6 Jul 2019
عناصر الدرس:
• طرق بيان أهمية أعمال القلوب
• الغاية من خلقنا هي عبادة الله وحده لا شريك له
• بيان معنى العبادة
• بيان الفرق بين العبادة الكونية والعبادة الشرعية
• التذكير بالعهد العظيم بين العبد وربه جل وعلا
• بيان درجات تحقيق العبودية لله تعالى
• بيان حقيقة الهدى والرشاد
طرق بيان أهمية أعمال القلوب
أعمال القلوب تتبيَّن أهميتها من طريقين: مجمل ومفصل
فأما الطريق المجمل: فهو
في بيان أصول جامعة لأعمال القلوب، وهو موضوع هذا الدرس، وقد سبقت
الإشارة إلى أهم ذلك في الدرس السابق، وخلاصة ما سبق ذكره أن الغاية التي
خلقنا الله تعالى لها هي عبادته وحده لا شريك له، وأن العبادات تنقسم إلى
عبادات ظاهرة وعبادات باطنة، وأن العبادات الباطنة -التي هي أعمال القلوب -هي أصل العبادات الظاهرة؛ فكانت الأعمال القلبية هي لبُّ ما خُلقنا لأجله.
فالشأن كل الشأن هو في عبادة القلب التي إذا صحت وخلصت لله تعالى سعد العبدُ في الدنيا والآخرة.
ولصلاح عبودية القلب أصول جامعة تبيّن
معالمها، وتحدد مراسمها، وتُعرَفُ بها مراتب السالكين، ومنازل السائرين،
ومقامات العارفين، ويعرف بمجملها أهمية أعمال القلوب وعظم شأنها.
وسأوجز الحديث عن ذلك في هذا الدرس في النقاط التالية:
1: الغاية من خلقنا هي عبادة الله وحده لا شريك له.
2: بيان معنى العبادة.
3: بيان الفرق بين العبادة الكونية والعبادة الشرعية .
4: التذكير بالعهد العظيم بين العبد وربه جل وعلا.
5: بيان درجات تحقيق العبودية لله تعالى.
6: بيان حقيقة الهدى والرشاد.
وأما الطريق المفصل: فهو
بذكر أعمال القلوب من المحبة والخوف والرجاء والتوكل والاستعانة والرغبة
والرهبة وغيرها ، وشرح المسائل المتعلقة بها بما يبيّن عظم شأنها وجلالة
قدرها في الدين.
ودرس اليوم مهمّ في معرفة أصول البحث في
مسائل أعمال القلوب، ومعرفة الميزان الذي توزن به أعمال السالكين، وتُميَّز
به مراتبهم، وما يتبع ذلك من معرفة أسباب الانحراف والتقصير والغلط لدى
بعض السالكين ومراتبها.
وأسأل الله تعالى لي ولكم الهدى والسداد، وأن يعلمنا ما ينفعنا ، وينفعنا بما يعلمنا، وأن يزيدنا علماً ينفعنا به.
الغاية من خلقنا هي عبادة الله وحده لا شريك له.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (الله تعالى خلق الخلق لعبادته كما قال تعالى: {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} وذلك هو أصل ما أمرهم به على ألسنِ الرسل كما قال نوحٌ وهودٌ وصالحٌ وإبراهيم وشعيبٌ: {اعبدوا الله ما لكم من إلهٍ غيره}
قال: {ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه} إلى قوله: {إلهًا واحدًا ونحن له مسلمون}
وقال لموسى: {إنني أنا الله لا إله إلا أنا فاعبدني}
وقال المسيح: {ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم}
والإسلام : هو الاستسلام لله وحده، وهو أصل عبادته وحده، وذلك يجمع معرفته ومحبته والخضوع له). ا.هـ
وقال تعالى: {ولقد بعثنا في كل أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت}
وقال تعالى: {وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة وذلك دين القيمة}.
وهذا الأصل
الجليل عليه مبنى الدين، واستصحاب هذا الأصل مهم في فقه مسائل أعمال
القلوب، فغاية السالك أن يحسنَ القيامَ بما خُلق لأجله.
وعمادُ ذلك أن
يكون القلبُ سليماً لله تعالى متبعاً هداه مخلصاً له الدين، وعمل القلب
دائم لا يتوقف، فهو ما بين استصحاب العمل واستصحاب حكمه، وكل ذلك عبادة.
وما شرع الله
لعباده من شرائع الدين والأنساك التي يتنسكون بها، وما أنزل عليهم من الهدى
والبينات في شؤونهم كلها كلّ ذلك داخل في عبادته جلَّ وعلا؛ فلا يخلو شأن
من شؤون العبد من هدىً لله تعالى يُحِبُّ أن يتبع فيه.
وبذلك تعلم أن من اتبع هدى الله في أي أمر من الأمور فقد عبَدَ الله َّ عز وجل بما يحبّ في ذلك الأمر.
ولا يزال العبد كذلك حتى تكون حياتُه كلها لله جل وعلا فيكون على أقوم طريقة وأحسن سبيل، كما قال تعالى: {قُلْ
إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا
مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ
إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُسْلِمِينَ (163)}
فتكون شعائره التي يتعبَّد بها خالصة لله جل وعلا ، ويكون في شؤون حياته كلها وما يعترضه من الأحداث والفتن والابتلاءات وما يهمّ به متبعاً هدى الله عز وجل.
وبذلك تكون عباداته لله ومعاملاته لله، وقلبه في كل ذلك قائم بما يحبه الله من إرادة وجهه واتباع هداه، ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء.
ومما أثر من دعاء عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه كان يقول: (اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لك خالصا ولا تجعل لغيرك منه شيئا). رواه أحمد في الزهد وأبو الشيخ الأصبهاني.
ومن تأمل ذلك
تبيَّن له أن العبادة شاملة لجميع شؤون الحياة، وأن أعمال العبد وأقواله
ومواقفه مما يعترضه من الفتن والابتلاءات والأحداث وما يؤمر به وما ينهى
عنه، له مقصد واحد عظيم: هو عبادة الله وحده لا شريك له.
وأوَّل وصية
وصَّى الله بها المكلَّفين عند بدء هذه الحياة الدنيا -لما أَهبط أبوينا
إلى الأرض -هي الوصية باتباع هداه جلَّ وعلا، وقد وعد الله من اتبع هداه
بوعد كريم وضمان عظيم لا يتخلف أبداً، وهذا الوعد باقٍ إلى أن يرث الله
الأرض ومن عليها.
- قال الله تعالى:{قُلْنَا
اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى
فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ
(38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)}
- وقال تعالى: {قَالَ
اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا
يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا
يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً
ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124)}
وقد أكرم الله
أمَّتنا بأن خصَّنا بأعظم الهدى وأحسنه ؛ فأرسل إلينا خير الرسل وأكرمهم
على الله، وأحسنهم هدياً وبياناً، وهو محمد صلى الله عليه وسلم، وأنزل معه
خير الكتب وأحسنها حديثاً وأعظمها هدى وهو القرآن العظيم.
فلا جرم كانت هذه الأمة خير أمة أخرجت للناس؛ لأنَّ ما آتاها الله من الهدى والبينات هو خير ما آتى أمَّةً من الأمم.
بيان معنى العبادة
قال ابن جرير رحمه الله: (العبودية
عندَ جميع العرب أصلُها الذلّة... تسمي الطريقَ المذلَّلَ الذي قد
وَطِئته الأقدام، وذلّلته السابلة "معبَّدًا"، ومن ذلك قول طَرَفَة بن
العَبْد:
تُبَارِي عِتَاقًا نَاجياتٍ وأَتْبَعت .....وَظِيفًا وظيفًـا فـوق مَـوْرٍ مُعَبَّـدِ
يعني بالموْر: الطريق، وبالمعبَّد: المذلَّل الموطوء. تَعبَّدَني نِمْرُ بن سعدٍ وقد أُرى.....ونمر بن سعدٍ لي مطيع ومُهْطعُ وهان عليَّ اللوم في جنب حبها.....وقـول الأعــادي إنه لـخليــع يا قومُ قلبي عند زهرائي.....يعرفه السامع والرائي وعاذلة هبَّت بليل تلومني.....وقد غاب عيُّوق الثريا فعرَّدا
ومن ذلك قيل للبعير المذلّل بالركوب في الحوائج: معبَّد.
ومنه سمي العبْدُ عبدًا لذلّته لمولاه.
والشواهد على ذلك -من أشعار العرب وكلامها- أكثرُ من أن تُحصى، وفيما ذكرناه كفاية لمن وُفِّق لفهمه إن شاء الله تعالى)ا.هـ.
وقال أبو منصور الأزهري: (ومعنى العبادة في اللغة: الطاعة مع الخضوع. ويقال طريقٌ مُعَبَّدٌ إذا كان مذلَّلا بكثرة الوطء).
ويشهد لما ذكره أبو منصور ما أنشده الخليل في العين لمن لم يسمّه:
والمعنى أنه تعبَّده أي جعله كالعبد الذليل المطيع ، بعدما كان له نمر مطيعاً مهطعاً.
فهذا تعريف العبادة باعتبار أصل معناها الملازم لها، واعتبار هذا المعنى مهم.
والعبادة على نوعين:
1: عبادة كونية.
2: وعبادة شرعية.
فأما العبادة الكونية فهي عامة لجميع الخلق، كما قال الله تعالى: ﴿إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا﴾، وقال: ﴿أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ﴾
فهو سبحانه مالك
الخلق جميعاً لا يخرج شيء عن ملكه وتدبيره، ولا يمتنع عنه أحد، فلا رب
لهم غيره، ولا مالك لهم سواه ولا خالق لهم إلا هو، سواء منهم من أقرَّ
بذلك ومن أنكر، كلهم عبيده وتحت تصرفه كما قال تعالى: {وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير}.
وأما العبادة الشرعية: فلها
تعريفات ذكرها بعض أهل العلم، وقد سلكوا مسالك في تعريفها: ومن أحسنها
تعريف شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في رسالة (العبودية)
قال رحمه الله تعالى: (العبادة: هي اسم جامع لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأعمال الباطنة والظاهرة).
فهذا تعريف العبادة الشرعية باعتبار ما يشمله اسمها، وهو ما شُرِعَ للعبد أن يتعبد به في شريعة الإسلام.
وقوله: (لكل ما يحبّه الله ويرضاه) قيد يُخرج العبادات الشركية والبدعية.
وقوله: (من الأعمال والأقوال)
قيد يُخرج الأشخاصَ والأمكنة والأزمنة التي يحبها الله فلا توصف بأنها
عبادة، لأن العبادة إنما تتعلق بما يُتعبَّدُ به مما يصدر عن العبد من قول
وعمل.
وهذه الأعمال والأقوال إنما يعرف كونها عبادة بأمور:
الأمر الأول: أن يرد في النص تسميتها عبادة، وما سمّي عبادة فهو مما يحب ربُّنا أن يُعبَد به.
الأمر الثاني: أن
يدل الدليل على محبة الله تعالى لقول وعمل إما بترتيب الثواب عليه، أو
العقاب على تركه، أو بمدح فاعله وذم تاركه أو غير ذلك؛ فما يحبه الله
ويرضاه فهو عبادة.
الأمر الثالث: أن يدل الدليل على أن الله أمر به؛ فَأَمْرُ الله به دليل على محبته أن يُعبَد به؛ فيكون بذلك عبادة.
فتعريف شيخ الإسلام للعبادة حسن بديع، وهو وصف جامع مانع للعبادات الشرعية.
وأما العبادات
الشركية والبدعية فلا يشملها هذا التعريف لأن الله تعالى لا يحبها ولا
يرضاها ولا يقبلها، وإن كانت داخلة في اسم العبادة لغة.
فكلُّ ما يُتقرَّب به إلى المعبود فهو عبادة.
قال الله تعالى: {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون}فسمَّى ما يفعلونه عبادة.
وقال تعالى: {أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله}
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد))رواه مسلم.
فالعبادات
الشركية والبدعية وإن كان يشملها اسم العبادة لغة وحقيقة من جهة كونها
صادرة عن تذلل وخضوع للمعبود، لكنها عبادات باطلة عند الله جل وعلا؛ فمن عبد اللهَ عبادةً غير خالصة له جل وعلا فهي
مردودة عليه، وكذلك من عبد الله بعبادة لم يأذن الله بها فهي مردودة
عليه، وإن صاحب تلك العبادة ما صاحبها مما يزعمه أصحابها من الذوق والوجد
والروحانيات.
فتعريف شيخ الإسلام للعبادة تعريف بالحد الرسمي.
وتعريف ابن جرير وأبي منصور تعريف لها بالحد الحقيقي.
وقول ابن جرير: (العبودية عند جميع العرب أصلها الذلة) هذا بيان لما تكون به العبادة فهي لا تكون إلا بتذلل وخضوع.
ثم يصحب ذلك في العبادات الشرعية التي أمر الله بها ثلاثة أمور:
الأمر الأول: المحبة
والأمر الثاني: الانقياد.
والأمر الثالث: التعظيم.
فالعبادة لا تسمى عبادة حتى تجتمع فيها هذه الأمور الثلاثة:
فأما الأمر الأول وهو: المحبة العظيمة، فبيانه أن العبادة هي أعظم درجات المحبة، ولذلك لا يجوز صرفها لغير الله عز وجل، ومن صرفها لغير الله فقد أشرك كما قال تعالى: ﴿وَمِنَ
النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ
كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ ءَامَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ﴾.
ومن الناس تصل به شدة محبته لمن يعشقه إلى عبادته لما اجتمع في قلبه شدة المحبة مع الذل للمحبوب وتعظيمه والانقياد له.
قال إبراهيم الصولي:
أصمُّ إذا نـوديـت باسمي وإنـني.....إذا قيل لي يا عـبدهـا لسميع
وفي معناه ما ذكره القشيري وابن العربي وغيرهما عمَّن لم يسموه:
لا تدعني إلا بـ(يا عبدها).....فإنه أشـرف أسمائي
وهذه المرتبة من المحبة لا يستحقها أحد غير الله عز وجل.
وسيأتي الحديث عن محبة الله تعالى وأنها أصل أعمال القلوب في الدروس القادمة بإذن الله.
الأمر الثاني: التعظيم والإجلال، فالعبادة تقتضي تعظيم المعبود أشدَّ التعظيم، وإجلاله غايةَ الإجلالِ، فالتعظيم من لوازم معنى العبادة، قال حاتم الطائي:
تقول ألا تُبقي عليك فإنني.....أرى المال عند الممسِكين مُعَبَّدا
ومن آثار هذا
التعظيم أن يعادي من يتكلم في معبوده بسوء، ولذلك ثارت ثائرة المشركين لما
دعاهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى الكفر بالطاغوت وعبادة الله وحده لا
شريك له، فعادوه أشد المعاداة مع ما يعرفون من قرابته وحسن خلقه وصدقه
وأمانته وصلته للرحم وغير ذلك من خصاله التي يُحبّ لأجلها.
وكذلك تجد المؤمن معظِّماً لربّه جل وعلا، ومعظماً لشعائره وحرماته كما قال تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾
وقال: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ﴾ فتعظيم الشعائر والحرمات من آثار تعظيم المؤمن لربه جل وعلا، وإجلاله له.
وقد أمر الله بتعظيمه فقال: ﴿وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا﴾ أي عظمه تعظيماً شديداً، وقال: ﴿وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ أي: تعظموه شكراً له على هدايته لكم.
وهذا التعظيم يزداد بازدياد
اليقين والإيمان، ومن تأمل أسماء الله الحسنى وتأمل آثارها في الخلق
والأمر تبين له من معاني عظمة الله جل جلاله ما يورثه خشية الله تعالى
وتعظيم أوامره ونواهيه.
الأمر الثالث: الانقياد والخضوع ، فالعابد منقاد لمعبوده خاضع له، وهذا الخضوع والانقياد المصحوب بالتذلل والمحبة والتعظيم لا يجوز صرفه لغير الله عز وجل.
وخضوع العبد لله
تعالى وانقياده لطاعته هو عين سعادته، وسبيل عزته ورفعته، ومن ذلَّ لله
رفعه الله وأعزَّه، ومن استكبر واستنكف أذله الله وأخزاه، وسلط عليه من
يسومه سوء العذاب، ويذلّه ويهينه.
ولذلك فإن أعظم الخلق خضوعاً لله تعالى وانقياداً لأوامره الأنبياء والملائكة والعلماء والصالحون، وهم أعظم الخلق عزة ورفعة وسعادة.
وأعظم الخلق
استكباراً واستنكافاً مردة الشياطين، والطغاة والظلمة، وهم أعظم الخلق ذلاً
ومهانة، وإن ظهر لهم علوٌّ في الأرض وتمكين إلى حين فإن الذلة لا تفارقهم
لمن أبصر حقائق الأمور.
ومن تأمل أحوال
الشياطين وأعمالهم الشريرة المهينة وأماكنهم النجسة القذرة، وأحوال
أتباعهم من المجرمين والطغاة والعصاة، وعرف أخبارهم ونهاياتهم تبيَّن له
الفرق الكبير بين من أكرمه الله وأعزه، ومن أذله الله وأخزاه.
قال الله تعالى: ﴿لَنْ
يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا
الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ
وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا
الَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ
وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا
وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ
مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا﴾.
وهذه الأمور الثلاثة (المحبة والتعظيم والانقياد) مبنية على التذلل لله جل وعلا، وبها يتحقق معنى العبودية لله جل وعلا، وهي مصاحبة لسائر أعمال القلوب.
ومما ينبغي التذكير به أن العبادة تكون بالقلب واللسان والجوارح:
فعبادة القلب جامعة لأمرين:
1: الاعتقاد وهو التصديق واليقين.
2: وعمل القلب من المحبة والخوف والرجاء والتوكل وغير ذلك من أعمال القلوب.
وعبادة اللسان هي بقول ما يحبه الله من الذكر والدعاء والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وغير ذلك من الأقوال التي يحبها الله.
وعبادة الجوارح هي ما تقوم به جوارح الإنسان من أعمال التعبد كالصلاة والزكاة والصيام والحج والذبح والنذر وغيرها.
ولصحة العبادة شرطان:
أحدهما: الإخلاص لله جل وعلا.
والآخر: أن تكون على ما شرع الله عز وجل بما بينه رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم.
وبتحقيق هذين
الشرطين: إخلاص العبادة لله عز وجل، واتباع النبي صلى الله عليه وسلم، يكون
العبد من المسلمين الموعودين بدخول الجنة، ومن نقض شرطاً منهما فليس من
أهل الإسلام والعياذ بالله.
فالشرط الأولهو معنى شهادة أن لا إله إلا الله.
والشرط الثاني هو معنى شهادة أن محمداً رسول الله.
ولا يصح إسلام عبد حتى يشهد هاتين الشهادتين بقلبه ولسانه وجوارحه.
بيان الفرق بين العبادة الكونية والعبادة الشرعية
العبادة على نوعين عبادة كونية متعلقة بالربوبية، وعبادة شرعية متعلقة بالألوهية.
فأما العبادة المتعلقة بالربوبية فهي عامة لجميع الخلق لا يخرج منهم أحد عنها كما قال الله تعالى: ﴿إِنْ
كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ
عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ
آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)﴾
وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ﴾.
فهذه العبادة الكونية لا يخرج منها برٌّ ولا فاجر.
وأما العبادة الشرعية فهي الفارقة بين المسلمين والكفار، وأهل الجنة وأهل النار، وهي إخلاص العبادة لله جل وعلا واتّباع شرعه بامتثال أمره واجتناب نهيه.
فالعبادة
المتعلقة بالربوبية من الإقرار بخلق الله تعالى وملكه وتدبيره وشهود الفقر
إلى الله تعالى، لا تفرق بين المؤمن والكافر، ولا بين أهل الجنة والنار،
لأن العبد قد يعرف ذلك ويعبد غير الله كما فعل المشركون.
فشهود مشهد الربوبية لا يدخل العبد في الإسلام ولا يقتضي الإخلاص في العبادة،
وإن كان حجة في وجوبه، والوجوب لا يقتضي الأداء في حقيقة الأمر، وقد أقرّ
المشركون بربوبية الله تعالى، ولم يدخلهم ذلك في الإسلام، قال الله
تعالى: ﴿قُلْ
مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمْ مَنْ يَمْلِكُ
السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ
وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ
فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ
رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى
تُصْرَفُونَ﴾.
فهم كانوا يقرون
بوجود الله تعالى وأنه هو الخالق الرازق المدبر لأمورهم ومع هذا لم
يدخلوا في دين الإسلام لأنهم لم يتقوا الله تعالى ولم يفردوه بالعبادة،
والتوحيد هو أصل التقوى.
فالمعرفة التي
لا يترتب عليها امتثال الأمر حجة على صاحبها وعذاب عليه، وهي من شأن أهل
الجحود والاستكبار والإعراض ، كما قال الله تعالى: ﴿وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا﴾ وقال: ﴿فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ﴾
والمخالفون في العبودية الشرعية على درجتين:
الدرجة الأولى: المشركون
الذين لم يُخلصوا العبادة لله تعالى، فلم يمتثلوا أمره في أعظم ما أمر به
وهو التوحيد، وهؤلاء مشركون كفار خارجون عن دين الإسلام.
الدرجة الثانية: طوائف
من أهل البدع والضلالات الذين غلَّبوا جانب التعبدِ لله بالتفكر في
أفعاله وخلقه حتى ضيعوا بعض الفرائض وارتكبوا بعض المحرمات، كما هو مشتهر
عن بعض المتصوفة، بل بعض غلاة المتصوفة قد يصل بهم الأمر إلى تضييع
الأوامر جملةً حتى يخرجوا من دين الإسلام والعياذ بالله.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (فمن
وقف عند هذه الحقيقة [أي: حقيقة الربوبية] وعند شهودها ولم يقم بما أمر
الله به من الحقيقة الدينية التي هي عبادته المتعلقة بألوهيته وطاعة أمره
وأمر رسوله كان من جنس إبليس وأهل النار؛ فإن ظن مع ذلك أنه من خواصّ
أولياء الله وأهل المعرفة والتحقيق الذين سقط عنهم الأمر والنهي الشرعيان
كان من أشر أهل الكفر والإلحاد)ا.هـ.
فهؤلاء الذين زعموا أنهم وصلوا إلى درجة اليقين وأن التكاليف قد سقطت عنهم كفار مرتدون خارجون عن دين الإسلام والعياذ بالله.
فالمقصود من خلق
الناس أن يقوموا بواجب العبودية لله تعالى ويمتثلوا أمره ويجتنبوا نهيه
ويرجوا رحمته ويخافوا عذابه فمن فعل ذلك فهو من المتقين.
وإنَّ من مداخل الشيطان على الإنسان أن يصرف همته عن امتثال أمر الله جل وعلاوالقيام
بالفرائض واجتناب الحرمات إلى التفكر فيما يثبت به وحدانية الله تعالى في
ربوبيته، وأنه هو الخالق الرازق المدبر للأمر، ويظنُّ أنه إذا أتى بهذا
الأمر فقد أبلى بلاء حسنا يعفى به عن تقصيره وتفريطه في أداء الفرائض.
ولذلك تجد بعض
من خُدع بهذه الخديعة الشيطانية من المسلمين يعظِّم بحوث الذين يعلمون
ظاهراً من القول من الكفار الذين لهم تخصص في بعض علوم الطبيعة، ولا سيما
ما يُثبتون به شيئاً من آثار ربوبية الله تعالى وسعة علمه وحكمته وتدبيره،
ويظل يتتبعها ويفني وقته وجهده في التنقيب عنها، بل ربما زاد بعضهم عليها
بعض المبالغات والأكاذيب والتهويلات والتلفيقات ليَخرجوا للناس بما يزعمون
أنهم لم يُسبقوا إليه في دلائل إثبات وحدانية الله تعالى في خلقه وملكه
وتدبيره، وهذا خطأ ينبغي التنبيه عليه.
ولا خلاف في أن
المؤمن مأمور بالتفكر في آيات الله ومخلوقاته بما يحمله على التقوى
وامتثال الأمر واجتناب النهي والازدياد من اليقين، أما إذا كان تفكره
للتعجب والتأمل المجرد الذي لا ينبني عليه عمل فلا يمتثل الأمر ولا يجتنب
النهي فتفكره حجّة عليه وعذاب عليه -والعياذ بالله - وإنْ صاحَبه إقرار
بوحدانية الله تعالى في خلقه وملكه وتدبيره.
4: التذكير بالعهد العظيم بين العبد وربه جل وعلا
مَن شهد أن لا
إله إلا الله وأنّ محمّداً رسول الله فقد عاهد الله أن يخلِص العبادة له
وحده، وأنّ يتّبع رسوله صلى الله عليه وسلم، وبهذا العهد يدخل العبد في دين
الإسلام، وقد علمتَ معنى العبادة فيما سبق من الشرح والبيان.
فإذا شهدتَ أن
لا إله إلا الله فاعلم أنك قد عاهدت الله أن تحبه المحبة بأعلى درجات
المحبة، وأن تعظّمه بأعلى درجات التعظيم، وأن تخضع له وتنقاد لأمره.
ولذلك كانت (لا إله إلا الله) أعظم الحسنات، وأعلى شعب الإيمان، ومفتاح الجنة، وأفضل الذكر، ومن كانت آخر كلامه من الدنيا دخل الجنة.
وهذا العهد العظيم جزاء من وفَّى به أن يدخله الله الجنة، ومن خان هذا العهد ونقضه أدخله الله النار.
فهذا العهد الذي
بين العبد وربه بالتوحيد وإخلاص العبادة له هو أعظم العهود، وأعظم
الأمانات، وجزاؤه وثوابه أعظم الجزاء والثواب، وعقاب نقضه ونكثه أعظم
العقاب.
قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ
أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آَدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ
إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ
مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ
تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ(63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64)﴾
وكل عبادة لغير
الله تعالى فهي عبادة للشيطان لأنها طاعة له في تحليل ما حرم الله وتحريم
ما أحل الله، وأعظم ما حرم الله تعالى هو الشرك، سواء أَشَعَرَ الإنسانُ
أنه يعبد الشيطان أم لم يشعر.
فالعهد الذي بين
العبد وربه هو أعظم العهود وهو معقد الامتحان ومناط الفوز والخسران،
والشيطان أحرص ما يكون على أن ينقض العبد هذا العهد الذي بينه وبين ربه.
وكل منفعة أو
لذة دنيوية يحصلها العبد بسبب نقضه لهذا العهد فهو ثمن قليل زائل ولو أُعطي
الدنيا بحذافيرها؛ فإنها لا تساوي شيئاً في جنب ما أعده الله لعباده
المؤمنين، ولا تستحق مكابدة العذاب الأليم المقيم في نار جهنم والعياذ
بالله.
فكيف وهو لا يعطى من الدنيا إلا ما قدر له، ومع هذا فمتاع الدنيا كثير النكد سريع الزوال.
وقد حذَّر الله عبادَه من نقض هذا العهد، ورغَّبهم في الوفاء به أحسن الترغيب؛ فقال جل وعلا: ﴿وَلَا
تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ
هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ
يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا
مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً
طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا
يَعْمَلُونَ (97( ﴾
فضمن الله
لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات أعظم الثواب في الدنيا والآخرة ففي
الدنيا لهم الحياة الطيبة التي لا أفضل منها، وفي الآخرة يجزيهم الله
أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون.
وفي الصحيحين من حديث معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنتُ رِدْفَ رسولِ الله -صلى الله عليه وسلم- على حمار يقال له: عُفَير، فقال: ((يا معاذ، هل تدري ما حقُّ الله على العباد، وما حقُّ العباد على الله؟)).
قلتُ: الله ورسوله أعلم.
قال: ((فإنَّ حقَّ الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئا، وحقُّ العباد على الله: أن لا يعذِّب مَن لا يشرِك به شيئا)).
فقلتُ: يا رسول الله: أفلا أبشِّرُ الناس، قال: ((لا تبشِّرْهم فيتَّكِلُوا)).
وفي رواية: (فأخبر بها معاذ عند موته تأثُّما).
تأثماً: أي تحرجاً من الإثم بكتمان العلم.
فشأن هذا العهد عظيم، ولذلك شُرِعَ للعبد أن يجدده في اليوم والليلة مراراً حتى لا ينساه ولا يغفل عنه.
فيكُرِّرَ في
الأذان للصلوات الخمس في جميع الأوقات في الفجر والظهر والعصر والمغرب
والعشاء، ويكرر في الإقامة عند الحضور للصلاة واجتماع المصلين.
ويكرره العبد في
صلواته فلا تصح صلاة بلا تشهّد، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يعلّم
أصحابه التشهد في الصلاة كما يعلّمهم السورة من القرآن.
وهذا العهد
تضمنه سيد الاستغفار الذي يستحب للعبد أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى
ورُتِّبَ على قوله الثواب العظيم، كما في صحيح البخاري من حديث شداد بن أوس
رضي الله عَنِ النَّبِيِّ - صلى الله عليه وسلم قال: ((سَيِّدُ
الاِسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبِّى، لاَ إِلَهَ
إِلَّا أَنْتَ، خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ
وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرَّ مَا صَنَعْتُ،
أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَىَّ وَأَبُوءُ بِذَنْبِي، اغْفِرْ لِي،
فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا أَنْتَ)).
قَالَ:
((وَمَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا، فَمَاتَ مِنْ
يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِىَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ
قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهْوَ مُوقِنٌ بِهَا، فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ
يُصْبِحَ، فَهْوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ)).
ولذلك كان
الشيطان حريصاً على أن لا يفيَ العبد بهذا العهد، فهو يوسوس له، ويمنيه،
ويثبطه عن الوفاء بهذا العهد العظيم، ويزين له الذنوب والمعاصي التي يقدح
فعلها في الوفاء بهذا العهد العظيم، ولا يزال حريصاً على أن ينقض العبد هذا
العهد الذي بينه وبين الله نقضاً تاماً، فينقض عهد الله من بعد ميثاقه،
ويقطع ما أمر الله به أن يوصل؛ فيرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام ينقض به هذا
العهد فيموت العبد كافراً والعياذ بالله.
فهذه غاية الشيطان التي أقسم عليها كما بين الله تعالى ذلك بقوله: ﴿وَإِذْ
قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ
قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا
الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ
لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ
تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63)وَاسْتَفْزِزْ
مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ
وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ
وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ
لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبَّكَ وَكِيلًا﴾.
فمن حقق العبودية لله تعالى لم يكن للشيطان عليه سلطان.
ومعنى لأحتنكن:
أي لأستولين عليهم ولأقودنهم إلى المعاصي كما يقود الرجل دابته فيلقي على
حنكها حبلاً يحتنكها به ويقودها به إلى حيث يشاء.
بيان درجات تحقيق العبودية لله تعالى
- إذا تبين ما سبق فاعلم أن تحقيق العبودية لله تعالى على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: الإتيان بأصل العبودية لله تعالى، وهو ما يبقى به المرء مسلماً، فيعبد الله وحده لا شريك له، ويجتنب عبادة غير الله جل وعلا، ويأتي من الفرائض ويجتنب من النواقض ما يبقى به إسلامه؛ فهذه مرتبة الإسلام.
الدرجة الثانية: تحقيق القدر الواجب من العبادة؛ بفعل الواجبات واجتناب المحرمات، وهذه مرتبة الإيمان، وهي درجة المتقين.
الدرجة الثالثة: تحقيق الكمال المستحب في العبادة، وهذه مرتبة الإحسان، وهو أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وكل درجة من هذه الدرجات يتفاضل المسلمون فيها تفاضلاً كبيراً لا يحصيهم إلا من خلقهم.
أما من أشرك بالله تعالى فليس من أهل عبودية الله، وإنما هو من عباد الشيطان كما قال الله تعالى: ﴿أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾
فأصحاب الدرجة الأولى
مسلمون موعودون بدخول الجنة وإن عذبوا قبل ذلك على بعض ما اقترفوه من
الذنوب؛ فما معهم من التوحيد والإسلام مانع من الخلود في النار، وفي هذه
الطبقة يكون أهل الكبائر من المسلمين.
فهؤلاء لديهم
أصل العبودية لله تعالى وأصل تقوى الله ومحبته وخوفه وتعظيمه لأنهم اجتنبوا
الشرك الأكبر واجتنبوا ارتكاب ما ينقض الإسلام فهم متقون بهذا الاعتبار،
وإن كان إيمانهم ناقصاً بسبب ما ارتكبوه من الذنوب.
قال محمد بن نصر المروزي في أهل هذا الصنف: (قد
أجمع المسلمون أن فيه أصل التقى والوَرَع، وذلك أنه يتقي أن يكفر أو يشرك
بالله شيئاً، وكذلك يتقي الله أن يترك الغسل من الجنابة أو الصلاة).
وأصحاب الدرجة الثانية
هم المتقون الذين يجتنبون المحرمات ويؤدون الفرائض؛ فيؤدون حقوق العبادة
الواجبة ويجتنبون الشرك الأصغر من الرياء وتعلق القلب بغير الله تعالى
كالتعلق بالمال والرياسة والأشخاص وغير ذلك مما يقدح في تحقيق القدر الواجب
من العبودية لله تعالى.
ومن تعلق شيئاً دون الله وكل إليه، ومن أحب شيئاً من دون الله حتى يعصي اللهَ بسببه عُذِّبَ به.
وفي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((تعِسَ عَبدُ الدِّينار وعَبدُ الدرهم وعبد الخميصة إن أُعْطي رضِي وإن لم يُعطَ سخط تعِسَ وانتكَس وإذا شيك فلا انتقش)).
وهذا دعاء عليه
من النبي صلى الله عليه وسلم بالتعاسة والانتكاسة، فكلما قام من سقطة وقع
في أخرى، وإذا أصيب ببلاء لم يهتد للخروج منه، وسبب ذلك عبوديته للدنيا،
وغفلته عن الله جل وعلا.
وقد بيَّن النبي صلى الله عليه وسلم الضابط في ذلك فقال: ((إذا أعطِي منها رضي وإن لم يُعط سَخط)).
فإذا كانت همَّة العبد للدنيا إن أعطي منها رضي، وإن لم يُعْطَ ظلَّ ساخطاً على قضاء الله وقدره متبرماً منه لم يكن قلبه سليماً لله جل وعلا بل فيه عبودية لغير الله.
وهذا من شأن المنافقين كما قال الله تعالى فيهم: ﴿وَمِنْهُمْ
مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ
لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ﴾ فرضاهم لغير الله وسخطهم لغير الله.
ومن كان هذا حاله فهو لم يحقق العبودية الواجبة لله تعالى.
وهذا أمر تُشاهَد آثاره فيمن تعلق قلبه بمال أو رئاسة أو شخص يحبه حتى يعصي الله لأجله؛ فيكون في قلبه رقٌّ لما أحبه وتعلق به وعصى الله لأجله.
قال ابن تيمية: (كلُّ
من علَّق قلبه بالمخلوقين أن ينصروه أو يرزقوه أو أن يهدوه خضع قلبه لهم
وصار فيه من العبودية لهم بقدر ذلك، وإن كان في الظاهر أميراً لهم مدبراً
لأمورهم متصرفاً بهم؛ فالعاقل ينظر إلى الحقائق لا إلى الظواهر؛ فالرجل
إذا تعلَّق قلبه بامرأة ولو كانت مباحة له يبقى قلبُه أسيراً لها،
تَحَكُّم فيه وتتصرف بما تريد، وهو في الظاهر سيّدها لأنه زوجها أو
مالكها، ولكنه في الحقيقة هو أسيرها ومملوكها، ولا سيما إذا علمت بفقرِه
إليها وعِشْقِه لها وأنه لا يعتاض عنها بغيرها؛ فإنها حينئذ تتحكم فيه
تحكم السيد القاهر الظالم في عبده المقهور الذي لا يستطيع الخلاص منه، بل
أعظم؛ فإنََّ أَسْرَ القلب أعظم من أسر البدن، واستعباد القلب أعظم من
استعباد البدن؛ فإن من استُعبد بدنه واسترق وأُسِرَ لا يبالي إذا كان قلبه
مستريحا من ذلك مطمئناً، بل يمكنه الاحتيال في الخلاص.
وأما إذا كان
القلب الذي هو مَلِكُ الجسم رقيقاً مستعبَدا متيماً لغير الله؛ فهذا هو
الذل والأسر المحض، والعبودية الذليلة لما استعبد القلب).
قال:
(وهذا لعمرو الله إذا كان قد استعبد قلبَه صورة مباحة؛ فأما من استعبد
قلبَه صورةٌ محرمةٌ امرأة أو صبي فهذا هو العذاب الذي لا يدانيه عذاب.
وهؤلاء عشاق
الصور، من أعظم الناس عذاباً وأقلهم ثواباً، فإن العاشق لصورة إذا بقي قلبه
متعلقاً بها مستعبَداً لها اجتمع له من أنواع الشر والفساد ما لا يحصيه
إلا رب العباد ولو سلم من فعل الفاحشة الكبرى؛ فدوام تعلق القلب بها بلا
فعل الفاحشة أشد ضرراً عليه ممن يفعل ذنباً ثم يتوب منه ويزول أثره من
قلبه).
قال:
(ومن أعظم أسباب هذا البلاء إعراض القلب عن الله فإن القلب إذا ذاق طعم
عبادة الله والإخلاص له لم يكن عنده شيء قط أحلى من ذلك ولا ألذ ولا أمتع
ولا أطيب، والإنسان لا يترك محبوبا إلا بمحبوب آخر يكون أحب إليه منه أو
خوفاً من مكروه؛ فالحب الفاسد إنما ينصرف القلب عنه بالحب الصالح أو بالخوف
من الضرر. قال تعالى في حق يوسف: ﴿كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ﴾). ا.هـ.
وإذا كان القلب أسيراً لشيء من هذه المحبوبات لم يكن خالصاً لله جل وعلا، ولم يأت صاحبه بالعبودية الواجبة.
بل يكون في قلبه ذلٌّ لها مصحوب بخوف ورجاء وهذا هو معنى العبادة التي يجب إخلاصها لله جل وعلا،
ولذلك سماه النبي صلى الله عليه وسلم عبداً للمال، وإن كانت هذه العبودية
ليست تامة بحيث تفضي به إلى الشرك الأكبر إلا من بلغت به عبوديته للدنيا
أن يرتكب ناقضاً من نواقض الإسلام لأجلها والعياذ بالله.
وهذا يختلف عن الذل الذي أمر الله به ومدحه كما في قوله تعالى في شأن الوالدين: ﴿وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ﴾
وقوله: ﴿فَسَوْفَ
يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى
الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ
اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ﴾
فهذه ذلة مصحوبة بالرحمة وقصد الإحسان إلى المتذلل له؛ فهو محسن إليه بهذا التذلل، فليس فيه ما يقدح في العبودية لله جل وعلا، بخلاف عبودية الدنيا المحرمة فإنها ذلٌّ في القلب مصحوب بخوف ورجاء مع غفلة القلب عن الله جل وعلا.
والله تعالى قد جعل من ابتلائه لعباده أن يحوجهم إلى ما تقوم به مصالحهم من المطعم والمشرب والملبس والمنكح وغيرها.
وهذا الأمور التي أحوج الله عباده إليها أمرهم أن يطلبوها منه جل وعلا، وأن يرضوا بما يعطيهم منها، وأن يتبعوا هداه في ابتغائها بما أذن فيه من الأسباب.
فما أعطاهم منها رضوا به وشكروا نعمة الله عليهم به، وما مُنعوه صبروا على فقده ورجوا ثواب ربهم وحسن عِوَضه.
ومن كان هذا حاله أُعطي خيراً مما حُرم، وبُرك له فيما أعطي، كما قال الله تعالى: ﴿يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ
يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا
أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾
وفي مسند الإمام أحمد من حديث أبي العلاء بن الشخير قال: حدثني أحد بني سُليم، ولا أحسبه إلا قد رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم (( أن الله يبتلي عبده بما أعطاه، فمن رضي بما قسم الله له، بارك الله له فيه، ووسعه، ومن لم يرض لم يبارك له )).
ولذلك يجد أهل اليقين وحسن
المعرفة بالله سكينة في نفوسهم، وطمأنينة في قلوبهم، وبركة فيما أُعطوا ،
مع معافاتهم من كثير من الآفات التي يُبتلى بها من يتعلّق بالأسباب، ومن لم
يرض ما قسم الله له.
ولا يشقى مع
الله أحد اتبع رضوانه، وكثيراً ما تحب النفس شيئاً وهو شرٌّ لها، فإذا
حُرِم العبد شيئاً مما يُحبّ فليحسن ظنه بربه فلعلَّ في هذا المحبوب الذي
حُرِمَهُ شراً لا يعلمه، والله تعالى لا يرضى لعبده المؤمن المتبع لرضوانه
إلا بما هو خير له.
قال الله تعالى على لسان خليله إمام الموحدين إبراهيم عليه السلام: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾.
قوله: ﴿فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ﴾ تقديم الظرف يدل على الاختصاص والحصر ، فهو في معنى: لا تبتغوا الرزق إلا عند الله، وقد قال الله تعالى: ﴿وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ﴾.
والرزق يشمل
جميع ما يحتاجه العبد مما تقوم به مصالحه من المطعم والمشرب والملبس
والمنكح والأهل والولد والأموال والمعرفة بما ينفعه وغيرها.
والإنسان محتاج إلى الرزق؛ مأمور بطلبه بالأسباب المشروعة، وأما تعلق القلب فيجب أن يكون بالله تعالى وحده.
وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((المؤمِن
القوي خيرٌ وأحبّ إلى الله مِن المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خيرٌ، احرص على
ما ينفعك، واستعِن بالله ولا تعجَز وإن أصابك شيء فلا تقُل لو أني فعلتُ
كان كذا وكذا ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان)).
فهذا الحديث العظيم يبين للمؤمن منهجه في طلب الرزق والأخذ بأسباب القوة
- ((المؤمِن القويّ خير وأحبّ إلى الله مِن المؤمِن الضعيف))وصف
القوي في الحديث يشمل جميع معاني القوة وأولها قوة الإيمان بالله تعالى
وقوة الإخلاص وقوة العزيمة على فعل الخير، وكل مؤمن كان قوياً في أمرٍ من
الأمور وشكرَ الله تعالى على هذه القوة؛ فهو خير وأحب إلى الله من المؤمن
الضعيف في ذلك الأمر.
وهذا يشمل جميع معاني القوة من قوة البدن والعلم والمال والجاه وغيرها.
- ((وفي كلٍّ خَير))لأن المؤمن ولو كان فيه ضعف فأصل الخير فيه لإيمانه، وهذا فيه تنبيه للقوي على ألا يزدري الضعيف.
- ((احرِص على ما ينفعك))هذا فيه الحث على الاجتهاد في بذل الأسباب، و((ما ينفعك))عام في أمور الدين والدنيا؛ فكل ما ينفع المؤمن فهو مطالب بالحرص عليه، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع.
فمن زعم أنه
متوكل على الله وأن قلبه لا يتعلق بغيره وهو لا يبذل الأسباب المشروعة لطلب
الرزق وما يحتاج إليه من أمور الدنيا فهو كاذب، والامتحان يكشف يكذبه،
فإنه إذا احتاج انكشف تعلّق قلبه.
- ((واستعِن بالله))فإن العبد لا يدرك شيئاً من الخير إلا بعون الله تعالى وتوفيقه، وهذه الاستعانة تعلِّق قلبه بالله وتدفع عنه التعلق بالأسباب.
- ((ولا تعجَز))العجز هو القعود عن بذل الأسباب مع إمكانها.
- ((وإن أصابك شيء فلا تقل لوْ أني فعلتُ كان كذا وكذا ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل))وهذا
حال المؤمن حين يصيبه ما يكره من مصيبة بفقد ما يحب أو فوات ما يطلب من
الخير؛ وإذا بذل الأسباب ولم يحصل له مطلوبه فليحسن الظن بالله وليرض
بقضائه وليرج ثوابه فيما أصابه.
والمؤمن إذا
اجتمع في قلبه حسن الظن بالله والرضى بقضائه علم أن ما تطلبه نفسه لن
يفوتها؛ فهو إما أن يعجل لها فتهنأ به، وإما أن يؤخر لها أو تعوض خيراً منه
وإذا أخَّر الله لعبده المؤمن تحقيق ما يطلب فليعلم أن هذا التأخير خير
له، لأن الله تعالى يختار لعبده فيأتيه حين يأتيه وهو على حال أكمل وأفضل.
فمن طلب التعطّر
وثوبه متسخ كان إلى تنظيف ثوبه أحوج منه إلى ما طلب من الطيب، فلو أُخّر
عنه الطيب حتى ينقى ثوبه مما به حتى يأخذه وهو على حال النظافة والنقاء
لكان ذلك أجمل في حقه وأكمل.
فإذا أُخّرَ عنك شيء من الخير فاعمد إلى تطهير قلبك.
وقد قال الله تعالى: {مَا
يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ
لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ
تَشْكُرُونَ} .
وهذه الآية وإن كانت في الطهارة الحسية إلا أنّ لها دلالة معتبرة على الطهارة المعنوية التي هي أعظم قدراً من الطهارة الحسية.
فما يصيب المؤمن مما يكره لا
يريد الله به أن يوقعه في حرج، ولكن يريد أن يطهّره؛ فالقلب محلّ نظر
الله جلّ وعلا، وإذا أحبّ الله عبدا ابتلاه ليطهّر قلبه، وطهارة القلب
معنى عام يشمل طهارته من الشرك الأكبر والأصغر، ومن النفاق، ومن التعلق
بغير الله جلّ وعلا، ومن سوء الظنّ به، ومن ضعف اليقين، ومن خصال الوهن
والخور، والعجب والكبر، واليأس والقنوط، وغيرها.
ولذلك قد يُبتلى المؤمن
ببلاء فيُفتح له في الدعاء والالتجاء إلى الله، والاضطرار إليه، وتطهير
القلب من التعلق بغيره، ما هو أعظم نفعاً له من إعطائه سؤاله، لأن بركة ما
يُعطى بهذه الطهارة من الرفعة في الدين، ومحبة الله، ورضوانه، وفضله
العظيم، وثوابه الكريم، خير له من عين مسألته التي تأخرت عليه، وربما لو
أعطيها حين سألها لغفل عن شكرها، وابتلي بآفات لا يصبر عليها.
فإن من ضعف يقينه بالله ولم يتبع هداه قد يشقى بمطلوبه وإن تحقق له، ويكون فتنة له.
والمقصود أن
المؤمن المتقي محقق لدرجة العبودية الواجبة لله تعالى فإن أعطاه الله قبل
ورضي وشكر، وإن ابتلي بتأخير ما يطلب لم يحمله ذلك على التسخط والجزع
والتبرم من قضاء الله وقدره كما يفعل أهل النفاق.
وههنا قاعدة مهمة فيما يبتلى به المؤمن ينبغي أن نتفطن لها ونفقه معناها: فإن كل بلاء يُبتلى به المؤمن يصاحبه أمران:
الأمر الأول: بيان الهدى من الله فيما يجب على العبد أن يتقيه ويتجنَّبه، وما يحبه الله لعبده وينجيه به مما يخاف منه.
وذلك أن العبد إذا ابتلي كان معرّضاً لفعل الصواب والخطأ؛ فإن أصاب فهو مهتدٍ، وإن أخطأ فقد ضل.
وتختلف درجة الضلال بحسب درجة المخالفة، وقد قال الله تعالى: ﴿وَمَا
كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ
لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾.
قال الشافعي رحمه الله: (فليست تنزل في أحد من أهل دين الله نازلة إلا وفي كتاب الله الدليل على سبيل الهدى فيها).
الأمر الثاني: اللطف والتيسير، وقد قال الله تعالى: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾، ولن يغلب عسر يسرين، وأول التيسير أن يعلم أنه لا ينزل بعبد مؤمن بلاء إلا كان بعده فرج؛ فهذا اليقين المعتمد على حسن الظن بالله جل وعلا والتصديق
بوعده ورجائه عبادة عظيمة من أجل العبادات، وهو في هذا يدافع وساوس
الشيطان وما يلقيه في نفسه من الخواطر الرديئة والتيئيس من رحمة الله
والتشكيك في صدق وعده؛ فيكون المؤمن في حال ابتلائه مجاهداً صابراً راجياً
ربه جل وعلا.
وقد روى الإمام
مالك في الموطأ وابن أبي شيبة في مصنفه وابن جرير في تفسيره وغيرهم عن زيد
بن أسلم أنه قال: كتب أبو عبيدة بن الجراح إلى عمر بن الخطاب يذكر له
جموعاً من الروم وما يتخوف منهم؛ فكتب إليه عمر بن الخطاب: (أما بعد فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزل شدة يجعل الله بعده فرجا، وإنه لن يغلب عسر يسرين، وإن الله تعالى يقول في كتابه﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾).
وقال الشاعر:
وكل شديدة نزلت بحي.....سيأتي بعد شدتها رخاء
ومن تأمل أوجه اللطف فيما يتعرض له من البلاء علم حقيقة هذا الأمر.
وبهذا يعلم المؤمن أن كل قضاء يقضيه الله له فهو خير له، وليس ذلك إلا للمؤمن والله تعالى عليم حكيم في قضائه وقدره وتدبيره.
وفي صحيح مسلم من حديث صهيب الرومي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
((عجباً لأمر المؤمن أن أمره كله له خيرٌ، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن
أصابته سراء شكر فكان خيراً له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له)).
وتأملوا قول الله تعالى: ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا﴾ ولم يقل (علينا) وفي هذا دليل على أن كل ما يصيب المؤمن فهو له وليس عليه، وذلك إذا اتبع هدى الله.
أما إذا خالف هدى الله فإنه يستحق من العقوبة بقدر ما خالف وضعف إيمانه.
وبذلك يعلم المؤمن أن كماله وهدايته وأنسه وأمنه إنما هو في اتباع هدى الله جل وعلا فإنه حينئذ يكون ولياً من أولياء الله فيتولى الله أموره ويرشده إلى ما ينفعه ويوفقه لفضله العظيم كما قال الله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾.
وإنما أطلت بعض
الإطالة في شرح هذا العنصر لأن الحاجة تدعو إلى بيانه، ونحن محتاجون إلى
تحقيق العبودية الواجبة لله تعالى، ودعوة الناس إلى ذلك، مع ما يعترضنا من
عوارض الحياة، وقد رتب على تحقيق هذه العبودية الثواب العظيم.
الدرجة الثالثة: تحقيق الكمال المستحب في العبادة، وهذه مرتبة الإحسان التي هي غاية السالكين، وهي أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك.
وهذا يحملك على
أن يكون حبك لله ولما يحبه الله، وبغضك لما يبغضه الله ولما يبعدك عن
الله، وينبني على ذلك تعظيم ما عظمه الله، وتحقير ما حقره الله.
وفي سنن أبي داوود وغيره من حديث أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((مَن أحبَّ لله وأبغَض لله وأعْطَى لله ومنَعَ لله فقد اسْتكمَل الإيمان)).
والعطاء والمنع
في الحديث لا يختص بالمال بل هو عام في كل ما يُعطى ويمنعُ من مال وعلم
وجاه وجهد ووقت، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
فمن كان يحب لأجل الله، ويبغض لأجل الله، ويعطي ويمنع لأجل الله فهو مؤمن كامل الإيمان، نسأل الله من فضله.
ومن كان هذا حاله فقد أسلم قصده لله تعالى واستمسك بالعروة الوثقى التي لا أوثق منها
كما قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ
يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ
بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾.
{الوثقى}:يقال: عروة وثيقة، إذا كانت قوية مأمونة؛ قد جمعت بين القوة والأمان بحيث يوثق بها ويُطمئَنُّ إليها.
ويقال: عروة أوثق من عروة؛ على التفاضل في صفتي القوة والأمان.
والعروة "الوُثقى" هي التي بلغت الغاية في القوة والأمان فلا أوثق منها.
فإذا كانت العروة وثقى، والاستمساك جيداً نجا المستمسك بهذه العروة من الهلاك.
بيان حقيقة الهدى والرشاد
من الأصول المهمة في أعمال القلوب معرفة حقيقة الهدى والرشاد، وهما راجعان إلى العلم والعمل.
فالعلم النافع
هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وهذا يبين أن السالك يحتاج إلى علم
وإرادة؛ فإذا كان علمه صحيحاً وإرادته جازمة سلك سبيل الرشاد بإذن الله.
وكلما كان العبد
أكثر علماً بما يحبه الله ويرضاه وأصدق إرادةً للعمل به كان أعلى مقاماً،
ولذلك زكَّى الله تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله: ﴿ما ضل صاحبكم وما غوى﴾؛ فالعلم النافع عصمة من الضلال، والعمل بالحق عصمة من الغواية.
وفي هذه المسألة أفرد ابن القيم رحمه الله كتابه الجليل (مفتاح دار السعادة، ومنشور ولاية أهل العلم والإرادة).
والآفات التي تعرض للسالكين إذا كانت في معرفة الهدى أورثت ضلالاً وبدعة ومخالفة للسنة.
وإذا كانت في العزيمة أورثت تفريطاً وعجزاً وفتوراً.
فقد يكون لدى
العبد ضعف في أحد الأمرين أو كليهما، وكل ضعف أو نقص فيهما له تأثيره على
حال السالك، ولذلك ينبغي لنا أن نعتني بتكميل هذين المقامين بما نستطيع؛
فنتعلم من العلم النافع ما نرفع به الجهل عن أنفسنا وعن أمتنا ، ونتعرَّف
ما أصابنا من أدواء وعلل ونجتهد في إصلاحها، ونتعرف أسبابَ رضوان الله
تعالى والفوز بفضله العظيم في الدنيا والآخرة.
ويكون لدينا من الإرادة الجازمة والعزيمة الصادقة ما يحملنا على فعل ما يكملنا والصبر عليه.
ومن جوامع الدعاء المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه عنه شداد بن أوس بن ثابت رضي الله عنهما أنه قال له: (يا شداد بن أوسٍ! إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة، فاكنز هؤلاء الكلمات:
اللّهم! إني
أسألك الثبات في الأمرِ، والعزيمة على الرُّشد، وأسألك موجبات رحمتك،
وعزائم مغفرتك، وأسألك شكر نعمتِك، وحسن عبادتك، وأسألك قلباً سليماً،
ولساناً صادقاً، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذُ بك من شرِّ ما تعلم،
وأستغفرُك لما تعلمُ؛ إنك أنت علامُ الغيوب).
والحديث صحح الألباني في السلسلة الصحيحة الطريق التي أخرجها به الطبراني
وأبو نعيم وابن عساكر، والحديث قد أخرجه النسائي والحاكم وغيرهما بإسناد
فيه انقطاع، ولذلك ضعفه بعض أهل العلم.
وكلمات هذا الدعاء العظيم موحية بأنها خارجة من مشكاة النبوة.
والمقصود هنا أن الثبات في الأمر سببه الهداية بالعلم واليقين ، والعزيمة على الرشد تقتضي صحة الإرادة.
هذا ، والله تعالى أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.