما يخشون اقترافهم له من الذنوب؛ فإن الغالب أن يكون الجزاء من جنس
العمل.
قال ذو النون المصري: (الخوف رقيب العمل).
وبين المحاسبة والخوف تلازم ؛ فالخوف
يوجِب محاسبةَ النفس حتى ينظر العبدُ ما ارتكب مما يستحقّ عليه العذاب،
ومحاسبة النفس توجب الخوفَ من الله تعالى لأنه إذا حاسب نفسه عرف تقصيره
فخاف أن يعاقب عليه.
وأما الخوف من عذاب الآخرة فله شأن آخر في قلوب المؤمنين، وقد أثنى الله عليهم بهذه الخصلة فقال تعالى عن عباده المصلين الذاكرين: {رِجَالٌ
لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ
الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ
الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37)}.
وذَكَر - تعالى - عن عباده الأبرار أنهم يقولون: {إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10)فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11)}
وقال تعالى: {وَمَا
يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ
لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا
وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ}.
وقال تعالى: {قُلْ
إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15)لَهُمْ
مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ
يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)}
وقال تعالى عن أهل الجنة: {وَأَقْبَلَ
بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي
أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ ، فَمَنَّ اللهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ
السَّمُومِ إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ
الرَّحِيمُ}.
فالخوف من العذاب هجيرى قلوب المتقين، ومن خاف سلك سبيل النجاة، ومن أمن العقوبة أساء العمل.
عن النعمان بن بشير رضي الله عنهما ، قَالَ : سَمِعْتُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم، يقول : ((
إنَّ أهْوَنَ أهْلِ النَّارِ عَذَاباً يَوْمَ القِيَامَةِ لَرَجُلٌ يوضعُ
في أخْمَصِ قَدَمَيْهِ جَمْرَتَانِ يَغْلِي مِنْهُمَا دِمَاغُهُ . مَا
يَرَى أنَّ أَحَداً أشَدُّ مِنْهُ عَذَاباً ، وَأنَّهُ لأَهْوَنُهُمْ
عَذَاباً)) مُتَّفَقٌ عَلَيهِ .
-
قال شعبة بن الحجاج: حدثنا موسى بن أنس، عن أنس بن مالك رضي الله عنه،
قال: بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحابه شيء فخطبَ خطبةً ما سمعتُ
مثلها قط، قال: «عرضت علي الجنة والنار، فلم أر كاليوم في الخير والشر، ولو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا»
قال: فما أتى على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أشد منه، غطَّوا رؤوسهم ولهم خنين). رواه البخاري ومسلم.
- وقال أبو إسحاق السبيعي: سمعت النعمان بن بشير يخطب وهو يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنَّ
أهونَ أهلِ النار عذاباً يومَ القيامةِ لَرَجُلٌ توضع في أخمص قدميه
جمرتان، يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجَل والقُمْقُم، ما يرى أن أحدا أشد
منه عذابا وإنه لأهونهم عذابا» رواه البخاري ومسلم.
النوع الثالث:
الخوف من فوات الثواب؛ فإن العامل المجتهد يرجو ثمرة عمله ، ويخاف أن
يخيب سعيه بشيء يقترفه فيخسر ما كان يرجوه من الثواب العظيم، ولذلك اشتد
خوف الصالحين من اقتراف محبطات الأعمال، لأنها توبق سعي العبد وتحرمه من
ثواب ما عمل.
ولا شيء أخوف عندهم من الشرك لأنه محبط
لجميع العمل ولا يعفى عمَّن ارتكبه مهما بلغ من العلم والعبادة، كيف وقد
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وَلَقَدْ
أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ
لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65)بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)}
وقال في أنبيائه الذين آتاهم الكتاب والحكم والنبوة: {ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88)}
وقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من
محبطات الأعمال عامّها وخاصّها تحذيراً شديداً، فالمحبطات العامة هي التي
تحبط جميع العمل وهي نواقض الإسلام، والمحبطات الخاصة هي التي تحبط ثواب
بعض الأعمال؛ كالمنَّة في النفقة ، والرياء الأصغر في العبادة، وطلب الدنيا
بعمل الآخرة في بعض الأعمال، ونحو ذلك.
وهذا التحذير يوجب الخوف من فوات الثواب بسبب ذنب يرتكبه العبد فيوبق سعيه، والعياذ بالله.
موجبات الخوف من الله:
الخوف من الله تعالى منزلة عظيمة توجبها أمور:
الأمر الأول: العلم بالله تعالى وبأسمائه وصفاته جل وعلا،
فإنَّ من تفكر في أسماء العظمة والجلال ، وتفكر في آثارها ومقتضياتها،
وتفكر في أفعال الملك العظيمة ، وآمن بها أوجب له ذلك الخوف الشديد من الله
تعالى؛ وكلما كان المؤمن أعلمَ بالله كان أخشى له، ولذلك قال الله تعالى:
{إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء}، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن أتقاكم وأعلمكم بالله أنا)) متفق عليه، وفي رواية أخشاكم.
وقد قيل:
على قدر علم المرء يعظم خوفه ..... فما عالم إلا من الله خائف
فآمن مكر الله بالله جاهل ..... وخائف مكر الله بالله عارف
فمن
ذلك: أن تعلم أن الله هو الواحد القهار، والعزيز الجبار، والعلي الكبير ،
والقوي القدير، لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، ولا يخفى عليه شيء،
فعال لما يريد، له الكبرياء والمجد، شديد العقاب والبطش، ذو انتقام ممن
يعصيه، يغار إذا انتهكت محارمه، ويغضب ويمقت، ويقبض ويمحق، ولا يخاف عاقبة
فعله؛ فمن شهد ذلك بقلبه وآمن به حقَّ الإيمان أورثه خوفاً عظيماً من
الله، يحول بينه وبين معاصيه، وقد قال الله تعالى: {ويحذركم الله نفسه} وقال: {ولا يغرنكم بالله الغرور}.
الأمر الثاني:
الخوف من المقام بين يدي الله جلَّ وعلا، وهو أمر كائن لا محالة لكل
مكلَّف محسن أو مسيء، فمن تفكر في هذا المقام وخافه في الدنيا هوَّنه الله
عليه يوم القيامة، ومن استخف به في الدنيا شدده الله عليه يوم القيامة.
قال الله تعالى: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41)}
وقال تعالى:{ولمن خاف مقام ربه جنتان}
وعن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((ما
منكم من أحدٍ إلا سيكلمه ربه ليس بينه وبينه ترجمان ، فينظر أيمن منه فلا
يرى إلا ما قدَّم من عمله، وينظر أشأم منه فلا يرى إلا ما قدَّم من
عمله، وينظر بين يديه فلا يرى إلا النار تلقاء وجهه، فاتقوا النار ولو بشق
تمرةٍ )) متفق عليه .
الأمر
الثالث: مطالعة آيات الوعيد وأحاديثه ، وتأمّلُ ما أعده الله للعصاة من
العذاب الشديد، فمن تفكر في ذلك وآمن به أوجب له ذلك الخوف من التعرض لسخط
الله وعقابه.
قال الله تعالى: {فذكر بالقرآن من يخاف وعيد}وقال:{ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعيد}.
الأمر الرابع: كثرة
الذكر؛ فإن الغفلة تقسي القلب؛ ولا يزال الغافل يقسو قلبه شيئاً فشيئاً
لكثرة ما يرين عليه؛ حتى يختم على قلبه فلا يؤثر فيه زجر ولا وعظ إلا أن
يشاء الله أن يتداركه برحمته فيمنَّ عليه بتوبة من عنده.
قال الله تعالى: {ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}.
الأمر الخامس:
تزكية النفس من الأخلاق السيئة ولا سيما الكبر والعجب والشحّ والحسد؛
فإنّها تفسد القلب وتقسّيه، وإذا فسد القلب وقسا ضعف فيه أثر الخوف، وكان
إلى عدم المبالاة أقرب، وهو وإن لم يقلها بلسان المقال فلسان الحال ينادي
بها.
وهذه
الأمور الخمسة في أنواع الخوف الثلاثة التي تقدّم ذكرها، وأما الخوف الذي
يوجبه الوقوع في المعصية أو الهمّ بها فقد أحسن العبارة عنه ابن القيّم
رحمه الله فقال في طريق الهجرتين: (الخوف من أَجلّ منازل الطريق، وخوف
الخاصة أَعظم من خوف العامة، وهم إليه أحوج، وهو بهم أَليق، ولهم ألزم. فإن
العبد إما أن يكون مستقيماً أو مائلاً عن الاستقامة فإن كان مائلاً عن
الاستقامة فخوفه من العقوبة على ميله، ولا يصح الإيمان إلا بهذا الخوف، وهو ينشأ من ثلاثة أُمور:
أحدها: معرفته بالجناية وقبحها.
والثانى: تصديق الوعيد وأن الله رتب على المعصية عقوبتها.
والثالث: أنه لا يعلم لعله يمنع من التوبة ويحال
بينه وبينها إذا ارتكب الذنب. فبهذه الأمور الثلاثة يتم له الخوف، وبحسب
قوتها وضعفها تكون قوة الخوف وضعفه، فإن الحامل على الذنب إما أن يكون عدم
علمه بقبحه، وإما عدم علمه بسوءِ عاقبته، وإما أن يجتمع له الأمران لكن
يحمله عليه اتكاله على التوبة، وهو الغالب من ذنوب أهل الإيمان، فإذا علم
قبح الذنب وعلم سوءَ مغبته وخاف أن لا يفتح له باب التوبة بل يمنعها ويحال
بينه وبينها اشتد خوفه. هذا قبل الذنب، فإذا عمله كان خوفه أشد.
وبالجملة فمن استقر فى قلبه ذكر الدار الآخرة وجزائها، وذكر المعصية
والتوعد عليها، وعدم الوثوق بإتيانه بالتوبة النصوح هاج فى قلبه من الخوف
ما لا يملكه ولا يفارقه حتى ينجو. وأما إن كان مستقيماً مع الله فخوفه يكون
مع جريان الأنفاس، لعلمه بأن الله مقلب القلوب). إلى آخر ما قال وهو فصل
طويل نفيس.
آثار الخوف من الله وثمراته:
للخوف من الله تعالى ثمرات عظيمة وآثار جليلة:
منها: أنه يوجب في القلب إجلال الله تعالى وتعظيمه وتوقيره وخشيته ، وهذا هو حقيقة التعبد.
ومنها: أنه يدفع العبد للاستقامة والمسارعة إلى الخيرات، والتورع عن الشبهات، والتقلل من فضول المباحات، ومراقبة الجوارح.
قال الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57)وَالَّذِينَ
هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ
لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ
وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60( أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ }
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من خاف أدلج ، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة )) رواه الترمذي.
قال النووي: ( (( أدْلَجَ )): بإسكان الدال ومعناه سار من أول الليلِ، والمراد التشمير في الطاعة).
قال أبو عثمان الحناط: سمعت ذا النون وشكا إليه رجل السُّبات فقال له: (لو خفت البيات لم يغلبك السبات). رواه البيهقي في الشعب.
ومنها: أنه سبب للانتفاع بالقرآن العظيم وما يتبع ذلك من بركات عظيمة؛ فإن الخوف هو ثمرة الإنذار ، وقد قال الله تعالى: {وَأَنْذِرْ
بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ
لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)}، وقال تعالى:{فَذَكِّرْ بِالْقُرْآَنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ}
ومنها: أنه
يهذب النفس وينقيها من الأخلاق السيئة ، ويطهر القلب من أدوائه؛ فالخوف
والكبر لا يجتمعان، إذا حل الوجل في القلب طرد الكبرَ والعجب والشحّ
والحسد، وما يتركب من هذه الآفات ويتولد عنها من شرور عظيمة وبلايا جسيمة
تودي بصحابها إلى المهالك.
ومنها:
أنه يزجر العبد عن الظلم والعدوان ؛ فمن خاف انزجر، فيأمن الناس شرَّه،
ويسلم المسلمون من لسانه ويده، بل يجعل الله له في القلوب مودة ومهابة، وقد
روى البيهقي في شعب الإيمان عن عمر بن عبد العزيز وجعفر بن محمد بن زين
العابدين والفضيل بن عياض أنهم قالوا: (من خاف الله أخاف منه كلَّ شيء، ومن لم يخف الله أخافه من كل شيء).
وقد روي مرفوعاً من حديث ابن مسعود وحديث واثلة ابن الأسقع ولا يصحان.
وقال يحيى بن معاذ الرازي: (على قدر حبك الله يحبك الخلق، وعلى قدر خوفك من الله يهابك الخلق، وعلى قدر شغلك بأمر الله يشغل في أمرك الخلق). رواه البيهقي في الشعب.
وأما قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه:(نعم العبد صهيب لو لم يخف الله لم يعصه) فلم يرد به نفي الخوف عنه، وإنما مراده أن إجلاله لله ومحبته إياه تمنعانه من معصيته.
الفرق بين خوف العبادة وغيره:
الخوف على قسمين:
القسم الأول:
خوف العبادة: وهو الذي يحمل معنى العبادة من التذلل والرهبة والخشية من
إيقاع الضرر ممن يملك إيقاعه، فيقوم بالقلب عبادات عظيمة من الرهبة والخشية
والإنابة والتوكل وتعلق القلب فهذا الخوف لا شك أن صرفه لغير الله جل وعلاشرك أكبر مخرج عن الملة، قال الله تعالى: ﴿وَإِيَّايَ فَارْهَبُون﴾
وهذا الخوف هو من عمل المشركين، ولذلك إذا أردت أن تعرف معنى الخوف
الشركي فاعرف حال المشركين الذي يخافون هذا الخوف، وقد ذكر الله لنا من
أخبارهم، قال الله تعالى حكاية عن خليله إبراهيم عليه السلام في محاجته
لقومه: ﴿وَلَا أَخَافُ مَا
تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ
شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا
أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ
يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ
بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾
وقال عن عاد قوم هود في مجادلتهم لنبيهم: ﴿قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آَلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ
نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آَلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي
أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي
تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا
هُوَ آَخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾.
وقال لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿أَلَيْسَ اللهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) ﴾
قال ابن جرير رحمه الله: (يقول
تعالى ذكره لنبيه محمد صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم: ويخوّفك هؤلاء
المشركون يا محمد بالذين من دون الله من الأوثان والآلهة أن تصيبك بسوء،
ببراءتك منها، وعيبك لها، والله كافيك ذلك).
وقال قتادة: (بعث
رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم خالد بن الوليد إلى شعب بسُقام
ليكسر العزّى، فقال سادنها -وهو قيمها -: يا خالد أنا أحذّركها، إن لها
شدّة لا يقوم إليها شيء، فمشى إليها خالد بالفأس فهشّم أنفها).
وقال مجاهد: (﴿وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ﴾ يعني: «يخوفونك بالأوثان التي يعبدون من دون الله عز وجل»).
ومن عبَّاد الأوثان والقبور اليوم من
يخوِّف الناس من هؤلاء الذين يعبدونهم من دون الله بأن لهم قدرة وتصرفاً
وإذا غضبوا على شخص أرسلوا له من يعذبه ويصيبه بالأمراض وربما يشلّ جسده أو
يقتله ونحو ذلك من التخويف الذي لا يجوز لمؤمن أن يخافه.
خوف السر
يذكر بعض العلماء عبارة (خوف السر)
ويقصدون به خوف التعبد، كما صرَّحوا بالتمثيل له بخوف عباد القبور
والأولياء، وهؤلاء في الحقيقة جمعوا أنواعاً من الشرك منها اعتقادهم أن
أولئك الأموات يطلعون على ما يعملون، واعتقادهم قدرتهم على المؤاخذة وإحلال
العقوبة والسخط، وخوفهم أن يقطعوا عنهم المدد أو يتخلوا عن الشفاعة لهم
ونحو ذلك؛ فلذلك تجد بعضهم إذا سمع أحداً يذكر أحد أولئك الأموات بسوء أو
ينهى عن الغلو فيهم يُرى عليه أثر الخوف من غضب ذلك الولي بزعمهم.
وخوف السر هذا فيه معاني التعبد من
الرهبة والخشية وتعلق القلب بالمعبود والالتجاء إليه، وهذه عبادات عظيمة من
صرفها لغير الله تعالى فقد أشرك، والعياذ بالله تعالى من الشرك.
فالخوف التعبدي عبادة من أجَلّ العبادات صرفه لغير الله تعالى شرك أكبر.
القسم الثاني من الخوف: الخوف الطبيعي، وهو ما خلا من معاني التعبد، وهذا حكمه بحسب ما يحمل عليه:
مثاله: خوف العبد من السباع والهوام
والظلمة الطغاة، وهو خوف لا يلام عليه العبد بل قد يعذر بسببه في أحوال
ويُرخّص له في بعض الأحكام؛ فقد يسقط عن الرجل وجوب صلاة الجماعة للخوف،
وقد يجوز له جمع ما يجمع الصلوات بسبب الخوف، ونحو ذلك.
- أما إن حمل هذا الخوف صاحبَه على ترك بعض الواجبات التي لا يعذر بتركها أو ارتكاب محظور لا يعذر بارتكابه فهو محرم لا يجوز.
ومثاله: جماعة من المسلمين ظاهرون في بلد من البدان حملهم الخوف من العدو على ترك الجهاد في سبيل الله عز وجل؛
وترك إعداد العدة لذلك؛ فهؤلاء مذمومون مفرطون مذنبون بتركهم فريضة
الجهاد في سبيل الله عز وجل، وسنة الله تعالى جارية بأن يسلط الله عليهم
أعداءهم وينزع مهابتهم من صدور الكافرين بسبب مخالفتهم لاتباع هدى الله جل وعلا، وتقديمهم خوف العدو على الخوف من الله جل وعلا، وقد قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾
﴿يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ﴾ أي يعظمهم في نفوسكم حتى تخافوهم.
فهذا الخوف من أولياء الشيطان محرم لا يجوز.
بل قد يصل الخوف من غير الله تعالى
بالعبد إلى الكفر والعياذ بالله؛ كمن يحمله الخوف على الرضا بالكفر
واختياره خوفاً وجبناً كما قال الله تعالى: ﴿مَنْ
كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ
وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ
صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ(106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآَخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآَخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾
وهذا هو أصل خوف الأتباع من المتبوعين من أئمة الكفر كما قال الله تعالى فيهم: ﴿وَلَوْ
تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ
بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا
لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ
الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ
صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ
مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ
الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ
وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ
لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ
وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ
يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾
وقال تعالى: ﴿وَإِذْ
يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ
اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ
عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) ﴾
فهؤلاء حملهم خوفهم الطبيعي على الكفر والعياذ بالله.
أقسام الناس في الخوف من الله:
الناس في الخوف من الله على درجات:
الدرجة الأولى:
السَّابِقون المقرَّبون وهم الذين حملهم الخوف من الله تعالى على
المسارعة في الخيرات والتقرُّب إلى الله تعالى بالفرائض والنوافل والورع
واجتناب المحرمات والشبهات؛ فهؤلاء بخير المنازل
وهم الذين أثنى الله تعالى عليهم بقوله: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آَتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾
وقوله: ﴿أَمْ
مَنْ هُوَ قَانِتٌ آَنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ
الْآَخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ
يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو
الْأَلْبَابِ﴾
الدرجة الثانية: المقتصدون وهم الذين حملهم الخوف من الله تعالى على اجتناب المحرمات وفعل الواجبات فهؤلاء هم المتقون المقتصدون.
الدرجة الثالثة:
المفرِّطون الظالمون لأنفسهم من المسلمين، وهؤلاء معهم أصل الخوف من الله
تعالى بحيث يمنعهم من الشرك الأكبر وارتكاب ناقض من نواقض الإسلام
والامتناع عن بعض الكبائر، لكنهم لضعف خوفهم من الله تعالى يرتكبون بعض
الكبائر ويتركون بعض الفرائض الواجبة والعياذ بالله، فهؤلاء مذنبون
مستحقّون للعذاب بقدر ما وقعوا فيه من المخالفة، وهم باقون في دائرة
الإسلام.
الدرجة الرابعة:
الغلاة المُفْرِطُون وهم الذين حملهم الخوف الشديد على نوع من اليأس من
رحمة الله والقنوط من رحمته؛ فهؤلاء مذنبون غلاة، ولا يجوز للمؤمن أن ييأس
من روح الله، ولا يقنط من رحمته.
الدرجة الخامسة: المشركون وهم الذين صرفوا هذه العبادة العظيمة أو شيئاً منها لغير الله جل وعلا؛ فهؤلاء مشركون كفار خارجون عن دين الإسلام والعياذ بالله.
فهذه درجات الناس في خوف التعبد وهم في كل درجة تتفاوت منازلهم.
الرجاء
حقيقة الرجاء: ترجو النجاة ولم تسلك مسالكها ... إن السفينة لا تجري على اليَبَـــــــــــــــــــــــــــــــسِ
الرجاء نقيض اليأس، وهو طمع القلب في حصول منفعة.
قال الله تعالى: ﴿وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين﴾
وقال عن أوليائه المتقين: ﴿تتجافى جنوبهم عن المضاجع يدعون ربهم خوفاً وطمعاً ومما رزقناهم ينفقون﴾.
والرجاء على ثلاثة أصناف:
1: رجاء في محبة الله تعالى ورضاه والزلفى لديه، وهو رجاء المحبين.
2: ورجاء في ثواب الله تعالى، وهو رجاء الراغبين.
3: ورجاء في النجاة من سخط الله تعالى وعقابه، وهو رجاء المتقين.
الفرق بين الرجاء والتمني المذموم
وفرق ما بين الرجاء المحمود والتمني المذموم أنّ الرجاء
يحفّز للعمل ويدفع إليه، والتمني المذموم يكون معه قعود عن العمل، واتباع
للهوى، كما في حديث أبي بكر بن أبي مريم الغساني عن ضمرة بن حبيب عن شداد
بن أوس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت، والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)). رواه أحمد والترمذي وابن ماجه.
-
وقال قبيصة بن عقبة: سمعت سفيان الثوري يقول: كان مسلم بن يسار قد وقع في
ثنيته الدم كانوا يرون أنه من كثرة سجوده ليلاً ونهاراً، فدخل عليه بعض
جيرانه فوجده قد سقطت ثنيتاه وهو يدفنهما، فقال له مسلم: دخلت علي وأنا
أدفن بعضي!
فقال له الجار: لا أدري الذي أنت فيه إلا أني أرجو الله وأخافه.
قال مسلم: (يا أخي ما أدري ما معنى الخوف الذي لا يبعد مما تخاف!! ولا أدري ما معنى الرجاء الذي لا يقرب مما ترجو!!). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
- وقال مالك بن مغول، عن معاوية بن قرة، أنه جلس ورجلان من التابعين يتذاكران، فقال أحدهما: إني لأرجو وأخاف.
وقال الآخر:(إنه من رجا شيئاً طلبه، وإنه من خاف من شيء هرب منه، وما حسب امرئ يرجو شيئاً لا يطلبه؟!! وما حسب امرئ يخاف شيئا لا يهرب منه؟!!). رواه الإمام أحمد في الزهد، والبيهقي في شعب الإيمان.
- وقال أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم العيني:
ما بـــــــــال دينك ترضى أن تدنّسَه ... وثوبك - الدهرَ - مغسول من الدَّنَـــس
- قال ابن القيّم رحمه الله: (من رجا شيئاً استلزم رجاؤه ثلاثة أمور:
أحدها: محبة ما يرجوه.
الثاني: خوفه من فواته.
الثالث: سعيه في تحصيله بحسب الإمكان.
وأما رجاء لا يقارنه شيء من ذلك فهو من باب الأماني، والرجاء شيء والأماني
شيء آخر، فكل راجٍ خائف، والسائر على الطريق إذا خاف أسرع السير مخافة
الفوات.
وفي جامع الترمذي من حديث أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: «من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألا إن سلعة الله غالية، ألا إن سلعة الله الجنة» .
وهو سبحانه كما جعل الرجاء لأهل الأعمال الصالحة، فكذلك جعل الخوف لأهل
الأعمال الصالحة، فعلم أن الرجاء والخوف النافع ما اقترن به العمل)ا.هـ.
- وقال في موضع آخر: (والفرق
بينه وبين التمني أن التمني يكون مع الكسل، ولا يسلك بصاحبه طريق الجد
والاجتهاد. و"الرجاء" يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل:
فالأول كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويأخذ زرعها.
والثاني كحال من يشق أرضه ويفلحها ويبذرها. ويرجو طلوع الزرع.
ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصحّ إلا مع العمل).
منزلة الرجاء
الرجاء
أصل من أصول العبادات القلبية، وحادي الرغب الذي يحدو القلوب إلى العمل،
ابتغاء محبّة الله تعالى والتقرّب إليه، والفوز برحمته وثوابه، والنجاة من
سخطه وعذابه.
فالرجاء الصحيح هو الذي يحمل على العمل، وينشّط النفس له.
- قال الله تعالى:
{أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ
الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ
عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)}
- وقال تعالى: {إِنَّ
الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ
أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}
- وقال تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ
وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ
تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29)}
- وقال تعالى: {أَمَّنْ
هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ
وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ
وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ
(9)}
- وقال تعالى: {وَلَا
تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ
فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا
لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)}
- وقال تعالى: {فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)}
- وقال تعالى: {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)}
- قال الأعمش: سمعت أبا صالح، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((قول
الله تعالى: أنا عند ظن عبدي بي، وأنا معه إذا ذكرني، فإن ذكرني في نفسه
ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإ ذكرته في ملإ خير منهم، وإن تقرّب إليَّ
بشبر تقربت إليه ذراعاً، وإن تقرَّب إليَّ ذراعاً تقربت إليه باعاً، وإن
أتاني يمشي أتيته هرولة)). رواه البخاري ومسلم.
- وقال الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر، قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بثلاثٍ يقول: «لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن بالله الظن». رواه أحمد، ومسلم، وأبو داوود.
-
وقال الوليد بن مسلم: حدثني الوليد بن سليمان يعني ابن أبي السائب، قال:
حدثني حيان أبو النضر، قال: دخلت مع واثلة بن الأسقع على أبي الأسود الجرشي
في مرضه الذي مات فيه؛ فسلَّم عليه، وجلس قال: فأخذ أبو الأسود يمين واثلة
فمسح بها على عينيه، ووجهه لبيعته بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال
له واثلة: واحدة، أسألك عنها؟
قال: وما هي؟
قال: كيف ظنك بربك؟
قال: فقال أبو الأسود: وأشار برأسه، أي حسن.
قال واثلة: أبشر! إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (قال الله عز وجل: أنا عند ظنّ عبدي بي، فليظن بي ما شاء). رواه أحمد في مسنده من هذا الطريق، ورواه ابن حبان من طريق محمد بن المهاجر عن يزيد بن عبيدة عن حيان أبي النضر بنحوه.
-
وقال هشام بن الغاز الجرشي: حدثني حيان أبو النضر، قال: دعاني واثلة بن
الأسقع وقد ذهب بصره؛ فقال: يا حيان قدني إلى يزيد بن الأسود الجرشي؛ فإنه
بلغني أنه عليل؛ فقدته حتى أتينا منزل يزيد بن الأسود؛ فإذا البيت مشحون
عوادا، وإذا الرجل يجود بنفسه؛ فلما رأى أهل البيت واثلة تحركوا حتى جعلوا
له طريقا؛ فأثبت له وسادة عند رأس يزيد بن الأسود؛ فقلت لواثلة: إن يزيد لا
يعقل في الغمرات؛ فقال: نادوه؛ فنادينا أصواتنا: يا يزيد بن الأسود؛ فإذا
هو لا يجيب ولا يسمع.
فقلت:
هذا أخوك واثلة؛ فبقي من عقله ما عرف اسم واثلة؛ فقال بيده كأنه يلتمس
شيئاً؛ فعرفنا ما يريد؛ فأخذت يد واثلة فوضعتها في يد يزيد؛ فلما وجد مسّها
وضعها على عينيه ومرّة على فؤاده، واشتد بكاء أهل البيت لما صنع، وذلك
لموقع يد واثلة من يد رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال واثلة: ألا
تحدثني كيف ظنك بالله في هذا المصرع؟
فناديت:
أيا يزيد ألا إنه يقول لكم كذا وكذا؛ ففهمها فقال: اعترضتني ذنوب لي أشفيت
على هلكة، ولكن أرجو رحمة الله؛ فكبّر واثلة، وكبّر أهل البيت تكبيرة؛
فقال: أبشر، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عن الله عز وجل:
قال: «أنا عند ظنّ عبدي بي فليظنّ بي ما شاء». رواه الطبراني في مسند الشاميين.
-
وقال كثير بن فائد البصري: حدثنا سعيد بن عبيد، قال: سمعت بكر بن عبد الله
المزني، يقول: حدثنا أنس بن مالك، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم
يقول: (قال الله تبارك وتعالى: يا ابن آدم إنك ما
دعوتني ورجوتني غفرت لك على ما كان فيك ولا أبالي، يا ابن آدم لو بلغت
ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك، ولا أبالي، يا ابن آدم إنك لو
أتيتني بقراب الأرض خطايا ثم لقيتني لا تشرك بي شيئا لأتيتك بقرابها
مغفرة). رواه الترمذي،
وله شاهد عند الإمام أحمد والدارمي من طريق شهر بن حوشب عن معدي كرب عن أبي ذر رضي الله عنه.
وشاهد
آخر من طريق إبراهيم بن إسحاق الصيني، عن حسن بن الربيع، عن حبيب بن أبي
ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس رضي الله عنهما به.
والحديث بمجموع هذه الطرق حسن إن شاء الله.
- قال ابن القيم رحمه الله: (الرجاء
ضروري للمريد السالك، والعارف لو فارقه لحظة لتلف أو كاد؛ فإنه دائر بين
ذنب يرجو غفرانه، وعيب يرجو إصلاحه، وعمل صالح يرجو قبوله، واستقامة يرجو
حصولها ودوامها، وقرب من الله ومنزلة عنده يرجو وصوله إليها. ولا ينفك أحد
من السالكين عن هذه الأمور أو بعضها).
أقسام الرجاء:
والرجاء على قسمين:
القسم الأول: رجاء العبادة.
القسم الثاني: رجاء نفع الأسباب.
- فرجاء العبادة لا يجوز صرفه لغير الله جل وعلا،
ومن صرفه لغير الله تعالى فهو مشرك لأنه يحمل معاني العبادة من التذلل
والخضوع والمحبة والانقياد واعتقاد النفع والضر وتفويض الأمر وتعلق القلب
والتقرب إلى المعبود، وهذه كلها عبادات عظيمة تقتضيها عبادة الرجاء فمن
صرفها لغير الله جل وعلافهو مشرك كافر.
وهذا كرجاء المشركين في آلهتهم التي
يعبدونها من دون الله أنها تشفع لهم عند الله أو أنها تقربهم إلى الله
زلفى، وكرجاء بعض عباد الأولياء والقبور بأنهم ينجونهم من الكربات ويدفعون
عنهم البلاء ويجلبون لهم النفع ونحو ذلك مما لا يقدر عليه إلا الله تعالى.
- القسم الثاني: رجاء نفع الأسباب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله جل وعلا.
وهذا على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى:
رجاء جائز، وهو رجاء نفع الأسباب المشروعة مع عدم تعلق القلب بها، فهذا
جائز، وليس بشرك، وفي مسند الإمام أحمد وسنن الترمذي من حديث أبي هريرة رضي
الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلمقال: ((خيركم من يُرجى خيره ويُؤمَنُ شرُّه، وشرُّكم من لا يُرجَى خيره ولا يُؤمن شره)).وإسناده صحيح.
فهذا الرجاء ليس هو رجاء العبادة، وإنما هو رجاء نفع السبب مع اعتقاد أن النفع والضر بيد الله جل وعلا.
الدرجة الثانية: رجاء محرم، وهو الرجاء في الأسباب المحرمة ليستعين بها على معصية الله جل وعلا.
الدرجة الثالث:
شرك أصغر، وهو تعلق القلب بالأسباب؛ كتعلق بعض المرضى بالرقاة والأطباء
تعلقاً قلبياً يغفلون معه عن أن الشفاء بيد الله عز وجل؛ فهذا من شرك
الأسباب كما تقدم شرحه.
وهذه العبادات قاعدتها واحدة من فقهها سهل عليه معرفة هذه التقسيمات وتيسر له ضبط مسائلها إن شاء الله تعالى.
وهو أن هذه الألفاظ: المحبة والخوف والرجاء والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والرغبة والرهبة والخشية ونحوها تطلق في النصوص على معنيين:
المعنى الأول: ما
كان يحمل معنى العبادة من التذلل والخضوع والمحبة والتعظيم والانقياد
واعتقاد النفع والضر فتكون حينئذ عبادة من صرفها لغير الله عز وجل فقد أشرك
الشرك الأكبر والعياذ بالله، ويكون بذلك كافراً خارجاً عن الملة.
وإذا أردت أن تعرف هذا المعنى فانظر إلى
ما يفعله مَن أثنى الله عليهم من الموحدين في هذه العبادات، وما يفعله
مَن ذمَّهم الله من المشركين بهذه العبادات.
وبذلك تعرف المعنى التعبدي فيها الذي لا يجوز صرفه لغير الله جل وعلا.
المعنى الثاني:
ما ليس فيه معنى العبادة، وإنما هو سبب من الأسباب أو غرض من الأغراض؛
فهذا حكمه بحسب ما يترتب عليه فإن استعين به على طاعة الله فهو طاعة وقربة،
وإن استعين به على محرم فهو حرام، وإن حمل على فعل محرم أو ترك واجب لا
يعذر بتركه فهو محرم؛ فأما إن تعلّق القلب بالسبب وصار فيه نوع تذلل له
مصحوب بخوف ورجاء فيكون حينئذ شركاً أصغر.
الجمع بين المحبة والخوف والرجاء:
اعلم أن هذه العبادات الثلاثة: المحبة والخوف والرجاء هي أصول العبادات وعليها مدارها، قال الله تعالى: {وَلَا
تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا
وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}
فالإحسان في العبادة أن يجمع العبد بين الخوف والرجاء، ومن فعل ذلك كانت رحمة الله قريب منه، ومما يعين على ذلك استحضار الثواب والعقاب؛ وملاحظة الوعد والوعيد.
- قال سعيد بن أبي سعيد المقبري، عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:
«إنَّ الله خلق الرحمة يوم خلقها مائة رحمة، فأمسك عنده تسعاً وتسعين
رحمة، وأرسل في خلقه كلهم رحمة واحدة، فلو يعلم الكافر بكل الذي عند الله
من الرحمة لم ييئس من الجنة، ولو يعلم المؤمن بكل الذي عند الله من العذاب
لم يأمن من النار». رواه البخاري.
- وقال أبو وائل شقيق بن سلمة، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «الجنة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله، والنار مثل ذلك». رواه البخاري.
وهذا يوجب التلازم بين الخوف والرجاء.
- وقال جعفر بن
سليمان الضبعي: حدثنا ثابت، عن أنس، قال: دخل رسول الله صلى الله عليه
وسلم على شابّ وهو في الموت؛ فقال له: كيف تجدك؟
قال: أرجو الله يا رسول الله، وأخاف ذنوبي.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يجتمعان في قلب عبد في مثل هذا الموطن إلا أعطاه الله الذي يرجو، وآمنه مما يخاف». رواه الترمذي، والنسائي في الكبرى، وابن ماجه.
- وفي وصية أبي بكر إلى عمر لما استخلفه: (وإن الله ذكر أهل الجنة بصالح ما عملوا، وأنه تجاوز عن سيئاتهم؛ فيقول القائل: ألا أبلغ هؤلاء!
وذكر أهل النار بأسوإ ما عملوا، وأنه ردّ عليهم صالح ما عملوا؛ فيقول قائل: أنا خير من هؤلاء
,
وذكر آية الرحمة وآية العذاب ليكون المؤمن راغباً وراهباً، لا يتمنى على
الله غير الحق، ولا يُلقي بيده إلى التهلكة؛ فإن أنت حفظت وصيتي لم يكن
غائب أحب إليك من الموت، وإن أنت ضيعت وصيتي لم يكن غائبٌ أبغضَ إليك من
الموت، ولن تعجزه). رواه ابن أبي شيبة من طريق إسماعيل بن خالد عن زبيد بن الحارث اليامي، وهو مرسل جيد رجاله ثقات.
- وقال قتادة: حدثنا مطرف، قال: كنا نأتي زيد بن صوحان فكان يقول: (يا عباد الله أكرموا وأجملوا، فإنما وسيلة العباد إلى الله عز وجل خصلتان: الخوف، والطمع). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
وزيد بن صوحان العبدي تابعي عابدٌ مخضرم، من أهل البصرة، وهو أخو صعصعة بن صوحان.
- وقال ضمرة بن ربيعة الرملي، عن عبد الله بن شوذب، عن الحسن البصري قال:«الرجاء والخوف مطيتا المؤمن» رواه عبد الله بن الإمام أحمد في كتاب الزهد لأبيه، وأبو نعيم في الحلية.
- وقال مكحول الشامي: (من
عبد الله بالحب وحده فهو زنديق، ومن عبد الله بالخوف وحده فهو حروري، ومن
عبد الله بالرجاء وحده فهو مرجئ، ومن عبد الله بالحب والخوف والرجاء فهو
مؤمن موحد). ذكره أبو حامد الغزالي في الإحياء.
- وقال يحيى بن معاذ الرازي:
(الإيمان ثلاثة: الخوف والرجاء والمحبة، وفي جوف الخوف ترك الذنوب، وفيه
النجاة من النار وفي جوف الرجاء الطاعة، وفيه وجوب الجنة، وفي جوف المحبة
احتمال المكروهات و به تجد رضا الله عز وجل). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
- وقال ابن رجب: (وقد
عُلِم أن العبادة إنما تبنى على ثلاثة أصول: الخوف، والرجاء، والمحبة،
وكل منها فرض لازم، والجمع بين الثلاثة حتم واجب؛ فلهذا كان السلف يذمّون
من تعبد بواحد منها وأهمل الآخرين، فإنّ بدع الخوارج ومن أشبههم إنما حدثت
من التشديد في الخوف والإعراض عن المحبة والرجاء، وبدع المرجئة نشأت من
التعلق بالرجاء وحده والإعراض عن الخوف، وبدع كثير من أهل الإباحة والحلول
ممن ينسب إلى التعبد نشأت من إفراد المحبة والإعراض عن الخوف والرجاء).
ولذلك كان العلماء
يحذرون ممن يُعرف عنه الإكثار من دعوى المحبة والخوض فيها من غير خشية،
فالذي يدعي المحبة وهو بعيد عن الخشية واتباع السنة والموالاة في الله
والمعاداة في الله والغيرة على حرمات الله فدعواه كاذبة.
وفي الحديث القدسي (المتحابون بجلالي) فقَرَن المحبة بالجلال للتنبيه على ما في قلوبهم من إجلال الله وتعظيمه مع التحابّ وبذلك يكونون حافظين لحدود الله.
- قال ابن رجب:(وقد
كثر في المتأخرين المنتسبين إلى السلوك تجريد الكلام في المحبة وتوسيع
القول فيها بما لا يساوي على الحقيقة مثقال حبة، إذ هو عار عن الاستدلال
بالكتاب والسنة، وخال من ذكر كلام من سلف من سلف الأمة وأعيان الأئمة،
وإنما هو مجرد دعاوى، قد تشرف بأصحابها على مهاوي)ا.هـ.
- وقال ابن القيم رحمه الله:(القلب
في سيره إلى الله عز وجل بمنزلة الطائر؛ فالمحبة رأسه، والخوف والرجاء
جناحاه؛ فمتى سلم الرأس والجناحان فالطير جيد الطيران، ومتى قطع الرأس مات
الطائر، ومتى فقد الجناحان؛ فهو عرضة لكل صائد وكاسر)ا.هـ.
- وقال شيخ الإسلام ابن تيمية: (اعلم
أن محركات القلوب إلى الله عزَّ وجلَّ ثلاثة: المحبة والخوف والرجاء،
وأقواها المحبة وهي مقصودة تراد لذاتها؛ لأنها تراد في الدنيا والآخرة
بخلاف الخوف فإنه يزول في الآخرة قال الله تعالى {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
والخوف المقصودُ منه الزجر والمنع من الخروج عن الطريق؛ فالمحبة تُلقي
العبد في السير إلى محبوبه، وعلى قدر ضعفها وقوتها يكون سيره إليه، والخوف
يمنعه أن يخرج عن طريق المحبوب، والرجاء يقوده؛ فهذا أصلٌ عظيم يجب على كل
عبدٍ أن يتنبه له؛ فإنه لا تحصل له العبودية بدونه، وكلّ أحدٍ يجب أن يكون
عبداً لله لا لغيره)ا.هـ.
وبيان ذلك أن ما يدفع القلب للعمل ثلاثة أمور: المحبة،
والخوف، والرجاء فمن أحب الله أطاعه، ومن خاف الله أطاعه، ومن رجا ثواب
الله أطاعه؛ فمن المؤمنين من يغلب عليه دافع المحبة فيطيع الله عز وجل محبة
له، مع خوفه من الله ورجائه له، لكن الذي يغلب على قلبه المحبة وصدق
التقرب إلى الله عز وجل.
ومن المؤمنين من يغلب عليه الخوف من الله
فيطيع الله خوفاً منه، سواء خاف عقابه الدنيوي أو عقابه الأخروي؛ فالذي
يحمله غالبا على فعل الطاعات واجتناب المحرمات خوفه من الله.
ومن المؤمنين من يغلب عليه رجاء ثواب الله فتجد أن أكثر ما يحمله على فعل الطاعات واجتناب المحرمات هو رجاء ثواب الله وفضله.
والكمال أن يجمع العبد بين هذه الثلاثة، فيطيع الله محبة له، وخوفاً منه، ورجاء لثوابه وفضله.
والمحبة أعلى مرتبة من مرتبة الخوف
والرجاء إذا أردنا المفاضلة بينها، لأن المحبة تبقى في الدنيا والآخرة،
وأما الخوف فإنه يزول في الآخرة.
والجمع بين هذه الثلاثة هو منهج السلف الصالح وهو الذي عليه هدي النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذه العبادات بينها تلازم؛ فالمحب خائف راجٍ، والخائف محب راجٍ، والراجي محب خائف، وقد سبق شرح ذلك.
قال أبو العتاهية إسماعيل بن القاسم العيني (ت:211هـ):
لَيسَ يَرجو اللَهَ إِلّا خائِفٌ .....مَن رَجا خافَ وَمَن خافَ رَجا
وزعم
بعض الصوفية أن من يعبد الله محبة له فقط أعلى وأكمل ممن يعبد الله رجاء
لثوابه أو خوفاً من عقابه، حتى كان بعضهم يدعو: (اللهم إن كنت تعلم أني
أطيعك رغبة في جنتك فاحرمني منها!!) وهذا ضلال مبين وخسران عظيم إن لم
يرحمه الله لجهله وضعف عقله؛ فإنَّ الله أمرنا أن نسأله من فضله ورغَّب في ثوابه فمن ترك رجاء الله فقد عصى الله. وكذاك الحب ما أشجعه ..... يركب الهول ويعصي من وزع
والله قد حذّر من عقابه وعذابه فمن لم يخف الله فقد عصى الله.
والمقصود أن هدي النبي صلى الله عليه وسلم وهدي أصحابه الجمع بين هذه العبادات العظيمة؛ فيعبدون الله محبة له كما وصفهم الله بقوله: ﴿والذين آمنوا أشد حباً لله﴾
ويعبدون الله خوفاً من عقابه كما أمرهم الله بقوله: ﴿وخافون إن كنتم مؤمنين﴾
وجعل صفة الرجاء فرقاناً بين المؤمنين والكافرين فقال: ﴿وترجون من الله ما لا يرجون﴾
ورغَّبهم في ثوابه وأمرهم بسؤاله من فضله فقال تعالى:﴿واسألوا الله من فضله﴾.
فاللهم إنا نسألك من فضلك يا ذا الفضل العظيم.
ولتوضيح منازل هذه العبادات العظيمة والتلازم
الشرعي بينها، وحاجة المؤمن إليها جميعاً في سلوكه الصراط المستقيم يقال:
إن من أحب الله سار إليه وتقرب إليه، والسير إليه يكون بامتثال أوامره
واجتناب نواهيه فهو سير معنوي على الصراط المستقيم الذي هو الطريق إلى
المحبوب الأعظم.
فمحبة الله تدفع العبد إلى التقرب إليه، وعلى حسب قوة المحبة وضعفها تكون مسارعة العبد في الطاعات ومسارعته في الكف عن المحرمات.
فإن شدة المحبة تحمل على صدق العمل، وتذهل
العبد عن المشقة وتخلصه من علل النفس فيخف عليه العمل، ولا يلتفت لعذل
عاذل ولا لوم لائم؛ فتقوم النفس بأعمال لا يقوم بها من لم يجد هذه المحبة.
ومن جيد قول سويد بن أبي كاهل:
والمقصود أن صدق المحبة يحرك قلب العبد المحب إلى العمل.
والخوف من الله يمنعه من الانحراف عن الصراط المستقيم فلا يتعدى حدود الله وهو يخاف عقاب الله.
ورجاؤه لفضل الله يحفزه لفعل الطاعات ويؤمله لقاء الله تعالى والفوز بقربه والتنعم بعظيم ثوابه، والنظر إلى وجهه الكريم.
نسأل الله تعالى من فضله ورحمته وبركاته.
أيهما يغلّب الرجاء أم الخوف
الجمع بين الرجاء والخوف
واجب، لأن عدم الرجاء يفضي إلى القنوط من رحمة الله، وعدم الخوف يفضي إلى
الأمن من مكر الله، وكلاهما هلَكة.
- قال حماد بن سلمة: أخبرنا ثابت، أنّ مطرفا قال: «لو وزن رجاء المؤمن خوفه ما رجح أحدهما صاحبه». رواه أحمد في الزهد، وابن أبي شيبة في مصنفه، والبيهقي في شعب الإيمان.
- قال ابن هانئ: قال لي أبو عبد الله [أحمد بن حنبل]: (ينبغي للمؤمن أن يكون رجاؤه وخوفه واحداً).
- وقال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت أبا عثمان المغربي، يقول: (من حمل نفسه على الرجاء تعطل، ومن حمل نفسه على الخوف قنط، ولكن ساعة وساعة، ومرة ومرة). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
لكن اختلف العلماء أيهما يغلَّب الخوفُ أم الرجاء على مذاهب في السلوك أرجحها أنفعها لقلب السالك، وأحسنها أثراً في صلاح أعماله.
والأكمل اعتدال الرجاء
والخوف، وظهور أثر كلّ واحد منهما في حينه؛ فإذا عرضت دواعي المعصية ظهر
أثر الخوف من الله؛ فنهى النفس عن الهوى، وإذا حضر ما يُؤمر به أمر وجوب أو
ندب وجد في قلبه عزيمة صادقة على العمل.
وإذا خشي العبد من غلبة
الخوف عليه ما يؤدي إلى غلوّ أو قنوط فينبغي له أن يعالج قلبه بما يعظّم
فيه الرجاء في الله تعالى من ملاحظة نصوص الوعد، والتفكّر في فضل الله
ورحمته، وفضائل الأعمال.
وإذا خشي على نفسه من
اتباع الهوى واقتراف المعاصي لغلبة الرجاء والانبساط فيه فينبغي أن يعالج
قلبه بما يعظّم مخافة الله فيه؛ من مطالعة نصوص الوعيد، والتفكّر في صفات
جلال الله تعالى وآثارها، وشدّة عذابه، وأليم عقابه.
فإذا وقع في ذنب وجب عليه الأمران: الخوف والرجاء
- أما الخوف فلأجل أن يزجر النفس عن الاسترسال في المعاصي، ويبادر بالندم والتوبة.
- وأما الرجاء فلأجل أن
يبادر بالتوبة والاستغفار وعمل الأعمال الصالحة ليكفّر بها عن سيئاته؛ فإن
للمعصية وحشة في القلب وسطوة على النفس؛ فإذا ضعف الرجاء بعدها خُشي على
القلب أن يتسلل إليه القنوط من رحمة الله.
ولذلك كان من إرشاد النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها). كما في السنن والمسند من حديث أبي ذر ومعاذ رضي الله عنهما.
فالأمر بعمل الحسنة يستلزم الأمر برجاء ثوابها، ومن ثوابها أنها تمحو السيئة.
- قال أبو عبد الرحمن السلمي، عن عبد الله بن خبيق الأنطاكي صاحب يوسف بن أسباط أنه قال: (الرجال ثلاثة: رجل عمل حسنة فهو يرجو ثوابها، ورجل عمل سيئة ثم تاب فهو يرجو المغفرة،
والثالث: الرجل الكذاب يتمادى في الذنوب، ويقول: أرجو المغفرة، ومن عرف نفسه بالإساءة ينبغي أن يكون خوفه غالباً على رجائه). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
لكنْ من العبّاد من يكون
في طبعهم وما ارتاضت عليه نفوسهم غَلبة الرجاء مع صحة الخوف في قلوبهم؛
فلذلك يغلب عليهم أداء العبادات رغبة في ثوابها.
ومنهم من يغلب عليه الخوف
مع بقاء الرجاء صحيحاً في قلبه؛ لكن يكون الغالب عليه أداء العبادات خوفاً
من الله واجتهاداً في النجاة من سخطه وعقابه.
فمن كانت غلبة الرجاء لا تخرجه إلى الأمن مكر الله، والتهاون في المعاصي؛ فهو على سبيل سنّة ، وصحّة منهج.
وكذلك من كانت غلبة الخوف لا تخرجه إلى القنوط من رحمة الله، واليأس من رَوحه.
واختار جماعة من أهل
العلم أن يغلّب الخوف في فتن السراء حتى لا يغترّ بها، ويغلّب الرجاء في
فتن الضراء حتى لا يقنط من رحمة ربه، ولتنشط النفس للعمل مع وطأة البلاء،
ولا سيما إذا حضره الموت فإنّه يتأكد تغليب حسن الظنّ بالله ورجاء عفوه
ورحمته.
ومعنى تغليب الخوف أن
يذكّر نفسه بما يعظم به خوف الله في قلبه من التفكر في صفات جلال الله
تعالى، ونصوص الوعيد، وقرب الرحيل، وأهوال الآخرة.
وكذلك تغليب الرجاء بما يقابلها.
- قال سوار بن عبد الله العنبري: حدثنا المعتمر بن سليمان، قال: قال لي أبي حين حضرته الوفاة: ((يا معتمر حدثني بالرخص لعلي ألقى الله وأنا حسن الظن به)). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
- وقال أبو زكريا النووي في رياض الصالحين: (اعلم أنَّ المختار للعبد في حال صحته أن يكون خائفاً راجياً، ويكون خوفه ورجاؤه سواء، وفي حال المرض يمحض الرجاء).
قلت: لعلّه أراد يغلّب الرجاء.
وللعلماء في هذه المسألة مذاهب:
المذهب الأول: اعتدال الخوف والرجاء، وأن لا يغلّب أحدهما على الآخر.
قالوا: لأنه إذا غلب أحدهما على الآخر دلّ ذلك على ضعف في الجانب الآخر، وللضعف أثره على السلوك.
وقد تقدّم ذكر بعض الآثار عن السلف في ذلك.
- وقال أبو عبد الرحمن السلمي: سمعت منصور بن عبد الله، يقول: سمعت أبا علي الروذباري، يقول: (الخوف
والرجاء هما كجناحي الطير إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه، وإذا نقص
واحد منهما وقع منه النقص، وإذا ذهبا جميعا صار الطائر في حد الموت). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
والمذهب الثاني:
تغليب الخوف حتى يكفّ عن المحرّمات ويحترز من المعاصي، وأما المأمورات
فإنه إذا أدّى الفرائض كان ما يعمله من النوافل بعد ذلك نافعاً مباركاً وإن
كان يسيراً.
وهؤلاء غلب على قلوبهم طلب السلامة.
- قال قبيصة بن عقبة:
سمعت سفيان الثوري قال: قال رجل لمسلم بن يسار علمني كلمة تجمع لي موعظة
نافعة قال: فأطرق طويلا ثم رفع رأسه؛ فقال: (لا ترد بعلمك غير من يملك ضرك ونفعك).
قال: زدني.
قال: (أهملْ رجاءك ولا تستعمله، واستشعر الخوف ولا تغفله).
قال: زدني.
فقال: (يوم العرض على ربك لا تنسه).
قال: (ثم سقط لوجهه مكباً). رواه ابن عساكر.
- وقال ابن هانئ في
مسائله: سمعت أبا عبد اللَّه [ أحمد بن حنبل ] يقول: سمعت ابن السماك -وكان
رجلًا صالحًا، وكان من أفاضل من أدركنا من المذكِّرين- يقول: كتب إليَّ
رجل: (إن الرجاءَ حبلٌ في القلب، قيد في الرِّجل، فاحلل الحبل من قلبك ينحلّ القيد من رجلك).
قلت: يريد أن الانبساط في الرجاء يُقعد عن العمل؛ فكأنه قيد عن العمل.
- وقال أحمد بن أبي الحواري: سمعت أبا سليمان الداراني، يقول: (إذا غلب الرجاء على الخوف فسد القلب). رواه البيهقي في شعب الإيمان، وأبو نعيم في الحلية.
والمذهب الثالث: تغليب الرجاء لأنه أنشط للعمل، والاستكثار من الطاعات، والحسنات يذهبن السيئات
والمذهب الرابع: في حال الصحة والعافية يغلّب الخوف، وفي حال المرض والابتلاء يغلّب الرجاء.
- قال الحسن بن محمد الإسفراييني: حدثنا سعيد بن عثمان، قال: سمعت السري بن المغلّس يقول: (الخوف أفضل من الرجاء مادام الرجل صحيحاً، فإذا نزل به الموت فالرجاء أفضل من الخوف).
فقال له رجل: كيف يا أبا الحسن؟
قال: (لأنه إذا كان في صحّته محسنا عظم رجاؤه عند الموت وحسن ظنه بربه، وإذا كان في صحته مسيئاً ساء ظنه عند الموت، ولم يعظم رجاؤه). رواه البيهقي في شعب الإيمان.
والسري بن المغلّس هو
السَّقَطيٍ(ت:253هـ) شيخ الجنيد، وصاحب معروف الكرخي، وأخذ عن الفضيل بن
عياض، وقد روى أبو نعيم في الحلية نحو هذه المقولة عن الفضيل.