30 Oct 2008
ح38: حديث أبي هريرة - القدسي-: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب...) خ
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
38- عَنْ أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
((إِنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلاَ يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا، وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأَُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأَُعِيذَنَّهُ)). رواه البخاريُّ.
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث الثامن والثلاثون
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (إِنَّ
اللهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيَّاً فَقَدْ آذَنْتُهُ
بِالحَرْبِ. وَمَا تَقَرَّبَ إِلِيَّ عَبْدِيْ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلِيَّ
مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ. ولايَزَالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ
بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ
الَّذِيْ يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِيْ يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ
الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِيْ بِهَا. وَلَئِنْ
سَأَلَنِيْ لأُعطِيَنَّهُ، وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِيْ لأُعِيْذَنَّهُ)(1) رواه البخاري (1) سبق تخريجه صفحة (375)
الشرح
هذا حديث قدسيّ كالذي سبقه، وقد تكلمنا على ذلك.
قوله: "مَنْ عَادَى لِي وَليَّاً" أي اتخذه عدواً له، ووليُّ الله عزّ وجل بيَّنه الله عزّ وجل في القرآن، فقال: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس:62-63].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله- من كان مؤمناً تقياً كان لله وليَّاً أخذه من الآية: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس:63]
"فَقَدْ" هذا جواب الشرط "آذَنْتُهُ ِبالحَرْبِ" أي أعلنت عليه الحرب، وذلك لمعاداته أولياء الله.
"وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِيْ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلِيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ" ولكن الفرائض تختلف كما سنبين إن شاء الله في الفوائد، إنما جنس الفرائض أحب إلى الله من جنس النوافل.
"وَلاَ يَزَالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ"
لايزال:هذا من أفعال الاستمرار،أي أنه يستمر يتقرب إلى الله تعالى
بالنوافل حتى يحبه الله عزّ وجل،و (حتى) هذه للغاية، فيكون من أحباب الله .
"فَإِذَا
أَحْبَبتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِيْ يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِيْ
يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي
يَمْشِيْ بِهَا"
قوله: "كُنْتُ سَمْعَهُ" من المعلوم أن الحديث ليس على ظاهره، لأن سمع المخلوق حادث ومخلوق وبائن عن الله عزّ وجل، فما معناه إذن؟
قيل: معناه أن الإنسان إذا كان وليّاً لله عزّ وجل وتذكر ولاية الله حفظ سمعه، فيكون سمعه تابعاً لما يرضي الله عزّ وجل.
وكذلك يقال في بصره، وفي: يده، وفي: رجله.
وقيل:
المعنى أن الله يسدده في سمعه وبصره ويده ورجله، ويكون المعنى: أن يُوفّق
هذا الإنسان فيما يسمع ويبصر ويمشي ويبطش. وهذا أقرب، أن المراد: تسديد
الله تعالى العبد في هذه الجوارح.
وقوله: "وَلَئِنْ سَأَلَنِيْ لأَعْطيَنَّهُ" هذه الجملة تضمنت شرطاً وقسماً، السابق فيهما القسم، ولهذا جاء الجواب للقسم دون الشرط، فقال: لأَعْطِيَنَّهُ .
وقد قال ابن مالك - رحمه الله- :
واحذفْ لدى اجتماع شرط وقسم جوابَ ما أخّرت فهو ملتزم
يعني إذا اجتمع شرط وقسم فاحذف جواب المتأخر، ويكون الجواب للمتقدم، فهنا الجواب للمتقدم الذي هو القسم لأنه أتى مقروناً باللام.
"وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي" أي طلب مني أن أعيذه فأكون ملجأ له "لأعِيذَنَّهُ"
فذكر السؤال الذي به حصول المطلوب، والاستعاذة التي بها النجاة من
المرهوب، وأخبر أنه سبحانه وتعالى يعطي هذا المتقرب إليه بالنوافل ماسأل،
ويعيذه مما استعاذ.
من فوائد هذا الحديث:
1. أن معاداة أولياء الله من كبائر الذنوب، لقوله: "فَقَدْ آذَنتُهُ بِالحَرْبِ" وهذه عقوبة خاصة على عمل خاص، فيكون هذا العمل من كبائر الذنوب.
2.-إثبات
أولياء الله عزّ وجل، ولا يمكن إنكار هذا لأنه ثابت في القرآن والسنة،
ولكن الشأن كل الشأن تحقيق المناط، بمعنى: من هو الولي؟ هل تحصل الولاية
بالدعوى أو تحصل بهيئة اللباس؟ أو بهيئة البدن؟
الجواب: لا، فالولاية بينها الله عزّ وجل بقوله: (الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس:63] فمن كان مؤمناً تقياً كان لله ولياً.
واعلم أن ولاية الله عزّ وجل نوعان: عامة وخاصة.
فالعامة: ولايته على الخلق كلهم تدبيراً وقياماً بشؤونهم، وهذا عام لكل أحد، للمؤمن والكافر، والبر والفاجر، ومنه قوله تعالى: ( حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ*ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ)[الأنعام:61-62].
وولاية خاصة: وهي ولاية الله عزّ وجل للمتقين، قال الله عزّ وجل: (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) [البقرة: الآية257] فهذه ولاية خاصة وقال الله عزّ وجل: (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ* الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) [يونس:62-63].
فإن قال قائل: هل في ثبوت ولاية الله تعالى لشخص أن يكون واسطة بينك وبين الله في الدعاء لك وقضاء حوائجك وما أشبه ذلك؟
فالجواب:
لا، فالله تعالى ليس بينه وبين عباده واسطة، وأما ا لجاهلون المغرورون
فيقولون: هؤلاء أولياء الله وهم واسطة بيننا وبين الله. فيتوسلون بهم إلى
الله أولاً ثم يدعونهم من دون الله ثانياً.
3. إثبات الحرابة لله عزّ وجل، لقوله: "آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ" وقد ذكر الله تعالى ذلك في الربا أيضاً فقال: (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [البقرة: الآية279] ، وذكر ذلك أيضاً في عقوبة قطاع الطريق: (إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْض) [المائدة: الآية33]
4. إثبات محبة الله وأنها تتفاضل، لقوله: "وَمَاتَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِيْ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْته عَلَيْهِ".
5.
أن الأعمال الصالحة تقرب إلى الله عزّ وجل، والإنسان يشعر هذا بنفسه إذا
قام بعبادة الله على الوجه الأكمل من الإخلاص والمتابعة وحضور القلب أحس
بأنه قَرُبَ من الله عزّ وجل. وهذا لايدركه إلا الموفقون، وإلا فما أكثر
الذين يصلون ويتصدقون ويصومون، ولكن كثيراً منهم لايشعر بقربه من الله،
وشعور العبد بقربه من الله لاشك أنه سيؤثر في سيره ومنهجه.
6. أن أوامر الله عزّ وجل قسمان: فريضة، ونافلة. والنافلة: الزائد عن الفريضة، ووجه هذا التقسيم قوله: "وَمَا
تَقَرَّبَ إِلِيَّ عَبْدِيْ بِشَيءٍ أَحَبَّ إِليَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ
عَلَيْهِ. ولايَزَالُ عَبْدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى
أُحِبَّهُ".
7.
تفاضل الأعمال من حيث الجنس كما تتفاضل من حيث النوع. فمن حيث الجنس:
الفرائض أحب إلى الله من النوافل. ومن حيث النوع:الصلاة أحب إلى الله مما
دونها من الفرائض، ولهذا سأل ابن مسعود رضي الله عنه رسول الله : أي
الأعمال - أو العمل - أحب إلى الله؟ فقال: "الصَّلاةُ عَلَى وَقْتِهَا"(2)
فالأعمال تتفاضل في
أجناسها، وتتفاضل أجناسها في أنواعها، بل وتتفاضل أنواعها في أفرادها. فكم
من رجلين صليا صلاة واحدة واختلفت مرتبتهما ومنزلتهما عند الله كما بين
المشرق والمغرب.
8. الحثّ على كثرة النوافل، لقوله تعالى في الحديث القدسي: "وَلاَيَزَالُ عَبدِيْ يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ".
9. أن كثرة النوافل سبب لمحبة الله عزّ وجل، لأن: (حتى) للغاية، فإذا أكثرت من النوافل فأبشر بمحبة الله لك.
ولكن اعلم أن هذا الجزاء
والمثوبة على الأعمال إنماهو على الأعمال التي جاءت على وفق الشرع، فما كل
صلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر، وما كل نافلة تقرّب إلى الله عزّ وجل،أقول
هذا لاتيئيساً ولكن حثّاً على إتقان العبادة وإكمال العبادة، حتى ينال
العبد الثواب المرتب عليها في الدنيا والآخرة.
ولذلك كثير من الناس
يصلّون الصلوات الخمس والنوافل ولايحس أن قلبه نفر من المنكر، أو نفر من
الفحشاء، هو باقٍ على طبيعته. لماذا هل هو لنقص الآلة، أو لنقص العامل؟
الجواب: لنقص العامل.
10.
أن الله تعالى إذا أحب عبداً سدده في سمعه وبصره ويده ورجله، أي في كل
حواسه بحيث لايسمع إلا ما يرضي الله عزّ وجل، وإذا سمع انتفع، وكذلك أيضاً
لايطلق بصره إلا فيما يرضي الله وإذا أبصر انتفع، كذلك في يده: لايبطش بيده
إلا فيما يرضي الله، وإذا بطش فيما يرضي الله انتفع، وكذلك يقال في
الرِّجل.
11. أن الله تعالى إذا أحب عبداً أجاب مسألته وأعطاه ما يسأل وأعاذه مما يكره، فيحصل له المطلوب ويزول عنه المرهوب.
يحصل له المطلوب في قوله: "وَلَئِنْ سَأَلَنِيْ لأُعْطِيَنَّهُ" ويزول المرهوب في قوله: "وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنَي لأُعِيذَنَّهُ".
فإن قال قائل: هل هذا على إطلاقه، أي أنه إذا سأل الإنسان أي شيء أجيب مادام متصفاً بهذه الأوصاف؟
فالجواب:
لا، لأن النصوص يقيد بعضها بعضاً، فإذا دعا بإثم، أو قطيعة رحم، أو ظلماً
لإنسان فإنه لايستجاب له، حتى وإن كان يكثر من النوافل، حتى وإن بلغ هذه
المرتبة العظيمة وهي: محبة الله له فإنه إذا دعا بإثم، أو قطيعة رحم، أو
ظلم فإنه لايستجاب له، لأن الله عزّ وجل أعدل من أن يجيب مثل هذا.
12. كرامة الأولياء على الله تعالى حيث كان الذي يعاديهم قد آذنه الله بالحرب.
13. أن معاداة أولياء الله من كبائر الذنوب، لأن الله تعالى جعل ذلك إذناً بالحرب. والله أعلم.
__________________________________________________________________________
(2)
أخرجه البخاري – كتاب: مواقيت الصلاة، باب: فضل الصلاة لوقتها، (5279).
ومسلم – كتاب: الإيمان، باب: كون الإيمان بالله تعالى أفضل الأعمال،
(85)،(139).
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
(1) الشرح : عَنْ أبِي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- قالَ: (قَالَ رسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللهَ تَعَالَى قالَ: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا)): أَيْ: لِكَوْنِهِ وَلِيَّهُ، كَمَا يَدُلُّ عليهِ، ((فَقَدْ آذَنْتُهُ)) أَعْلَنْتُهُ ((بالحَرْبِ))
فَلْيَسْتَعِدَّ لِذلكَ؛ لأنَّ مَنْ عَادَى أَوليَاءَ اللهِ؛ لِكَوْنِهِم
أَوْلِيَاءَهُ فَقَدْ عَادَاهُ، ومَنْ عَادَاهُ فَقَدْ حَارَبَهُ، وَمَنْ
حَارَبَهُ يُحَارِبْهُ، وَهَذَا كَلاَمٌ صَادِرٌ مِنْ كمالِ الغَضَبِ على
مَنْ عَادَى أَوْلِيَاءَ اللهِ تَعَالَى.
ووِلايَةُ
الإيمانِ شَامِلةٌ لِكُلِّ مُؤْمِنٍ فَالْحَذَرَ الحَذَرَ مِنْ
مُعَادَاتِهِ؛ لأَنَّ لَهُ رَبًّا جَلِيلاً يَقُومُ بِثَأْرِهِ وَيُعَاقِبُ
عَدُوَّهُ بِنَارِهِ. ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي)) الذي أَمَرْتُهُ بالتَّقَرُّبِ إلى رِضَائِي وَرَحْمَتِي، وَبَيَّنْتُ لَهُ طَرِيقَ ذلكَ ((بِشَيْءٍ)) مِنَ المُقَرِّبَاتِ ((أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتْرَضْتُهُ عَلَيْهِ)) في
المالِ والبَدَنِ، فإنَّ تَقَرُّبَهُ بِهِ أَحَبُّ إليَّ مِنْ غَيْرِهِ،
فَيَنْبَغِي لِلعَبْدِ الاهْتِمَامُ والاعْتِنَاءُ بِأَدَائِهِ، كمَا
يُحِبُّ مَوْلاَهُ وَيَرْضَاهُ، ومَنْ لم يُحْكِمِ الأُصُولَ لمْ يَفُزْ
بالوُصُولِ.((وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بالنَّوَافِلِ)) الزائدةِ على الفرائِضِ ((حَتى أُحِبَّهُ))حُبًّا لاَ أَغْضَبُ عَليهِ بعدَهُ، ((فإذَا أَحْبَبْتُهُ))
كَشَفْتُ عَنْهُ حُجُبَ الأسبَابِ، وَأَشْهَدْتُهُ في مُسَبَّبَاتِ
تَصَرُّفِ رَبِّ الأَرْبَابِ، وَأَظْهَرْتُ لَهُ حَقَائِقَ الأُمورِ
وَأَخْلَصْتُهُ لِنَفْسِي، فإذَا كانَ كذلكَ ((كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ)) ولاَ يَسْمَعُ شَيْئًا إلاَّ بِي وَلِي. ((وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ)) فَلاَ يُبْصِرُ شَيْئًا إلاَّ بِي وَلِي.
((وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا)) يَأْخُذُ بِهَا، فَلاَ يَأْخُذُ شَيْئًا إلاَّ بِي وَلِي وَمِنِّي، ((وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا)) فَلاَ
يَمْشِي إلاَّ بِي وَلِي، والحاصلُ أَنَّهُ يَصِيرُ كُلُّهُ للهِ، فلاَ
يَرَى شَيْئًا إلاَّ مِنْهُ، وَلاَ يَفْعَلُ شَيْئًا إلاَّ لَهُ.
ولاَ
تَظُنَّ مِنْ هذا اتِّحَادَ الخَالِقِ والمَخْلُوقِ، أَوْ حُلُولَهُ فيهِ،
كَمَا يَظُنُّهُ الْجَاهِلُونَ، تَعَالَى اللهُ عَنْ ذلكَ عُلُوًّا كبيرًا؛
لأنَّ الخَلْقَ خَلْقُ اللهِ، وَالخَالِقَ خالِقٌ، وَبَيْنَهُمَا أَمْرٌ
فَارِقٌ.
فَمَنِ اعْتَقَدَ الاتِّحَادَ وَالحُلُولَ، فقَدْ خَابَ وَخَسِرَ. ((وَإِنْ سَأَلَنِي)) مِنْ أُمُورِ الدَّارَيْنِ ((أَعْطَيْتُهُ)) سُؤْلَهُ، ((وَلَئِن اسْتَعَاذَنِي)) مِنَ السُّوءِ ((لأَُعِيذَنَّهُ)) مِنْهُ، فَهَنِيئًا لِمَنْ تَقَرَّبَ إِلَى مَوْلاَهُ، وَتَبَتَّلَ عَمَّا سِوَاهُ فَكَفَاهُ عَمَّا عَدَاهُ.
عَجَبًا
للعِبادِ يَأْمُرُهُم سَيِّدُهُم أَنْ يَتَقَرَّبُوا إليهِ فَيَبْعُدُونَ
عنْهُ، وَيَأْمُرُهُم أَنْ يَتَحَبَّبُوا إِلَيْهِ فَيَتَبَغَّضُونَ
لَدَيْهِ، واللهُ المُوَفِّقُ.
المنن الربانية لفضيلة الشيخ :سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
الحديثُ الثامنُ وَالثلاثونَ
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ
بِالحَرْبِ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ
مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ، وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ
بِالنَّوَافِلِ إِلَيَّ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ
سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ،
وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا،
وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي
لأُعِيذَنَّهُ)). رَوَاهُ البُخَارِيُّ.
موضوعُ الحديثِ: أَوْلِيَاءُ اللَّهِ الصَّادِقُونَ.
المفرداتُ: ((إِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ)): حَدِيثٌ قُدُسِيٌّ كما مَضَى، مَعْنَاهُ مِن اللَّهِ تَعَالَى وَلَفْظُهُ مِن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
(1) ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا)): (عَادَى)؛ أيْ: آذَى وَأَبْغَضَ وَأَغْضَبَ بالقولِ أَوْ بالفعلِ.
وَالوَلِيُّ
هوَ النَّصِيرُ وَالصَّدِيقُ وَالصاحبُ وَالسَّيِّدُ، وَوَلِيُّ اللَّهِ:
هوَ نَصِيرُ دِينِهِ الذي يَعْمَلُ على نُصْرَتِهِ، وَهوَ صديقُ الطاعاتِ
الذي لا يَصْبِرُ عنها، وَهوَ صَاحِبُ الاستقامةِ الدائمةِ، وَهوَ الذي
سَادَ القلوبَ وَالمجتمعاتِ بانْقِيَادِهِ لأمرِ رَبِّهِ تَعَالَى. وَأَوْلِيَاءُ
اللَّهِ تَعَالَى هُم الَّذِينَ اتَّصَفُوا بالصِّفَاتِ الآتيَةِ:
(الإِيمانُ، التَّقْوَى، الحُبُّ في اللَّهِ وَالبُغْضُ في اللَّهِ،
مُوَالاةُ الطَّاعَاتِ). وَمِن
الأولياءِ خَبَّابٌ وَقِصَّتُهُ معَ أُمِّ أَنْمَارٍ؛ حَيْثُ كَوَتْهُ
بالنارِ فَصَبَرَ، ثمَّ دَعَا عَلَيْهَا خَوْفاً على دِينِهِ، فَأُصِيبَتْ
بِصُدَاعٍ فِي رَأْسِهَا مَا كانَ يَهْدَأُ، إِلاَّ بَكَى خَبَّابٌ لَهَا. (2) ((فَقَدْ آذَنْتُهُ بالحربِ)):
(قدْ) حَرْفُ تَحْقِيقٍ، وَالمعنى: أَيْ أَعْلَمْتُهُ أَنَّهُ مُحَارِبٌ
لِي؛ لأنَّ حَرْبَهُ للوَلِيِّ حَرْبٌ للَّهِ تَعَالَى، وَلأنَّهُ إِنَّمَا
حَارَبَهُ لصلاحِهِ وَتَقْوَاهُ أَوْ لإِشغالِهِ عَن الطاعةِ أَوْ
لِدَعْوَتِهِ إِلى الانْحِرَافِ، فَيَكُونُ بذلكَ قدْ أَعْلَنَ الحربَ معَ
اللَّهِ، وَلا شَكَّ أَنَّهُ خَاسِرٌ فيها لا مَحَالَةَ. و ((افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ)):
أيْ أَوْجَبْتُ عَلَيْهِ، وَأَلْزَمْتُهُ بها، فَلَيْسَ لهُ فيها خِيَارٌ،
وَهيَ المُقَدَّمَةُ على غَيْرِهَا. وَهذهِ الفرائضُ هيَ الأركانُ. (4) ((ولا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِليَّ بالنَّوَافِلِ)): هذا القِسْمُ الثاني مِن الأولياءِ، وَهُمُ السَّابِقُونَ الذينَ أَدَّوا الفرائضَ وَزَادُوا النَّوَافِلَ. وَ((النَّوَافِلُ)) جمعُ نَافِلَةٍ، وَهيَ: الغَنِيمَةُ وَالعَطِيَّةُ وَالزِّيَادَةُ، وَالمُرَادُ بها مَا زَادَ على الفرائضِ مِن العباداتِ، وَتَنْقَسِمُ إِلى قِسْمَيْنِ: رَوَاتِبَ، وَنَوَافِلَ. وَالنَّوَافِلُ: مُطْلَقَةٌ، وَمُقَيَّدَةٌ. (7) ((وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأُعِيذَنَّهُ)):
هَذِهِ ثَمَرَةٌ أُخْرَى وَهيَ إِعَاذَتُهُ؛ أيْ: إِذا طَلَبَ العَوْذَ
وَالحِفْظَ مِمَّا يَخَافُ، وَالمَعْنَى: لأَحْفَظَنَّهُ مِمَّا يَخَافُ،
سَوَاءٌ كانَ مِن البشرِ أَوْ مِن الشياطينِ أَوْ مِن الدوابِّ أَوْ
غَيْرِهَا، وَهذا حِفْظٌ في البَدَنِ. 1-الحَثُّ على التَّقَرُّبِ إِلى اللَّهِ تَعَالَى.
وَيَنْقَسِمُونَ إِلى قِسْمَيْنِ:
(1) مُقْتَصِدُونَ (2) سَابِقُونَ.
وَفي
الحديثِ ما يَدُلُّ على أنَّ الأعمالَ الصالحةَ مُقَرِّبَةٌ إِلى اللَّهِ
تَعَالَى كَالذِّكْرِ وَالصلاةِ وَالصومِ وَالزكاةِ. وَأَفْضَلُ القُرْبَةِ
هوَ أَدَاءُ الفرائضِ؛ لأنَّها المطلوبةُ.
وَالمُقَيَّدَةُ: مُؤَكَّدَةٌ، وَغيرُ مُؤَكَّدَةٍ.
((حتَّى أُحِبَّهُ)):
فيهِ إِثْبَاتُ صِفَةِ المَحَبَّةِ للَّهِ تَعَالَى على الوجهِ اللائقِ
بهِ، وَفيهِ أنَّ الأعمالَ الصالحةَ سَبَبٌ مِنْ أسبابِ مَحَبَّةِ اللَّهِ
تَعَالَى للعبدِ.
(6) ((وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأُعْطِيَنَّهُ)):
ثَمَرَةٌ أُخْرَى غيرَ الحفظِ وَالتَّسْدِيدِ، وَهيَ إِعطاءُ السؤالِ
وَإِجابةُ الدعاءِ، وَلا تَكُونُ هذهِ إِلاَّ للأولياءِ عِبَادِ اللَّهِ
الصالحِينَ الذينَ لَوْ أَقْسَمَ أَحَدُهُمْ على اللَّهِ لأَبَرَّهُ،
وَالإِنسانُ في حاجةٍ إِلى إِجابةِ الدعاءِ.
كَأَنَّ
الحديثَ يُبَيِّنُ أنَّ دُعَاءَ الأولياءِ مُسْتَجَابٌ؛ لأنَّهُ جَاءَ
بِصِيغَةِ القَسَمِ وَالتوكيدِ، وَهذا حِفْظٌ في الكلامِ.
الفوائِدُ:
2- تَحْرِيمُ مُعَادَاةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
3-وُجُوبُ مَحَبَّةِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ تَعَالَى.
4-الحذر مِنْ إِيذاءِ الصالحينَ المُخْلِصِينَ.
5- عِظَمُ قَدْرِ أَوْلِيَاءِ اللَّهِ.
6-إِيذَاءُ الوَلِيِّ حَرْبٌ معَ اللَّهِ.
7- دِفَاعُ اللَّهِ تَعَالَى عَنْ أَوْلِيَائِهِ.
8- وُجُوبُ أَدَاءِ الفرائضِ.
9-المُدَاوَمَةُ عَلَى فِعْلِهَا.
10-أَحَبُّ العملِ إِلى اللَّهِ القِيَامُ بالوَاجِبَاتِ.
11- الاهتمامُ بالفرائضِ.
12-فضلُ النوافلِ.
13-مَشْرُوعِيَّةُ المُدَاوَمَةِ على العملِ الصالحِ.
14-مِنْ أَسْبَابِ مَحَبَّةِ اللَّهِ أَدَاءُ النوافلِ.
15-إِثباتُ صِفَةِ المَحَبَّةِ للَّهِ على الوجهِ اللائقِ.
16-حِفْظُ اللَّهِ تَعَالَى للسَّابِقِ إِلى الخيراتِ.
17-وُجُوبُ حِفْظِ الجوارحِ مِن الآثامِ.
18-أنَّ لِكُلِّ جَارِحَةٍ عَمَلاً.
19-إِجابةُ اللَّهِ لأَوْلِيَائِهِ.
20-مِنْ أسبابِ الإِجابةِ الدعاءُ.
21-حاجةُ العبدِ إِلى رَبِّهِ.
22-إِعَاذَةُ اللَّهِ لأَوْلِيَائِهِ.
23-التحذيرُ مِنْ أولياءِ الشيطانِ.
24-تحريمُ الغُلُوِّ في الأَوْلِيَاءِ.
شرح فضيلة الشيخ :ناضم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
مَنْزِلَةُ الحديثِ:
قالَ الشَّوكانيُّ: حديثُ: ((مَن عادَى لي وليًّا)) قد اشتملَ علَى فوائدَ كثيرةِ النَّفعِ، جليلةِ القدرِ، لمَن فهمَهَا حقَّ فهمِهَا، وتدبَّرَهَا كما يَنْبَغِي.
وقالَ
الطُّوفيُّ: (هذا الحديثُ أصلٌ في السُّلوكِ إلَى اللهِ تعالَى، والوصولِ
إلَى معرفتِهِ ومحبَّتِهِ، وطريقةِ أداءِ المفروضاتِ الباطنةِ وهي:
الإيمانُ، والظَّاهرةِ وهي: الإسلامُ، والْمُرَكَّبِ منهُمَا وهو:
الإحسانُ، كما تَضمَّنَهُ حديثُ جبريلَ عليهِ السَّلامُ، والإحسانُ
يَتضمَّنُ مَقاماتِ السَّالكينَ مِن الزُّهدِ والإخلاصِ والمراقَبةِ
وغيرِهَا).
صفةُ أولياءِ اللهِ عزَّ وجلَّ: قالَ اللهُ تعالَى واصفًا أولياءَهُ: {أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ الذين الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ}: فمقامُ
النُّبوَّةِ عندَ هؤلاءِ وسَطٌ فوقَ مَرتبةِ الرُّسلِ ودونَ الوليِّ،
فالنَّبيُّ أحسنُ مِن الرَّسولِ، والنَّبيُّ والرَّسولُ دونَ الوليِّ. حُرمةُ مُعاداةِ أولياءِ اللهِ تَعالَى: أمَّا مِن جانبِ الوليِّ فللَّهِ تعالَى وفي اللهِ. وأمَّا مِن جانبِ الآخرِ فلِمَا تقدَّمَ. أفضلُ ما يَتَقرَّبُ به العبدُ إلَى ربِّهِ: وكذلكَ يَندرجُ تحتَ التَّقرُّبِ إلَى اللهِ بأداءِ الفرائضِ تَرْكُ معاصي اللهِ عزَّ وجلَّ. التَّقرُّبُ إلَى اللهِ تَعالَى بالنَّوافلِ: آثارُ مَحَبَّةِ اللهِ لأوليائِهِ: انحرافٌ خطيرٌ في فَهْمِ الحديثِ: قالَ: (والاتِّحاديَّةُ
زعموا أنَّهُ علَى حقيقتِهِ، وأنَّ الحقَّ عينُ العبدِ، واحْتَجُّوا
بِمَجِيءِ جِبريلَ في صورةِ دِحيَةَ، قالُوا: فهو روحانيٌّ خلعَ صورتَهُ
وظهرَ بمظهرِ البشرِ، قالُوا: فاللهُ أقدرُ علَى أن يظهرَ في صورةِ الوجودِ
الكُلِّيِّ أو بعضِهِ). وفهمُ هؤلاءِ أعوجُ سقيمٌ لا حجَّةَ لهم بهِ، مخالفٌ لنصوصِ الكتابِ والسُّنَّةِ الظَّاهرةِ، كما أنَّ قولَهُ: ((وإن سألني)) صريحٌ بالرَّدِّ علَى هوسِهِم وتَخَبُّطِهِم وضَلاَلِهِم. دعاءُ الوليِّ مُستجابٌ: وأرسلَ
معَهُ رجلاً - أو رجالاً - إلَى الكوفةِ يَسألُ عنهُ أهلَ الكوفةِ، فلم
يدعْ مسجدًا إلاَّ سألَ عنه ويثنُونَ معروفًا، حتَّى دخلَ مسجدًا لبني عبسٍ
فقامَ رجلٌ منهم يقالُ له: أسامةُ بنُ قتادةَ، يكنَّى أبا سعدةَ، فقالَ:
(أمَّا إذ نشدْتَنَا، فإنَّ سعدًا كانَ لا يسيرُ بالسَّريَّةِ، ولا يَقسمُ
بالسَّويَّةِ، ولا يَعدلُ في القضيَّةِ). قالَ
سعدٌ: (أمَا واللهِ لأدعوَنَّ بثلاثٍ: اللهمَّ إن كانَ عبدُكَ هذا كاذبًا،
قامَ رياءً وسمعةً، فأَطِلْ عُمْرَهُ، وأَطِلْ فقرَهُ، وعرِّضْهُ للفتنِ).
فوائدُ مِن الحديثِ:
فالوصفُ الأوَّلُ لهم: الإيمانُ الصَّادقُ باللهِ عزَّ وجلَّ.
والوصفُ الثَّاني: تقوَى اللهِ عزَّ وجلَّ.
وقالَ
الحافظُ: المرادُ بوليِّ اللهِ: العالمُ باللهِ، المواظبُ علَى طاعتِهِ،
المخلصُ في عبادتِهِ. والبابُ مفتوحٌ أمامَ النَّاسِ للدُّخولِ في ولايَةِ
اللهِ عزَّ وجلَّ، وهي مَرَاتِبُ كما بيَّنَ ربُّنَا تَبارَكَ وتعالَى: {ثُمَّ
أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا
فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ
بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ}:
1 - الظَّالمُ لنفسِهِ: وهم أصحابُ الذُّنوبِ، قالَ ابنُ كثيرٍ: (وهو المفرِّطُ في بعضِ الواجباتِ، المرتكبُ لبعضِ المحرَّماتِ).
2 - المقتصِدُ: المؤدِّي لفرائضِ اللهِ، المجتنبُ للمحارمِ، وقد يتركُ المستحبَّاتِ ويقعُ في بعضِ المكروهاتِ.
3 - السَّابقُ بالخيراتِ:
وهو القائمُ بالواجباتِ والمستحبَّاتِ، المجتنبُ للمحارمِ والمكروهاتِ،
وأفضلُ أولياءِ اللهِ تعالَى هُمُ الأنبياءُ والرُّسُلُ عليهم الصَّلاةُ
والسَّلامُ، ولقد شذَّ في ذلك غلاةُ المتصوِّفَةِ؛ حيثُ جعلُوا مرتبةَ
الوليِّ فوقَ رسلِ اللهِ وأنبيائِهِ، كما أنشدَ بعضُهُم:
مقامُ النُّبوَّةِ في برزخٍ ** فُوَيْقَ الرَّسولِ ودونَ الوليِّ
وقالَ أبو يزيدَ البسطاميُّ: خضنَا بحرًا وقفَ الأنبياءُ بساحلِهِ وأفضلُ
الأولياءِ بعدَ أنبياءِ اللهِ ورسلِهِ هم صحابةُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَصفَهُمُ اللهُ في كتابِهِ فقالَ: {مُحَمَّدٌ
رَسُولُ اللهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ
بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللهِ
وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ
مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ
أَخْرَجَ شَطْئَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ
يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا
عَظِيمًا}.
فالصَّحابةُ
رَضِي اللهُ عَنْهُم همُ النَّموذجُ السَّامِي في تحقيقِ الولايَةِ للهِ
عزَّ وجلَّ، فمَن يُرِدِ الوصولَ لرضوانِ اللهِ عزَّ وجلَّ فعليهِ أنْ
يَقتديَ بهؤلاءِ.
وأولياءُ اللهِ تعالَى ليسَ لهم علاماتٌ خاصَّةٌ وشعاراتٌ يَرفعونَهَا، قالَ
شيخُ الإسلامِ ابنُ تيميَّةَ: (وليسَ لأولياءِ اللهِ شيءٌ يَتميَّزونَ به
عن النَّاسِ في الظَّاهرِ مِن الأمورِ المباحاتِ، فلا يَتميَّزُونَ بلِباسٍ
دونَ لباسٍ، ولا بحلقِ شعرٍ أو تقصيرِهِ أو ضفرِهِ، إذا كانَ كلاهُمَا
مباحًا، كما قيلَ: كمْ مِن صِدِّيقٍ في قِباءٍ، وكم مِن زِنديقٍ في
عَباءٍ).
الأولياءُ غيرُ معصومينَ، قالَ تعالَى: {وَالَّذِي
جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ لَهُمْ
مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ
لِيُكَفِّرَ اللهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ
أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ}، فهذه الآيَةُ
وصفٌ لأولياءِ اللهِ، وفيها أنَّ اللهَ سيجازِيهِمْ أجرَهُمْ علَى أحسنِ ما
عملُوا، وذلكَ مقابلَ توبتِهِمْ مِن أسوأِ ما عملُوا، فأثبتَتِ الآيَةُ
أنَّ الأولياءَ مِن غيرِ الرُّسلِ قد يقعُونَ في بعضِ الأخطاءِ.
وممَّا
يشهدُ لذلِكَ أنَّ أفضلَ أولياءِ اللهِ بعدَ الرُّسلِ - وهم الصَّحابةُ -
قد وقعُوا في أخطاءٍ في كثيرٍ مِن المواضعِ، فقدْ وَقَعَ القتالُ بينَهُم
رضوانُ اللهِ عليهِمْ، كما أنَّ لهم كثيرًا مِن الاجتهاداتِ الَّتي لم
يحالفْهُمْ فيها الصَّوابُ، والشَّواهدُ في هذا كثيرةٌ معلومةٌ للمطَّلِعِ
علَى أقوالِهِم في كتبِ الفقهِ وغيرِهَا.
قالَ
الحافظُ: وقد تمسَّكَ بهذا الحديثِ بعضُ الجَهَلَةِ مِن أهلِ التَّجلِّي
والرِّياضةِ، فقالُوا: القلبُ إذا كانَ محفوظًا معَ اللهِ كانَتْ خواطرُهُ
معصومةً مِن الخطأِ، وتعقَّبَ ذلك أهلُ التَّحقيقِ مِن أهلِ الطَّريقِ
فقالُوا: لا يُلْتَفَتُ إلَى شيءٍ مِن ذلك إلاَّ إذا وافقَ الكتابَ
والسُّنَّةَ، والعصمةُ إنَّمَا هي للأنبياءِ، ومَن عداهُمْ فقد يُخْطِئُ،
فقدْ كانَ عمرُ رَضِي اللهُ عَنْهُ رأسَ الْمُلْهَمِينَ ومعَ ذلكَ فكانَ
ربَّمَا رأَى الرَّأيَ فيخبرُهُ بعضُ الصَّحابةِ بِخِلافِهِ فيَرْجِعُ
إليهِ ويَترُكُ رأيَهُ، فمَن ظنَّ أنَّهُ يَكتفِي بما يقعُ في خاطرِهِ
عمَّا جاءَ به الرَّسولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فقد ارتكبَ أعظمَ
الخطأِ.
وأمَّا
مَن بالغَ منهم فقالَ: حدَّثَنِي قلبِي عن ربِّي، فإنَّهُ أشدُّ خَطَأً،
فإنَّهُ لا يَأْمَنُ أن يكونَ قلبُهُ إنَّمَا حدَّثَهُ عن الشَّيطانِ،
واللهُ المستعانُ.
تَجِبُ موالاةُ أولياءِ اللهِ تعالَى وتَحْرُمُ معاداتُهُم، وذلك لقولِهِ: ((مَن عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ)).
ومعنَى: ((آذَنْتُهُ بالحربِ)) أي: أعلمـْتـُهُ بأنِّي محارِبٌ له وذلكَ بإهلاكِهِ.
قالَ
الحافظُ ابنُ حجرٍ: (وقد اسْتُشْكـِلَ وجودُ أحدٍ يعاديهِ -يعني الوليَّ -
لأنَّ المعاداةَ إنَّما تقعُ مِن الجانبينِ، ومن شأنِ الوليِّ الحِلمُ
والصَّفحُ عمَّنْ يَجهلُ عليهِ).
وأجيبُ:
بأنَّ المعاداةَ لم تَنحصرْ في الخصومةِ والمعاملةِ الدُّنيويَّةِ مثلاً،
بلْ قد تَقعُ عن بغضٍ يَنشأُ عن التَّعَصُّبِ، كالرَّافضيِّ في بُغضِهِ
لأبي بكرٍ، والمبتدِعِ في بغضِهِ للسُّنِّيِّ، فتَقعُ المعاداةُ مِن
الجانبينِ.
وكذا الفاسقُ المجاهرُ يبغضُهُ الوليُّ، ويبغضُهُ الآخرُ لإنكارِهِ عليهِ وملازمتِهِ لنهيِهِ عن شهواتِهِ.
وقدْ تُطْلَقُ المعاداةُ ويرادُ بها الوقوعُ مِن أحدِ الجانبينِ بالفعلِ، ومنَ الآخرِ بالقوَّةِ.
والمعاداةُ
الَّتي توعَّدَ اللهُ بها مَن عادَى أولياءَهُ، ما كانَتْ بسببِ امتثالِهِ
لأوامرِ اللهِ واجتنابِهِ نواهِيهِ ودعوتِهِ إلَى منهجِهِ.
أمَّا
إذا كانتِ المعاداةُ مِن أجلِ نزاعٍ أو خصومةٍ علَى ما يقتضِي النِّزاعُ
عليهِ فهذا لا يدخلُ في الحديثِ، كما حدثَ مِن مشاجَرَةٍ بينَ أبي بكرٍ
وعمرَ وبينَ العبَّاسِ وعليٍّ، وغيرِها مِن الوقائعِ الَّتِي حدثَتْ بين
أفضلِ أولياءِ اللهِ تَعالَى.
قولُهُ عليهِ السَّلامُ: ((وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُهُ عَلَيْهِ))،
قالَ عمرُ بنُ الْخَطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُ: (أَفْضَلُ الأَعْمَالِ
أَدَاءُ مَا افْتَرَضَ اللهُ، وَالْوَرَعُ عَمَّا حَرَّمَ اللهُ، وَصِدْقُ
النِّيَّةِ فِيمَا عِنْدَ اللهِ تَعَالَى).
وأَعْظَمُ فرائضِ البَدَنِ الَّتي تُقَرِّبُ مِن اللهِ الصَّلاةُ، قالَ تَعالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ}.
وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ)).
ومِن الفرائضِ الْمُقَرِّبةِ مِن اللهِ كذلكَ: عَدْلُ المسؤولِ في مسؤوليَّتِهِ، سواءٌ كانتِ العامَّةَ أو الخاصَّةَ، وفي أهلِهِ.
عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ
الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ
الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي
حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا)).
قولُهُ: ((وَلاَ يَزالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوافِلِ))،
التـَّقرُّبُ بالنَّوافلِ يكونُ بعدَ التَّقرُّبِ بالفرائضِ، وأبوابُ
النَّوافلِ واسعةٌ، فيَنْبَغِي للمسلمِ أن يَجْتَهِدَ في ذلك وِفْقَ
استطاعتِهِ، مِن صلاةٍ، وصيامٍ، وصَدقةٍ، وحجٍّ وعُمرةٍ، وقراءةِ قرآنٍ،
معَ تَدَبُّرِ مَعانيهِ، وذِكْرِ اللهِ عزَّ وجلَّ.
وهذا هو طريقُ طَهارةِ النُّفوسِ وزَكاتِهَا، حتَّى تكونَ مُهَيِّأَةً لِمَحَبَّةِ اللهِ عزَّ وجلَّ وثوابِهِ: ((وَلاَ يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)).
ومحبَّةُ
اللهِ شيءٌ عظيمٌ، مَن وُفِّقَ إليها فقدْ حَصَلَ علَى الخيرِ كلِّهِ،
وكُتِبَ له القَبولُ في السَّماءِ والأرضِ وأَغدقَ اللهُ عليهِ نِعَمَهُ.
قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا
أَحَبَّ اللهُ تَعَالَى الْعَبْدَ نَادَى جِبْرِيلَ: إِنَّ اللهَ تَعَالَى
يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحْبِبْهُ، فَيُحِبُّهُ جِبْرِيلُ، فَيُنَادِي فِي
أَهْلِ السَّمَاءِ: إِنَّ اللهَ يُحِبُّ فُلاَنًا فَأَحِبُّوهُ،
فَيُحِبُّهُ أَهْلُ السَّمَاءِ، ثُمَّ يُوضَعُ لَهُ الْقَبُولُ فِي
الأَرْضِ)).
قولُهُ: ((فَإِذَا
أَحْبَبْتـُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي
يُبْصِرُ بِهِ، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي
يَمْشِي بِهَا)).
قالَ الحافظُ في شَرْحِهِ لهذا الْمَقْطَعِ مِن الحديثِ: وقد استشَكَلَ كيفَ يكونُ الباري جلَّ وعلا سمْعَ العبدِ وبصرَهُ، إلخ؟ والجوابُ مِن أوجهٍ:
أحدُهَا: أنَّهُ
وردَ علَى سبيلِ التَّمثيلِ، والمعنَى: كنْتُ سمعَهُ وبصرَهُ في إيثارِهِ
أمري، فهو يحبُّ طاعَتِي، ويؤثرُ خدمَتِي، كما يحبُّ هذه الجوارحَ.
ثانيًا: أنَّ المعنَى: كلِّيَّتُهُ مشغولٌ بي، فلا يُصْغِي بسمعِهِ إلاَّ إلَى ما يُرضِيني، ولا يَرَى ببصرِهِ إلاَّ ما أمرْتُهُ بهِ.
ثالثًا: المعنَى: أجعلُ له مقاصدَهُ كأنَّهُ ينالُهَا بسمعِهِ وبصرِهِ… إلخ.
رابعًا: كنْتُ له في النُّصرةِ كسمعِهِ وبصرِهِ ويدِهِ ورجلِهِ في المعاونةِ علَى عدُوِّهِ.
خامسًا: قالَ
الفاكهانيُّ -وسبقَهُ إلَى معناهُ ابنُ هُبيرةَ-: هو فيما يَظهرُ لي
أنَّهُ علَى حذفِ مُضافٍ، والتَّقديرُ: كنتُ حافظَ سمْعِهِ الَّذِي يَسمعُ
به، فلا يَسمعُ إلاَّ ما يَحِلُّ استماعُهُ، وحافظَ بصرِهِ كذلكَ… إلخ.
سادسًا: قالَ
الفاكهانيُّ: يحتملُ معنًى آخرَ أدقَّ مِن الَّذي قبلَهُ، وهو أن يكونَ
معنَى سمعِهِ مسموعَهُ؛ لأنَّ المصدرَ قدْ جاءَ بمعنَى المفعولِ، مثلُ:
فلانٌ أَمَلِي، بمعنَى: مأمُولِي، والمعنَى: أنَّهُ لا يسمعُ إلاَّ ذكرِي،
ولا يلتذُّ إلاَّ بتلاوةِ كتابِي، ولا يأنسُ إلاَّ بمناجاتِي ، ولا ينظرُ
إلاَّ عجائبَ ملكوتِي، ولا يمُّد يدَهُ إلاَّ فيما فيهِ رضايَ، ورجلُهُ
كذلك، وبمعناهُ قالَ ابنُ هُبيرةَ أيضًا.
سابعًا: قالَ
الْخَطَّابِيُّ أيضًا: وقد يكونُ عبَّرَ بذلكَ عن سرعةِ إجابةِ الدُّعاءِ
والنُّجحِ في الطَّلبِ، وذلك أنَّ مساعيَ الإنسانِ كلَّهَا إنَّمَا تكونُ
بهذه الجوارحِ المذكورةِ.
وهذه الأقوالُ الَّتي بيَّنَها الحافظُ لا تَعَارُضَ بينَهَا، وكلُّ واحدٍ منها يَحْتَمِلُ الصَّوابَ.
قالَ
الطُّوفِيُّ: (اتَّفَقَ العلماءُ - ممَّنْ يُعْتَدُّ بقولِهِم - أنَّ هذا
مجازٌ وكنايَةٌ عن نصرةِ العبدِ وتأييدِهِ وإعانتِهِ، حتَّى كأنَّهُ
سبحانَهُ يُنزلُ نفسَهُ مِن عبدِهِ منزلةَ الآلاتِ الَّتي يَستعينُ بها،
ولهذا وَقعَ في روايَةٍ: ((فَـبِي يَسْمَعُ، وَبِي يُبْصِرُ، وَبِي يَبْطِشُ، وَبِي يَمْشِي)).
تعالَى اللهُ عمَّا يقولُ الظَّالمُونَ علوًّا كبيرًا.
قالَ
الحافظُ: (وحملَهُ بعضُ مُتَأخِّري الصُّوفيَّةِ علَى ما يذكرُونَهُ مِن
مقامِ الفناءِ والمحوِ، وأنَّهُ الغايَةُ الَّتِي لا شيءَ وراءَهَا، وهو أن
يكونَ قائمًا بإقامةِ اللهِ لهُ، محبًّا بمحبَّتِهِ له، ناظرًا بنظرِهِ
له، مِن غيرِ أن تبقَى معه بقيَّةٌ تُنَاطُ باسمٍ، أو تتوقَّفُ علَى رسمٍ،
أو تتعلَّقُ بأمرٍ، أو توصَفُ بوصفٍ، ومعنَى هذا الكلامِ أنَّهُ يشهدُ
إقامةَ اللهِ له حتَّى قامَ، ومحبَّتَهُ له حتَّى أحبَّهُ، ونظرَهُ إلَى
عبدِهِ حتَّى أقبلَ ناظرًا إليهِ بقلبِهِ).
وحَمَلَهُ
بعضُ أهلِ الزَّيغِ علَى ما يدَّعُونَهُ مِن أنَّ العبدَ إذا لازمَ
العِبادةَ الظَّاهرةَ والباطنةَ حتَّى يصفَى مِن الكدوراتِ أنَّهُ يَصيرُ
في معنَى الحقِّ - تعالَى اللهُ عن ذلِكَ - وإنَّهُ يفنَى عن نفسِهِ جملةً
حتَّى يَشهدَ أنَّ اللهَ هو الذَّاكرُ لنفسِهِ، الموحِّدُ لنفسِهِ، المحبُّ
لنفسِهِ، وأنَّ هذه الأسبابَ والرُّسومَ تصيرُ عدمًا صرفًا في شهودِهِ،
وإنْ لم تعدَمْ في الخارجِ.
قولُهُ: ((وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأَُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأَُعِيذَنَّهُ))،
فالحديثُ يَدُلُّ علَى أنَّ وليَّ اللهِ مستجابُ الدَّعوةِ، وكانَ كثيرٌ
مِن الصَّحابةِ مجابَ الدَّعوةِ، مثلُ الْبَرَاءِ بنِ مالكٍ، والْبَرَاءِ
بنِ عازبٍ، وسعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ، وسعيدِ بنِ زيدٍ.
عن
جابرِ بنِ سَمُرَةَ رَضِي اللهُ عَنْهُما قالَ: شكَا أهلُ الكوفةِ سعدًا -
يعني ابنَ أبي وقَّاصٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ - إلَى عمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِي
اللهُ عَنْهُ، واستعملَ عليهِمْ عمَّارًا؛ فشكَوا حتَّى ذكرُوا أنَّهُ لا
يُحْسِنُ يصلِّي: فأَرسَلَ إليهِ؛ فقالَ: (يا أبا إسحاقَ، إنَّ هؤلاءِ
يزعمونَ أنَّكَ لا تحسنُ تصلِّي).
فقالَ:
(أمَا أنَا واللهِ فإنِّي كنتُ أصلِّي بهم صلاةَ رسولِ اللهِ -صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- لا أخرجُ عنهَا، أصلِّي صلاةَ العشاءِ فأركُدُ
في الأُولَيَيْنِ، وأَخِفُّ في الأُخْرَيَيْنِ).
قالَ: قالَ: (ذلكَ الظَّنُّ بكَ يا أبا إسحاقَ).
وكانَ بعدَ ذلك إذا سُئِلَ يقولُ: (شيخٌ كبيرٌ مفتونٌ، أصابَتْنِي دعوةُ سعدٍ).
قالَ
عبدُ الملكِ بنُ عميرٍ -الرَّاوي عن جابرِ بنِ سَمُرَةَ-: (فأنا رأيتُهُ
بعدُ، قدْ سقطَ حاجباهُ علَى عينيهِ مِن الكبرِ، وإنَّهُ ليَتعرَّضُ
للجواري في الطُّرقِ فيَغْمِزُهُنَّ).
وعن
عُروةَ بنِ الزُّبيرِ، أنَّ سعيدَ بنَ زيدٍ بنَ عمرو بنَ نُفيلٍ -رَضِي
اللهُ عَنْهُ- خاصمَتْهُ أروَى بنتُ أوسٍ إلَى مَرْوانَ بنِ الحكمِ،
وادَّعتْ أنَّهُ أخذَ شيئًا مِن أرضِهَا، فقالَ سعيدٌ: أنا كنْتُ آخُذُ مِن
أرضِهَا شيئًا بعدَ الَّذي سَمِعْتُ مِن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قالَ: ماذا سَمِعْتَ مِن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟
قالَ: سَمِعْتُ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((مَنْ أَخَذَ شِبْرًا مِنَ الأَرْضِ ظُلْمًا طُوِّقَهُ إِلَى سَبْعِ أَرْضِينَ))،
فقالَ له مَرْوانُ: لا أسألُكَ بيِّنَةً بعدَ هذا، فقالَ سعيدٌ: اللهمَّ
إن كانَتْ كاذبةً فأَعمِ بَصَرَهَا، واقتلْهَا في أرضِهَا، قالَ: فما
ماتَتْ حتَّى ذَهَبَ بصرُهَا، وبينَما هي تَمْشِي في أرضِهَا إذ وَقَعَتْ
في حُفرةٍ فماتَتْ، متَّفقٌ عليهِ.
وفي
روايَةٍ لمسلمٍ، عن مُحَمَّدِ بنِ زيدِ بنِ عبدِ اللهِ بنِ عمرَ بمعناهُ،
وأنَّهُ رآهَا عمياءَ تلتمسُ الجُدُرَ، تقولُ: أصابَتْنِي دعوةُ سعيدٍ،
وأنَّها مرَّتْ علَى بئرٍ في الدَّارِ الَّتي خاصمتْهُ فيها فوقعَتْ فيها
وكانَتْ قبرَهَا.
1 - يستفادُ مِن الحديثِ تقديمُ الإِعذارِ علَى الإنذارِ.
2 - قالَ الحافظُ: يؤخَذُ مِن قولِهِ: ((ما تقرَّب...)) إلَى آخرِهِ، إنَّ النَّافلةَ
لا تُقدَّمُ علَى الفريضةِ؛ لأنَّ النَّافلةَ إنَّما سُمِّيَتْ نافلةً
لأنَّها تأتي زائدةً علَى الفريضَةِ، فما لم تُؤَدَّ الفريضةُ لا تحصُلُ
النَّافلةُ، ومَن أدَّى الفرضَ ثمَّ زادَ عليهِ النَّفلَ وأدامَ ذلك
تحقَّقَتْ منه إرادةُ التَّقرُّبِ.
3 - النَّافلةُ تَجْبُرُ الفرائضَ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((انْظُرُوا: هَلْ لِعَبْدِي مِنْ تَطَوُّعٍ فَتُكَمَّلُ بِهِ فَرِيضَتُهُ؟)).
4 - وفيهِ
أنَّ العبدَ مهما بلغَ أعلَى الدَّرجاتِ فيَنْبَغِي له ألاَّ يَنقطعَ عن
الطَّلبِ مِن اللهِ، وذلك لِمَا فيهِ مِن إظهارِ الذُّلِّ والخضوعِ لهُ.
5 - فيهِ الحذرُ مِن إيذاءِ المسلمِ.
جامع العلوم والحكم للحافظ: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
(1)
هذا الحديثُ تَفَرَّدَ بإخراجِهِ البُخَارِيُّ منْ دُونِ بقيَّةِ أصحابِ
الكُتُبِ، خَرَّجَهُ عنْ مُحَمَّدِ بنِ عُثْمَانَ بنِ كَرَامَةَ،
حَدَّثَنَا خالدُ بنُ مَخْلَدٍ، حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بنُ بِلالٍ،
حَدَّثَنِي شَرِيكُ بنُ عَبْدِ اللَّهِ بنِ أَبِي نَمِرٍ، عنْ عطاءٍ، عنْ
أبي هُرَيْرَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ
الحديثَ بِطُولِه، وَزَادَ في آخِرِهِ: ((وَمَا
تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي عَنْ نَفْسِ
الْمُؤْمِنِ، يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنا أَكْرَهُ مَساء تَهُ)).
وهوَ منْ غرائبِ (الصحيحِ)، تَفَرَّدَ بهِ ابنُ كَرَامَةَ عنْ خالدٍ.
وليسَ هوَ في (مُسْنَدِ أَحْمَدَ)، معَ أنَّ خالدَ بنَ مَخْلَدٍ القَطَوَانِيَّ تَكَلَّمَ فيهِ أحمدُ وغيرُهُ.
وقالُوا: لهُ مَنَاكِيرُ.
وعَطَاءٌ
الذي في إسنادِهِ قيلَ: إنَّهُ ابنُ أبي رَبَاحٍ، وقيلَ: إنَّهُ ابنُ
يَسَارٍ، وإنَّهُ وَقَعَ في بعضِ نُسَخِ (الصحيحِ) مَنْسُوبًا كذلكَ.
وقدْ رُوِيَ هذا الحديثُ منْ وُجُوهٍ أُخَرَ لا تَخْلُو كُلُّهَا عنْ مَقَالٍ.
فَرَوَاهُ
عبدُ الواحدِ بنُ مَيْمُونٍ أبو حَمْزَةَ مَوْلَى عُرْوَةَ بنِ
الزُّبَيْرِ عنْ عُرْوَةَ، عنْ عائشةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ آذَى لِي وَلِيًّا فَقَدِ
اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ
أَدَاءِ فَرَائِضِي، وَإِنَّ عَبْدِي لَيَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ
حَتَّى أُحِبَّهُ، فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ عَيْنَهُ الَّتِي يُبْصِرُ
بِهَا، وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي
بِهَا، وَفُؤَادَهُ الَّذِي يَعْقِلُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي
يَتَكَلَّمُ بِهِ. إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي
أَعْطَيْتُهُ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا فَاعِلُهُ تَرَدُّدِي
عَنْ مَوْتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّهُ يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَنَا أَكْرَهُ
مَسَاءَتَهُ)). خَرَّجَهُ ابنُ أبي الدُّنْيَا وغَيْرُهُ، وَخَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ بِمَعْنَاهُ. وَخَرَّجَهُ
الطَّبَرَانِيُّ وَغَيْرُهُ منْ حديثِ الحسنِ بنِ يَحْيَى الخُشَنِيِّ،
عنْ صَدَقَةَ بنِ عبدِ اللَّهِ الدِّمَشْقِيِّ، عنْ هشامٍ الكِنَانِيِّ،
عنْ أنسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، عنْ جبريلَ، عنْ
رَبِّهِ تَعَالَى قالَ: ((مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا
فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ، وَمَا تَرَدَّدْتُ عَنْ شَيْءٍ أَنَا
فَاعِلُهُ مَا تَرَدَّدْتُ فِي قَبْضِ نَفْسِ عَبْدِي الْمُؤْمِنِ،
يَكْرَهُ الْمَوْتَ وَأَكْرَهُ مَسَاءَتَهُ، وَلا بُدَّ لَهُ مِنْهُ.
وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي الْمُؤْمِنِينَ مَنْ يُرِيدُ بَابًا مِنَ
الْعِبَادَةِ فَأَكُفُّهُ عَنْهُ لا يَدْخُلَهُ عُجْبٌ فَيُفْسِدَهُ
ذَلِكَ، وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ
عَلَيْهِ، وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَنَفَّلُ إِلَيَّ حَتَّى أُحِبَّهُ،
وَمَنْ أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا وَيَدًا وَمُؤَيِّدًا،
دَعَانِي فَأَجَبْتُهُ، وَسَأَلَنِي فَأَعْطَيْتُهُ، وَنَصَحَ لِي
فَنَصَحْتُ لَهُ. وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا
الْغِنَى، وَلَوْ أَفْقَرْتُهُ لأََفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي
مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا الْفَقْرُ، وَإِنْ بَسَطْتُ لَهُ
أَفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَإِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ
إِلا الصِّحَّةُ، وَلَوْ أَسْقَمْتُهُ لأََفْسَدَهُ ذَلِكَ. وَإِنَّ مِنْ
عِبَادِي مَنْ لا يُصْلِحُ إِيمَانَهُ إِلا السَّقَمُ، وَلَوْ أَصْحَحْتُهُ
لأََفْسَدَهُ ذَلِكَ. إِنِّي أُدَبِّرُ عِبَادِي بِعِلْمِي بِمَا فِي
قُلُوبِهِمْ، إِنِّي عَلِيمٌ خَبِيرٌ)). وقدْ قيلَ: إنَّهُ أَشْرَفُ حَدِيثٍ رُوِيَ في ذِكْرِ الأَوْلِيَاءِ. وكَذلكَ
مُعَادَاةُ أوليائِهِ؛ فَإِنَّهُ تَعَالَى يَتَوَلَّى نُصْرَةَ
أوْلِيَائِهِ، وَيُحِبُّهُم وَيُؤَيِّدُهم، فَمَنْ عَادَاهُم فقدْ عَادَى
اللَّهَ وَحَارَبَهُ. أحدُهُما: مَنْ
تَقَرَّبَ إليهِ بأداءِ الفرائضِ، وَيَشْمَلُ ذلكَ فِعْل الواجباتِ،
وتَرْكَ المُحَرَّمَاتِ؛ لأِنَّ ذلكَ كُلَّهُ مِنْ فَرَائِضِ اللَّهِ التي
افْتَرَضَهَا على عِبَادِهِ. مَا أَصْنَعُ إِنْ جَفَا وَخَابَ الأَمَلُ * مِنِّي بَدَلٌ ومنهُ ما لي بَدَلُ وفي بعضِ الآثارِ يقولُ اللَّهُ عزَّ وجلَّ: ((ابْنَ
آدَمَ، اطْلُبْنِي تَجِدْنِي، فَإِنْ وَجَدْتَنِي وَجَدْتَ كُلَّ شَيْءٍ،
وَإِنْ فُتُّكَ فَاتَكَ كُلّ? شَيْءٍ، وَأَنَا أَحَبُّ إِلَيْكَ مِنْ كُلِّ
شَيْءٍ)). اطْلُبُوا لِأَنْفُسِكُمْ ** مِثْلَ مَا وَجَدْتُ أَنَا مَنْ
فَاتَهُ اللَّهُ، فلوْ حَصَلَتْ لهُ الْجَنَّةُ بِحَذَافِيرِهَا، لكانَ
مَغْبُونًا، فكيفَ إذا لَمْ يَحْصُلْ لهُ إلا نَزْرٌ يَسِيرٌ حَقِيرٌ منْ
دَارٍ، كُلُّهَا لا تَعْدِلُ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ: {وَلا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ}،
لا هَمَّ لِلْمُحِبِّ غَيْرُ ما يُرْضِي حَبِيبَه، رَضِيَ مَنْ رَضِيَ،
وَسَخِطَ مَنْ سَخِطَ، مَنْ خافَ المَلامَةَ في هَوى مَنْ يُحِبُّهُ فليسَ
بِصَادِقٍ في المَحَبَّةِ:
وذَكَرَ ابنُ عَدِيٍّ أنَّهُ تَفَرَّدَ بهِ عبدُ الواحدِ هذا عنْ عُرْوَةَ.
وعبدُ الواحدِ هذا قالَ فيهِ البُخَارِيُّ: مُنْكَرُ الحديثِ.
ولكنْ
خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ: حَدَّثَنَا هارونُ بنُ كاملٍ، حَدَّثَنَا
سَعِيدُ بنُ أبي مَرْيَمَ، حَدَّثَنَا إبراهيمُ بنُ سُوَيْدٍ المَدَنِيُّ،
حَدَّثَنِي أبو حَزْرَةَ يَعْقُوبُ بنُ مُجَاهِدٍ، أَخْبَرَنِي عُرْوَةُ،
عنْ عائشةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَهُ.
وهذا
إسنادُهُ جَيِّدٌ، وَرِجَالُهُ كُلُّهُمْ ثِقَاتٌ مُخَرَّجٌ لهم في
(الصحيحِ)، سِوَى شَيْخِ الطَّبَرَانِيِّ؛ فإنَّهُ لا يَحْضُرُنِي الآنَ
مَعْرِفَةُ حَالِه.
وَلَعَلَّ
الرَّاوِيَ قالَ: حَدَّثَنَا أبو حَمْزَةَ، يَعْنِي: عبدَ الواحدِ بنَ
مَيْمُونٍ، فَخُيِّلَ للسامِعِ أنَّهُ قالَ: أبو حَزْرَةَ، ثمَّ سَمَّاهُ
مِنْ عندِهِ بِنَاءً على وَهْمِهِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.
وَخَرَّجَ
الطَّبَرَانِيُّ وغيرُهُ منْ روايَةِ عثمانَ بنِ أبي الْعَاتِكَةِ، عنْ
عليِّ بنِ يزيدَ، عن القاسمِ، عنْ أبي أُمَامَةَ، عن النبيِّ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَقُولُ اللَّهُ
عَزَّ وَجَلَّ: مَنْ أَهَانَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ بَارَزَنِي
بِالْمُحَارَبَةِ. ابْنَ آدَمَ، إِنَّكَ لَنْ تُدْرِكَ مَا عِنْدِي إِلا
بِأَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْكَ، وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَحَبَّبُ
إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ، فَأَكُونَ قَلْبَهُ الَّذِي
يَعْقِلُ بِهِ، وَلِسَانَهُ الَّذِي يَنْطِقُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي
يُبْصِرُ بِهِ، فَإِذَا دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِذَا سَأَلَنِي
أَعْطَيْتُهُ، وَإِذَا اسْتَنْصَرَنِي نَصَرْتُهُ. وَأَحَبُّ عِبَادَةِ
عَبْدِي إِلَيَّ النَّصِيحَةُ)).
عُثْمَانُ وَعَلِيُّ بنُ يَزِيدَ ضَعِيفَانِ.
قال أبو حاتمٍ الرَّازِيُّ في هذا الحديثِ: هوَ مُنْكَرجِدًّا.
وقدْ
رُوِيَ منْ حديثِ عَلِيٍّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ
بإسنادٍ ضعيفٍ، خَرَّجَهُ الإسْمَاعِيلِيُّ في (مُسْنَدِ عَلِيٍّ).
ورُوِيَ منْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ بإسنادٍ ضعيفٍ، خَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وفيهِ زيادةٌ في لفظِهِ.
وَرُوِّينَاهُ منْ وَجْهٍ آخَرَ عن ابنِ عَبَّاسٍ، وهوَ ضعيفٌ أيضًا.
وَالخُشَنِيُّ وَصَدَقَةُ ضَعِيفَانِ، وهشامٌ لا يُعْرَفُ.
وَسُئِلَ ابنُ مَعِينٍ عنْ هشامٍ هذا: مَنْ هُوَ؟ قالَ: لا أَحَدَ. يَعْنِي: أنَّهُ لا يُعْتَبَرُ بِهِ.
وقَدْ خَرَّجَ البَزَّارُ بعضَ الحديثِ منْ طريقِ صَدَقَةَ عنْ عبدِ الكريمِ الجَزَرِيِّ عنْ أَنَسٍ.
وَخَرَّجَ
الطَّبَرَانِيُّ منْ حديثِ معاذ عنْ عَبْدَةَ بنِ أبي لُبَابَةَ،
حَدَّثَنِي زِرُّ بْنُ حُبَيْشٍ، سَمِعْتُ حُذَيْفَةَ يَقُولُ: قالَ رسولُ
اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ
اللَّهَ تَعَالَى أَوْحَى إِلَيَّ: يَا أَخَا الْمُرْسَلِينَ، وَيَا أَخَا
الْمُنْذِرِينَ، أَنْذِرْ قَوْمَكَ أَنْ لا يَدْخُلُوا بَيْتًا مِنْ
بُيُوتِي وَلأَِحَدٍ عِنْدَهُمْ مَظْلِمَةٌ؛ فَإِنِّي أَلْعَنُهُ مَا دَامَ
قَائِمًا بَيْنَ يَدَيَّ يُصَلِّي، حَتَّى يَرُدَّ تِلْكَ الظُّلامَةَ
إِلَى أَهْلِهَا؛ فَأَكُونُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَأَكُونُ
بَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ، وَيَكُونُ مِنْ أَوْلِيَائِي
وَأَصْفِيَائِي، وَيَكُونُ جَارِي مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ
وَالشُّهَدَاءِ فِي الْجَنَّةِ)). وهذا إسنادٌ جَيِّدٌ، وهوَ غريبٌ جِدًّا.
ولْنَرْجِع إلى شرحِ حديثِ أبي هريرةَ الذي خَرَّجَهُ البخاريُّ.
(2) قولُهُ عزَّ وجلَّ: ((مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ))،
يَعْنِي: فَقَدْ أَعْلَمْتُهُ بِأَنِّي مُحَارِبٌ لهُ، حيثُ كانَ
مُحَارِبًا لي بمُعَاداةِ أَوْلِيَائِي؛ ولهذا جاءَ في حديثِ عائشةَ: ((فَقَدِ اسْتَحَلَّ مُحَارَبَتِي))، وفي حديثِ أبي أُمَامَةَ وَغَيْرِهِ: ((فَقَدْ بَارَزَنِي بِالْمُحَارَبَةِ)).
وَخَرَّجَ ابنُ مَاجَهْ بِإِسْنَادٍ ضعيفٍ عنْ مُعَاذِ بنِ جَبَلٍ، سَمِعَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((إِنَّ
يَسِيرَ الرِّيَاءِ شِرْكٌ، وَإِنَّ مَنْ عَادَى لِلَّهِ وَلِيًّا فَقَدْ
بَارَزَ اللَّهَ بِالْمُحَارَبَةِ، وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُحِبُّ
الأَبْرَارَ الأَتْقِيَاءَ الأَخْفِيَاءَ، الَّذِينَ إِذَا غَابُوا لَمْ
يُفْتَقَدُوا، وَإِنْ حَضَرُوا لَمْ يُدْعَو?ا وَلَمْ يُعْرَفُوا،
[قُلُوبُهُمْ] مَصَابِيحُ الْهُدَى، يَخْرُجُونَ مِنْ كُلِّ غَبْرَاءَ
مُظْلِمَةٍ)).
فَأَوْلِيَاءُ
اللَّهِ تَجِبُ مُوَالاتُهُمْ، وتَحْرُمُ مُعَادَاتُهُمْ، كما أنَّ
أعداءَهُ تَجِبُ مُعَادَاتُهم، وَتَحْرُمُ مُوَالاتُهم، قالَ تَعَالَى: {لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ} [المُمْتَحِنَة: 1].
وقالَ: {إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ومَنْ
يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ
هُمُ الْغَالِبُونَ} [المائدة: 55 - 56].
وَوَصَفَ أَحِبَّاءَهُ الذينَ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ بِأَنَّهُم أَذِلَّةٌ على المُؤْمِنِينَ، أَعِزَّةٌ على الكافرِينَ.
وَرَوَى
الإمامُ أحمدُ في كتابِ (الزُّهْدِ) بِإِسْنَادِهِ عنْ وَهْبِ بنِ
مُنَبِّهٍ قالَ: إنَّ اللَّهَ تَعَالَى قالَ لموسَى عليهِ السلامُ حِينَ
كَلَّمَهُ: اعْلَمْ أَنَّ مَنْ أهَانَ لِي وَلِيًّا، أوْ أَخَافَهُ، فَقَدْ
بَارَزَنِي بِالمُحَارَبَةِ وبَادأَنِي، وعَرَّض نفسَهُ ودَعَاني
إلَيْهَا، وأَنَا أسْرعُ شيْءٍ إلَى نصْرَةِ أوْليائي، أفَيَظُنُّ الذِي
يُعازنِي أن يُعجزني؟ أَوْ يظُنُّ الذِي يعَازّنِي أنْ يعْجِزَنِي؟ أمْ
يظُنُّ الذِي يبَارزُنِي أنْ يسْبِقَنِي أوْ يفُوتنِي؟ وكَيْفَ وأَنَا
الثَّائرُ لهُمْ فِي الدُّنْيَا والآخرَةِ، فلا أَكِلُ نصْرَتَهُمْ إلَى
غيْرِي.
وعلَمْ
أنَّ جمِيعَ المعَاصي محَاربَةٌ للَّه عزَّ وجَلَّ، قال الحَسَنُ: ابنَ
آدمَ، هلْ لكَ بمُحَاربَةِ اللَّه مِنْ طاقةٍ؟ فإِنَّ مَنْ عصَى اللَّه
فقَدْ حاربَهُ، لكن كلَّما كانَ الذَّنبُ أَقْبَحَ كانَ أَشَدَّ
مُحَارَبَةً للَّهِ؛ ولهذا سَمَّى اللَّهُ تَعَالَى أَكَلَةَ الرِّبَا
وَقُطَّاعَ الطَّرِيقِ مُحَارِبِينَ للَّهِ تَعَالَى وَرَسُولِهِ؛
لِعَظِيمِ ظُلْمِهِمْ لِعِبَادِهِ، وَسَعْيِهِمْ بِالفَسَادِ في بِلادِهِ.
وفي الحديثِ: عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((اللَّهَ
اللَّهَ في أَصْحَابِي، لا تَتَّخِذُوهُمْ غَرَضًا، فَمَنْ آذَاهُمْ
فَقَدْ آذَانِي، وَمَنْ آذَانِي فَقَدْ آذَى اللَّهَ، وَمَنْ آذَى اللَّهَ
يُوشِكُ أَنْ يَأْخُذَهُ)). خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ.
(3) وقولُهُ: ((وَمَا
تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِمِثْلِ أَدَاءِ مَا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ،
وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى
أُحِبَّهُ)).
لَمَّا
ذَكَرَ أنَّ مُعَادَاةَ أَوْلِيَائِهِ مُحَارَبَةٌ لهُ، ذَكَرَ بعدَ ذلكَ
وَصْفَ أَوْلِيَائِهِ الذينَ تَحْرُمُ مُعَادَاتُهُمْ، وَتَجِبُ
مُوَالاتُهُم، فَذَكَرَ ما يُتَقَرَّبُ بهِ إليهِ.
وَأَصْلُ الوَلايَةِ: القربُ، وأصلُ العَدَاوَةِ: البعدُ.
فأولياءُ
اللَّهِ هُم الذينَ يَتَقَرَّبُونَ إليهِ بما يُقَرِّبُهُم منهُ،
وأعداؤُهُ الذينَ أَبْعَدَهُم عنهُ بأعمالِهِم المُقْتَضِيَةِ لطَرْدِهِم
وإبعادِهِم منهُ.
فَقَسَمَ أَوْلِيَاءَهُ المُقَرَّبِينَ إلى قِسْمَيْنِ:
والثاني: مَنْ
تَقَرَّبَ إليهِ بعدَ الفرائضِ بالنَّوَافِلِ، فَظَهَرَ بذلكَ أنَّهُ لا
طَرِيقَ يُوصِلُ إلى التَّقَرُّبِ إلى اللَّهِ تَعَالَى وَوَلايتِهِ
وَمَحَبَّتِهِ سِوَى طَاعَتِهِ التي شَرَعَهَا على لسانِ رسولِه، فمَن
ادَّعَى ولايَةَ اللَّهِ والتقرُّبَ إليهِ وَمَحَبَّتَهُ بغيرِ هذهِ
الطريقِ تَبَيَّنَ أنَّهُ كاذبٌ في دَعْوَاهُ، كما كانَ المُشْرِكُونَ
يَتَقَرَّبُونَ إلى اللَّهِ تَعَالَى بعبادةِ مَنْ يَعْبُدُونَهُ مِنْ
دُونِهِ، كما حَكَى اللَّهُ عنْهُمْ أنَّهُم قالُوا: {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى} [الزُّمَر: 3]، وكما حَكَى عن اليهودِ والنصارَى أنَّهُم قالُوا: {نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ} [المائدة: 18]، معَ إصرارِهِم على تَكْذِيبِ رُسُلِهِ، وارْتِكَابِ نواهِيهِ، وَتَرْكِ فرائضِهِ.
فَلِذَلكَ ذَكَرَ في هذا الحديثِ أنَّ أولياءَ اللَّهِ على دَرَجَتَيْنِ:
أحدُهُمَا: المُتَقَرِّبُونَ إليهِ بأداءِ الفرائضِ.
وهذهِ درجةُ المُقْتَصِدِينَ أصحابِ اليمينِ.
وأداءُ
الفرائضِ أفضلُ الأعمالِ كما قالَ عمرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ
عَنْهُ: (أفْضَلُ الأعمالِ أداءُ ما افْتَرَضَ اللَّهُ، والوَرَعُ عمَّا
حَرَّمَ اللَّهُ، وَصِدْقُ النِّيَّةِ فِيمَا عندَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ).
وقالَ عُمَرُ
بنُ عبدِ العزيزِ في خُطْبَتِهِ: (أَفْضَلُ العبادةِ أداءُ الفرائضِ،
واجْتِنَابُ المَحَارِمِ؛ وذلكَ لأنَّ اللَّهَ عزّ? وَجَلَّ إنَّما
افْتَرَضَ على عبادِهِ هذهِ الفرائضَ لِيُقَرِّبَهُم منهُ، وَيُوجِبَ لهم
رِضْوَانَهُ ورَحْمَتَهُ)
وأعظمُ فرائضِ البدنِ التي تُقَرِّبُ إليهِ: الصلاةُ.
كما قالَ تَعَالَى: {وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ} [العَلَق: 19].
وقال النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ))، وقالَ: ((إِذَا كَانَ أَحَدُكُمْ يُصَلِّي فَإِنَّمَا يُنَاجِي رَبّ?هُ، أَوْ رَبُّهُ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْقِبْلَةِ))، وقالَ: ((إِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ فِي صَلاتِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ)).
ومِن الفرائضِ المُقَرِّبَةِ إلى اللَّهِ تَعَالَى:
عَدْلُ الرَّاعِي في رَعِيَّتِهِ، سَوَاء كانتْ رَعِيَّتُهُ عَامَّةً
كَالْحَاكِمِ، أوْ خَاصَّةً كَعَدْلِ آحَادِ النَّاسِ في أهلِه وَوَلَدِهِ،
كما قالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).
وفي (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
الْمُقْسِطِينَ عِنْدَ اللَّهِ عَلَى مَنَابِرَ مِنْ نُورٍ عَلَى يَمِينِ
الرَّحْمَنِ، وَكِلْتَا يَدَيْهِ يَمِينٌ، الَّذِينَ يَعْدِلُونَ فِي
حُكْمِهِمْ وَأَهْلِيهِمْ وَمَا وَلُوا)).
وفِي (التِّرْمِذِيِّ): عنْ أبي سعيدٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ أَحَبَّ الْعِبَادِ إِلَى اللَّهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَأَدْنَاهُمْ إِلَيْهِ مَجْلِسًا إِمَامٌ عَادِلٌ)).
الدرجةُ الثانيَةُ: درجةُ
السَّابِقِينَ المُقَرَّبِينَ، وهُم الذينَ تَقَرَّبُوا إِلَى اللَّهِ
بعدَ الفرائضِ بالاجتهادِ في نوافلِ الطَّاعاتِ، والانْكِفَافِ عنْ دقائقِ
المَكْرُوهاتِ بالوَرَعِ، وذلكَ يُوجِبُ للعبدِ مَحَبَّةَ اللَّهِ، كما
قالَ: ((وَلا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ)).
فمَنْ
أَحَبَّهُ اللَّهُ رَزَقَهُ مَحَبَّتَهُ وَطَاعَتَهُ وَالاشْتِغَالَ
بِذِكْرِهِ وَخِدْمَتِهِ، فَأَوْجَبَ لهُ ذلكَ القُرْبَ منهُ، وَالزُّلْفَى
لَدَيْهِ، والحُظْوَةَ عندَهُ، كما قالَ اللَّهُ تَعَالَى:
{مَنْ
يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ
يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ
عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا يَخَافُونَ
لَوْمَةَ لائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ
وَاسِعٌ عَلِيمٌ} [المائدة: 54].
ففي
هذهِ الآيَةِ إشارةٌ إلى أنَّ مَنْ أَعْرَضَ عنْ حُبِّنَا، وَتَوَلَّى عنْ
قُرْبِنَا، لمْ نُبَالِ، واسْتَبْدَلْنَا بهِ مَنْ هوَ أَوْلَى بهذهِ
المِنْحَةِ منهُ وَأَحَقُّ. فمَنْ أَعْرَضَ عن اللَّهِ فما لهُ مِن اللَّهِ
بَدَلٌ، وللَّهِ منهُ أَبْدَالٌ.
ما لِي شُغْلٌ سِوَاهُ مَالِي شُغْلُ * مَا يَصْرِفُ عَنْ هَوَاهُ قَلْبِي عَذْلُ
كانَ ذُو النُّونِ يُرَدِّدُ هذهِ الأبياتَ باللَّيْلِ كَثِيرًا:
قَدْ وَجَدْتُ لِي سَكَناً ** لَيْس َفِي هَوَاهُ عَنَا
إنْ بَعُدْتُ قَرَّبَنِي ** أوْ قَرُبْتُ مِنْهُ دَنَا
مَنْ فَاتَهُ أَنْ يَرَاكَ يَوْماً ** فَكُلُّ أَوْقَاتِهِ فَوَاتُ
وَحَيْثُمَاكُنْتُ مِنْ بِلادٍ ** فَلِي إِلَى وَجْهِكَ الْتِفَاتُ
ثمَّ ذَكَرَ أوصافَ الذينَ يُحِبُّهُم اللَّهُ ويُحبُّونَهُ فقالَ:
{أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ}، يعنِي: أنَّهُمْ يُعَامِلُونَ المُؤْمِنِينَ بِالذِّلَّةِ واللِّينِ وَخَفْضِ الجَنَاحِ.
{أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ}، يعنِي: أنَّهُم يُعَامِلُونَ الكافرينَ بالعِزَّةِ والشِّدَّةِ عليهم والإغلاظِ لهم.
فَلَمَّا
أَحَبُّوا اللَّهَ أَحَبُّوا أَوْلِيَاءَهُ الذينَ يُحِبُّونَهُ،
فَعَامَلُوهُمْ بِالْمَحَبَّةِ والرَّأْفَةِ والرحمةِ، وَأَبْغَضُوا
أعْدَاءَهُ الذينَ يُعَادُونَهُ فَعَامَلُوهُم بالشِّدَّةِ والغِلظةِ، كما
قالَ تَعَالَى: {أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ} [الفتح: 29].
فإنَّ مِنْ تَمَامِ المَحَبَّةِ مُجَاهَدَةَ أَعْدَاءِ المَحْبُوبِ.
وَأَيْضًا
فَالجِهَادُ في سبيلِ اللَّهِ دعاءٌ للمُعْرِضِينَ عن اللَّهِ إلى الرجوعِ
إليهِ بالسَّيْفِ والسِّنَانِ بعدَ دُعَائِهِم إليهِ بالحُجَّةِ
والبُرْهَانِ، فالمُحِبُّ للَّهِ يُحِبُّ اجْتِلابَ الخلقِ كُلِّهم إلى
بابِهِ؛ فمَنْ لم يُجِب الدعوةَ باللِّينِ والرِّفقِ احتاجَ إلى الدعوةِ
بالشدَّةِ والعُنْفِ: ((عَجِبَ رَبُّكَ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ بِالسَّلاسِلِ)).
وَقَفَ الْهَوَى بِي حَيْثُ أَنْتِ ** فَلَيْسَ لِي مُتَأَخَّرٌعَنْهُ وَلا مُتَقَدَّمُ
أَجِدُ الْمَلَامَةَ في هَوَاكِ لَذِيذَةً ** حُبًّا لِذِكْرِكِ فَلْيَلُمْنِي اللَّوَّمُ
قولُهُ: {ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ}، يَعْنِي: درجةُ الذينَ يُحِبُّهُم وَيُحِبُّونَهُ بِأَوْصَافِهِم المذكورةِ.
{وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ}، واسعُ العطاءِ، عَلِيمٌ بمَنْ يَسْتَحِقُّ الفضلَ فَيَمْنَحُهُ، ومَنْ لا يَسْتَحِقُّهُ فَيَمْنَعَهُ.
ويُرْوَى
أنَّ داودَ عليهِ السلامُ كانَ يقولُ: (اللَّهُمَّ اجْعَلْنِي مِنْ
أَحْبَابِكَ؛ فَإِنَّكَ إِذَا أَحْبَبْتَ عَبْدًا غَفَرْتَ ذَنْبَهُ وَإِنْ
كَانَ عَظِيمًا، وَقَبِلْتَ عَمَلَهُ وَإِنْ كَانَ يَسِيرًا).
وكانَ
داودُ عليهِ السلامُ يقولُ في دعائِهِ: (اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ
حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ، وَحُبَّ الْعَمَلِ الَّذِي يُبَلِّغُنِي
حُبَّكَ. اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ نَفْسِي
وَأَهْلِي وَمِنَ الْمَاءِ الْبَارِدِ).
وقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَتَانِي
رَبِّي عَزَّ وَجَلَّ -يَعْنِي: فِي الْمَنَامِ- فَقَالَ لِي: يَا
مُحَمَّدُ، قُل?: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ
يُحِبُّكَ، وَالْعَمَلَ الَّذِي يُبَلِّغُنِي حُبَّكَ)).
وكانَ مِنْ دُعَائِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((اللَّهُمَّ
ارْزُقْنِي حُبَّكَ، وَحُبَّ مَنْ يَنْفَعُني حُبُّهُ عِنْدَكَ.
اللَّهُمَّ مَا رَزَقْتَنِي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ قُوَّةً لِي فِيمَا
تُحِبُّ. اللَّهُمَّ مَا زَوَيْتَ عَنِّي مِمَّا أُحِبُّ فَاجْعَلْهُ
فَرَاغًا لِي فِيمَا تُحِبُّ)).
ورُوِيَ عنهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ كانَ يَدْعُو: ((اللَّهُمَّ اجْعَلْ حُبَّكَ أَحَبَّ الأَشْيَاءِ إِلَيَّ، وَخَشْيَتَكَ أَخْوَفَ الأَشْيَاءِ عِنْدِي، وَاقْطَعْ عَنِّي حَاجَاتِ الدُّنْيَا بِالشَّوْقِ إِلَى لِقَائِكَ، وَإِذَا أَقْرَرْتَ أَعْيُنَ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ دُنْيَاهُمْ فَأَقْرِرْ عَيْنِي مِنْ عِبَادَتِكَ)).
وقالَ
فَتْح المَوْصِلِيُّ: (المُحِبُّ لا يَجِدُ معَ حُبِّ اللَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ للدُّنْيَا لَذَّةً، ولا يَغْفُلُ عنْ ذِكْرِ اللَّهِ طَرْفَةَ
[عَيْنٍ]).
وقالَ
مُحَمَّدُ بنُ النَّضْرِ الحَارِثِيُّ: (ما يَكَادُ يَمَلُّ القُرْبَةَ
إلى اللَّهِ تَعَالَى مُحِبٌّ للَّهِ عزّ وَجَلَّ، وما يَكَادُ يَسْأَمُ
مِنْ ذلكَ).
وقالَ
بعضُهُم: (المُحِبُّ للَّهِ طَائِرُ القلبِ، كثيرُ الذِّكْرِ، مُتَسَبِّبٌ
إلى رِضْوَانِهِ بكُلِّ سَبِيلٍ يَقْدِرُ عليها من الوسائلِ والنَّوَافِلِ
دَوْبًا دَوْبًا، وَشَوْقًا شَوْقًا).
وَأَنْشَدَ بَعْضُهُمْ:
وَكُنْ لِرَبِّكَ ذَا حُبٍّ لِتَخْدُمَهُ ** إنَّ الْمُحِبِّينَ لِلأَحْبَابِ خُدَّامُ
وَأَنْشَدَ آخَرُ:
ما لِلْمُحِبِّ سِوَى إِرَادَةِ حُبِّهِ ** إِنَّ الْمُحبَّ بِكُلِّ بِرٍّ يَضْرَعُ
وَمِنْ
أَعْظَم مَا يُتَقَرَّبُ بهِ إلى اللَّهِ تَعَالَى مِن النَّوافلِ:
كَثْرَةُ تلاوةِ القرآنِ، وَسَمَاعِهِ بِتَفَكُّرٍ وَتَدَبُّرٍ
وَتَفَهُّمٍ.
قالَ
خَبَّابُ بنُ الأَرَتِّ لِرَجُلٍ: (تَقَرَّبْ إِلَى اللَّهِ ما
اسْتَطَعْتَ، واعْلَمْ أنَّكَ لنْ تَتَقَرَّبَ إليهِ بشَيْءٍ هوَ أحبُّ
إليهِ منْ كلامِهِ).
وفي (التِّرْمِذِيِّ): عنْ أبي أُمَامَةَ مَرْفُوعًا: ((مَا تَقَرَّبَ الْعِبَادُ إِلَى اللَّهِ بِمِثْلِ مَا خَرَجَ مِنْهُ))، يعني القُرْآنَ.
لا شَيْءَ عندَ المُحِبِّينَ أَحْلَى منْ كلامِ محبوبِهِم، فهوَ لَذَّةُ قُلُوبِهِم، وَغَايَةُ مَطْلُوبِهِم.
قالَ عثمانُ: لوْ طَهُرَتْ قُلُوبُكُمْ مَا شَبِعْتُمْ منْ كلامِ رَبِّكُمْ.
وقالَ ابنُ مسعودٍ: (مَنْ أَحَبَّ القرآنَ فهوَ يُحِبُّ اللَّهَ ورسولَهُ).
قالَ
بعضُ العارفِينَ لِمُرِيدٍ: أَتَحْفَظُ القرآنَ؟ قالَ: لا، فقالَ:
وَاغَوْثَاهُ بِاللَّهِ! مُرِيدٌ لا يحفظُ القرآنَ، فبِمَ يَتَنَعَّمُ؟
فَبِمَ يَتَرَنَّمُ؟ فَبِمَ يُنَاجِي رَبَّه عَزَّ وَجَلَّ؟
كانَ بَعْضُهُم يُكْثِرُ تِلاوَةَ القرآنِ، ثمَّ اشْتَغَلَ عنهُ بِغَيْرِهِ، فَرَأَى في المنامِ قَائِلاً يقولُ لهُ:
إنْ كُنْتَ تَزْعُمُ حُبِّي ** فَلِمَ جَفَوْتَ كِتَابِي
أَمَاتَأَمَّلْتَ مَا فِيـ ** ـهِ منْ لَطِيفِ عِتَابِي
ومِنْ ذلكَ: كَثْرَةُ ذِكْرِ اللَّهِ الذي يَتَوَاطَأُ عليهِ القلبُ واللِّسَانُ.
وفي (مُسْنَدِ الْبَزَّارِ): عنْ مُعَاذٍ قالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَخْبِرْنِي بِأَفْضَلِ الأَعْمَالِ وَأَقْرَبِهَا إِلى اللَّهِ تَعَالَى؟ قَالَ: ((أَنْ تَمُوتَ وَلِسَانُكَ رَطْبٌ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى)).
وفي الحديثِ (الصحيحِ): عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((يَقُولُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ
حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي،
وَإِنْ ذَكَرَني فِي مَلأٍَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍَ خَيْرٍ مِنْهُمْ))، وفي حديثٍ آخَرَ: ((أَنَا مَعَ عَبْدِي مَا ذَكَرَنِي وَتَحَرَّكَتْ بِي شَفَتَاهُ))، وقالَ عزَّ وجلَّ: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
ولَمَّا
سَمِعَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ الذينَ يَرْفَعُونَ
أَصْوَاتَهُمْ بالتَّكْبِيرِ والتَّهْلِيلِ وهُمْ مَعَهُ في سَفَرٍ، قالَ
لَهُمْ: ((إِنَّكُمْ لا تَدْعُونَ أَصَمَّ وَلا غَائِبًا، إِنَّكُمْ تَدْعُونَ سَمِيعًا قَرِيبًا، وَهُوَ مَعَكُمْ)). وفي روايَةٍ: ((وَهُوَ أَقْرَبُ إِلَيْكُمْ مِنْ أَعْنَاقِ رَوَاحِلِكُمْ)).
ومِنْ ذلكَ: مَحَبَّةُ أولياءِ اللَّهِ وأَحِبَّائِهِ فيهِ، وَمُعَادَاةُ أعدائِهِ فيهِ.
وفي (سُنَنِ أَبِي دَاوُدَ): عنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لأَُنَاسًا مَا هُمْ بِأَنْبِيَاءَ وَلا شُهَدَاءَ،
يَغْبِطُهُمُ الأَنْبِيَاءُ وَالشُّهَدَاءُ بِمَكَانِهِمْ مِنَ اللَّهِ
عَزَّ وَجَلَّ))، ??????: يا رسولَ اللَّهِ، مَنْ هُمْ؟ قالَ: ((هُمْ
قَوْمٌ تَحَابُّوا بِرُوحِ اللَّهِ عَلَى غَيْرِ أَرْحَامٍ بَيْنَهُمْ،
وَلا أَمْوَالٍ يَتَعَاطَوْنَهَا. فَوَاللَّهِ، إِنَّ وُجُوهَهُمْ لَنُورٌ،
وَإِنَّهُمْ لَعَلَى نُورٍ، لا يَخَافُونَ إِذَا خَافَ النَّاسُ، وَلا
يَحْزَنُونَ إِذَا حَزنَ النَّاسُ))، ثمَّ تَلا هذهِ الآيَةَ: {أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ} [يُونُس: 62].
وَيُرْوَى نَحْوُهُ منْ حديثِ أبي مالك الأشعريِّ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وفي حديثِهِ: ((يَغْبِطُهُمُ النَّبِيُّونَ بِقُرْبِهِمْ وَمَقْعَدِهِمْ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ)).
وفِي (المُسْنَدِ): عنْ عمرِو بنِ الجَمُوحِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((لا يَجِدُ الْعَبْدُ صَرِيحَ الإِيمَانِ حَتَّى يُحِبَّ لِلَّهِ وَيُبْغِضَ لِلَّهِ، فَإِذَا أَحَبَّ لِلَّهِ وَأَبْغَضَ لِلَّهِ فَقَدِ اسْتَحَقَّ الْوَلايَةَ مِنَ اللَّهِ. إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْ عِبَادِي وَأَحِبَّائِي مِنْ خَلْقِي الَّذِينَ يُذْكَرُونَ بِذِكْرِي، وَأُذْكَرُ بِذِكْرِهِمْ)).
سَاكِنٌ فِي الْقَلْبِ يَعْمُرُهُ ** لَسْتُ أَنْسَاهُ فَأَذْكُرَهُ
غَابَ عَنْ سَمْعِي وَعَنْ بَصَرِي ** فَسُوَيْدَا الـْقَلْبِ تُبْصِرُهُ
قالَ الفُضَيْلُ بنُ عِيَاضٍ: إنَّ اللَّهَ يَقُولُ: ((كَذَبَ
مَنِ ادَّعَى مَحَبَّتِي وَنَامَ عَنِّي، أَلَيْسَ كُلُّ مُحِبٍّ يُحِبُّ
خَلْوَةَ حَبِيبِهِ؟! هَا أَنَا مُطَّلِعٌ عَلَى أَحْبَابِي وَقَدْ
مَثَّلُونِي بَيْنَ أَعْيُنِهِمْ، وَخَاطَبُونِي عَلَى الْمُشَاهَدَةِ،
وَكَلَّمُونِي بِحُضُورٍ، غَدًا أُقِرُّ أَعْيُنَهُمْ فِي جِنَانِي)).
ولا
يَزَالُ هذا الذي في قلوبِ المُحِبِّينَ المُقَرَّبِينَ يَقْوَى حتَّى
تَمْتَلِئَ قُلُوبُهُم بهِ، فَلا يَبْقَى في قلوبِهِم غَيْرُهُ، ولا
تَسْتَطِيعُ جَوَارِحُهُم أنْ تَنْبَعِثَ إلا بِمُوَافَقَةِ ما في
قُلُوبِهِم.
وَمَنْ كانَ حَالُهُ هذا، قيلَ فيهِ: ما بَقِيَ في قلبِهِ إلا اللَّهُ.
والمرادُ مَعْرِفَتُهُ ومَحَبَّتُهُ وذِكْرُهُ.
وفي
هذا المعنَى الأَثَرُ الإسْرَائِيلِيُّ المَشْهُورُ: (يَقُولُ اللَّهُ: مَا
وَسِعَنِي سَمَائِي وَلا أَرْضِي، وَلَكِنْ وَسِعَنِي قَلْبُ عَبْدِيَ
الْمُؤْمِنِ).
وقالَ بعضُ العارفِينَ: (احْذَرُوهُ؛ فإنَّهُ غَيُورٌ لا يُحِبُّ أَنْ يَرَى في قَلْبِ عَبْدِهِ غَيْرَهُ).
ليسَ للنَّاسِ مَوْضِعٌ في فُؤَادِي ** زَادَ فيهِ هَوَاكَ حَتَّى امْتَلا
وَقَالَ آخَرُ:
قَدْ صِيغَ قَلْبِي عَلَى مِقْدَارِ حُبِّهِمُ ** فَمَا لِحُبِّ سِوَاهُمْ فِيهِ مُتَّسَعُ
وإلى هذا المَعْنَى أَشَارَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في خُطْبَتِهِ لَمَّا قَدِمَ المدينةَ فقالَ:
((أَحِبُّوا اللَّهَ مِنْ كُلِّ قُلُوبِكُمْ))، كما ذَكَرَهُ ابنُ إسحاقَ في (سِيرَتِهِ).
فَمَتَى
امْتَلأََ القلبُ بِعَظَمَةِ اللَّهِ تَعَالَى مَحَا ذلكَ مِن القلبِ
كُلَّ مَا سِوَاهُ، ولمْ يَبْقَ للعبدِ شَيْءٌ منْ نفسِهِ وَهَوَاهُ، ولا
إرادةَ إِلا لِمَا يُرِيدُهُ منهُ مَوْلاهُ. فَحِينَئِذٍ لا يَنْطِقُ
العبدُ إلا بِذِكْرِهِ، وَلا يَتَحَرَّكُ إلا بِأَمْرِهِ، فَإِنْ نطَقَ
نَطَقَ باللَّهِ، وإنْ سَمِعَ سَمِعَ بهِ، وَإِنْ نَظَرَ نَظَرَ بهِ،
وَإِنْ بَطَشَ بَطَشَ بهِ.
فهذا هوَ المرادُ بقولِهِ: ((كُنْتُ
سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ، وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ،
وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا)).
ومَنْ أَشَارَ إلى غيرِ هذا، فإنَّما يُشِيرُ إلى الإلحادِ؛ مِن الحلولِ أو الاتِّحادِ. واللَّهُ ورسولُهُ بَرِيئَانِ مِنْهُ.
ومِنْ هُنا كانَ بعضُ السَّلفِ كَسُلَيْمَانَ التَّيْمِيِّ يَرَوْنَ أنَّهُ لا يَحْسُنُ أنْ يُعْصَى اللَّهُ.
وَوَصَّت
امرأةٌ مِن السَّلفِ أَوْلادَهَا فقَالَتْ لهم: تَعَوَّدُوا حُبَّ اللَّهِ
وَطَاعَتَهُ؛ فإنَّ المُتَّقِينَ أَلِفُوا الطَّاعةَ، فاسْتَوْحَشَتْ
جَوَارِحُهُم منْ غَيْرِهَا، فَإِنْ عَرَضَ لهم المَلْعُونُ بِمَعْصِيَةٍ
مَرَّت المَعْصِيَةُ بهم مُحْتَشِمَةً، فَهُمْ لها مُنْكِرُونَ.
ومِنْ هذا المعنى قولُ عَلِيٍّ: (إنْ كُنَّا لَنَرَى أنَّ شَيْطَانَ عُمَرَ لَيَهَابُهُ أنْ يَأْمُرَهُ بالخَطِيئَةِ).
وقدْ
أَشَرْنَا فِيمَا سَبَقَ إلى أنَّ هذا مِنْ أسرارِ التوحيدِ الخاصَّةِ؛
فإنَّ مَعْنَى لا إِلَهَ إلا اللَّهُ: أنَّهُ لا يُؤَلَّهُ غَيْرُهُ حُبًّا
وَرَجَاءً، وَخَوْفًا وَطَاعَةً، فَإِذَا تَحَقَّقَ القَلْبُ بِالتَّوحيدِ
التَّامِّ لمْ يَبْقَ فيهِ مَحَبَّةٌ لِغَيْرِ مَا يُحِبُّهُ اللَّهُ،
وَلا كَرَاهَةَ لِغَيْرِ مَا يَكْرَهُهُ اللَّهُ.
ومَنْ
كانَ كذلكَ لمْ تَنْبَعِثْ جَوَارِحُهُ إِلا بِطَاعَةِ اللَّهِ، وَإِنَّما
تَنْشَأُ الذُّنُوبُ منْ مَحَبَّةِ ما يَكْرَهُهُ اللَّهُ، أوْ كَرَاهَةِ
مَا يُحِبُّه اللَّهُ، وَذَلِكَ يَنْشَأُ منْ تَقْدِيمِ هَوَى النَّفسِ على
مَحَبَّةِ اللَّهِ وَخَشْيَتِهِ، وذلكَ يَقْدَحُ فِي كمالِ التَّوحيدِ
الواجبِ، فَيَقَعُ العَبْدُ بِسَبَبِ ذلكَ في التَّفْرِيطِ في بعضِ
الواجباتِ، أو ارْتِكَابِ بعضِ المَحْظُورَاتِ.
فَأَمَّا مَنْ تَحَقَّقَ قَلْبُهُ بِتَوْحِيدِ اللَّهِ فَلا يَبْقَى لهُ هَمٌّ إلا في اللَّهِ وَفِيمَا يُرْضِيهِ بهِ.
وقدْ وَرَدَ في الحديثِ مَرْفُوعًا: ((مَنْ أَصْبَحَ وَهَمُّهُ غَيْرُ اللَّهِ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ)).
خَرَّجَهُ الإمامُ أحمدُ منْ حديثِ أُبَيِّ بنِ كَعْبٍ مَوْقُوفًا قالَ: ((مَنْ أَصْبَحَ وَأَكْبَر? هَمِّهِ غَيْرُ اللَّهِ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ)).
قَالُوا: تَشَاغَلَ عَنَّا وَاصْطَفَى بَدَلاً مِنَّا ** وَذَلِكَ فِعْلُ الْخَائِنِ السَّالِي
وَكَيْفَ أَشْغَلُ قَلْبِي عَنْ مَحَبَّتِكُمْ ** بِغَيْرِذِكْرِكُمْ يَاكُلَّ أَشْغَالِي
قولُهُ: ((وَلَئِنْ سَأَلَنِي لأَُعْطِيَنَّهُ، وَلَئِنِ اسْتَعَاذَنِي لأَُعِيذَنَّهُ))، وفي الروايَةِ الأُخْرَى: ((إِنْ دَعَانِي أَجَبْتُهُ، وَإِنْ سَأَلَنِي أَعْطَيْتُهُ)).
يَعْنِي:
أَنَّ لهذا المحبوب المُقَرَّب لهُ عندَ اللَّهِ مَنْزِلَةً خَاصَّةً،
تَقْتَضِي أنَّهُ إذا سَأَلَ اللَّهَ شَيْئًا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَإِن
اسْتَعَاذَ بهِ منْ شيءٍ أَعَاذَهُ منهُ، وإنْ دَعَاهُ أَجَابَهُ،
فَيَصِيرُ مُجَابَ الدعوةِ؛ لِكَرَامَتِهِ عَلَى رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ.
وقدْ كانَ كَثِيرٌ مِن السَّلفِ الصَّالحِ مَعْرُوفًا بِإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ.
وفي
(الصَّحِيحِ) أنَّ الرُّبَيِّعَ بِنْتَ النَّضْرِ كَسَرَتْ ثَنِيَّةَ
جَارِيَةٍ، فَعَرَضُوا عَلَيْهِم الأَرْشَ، فَأَبَوْا، فَطَلَبُوا منهم
العَفْوَ، فَأَبَوْا.
فَقَضَى
بَيْنَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ بالقِصَاصِ،
فَقَالَ أنسُ بنُ النَّضْرِ: أَتُكْسَرُ ثَنِيَّةُ الرُّبَيِّعِ؟!
وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالحَقِّ لا تُكْسَرُ ثَنِيَّتُهَا.
فَرَضِيَ القَومُ وَأَخَذُوا الأَرْشَ، فَقَالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ مِنْ عِبَادِ اللَّهِ مَنْ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُ)).
وفِي (صَحِيحِ الْحَاكِمِ): عنْ أنسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((كَمْ مِنْ ضَعِيفٍ مُتَضَعَّفٍ ذِي طِمْرَيْنِ لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُ، مِنْهُمُ الْبَرَاءُ بْنُ مَالِكٍ)).
وَرَوَى أبو نُعَيْمٍ بِإِسْنَادِهِ عنْ سعدٍ، أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ جَحْشٍ قالَ يومَ أُحُدٍ: يَا رَبِّ، إِذَا لَقِيتُ الْعَدُوَّ غَدًا فلَقِّنِي رجل شدِيدًا بَأْسُهُ، شدِيدًا حرَدُهُ، أُقاتلُه فيكَ ويُقاتلُنِي، ثمَّ يأْخُذُنِي فيَجْدَعُ أنْفِي وأُذُنِي، فإِذَا لقِيتُكَ غدًا قلْتَ: يا عبْدَ اللَّه منْ جدَعَ أنْفَكَ وأُذُنَكَ؟ فأقولُ: فيكَ وفِي رَسُولِكَ، فَتَقُولُ: صَدَقْتَ.
ونازَعَت
امْرَأةٌ سعيدَ بن زَيْدٍ في أرْضٍ لهُ، فَادَّعَتْ أنَّهُ أَخَذَ منها
أَرْضَهَا، فَقَالَ: اللَّهُمَّ إنْ كانتْ كَاذِبَةً فَأَعْمِ بَصَرَهَا،
وَاقْتُلْهَا في أَرْضِهَا.
فَعَمِيَتْ، وَبَيْنَا هيَ ذاتَ ليلةٍ تَمْشِي في أَرْضِهَا إذْ وقَعَتْ فِي بِئْرٍ فيها، فَمَاتَتْ.
وكانَ
العَلاءُ بنُ الحَضْرَمِيِّ في سَرِيَّةٍ، فَعَطِشُوا، فَصَلَّى فَقَالَ:
اللَّهُمَّ يَا عَلِيمُ يَا حَلِيمُ، يا عَلِيُّ يا عَظِيمُ، إنَّا
عَبِيدُكَ وَفِي سَبِيلِكَ نُقَاتِلُ عَدُوَّكَ، فَاسْقِنَا غَيْثًا
نَشْرَبُ منْهُ وَنَتَوَضَّأُ، وَلا تَجْعَلْ لأَِحَدٍ فيهِ نَصِيبًا
غَيْرَنَا.
فَسَارُوا قَلِيلاً، فَوَجَدُوا نَهَرًا منْ ماءِ السماءِ يَتَدَفَّقُ، فَشَرِبُوا وَمَلأَُوا أَوْعِيَتَهُمْ، ثُمَّ سَارُوا.
فَرَجَعَ بَعْضُ أَصْحَابِهِ إلى مَوْضِعِ النهرِ، فَلَمْ يَرَ شَيْئًا، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي مَوْضِعِهِ مَاءٌ قطُّ.
وشُكِيَ إلى أَنَسِ بنِ مَالِك عَطَشُ أَرْضٍ لهُ بالبصرةِ، فَتَوَضَّأَ وَخَرَجَ إلى البرِّيَّةِ، وَصَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَدَعَا.
فَجَاءَ المَطَرُ فَسَقَى أَرْضَهُ، ولمْ يُجَاوِز المَطَرُ أَرْضَهُ إلا يَسِيرًا.
واحْتَرَقَتْ
خِصَاصٌ بالبصرةِ في زمنِ أبي موسَى الأَشْعَرِيِّ، وَبَقِيَ في وَسَطِهَا
خُصٌّ لَمْ يَحْتَرِقْ، فَقَالَ أبو مُوسَى لِصَاحِبِ الخُصِّ: مَا بَالُ
خُصِّكَ لَمْ يَحْتَرِقْ؟ فَقَالَ: إِنِّي أَقْسَمْتُ عَلَى رَبِّي أَنْ لا
يُحْرِقَهُ، فَقَالَ أَبُو مُوسَى: إنِّي سَمِعْتُ رسولَ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ((فِي أُمَّتِي رِجَالٌ طُلْسٌ رُءُوسُهُمْ، دُنْسٌ ثِيَابُهُمْ، لَوْ أَقْسَمُوا عَلَى اللَّهِ لأََبَرَّهُمْ)).
وكانَ أبو
مسلمٍ الخَوْلانِيُّ مَشْهُورًا بإجابةِ الدعوةِ، فكانَ يَمُرُّ بهِ
الظَّبْيُ، فَيَقُولُ لهُ الصِّبْيَانُ: ادْعُ اللَّهَ لَنَا يَحْبِسْ
عَلَيْنَا هذا الظَّبْيَ، فَيَدْعُو اللَّهَ، فَيَحْبِسُهُ حتَّى
يَأْخُذُوهُ بِأَيْدِيهِمْ.
فَخَرَّ الرَّجُلُ مِنْ قَامَتِهِ، فَمَا حُمِلَ إلَى أَهْلِهِ إلا مَيِّتًا على سَرِيرِهِ).
وكانَ
صِلَةُ بنُ أَشْيَمَ فِي سَريَّةٍ، فَذَهَبَتْ بَغْلَتُهُ بِثَقَلِهَا،
وَارْتَحَلَ النَّاسُ، فَقَامَ يُصَلِّي وَقَالَ: اللَّهُمَّ إِنِّي
أُقْسِمُ عَلَيْكَ أَنْ تَرُدَّ عَلَيَّ بَغْلَتِي وَثَقَلَهَا، فَجَاءَتْ
حَتَّى قَامَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ.
وَكَانَ
مرَّةً فِي بَرِّيَّةٍ قَفْرٍ، فَجَاعَ، فَاسْتَطْعَمَ اللَّهَ، فَسَمِعَ
وَجْبَةً خَلْفَهُ، فَإِذَا هُوَ بِثَوْبٍ أوْ مِنْدِيلٍ فيهِ دَوْخَلةُ
رُطَبٍ طَرِيٍّ، فَأَكَلَ مِنْهُ، وَبَقِيَ الثَّوْبُ عِنْدَ امْرَأَتِهِ
مُعَاذَةَ الْعَدَوِيَّةِ، وَكَانَتْ مِن الصَّالِحَاتِ.
وكانَ
مُحَمَّدُ بنُ الْمُنْكَدِرِ في غَزَاةٍ، فقالَ لهُ رجلٌ منْ رُفَقَائِهِ:
أَشْتَهِي جبْنًا رَطِبًا، فقالَ ابنُ المنكدرِ: (اسْتَطْعِمُوا اللَّهَ
يُطْعِمْكُمْ؛ فَإِنَّهُ القَادِرُ).
فَدَعَا القومُ، فَلَمْ يَسِيرُوا إلا قَلِيلاً حتَّى رَأَوْا مِكْتَلاً مَخِيطًا، فَإِذَا هوَ جبْنٌ رَطِبٌ.
فقالَ
بعضُ القومِ: لوْ كانَ عَسَلاً، فقالَ ابنُ المُنْكَدِرِ: إنَّ الَّذِي
أَطْعَمَكُمْ جُبْنًا هَا هُنَا قَادِرٌ على أنْ يُطْعِمَكُم عَسَلاً؛
فَاسْتَطْعِمُوهُ.
فَدَعَوْا، فَسَارُوا قَلِيلاً، فَوَجَدُوا ظَرْفَ عَسَلٍ على الطريقِ، فَنَزَلُوا فَأَكَلُوا.
وَكَانَ
حَبِيبٌ الْعَجَمِيُّ أَبُو مُحَمَّدٍ مَعْرُوفًا بِإِجَابَةِ الدعوةِ،
دَعَا لغُلامٍ أَقْرَعَ الرأسِ، وَجَعَلَ يَبْكِي وَيَمْسَحُ بِدُمُوعِهِ
رَأْسَ الغُلامِ، فَمَا قَامَ حتَّى اسْوَدَّ شَعْرُ رَأْسِهِ، وَعَادَ
كَأَحْسَنِ النَّاسِ شَعْرًا.
وَأُتِيَ
بِرَجُلٍ زَمِنٍ في مَحْمَلٍ، فَدَعَا لهُ، فَقَامَ الرجلُ على
رِجْلَيْهِ، فَحَمَلَ مَحْمَلَهُ على عُنُقِهِ، وَرَجَعَ إلى عِيَالِه.
واشْتَرَى
في مَجَاعَةٍ طَعَامًا كَثِيرًا، فَتَصَدَّقَ بهِ على المساكِينِ، ثُمَّ
خَاطَ أَكْيِسَةً فَوَضَعَهَا تَحْتَ فِرَاشِهِ، ثمَّ دَعَا اللَّهَ،
فَجَاءَهُ أَصْحَابُ الطَّعامِ يَطْلُبُونَ ثَمَنَهُ، فَأَخْرَجَ تلكَ
الأكيسةَ، فإذا هيَ مَمْلُوءَةٌ دَرَاهِمَ، فَوَزَنَهَا، فإذا هيَ قَدْرُ
حُقُوقِهِمْ، فَدَفَعَهَا إِلَيْهِمْ.
وَكَانَ رَجُلٌ يَعْبَثُ بهِ كَثِيرًا، فَدَعَا عليهِ حَبِيبٌ فَبَرِصَ.
وكانَ
مَرَّةً عِنْدَ مَالِكِ بنِ دِينَارٍ، فَجَاءَهُ رجلٌ فَأَغْلَظَ
لِمَالِكٍ مِنْ أجْلِ دَرَاهِمَ قَسَّمَهَا مَالِك، فَلَمَّا طَالَ ذلكَ
منْ أَمْرِهِ رَفَعَ حَبِيبٌ يَدَيْهِ إِلَى السَّماءِ فَقَالَ: اللَّهُمَّ
إِنَّ هذا قدْ شَغَلَنَا عنْ ذِكْرِكَ، فَأَرِحْنَا منهُ كيفَ شِئْتَ،
فَسَقَطَ الرَّجُلُ على وَجْهِهِ مَيِّتًا.
وَخَرَجَ
قومٌ في غَزاةٍ في سبيلِ اللَّهِ، وكانَ لِبَعْضِهِمْ حِمَارٌ فَمَاتَ،
وَارْتَحَلَ أَصْحَابُهُ، فَقَامَ فَتَوَضَّأَ وَصَلَّى وقالَ: اللَّهُمَّ
إِنِّي خَرَجْتُ مُجَاهِدًا في سَبِيلِكَ وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِكَ،
وَأَشْهَدُ أَنَّكَ تُحْيِي المَوْتَى، وَتَبْعَثُ مَنْ في القبورِ،
فَأَحيِ لِي حِمَارِي.
ثمَّ
قامَ إلى الحمارِ فَضَرَبَهُ، فَقَامَ الحِمَارُ يَنْفُضُ أُذُنَيْهِ،
فَرَكِبَه وَلَحِقَ أَصْحَابَهُ، ثمَّ بَاعَ الحِمَارَ بَعْدَ ذلكَ
بالكُوفَةِ.
وَخَرَجَتْ
سَرِيَّةٌ في سبيلِ اللَّهِ، فَأَصَابَهُم بَرْدٌ شَدِيدٌ حتَّى كَادُوا
أنْ يَهْلِكُوا، فَدَعَوا اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وإلى جَانِبِهِم شَجَرَةٌ
عَظِيمَةٌ، فإذا هيَ تَلْتَهِبُ نَارًا، فَجَفَّفُوا ثِيَابَهُم،
وَدَفِئُوا بها حتَّى طَلَعَت الشمسُ عليهم، فانْصَرَفُوا، وَرُدَّت
الشجرةُ على هَيْئَتِهَا.
وَخَرجَ
أبو قِلابةَ [صَائِمًا] حَاجًّا، فتَقَدَّمَ أَصْحَابَهُ في يَوْمٍ
صَائِفٍ، فَأَصَابَه عَطَشٌ شَدِيدٌ، فقالَ: اللَّهُمَّ إِنَّكَ قَادِرٌ
على أنْ تُذْهِبَ عَطَشِي مِنْ غيرِ فِطْرٍ، فَأَظَلَّتْهُ سَحَابَةٌ،
فَأَمْطَرَتْ عليهِ حتَّى بَلَّتْ ثَوْبَه، وَذَهَبَ العطش عنهُ، فَنَزَلَ
فَحَوَّضَ حِيَاضًا فَمَلأََهَا، فَانْتَهَى إليهِ أَصْحَابُهُ فَشَرِبُوا،
وَمَا أَصَابَ أَصْحَابُه مِنْ ذلكَ المَطَرِ شَيْءٌ.
ومِثْلُ هذا كَثِيرٌ جِدًّا، وَيَطُولُ اسْتِقْصَاؤُهُ.
وَأَكْثَرُ
مَنْ كانَ مُجَابَ الدعوةِ من السلفِ كانَ يَصْبِرُ على البلاءِ،
ويَخْتَارُ ثَوَابَه، ولا يَدْعُو لِنَفْسِهِ بالفَرَجِ منهُ.
وقدْ
رُوِيَ أنَّ سَعْدَ بْنَ أَبِي وَقَّاصٍ كانَ يَدْعُو للناسِ
لِمَعْرِفَتِهِم بإجابةِ دَعْوَتِهِ، فقيلَ لهُ: لوْ دَعَوْتَ اللَّهَ
لِبَصَرِكَ، وكانَ قدْ أُضِرَّ، فقالَ: قَضَاءُ اللَّهِ أَحَبُّ إِلَيَّ
منْ بَصَرِي.
وابْتُلِيَ
بَعْضُهم بالجُذَامِ، فقيلَ لهُ: بَلَغَنَا أَنَّكَ تَعْرِفُ اسمَ اللَّهِ
الأعظمَ، فلوْ سَأَلْتَهُ أنْ يَكْشِفَ ما بِكَ؟ فقالَ: يا ابنَ أَخِي،
إنَّهُ هوَ الذي ابْتَلانِي، وَأَنَا أَكْرَهُ أَنْ أُرَادَّهُ.
وقيلَ
لإبراهيمَ التَّيْمِيِّ، وهوَ في سِجْنِ الحَجَّاجِ: لوْ دَعَوْتَ اللَّهَ
تَعَالَى، فقالَ: أَكْرَهُ أنْ أَدْعُوَهُ أنْ يُفَرِّجَ عَنِّي مَا لِي
فيهِ أَجْرٌ.
وكذلكَ
سَعِيدُ بنُ جُبَيْرٍ صَبَرَ على أَذَى الحَجَّاجِ حَتَّى قَتَلَهُ، وكانَ
مُجَابَ الدَّعْوَةِ، كانَ لهُ دِيكٌ يَقُومُ باللَّيْلِ بِصِيَاحِهِ
للصلاةِ، فلمْ يَصِحْ لَيْلَةً في وَقْتِهِ، فلمْ يَقُمْ سَعِيدٌ للصلاةِ،
فَشَقَّ عليهِ فقالَ: ما لَهُ؟ قَطَعَ اللَّهُ صَوْتَهُ.
فَمَا صَاحَ الدِّيكُ بعدَ ذلكَ، فقَالَتْ لهُ أُمُّهُ: يَا بُنَيَّ، لا تَدْعُ بَعْدَ هذا على شَيْءٍ.
وذُكِرَ
لرابعةَ رَجُلٌ لَهُ مَنْزِلَةٌ عندَ اللَّهِ، وهوَ يَقْتَاتُ مِمَّا
يَلْتَقِطُهُ مِن المَنْبُوذَاتِ على المَزَابِلِ، فقالَ رجلٌ: ما ضَرَّ
هذا أنْ يَدْعُوَ اللَّهَ أنْ يُغنِيَهُ عنْ هذا؟ فَقَالَتْ رَابِعَةُ:
إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ إِذَا قُضِيَ لهم قَضَاءٌ لمْ يَتَسَخَّطُوهُ.
وكانَ حَيْوَةُ بنُ شُرَيْحٍ ضَيِّقَ العَيْشِ جِدًّا، فقيلَ لهُ: لوْ دَعَوْتَ اللَّهَ أنْ يُوَسِّعَ عَلَيْكَ.
فَأَخَذَ
حَصَاةً من الأرضِ فقالَ: اللَّهُمَّ اجْعَلْهَا ذَهَبًا، فَصَارَتْ
تِبْرَةً في كَفِّهِ، وقالَ: مَا خَيْرٌ في الدُّنيا إلا الآخرةُ، ثمَّ
قالَ: هوَ أَعْلَمُ بِمَا يُصْلحُ عبادَهُ.
ورُبَّمَا
دَعَا المؤمنُ المُجَابُ الدعوةِ بِمَا يَعْلَمُ اللَّهُ الخِيَرَةَ لهُ
في غيرِهِ، فَلا يُجِيبُهُ إلى سُؤَالِهِ، وَيُعَوِّضُهُ عنهُ ما هوَ خيرٌ
لهُ؛ إمَّا في الدنيا أوْ في الآخرةِ.
وقدْ تَقَدَّمَ في حديثِ أنسٍ المرفوعِ: ((إِنَّ
اللَّهَ يَقُولُ: إِنَّ مِنْ عِبَادِي مَنْ يَسْأَلُنِي بَابًا مِنَ
الْعِبَادَةِ، فَأَكُفُّهُ عَنْهُ كَيْلا يَدْخُلهُ الْعُجْبُ)).
وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ منْ حديثِ سالمِ بن أبي الجَعْدِ، عنْ ثَوْبَانَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَوْ جَاءَ أَحَدَكُمْ يَسْأَلُهُ دِينَارًا لَمْ
يُعْطِهِ، وَلَوْ سَأَلَهُ دِرْهَمًا لَمْ يُعْطِهِ، وَلَوْ سَأَلَهُ
فِلْسًا لَمْ يُعْطِهِ، وَلَوْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ لأََعْطَاهُ
إِيَّاهَا، ذُو طِمْرَيْنِ لا يُؤْبَهُ لَهُ، لَوْ أَقْسَمَ عَلَى اللَّهِ
لأََبَرَّهُ)). وَخَرَّجَهُ غيرُهُ منْ حديثِ سالمٍ مُرْسَلاً، وَزَادَ فيهِ: ((وَلَوْ سَأَلَ اللَّهَ شَيْئًا مِنَ الدُّنْيَا مَا أَعْطَاهُ اللَّهُ تَكْرُمَةً لَهُ)).
قالَتْ: وَجَعَلَ يَقُولُ:((لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ، إِنَّ لِلْمَوْتِ لَسَكَرَاتٍ)).
وكانَ
بَعْضُهُم جالسًا معَ أصحابِهِ فَسَمِعُوا صَوْتًا يقولُ: يَا فُلانُ
أَجِبْ، فهذهِ واللَّهِ آخِرُ سَاعَاتِكَ مِن الدُّنْيَا، فَوَثَبَ وقالَ:
هذا واللَّهِ حَادِي المَوْتِ، فَوَدَّعَ أَصْحَابَهُ وَسَلَّمَ
عَلَيْهِمْ، ثمَّ انْطَلَقَ نحوَ الصوتِ وهوَ يقولُ: سَلامٌ على
المُرْسَلِينَ، والحمدُ للَّهِ رَبِّ العالمينَ.
ثمَّ انْقَطَعَ عنهم الصوتُ، فَتَتَبَّعُوا أَثَرَهُ فَوَجَدُوهُ مَيِّتًا.
وكانَ
بَعْضُهُم جَالِسًا يَكْتُبُ فِي مُصْحَفٍ، فَوَضَعَ القَلَمَ منْ يَدِهِ
وقالَ: إنْ كانَ مَوْتُكُمْ هكَذَا، فواللَّهِ إنَّهُ لَمَوْتٌ طَيِّبٌ،
ثمَّ سَقَطَ مَيِّتًا.
وَكَانَ آخَرُ جَالِسًا يَكْتُبُ الْحَدِيثَ، فَوَضَعَ الْقَلَمَ منْ يَدِهِ وَرَفَعَ يَدَيْهِ يَدْعُواللَّهَ ، فَمَاتَ.
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ:
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((إن
الله تعالى قال: من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب، وما تقرب إلي عبدي
بشيء أحب إلي مما افترضته عليه، ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى
أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي
يبطش بها، ورجله التي يمشي بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني
لأعيذنه)) رواه البخاري.
الشيخ: وإيذانه بالحرْب معناهُ: أنَّهُ أُعلِم وأُنْذِرَ بأنّهُ سيعاقب من الله -جل وعلا، إذْ حرْبُ الله جل وعلا: إيصالُ عذابه ونَكالهِ لعباده. قال: ((حتى أُحبَّه))
وهذا يدل على أنَّ محبَّة الله -جل وعلا- تُجلبُ بالسَّعي في طاعته بأداء
النوافل والسَّعي فيها بعد أداء الفرائض والتقرب إلى الله -جل وعلا- بها.
هذا حديثٌ عظيم، قال فيه -عليه الصلاة والسلام-: (إن الله تعالى قال): فهو حديث قدسي.
((من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب)) (عادى) يعني: اتخذ الولي عدوًّا، وهذا معناهُ أنّهُ أبغضهُ.
قال العلماء: (إنْ أبغض الولي لما هو عليه من الدين فهذا ظاهرٌ دخوله في الحديث).
وأمّا
إن عاداهُ لأجْل الدنيا وحَصَل بينه وبينه خصومات لأجل الدنيا، فهذا فيه
تفصيل: إن صار مع الخصومات بغضاء وكُرْهٌ فإنَّه يُخشى عليه أن يَدخُلَ في
هذا الحديث.
وأمَّا
إن كانت الخصومات بدون بغضاء، فإنه لا يدخل في هذا الحديث، يعني لا يكون
مؤذناً بالحرْب، وذلك لأنَّ سادات الأولياء من هذه الأمة قد وقعت بينهم
خصومات؛ فتخاصَمَ عمر وأبو بكر في عِدَّة مجالس، وتخاصَمَ العبّاسوعلي
وحَصَل بينهم خُصومة وترافعا إلى القاضِي، وهكذا في عددٍ من الأحوال،
فوُقوع الخُصومةِ بلا بغضاء لولي من أولياء الله -جل وعلا- لا يدخل في هذا
الحديث وأمّا إذا أبغض ولياً من أولياء الله جل وعلا فإنهُ مؤذن بالحرب،
يعني قد آذنهُ الله جل وعلا بحرْبٍ من عندهِ.
قال: ((من عادى لي وليًّا))
والولي عند أهل السنة والجماعة عرَّفه بعض العلماء-: بأنه (كلُّ مؤمنٍ
تقيٍّ ليس بنبيّ)، هذا الولي في الاصطلاح عند أهل السنة والجماعة.
يعني
أن الولي كل من عنده إيمان وتقوى، والإيمان والتقوى تتفاضل، فتكون الوَلاية
يعني: محبة الله جل وعلا لعبدهِ ونصرته لعبدهِ، تكون تلك الولاية
متفاضلةً.
وإنما يُقصَدُ بالولي:
من كمَّل بحسب استطاعته الإيمان والتقوى، وغلب عليه في أحواله الإيمان والتقوى، وذلك لقول الله جل وعلا: {ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون الذين آمنوا وكانوا يتقون}
فجعل الأولياء هم المؤمنين المتقين، إذاً فمن عادى مؤمناً متقياً قد سعى
في تكميل إيمانه وتقواه بحسب قدرته ولم يُعرف عنه ما يخدشُ كمال إيمانه
وكمال تقواهُ؛ فإنّه مُؤْذنٌ بحرْبٍ من الله، يعني: مُعْلَمٌ ومهددٌ بإيصال
عقوبة الله -جل وعلا- له؛ لأنَّ هذا الولي محبوبٌ لله -جل وعلا-، منصورٌ
من الله -جل وعلا-، والواجب أن تُحبَّ المرءَ لمحبة الله -جل وعلا- له.
قال: ((وما تقرب إلي عبدي بشيء أحبَّ إلي مما افترضته عليه)): يعني
أنَّ أحبَّ القُرباتِ إلى الله جلّ وعلا أن يتقرَّب العبد بالفرائض،
الصلوات الخمس حيث تُصلَّى وتقام، الزكاة المفروضة، الصيام المفروض، الحج
المفروض، الأمور الواجبة، كلُّ أمرٍ افترضه الله جل وعلا عليك، فالتقرُّبُ
إليه به هو أحبُّ الأشياء إليه جل وعلا، وهذا خِلاف ما يأتي لبعض النفوس في
أنهم يحصُل عندهم خشوع وتذلل في النوافل ما لا يحصُل في الفرائض، بل
ويرجون بالنوافل ما لا يرجون بالفرائض، وهذا خِلاف العلم، والله جل جلاله
-كما جاء في هذا الحديث القدسي- أحب ما يُتقرب إليه به ما افترضه سبحانه،
فافترض الله جل وعلا الفرائض بأنه يحب أن يُتعبد بها.
قال: ((ولا يزال عبدي يتقربُ إليّ بالنوافل حتى أُحِبَّه)): يعني لا يزال يتقرب بالنوافل -نوافل العبادات- بعد الفرائض حتى يُحبَّهُ اللهُ جل وعلا.
وهذا يعني أنه صارت له كثرةُ النوافل وصْفاً بحيث كثر منه إتيانهُ بنوافلِ العبادات من صلاة وصيام وصدقات وحج وعمرة وأشباه ذلك.
قال: ((فإذا أحببته)) لمحبَّة الله -جل وعلا- لعبده أثر، فما هذا الأثر؟
قال: ((فإذا أحببته كنت سمعهُ الذي يسمع به وبصرهُ الذي يُبصرُ به…)) إلخ،
هذا فسَّره علماء الحديث وعلماء السنة بقولهم أوفقُه وأُسددُه في سمعه وفي
بَصره وفيما يعملُ بيده وفيما يمشي إليه برجله، فمعنى قوله: (كنت سمعه)
يعني: أوفقه في سمعه، وهذا ليس من التأويل لأنّ القاطع الشرعي النصي أنّ
الله -جل وعلا- لا يكون بذاته سمعاً ولا يكون بذاته بصراً ولا يكون بذاته
يداً ولا يكون بذاته رجْلاً جل وعلا وتقدس وتعاظم ربنا، فدلَّ هذا القاطع
الشرعي على أنَّ قوله: (كُنْتُ سمعه الذي يسمع به)
يعني أنَّهُ يُوَفَّقُ في سمعه ويُسدَّدُ؛ فلا يسمع إلا ما يُحب الله -جل
وعلا- أن يُسمَع، ولا يُبْصِرُ إلا ما يحب الله -جل وعلا- أن يُبصر، ولا
يعملُ بيده ولا يبطش بيده إلا بما يُحبُ الله -جل وعلا- أن يعمل باليد أو
أن يُبطَش بها، وكذلك في الرِّجْل التي يمشي بها، وغلاةُ الصوفية استدلوا
بهذا على مسألة الحلول، وهناك رواية موضوعة زادوها في هذا الحديث بعد قوله:
(ورجله التي يمشي بها)، قال: [وحتى يقول للشيء
كُن فيكون]. وهذا من جرّاء عقيدة الحلول، وهذه مروية؛ لكنها بأسانيد منكرة
حكم عليها طائفة من أهل العلم بالوضع.
قال: ((ولئن سألني لأعطينه ولئن استعاذني لأعيذنه)) يعني: والله لئن سألني لأعطينه؛ لأن اللام في قوله: (لئن) هذه الواقعة في جواب القسم، ويكون قبلها قسم، ((لئن سألني لأعطينه)) يعني: والله لئن سألني لأعطينه ما سأل يعني: أنه يكون مُجاب الدعوة، و((لئن استعاذني لأعيذنه)) وهذا فرع من الجملة قبلها. جعلنا الله وإياكم من خاصة عباده وأوليائه.
الكشاف التحليلي
حديث أبي هريرة رضي الله عنه -مرفوعاً-: (إن الله تعالى قال: من عادى لي ولياً...)
تخريج الحديث
منزلة الحديث
قيل: هو أَشْرَفُ حَدِيثٍ رُوِيَ في ذِكْرِ الأَوْلِيَاءِ
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قوله تعالى: (مَنْ عَادَىَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْب)
بيان معنى (المعاداة)
بيان ما يفيده تقديم كلمة: (لي)
بيان معنى (الولي)
بم تنال ولاية الله تعالى؟
من جمع بين الإيمان والتقوى فهو من أولياء الله
درجات الأولياء:
الدرجة الأولى: السابقون بالخيرات، وهم المقربون
المقربون هم الذين يتقربون إلى الله تعالى بالنوافل بعد الفرائض
الدرجة الثانية: المقتصدون، وهم الأبرار
المقتصدون هم الذين يتقربون إلى الله تعالى بأداء الفرائض
أنواع معاداة الأولياء:
النوع الأول: معاداتهم لأجل دينهم
النوع الثاني: معاداتهم من أجل الدنيا
المراد بالإيذان بالحرب
جميع المعاصي محاربة لله تعالى كلما كان الذنب أعظم كانت المحاربة أشد
الواجب تجاه أولياء الله
شرح قوله تعالى: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)
معنى التقرب
تفاضل القربات
فضل الفرائض
تفاضل الفرائض
أعظم الفرائض البدنية: الصلاة
تفاضل محبوبات الله تعالى
ذكر بعض القربات:
- العدل
- خفض الجناح للمؤمنين
- الجهاد في سبيل الله
ما تفيده الإضافة في قوله: (عبدي)
شرح قوله تعالى: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)
بيان معنى (النوافل)
ذكر بعض النوافل
ما يفيده قوله: (ولا يزال...) من مداومة التقرب إلى الله تعالى
تفسير قول الله تعالى: {فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه}
الكلام على منزلة المحبة
دوافع محبة العبد لربه جل وعلا
آثار عن السلف في فضل محبة الله تعالى
آثار منزلة المحبة
المحبة من أعظم الدوافع للعمل
تدفع الملل والسآمة
من أعظم القربات
ذكر بعض أسباب المحبة
الدعاء
ذكر بعض الأدعية المأثورة في هذا الباب
تلاوة القرآن
لا شيء أحلى عند المحب من كلام محبوبه
كثرة ذكر الله عزوجل
أفضل الذكر ما تواطأ عليه القلب واللسان
تحقيق الولاء والبراء
بيان أسباب محبة الله تعالى
ذكر بعض آثار محبة الله تعالى للعبد
شرح قوله تعالى: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به...)
معنى قوله تعالى: (فإذا أحببته)
معنى قوله تعالى: (كنت سمعه الذي يسمع به)
تفسره الرواية الأخرى: (فبي يسمع وبي يبصر)
معناه: التوفيق والسداد في سمعه وبصره وسائر تصرفاته
معنى قوله تعالى: (وبصره الذي يبصر به)
معنى قوله: (ويده التي يبطش بها)
معنى قوله تعالى: (ورجله التي يمشي بها)
منهج أهل السنة والجماعة في فهم هذا الحديث
الرد على من فهم من الحديث الحلول أو الاتحاد
شرح قوله تعالى: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)
التقرب إلى الله تعالى بالأعمال الصالحة من أعظم أسباب إجابة الدعاء
أمثلة لسرعة استجابة الله تعالى لبعض السلف
ذكر بعض دعوات السلف المستجابة:
- دعوة سعد بن أبي وقاص على من ظلمه رياء
- دعوة سعيد بن زيد على المرأة التي ادعت أنه ظلمها
- دعوة عبد الله بن جحش يوم أحد
- استسقاء العلاء بن الحضرمي لسريته
- دعوة أنس بن مالك لأرض له عطشت
- دعوة أبي مسلم الخولاني على من خببت عليه امرأته
- دعوة مطرف بن عبد الله على من كذب عليه
- دعوة الحسن البصري على الخارجي
ذكر بعض إقسامات الأولياء على ربهم جل وعلا:
- إقسام أنس بن النضر ألا تكسر ثنية الربيع
- إقسام البراء بن مالك أن يُفتح للمسلمين ويستشهد
- إقسام النعمان بن قوقل أن يقتل في أحد
- إقسام صاحب الخص زمن أبي موسى الأشعري أن لا يحترق خصه
- إقسام صلة بن أشيم أن يرد الله عليه بغلته
اختيار كثير من مجابي الدعوة الصبر على البلاء على سؤال الله تعالى التعجيل بالفرج
ذكر بعض أخبار السلف في اختيار الصبر على البلاء
عدم إعطاء الداعي ما سأل لا يعني عدم إجابة دعائه
شرح قوله تعالى: (وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن)
بيان معنى (التردد)
أنواع التردد:
النوع الأول: تردد سببه الجهل بالعاقبة
تنزيه الله تعالى عن هذا النوع من التردد
النوع الثاني: تردد سببه الرحمة مع العلم
هذا النوع من التردد من صفات الكمال
تعريف الموت
الكلام على سكرات الموت
معنى سكرات الموت
وصف شدة النزع
ذكر بعض ما قاله من عاينوا الموت في وصف النزع
شدة سكرات الموت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
التشديد في النزع على المؤمن من المكفرات
محبة بعض السلف لشدة النزع لأجل تكفير السيئات
كراهة بعض السلف لشدة النزع خشية الفتنة
حال المؤمن عند النزع
الأصل أن يخفف على المؤمن خروج روحه
دلالة الكتاب العزيز على هذا الأصل
دلالة السنة النبوية على هذا الأصل
ذكر بعض أخبار السلف في يسر موتهم
قد يشدد على المسلم عند الموت تكفيراً لسيئاته ورفعة لدرجاته
من فوائد حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
- إثبات القول لله عز وجل
- محبة الله تعالى لأوليائه ونصرته لهم
- التحذير من معاداة أولياء الله تعالى
- الحث على إحسان معاملة المسلمين
- الحَثُّ على التَّقَرُّبِ إِلى اللَّهِ تَعَالَى
- تفاضل القربات
- أداء النوافل بعد الفرائض مِنْ أَسْبَابِ مَحَبَّةِ اللَّهِ تعالى
- محبة الله تعالى لعباده متفاضلة
- حفظ الله تعالى لأوليائه وتوفيقه لهم
- جماع الحاجات: مطلوب يسأل، ومحذور يستعاذ منه
العناصر
حديث أبي هريرة رضي الله عنه -مرفوعاً-: (إن الله تعالى قال: (من عادى لي ولياً...)
تخريج الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
شرح قوله تعالى: (مَنْ عَادَىَ لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْب)
بيان معنى (المعاداة)
بيان معنى (الولي)
درجات الأولياء:
الدرجة الأولى: السابقون بالخيرات، وهم المقربون
الدرجة الثانية: المقتصدون، وهم الأبرار
أنواع معاداة الأولياء:
النوع الأول: معاداتهم لأجل دينهم
النوع الثاني: معاداتهم من أجل الدنيا
المراد بالإيذان بالحرب
جميع المعاصي محاربة لله تعالى
كلما كان الذنب أعظم كانت المحاربة أشد
الواجب تجاه أولياء الله
شرح قوله تعالى: (وما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضته عليه)
تفاضل القربات
فضل الفرائض
أعظم الفرائض البدنية: الصلاة
ذكر بعض القربات
شرح قوله تعالى: (ولا يزال عبدي يتقرب إلي بالنوافل حتى أحبه)
بيان معنى (النوافل)
ذكر بعض النوافل
ما يفيده قوله: (ولا يزال...) من مداومة التقرب إلى الله تعالى
تفسير قول الله تعالى: (فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه)
الكلام على منزلة المحبة
دوافع محبة العبد لربه جل وعلا
آثار عن السلف في فضل محبة الله تعالى
آثار منزلة المحبة
المحبة من أعظم الدوافع للعمل
تدفع الملل والسآمة
من أعظم القربات
ذكر بعض أسباب المحبة
شرح قوله تعالى: (فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به...)
معنى قوله تعالى: (فإذا أحببته)
معنى قوله تعالى: (كنت سمعه الذي يسمع به)
تفسره الرواية الأخرى: (فبي يسمع وبي يبصر)
معناه: التوفيق والسداد في سمعه وبصره وسائر تصرفاته
معنى قوله تعالى: (وبصره الذي يبصر به)
معنى قوله: (ويده التي يبطش بها)
معنى قوله تعالى: (ورجله التي يمشي بها)
منهج أهل السنة والجماعة في فهم هذا الحديث
الرد على من فهم من الحديث الحلول أو الاتحاد
شرح قوله تعالى: (ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)
أمثلة لسرعة استجابة الله تعالى لبعض السلف
ذكر بعض دعوات السلف المستجابة
ذكر بعض إقسامات الأولياء على ربهم جل وعلا
اختيار كثير من مجابي الدعوة الصبر على البلاء على سؤال الله تعالى التعجيل بالفرج
ذكر بعض أخبار السلف في اختيار الصبر على البلاء
عدم إعطاء الداعي ما سأل لا يعني عدم إجابة دعائه
شرح قوله تعالى: (وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن)
بيان معنى (التردد)
تعريف الموت
معنى سكرات الموت
وصف شدة النزع
شدة سكرات الموت على رسول الله صلى الله عليه وسلم
محبة بعض السلف لشدة النزع لأجل تكفير السيئات
كراهة بعض السلف لشدة النزع خشية الفتنة
من فوائد حديث أبي هريرة رضي الله عنه