9 Jul 2019
عناصر الدرس:
· معنى المحبة
· المحبة أصل الدين وأصل أعمال القلوب
· المحبة الصحيحة
· المحبة الباطلة
· درجات محبة الله تعالى
· درجات مخالفة مقتضى محبة الله تعالى
· درجات التقديم على محبة الله ورسوله
· أسباب محبة الله عز وجل
· دلائل المحبة وآثارها
· آداب المحبة
· المحبة المحمودة والمحبة المذمومة
· الفرق بين حب العبادة وغيره
المحبة أصل أعمال القلوب، وفيها مباحث مهمة تتصل بأبواب كثيرة، وقد اجتهدت في جمع أطرافها، وتقريب مسائلها، والله الموفق والمعين.
ومقاصد هذا الدرس ثلاثة:
المقصد الأول: التأصيل العلمي لمسائل هذا الباب.
والمقصد الثاني: بيان المحبة الصحيحة والدعوة إليها والتعريف بفضائلها ودلائلها وأسبابها وآدابها.
والمقصد الثالث: التحذير من التفريط في محبة الله عز وجل، وبيان أسباب الضلال في هذا الباب.
معنى المحبة:
لفظ المحبة من الألفاظ التي لا
تحيط بها العبارة، ولا تفي ببيان حقيقتها ومدلول معناها، وإنما يُستفاد من
معرفة ما يذكر من تعريفاتها تقريب الصورة للذهن لا أكثر، وما أحسن ما قال
ابن القيم رحمه الله، وهو ممن أوسعَ هذه المسألة بحثاً في عدد من كتبه،
وخلص إلى ما قاله في المدارج: (لا تحدّ المحبة بحدٍّ
أوضح منها؛ فالحدود لا تزيدها إلا خفاء وجفاء؛ فحدُّها وجودها، ولا توصف
المحبة بوصف أظهر من المحبة، وإنما يتكلم الناس في أسبابها وموجباتها
وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها فحدودهم ورسومهم دارت على هذه
الستة).
ثم ذكر خمسة معاني لغوية لمادة (حب) وما يتصرف منها هي: الصفاء والبياض، والعلو والظهور، واللزوم والثبات، واللبّ، والحفظ والإمساك.
وذكر شواهدها ومناسبة اشتقاقها لمعنى المحبة ثم قال: (ولا ريب أن هذه الخمسة من لوازم المحبة).
ثم ذكر ثلاثين تعريفاً للمحبة
انتقاها من عبارات المصنّفين في علم السلوك، وما أُثر عن العُبَّادِ
والعارفين المتقدمين مما يفهم منه تعريف المحبة، وهذا من دلائل سعة اطلاعه–رحمه الله-في هذا العلم ومعرفته بمصادره وأئمته وحسن فقهه لمسائله.
وكتبه: مدارج السالكين ، وطريق الهجرتين، والوابل الصيب، والرسالة التبوكية، والفوائد، وروضة المحبين من أنفس ما كتب في هذا العلم.
فلذلك نتجاوز الكلام في تعريف المحبة اكتفاء بما خلص إليه ابن القيم رحمه الله.
المحبة أصل الدين وأصل أعمال القلوب:
أصل الدين ومبناه على محبة الله عز وجل؛ وبيان ذلك من وجوه ثلاثة:
الوجه الأول: أن
أعمال العبد الدينية إنما يحمله عليها محبة الله تعالى ومحبة ثوابه ومحبة
النجاة من عقابه؛ ولذلك فإن الخوف والرجاء مبناهما على المحبة أيضاً؛ لأن
الراجي يطمع فيما يحب من رضا محبوبه وثوابه، والخائف يخاف على ما يحب من
السلامة ويخاف من سخط محبوبه، ويخاف من فوات ما يحب من الثواب.
وكذلك التوكل والخشية والإنابة والتوبة وغيرها
كلها صادرة في الأصل عن محبة الله تعالى وما يتبعها من محبة رضاه وثوابه
والنجاة من عقابه.
الوجه الثاني: أن
أعمال العبادة إنما سميت عبادة لكونها صادرة عن أعلى درجات المحبة فهي
محبة عظيمة مقرونة بالتعظيم والخضوع والانقياد كما سبق بيانه؛ ولذلك فإن
المحبوب الذي لا يُعَظَّم ولا يُذَلُّ له ولا يُنقادُ لأمره ليس بمعبود،
وكذلك المعظَّم الذي لا يُحَبّ.
الوجه الثالث: أن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه وكان خالصاً له جل وعلا، وإرادة وجه الله وحده لا شريك له هي ثمرة المحبة الصادقة من المؤمن لربه جل وعلا؛
فكل أعمال العبد التي يتقرب بها إلى الله عز وجل وحده لا يشرك معه فيها
أحداً إنما الحامل عليها هو هذه المحبة العظيمة الخالصة لله جل وعلا؛ فالله تعالى هو المحبوب لذاته في قلب المؤمن، وهذه المنزلة لا تنبغي إلا لله تعالى.
فتبيَّن بذلك أن محبة الله تعالى هي أصل الدين، وهي كذلك أصل أعمال القلوب لأن الأعمال بالنيات، والنية محلها القلب.
ولشيخ الإسلام ابن تيمية رسالة قيمة سماها قاعدة
في المحبة بيَّن فيها أن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن المحبة؛ وأن
العبد حارث وهمَّام يسعى فيما يحب ويهمّ بما يحب، وأن هذه المحبة تنقسم إلى
محمودة ومذمومة، وسيأتي بيان ذلك إن شاء الله تعالى.
والمقصود هنا بيان أن محبة الله تعالى وما
يتبعها من محبة كتابه ودينه ورسوله صلى الله عليه وسلم هي أصل الدين وأجلّ
قواعده وأعظمها، بل هي الفارقة بين الإيمان والنفاق، كما في صحيح البخاري
وغيره من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رجلاً على عهد النبي صلى الله
عليه وسلم كان اسمه عبد الله وكان يلقب حماراً، وكان يُضحِكُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قد جلَده في الشرابِ؛ فأُتِي به يوماً فأُمِرَ به فجُلد؛ فقال رجل من القوم: اللهم العنه ما أكثر ما يؤتى به؟
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تلعنوه؛ فوالله ما علمت إلا أنه يحب الله ورسوله)) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (من المعلوم أن كل مؤمن فلا بد أن يحب الله ورسوله، ولكن في المظهرين للإسلام مَن هم منافقون؛ فأولئك ملعونون لا يحبون الله ورسوله).
وهذا مما يبين لك عظم شأن المحبة وجلالة قدرها؛
فلولا أنه يحب الله ورسوله لكان من المنافقين، فهو وإن لم تُرفع عنه عقوبة
الجلد، بل عوقب على معصيته إلا أن محبَّته لله ورسوله قد نجَّته من النفاق.
المحبة الصحيحة:
ليس كل دعوى محبةٍ لله تعالى تكون مقبولة ونافعة لصاحبها، فلصحة المحبة شرطان عظيمان لا تصحّ دعوى المحبة إلا بهما:
أحدهما: أن
تكون هذه المحبة خالصة لله تعالى؛ فلا يحب مع الله أنداداً كما يفعل
المشركون؛ فإنهم وإن ادَّعوا محبةَ الله فمحبتهم باطلة لا تقبل ولا يثابون
عليها، وكل أعمالهم مردودة عليهم لا يقبل الله منهم صرفاً ولا عدلاً إذا
ماتوا على ذلك.
والشرط الآخر: أن يتبع المحبّ هديَ النبي صلى الله عليه وسلم؛ كما قال الله تعالى:{قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)}
فلم يجعل الله محبتهم معتبرةً
إلا بشرط اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم؛ وإذا خلت من شرط الاتباع فهي
محبة غير صحيحة، وإنما هي محبة شركية أو دعوى باطلة.
وهذان الشرطان متلازمان،
ومتى جمعهما العبد فمحبته صحيحة مقبولة عند الله عز وجل، ويثاب عليها بأن
يحبه الله ويغفر له ذنوبه، ومن تخلف عنه أحد هذين الشرطين فمحبته غير
صحيحة ولا مقبولة عند الله عز وجل، وإن ادعى ما ادعى من شدة المحبة فهو
غير صادق فيها إذ لو كان صادقاً لأخلص العبادة لله وحده لا شريك له، واتبع
رسوله صلى الله عليه وسلم.
والمسلمون في محبتهم لله تعالى على درجات متفاضلة تفاضلاً كبيراً كما سيأتي بيانه إن شاء الله.
وإنما المقصود هنا تقرير أن محبة
الله تعالى عبادة لا تصح إلا بشروط صحة العبادة من الإخلاص والمتابعة ، وأن
من خالف أحد هذين الشرطين فدعواه للمحبة باطلة غير معتبرة شرعاً.
وإياك أن تستهين بهذا
التقرير وتكتفي باعتباره من البدهيات في الدين ؛ فإن الفتنة في مخالفة
هذين الشرطين عظيمة، وقد وقع بسبب الإخلال بهما من الفتن والضلالات ما الله
به عليم.
المحبة الباطلة:
مما سبق تعلم أن المحبة الباطلة على نوعين: محبة شركية ومحبة بدعية
فأمّا المحبة الشركية؛ فهي محبَّة المشركين لله عز وجل؛ فإنها محبَّة قد أشركوا فيها غير الله معه ؛ كما قال الله تعالى:{ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حباً لله}.
قال الزجَّاج: ({يحبّونهم كحبّ الله}أي: يسوّون بين هذه الأوثان وبين اللّه عزّ وجلّ في المحبة.
وقال بعض النحويين: يحبونهم كحبكم أنتم للّه، وهذا قول ليس بشيء، ودليل نقضه قوله:{والّذين آمنوا أشدّ حبّاً للّه})ا.هـ.
وقال ابن القيم رحمه الله:(فأخبر سبحانه أن المشرك يحب الندَّ كما يحب الله تعالى، وأنَّ المؤمن أشد حباً لله من كلّ شيء، وقال أهل النار في النار:{تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين}ومن
المعلوم أنهم إنما سووهم به سبحانه في الحبّ والتأله والعبادة، وإلا فلم
يقل أحد قط أن الصنم أو غيره من الأنداد مساوٍ لرب العالمين في صفاته وفي
أفعاله وفي خلق السماوات والأرض وفي خلق عباده أيضاً، وإنما كانت التسوية
في المحبة والعبادة)ا.هـ.
والله تعالى لا يرضى أن يُشرَكَ معه أحد في هذه
المحبة ، وفي الحديث القدسي الذي أخرجه مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة
رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:قال الله تبارك وتعالى:((أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك معي فيه غيري تركته وشركه)).
فكلّ محبة شركية يُسوَّى فيها بين الله وغيره؛ فهي محبة باطلة لا يقبلها الله عز وجل ولا يرضاها.
وهذا أصل عظيم يتبيّن به أن من يدّعي محبة الله وهو يدعو غيره إنما هو مبطل مشرك
، ولو أنشد المدائح الإلهية وأكثر من التعبير عن دعوى المحبة كما وقع في
ذلك طوائف من غلاة الصوفية وأصحاب الطرق الشركية، فإنَّ دعواهم من جنس دعوى
اليهود والنصارى إذ قالوا:{نحن أبناء الله وأحباؤه}حتى بلغ بهم الاغترار بدعواهم أنِ ادَّعوا أنَّ الجنة حصر عليهم لا يدخلها غيرهم ، كما قال الله تعالى عنهم:{وَقَالُوا
لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ
أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111)
بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ
عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)}
وكثير من أصحاب الطرق الشركية ممن ينتسب إلى
الإسلام يدَّعون أن طريقتهم هي الموصلة لله والمبلّغة لرضوانه، وأنَّ غيرهم
في ضلال عن الوصول لله وإدراك رضاه، وأنهم هم أولياء الله وأحباؤه، وهم
يقعون في أنواع من الشرك بالله، ويُعرضون عن متابعة الرسول صلى الله عليه
وسلم، وقد يكون في كلامهم من التعبير عن محبة الله ما يدهش السامعين.
ويكون في هذا فتنة لهم ولتابعيهم ومن يسمعهم ؛
وينجّي الله المؤمنين الذين جعل الله لهم فرقاناً ونوراً يمشون به؛ فيعلمون
أنَّ كل دعوى للمحبة لا تكون خالصة لله عز وجل لا يقبلها الله ولا يرضاها.
فإن الله تعالى لم يقبل إلا محبة من أسلم وجهه
لله وهو محسن؛ فبإسلام الوجه يتحقق شرط الإخلاص، وبالإحسان يتحقق شرط
المتابعة، وبذلك يكون من أهل الجنة، وبقدر رفعة درجاته في هذين الأمرين –إسلام
الوجه وحسن العمل- يكون نصيبه من أجره عند ربه؛ فهي عنديّة خاصة وربوبية
خاصة جعلها الله لأهل محبته الذين أسلموا له واتبعوا رسوله.
ويكون بذلك من الذين لا خوف عليهم ولا هم
يحزنون، وإنما يقع العبد في شيء من الخوف والحزن بسبب تقصيره في تحقيق
الإخلاص وتجريد الاتباع، وأمَّا من كمَّل هذين المقامين فلا يتخلف عنه وعد
الله أبداً؛ لأنه استمسك بالعروة الوثقى التي لا أوثق منها كما قال الله
تعالى: { وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ
وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى
اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22)}
وأما المحبة البدعية فدليل بطلانها قول الله تعالى:{قُلْ
إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ
وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31)قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)}؛ فلم يعتبر الله محبة المعرض المتولّي عن الطاعة والمتابعة شيئاً ، بل سماه كافراً ، وبيَّن أنه لا يحبه.
ومن تأمَّل أحوال أئمة الكفر من أصحاب الطرق الشركية البدعية الذين يدَّعون محبَّة الله وجدهم كما قال الله تعالى:{يا أيها الذين آمنوا إن كثيراً من الأحبار والرهبان ليأكلون أموال الناس بالباطل ويصدون عن سبيل الله}.
فهم من أشد الناس تنفيراً عن المتابعة، وذمّا
لمن يأمر باتباع الرسول، ويجتهدون في صرف أتباعهم عن الحق والهدى، ويسمون
لهم الأمور بغير اسمها، ويأكلون أموال الناس بالباطل.
ومحبةُ الله تعالى عبادةٌ من أجلّ العبادات فلا
يُقبل فيها إلا أن تكون على هدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد قال
الرسول صلى الله عليه وسلم:((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)).
إلا أن البدع تنقسم إلى قسمين: بدع مكفِّرة وبدع مفسِّقة.
فأما البدع المكفرة
فهي التي تشتمل على ناقضٍ من نواقض الإسلام كدعوى بعض الفرق أن بعض
معظميهم يعلمون الغيب، وأنَّ لهم تصرفاً في الكون، ومِن ذلك ما يفعله
عبَّاد القبور والأولياء من تقديم النذور لهم والالتجاء إليهم والتضرع
إليهم واعتقاد النفع والضر فيهم.
ومن ذلك أيضاً اعتقاد بعض المريدين أن بعض
معظميهم هو الدليل على الله فلا يوصَل إلى الله إلا من طريقه، ويكون في
كلامهم من تعظيم هؤلاء ما لا يصلح إلا لله جل وعلا، أو ما لا يصلح إلا للرسول صلى الله عليه وسلم.
فهذا ونحوه من البدع المكفرة والعياذ بالله، ولو
زعموا أنهم إنما توجهوا إلى أوليائهم ليقربوهم إلى الله؛ فهم كما قال
أسلافهم فيما أخبر الله عنهم بقوله:{وَالَّذِينَ
اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا
لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ
فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ
كَاذِبٌ كَفَّارٌ}
فإن هذا المقصد لا يُدخلهم في الإسلام، وإنما يدخلهم في الإسلام إخلاص الدين لله تعالى كما قال الله تعالى في أول هذه الآية:{ألا لله الدين الخالص}
فالله تعالى لا يقبل ديناً يُشرك معه فيه غيره ،
ويعظَّم فيه سواه، حتى يسوَّى بينه وبينه في العبادات من الدعاء والتضرع
والنذر واعتقاد النفع والضر وغير ذلك من العبادات.
فأيما مدَّعٍ للمحبة وجدتَه يدعو غير الله تعالى
ويلتجئ إليه ويصرف له أنواعاً من العبادات فاعلم أنه مشرك كافر ولو زعم ما
زعم من محبة الله، ولو زعم أنَّ الذين يدعوهم إنما هم أولياء الله وأهل
الله، وأنه إنما يدعوهم ليقربوه إلى الله زلفى، وأن الله تعالى لا يرد
شفاعتهم، ويقرّب من يحبهم ويخدمهم؛ فكل ذلك من الضلالات والفتن التي فُتن
بها طوائف ضلّت في هذا الباب عن الصراط المستقيم.
وأما البدع المفسّقة
فهي البدع التي فيها جور عن اتباع السنة ولا تبلغ بالعبد مبلغاً يرتكب فيه
ناقضاً من نواقض الإسلام ؛ فلا يدعو غير الله ولا يصرف شيئاً من أنواع
العبادة لغير الله تعالى، وإنما قد يقع منه تخصيص لبعض الأمكنة أو الأزمنة
ببعض العبادات المخصوصة ونحو ذلك، فكل ما ابتدعه في الدين فهو رد عليه لا
يقبله الله منه، ولا يقبل اللهُ من العمل إلا ما كان على هدي النبي صلى
الله عليه وسلم.
لكن هؤلاء أخف درجة من أصحاب البدع المكفرة ؛
فإن هؤلاء يشملهم اسم الإسلام ، ويرجى لهم ما يُرجى لعصاة المسلمين من
العفو والمغفرة وتنفعهم دعوات المسلمين، وتنفعهم حسناتهم فيكفر بها من
سيئاتهم، وهم مع ذلك يُخشى عليهم من العذاب الأليم على ما أحدثوا من البدع
فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول في خُطبه ليبيّن للناس بياناً عاماً حتى يحفظوه ويعوه: ((إنَّ
أصدقَ الحديث كتابُ الله، وأحسنَ الهديِ هديُ محمَّد، وشرَّ الأمورِ
محدثاتُها، وكلَّ محدثة بدعة، وكلَّ بدعةٍ ضلالةٌ، وكلَّ ضلالة في النار)). رواه النسائي وابن خزيمة وابن حبان وأصله في صحيح مسلم من حديث جابر، وروي نحوه من حديث العرباض بن سارية.
فتأمَّل هذه الكلمات ما أبينها وما أجزلها، وقد
جعلها المسلمون شعاراً في خطبهم لإشهارها ومداومة التذكير بها، لعظم شأنها،
ولتقوم بها الحجة على من تبلغه.
فكلُّ محبة تحمل على بدعة فهي غير مقبولة، ولا تنفع صاحبها، وإنما ينفعه اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم والتقرّب إلى الله بما شرع.
وأصل ضلال أصحاب المحبة البدعية أنهم يتقربون إلى الله بما يحبون لا بما يحبه الله، ويتبعون الظن وما تهوى الأنفس.
وقد قال الله تعالى: {فاستقم كما أمرت}
وقال تعالى في الحديث القدسي:[ما تقرب إليَّ عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه] .رواه البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم عن ربه جل وعلا.
والعمل الخالص الحسن ينفع وإن كان قليلاً،
والعمل الذي فيه شوب بدعة أو ما يقدح في الإخلاص يذهب كثير منه هباءً، ولا
ينفع منه إلا ما أخلص منه صاحبه وأحسن باتباعه النبي صلى الله عليه وسلم من
غير غلوّ ولا تفريط.
روى البيهقي في شعب الإيمان عن جعفر الخلدي أنه قال: رأيت الجنيدَ في النوم فقلت ما فعل الله بك؟
قال:(طاحت تلك الإشارات، و غابت تلك العبارات، وفَنيت تلك العلوم، و نفدت تلك الرسوم، و ما نفعنا إلا ركعات كنَّا نركعها عند السَّحَر).
والمقصود أن المحبة الباطلة هي التي تخلَّف عنها شرطا القبول من الإخلاص والمتابعة.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية:(فلمّا
صار كثيرٌ من الصوفية النسّاك المتأخرين يدّعون المحبة ولم يزنوها بميزان
العلم والكتاب والسنة دخل فيها نوعٌ من الشرك واتباع الأهواء.
والله تعالى قد جعل محبته موجبةً لاتباع رسوله؛ فقال {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} وهذا
لأن الرسول هو الذي يدعو إلى ما يحبه الله وليس شيءٌ يحبه الله إلا
والرسول يدعو إليه، وليس شيءٌ يدعو إليه الرسول إلا والله يحبه؛ فصار محبوب
الربّ ومدعوّ الرسول متلازمين، بل هذا هو هذا في ذاته وإن تنوعت الصفات.
فكل من ادَّعى أنه يحب
الله ولم يتبع الرسول؛ فقد كذب، ليست محبته لله وحده، بل إن كان يحبّه فهي
محبة شركٍ؛ فإنما يتبع ما يهواه كدعوى اليهود والنصارى محبة الله؛ فإنهم لو
أخلصوا له المحبة لم يحبوا إلا ما أحب فكانوا يتبعون الرسول؛ فلما أحبوا
ما أبغض الله مع دعواهم حبه كانت محبتهم من جنس محبة المشركين.
وهكذا أهل البدع فمن قال:
إنه من المريدين لله المحبين له، وهو لا يقصد اتباع الرسول والعمل بما أمر
به وتَرْكِ ما نهى عنه؛ فمحبته فيها شوبٌ من محبة المشركين واليهود
والنصارى بحسب ما فيه من البدعة.
فإن
البدع التي ليست مشروعةً وليست مما دعا إليه الرسول لا يحبها الله فإن
الرسول دعا إلى كل ما يحبه الله فأمر بكل معروفٍ ونهى عن كل منكرٍ) ا.هـ. وهو كلام حسن متين جليل القدر.
ولشيخ الإسلام في الرد على أهل البدع الذين
وقعوا في المحبة الباطلة بنوعيها وحصل بسببهم فتن عظيمة مقامات مشهورة
مشكورة، وسأنتقي لكم من كلامه المتفرق في كتبه نقولاً مقتضبة تكفي في بيان
ما أردتُ توضيحَه.
فمن ذلك:
1: قوله
في الذين يفتنون مريديهم بما يدَّعُون من الكرامات وتظهر عليهم بعض
الخوارق التي يتوصلون إليها بأنواع من الحيل والتمويه، والرياضات النفسية،
والأعمال السحرية، واستخدام الجن، والإلقاءات الشيطانية، فيدَّعون بذلك
أنهم أولياء الله وأن هذه كرامات لهم ودلائل على أنهم على الحق، وأنهم من
أهل الله الذين يحبهم ويحبونه.
قال:(قال
أهل العلم والدين - كأبي يزيد البسطامي وغيره - : لو رأيتم الرجل يطير في
الهواء أو يمشي على الماء فلا تغتروا به حتى تنظروا وقوفه عند الأمر والنهي.
وقال الشافعي : لو رأيتم صاحب بدعةٍ يطير في الهواء فلا تغتروا به؛ فأولياء الله المتقون هم المتبعون لكتاب الله وسنة رسوله كما قال تعالى: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} وطريقهم طريق أنبياء الله المرسلين وأولياء الله المتقين وحزب الله المفلحين) ا.هـ.
2 : قوله في شأن بعضهم: (عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((ما من ثلاثةٍ في قريةٍ لا يؤذَّن ولا تقام فيهم الصلاة إلا استحوذ عليهم الشيطان))،
فأيّ ثلاثةٍ كانوا من هؤلاء لا يؤذَّن ولا تقام فيهم الصلاة كانوا من حزب
الشيطان الذين استحوذ عليهم، لا من أولياء الرحمن الذين أكرمهم، فإن كانوا
عُبَّادًا زُهَّادًا ولهم جوعٌ وسهرٌ وصمتٌ وخلوةٌ كرهبان الديارات
والمقيمين في الكهوف والمغارات ، كأهل جبل لبنان ، وأهل جبل الفتح الذي
بأسوان وجبل ليسونٍ ومغارة الدم بجبل قاسيون وغير ذلك، من الجبال والبقاع
التي قصدها كثيرٌ من العباد الجهال الضلال ، ويفعلون فيها خلواتٍ ورياضياتٍ
من غير أن يؤذَّن وتقام فيهم الصلاة الخمس ، بل يتعبدون بعباداتٍ لم
يشرعها الله ورسوله ، بل يعبدونه بأذواقهم ومواجيدهم ، من غير اعتبارٍ
لأحوالهم بالكتاب والسنة ، ولا قصد المتابعة لرسول الله الذي قال الله فيه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم} الآية .
فهؤلاء أهل البدع والضلالات من حزب الشيطان، لا
من أولياء الرحمن، فمن شهد لهم بولاية الله فهو شاهد زورٍ كاذبٌ، وعن طريق
الصواب ناكبٌ.
ثم إن كان قد عَرف أنَّ هؤلاء مخالفون للرسول
وشهد مع ذلك أنهم من أولياء الله فهو مرتد عن دين الإسلام، إما مكذبٌ
للرسول، وإما شاك فيما جاء به مرتابٌ، وإما غير منقادٍ له، بل مخالفٌ له
إما جحودًا أو عنادًا أو اتباعًا لهواه ، وكل من هؤلاء كافرٌ .
وأما إن كان جاهلًا بما جاء به الرسول وهو
معتقدٌ مع ذلك أنه رسول الله إلى كل أحدٍ في الأمور الباطنة والظاهرة وأنه
لا طريق إلى الله إلا بمتابعته صلى الله عليه وسلم لكن
ظن أن هذه العبادات البدعية والحقائق الشيطانية هي مما جاء بها الرسول ولم
يعلم أنها من الشيطان لجهله بسنته وشريعته ومنهاجه وطريقته وحقيقته ؛ لا
لقصد مخالفته ولا يرجو الهدى في غير متابعته فهذا يُبيَّن له الصواب
ويُعرَّف ما به من السنة والكتاب؛ فإن تاب وأناب وإلا ألحق بالقسم الذي
قبله، وكان كافرًا مرتدا، ولا تنجيه عبادته ولا زهادته من عذاب الله، كما
لم ينج من ذلك الرهبان وعُبَّاد الصلبان وعُبَّاد النيران وعُبَّاد الأوثان
مع كثرة من فيهم ممن له خوارق شيطانيةٌ ومكاشفاتٌ شيطانيةٌ قال تعالى:{قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالًا * الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا}.
قال سعد بن أبي وقاصٍ وغيره من السلف: نزلت في أصحاب الصوامع والديارات)ا.هـ.
3: قوله: (والذين توسعوا من الشيوخ في سماع القصائد المتضمنة للحب والشوق واللوم والعذل والغرام كان هذا أصل مقصدهم [أي محبة الله]؛ ولهذا أنزل الله للمحبة محنةً يمتحن بها المحبّ فقال: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} فلا يكون محبا لله إلا من يتبع رسوله ، وطاعة الرسول ومتابعته تحقيق العبودية.
وكثيرٌ ممن يدعي المحبة يخرج عن شريعته وسنته ،
ويدعي من الخيالات ما لا يتّسع هذا الموضع لذكره ، حتى قد يظن أحدهم سقوط
الأمر وتحليل الحرام له وغير ذلك مما فيه مخالفة شريعة الرسول وسنته
وطاعته).
4:
قوله في الرد على أصحاب السماع البدعي: (قولهم إن هذا السماع يحصل محبوب
الله وما حصل محبوبه فهو محبوب له قول باطل، وكثير من هؤلاء أو أكثرهم حصل
لهم الضلال والغواية من هذه الجهة؛ فظنوا أنَّ السماع يثير محبة الله،
ومحبة الله هي أصل الإيمان الذي هو عمل القلب وبكمالها يكمل، وهي فيما
يذكره أبو طالب وغيره نهاية المقامات، وربما قال بعضهم: هي المقام الذي
يلتقي فيه مقدمة العامّة وساقة الخاصة، ويقول من يقول منهم: إن السماع هو
من توابع المحبة، وأنهم إنما فعلوه لما يحركه من محبة الله سبحانه وتعالى
إذ السماع يحرك من كل قلب ما فيه؛ فمن كان في قلبه حب الله ورسوله حرك
السماع هذا الحب وما يتبع الحب من الوجد والحلاوة وغير ذلك، كما يثير من
قلوب أخرى محبة الأوثان والصلبان والإخوان والخلان والأوطان والعشراء
والمردان والنسوان.
ولهذا يُذكر عن طائفة من أعيانهم سماع القصائد في باب المحبة كما فعل أبو طالب.
فيقال:إنَّ
ما يهيّجه هذا السماع المبتدَع ونحوه من الحبّ وحركة القلب ليس هو الذي
يحبه الله ورسوله، بل اشتماله على ما لا يحبه الله وعلى ما يبغضه أكثر من
اشتماله على ما يحبه ولا يبغضه، وصدُّه عما يحبه الله ونهيه عن ذلك أعظم من
تحريكه لما يحبه الله، وإن كان يثير حبًّا وحركة ويظن أن ذلك يحبه الله
وأنه مما يحبه الله فإنما ذلك من باب اتباع الظن وما تهوى الأنفس ولقد
جاءهم من ربهم الهدى)ا.هـ.
5:
قوله في بعض غلاتهم : (ولهذا في هؤلاء من يرى جواز قتل الأنبياء، ومنهم من
يرى أنه أفضل من الأنبياء، إلى أنواع أخر، وذلك لأنه حصل لهم من الأحوال
الشيطانية والنفسانية ما ظنوا أنها من كرامات الأولياء؛ فظنوا أنهم منهم؛
فكان الأمر بالعكس.
وأصل هذا أنهم تعبدوا بما تحبّه النفس، وأما
العبادة بما يحبه الله ويرضاه فلا يحبّونه ولا يريدونه وحده، ويرون أنهم
إذا عبدوا الله بما أمر به ورسلُه حطّ لهم عن منصب الولاية؛ فيحدثون محبة
قوية وتألها وعبادة وشوقا وزهدا ولكن فيه شرك وبدعة.
ومحبة التوحيد إنما تكون لله وحده على متابعة رسوله، كما قال تعالى:{قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم}فلهذا يكون أهل الاتباع فيهم جهاد ونية في محبتهم، يحبون لله ويبغضون له) ا.هـ.
درجات محبة الله تعالى:
إذا تبيَّن تقرير ما سبق من أن المحبة الصحيحة
المقبولة عند الله عز وجل هي المحبة التي جمعت شرطا القبول من الإخلاص
والمتابعة فاعلم أن هذه المحبة الصحيحة على ثلاث درجات، قائمة على درجات
تحقيق العبودية التي سبق بيانها:
فالدرجة الأولى:
هي المحبة التي تحمل العبد على الدخول في الإسلام فيوحّد الله عز وجل ولا
يدعو معه غيره ، ويؤدي من الفرائض ما يبقى به إسلامه ويجتنب نواقض الإسلام،
وهو مع ذلك يقع في أنواع من التفريط في الواجبات وارتكاب المحرمات .
فهذه المحبة تنفع صاحبها وتعصمه من الخلود في النار لكنَّها لا تعصمه من العقوبة على ما اكتسب من الإثم.
وأما الدرجة الثانية: فهي
المحبة التي تحمل العبد على أداء الفرائض واجتناب المحرمات، وهذه هي درجة
عباد الله المتقين، وهي الدرجة التي يسلم بها العبد من العذاب، ويُثاب بها
بأنواع من الثواب.
وأما الدرجة الثالثة:
فهي درجة المقربين ، وهم أهل الإحسان في العبادة الذين حملتهم محبة الله
تعالى والشوق إلى لقائه على عبادة الله كأنهم يرون الله، فأدوا الفرائض
واستكثروا من النوافل في اقتصاد وتسديد ومقاربة حتى بلغوا من رضوان الله عز
وجل مبلغاً عظيماً كما في صحيح البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((إن
الله قال: من عادى لي وليا فقد آذنته بالحرب، وما تقرَّب إلي عبدي بشيء
أحبَّ إلي مما افترضت عليه، وما يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبَّه؛
فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش
بها، ورجله التي يمشي بها، وإن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما
ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن نفس المؤمن، يكره الموت وأنا أكره
مساءته)).
فغاية ما يرجوه أهل محبة الله في الدنيا ما تضمنه هذا الحديث.
وهؤلاء هم الذين استمسكوا بأوثق عرى الإيمان
التي لا أوثق منها؛ كما في مسند أبي داوود الطيالسي من حديث معاوية بن سويد
بن مقرن عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال: كنا عند النبي صلى الله عليه
و سلم فقال: ((أتدرون أيَّ عرى الإيمان أوثق؟)).
قلنا: الصلاة.
قال: ((الصلاة حسنة، وليست بذلك)).
قلنا: الصيام؛ فقال مثل ذلك، حتى ذكرنا الجهاد؛ فقال مثل ذلك، ثم قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: ((أوثق عرى الإيمان الحب في الله عز و جل والبغض في الله)).
وهؤلاء هم الذين استكملوا الإيمان كما في سنن أبي داوود وغيره من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من أحبَّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله؛ فقد استكمل الإيمان)).
قال ابن القيم رحمه في إغاثة اللهفان شارحاً هذا الحديث: (فإن
الإيمان علم وعمل، والعمل ثمرة العلم، وهو نوعان : عمل القلب حباً وبغضاً،
ويترتب عليهما عمل الجوارح فعلاً وتركاً، وهما العطاء والمنع؛ فإذا كانت
هذه الأربعة لله تعالى كان صاحبُها مستكملَ الإيمان، وما نقص منها فكان
لغير الله نقص من إيمانه بحسبه)ا.هـ.
والعطاء في الحديث يشمل جميع ما يُعطى من علم ومال وجاه ووقت وجهد وغيرها من أنواع الخير، وكذلك المنع.
فكان حبّهم لله، وبغضهم لله، وعطاؤهم لله،
ومنعهم لله، فيَرضون لرضا الله، ويغضبون لغضب الله، ويوالون في الله،
ويعادون في الله، ويجاهدون في سبيل الله ولا يخافون في الله لومة لائم.
وهؤلاء هم الذين يرضى الله تعالى لرضاهم ويغضب
لغضبهم، ويحارب من يعاديهم، فهم أولياء الله وأهل محبته الذين يحبهم
ويحبونه، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر في طائفة فيهم سلمان وصهيب وبلال: ((لئن كنتَ أغضبتَهم لقد أغضبتَ ربَّك)) وذلك لما مرَّ بهم أبو سفيان في غزوة أحد فقالوا: (ما أخذت السيوف من عدو الله مأخذها) فعاتبهم أبو بكر، وهم إنما قالوا ما قالوا غضباً لله جل وعلا؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم في شأنهم ما
قال حتى رجع إليهم أبو بكر فقال: يا إخوتاه هل أغضبتكم؟ قالوا: لا ، يغفر
الله لك). وخبرهم في صحيح مسلم من حديث عائذ بن عمرو المزني رضي الله عنه.
والمقصود هنا بيان أن المحبة على درجات بحسب ما
تحمل عليه من الإخلاص وحسن الاتباع؛ فأصحاب الدرجة الثالثة سابقون
بالخيرات، وأصحاب الدرجة الثانية مقتصدون ، وأصحاب الدرجة الثالثة ظالمون
لأنفسهم ، وهؤلاء كلهم موعودون بدخول الجنة كما قال الله تعالى:{ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)جَنَّاتُ
عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ
وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ
شَكُورٌ}
قال الإمام الشنقيطي: (والواو في يدخلونها شاملة
للظالم والمقتصد والسابق على التحقيق. ولذا قال بعض أهل العلم: حقٌ لهذه
الواو أن تكتب بماء العينين، فوعده الصادق بجنات عدن لجميع أقسام هذه
الأمة، وأولهم الظالم لنفسه يدل على أن هذه الآية من أرجى آيات القرآن، ولم
يبق من المسلمين أحد خارج عن الأقسام الثلاثة، فالوعد الصادق بالجنة في
الآية شامل لجميع المسلمين ولذا قال بعدها متصلا بها {وَالَّذِينَ
كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلا
يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ}[فاطر:36] إلى قوله:{فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} [فاطر: 37])ا.هـ
درجات مخالفة مقتضى المحبة:
إذا عرفت درجات المحبة وأحكام أصحابها ، فاعلم أن مخالفة ما تقتضيه محبة الله عز وجل على درجات:
الدرجة الأولى:
مخالفة ما تقتضيه محبة الله تعالى في أصل الدين ، وهي الدرجة الأولى من
درجات تحقيق العبودية ، وأصحاب هذه الدرجة هم الذين انتفى عنهم حب الله عز
وجل، وهم الخارجون عن دين الإسلام والعياذ بالله، وهؤلاء على أصناف:
الصنف الأول: المشركون الذين يتخذون من دون الله أنداداً يحبونهم كحب الله؛ وهؤلاء أصحاب المحبة الشركية.
الصنف الثاني: المستكبرون الذين كفروا كبراً وعناداً ولا يحبون الله أصلاً، بل منهم من يصرّح ببغض الله عز وجل.
الصنف الثالث: الملاحدة الذين ينكرون وجود الله.
الصنف الرابع: المنافقون النفاق الأكبر.
الصنف الخامس: أصحاب البدع المكفرة من المنتسبين للإسلام كأهل الطرق الشركية من غلاة الصوفية والرافضة وأضرابهم.
الدرجة الثانية: مخالفة مقتضى المحبة بارتكاب بعض المحرمات والتفريط في بعض الواجبات مع اجتناب ما ينقض الإسلام.
وأصحاب هذه الدرجة هم عصاة المسلمين، وهؤلاء
لديهم أصل محبة الله، ولهم نصيب من ولاية الله تعالى، ويرجى لهم بإسلامهم ،
لكن يخشى عليهم العذاب بسبب ما وقعوا فيه من العصيان، ومآلهم إلى الجنة
بإذن الله؛ فإنَّ الله تعالى قد وعد أصناف المسلمين الثلاثة بدخول الجنة.
فكان ما مع هؤلاء من محبة الله نافعاً لهم
صحيحاً مقبولاً عند الله عز وجل، ومحبتهم مع هذا ناقصة غير تامة، إذ لم
يقوموا بما تقتضيه المحبة الواجبة.
الدرجة الثالثة: مخالفة مقتضى المحبة بالتفريط في النوافل وفضائل العبادات ، مع القيام بما أوجب الله من الفرائض، واجتناب ما حرَّم الله.
وهذا أمر قد يقع فيه بعض المتقين ، وهم وإن لم
يكونوا آثمين مستحقين للعقاب إلا أنهم قد فرَّطوا في فضل عظيم، وقد عاتب
النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه
في ذلك عتاباً لطيفاً بكوا منه جميعاً ، وذلك في الحديث العظيم الذي فيه
بيان قصة حديث النزول المشهور وذلك لمَّا انصرف النبي صلى الله عليه وسلم من الحديبية راجعاً إلى المدينة ، وذلك بعد بيعة الرضوان.
قال رفاعة بن عرابة الجهني رضي الله عنه:
أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم حتى إذا كنا بالكديد -أو قال:بقُديد- فجعل رجال منا يستأذنون إلى أهليهم فيأذن لهم، فقام رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: ((ما بال رجال يكون شقُّ الشجرة التي تلي رسول الله أبغض إليهم من الشق الآخر؟!!))
قال: (فلم نر عند ذلك من القوم إلا باكيًا).
فقال أبو بكر الصديق: (إن الذي يستأذنك بعد هذا لسفيه).
فحمد الله، وقال حينئذ: ((أشهد عند الله لا يموت عبدٌ يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله صدقًا من قلبه، ثم يسدد إلا سُلِكَ به في الجنة)).
ثم قال:
((وقد وعدني ربي عز وجل أن يدخل من أمتي سبعين ألفًا لا حساب عليهم ولا
عذاب، وإني لأرجو أن لا يدخلوها حتى تبوَّءُوا أنتم ومن صلح من آبائكم
وأزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة)).
وقال: ((إذا
مضى نصف الليل -أو قال: ثلثا الليل- ينزل الله عز وجل إلى السماء الدنيا
فيقول: لا أسأل عن عبادي أحدًا غيري، من ذا يستغفرني فأغفر له؟ من ذا الذي
يدعوني أستجيب له؟ من ذا الذي يسألني أعطيه؟ حتى ينفجر الصبح)).
وهذا الحديث رواه أبو داوود الطيالسي وأحمد وابن
خزيمة وغيرهم من طريق يحيى بن أبي كثير عن هلال بن أبي ميمونة عن عطاء ابن
يسار عن رفاعة الجهني، وهو إسناد على شرط الشيخين، ولذلك عدَّه الدارقطني
في الإلزامات مما يلزم الشيخين إخراجه على شرطهما ومذهبهما.
فأعدْ قراءة الحديث وتأمَّل مناسبة أوَّله
لآخره، واعرف سرَّ العتاب اللطيف الذي أبكى المحبين، وتنبَّه إلى أنَّ أهلَ
الإحسان يعدّون هذا الجفاء سفاهة.
أسباب محبة الله عز وجل:
الكلام في أسباب محبَّة الله تعالى على نوعين:
النوع الأوَّل: الأسباب التي يُحَبُّ الله تعالى لأجلها.
والنوع الثاني: الأسباب التي يحصِّلُ بها العبد محبَّةَ الله عز وجل.
فالنوع الأول أشبه بجواب سؤال: كيف نُحِبُّ الله؟
والنوع الثاني: أشبه بجواب: كيف ننال محبة الله؟
ومعرفة النوع الأول داخلة في النوع الثاني؛ لأنك إذا عرفت لماذا تحب الله، فإن ذلك مما يعينك على تحقيق محبة الله تعالى، والفوز بحبّه إيّاك.
فأمَّا النوع الأول:فخلاصة الكلام فيه أن الله تعالى يُحبُّ لأمرين:
الأمر الأول: لأنه
تعالى هو وحده المستحق للحب لذاته، لما له من الأسماء الحسنى والصفات
العليا؛ ولأنه هو خالقنا وحده لا شريك له، وقد خلقنا لعبادته، ومن عرف الله
حقَّ المعرفة أحبَّه ؛ فأسماؤه كلها حسنى ، وصفاته كلها عليا، وأفعاله
كلها في غاية الحسن ، لا يأمر إلا بالعدل والإحسان، وينهى عن الفحشاء
والمنكر والبغي، ولا يكلف عباده ما لا يطيقون، يرضى منهم بالقليل من العمل،
ويجزيهم عليه الجزيل من الثواب، من تقرب إليه شبراً تقرَّب إليه ذراعاً،
ومن تقرَّب إليه ذراعاً تقرَّب إليه باعاً، ومن أتاه يمشي أتاه هرولة.
يفرح بتوبة عباده إذا تابوا إليه،
وهو غني عنهم، يدلهم على أسباب فضله ورحمته ورضوانه، ويريهم في آياته
ومخلوقاته آثار أسمائه وصفاته، فيحصل لهم بتدبر الآيات المتلوة، وتأمل
الآيات المخلوقة ما يعرفون به ربهم جل وعلا،
فيحبونه ويؤمنون به ويشتاقون للقائه، فهو الولي الحفيظ، والكريم الرحيم،
والواسع العليم، وهو خير الرازقين، وخير الحافظين، وهو نعم المولى، ونعم
النصير، وهو العلي الكبير ، والحميد المجيد، والقوي العزيز ، ينتقم لعباده
المؤمنين ممن يكيدهم ويؤذيهم، ويعادي من يعاديهم، وأوجب على نفسه نصر
أوليائه المؤمنين المتقين وهدايتهم لفضله ورحمته.
ولا يزال العبد المؤمن يتفكر في أسماء الله وصفاته وآثارها حتى يجد هذا الحب ضروريا في قلبه.
والأمر الثاني: محبة الله تعالى لنعمه وإحسانه ، {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها}، ومن تأمَّل في نعم الله عليه وإحسانه إليه أوجب له ذلك محبة الله في قلبه، وتزداد المحبة بكثرة ذكر النعمة وشكرها.
وأما النوع الثاني: فقد لخصه ابن القيم رحمه الله في عشرة أسباب، فقال في المدارج:
(فصل في الأسباب الجالبة للمحبة والموجبة لها وهي عشرة:
أحدها: قراءة القرآن بالتدبر والتفهم لمعانيه، وما أريد به كتدبر الكتاب الذي يحفظه العبد ويشرحه ليتفهم مراد صاحبه منه.
الثاني: التقرب إلى الله بالنوافل بعد الفرائض فإنها توصله إلى درجة المحبوبية بعد المحبة.
الثالث: دوام ذكره على كل حال باللسان والقلب والعمل والحال فنصيبه من المحبة على قدر نصيبه من هذا الذكر.
الرابع: إيثار محابه على محابك عند غلبات الهوى والتسنم إلى محابه وإن صعب المرتقى.
الخامس:
مطالعة القلب لأسمائه وصفاته، ومشاهدتها ومعرفتها، وتقلبه في رياض هذه
المعرفة ومباديها؛ فمن عرف الله بأسمائه وصفاته وأفعاله أحبه لا محالة،
ولهذا كانت المعطلة والفرعونية والجهمية قطاع الطريق على القلوب بينها وبين
الوصول إلى المحبوب.
السادس: مشاهدة بره وإحسانه وآلائه ونعمه الباطنة والظاهرة فإنها داعية إلى محبته.
السابع: وهو من أعجبها، انكسار القلب بكليته بين يدي الله تعالى، وليس في التعبير عن هذا المعنى غير الأسماء والعبارات.
الثامن: الخلوة به وقت النزول الإلهي لمناجاته وتلاوة كلامه، والوقوف بالقلب والتأدب بأدب العبودية بين يديه، ثم ختم ذلك بالاستغفار والتوبة.
التاسع:
مجالسة المحبين الصادقين والتقاط أطايب ثمرات كلامهم كما ينتقى أطايب
الثمر، ولا تتكلم إلا إذا ترجحت مصلحة الكلام، وعلمت أن فيه مزيدا لحالك
ومنفعة لغيرك.
العاشر: مباعدة كل سبب يحول بين القلب وبين الله عز و جل.
فمن هذه الأسباب العشرة وصل المحبون إلى منازل المحبة ودخلوا على الحبيب، وملاك ذلك كله أمران:
- استعداد الروح لهذا الشأن.
- وانفتاح عين البصيرة.
وبالله التوفيق).ا.هـ.
دلائل المحبة وآثارها:
إذا صحت محبة الله في قلب العبد
قادته إلى الاستقامة على طاعة الله عز وجل، وامتثال أوامره واجتناب نواهيه،
فيكون المحبّ في أمن وإيمان وسلامة وإسلام يسير على هدى من ربه ويتقلب في
فضله ورحمته ورضوانه، قد ذاق طعم الإيمان، وحلاوة المناجاة، وعزة الطاعة،
ونور العلم، وبرد اليقين، وسكينة النفس، وطمأنينة القلب، وراحة البال،
وسمو الهمة، وصفاء السريرة ، وشرف الولاية؛ وكرم المعية؛ فهو أنعم الناس
عيشاً في الحقيقة، نسأل الله من فضله.
ومن كملت محبة الله في قلبه كملت طاعته واستقامته، ومن كملت طاعته لم يعذبه الله أبداً، كما قال تعالى:﴿وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم﴾ فالمحبة تمنع العذاب.
وفي مسند الإمام أحمد ومستدرك الحاكم وغيرهما بإسناد صحيح عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((والله ، لا يلقي الله حبيبه في النار)).
وفي كتاب الزهد للإمام أحمد عن الحسن مرسلاً: ((والله لا يعذب الله عز و جل حبيبه، ولكن قد يبتليه في الدنيا)).
فهذا لمن صحت محبته وصفت، وكان قلبه سليماً لله عز وجل؛ فاستقام على ما يحبه الله.
وإنما يقع العبد في الذنوب والمعاصي
إذا ضعف إيمانه وقل يقينه، وضعف حبه لله وحبه لثوابه، حتى يؤثر اللذة
الفانية على ثواب الله الباقي، فيقع في التقصير ويستحق من العذاب بقدر ما
يعمل من المعاصي.
ولو أن العبد عظَّم محبة الله في قلبه لآثر ما يحبه الله ويرضاه على ما تحبه نفسه وتهواه.
وهذه المحبة لها دلائل وآثار، وخلاصة القول في دلائلها وآثارها أن أصولها ثمانية:
1: إخلاص العبادة لله عز وجل، وتمام ذلك أن يريد العبد وجه الله تعالى في شؤونه كلها.
2: اتباع الرسول صلى الله عليه وسلم، وهو البرهان العظيم على صدق دعوى المحبة هو اتباع النبي صلى الله عليه وسلم، فالمحبة تستلزم الطاعة.
3: الجهاد في سبيل الله بالمال والنفس، وهو دليل المحبة الكاملة لأنه بَذْل أغلى ما يملك العبد لله جل وعلا، والجهاد حقيقته الاجتهاد في تحصيل ما يحبه الله، ودفع ما يبغضه الله على هدى من الله.
قال ابن تيمية رحمه الله:
(والجهاد : هو بذل الوسع - وهو كل ما يملك من القدرة - في حصول محبوب
الحق ، ودفع ما يكرهه الحق؛ فإذا ترك العبد ما يقدر عليه من الجهاد كان
دليلا على ضعف محبة الله ورسوله في قلبه).
4: التواضع للمؤمنين والتذلل لهم (تذلل عطف ورحمة وأخوة) والعزة على الكافرين من غير ظلم لهم، وذلك من أعظم دلائل صحة المحبة، قال الله تعالى:{فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}.
فقوله تعالى:{أذلة على المؤمنين}عدي بحرف على لتضمنه معنى العطف والشفقة، ولم يعدَّ بحرف اللام لئلا يتضمن معنى الاحتياج والافتقار.
5: الموالاة في الله والمعاداة في الله، فإنَّ من أحبَّ الله المحبة الواجبة فلا بد أن يبغض أعداءه، ولا بد أن يحب ما يحبه الله من جهادهم:{إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص}، و((من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق))،
فمن علامات سلامة القلب وصحة المحبة أن توالي أولياء الله وتعادي أعداء
الله، وتعظم ما عظمه الله، وتحقر ما حقره الله، وترضى لما يرضي الله، وتغضب
لما يغضب الله.
6: الهجرة إلى الله
بالهجرة الحسية عند وجوبها أو استحبابها، أو الهجرة المعنوية كما في صحيح
البخاري من حديث عبد الله بن عمرو أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه)) .
وهذه الهجرة المعنوية شأنها عظيم بل هي أصل الهجرة الحسية، كما أن جهاد النفس أصل سائر أنواع الجهاد.
وهي واجبة في هَجْرِ ما نهى الله عنه نهي تحريم، ومستحبة في هجرِ ما نُهي عنه نَهْيَ كراهة دون نهي التحريم.
والمؤمن مأمور بأن يحقق الهجرة المعنوية وذلك بترك جميع ما نهى الله عنه نهي تحريم أو كراهة من قول أو فعل أو اعتقاد.
وهذه الهجرة تقتضي أن ينيب العبدُ
المهاجرُ بقلبه إلى الله عز وجل؛ فيهاجر من الظلمات إلى النور، ومن الشرك
إلى التوحيد، ومن البدعة إلى السنة، ومن المعصية إلى الطاعة، ومن الغفلة
إلى الذكر، ومن الإساءة إلى الإحسان.
ومن تأمل أحوال هذه الهجرة وجدها تنتظم جميع أعمال العبد وحركاته وسكناته، ومن كان هذا دأبه كان من الأوَّابين المنيبين.
قال ابن القيم رحمه الله في الرسالة التبوكية: (الهجرة هجرتان:
الهجرة الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد ، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها .
والهجرة الثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله ، وهذه هي المقصودة هنا . وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها .
وهي هجرة تتضمن ( من ) و ( إلى )
فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ، ومن عبودية غيره إلى عبوديته ،
ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل عليه، ومن
دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه وسؤاله
والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه قال
تعالى:{ففروا إلى الله})ا.هـ.
وفي مسند الإمام أحمد والتاريخ
الكبير للبخاري وشعب الإيمان للبيهقي أن معاوية بن أبي سفيان وعبد الرحمن
بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم قالوا: إن النبي صلى الله
عليه و سلم قال:
((إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله
ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تُقُبِّلَتِ التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة
حتى تطلع الشمس من المغرب؛ فإذا طلعت طُبع على كلّ قلبٍ بما فيه وكُفِيَ
الناسُ العمَلَ)).
وفي مسند الإمام أحمد وغيره أن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه وهو من السابقين الأولين إلى الإسلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم:(أي الهجرةِ أفضل ؟).
قال:((أن تهجر ما كَرِهَ ربك)).
ورواه أبو داوود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو وعبد الله بن حبشي مع إبهام السائل، ولفظه: قيل : فأي الهجرة أفضل؟
قال: ((أن تهجر ما حرَّم الله)).
7: أن لا يخاف في الله لومة لائمة؛ فالمحب التام المحبة لا يؤثر فيه لوم اللائم ولا عذل العاذل، بل ذلك يغريه بملازمة المحبة {ولا يخافون لومة لائم}
8: كثرة ذكر الله؛ فإن من أحب شيئاً أكثر من ذكره، وكثرة الغفلة دليل ضعف المحبة، {واصبر نفسك مع الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه، ولا تطع من أغفلنا قلبه عن ذكرنا واتبع هواه وكان أمره فرطا}.
آداب المحبة:
عبادة المحبة ضلت فيها طائفتان:
- طائفة أنكرتها وصرفتها إلى محبة الثواب وهم الجهمية.
- وطائفة
أدخلت فيها باطلاً كثيراً من كثرة الانبساط وما لا يليق من الأقوال
والأحوال، وهم طوائف من الصوفية، ووصل الأمر بغلاتهم إلى الكفر الصريح وسوء
الأدب القبيح.
ومن الأغلاط الشنيعة ما يذكره بعضهم في شأن محبة الله جل وعلامن الأشعار والأقوال التي تحمل معنى الهجر والتجني والصد والقطيعة ونحو ذلك من المعاني في المتحابين من البشر للهوى.
فكل ذلك مما يخالف آداب المحبة
وواجباتها؛ فمحبة العبد لربه محبة بإجلال وتعظيم، وتأدب بآداب العبودية،
وهي محبة مقرونة بالخوف والرجاء والخشية والإنابة.
الفرق بين المحبة المحمودة والمحبة المذمومة:
كل حركة في الوجود صادرة عن محبة:
إما عن محبة محمودة أو عن محبة مذمومة؛ وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله
تعالى، ومن آثارها محبة ما أمر الله به، وما أذن الله بمحبته.
والمحبة المذمومة هي محبة ما يبغضه الله؛ فكل ما يحب لغير الله فمحبته باطلة. وفي سنن الترمذي وغيره من حديث أبي هريرة مرفوعاً: ((الدنيا ملعونة، ملعون ما فيها إلا ذكر الله وما والاه أو عالماً أو متعلما)).
الفرق بين حُبّ العبادة وغيره:
لفظ المحبة فيه إطلاق وعموم، وله ثلاث إطلاقات في النصوص:
1:فيطلق على ما يحمل معنى التعبد،
وهو الحب الذي فيه تذلل وتعظيم وخوف ورجاء ورغبة ورهبة وتعلق القلب
بالمحبوب فهذا حب التعبد ، وصرفه لغير الله شرك أكبر، وإن كان الحب فيه
تعلّق أصغر فهو شرك أصغر كتعلق القلب بالمال والأشخاص حتى يكون في قلبه نوع
عبودية لهم.
2: ويطلق على ما هو من لوازم محبة الله وآثارها؛ كمحبة الرسول صلى الله عليه وسلم ومحبة المؤمنين ومحبة ما يحبه الله من الأمكنة والأزمنة وغيرها.
فمحبة الرسول الله صلى الله وعليه
وسلم ليست من جنس محبة الله، وإنما هي تابعة لمحبة الله، ولذلك لا تتضمن
معاني تعبدية تصرف للرسول صلى الله عليه وسلم.
وكذلك محبة الصالحين هي تابعة لمحبة الله تعالى، وأما من أحب الصالحين محبة تعبد لهم فقد أشرك بهم من دون الله جل وعلا.
3: الحب الجبلّي الطبيعي الخالي من المعاني التعبدية فهذا قد يكون مباحاً مأذوناً به، وقد يكون محرماً، وقد يكون مكروهاً، بحسب غرضه وأثره.
والكلام في العناصر الثلاثة الأخيرة يحتمل بسطاً أحسن من هذا، لكن خشيت الإطالة؛ فاكتفيت بالخلاصة عن التطويل، والله تعالى أعلم، وهو حسبنا ونعم الوكيل، وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.
درجات التقديم على محبة الله ورسوله:
قال الله تعالى:{قُلْ
إِنْ كَانَ آَبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ
وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ
كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ
وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ
اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ}
وفي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)).
وفي رواية لمسلم: ((لا يؤمن عبد حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين)).
وفي صحيح البخاري من حديث عبد الله بن هشام قال:
كنا مع النبي صلى الله عليه و سلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب؛ فقال له
عمر: (يا رسول الله لأنت أحب إلي من كل شيء إلا من نفسي.)
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك)).
فقال له عمر: (فإنه الآن والله لأنت أحب إلي من نفسي).
فقال النبي صلى الله عليه و سلم: ((الآن يا عمر)) .
وهذا المعنى يشهد له قوله تعالى:{النَّبيُّ أوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ مِنْ أنْفُسِهِمْ}
قال ابن جرير: ({النَّبيُّ}محمد {أوْلَى بِالمُؤْمِنِينَ}يقول: أحق بالمؤمنين به {مِنْ أنْفُسِهِمْ}أن يحكم فيهم بما يشاء من حكم، فيجوز ذلك عليهم).
وقد قال الله تعالى: {وَمَا
كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ
أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ
اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا}.
وتقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على محبة النفس والأهل والولد والناس أجمعين على ثلاثة درجات وهي درجات الاتباع ودرجات تحقيق العبودية المتقدم ذكرها:
الدرجة الأولى: وهي التي لا يصح الإسلام إلا بها وهي تقديم محبته فيما يلزم منه البقاء على دين الإسلام، والمخالف في هذه الدرجة كافر.
الدرجة الثانية: درجة الوجوب، فيطيع الرسول صلى الله عليه وسلم فيما
أمر به أمر وجوب، ويجتنب ما نهى عنه نهي تحريم، والذين يؤدي هذه الدرجة هو
مؤمن مؤدٍّ للطاعة الواجبة ، والمخالف فيها هو الذي يقدم ما تحبه نفسه
وتهواه على طاعة الرسول عاص مخالف للأمر مستحق للعقاب بقدر مخالفته.
الدرجة الثالثة: درجة الاستحباب والكمال، وهو طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم فيما
يأمر به أمر وجوب أو استحباب على ما يستطيع العبد، واجتناب ما ينهى عنه
نهي تحريم وكراهة ، وهذه الدرجة من حقَّقها فهو من أهل الإحسان.
ومن خالف فيها بما لا يلحقه بالمخالفين في الدرجة الثانية فهو غير آثم، لكن يفوته من الخير والفضل بقدر ما فرَّط فيه.
فتبيَّن أن تقديم محبة الرسول صلى الله عليه
وسلم على محبة النفس والأهل والولد والناس أجمعين على هذه الدرجات الثلاث:
منها ما لا يصح الإسلام إلا به، ومنها ما هو واجب ومنها ما هو كمال مستحب.
ويكون معنى نفي الإيمان في قوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه...)).
على ثلاث درجات:
1: نفي أصل الإيمان، وهذا للمخالفين في الدرجة الأولى.
2: نفي الإيمان الواجب، وهذا للمخالفين في الدرجة الثانية.
3: نفي كمال الإيمان، وهذا للمخالفين في الدرجة الثالثة.