30 Oct 2008
ح36: حديث أبي هريرة: (من نفس عن مؤمن كربة...) م
قال أبو زكريا يحيى بن شرف النووي (ت: 676هـ): (
36- عَن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ، عنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَومٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ يَتْلُونَ كِتَابَ اللهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللهُ فِيمَنْ عِنْدَه، وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)). رواه مسلِمٌ بهذا اللفظِ.
شرح الأربعين النووية لفضيلة الشيخ: محمد بن صالح العثيمين
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (
الحديث السادس والثلاثون
عَنْ أَبي هُرَيرَة رضي الله عنه عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم قَالَ:(مَنْ
نَفَّسَ عَنْ مُؤمِن كُربَةً مِن كُرَبِ الدُّنيَا نَفَّسَ اللهُ عَنهُ
كُربَةً مِنْ كرَبِ يَوم القيامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ على مُعسرٍ يَسَّرَ
الله عَلَيهِ في الدُّنيَا والآخِرَة، وَمَنْ سَتَرَ مُسلِمَاً سَتَرَهُ
الله في الدُّنيَا وَالآخِرَة، وَاللهُ في عَونِ العَبدِ مَا كَانَ العَبدُ
في عَونِ أخيهِ، وَمَنْ سَلَكَ طَريقَاً يَلتَمِسُ فيهِ عِلمَاً سَهَّلَ
اللهُ لهُ بِهِ طَريقَاً إِلَى الجَنَّةِ، وَمَا اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ
مِنْ بيوتِ اللهِ يَتلونَ كِتابِ اللهِ وَيتَدارَسونهَ بَينَهُم إِلا
نَزَلَت عَلَيهُم السَّكينَة وَغَشيَتهم الرَّحمَة وحَفَتهُمُ المَلائِكة
وَذَكَرهُم اللهُ فيمَن عِندَهُ،وَمَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ
بهِ نَسَبُهُ)(1) رواه مسلم بهذا اللفظ (1) أخرجه مسلم – كتاب: الذكر والدعاء، باب: فضل الاجتماع على تلاوة القرآن وعلى الذكر، (2699)،(38).
الشرح
قوله: "مَنْ نَفسَ" أي وسع.
"عَنْ مُؤمِنٍ كُربَةً" الكربة ما يكرب الإنسان ويغتم منه ويتضايق منه.
"مِنْ كُربِ الدنيَا" أي من الكرب التي تكون في الدنيا وإن كانت من مسائل الدين، لأن الإنسان قد تصيبه كربة من كرب الدين فينفس عنه.
"نَفَّسَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِنْ كُرَبِ يَومِ القيامَة"
الجزاء من جنس العمل من حيث الجنس، تنفيس وتنفيس، لكن من حيث النوع يختلف
اختلافاً عظيماً، فكرب الدنيا لا تساوي شيئاً بالنسبة لكرب الآخرة، فإذا
نفس الله عن الإنسان كربة من كرب الآخرة كان ثوابه أعظم من عمله.
وقوله: "يَومِ القيامَة" هو الذي تقوم فيه الساعة، وسمي بذلك لثلاثة أمور:
الأول:أن الناس يقومون فيه من قبورهم لله عزّ وجل،قال الله تعالى: (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) [المطففين:6]
الثاني:أنه تقام فيه الأشهاد،كما قال الله تعالى: (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر:51]
الثالث:أنه يقام فيه العدل،لقول الله تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً) [الانبياء: الآية47]
"وَمَنْ يَسَّرَ" أي سهل.
"عَلَى مُعسَر" أي ذي إعسار كما قال الله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة) [البقرة: الآية280]
"يَسَّرَ اللهُ عَلَيهِ في الدُّنيَا وَالآخِرَة" ويشمل هذا التيسير تيسير المال،وتيسير الأعمال، وتيسير التعليم وغير ذلك، أي نوع من أنواع التيسير.
وهنا ذكر الجزاء في موضعين:
الأول:في الدنيا، والثاني:في الآخرة.
"وَمَنْ سَتَرَ مُسلِمَاً" أي أخفى وغطى،ومنه الستارة تخفي الشيء وتغطيه، والمقصود ستر مسلماً ارتكب ما يعاب. إما في المروءة والخلق ،وإما في الدين والعمل، "سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنيَا وَالآخِرَة" .
"وَاللهُ في عَونِ العَبدِ مَا كَانَ العَبدُ في عَونِ أخيهِ" يعني أنك إذا أعنت أخاك كان الله في عونك كما كنت تعين أخاك.
ويرويه بعض العوام: ما دام
العبد في عون أخيه وهذا غلط، لأنك إذا قلت ما دام العبد في عون أخيه صار
عون الله لا يتحقق إلا عند دوام عون الأخ، ولم يُفهم منه أن عون الله للعبد
كعونه لأخيه، فإذا قال: ما دام العبد في عون أخيه عُلم أن عون الله عزّ
وجل كعون الإنسان لأخيه.
وما دام هذا اللفظ هو اللفظ النبوي فلا يعدل عنه.
"وَمَنْ سَلَكَ طَريقَاً" أي دخله ومشى فيه.
"يَلتَمِسُ فيهِ عِلمَاً" أي يطلب علماً.
"سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَريقَاً إِلَى الجَنَّةِ"
يعني سهل الله له هداية التوفيق بالطريق إلى الجنة، والمراد بالعلم هنا
علم الشريعة وما يسانده من علوم العربية والتاريخ وما أشبه ذلك.
أما العلوم الدنيوية المحضة كالهندسة وشبهها فلا تدخل في هذا الحديث، لكن هل هي مطلوبة أو لا؟
يأتي إن شاء الله في الفوائد.
والجنة:
هي الدار التي أعدها الله تعالى لأوليائه المتقين، فيها مالا عين رأت ولا
أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وأوصافها وأوصاف ما فيها من النعيم موجود في
الكتاب والسنة بكثرة.
"وَمَا اجتَمَعَ قَومٌ في بَيتٍ مِنْ بيوتِ اللهِ" ما : نافية بدليل أنها جاء بعدها إلا المثبتة.
وبيوت الله هي المساجد، فإن المساجد هي بيوت الله عزّ وجل،كما قال الله تعالى:
(فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ
يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ* رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ
تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ
الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ
وَالْأَبْصَارُ) [النور:37،36].
"يَتلونَ كِتَابَ الله" أي يقرؤونه لفظاً ومعنى.
أما اللفظ فظاهر،وأما المعنى : فالبحث في معاني القرآن.
"وَيَتَدَارَسونَهُ بَينَهُم" أي يدرس بعضهم على بعض هذا القرآن.
"إِلا نَزَلَت عَلَيهم السَّكينَة" أي طمأنينة القلب وانشراح الصدر.
"وَغَشيَتهم الرَّحمَة" أي غطتهم، والرحمة هنا يعني رحمة الله عزّ وجل.
"وَحَفَّتهُم المَلائِكة" أي أحاطت بهم إكراماً لهم.
"وَذكرهُم اللهُ فيمَن عِنده" أي أن هؤلاء القوم الذين اجتمعوا في المسجد يتدارسون كلام الله عزّ وجل يذكرهم الله فيمن عنده، وهذا كقوله تعالى في الحديث القدسي: "من ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم"(2) فإذا ذكرت الله في ملأ بقراءة القرآن أو غيره فإن الله تعالى يذكرك عند ملأ خير من الملأ الذي أنت فيهم.
وَمَنْ بَطَّأ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرع بِهِ نَسَبُهُ بطأ: بمعنى أخَّر، والمعنى: من أخره العمل لم ينفعه النسب،لقوله تعالى: ( إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ) [الحجرات: الآية13]
من فوائد هذا الحديث:
1-الحث على تنفيس الكرب عن المؤمنين، لقوله: "مَنْ نَفَّس عَنْ مُؤمِن كُربَةً مِن كُرَبِ الدُّنيَا نَفَّسَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِنْ كُرَبِ يَوم القيامَةِ".
وهذا يشمل : كُرَب المال ، وكرب البدن، وكرب الحرب وغيرها فكل كربة تنفس بها عن المؤمن فهي داخلة في هذا الحديث.
2.
أن الجزاء من جنس العمل،تنفيس بتنفيس،وهذا من كمال عدل الله عزّ وجل ولكن
يختلف النوع، لأن الثواب أعظم من العمل، فالحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة
ضعف.
3. إثبات يوم القيامة، لقوله: "نَفّسَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِنْ كُرَبِ يَوم القيامَةِ".
4. أن في يوم القيامة كرباً عظيمة، لكن مع هذا والحمد لله هي على المسلم يسيرة،لقول الله تعالى: ( وَكَانَ يَوْماً عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيراً) [الفرقان: الآية26] وقال الله عزّ وجل: (عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ) [المدثر:10] وقال عزّ وجل:( يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ) [القمر:8] أما المؤمن
فإن الله عزّ وجل ييسره عليه ويخففه عنه والناس درجات، حتى المؤمنون يختلف
يسر هذا اليوم بالنسبة إليهم حسب ما عندهم من الإيمان والعمل الصالح.
5. الحث على التيسير على المعسر،وأنه ييسر عليه في الدنيا والآخرة.
والمعسر تارة يكون معسراً بحق خاص لك، وتارة يكون معسراً بحق لغيرك، والحديث يشمل الأمرين: "مَنْ يَسّرَ على مُعسَرٍ يَسّرَ الله عَلَيهِ" .
لكن إذا كان الحق لك
فالتيسير واجب، وإن كان لغيرك فالتيسير مستحب،مثال ذلك:رجل يطلب شخصاً ألف
ريال،والشخص معسر،فهنا يجب التيسير عليه لقول الله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة) [البقرة:280] ولا يجوز أن تطلبه منه ولا أن تعرض بذلك، ولا أن تطالبه عند القاضي لقوله تعالى: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة) [البقرة: الآية280] ومن
هنا نعرف خطأ أولئك القوم الذين يطلبون المعسرين ويرفعونهم للقضاء
ويطالبون بحبسهم، وأن هؤلاء- والعياذ بالله - قد عصوا الله عزّ وجل ورسوله
فإن الله تعالى يقول: (وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَة) .
فإن قال قائل: ما أكثر أهل الباطل في الوقت الحاضر الذين يدعون الإعسار وليسوا بمعسرين، فصاحب الحق لايثق بادعائهم الإعسار؟
فنقول:نعم، الأمانات اليوم
اختلفت لا شك، وقد يدعي الإعسار من ليس بمعسر، وقد يأتي بالشهود على أنه
معسر،لكن أنت إذا تحققت أو غلب على ظنك أنه معسر وجب عليك الكف عن طلبه
ومطالبته.
أما إذا علمت أن الرجل
صاحب حيلة وأنه موسر لكن ادعى الإعسار من أجل أن يماطل بحقك فهنا لك الحق
أن تطلب وتطالب، هذا بالنسبة للمعسر بحق لك.
أما إذا كان معسراً بحق
لغيرك فإن التيسير عليه سنة وليس بواجب،اللهم إلا أن تخشى أن يُساء إلى هذا
الرجل المعسر ويحبس بغير حق وما أشبه ذلك،فهنا قد نقول بوجوب إنقاذه من
ذلك، ويكون هذا واجباً عليك مادمت قادراً.
6. أن التيسير على المعسر فيه أجران: أجر في الدنيا وأجر في الآخرة.
فإن قال قائل: لماذا لم يذكر الدنيا في الأول: "مَنْ نَفّسَ عَنْ مُؤمِن كُربَةً مِن كُرَبِ الدُنيَا نَفّسَ اللهُ عَنهُ كُربَةً مِنْ كُرَبِ يَوم القيامَةِ" فقط؟
قلنا : الفرق ظاهر، لأن من
نفس الكربة أزالها فقط، لكن الميسر على المعسر فيه زيادة عمل وهو التيسير،
وفرق بين من يرفع الضرر ومن يحدث الخير.
فالميسر محدث للخير وجالب
للتيسير، والمفرج للكربة رافع للكربة فقط، هذا والله أعلم وجه كون الأول لا
يجازى إلا في الآخرة، والثاني يجازى في الدنيا والآخرة.
7. الحث على الستر على المسلم لقوله: "وَمَنْ سَتَرَ مُسلِمَاً سَتَرَهُ الله في الدُّنيَا وَالآخِرَة".
ولكن دلت النصوص على أن هذا مقيد بما إذا كان الستر خيراً، والستر ثلاثة أقسام:
القسم الأول:أن يكون خيراً.
والقسم الثاني: أن يكون شراً.
والقسم الثالث:لا يدرى أيكون خيراً أم شراً.
أما إذا كان خيراً فالستر محمود ومطلوب.
مثاله:رأيت
رجلاً صاحب خلق ودين وهيئة- أي صاحب سمعة حسنة - فرأيته في خطأ وتعلم أن
هذا الرجل قد أتى الخطأ قضاءً وقدراً وأنه نادم، فمثل هذا ستره محمود ،
وستره خير .
الثاني:
إذا كان الستر ضرراً: كالرجل وجدته على معصية، أو على عدوان على الناس
وإذا سترته لم يزدد إلا شراً وطغياناً، فهنا ستره مذموم ويجب أن يكشف أمره
لمن يقوم بتأديبه، إن كانت زوجة فترفع إلى زوجها، وإن كان ولداً فيرفع إلى
أبيه،وإن كان مدرساً يرفع إلى مدير المدرسة، وهلم جرا.
المهم: أن مثل هذا لا يستر ويرفع إلى من يؤدبه على أي وجه كان،لأن مثل هذا إذا ستر- نسأل الله السلامة- ذهب يفعل ما فعل ولم يبال.
الثالث:أن
لا تعلم هل ستره خير أم كشفه هو الخير:فالأصل أن الستر خير،ولهذا يذكر في
الأثر( لأن أخطىء في العفو أحب إليّ من أن أخطىء في العقوبة)(3)
فعلى هذا نقول: إذا ترددت هل الستر خير أم بيان أمره خير، فالستر أولى،
ولكن في هذه الحال تتبع أمره، لا تهمله، لأنه ربما يتبين بعد ذلك أن هذا
الرجل ليس أهلاً للستر.
8.
أن الله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه، ففيه الحث على عون
إخوانه من المسلمين في كل ما يحتاجون إلى العون فيه حتى في تقديم نعليه له
إذا كان يشق على صاحب النعلين أن يقدمهما، وحتى في إركابه السيارة، وحتى في
إدناء فراشه له إذا كان في بَرٍّ أو ما أشبه ذلك.
فباب المعونة واسع، والله تعالى في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه.
9.
علم الله عزّ وجل بأمور الخلق وأنه يعلم من نفس عن مؤمن كربة، ومن يسر على
معسر، ومن ستر مسلماً، ومن أعان مسلماً ، فالله تعالى عليم بذلك كله.
10.
بيان كمال عدل الله عزّ وجل، لأنه جعل الجزاء من جنس العمل، وليتنا نتأدب
بهذا الحديث ونحرص على تفريج الكربات وعلى التيسير على المعسر، وعلى ستر من
يستحق الستر، وعلى معونة من يحتاج إلى معونة، لأن هذه الآداب ليس المراد
بها مجرد أن ننظر فيها وأن نعرفها، بل المراد أن نتخلق بها، فرسول الله صلى
الله عليه وسلم إنما ساقها من أجل أن نتخلق بها، لا يريد منا أن نعلمها
فقط، بل يريد أن نتخلق بها ولذلك كان سلفنا الصالح من الصحابة رضي الله
عنهم والتابعين - رحمهم الله - يتخلقون بالأخلاق التي يعلمهم نبيهم محمد
صلى الله عليه وسلم .
11. الحث على معونة أخيك المسلم، ولكن هذا مقيد بما إذا كان على بر وتقوى،لقول الله تعالى: (وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى)[المائدة: الآية2] أما على غير البر والتقوى فينظر:
إن كان على إثم فحرام،لقوله تعالى: (وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ) [المائدة: الآية2]
وإن كان على شيء مباح فإن كان فيه مصلحة للمعان فهذا من الإحسان،وهو داخل في عموم قول الله تعالى: ( وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة:93] وإن لم يكن فيه مصلحة للمعان فإن معونته إياه أن ينصحه عنه، وأن يقول: تجنب هذا، ولا خير لك فيه.
12. أن الجزاء من جنس العمل، بل الجزاء أفضل، لأنك إذا أعنت أخاك كان الله في عونك، وإذا كان الله في عونك كان الجزاء أكبر من العمل.
13. الحث على سلوك الطرق الموصلة للعلم،وذلك بالترغيب فيما ذكر من ثوابه.
14. الإشارة إلى النية الخالصة، لقوله : "يَلتَمِسُ فيهِ عِلمَاً" أي يطلب العلم للعلم،فإن كان طلبه رياءً وهو مما يبتغى به وجه الله عزّ وجل كان ذلك إثماً عليه.
وما ذكر عن بعض العلماء من
قولهم: ( طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله ) فمرادهم أنهم في
أول طلبهم لم يستحضروا نية كونه لله عزّ وجل ثم فتح الله عليهم ولا يظهر
أنهم أرادوا أنهم طلبوا العلم رياءً، لأن هذا بعيد لا سيما في الصدر الأول.
15. إطلاق الطريق الموصل للعلم، فيشمل الطريق الحسي الذي تطرقه الأقدام، والطريق المعنوي الذي تدركه الأفهام.
الطريق الحسي الذي تطرقه
الأقدام: مثل أن يأتي الإنسان من بيته إلى مدرسته، أو من بيته إلى مسجده،
أو من بيته إلى حلقة علم في أي مكان.
أما الذي تدركه الأفهام: فمثل أن يتلقى العلم من أهل العلم، أو يطالع الكتب،أوأن يستمع إلى الأشرطة وما أشبه ذلك.
16. أن الجزاء من جنس العمل، فكلما سلك الطريق يلتمس فيه العلم سهل الله له به طريقاً إلى الجنة.
17.
أنه ينبغي الإسراع في إدراك العلم وذلك بالجد والاجتهاد، لأن كل إنسان يحب
أن يصل إلى الجنة على وجه السرعة، فإذا كنت تريد هذا فاعمل العمل الذي
يوصل إليها بسرعة.
18. أن الأمور بيد الله عزّ وجل، فبيده التسهيل، وبيده ضده، وإذا آمنت بهذا فلا تطلب التسهيل إلا من الله عزّ وجل.
19. الحث على الاجتماع على كتاب الله عزّ وجل، ثم إذا اجتمعوا فلهم ثلاث حالات:
الحال الأولى:أن
يقرؤوا جميعاً بفم واحد وصوت واحد، وهذا على سبيل التعليم لا بأس به،كما
يقرأ المعلم الآية ثم يتبعه المتعلمون بصوت واحد، وإن كان على سبيل التعبد
فبدعة،لأن ذلك لم يؤثر عن الصحابة ولا عن التابعين.
الحال الثانية:أن يجتمع القوم فيقرأ أحدهم وينصت الآخرون، ثم يقرأ الثاني ثم الثالث ثم الرابع وهلم جراً، وهذا له وجهان:
الوجه الأول:
أن يكرروا المقروء، فيقرأ الأول مثلاً صفحة، ثم يقرأ الثاني نفس الصفحة،
ثم الثالث نفس الصفحة وهكذا، وهذا لا بأس به ولا سيما لحفاظ القرآن الذين
يريدون تثبيت حفظهم.
الوجه الثاني:أن يقرأ الأول قراءة خاصة به أو مشتركة، ثم يقرأ الثاني غير ما قرأ الأول، وهذا أيضاً لا بأس به.
وكان علماؤنا ومشايخنا
يفعلون هذا،فيقرأ مثلاً الأول من البقرة، ويقرأ الثاني الثمن الثاني، ويقرأ
الثالث الثمن الثالث وهلم جراً، فيكون أحدهم قارئاً والآخرون مستمعين،
والمستمع له حكم القارىء في الثواب، ولهذا قال الله عزّ وجل في قصة موسى
وهارون: (قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا ) [يونس: الآية89] والداعي موسى عليه السلام ، كما قال الله تعالى: (وَقَالَ
مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً
وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ
سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى
قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ* قَالَ
قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا)[يونس:88-89] قيل:إن موسى يدعو وهارون يؤمن ، ولهذا شرع للإنسان المستمع لقراءة القارىء إذا سجد القارىء أن يسجد.
الحال الثالثة:أن
يجتمعوا وكل إنسان يقرأ لنفسه دون أن يستمع له الآخرون، وهذه هو الذي عليه
الناس الآن، فتجد الناس في الصف في المسجد كلٌّ يقرأ لنفسه والآخرون لا
يستمعون إليه.
20- إضافة المساجد إلى الله تشريفاً لها لأنها محل ذكره وعبادته.
والمضاف إلى الله عزّ وجل إما صفة، وإما عين قائمة بنفسها، وإما وصف في عين قائمة بنفسها.
الأول الذي من صفات الله عزّ وجل كقدرة الله وعزة الله،وحكمة الله وما أشبه ذلك.
الثاني :العين القائمة
بنفسها مثل: ناقة الله، مساجد الله، بيت الله، فهذا يكون مخلوقاً من
مخلوقات الله عزّ وجل لكن أضافه الله إلى نفسه تشريفاً وتعظيماً.
الثالث:أن يكون عين قائمة بنفسها ولكنها في عين أخرى مثل: روح الله كما قال الله عزّ وجل: ( فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا )[التحريم: الآية12] وقال في آدم: (فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي ) [الحجر: الآية29] فهنا ليس المراد روح الله عزّ وجل نفسه، بل المراد من الأرواح التي خلقها،لكن أضافها إلى نفسه تشريفاً وتعظيماً.
21. أن رحمة الله عزّ وجل تحيط بهؤلاء المجتمعين على كتاب الله، لقوله: "وَغَشيتهم الرَّحمَةُ" أي أحاطت بهم من كل جانب كالغشاء وهو الغطاء يكون على الإنسان.
22. أن حصول هذا الثواب لا يكون إلا إذا اجتمعوا في بيت من بيوت الله، لينالوا بذلك شرف المكان، لأن أفضل البقاع المساجد.
23. تسخير الملائكة لبني آدم، لقوله: "حَفَّتهم المَلائِكة" فإن هذا الحف إكرام لهؤلاء التالين لكتاب الله عزّ وجل.
24. إثبات الملائكة،والملائكة عالم غيبي، كما سبق الكلام عليهم في شرح حديث جبريل عليه السلام.
25. علم الله عزّ وجل بأعمال العباد، لقوله: "وَذَكَرَهُمُ اللهُ فيمَن عِنده" جزاء لذكرهم ربهم عزّ وجل بتلاوة كتابه.
26.
أن الله عزّ وجل يجازي العبد بحسب عمله، فإن هؤلاء القوم لما تذاكروا
بينهم، وكان كل واحد منهم يسمع الآخر،ذكرهم الله فيمن عنده من الملائكة
تنويهاً بهم ورفعة لذكرهم.
وفي الحديث الصحيح أن الله تعالى قال:
"أَنَا عِند ظَنِّ عَبدي بي، وَأَنَا مَعَهُ،إِذَا ذَكَرَني في نَفسِهِ
ذَكَرتهُ في نَفسي،وَإِن ذَكَرَني في مَلأ ذَكَرتهُ في مَلأ خير مِنهُم"(4).
27. أن النسب لا ينفع صاحبه إذا أخره عن صالح الأعمال لقوله: "مَن بطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ" يعني أخَّره "لَم يُسرِع بِهِ نَسَبُهُ".
فإن لم يبطىء به العمل وسارع إلى الخير وسبق إليه، فهل يسرع به النسب؟
فالجواب:لا
شك أن النسب له تأثير وله ميزة، ولهذا نقول : جنس العرب خير من غيرهم من
الأجناس، وبنو هاشم أفضل من غيرهم من قريش،كما جاء في الحديث "إن الله اصطفى من بني إسماعيل كنانة،واصطفى من كنانة قريشاً، واصطفى من قريش بني هاشم،واصطفاني من بني هاشم"(5) وقال "خياركم في الإسلام خياركم في الجاهلية إذا فقهوا"(6).
فالنسب له تأثير ، لذلك
تجد طبائع العرب غير طبائع غيرهم،فهم خير في الفهم، وخير في الجلادة وخير
في الشجاعة وخير في العلم ، لكن إذا أبطأ بهم العمل صاروا شراً من غيرهم.
انظر إلى أبي لهب عم النبي صلى الله عليه وسلم ماذا كانت أحواله؟
كانت أحواله أن الله تعالى أنزل فيه سورة كاملة (تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ* مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ*
سَيَصْلَى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ* فِي
جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ)[المسد:1-5].
28. أنه ينبغي للإنسان أن لا يغتر بنسبه وأن يهتم بعمله الصالح حتى ينال به الدرجات العلى والله الموفق.
___________________________________________________________________
(2)
أخرجه البخاري – كتاب التوحيد، باب: قول الله تعالى: (ويحذركم الله نفسه)،
(7405). ومسلم – كتاب: الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار، باب: الحث على
ذكر الله تعالى،(2675)، (2).
(3)
عن عائشة قالت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" ادرءوا الحدود عن
المسلمين ما استطعتم فإن كان له مخرج فخلوا سبيله، فإن الإمام أن يخطئ في
العفو خير من أن يخطئ في العقوبة" أخرجه الترمذي - كتاب: الحدود، باب: ما
جاء في درء الحدود، (1424). والحاكم في المستدرك – ج4، ص426، كتاب:
الحدود،(8163). والدارقطني في سننه – ج3/ص84،(8). ، والبيهقي في سننه
الكبرى – ج8،ص238، (16834). ورويت العبارة عن عمر بن الخطاب وعبدالله بن
مسعود رضي الله عنهما، ولم أجدها عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه.
(4) سبق تخريجه صفحة (358)
(5) أخرجه مسلم – كتاب: الفضائل، باب: نسب النبي صلى الله عليه وسلم وتسليم الحجر عليه قبل النبوة، (2276)،(1).
(6)
أخرجه البخاري – كتاب: أحاديث الأنبياء، باب: قصة إسحاق بن إبراهيم عليهما
السلام، (3374). ومسلم – كتاب: الفضائل، باب: من فضائل يوسف عليه السلام،
(2378)،(168).
شرح فضيلة الشيخ : محمد حياة السندي
قال الشيخ محمد حياة السندي (ت: 1163هـ): (
الشرح :
عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ -رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ نَفَّسَ))مَنْ أَزالَ بطريقٍ مُبَاحٍ ((عَنْ مُؤْمِنٍ)) وكَذَا مُؤْمِنَةٌ ((كُرْبَةً)): شِدَّةً يَنْبَغِي إِزَالَتُهَا عَنْهُ، ((مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا)) وَكُرَبُهَا أَصْغَرُ وَأَحْقَرُ بالنِّسْبَةِ إلى كُرَبِ الآخرةِ،((نَفَّسَ)) أَزَالَ اللهُ عَنْهُ ((كُرْبَةً)) عَظِيمَةً ((مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ))، إنَّه أَمْرٌ جَزَاؤُهُ التَّنْفِيسُ بالتَّنْفِيسِ جَزَاءً وِفَاقًا. ((وَمَنْ يَسَّرَ)) سَهَّلَ ((عَلى مُعْسِرٍ)) بكلِّ وجهٍ مُبَاحٍ أَمْكَنَ ((يَسَّرَ اللهُ عَلَيْهِ في الدُّنْيا والآخِرَةِ)).
((و مَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا)) عَيْبَهُ الذي يَنْبَغِي، أَوْ عَوْرَتَهُ أَوْ بَدَنَهُ ((سَتَرَهُ اللهُ في الدُّنْيا والآخِرةِ)).
((واللهُ)) القادرُ على كُلِّ شيءٍ ((في عَوْنِ)): إعانةِ العبدِ ((مَا كانَ)) مُدَّةَ كَوْنِ ((العَبْدُ في عَوْنِ أَخِيهِ))
في الإسلامِ، فَكُونُوا في عَوْنِ إِخْوَانِكُمْ لِيَكُونَ اللهُ في
عَوْنِكُمْ، وَعَونُهُ أَعْلَى وَأَجَلُّ، ومَنْ كانَ في عَوْنِهِ
مَوْلاَهُ، كَفَاهُ أَمْرَ دُنْيَاهُ وَأُخْرَاهُ.
((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ)): يَطْلُبُ فيهِ ((عِلْمًا)) شَرْعِيًّا، لِيَنْفَعَ بِهِ نَفْسَهُ وعِبَادَ اللهِ تَعالَى ((سَهَّلَ اللهُ لَهُ بِهِ طَريقًا إلى الجَنَّةِ))
يومَ القيامةِ،فَيَدْخُلُهَا بِالسُّهُولَةِ، أو أَرْشَدَهُ في الدُّنْيَا
إلى سبيلِ الهدايةِ والطَّاعةِ، المُوصِلَتَيْنِ إلى الجنَّةِ.((وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ))مُسْلِمُونَ مُخْلِصُونَ، ((في بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللهِ)) كالمَسَاجِدِ، والمَدَارِسِ وَالرُّبُطِ وَنَحْوِهَا، ((يَتْلُونَ كِتابَ اللهِ)) الجليلِ حَقَّ تِلاَوَتِهِ تَقَرُّبًا إليهِ، ((وَيَتَدَارَسُونَهُ)) وَيَتَذَاكَرُونَ عُلُومَهُ أَوْ يَقْرَأُونَهُ بالمُنَاوَبَةِ ((بيْنَهُمْ إِلاَّ نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ))
مَخْلُوقٌ مِنْ مَخْلُوقَاتِ اللهِ، يَنْزِلُ عَلَى الذَّاكِرِينَ،
يَحْصُلُ بِهِ فِي قُلُوبِهِم السُّكُونُ وَالاطْمِئْنَانُ والحُضُورُ، ((وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ)) الرَّبَّانِيَّةُ، ((وَحَفَّتْهُمْ)) أَحَاطَتْ بِهِمُ ((الْمَلاَئِكَةُ)) المُكَرَّمُونَ تَعْظِيمًا، وَنِعْمَ الإِحَاطَةُ إِحَاطَتُهُم، ((وَذَكَرَهُمُ اللهُ)) الجَلِيلُ ((فِيمَنْ عِنْدَهُ)) مِنَ
الملائِكَةِ الكِرَامِ، بِأَحْسَنِ المَحَامِدِ، ونِعْمَ الذَاكِرُ
وَنِعْمَ المَذْكُورُ، وَلَوْ لَم يَكنْ لِلذَّاكِرينَ جَزَاءٌ إلاَّ هذَا
لَكَفَاهُم شَرَفًا، وكيفَ ولهُمْ مَا تَقَرُّ بِهِ العيونُ.
((ومنِ بَطَّأَ)): قَصَّرَ ((بِهِ عَمَلُهُ)) فتساهَلَ عَنِ الحسنَاتِ، وانهمَكَ في السَّيئاتِ عَن الوصولِ إلى الدرجاتِ التي لا تُنَالُ إلاَّ بالأعمالِ ((لمْ يُسْرِعْ بِهِ)) ويوصِلْهُ ((نَسَبُهُ))
الجليلُ إليها؛ لأَنَّها مراتبُ لا تُحَصَّلُ بالأنسابِ، وإنَّما تُنَالُ
باجتهادٍ في طَاعةِ ربِّ الأربابِ، والعاقلُ مَنْ سابقَ إليهَا بالأعمالِ،
والأحمقُ مَنْ أرادَ وصُولَهُ بمجردِ الآمالِ، قَالَ اللهُ تَعَالَى: {وَتِلْكَ الجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُم تَعْمَلُونَ} [سورة الزخرفِ: 72].
المنن الربانية لفضيلة الشيخ : سعد بن سعيد الحجري
قال الشيخ سعد بن سعيد الحجري (م): (
الحديثُ السادسُ وَالثلاثونَ
عنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، عَن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((مَنْ
نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا نَفَّسَ اللَّهُ
عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى
مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَمَنْ
سَتَرَ مُسْلِماً سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَاللَّهُ
فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ، وَمَنْ
سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْماً سَهَّلَ اللَّهُ بِهِ طَرِيقاً
إِلَى الْجَنَّةِ، وَمَا اجْتَمَعَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ
يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلاَّ
نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ،
وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ، وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ،
وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ)). رَوَاهُ مُسْلِمٌ بهذا اللَّفْظِ. موضوعُ الحديثِ: فَضْلُ قَضَاءِ حوائجِ المسلمينَ. وَهذا التيسيرُ في الدُّنيا لِتَعَسُّرِ بعضِ أُمُورِ الدُّنيا، وَفي الآخرةِ؛ لأنَّ يومَ القيامةِ سُمِّيَ يَوْماً عَسِيراً.
المُفْرَدَاتُ:
(1) ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً)):
التَّنْفِيسُ: هوَ الإِزالةُ وَالتخفيفُ عَن النفسِ، مَأْخُوذٌ مِنْ
تَنْفِيسِ الخِنَاقِ، كأنَّهُ يُرْخِي لهُ الخِنَاقَ حتَّى يَأْخُذَ
نَفَساً.
((عَنْ مُؤْمِنٍ)): أيْ عَنْ صاحبِ إِيمانٍ بِأَرْكَانِ الإِسلامِ وَالإِيمانِ، وَقائِمٍ بالدِّينِ كُلِّهِ. ((كُرْبَةً))؛
أيْ: شِدَّةً عَظِيمَةً تُوقِعُ صَاحِبَهَا في كَرْبٍ، كَأَنْ يكونَ
مَهْمُوماً أَوْ مَغْمُوماً مِنْ أَمْرٍ فَيُنَفِّسُهُ عَلَيْهِ. وَفي هذا:
الجزاءُ مِنْ جِنْسِ العملِ.
((نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)):
أيْ أَزَالَ عنهُ شِدَّةً مِنْ شَدَائِدِ يومِ القيامةِ العظيمةِ؛
كَتَخْفِيفِ التَّضْيِيقِ في القبرِ أَوْ تَخْفِيفِ الحسابِ عَلَيْهِ أَوْ
غيرِ ذلكَ.
وَقالَ: ((مِنْ كُرَبِ يومِ القيامةِ)):
وَلمْ يَقُلْ: مِنْ كُرَبِ الدُّنيا وَالآخرةِ؛ لأنَّ الكُرَبَ هيَ
الشدائدُ، وَأَغْلَبُ ما تَكُونُ في الآخرةِ، وَقدْ لا تَكُونُ في الدُّنيا
على جميعِ الناسِ، بلْ لَرُبَّمَا على البعضِ. وَكُرَبُ الدُّنْيَا
للآخرةِ كَلا شَيْءٍ، فَادُّخِرَتْ لهُ.
(2) ((ومَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ)): يَسَّرَ بِمَعْنَى مَدَّ لهُ في الأَجَلِ، أَوْ عَفَا عنهُ، أَوْ قَضَى دَيْنَهُ، أَوْ طَلَبَ مِنْ غَرِيمِهِ مُسَامَحَتَهُ.
وَالمُعْسِرُ:
هوَ الذي تَعَسَّرَتْ أَحْوَالُهُ حتَّى أَصْبَحَ في عُسْرٍ؛ كَقَلِيلِ
ذاتِ اليدِ كَثِيرِ الدُّيُونِ، فهوَ في ذُلٍّ في النهارِ وَهَمٍّ في
الليلِ.
قَالَ تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسِرَةٍ} [البقرة: 280.
وَفي الحديثِ: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِراً أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلاَّ ظِلُّهُ)).
(3) ((ومَنْ سَتَرَ مُسْلِماً)):
أيْ غَطَّى عُيُوبَهُ وَدَافَعَ عنهُ لعلمِهِ أنَّ كلَّ إِنسانٍ
بِعُيُوبٍ، وَأَنَّ سَتْرَ العَوْرَاتِ وَاجِبٌ، فَجَزَاؤُهُ سَتْرُ
اللَّهِ لهُ في الدُّنيا بعدَ اطِّلاعِ الناسِ على عُيُوبِهِ، وَفي الآخرةِ
بالعَفْوِ عنهُ وَمَغْفِرَةِ ذُنُوبِهِ.
وَالناسُ في السترِ قِسْمَانِ:
1-مَنْ
كانَ مَسْتُوراً لا يُعْرَفُ بشيءٍ مِن المَعَاصِي، فإِذا وَقَعَتْ منهُ
هَفْوَةٌ أَوْ زَلَّةٌ فإِنَّهُ لا يَجُوزُ كَشْفُهَا وَلا هَتْكُهَا مِنْ
بابِ (إِقَالَةِ ذَوِي الهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ).
2- مَنْ كانَ مُشْتَهِراً بالمَعَاصِي مُجَاهِراً بها، فلا يُسْتَرُ بلْ يُحَذَّرُ مِنْ شَرِّهِ.
((واللَّهُ في عَوْنِ العبدِ ما كانَ العبدُ في عونِ أَخِيهِ)):
أيْ إِعَانَتِهِ وَتَسْدِيدِهِ لقضاءِ شُؤُونِهِ النافعةِ. فاللَّهُ
يُعِينُ العبدَ الذي يَسْعَى في إِعانةِ إِخوانِهِ وَيُعَوِّضُهُ عَمَّا
أَنْفَقَ.
وَقدْ
كانَ أبو بكرٍ يَجْلِسُ إِلى امرأةٍ عَجُوزٍ يَخْدُمُهَا، وَعُمَرُ
يَتَفَقَّدُ أحوالَ الناسِ، وَأبو الحارسِ الأُولاسِيُّ خَدَمَ فَقِيراً
فَتَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
وَقالَ عامِرٌ التَّمِيمِيُّ لأَصْحَابِهِ: (أُسَافِرُ مَعَكُمْ لِخِدْمَتِكُمْ).
(4) ((ومَنْ سَلَكَ طَرِيقاً يَلْتَمِسُ فيهِ عِلْماً)): (سَلَكَ)؛ أيْ: مَشَى أَوْ أَخَذَ بالأسبابِ، ((يَلْتَمِسُ))؛
أيْ: يَطْلُبُ. وَفي هذا الحثُّ على مُدَاوَمَةِ التَّرَدُّدِ على مجالسِ
العلمِ وَالمَشْيِ إِليها وَالرغبةِ فيها. وَيَدْخُلُ في ذلكَ المَشْيُ على
الأقدامِ وَالحفظُ لها وَالمذاكرةُ وَالكتابةُ وَنحوُ ذلكَ مِن الطُّرُقِ
المعنويَّةِ.
((سَهَّلَ اللَّهُ لهُ بهِ طَرِيقاً الى الجنَّةِ)):
أيْ أَوْصَلَهُ بهذا العلمِ النافعِ إِلى الجنَّةِ، وَذلكَ لِسَعْيِهِ
إِلى رِضْوانِ اللَّهِ، وَحِفْظِ وَقْتِهِ وَحَيَاتِهِ، وَدعوةِ الناسِ
وَدلالتِهِم على الخيرِ، وَهدايتِهِم إِلى الصراطِ الذي يُوصِلُ للجنَّةِ،
وَلأنَّهُ لا يُذْكَرُ في مجالسِ العلمِ إِلاَّ الآخرةُ.
(5) ((وما اجْتَمَعَ قَوْمٌ...)):
هذهِ كَرَامَاتُ أَهْلِ الذِّكْرِ الذينَ يَحْرِصُونَ عَلَيْهِ
وَيَبْذُلُونَ لهُ النَّفْسَ وَالوقتَ وَالمالَ، يُكْرَمُونَ بِكَرَامَاتٍ،
الواحدةُ منها خَيْرٌ مِن الدُّنيا وَما عَلَيْهَا. فالرحمةُ لِمَنْعِ
العذابِ وَالسلامةِ مِنْ غَضَبِ اللَّهِ، وَالسكينةُ للثباتِ وَالسلامةِ
مِن الانحرافِ، وَحُفُوفُ الملائكةِ للولايَةِ في الدُّنيا وَالآخرةِ،
وَالتكريمُ وَالذِّكْرُ عندَ اللَّهِ تَعَالَى لِرَفْعِ الدرجاتِ
وَمَغْفِرَةِ الذَّنْبِ؛ لأنَّ مَجَالِسَهُم مِنْ أَجْلِ ذلكَ.
(6) ((وَمَنْ بَطَّأَ بهِ عَمَلُهُ لمْ يُسْرِعْ بهِ نَسَبُهُ)): مَعْنَاهُ أنَّ العملَ هوَ الذي يَبْلُغُ بالعبدِ دَرَجَاتِ الآخرةِ وَليسَ النَّسَبَ، قَالَ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132].
فَالمَوَازِينُ بالتَّقْوَى وَليستْ بالنَّسَبِ.
وَرَجُلٌ انْتَسَبَ إِلى تسعةٍ وَهوَ عَاشِرُهُمْ دَخَلَ النارَ، وَرَجُلٌ انْتَسَبَ إِلى وَاحدٍ وَإِلى الإِسلامِ دَخَلَ الجنَّةَ.
وَصَدَقَ القائلُ:
لَعَمْرُكَ مَا الإِنْسَانُ إِلاَّ بِدِينِه ** فَلا تَتْرُكِ التَّقْوَى اتِّكَالاً عَلَى النَّسَبِ
َقَدْ رَفَعَ الإِسلامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ ** وَقدْ وَضَعَ الشِّْركُ الشَّقِيَّ أَبَا لَهَبِ
الفوائــِدُ:
1- الرِّضَا بالقضاءِ.
شرح فضيلة الشيخ : ناظم سلطان المسباح
قال الشيخ ناظم بن سلطان المسباح (م): (
(1) مَنْزِلَةُ الحديثِ:
قالَ النَّوويُّ: (وهو حديثٌ عظيمٌ، جامعٌ لأنواعٍ مِن العلومِ والقواعدِ والأدبِ) اهـ.
فرغَّبَ
في حقوقِ أخوَّةِ الإِسلامِ، وفي طلبِ العلمِ، وفي الاهتمامِ بدُستورِ
السَّماءِ، مِن حيثُ: قراءَتُهُ، وفهمُهُ، والعملُ به، وتبليغُهُ للنَّاسِ.
فضلُ تَنفيسِ الكُرَبِ:
(2) قولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ نَفـَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا، نَفَّسَ اللهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)). ((نفَّسَ)) وروايَةُ (الصَّحيحينِ): ((فَرَّجَ))،
والمعنَى: أزالـَها وخَفَّّفها عنه، مأخوذٌ مِن تنفيسِ خِناقِ الثَّوبِ
وإرخائِهِ حتَّى يَأخذَ نَفَسًا، والتَّفريجُ أعظمُ مِن ذلك، وهو أن يُزيلَ
كربَهُ، فتُفرَّجَ عنه كربتُهُ، ويَزولُ همُّهُ وغمُّهُ. فالإنسانُ
يَتعرَّضُ في هذه الحياةِ لما يُهِمُّهُ ويُغُمُّهُ ويُحْزِنُهُ في بدنِهِ
وولدِهِ وأهلِهِ ومالِهِ ودينِهِ، فيَنْبَغِي علَى إخوانِهِ في العقيدةِ
أن يَسْعَوْا لتخليصِهِ مِن هذا، وتخفيفِ آلامِهِ وأحزانِهِ قدرَ
الْمُستطاعِ، وقد يُظْلَمُ المسلمُ، والظُّلمُ مِن شيَمِ نفوسِ البَشَرِ
كما قالَ المتنبِّي: التيسيرُ علَى الْمُعْسِرِ: ويكونُ التَّيسيرُ عليهِ: إمَّا بإنظارِهِ إلَى مَيْسَرَةٍ، حتَّى يَخرجَ مِن عسرِهِ ويُوسِّعَ اللهُ عليهِ، قالَ تَعالَى:{وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ}، وإمَّا بالوضعِ عنه إن كانَ غريمًا، أو بإعطائِهِ ما يزولُ به إعسارُهُ. وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا أَوْ وَضَعَ عَنْهُ أَظَلَّهُ اللهُ فِي ظِلِّهِ))،
ممـَّا لا شكَّ فيهِ ولا ريبَ نحنَ مقبلونَ علَى يومٍ شديدٍ هولُهُ، عسيرٌ
علَى مَن انحرفَ عن صراطِ اللهِ المستقيمِ، قالَ تَعالَى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا}. وأمَّا
مَن آمَنَ به، وأدَّى حقوقَهُ، وأدَّى حقوقَ عبادِ اللهِ عليهِ،
وأعانَهُمْ، ويسَّرَ عليهم يسَّرَ اللهُ عليهِ أمورَهُ، وسهَّلَهَا له،
وكذلكَ سهَّلَ اللهُ عليهِ كلَّ عسرٍ يومَ القيامةِ، وأعانَهُ وثبَّتَهُ،
وهذا جزاءُ صنيعِهِ في الدُّنيا مع إخوانِهِ. تعمّدْنِي بنصحِكَ في انفرادِي ** وجـَنِّبْنِي النَّصيحةَ في الجماعهْ سَتْرُ المسلمِ نفسَهُ: الترغيبُ بالتعاوُنِ بكلِّ وُجوهِ الخيرِ: كما
نَهَى عن التَّعاونِ علَى الشَّرِّ وفيما يُغضبُ اللهَ ورسولَهُ، كما أنَّ
التَّعاونَ علَى البِرِّ مِن الصَّدقاتِ، قالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ: ((وَتُعِينُ الرَّجُلَ فِي دَابَّتِهِ فَتَحْمِلُهُ عَلَيْهَا أَوْ تَرْفَعُ لَهُ عَلَيْهَا مَتَاعَهُ صَدَقَةٌ)). قالَ ابنُ كثيرٍ: (مَن سَعَى في أمرٍ فتَرَتَّبَ عليهِ خيرٌ كانَ له نصيبٌ مِن ذلك)اهـ. عن
أبي بُرْدَةَ بنِ أبي بُرْدَةَ قالَ: أَخْبَرَنِي جدِّي أبو بُرْدَةَ، عن
أبيهِ أبي موسَى، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا))ثُمَّ شَبَّكَ بَيْنَ أَصَابِعِهِ. ومنها
كذلك الشَّفاعةُ في الحدودِ عندما تصلُ إلَى الإمامِ، ويشهدُ لذلك حديثُ
أسامةَ المشهورُ، عندَما شفعَ للمرأةِ المخزوميَّةِ الَّتي سرقَتْ، قالَ له
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ؟!))، أمـَّا قبلَ انتهائِهَا إلَى الإمامِ فهي حَسنةٌ جميلةٌ، كما قالَ ابنُ عبدِ البرِّ. فالعلمُ النَّافعُ هو طريقُ معرفةِ اللهِ عزَّ وجلَّ، والوصولِ إلَى رضوانِهِ والفوزِ بقربِهِ، قالَ تعالَى: {إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ}. كلُّ العلومِ سوَى القرآنِ مَشْغَلـَةٌ ** إلاَّ الحديثَ وعلمَ الفقهِ في الـدِّينِ أ - تفسيرُ القرآنِ بالقرآنِ. 2 - أن يحفظَ ما يستطيعُ حفظَهُ مِن (الصَّحيحينِ) فإنَّهُما أصحُّ ما ثبتَ عن رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. {قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ}، ووعدَهُمْ برفعِ درجاتِهِم يومَ الجزاءِ: {يَرْفَعُ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمِ دَرَجَاتٍ}، كما رغَّبَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في طلبِهِ، كما في هذا الحديثِ وغيرِهِ، وممَّا يَنْبَغِي أن يعلمَ أنَّ هناك مِن العلمِ ما طلبُهُ: فضلُ الاجتماعِ علَى تلاوةِ القرآنِ: وإنْ
حُمِلَ علَى ما هو أعمُّ مِن ذلك، كالاجتماعِ في المساجدِ علَى دراسةِ
القرآنِ مطلقًا فهذا كذلك مستحَبٌّ، كانَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يطلبُ مِن بعضِ أصحابِهِ أن يقرأَ عليهِ. جزاءُ المجتهِدِ علَى تلاوةِ كتابِ اللهِ في بيتِهِ: قالَ ابنُ عباسٍ: (جعلَ الطُّمأنينةَ). 3
-الملائكةُ تَحفُّهُم: وهذا يعني أنَّ المجتمعينَ علَى مُدَارَسةِ كتابِ
اللهِ في أمْنٍ وسلامةٍ، وحفظٍ مِن كلِّ أذًى ومكروهٍ، وأنَّ هؤلاء
الملائكةَ يدعُونَ لهم بالمغفرةِ، كما أنَّ هناك ثمرةً مِن مُجالَسَةِ
الملائكةِ يَعْلَمُهَا اللهُ عزَّ وجلَّ، كما أنَّ لمجالسةِ الأخيارِ
ثمرةً. قالَ تعالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}. قالَ
النَّوويُّ رحمةُ اللهِ عليهِ: مَن كانَ عملُهُ ناقصًا لم يُلْحِقْهُ
بِمَرْتَبَةِ أصحابِ الأعمالِ فيَنْبَغِي ألا يَتَّكلَ علَى شَرَفِ
النَّسبِ وفضيلةِ الآباءِ، ويُقَصِّرَ في العملِ. لعمرُكَ ما الإنسـانُ إلاَّ بدينـِهِ ** فلا تَتْرُكِ التَّقوَى اتِّكالاً علَى النَّسبْ
والظُّلمُ مِن شيمِ النُّفوسِ فإن ** تجدْ ذا عفَّةٍ فلِعَلَّةٍ لا يظلمُ
وهنا لا يحلُّ تركُهُ - مع الاستطاعةِ - في الظُّلمِ، قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا)) قيل: أفرأيْتَ إذا كانَ ظالمًا، كيف أَنصرُهُ؟ قالَ: ((تَحْجُزُهُ - أَوْ تَمْنَعُهُ - مِنَ الظُّلْمِ، فَإِنَّ ذَلِكَ نَصْرُهُ)).
وقد
يُظلمُ المسلمُ بسببِ تَمَسُّكِهِ بدينِهِ، ويلاقي مما يَهمُّهُ ويَغمُّهُ
مِن البلاءِ ما لا تَتَحَمَّلُهُ الجبالُ الرواسي، مِن طغاةٍ وعتاةٍ
وجبابرةِ الأرضِ الخاسرينَ، وهنا علينا تَنفيسُ كربتِهِ بأنفسِنَا
وأموالِنَا وألسنتِنَا وأقلامِنَا، قالَ تَعالَى: {وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ}.
إنْ
فعلْنَا ذلك، وسعَيْنَا في تفريجِ كربِ المسلمينَ المعنويَّةِ والماديَّةِ،
فيكونُ الجزاءُ مِن جنسِ العملِ، كما يقولُونَ، فسوفَ يحفظُنَا اللهُ
ويزيلُ عنَّا كربَ يومِ القيامةِ أعظَمَهَا وأشدَّهَا، يقولُ عزَّ وجلَّ: {يَا
أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ
عَظِيمٌ يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ
وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا
هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ}.
وعن عائشةَ رَضِي اللهُ عَنْهُا، أنَّها سمعَتْ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((يـُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً))، قُلتُ: يا رسولَ اللهِ، النِّسَاءُ وَالرِّجَالُ جَمِيعًا يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضِهِمْ؟!! قالَ: ((يَا عَائِشَةُ، الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يَنْظُرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ)).
ففي (الصَّحيحينِ) عن أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كَانَ
تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ
لِفِتْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ، لَعَلَّ اللهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ
عَنَّا، فَتَجَاوَزَ عَنْهُ)).
سَتْرُ عَوراتِ المسلمينَ:
إنَّ الـنُّصحَ بينَ النَّاسِ نوعٌ ** مِن التَّوبيخِ لا أرضَى استماعَهْ
لا
أنْ يَفرحَ ويسعدَ بزَلَّةِ أخيهِ وسقطاتِهِ، ويجعلَ منها حديثًا يَتلذَّذُ
به في المجالسِ، فيَفضَحَ أخاهُ بذلكَ، ويخالفَ أمرَ ربِّهِ ورسولِهِ.
عن عبدِ اللهِ بنِ عمرَ رضي عنهما قالَ: صَعِدَ رسولُ اللهِ المنبرَ فنادَى بصوتٍ رفيعٍ فقالَ: ((يَا مَعْشَرَ مَنْ قَدْ
أَسْلَمَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الإِيمَانُ إِلَى قَلْبِهِ، لاَ
تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلاَ تُعَيِّرُوهُمْ، وَلاَ تَتَبَّعُوا
عَوْرَاتِهِم، فَإِنَّهُ مَنْ تَتَبَّعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ،
تَتَبَّعَ اللهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ تَتَبَّعَ عَوْرَتَهُ يَفْضَحُهُ
وَلَوْ فِي جَوْفِ رَحْلِهِ)).
فالحديثُ
يَدلُّ علَى أنَّ تتبُّعَ عوراتِ المسلمينَ وفضحَهُم هذا يصدرُ مِن
المنافقينَ وضعفاءِ الإِيماِن، الَّذينَ لم يتغلغلِ الإِيمانُ إلَى
قلوبِهِم.
ولكنْ ممَّا يَنْبَغِي أن يُعْلَمَ هنا أنَّ النَّاسَ في هذه القضيَّةِ ضربانِ:
1 -
مَن كانَ مستورَ الحالِ معروفًا بينَ النَّاسِ بطاعتِهِ وصلاحِهِ، مثلُ هذا
إذا وقعَتْ منه هفوةٌ أو زلَّةٌ وجبَ علَى مَن رآهُ أن يسترَ عليهِ،
وإفشاءُ حالِ مثلِ هذا يقعُ تحتَ الغيبةِ الَّتِي حرَّمَها اللهُ عزَّ
وجلَّ، كما أنَّ فيهِ إشاعةً للفاحشةِ في الَّذين آمنُوا، قالَ تعالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَاللهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
قالَ العلماءُ: المرادُ بإشاعةِ الفاحشةِ علَى المؤمنِ فيما وقعَ منه، أو اتُّهِمَ به ممَّا هو بريءٌ منه.
أمَّا بالنِّسبةِ لفاعلِ المعصيَةِ نفسِهِ فيَنْبَغِي أن يسترَ علَى نفسِهِ، وأن يتوبَ إلَى ربِّهِ تباركَ وتَعالَى.
عن
زيدِ بنِ أسلمَ: أنَّ رجلاً اعترفَ علَى نفسِهِ بالزِّنَا علَى عهدِ رسولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فدعَا له رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بسوطٍ، فأُتِيَ بسوطٍ مكسورٍ، فقالَ: ((فَوْقَ هَذَا))، فأُتِيَ بسوطٍ جديدٍ لم تُقْطَعْ ثَمَرَتُهُ، فقالَ: ((دُونَ هَذَا))، فأُتِيَ بسوطٍ قد ركِبَ به ولانَ، فأَمَرَ به رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فجُلِدَ، ثمَّ قالَ: ((أَيُّهَا
النَّاسُ، قَدْ آنَ لَكُمْ أَنْ تَنْتَهُوا عَنْ حُدُودِ اللهِ، مَنْ
أَصَابَ مِنْ هَذِهِ الْقَاذُورَاتِ شَيْئًا، فَلْيَسْتَتِرْ بِسِتْرِ
اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ يُبْدِي لَنَا صَفْحَتَهُ نُقِمْ عَلَيْهِ كِتَابَ
اللهِ)).
كما أنَّ للتَّعاونِ مِن الأجرِ والثَّوابِ كما للصِّيامِ والصَّلاةِ وباقي العباداتِ.
عن
أنسٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: (كُنَّا مع رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في سفرٍ، فصامَ بعضٌ وأَفْطَرَ بعضٌ، فتحزَّمَ
المفطرونَ وعملوا في زاويَةٍ: فضربُوا الأبنيَةَ، وسقَوا الرِّكابَ،
وضَعُفَ الصُّوَّامُ عن بعضِ العملِ) قالَ: فقالَ في ذلك: ((ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ))، والمرادُ بأنَّ لهم أجرًا وثوابًا كما للصَّائمينَ.
الشفاعةُ لذوي الحاجاتِ مِن التعاونِ:
وكانَ النَّبيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جالسًا إذ جاءَ رجلٌ يسألُ أو طالبُ حاجةٍ، أقبلَ علينا بوجهِهِ فقالَ: ((اشْفَعُوا فَلْتُؤْجَرُوا، وَلْيَقْضِ اللهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا يَشَاءُ)).
والمعنَى:
إذا عرضَ الرَّجلُ حاجتَهُ عليَّ فاشفعُوا له إليَّ، فإنَّ لكم ثوابًا في
ذلك، ويُجْرِي اللهُ علَى لسانِ نبيِّهِ ما شاءَ مِن موجباتِ قضاءِ الحاجةِ
أو عدمِهَا، فإنَّ ذلك بقضائِهِ سبحانَهُ وقدَرِهِ.
قالَ
الحافظُ ابنُ حجرٍ: (وفي الحديثِ الحضُّ علَى الخيرِ بالفعلِ، والتَّسبُّبُ
إليهِ بكلِّ وجهٍ، والشَّفاعةُ إلَى الكبيرِ في كشفِ كربِ ومعونةِ
الضعيفِ، إذ ليسَ كلُّ أحدٍ يَقدرُ علَى الوصولِ إلَى الرئيسِ، ولا
التَّمكُّنِ منه ليَلِجَ عليهِ، أو يُوَضِّحَ له مُرادَهُ ليعرفَ حالَهُ
علَى وَجْهِها، ولهذا فقدْ كانَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ
وَسَلَّمَ لا يَحْتَجِبُ).
الشَّفاعةُ المحرَّمَةُ:
أثرُ الحديثِ في حياةِ السَّلفِ:
الَّذي يَطَّلِعُ علَى سيرةِ سلفِ الأمَّةِ يجدُ تعاليمَ الإسلامِ
السَّاميَةَ ظاهرةً وواضحةً في فعلِهِم وقولِهِم، فهم قدوةٌ صالحةٌ
لغيرِهِمْ، ربطُوا العلمَ بالعملِ، فاهتدَى بسببِهِمْ خلقٌ كثيرٌ إلَى
الإسلامِ، أمَّا واقعُ الأمَّةِ اليومَ - إلاَّ ما رحمَ ربُّكَ - فقد
تحوَّلَتْ تعاليمُ السَّماءِ فيها إلَى مِدادٍ علَى ورقٍ، وكلامٍ مسجَّلٍ
علَى أشرطةِ الكسيت، ومحاضراتٍ وخطبٍ أثرُهَا في الواقعِ ضئيلٌ، ولا حولَ
ولا قوَّةَ إلاَّ باللهِ.
أخرجَ
ابنُ سعدٍ، عن أنيسةَ قالَتْ: كنَّ - جواري الحيِّ - يأتينَ بغنمِهِنَّ
إلَى أبي بكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِي اللهُ عَنْهُ فيقولُ لهنَّ: أتُحِبُّونَ
أحلبُ لكُنَّ حلبَ ابنِ عفراءَ - وكان رجلاً تاجرًا - فكانَ يغدُو كلَّ
يومٍ للسُّوقِ فيبيعُ ويَبتاعُ، وكانت له قُطعةُ غنمٍ تَروحُ عليهِ وربَّما
خَرَجَ هو بنفسِهِ فيها، وربَّمَا كُفِيَها فرُعِيَتْ له، وكانَ يَحْلِبُ
للحيِّ أغنامَهُم لَمَّا بويعَ له بالخلافةِ، فقالَتْ جاريَةٌ مِن الحيِّ:
الآنَ لا تُحْلَبُ لنا مَنَائِحُ دارِنَا، فسَمِعَهَا أبو بكرٍ فقالَ:
بلَى، لعَمْرِي لأحلِبَنَّها لكم، وإنِّي لأرجو أن لا يُغيِّرَنِي ما دخلتُ
فيهِ عن خُلُقٍ كنْتُ عليهِ، فكانَ يَحْلِبُ لهُمْ.
عن
الأوزاعيِّ، أنَّ عمرَ خرجَ في سوادِ الليلِ فرآهُ طلحةُ رَضِي اللهُ
عَنْهُ، فذهبَ عمرُ فدخلَ بيتًا، ثمَّ دخلَ بيتًا آخرَ، فلمَّا أصبحَ طلحةُ
ذهبَ إلَى ذلك البيتِ، وإذا بعجوزٍ عمياءَ مقعدةٍ فقالَ لها: ما بالُ هذا
الرَّجلِ يأتيكِ؟! قالَتْ: إنَّهُ يَتعاهدُنِي منذُ كذا وكذا؛ يأتِيني بما
يُصلِحُني ويُخرجُ عنِّي الأذَى، فقالَ طلحةُ: ثكلَتْكَ أمُّكَ يا طلحةُ،
أعثراتُ عمرَ تتَبَّعُ؟.
وقالَ مجاهِدٌ رحمَهُ اللهُ تعالَى: صحبْتُ ابنَ عمرَ رَضِي اللهُ عَنْهُ في السَّفَرِ لأَخْدُمَهُ فكانَ يَخْدُمُنِي.
علمُ الدِّينِ الطَّريقُ الْمُوصِلُ إلَى دارِ السَّلامِ:
أفضلُ العلمِ:
العلمُ ما كانَ فيهِ: قالَ، حدَّثَنـَا ** وماسوَى ذاكَ وَسواسُ الشَّياطينِ
وقالَ رحمَهُ اللهُ كذلك:
إذا
رأيْتُ رجلاً مِن أصحابِ الحديثِ فكأنَّمَا رأيتُ رجلاً مِن أصحابِ رسولِ
اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جزاهُمُ اللهُ خيرًا، حَفِظُوا لنا
الأصلَ فلهُمْ علينا الفضلُ، قالَ تعالَى: {قَدْ
جَاءَكُمْ مِنَ اللهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ
اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلاَمِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ
إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}.
فالواجبُ علَى طالبِ العلمِ تُجاهَ كتابِ اللهِ الآتي:
1 - أن يَجتهدَ علَى إتقانِ قراءتِهِ علَى أيدي العلماءِ حتَّى لا يقعَ في اللحنِ وحتَّى يُراعيَ قواعدَ التَّجويدِ أثناءَ قراءتِهِ.
2 - أن يحفظَ ما يستطيعُ منه، فإنَّ لحفظِ كتابِ اللهِ منزلةً عظيمةً عندَ اللهِ.
3 - أن يبذلَ ما في وسعِهِ لفهمِ معانيهِ وأن يهتديَ في ذلك بطريقِ سلفِ الأمَّةِ.
قالَ
أبو عبدِ الرَّحمنِ السَّلميُّ: حدَّثنا الَّذينَ كانُوا يُقِرْئونَنَا
القرآنَ: كعثمانَ بنِ عفَّانَ، وعبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ، وغيرِهِما، أنَّهُم
كانوا إذا تعلَّمُوا مِن النَّبيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عشرَ
آياتٍ لم يجاوزُوهَا حتَّى يتعلَّمُوا ما فيها مِن العلمِ والعملِ، قالُوا:
فتعلَّمْنَا القرآنَ والعلمَ والعملَ جميعًا.
ب - تفسيرُ القرآنِ بالسُّنَّةِ.
ج - تفسيرُ القرآنِ بأقوالِ الصَّحابةِ.
د - تفسيرُ القرآنِ بأقوالِ التَّابعينَ.
وأن يَبتعدَ عن التَّفسيرِ بالرَّأي المجرَّدِ، فإنَّ جمهورَ العلماءِ ذهبُوا إلَى تحريمِ ذلك.
قالَ أبو بكرٍ: (أيُّ أرضٍ تقلُّنِي، وأيُّ سماءٍ تُظِلُّنِي، إذا قلْتُ في كتابِ اللهِ ما لم أعلمْ).
وقالَ
عمرُ: (اتـَّبِعـُوا ما بَيـِّنَ لكم مِن هذا الكتابِ فاعملُوا عليهِ، وما
لم تعرفُوهُ فكلُوهُ إلَى ربِّهِ) وما سببُ الضَّلالِ الَّذي غزا
المسلمينَ في عقائدِهِم وأخلاقِهِم ومعاملاتِهِم وعبادتِهِم، وفرَّقَهُم
إلَى شيعٍ وأحزابٍ إلاَّ لبعدِهِمْ عن الأصولِ السَّليمةِ لفهمِ القرآنِ،
فيأتي بعضُ المتصوِّفَةِ علَى الآيَةِ: {وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ}،
فيَستدلُّ بها علَى سقوطِ التَّكاليفِ اتِّباعًا لرأيهِ الممسوخِ، ألا
يعلمُ هذا بأنَّ الصَّحابةَ عبدُوا ربَّهُم وحافظُوا علَى الجُمَعِ
والجماعاتِ حتَّى توفَّاهُمُ اللهُ.
ويأتي الرَّافضيُّ إلَى الآيَةِ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً}،
فيقولُ: المقصودُ بها عائشةُ رَضِي اللهُ عَنْهُا. الصِّدِّيقةُ بنتُ
الصِّدِّيقِ، المبرَّأةُ مِن السَّماءِ، حبيبةُ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ
عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الَّتي بَشَّرهَا بالجنَّةِ!!!.
ويأتي
المفْتُونُ بضلالاتِ علماءِ الكلامِ فبدلَ أن يقفَ أمامَ الذِّكرِ الحكيمِ
فقيرًا ذليلا ضعيفًا يلتمسُ منه الهَدَى والرَّشادَ، يقفُ موقفَ الأستاذِ
المعلِّمِ فيلوي أعناقَ الآياتِ كي توافقَ أصولَهُ وقواعدَهُ، الَّتي
أصَّلَها أساتذتُهُ مِن علماءِ الكلامِ بناءً علَى عقولِهِمُ الضَّعيفةِ
القاصرةِ، فيأتي علَى الآيَةِ: {الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، فيقولُ: استولَى ويُخَالِفُ بذلك ما عليهِ سلَفُ الأمَّةِ.
ممَّا يَجبُ علَى طالبِ العلمِ تُجاهَ السُّنَّةِ:
3 -
أن يسعَى لفهمِ فقهِ الأحاديثِ، وأن يتتلمذَ علَى مَن سبقَهُ في هذا
الميدانِ مِن العلماءِ الأعلامِ المشهودِ لهم بالاستقامةِ والفهمِ
السَّليمِ، والمتَّبِعُونَ لما عليهِ سلفُ الأمَّةِ، وألاَّ يقدِّمَ فهمَهُ
علَى أفهامِهِم، وألاَّ يقولَ بفهمٍ لم يسبقْ له دونَ بيِّنَةٍ.
4 -
علَى طالبِ العلمِ أن يعملَ بما في السُّنَّةِ مِن واجباتٍ، وأن ينتهيَ
عمَّا نهتْ عنه، فإنَّ اللهَ يمقُتُ الَّذِي لا يعملُ بما يعلمُ، وحتَّى لا
تكونَ حجَّةً عليهِ يومَ الجزاءِ، وحتَّى يكونَ قدوةً طيِّبةً صالحةً
لغيرِهِ، كما أنَّ عليهِ أن يعملَ بما فيها مِن مستحبَّاتٍ علَى قدرِ
استطاعتِهِ، وأن يتنزَّهَ عن المكروهاتِ.
حكمُ طلبِ العلمِ:
أثنَى اللهُ علَى العلماءِ، وفضَّلَهُم علَى غيرِهِم:
1 - واجبٌ علَى كلِّ مسلمٍ ومسلمةٍ، قالَ صلواتُ اللهِ وسلامُهُ عليهِ: ((طَلَبُ الْعِلْمِ فَرِيضَةٌ عَلَى كُلِّ مُسْلِمٍ))، وهذا العلمُ هو الَّذي لا بدَّ مِن معرفتِهِ، كمعرفةِ اللهِ بأسمائِهِ وصفاتِهِ، وما له مِن حقوقٍ علينَا.
قالَ تَعالَى:{فَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللهُ}،
كذلكَ علمُ كيفيَّةِ أداءِ ما افترضَ اللهُ علينا مِن فرائضَ، كالطَّهارةِ
والصَّلاةِ والصِّيامِ وغيرِهَا مِن الفرائضِ، وكذلك علمُ ما به تُؤَدَّى
حقوقُ العبادِ الواجبةُ.
2 -
فرضُ كفايَةٍ إذا قامَ به جماعةٌ مِن المسلمينَ سقطَ عن الباقينَ: كتعلُّمِ
علمِ الفرائضِ، وعلمِ الحديثِ الَّذي يُمَيِّزُ به الطَّالبُ بينَ صحيحِ
الرِّوايَةِ وسقيمِهَا.
3 - مستحَبٌّ: وهي جميعُ علومِ الدِّينِ، فعلَى طالبِ العلمِ أن ينهلَ منها ما يستطيعُ، قالَ تَعالَى: {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}، وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ يُرِدِ اللهُ بِهِ خَيْرًا يُفَقِّهْهُ فِي الدِّينِ)).
التَّرغيبُ في نشرِ العلمِ:
العلمُ نورٌ والجهلُ ظلماتٌ، فعلَى العلماءِ أن ينشرُوا هذا النُّورَ
الَّذي أودعَهُ اللهُ في صدورهِمْ للعامَّةِ حتَّى يختفيَ الجهلُ، ويعمَّ
النُّورُ، فيعرفُ النَّاسُ حقوقَ ربِّهِمْ فيؤدُّونَهَا، وحقوقَ بعضِهِمْ
علَى بعضٍ فيؤَدُّونَهَا، وبهذا يحيا النَّاسُ حياةً طيِّبةً.
لذلك قالَ صلواتُ اللهِ وسلاُمُهُ عليهِ: ((بَلـِّغُوا عَنـِّي وَلَوْ آيَةً))، ودعا للمبلـِّغينَ بالنَّضارةِ، قالَ عليهِ السَّلامُ: ((نَضـَّرَ اللهُ امْرأً سَمِعَ مِنَّا شَيْئًا فَبَلَّغَهُ كَمَا سَمِعَهُ، فَرُبَّ مُبَلَّغٍ أَوْعَى مِنْ سَامِعٍ))، وكذلك للمبلِّغِ مثلُ أجورِ مَن اتَّبعَهُ، قالَ عليهِ السَّلامُ: ((مَن دَعَا إِلَى هُدًى كَانَ لَهُ مِنَ الأَجْرِ مِثْلُ أُجُورِ مَنْ تَبِعَهُ، لاَ يَنْقُصُ ذَلِكَ مِنْ أُجُورِهِمْ شَيْئًا)).
عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((اقرأْ عليَّ))، قلْتُ: يا رسولَ اللهِ، أقرأُ عليكَ وعليكَ أُنْزِلَ؟، قالَ: ((نعَمْ))، فقرأْتُ سورةَ النِّساءِ حتَّى أتيتُ إلَى هذه الآيَةِ.. {فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاَءِ شَهِيدًا}، قالَ: ((حَسْبُكَ الآنَ))، فالتفتُّ إليهِ فإذا عيناهُ تذرفانِ.
وقالَ
قتادةُ: (الوقارَ في قلوبِ المؤمنينَ، وهم الصَّحابةُ يومَ الحديبيَّةِ،
الَّذينَ استجابُوا للهِ ولرسولِهِ، وانقادُوا لحكمِ اللهِ ورسولِهِ،
فلمَّا اطمأنَّتْ قلوبُهُم بذلكَ واستقرَّتْ، زادَهُمْ إيمانًا مع
إيمانِهِم).
وقالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديثِ القدسِيِّ: ((أَنَا
عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا ذَكَرَنِي، فَإِنْ
ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي، وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي
مَلأٍٍ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍ خَيْرٍ مِنْهُمْ)).
ذكرُ
اللهِ لعبدِهِ، يعني رحمتَهُ وشفقتَهُ ومغفرتَهُ له، كما أنَّ مجرَّدَ
الذِّكرِ شرفٌ ورِفعةٌ للعبدِ، كم يَفرحُ ويُسَرُّ العبدُ عندَما يَسمعُ
أنَّ ملوكَ الأرضِ وسلاطينَهَا ذكرُوهُ في مجالِسِهِمْ وأثنَوا عليهِ
خيرًا، وكم يَرجُو ويَطمعُ في هذا الذِّكرِ مِن الإِحسانِ، فكيفَ لا يَطمعُ
ويرغبُ في ذكرِ الغنيِّ المطَّلعِ علَى جميعِ ما يَرجُوهُ ويحتاجُهُ
العبدُ.
الجزاءُ علَى الأعمالِ لا علَى الأنسابِ:
ويَشهدُ لذلك قولُهُ جلَّ وعلا: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا}.
قالَ تَعالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلاَ أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَاءَلُونَ}.
وفي (الصَّحيحينِ) عن أبي هُريرةَ رَضِي اللهُ عَنْهُ قالَ: قالَ رسولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حينَ أُنْزِلَ عليهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}:
((يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ، لاَ أُغْنِي
عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ، اشْتَرُوا
أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللهِ لاَ أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللهِ شيئًا، يَا
عَبَّاسُ بْنَ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لاَ أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللهِ
شَيْئًا، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ اللهِ لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ
اللهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَلِينِي مِنْ مَالِي مَا
شِئْتِ، لاَ أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللهِ شَيْئًا)).
لقدْ رفعَ الإسلامُ سلمانَ فارسٍ ** وقـدْ وضعَ الشِّركُ النَّسيبَ أبا لهبْ
فوائدُ الحديثِ:
1 - فيهِ أنَّ الجزاءَ مِن جنسِ العملِ.
2 - كما فيهِ التَّرغيبُ في الإحسانِ إلَى العبادِ.
3 - كما فيهِ الحثُّ علَى المسارعةِ للتَّوبةِ مِن الذُّنوبِ والخطايَا.
4 - كما فيهِ الحثُّ علَى الاهتمامِ بكتابِ اللهِ تَعالَى.
5 - كما فيهِ فضلُ الجلوسِ في بيوتِ اللهِ لمدارسَةِ العلمِ.
جامع العلوم والحكم للحافظ: عبد الرحمن بن أحمد بن رجب الحنبلي
قال الحافظ عبد الرحمن ابن رجب الحنبلي (ت: 795هـ): (
(1)
هذا الحديثُ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ منْ روايَةِ الأعمشِ عنْ أبي صالحٍ عنْ
أبي هُرَيْرَةَ، واعْتَرَضَ عليهِ غيرُ واحدٍ مِنَ الحُفَّاظِ في
تَخْرِيجِهِ؛ منهم أبو الفضلِ الْهَرَوِيُّ والدَّارَقُطْنِيُّ؛ فإنَّ
أَسْبَاطَ بنَ مُحَمَّدٍ رَوَاهُ عن الأعمَشِ قالَ: حُدِّثْتُ عنْ أبي
صالحٍ؛ فَتَبَيَّنَ أَنَّ الأعمشَ لمْ يَسْمَعْهُ منْ أبي صالحٍ، ولم
يَذْكُرْ مَنْ حَدَّثَهُ بهِ عنهُ.
وَرَجَّحَ التِّرْمِذِيُّ وَغَيْرُهُ هذهِ الروايَةَ، وَزَادَ بعضُ أصحابِ الأعمشِ في مَتْنِ الحديثِ: ((وَمَنْ أَقَالَ مُسْلِمًا أَقَالَ اللَّهُ عَثْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). وَالْكُرْبَةُ: هيَ
الشِّدَّةُ العظيمةُ التي تُوقِعُ صَاحِبَهَا في الكَرْبِ، وَتَنْفِيسُهَا
أَنْ يُخَفَّفَ عنهُ منها، مَأْخُودٌ مِنْ تَنْفِيسِ الْخِنَاقِ، كأَنَّهُ
يُرْخَى لهُ الخِنَاقُ حتَّى يَأْخُذَ نَفَسًا، والتَّفْرِيجُ أَعْظَمُ
منْ ذلكَ، وهوَ أنْ يُزِيلَ عنهُ الْكُرْبَةَ، فَتَنْفَرِجُ عنهُ
كُرْبَتُهُ، وَيَزُولُ هَمُّهُ وَغَمُّهُ. وَخَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ بالشَّكِّ في رَفْعِهِ. وَخَرَّجَ الْبَيْهَقِيُّ منْ حديثِ أنسٍ مَرْفُوعًا: ((أَنَّ
رَجُلاً مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ يُشْرِفُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى
أَهْلِ النَّارِ، فَيُنَادِيهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ النَّارِ: يَا فُلانُ،
هَلْ تَعْرِفُنِي؟ فَيَقُولُ: لا وَاللَّهِ مَا أَعْرِفُكَ، مَنْ أَنْتَ؟
فَيَقُولُ: أَنَا الَّذِي مَرَرْتَ بِي فِي دَارِ الدُّنْيَا،
فَاسْتَسْقَيْتَنِي شَرْبَةً مِنْ مَاءٍ فَسَقَيْتُكَ، قَالَ: قَدْ
عَرَفْتُ، قَالَ: فَاشْفَعْ لِي بِهَا عِنْدَ رَبِّكَ. قَالَ: فَيَسْأَلُ
اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ وَيَقُولُ: شَفِّعْنِي فِيهِ. فَيَأْمُرُ بِهِ،
فَيُخْرِجُهُ مِنَ النَّارِ)). وَخَرَّجَا منْ حديثِ عائشةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((تُحْشَرُونَ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلاً)). قالَتْ: فَقُلْتُ: يا رسولَ اللَّهِ، الرِّجالُ وَالنِّساءُ يَنْظُرُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ؟ قالَ: ((الأَمْرُ أَشَدُّ مِنْ أَنْ يُهِمَّهُمْ ذَلِكَ)). وفي (المُسْنَدِ) منْ حديثِ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ مَرْفُوعًا: ((كُلُّ امْرِئٍ فِي ظِلِّ صَدَقَتِهِ حَتَّى يُفْصَلَ بَيْنَ النَّاسِ)). وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ أبي هُريرةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((كَانَ
تَاجِرٌ يُدَايِنُ النَّاسَ، فَإِذَا رَأَى مُعْسِرًا قَالَ
لِصِبْيَانِهِ: تَجَاوَزُوا عَنْهُ؛ لَعَلَّ اللَّهَ أَنْ يَتَجَاوَزَ
عَنَّا. فَتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ)). وَخَرَّجَ أيضًا منْ حديثِ أبي قَتَادَةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُنْجِيَهُ اللَّهُ مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلْيُنَفِّسْ عَنْ مُعْسِرٍ، أَوْ يَضَعْ عَنْهُ)). وَخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ منْ حديثِ عُقْبَةَ بنِ عَامِرٍ، سَمِعَ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقولُ:((مَنْ سَتَرَ مُؤْمِنًا فِي الدُّنْيَا عَلَى عَوْرَةٍ سَتَرَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)). أحدُهُمَا: مَنْ
كانَ مَسْتُورًا لا يُعْرَفُ بشيءٍ مِن المعاصِي، فإذا وَقَعَتْ منهُ
هَفْوَةٌ أوْ زَلَّةٌ، فإنَّهُ لا يَجُوزُ كَشْفُها، ولا هَتْكُها، ولا
التَّحَدُّثُ بها؛ لأنَّ ذلكَ غِيبَةٌ مُحَرَّمَةٌ. قالَ
بعضُ الوُزَرَاءِ الصالحِينَ لِبَعْضِ مَنْ يَأْمُرُ بالمعروفِ: اجْتَهِدْ
أنْ تَسْتُرَ الْعُصَاةَ؛ فإنَّ ظُهُورَ مَعَاصِيهِمْ عَيْبٌ في أهلِ
الإسلامِ، وَأَوْلَى الأُمُورِ سَتْرُ العيوبِ، ومثلُ هذا لوْ جَاءَ
تَائِبًا نَادِمًا، وَأَقَرَّ بِحَدٍّ وَلَمْ يُفَسِّرْهُ، لم
يُسْتَفْسَرْ، بلْ يُؤْمَرْ بأنْ يَرْجِعَ وَيَسْتُرَ نَفْسَهُ، كما أَمَرَ
النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ مَاعِزًا وَالْغَامِدِيَّةَ،
وكما لمْ يَسْتَفْسِر الَّذِي قالَ: أَصَبْتُ حَدًّا، فَأَقِمْهُ عَلَيَّ. صَرَّحَ بذلكَ بعضُ أَصْحَابِنَا، وَاسْتَدَلَّ بِقَوْلِ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَاغْدُ يَا أُنَيْسُ عَلَى امْرَأَةِ هَذَا، فَإِنِ اعْتَرَفَتْ فَارْجُمْهَا)). وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ منْ حديثِ عمرَ مَرْفُوعًا: ((أَفْضَلُ
الأَعْمَالِ إِدْخَالُ السُّرُورِ عَلَى الْمُؤْمِنِ: كَسَوْتَ
عَوْرَتَهُ، أَوْ أَشْبَعْتَ جَوْعَتَهُ، أَوْ قَضَيْتَ لَهُ حَاجَةً)). وَخَرَّجَ
الإمامُ أحمدُ منْ حديثِ ابْنَةٍ لِخَبَّابِ بنِ الأَرَتِّ، قالَتْ:
خَرَجَ خَبَّابٌ في سَرِيَّةٍ، فكانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ يَتَعَاهَدُنَا حتَّى يَحْلِبَ عَنْزَةً لَنَا في جَفْنَةٍ
لَنَا، فَتَمْتَلِئُ حتَّى تَفِيضَ. وكانَ كثيرٌ من الصَّالِحينَ يَشْتَرِطُ على أصحابِهِ في السفرِ أنْ يَخْدُمَهُم. قدْ
يُرَادُ بذلكَ أنَّ اللَّهَ يُسَهِّلُ لهُ العلمَ الذي طَلَبَهُ وَسَلَكَ
طريقَهُ، وَيُيَسِّرُهُ عليهِ؛ فَإِنَّ العلمَ طَرِيقٌ مُوصِلٌ إلى
الجنَّةِ، وهذا كقولِهِ تَعَالَى: {ولَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ} [القمر: 17]. فهذا
هوَ العلمُ النافعُ، كما قالَ ابنُ مسعودٍ: (نَّ أَقْوَامًا يَقْرَءُونَ
القرآنَ لا يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ، ولكنْ إذا وَقَعَ في القلبِ فَرَسَخَ
فيهِ نَفَعَ) ثمَّ
يَذْهَبُ هذا العلمُ بِذَهَابِ حَمَلَتِهِ، فلا يَبْقَى إلا القرآنُ في
المصاحفِ، وليسَ ثَمَّ مَنْ يَعْلَمُ مَعَانِيَهُ، ولا حُدُودَهُ، ولا
أحْكَامَهُ. وفي (صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ): عنْ عُثْمَانَ، عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((خَيْرُكُمْ مَنْ تَعَلَّمَ الْقُرْآنَ وَعَلَّمَهُ)). وقدْ
كانَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أحْيَانًا يَأْمُرُ مَنْ
يَقْرَأُ القرآنَ لِيَسْتَمِعَ قِرَاءَتَهُ، كما أَمَرَ ابنَ مسعودٍ أنْ
يَقْرَأَ عليهِ وقالَ: ((إِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي)). ورَوَى
يَزِيدُ الرَّقَاشِيُّ عنْ أنسٍ قالَ: كانُوا إذا صَلَّوا الغداةَ
قَعَدُوا حِلَقًا حِلَقًا، يَقْرَءُونَ القرآنَ، وَيَتَعَلَّمُونَ الفرائضَ
وَالسُّنَنَ، وَيَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ. وذَكَرَ
حَرْبٌ أنَّهُ رَأَى أهلَ دمشقَ، وأهلَ حِمْصَ، وأهلَ مَكَّةَ، وَأَهْلَ
البصرةِ يَجْتَمِعُونَ على القراءةِ بعدَ صلاةِ الصُّبحِ، لكنَّ أَهْلَ
الشامِ يَقْرَءُونَ القرآنَ كُلُّهُمْ جُمْلَةً مِنْ سُورَةٍ واحدةٍ
بأصواتٍ عاليَةٍ، وأهلَ مَكَّةَ وأهلَ البَصْرَةِ يَجْتَمِعُونَ،
فَيَقْرَأُ أَحَدُهُم عَشْرَ آياتٍ، والنَّاسُ يُنْصِتُونَ، ثمَّ يَقْرَأُ
آخَرُ عَشْرًا، حتَّى يَفْرُغُوا. وقدْ
أَخْبَرَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّ جزاءَ الذينَ يَجْلِسُونَ
في بيتِ اللَّهِ يَتَدَارَسُونَ كتابَ اللَّهِ أَرْبَعَةُ أَشْيَاءَ: والثاني: غِشْيَانُ الرَّحمةِ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56]. والثالثُ: أنَّ الملائكةَ تَحُفُّ بهم. وصلاةُ اللَّهِ على عَبْدِهِ: هوَ ثناؤُهُ عليهِ بينَ ملائكتِهِ، وتَنْوِيهُهُ بِذِكْرِهِ. وَخَرَّجَهُ الطَّبَرَانِيُّ، وزادَ فيهِ: ((إِنَّ
أَهْلَ بَيْتِي هَؤُلاءِ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ أَوْلَى النَّاسِ بِي،
وَلَيْسَ كَذَلِكَ، إِنَّ أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ، مَنْ
كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا)).
وَخَرَّجَا في (الصَّحِيحَيْنِ) منْ حديثِ ابنِ عُمَرَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((الْمُسْلِمُ
أَخُو الْمُسْلِمِ، لا يَظْلِمُهُ، وَلا يُسْلِمُهُ، وَمَنْ كَانَ فِي
حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ، وَمَنْ فرَّجَ عَنْ مُسْلِمٍ
فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ
سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
وَخَرَّجَ الطَّبَرَانِيُّ منْ حديثِ كعبِ بنِ عُجْرَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ
نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِهِ نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ
كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ سَتَرَ عَلَى مُؤْمِنٍ
عَوْرَتَهُ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ، وَمَنْ فَرَّجَ عَنْ مُؤْمِنٍ
كُرْبَةً فَرَّجَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَتَهُ)).
وَخَرَّجَ الإِمامُ أحمدُ منْ حديثِ مَسْلَمَةَ بنِ مُخَلَّدٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ
سَتَرَ مُسْلِمًا فِي الدُّنْيَا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا
وَالآخِرَةِ، وَمَنْ نَجَّى مَكْرُوبًا فَكَّ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ
كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ
اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ)).
(2) فَقَولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ نَفَّسَ عَنْ مُؤْمِنٍ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ الدُّنيا نَفَّسَ اللَّهُ عَنْهُ كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)).
هذا يَرْجِعُ إلى أنَّ الجزاءَ منْ جنسِ العملِ.
وقدْ تَكَاثَرَت النُّصوصُ بهذا المَعْنَى، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا يَرْحَمُ اللَّهُ مِنْ عِبَادِهِ الرُّحَمَاءَ))، وَقَولِهِ: ((إِنَّ اللَّهَ يُعَذِّبُ الَّذِينَ يُعَذِّبُونَ النَّاسَ فِي الدُّنْيَا)).
فَجَزَاءُ
التَّنْفِيسِ التَّنْفِيسُ، وَجَزَاءُ التَّفْرِيجِ التَّفْرِيجُ، كما في
حديثِ ابنِ عُمَرَ وقدْ جُمِعَ بَيْنَهُمَا في حديثِ كعبِ بنِ عُجْرَةَ.
وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ منْ حديثِ أبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ مَرْفُوعًا: ((أَيُّمَا
مُؤْمِنٍ أَطْعَمَ مُؤْمِنًا عَلَى جُوعٍ أَطْعَمَهُ اللَّهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ مِنْ ثِمَارِ الْجَنَّةِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ سَقَى
مُؤْمِنًا عَلَى ظَمَأٍ سَقَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ
الرَّحِيقِ الْمَخْتُومِ، وَأَيُّمَا مُؤْمِنٍ كَسَا مُؤْمِنًا عَلَى
عُرْيٍ كَسَاهُ اللَّهُ مِنْ خُضْرِ الْجَنَّةِ)).
وقيلَ: إنَّ الصحيحَ وَقْفُهُ.
وَرَوَى
ابنُ أبي الدُّنْيَا بإسنادِهِ عن ابنِ مسعودٍ قالَ: "يُحْشَرُ النَّاسُ
يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْرَى مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَجْوَعَ مَا كَانُوا
قَطُّ، وَأَظْمَأَ مَا كَانُوا قَطُّ، وَأَنْصَبَ مَا كَانُوا قَطُّ،
فَمَنْ كَسَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ كَسَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ أَطْعَمَ
لِلَّهِ عزَّ وَجَلَّ أَطْعَمَهُ اللَّهُ، وَمَنْ سَقَى لِلَّهِ عَزَّ
وَجَلَّ سَقَاهُ اللَّهُ، وَمَنْ عَفَا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ أَعْفَاهُ
اللَّهُ".
وقولُهُ: ((كُرْبَةً مِنْ كُرَبِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ))، ولمْ يَقُلْ: (مِنْ كُرَبِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)، كما قالَ في التَّيْسِيرِ والسَّتْرِ.
وقدْ قِيلَ في مُنَاسَبَةِ ذلكَ: إنَّ
الكُرَبَ هيَ الشَّدائدُ العظيمةُ، وليسَ كلُّ أَحَدٍ يَحْصُلُ لهُ ذلكَ
في الدُّنيا، بخلافِ الإِعْسَارِ والعَوْرَاتِ المُحْتَاجَةِ إلى
السَّتْرِ؛ فَإِنَّ أَحَدًا لا يَكَادُ يَخْلُو في الدُّنْيَا منْ ذلكَ،
ولوْ بِتَعَسُّرِ بعضِ الحاجاتِ المُهِمَّةِ.
وَقِيلَ:
لأنَّ كُرَبَ الدُّنيا بالنِّسبةِ إلى كُرَبِ الآخرةِ كَلا شَيْءٍ،
فَادَّخَرَ اللَّهُ جزاءَ تَنْفِيسِ الكُرَبِ عِنْدَهُ؛ لِيُنَفِّسَ بهِ
كُرَبَ الآخرةِ.
وَيَدُلُّ على ذلكَ قولُ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((يَجْمَعُ
اللَّهُ الأَوَّلِينَ وَالآخِرِينَ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيُسْمِعُهُمُ
الدَّاعِي، وَيَنْفُذُهُمُ الْبَصَرُ، وَتَدْنُو الشَّمْسُ مِنْهُمْ،
فَيَبْلُغُ النَّاسَ مِنَ الْغَمِّ وَالْكَرْبِ مَا لا يُطِيقُونَ وَلا
يَحْتَمِلُونَ، فَيَقُولُ النَّاسُ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: أَلا تَرَوْنَ مَا
قَدْ بَلَغَكُمْ؟ أَلا تَنْظُرُونَ مَنْ يَشْفَعُ لَكُمْ إِلَى
رَبِّكُمْ؟)) وذَكَرَ حَدِيثَ الشَّفَاعَةِ، خَرَّجَاهُ بِمَعْنَاهُ منْ حديثِ أبي هُرَيْرَةَ.
وخَرَّجَا منْ حديثِ ابنِ عُمَرَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ في قَوْلِهِ: {يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ} [المُطَفِّفِينَ: 6]، قالَ:((يَقُومُ أَحَدُهُمْ فِي الرَّشْحِ إِلَى أَنْصَافِ أُذُنَيْهِ)).
وَخَرَّجَا منْ حديثِ أبي هريرةَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَعْرَقُ
النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حَتَّى يَذْهَبَ عَرَقُهُمْ فِي الأَرْضِ
سَبْعِينَ ذِرَاعًا، وَيُلْجِمُهُمْ حَتَّى يَبْلُغَ آذَانَهُمْ)). وَلَفْظُهُ للبُخَارِيِّ.
ولفظُ مُسْلِمٍ: ((إِنَّ
الْعَرَقَ لَيَذْهَبُ فِي الأَرْضِ سَبْعِينَ بَاعًا، وَإِنَّهُ
لَيَبْلُغُ إِلَى أَفْوَاهِ النَّاسِ، أَوْ إِلَى آذَانِهِمْ)).
وَخَرَّجَ مُسْلِمٌ منْ حديثِ المِقْدَادِ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((تَدْنُو
الشَّمْسُ مِنَ الْعِبَادِ حَتَّى تَكُونَ قَدْرَ مِيلٍ أَوْ مِيلَيْنِ،
فَتَصْهَرُهُمُ الشَّمْسُ، فَيَكُونُونَ فِي الْعَرَقِ كَقَدْرِ
أَعْمَالِهِمْ، فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى عَقِبَيْهِ، وَمِنْهُمْ
مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهُ إِلَى
حَقْوَيْهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ إِلْجَامًا)).
وقالَ ابنُ
مسعودٍ: (الأرضُ كُلُّها يومَ القيامةِ نَارٌ، والجنَّةُ مِنْ وَرَائِهَا،
تُرَى أَكْوَابُهَا وَكَوَاعِبُهَا، فَيَعْرَقُ الرَّجلُ حتَّى يَرْشَحَ
عَرَقُهُ في الأرضِ قَدْرَ قَامَةٍ، ثمَّ يَرْتَفِعُ حتَى يَبْلُغَ
أَنْفَهُ، وما مَسَّهُ الْحِسَابُ).
قالَ: فَمِمَّ ذَاكَ يا أبا عبدِ الرحمنِ؟ قالَ: مِمَّا يَرَى النَّاسُ يُصْنَعُ بِهِم.
وقالَ أبو موسى: (الشَّمسُ فَوْقَ رُءُوسِ النَّاسِ يومَ القيامةِ، وَأَعْمَالُهُمْ تُظِلُّهُم أوْ تُضْحِيهِم).
(3) قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ يَسَّرَ عَلَى مُعْسِرٍ يَسَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)).
هذا أَيْضًا يَدُلُّ على أنَّ الإِعسارَ قدْ يَحْصُلُ في الآخرةِ، وقدْ
وَصَفَ اللَّهُ يومَ القيامةِ بأنَّهُ يَوْمٌ عَسِيرٌ، وأنَّهُ على
الكافرينَ غَيْرُ يَسِيرٍ، فَدَلَّ على أنَّهُ يَسِيرٌ على غَيْرِهِمْ،
وَقَالَ: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا} [الفرقان: 26].
والتَّيْسِيرُ
على المُعْسِرِ في الدُّنْيَا منْ جِهَةِ المالِ يكونُ بأَحَدِ
أَمْرَيْنِ: إمَّا بِإِنْظَارِهِ إلى المَيْسَرَةِ، وذلكَ وَاجِبٌ كما قالَ
تَعَالَى: {وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ} [البقرة: 280].
وتارةً بالوضعِ عنهُ إنْ كانَ غَرِيمًا، وَإِلا فَبِإِعْطَائِهِ ما يَزُولُ بهِ إِعْسَارُهُ، وَكِلاهُمَا لهُ فَضْلٌ عظيمٌ.
وفيهِمَا: عنْ حُذيفةَ وأبي مسعودٍ الأَنْصَارِيِّ سَمِعَا النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((مَاتَ رَجُلٌ فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: كُنْتُ أُبَايِعُ النَّاسَ، فَأَتَجَاوَزُ عَنِ الْمُوسِرِ، وَأُخَفِّفُ عَنِ الْمُعْسِرِ)).
وفي روايَةٍ: ((قَالَ: كُنْتُ أُنْظِرُ الْمُعْسِرَ، وَأَتَجَوَّزُ فِي السِّكَّةِ -أَوْ قَالَ- فِي النَّقْدِ. فَغُفِرَ لَهُ)).
وَخَرَّجَهُ مسلمٌ منْ حديثِ أبي مسعودٍ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، وفي حديثِهِ: ((فَقَالَ اللَّهُ: نَحْنُ أَحَقُّ بِذَلِكَ مِنْهُ، تَجَاوَزُوا عَنْهُ)).
وَخَرَّجَ أيضًا منْ حديثِ أبي الْيَسَرِ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ أَنْظَرَ مُعْسِرًا، أَوْ وَضَعَ عَنْهُ، أَظَلَّهُ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ إِلا ظِلُّهُ)).
وفِي (المُسْنَدِ): عن ابنِ عُمَرَ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ أَرَادَ أَنْ تُسْتَجَابَ دَعْوَتُهُ، وَتُكْشَفَ كُرْبَتُهُ، فَلْيُفَرِّجْ عَنْ مُعْسِرٍ)).
وقولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ سَتَرَ مُسْلِمًا سَتَرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ)) هذا مِمَّا تَكَاثَرَت النُّصوصُ بِمَعْنَاهُ.
وَخَرَّجَ ابنُ مَاجَهْ منْ حديثِ ابنِ عَبَّاسٍ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَنْ
سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ كَشَفَ اللَّهُ
عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ)).
وقدْ رُوِيَ عنْ بعضِ السَّلفِ أنَّهُ قالَ: (َأدْرَكْتُ
قَوْمًا لمْ يكُنْ لهمْ عُيُوبٌ، فَذَكَرُوا عُيُوبَ الناسِ، فَذَكَرَ
الناسُ لهم عُيُوبًا. وأَدْرَكْتُ أَقْوَامًا كانتْ لهمْ عُيُوبٌ،
فَكَفُّوا عنْ عُيوبِ الناسِ، فَنُسِيَتْ عُيُوبُهُم) أوْ كما قالَ.
وشاهدُ هذا حديثُ أبي بَرْزَةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ: ((يَا
مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يَدْخُلِ الإِيمَانُ فِي
قَلْبِهِ، لا تَغْتَابُوا الْمُسْلِمِينَ، وَلا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ؛
فَإِنَّهُ مَنِ اتَّبَعَ عَوْراتِهِمْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ،
وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَفْضَحْهُ فِي بَيْتِهِ)). خَرَّجَهُ الإِمامُ أحمدُ وأبو داودَ، وَخَرَّجَ التِّرْمِذِيُّ مَعْنَاهُ منْ حديثِ ابنِ عُمَرَ.
وَاعْلَمْ أنَّ النَّاسَ على ضَرْبَيْنِ:
وهذا هوَ الذي وَرَدَتْ فيهِ النُّصوصُ، وفي ذلكَ قدْ قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ في الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} [النور: 19].
والمرادُ:
إِشَاعَةُ الفَاحِشَةِ على المُؤْمِنِ المُسْتَتِرِ فِيمَا وَقَعَ منهُ،
أو اتُّهِمَ بهِ، وهوَ بَرِيءٌ منهُ، كما في قِصَّةِ الإِفْكِ.
ومثلُ هذا لوْ أُخِذَ بِجَرِيمَتِهِ، ولمْ يَبْلُغ الإِمامَ، فإنَّهُ يُشْفَعُ لهُ حتَّى لا يَبْلُغَ الإمامَ.
وفي مِثْلِهِ جاءَ الحديثُ عَن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((أَقِيلُوا ذَوِي الْهَيْئَاتِ عَثَرَاتِهِمْ)).خَرَّجَهُ أبو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ مِنْ حديثِ عائشةَ.
والثاني:
مَنْ كانَ مُشْتَهِرًا بالمَعَاصِي مُعْلِنًا بها، لا يُبَالِي بما
ارْتَكَبَ منها، ولا بِمَا قِيلَ لهُ، فهذا هوَ الفاجِرُ المُعْلِنُ، وليسَ
لهُ غِيبَةٌ، كما نَصَّ على ذلكَ الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ وَغَيْرُهُ.
ومثلُ هذا لا بَأْسَ بالبَحْثِ عنْ أمْرِهِ لِتُقَامَ عليهِ الحُدُودُ.
وَمِثْلُ
هذا لا يُشْفَعُ لهُ إذا أُخِذَ ولوْ لمْ يَبْلُغ السُّلطانَ، بلْ
يُتْرَكُ حتَّى يُقَامَ عليهِ الحدُّ لَيَنْكَفَّ شَرُّهُ، وَيَرْتَدِعَ
بهِ أَمْثَالُهُ.
قالَ
مَالِكٌ: (مَنْ لمْ يُعْرَفْ منهُ أَذًى للنَّاسِ، وإنَّمَا كَانَتْ منهُ
زَلَّةٌ، فَلا بَأْسَ أنْ يُشْفَعَ لهُ ما لمْ يَبْلُغ الإِمامَ، وأمَّا
مَنْ عُرِفَ بِشَرٍّ أوْ فَسَادٍ فلا أُحِبُّ أنْ يَشْفَعَ لَهُ أحدٌ،
ولكنْ يُتْرَكُ حتَّى يُقَامَ عليهِ الحَدُّ).
حَكَاهُ ابنُ المُنْذِرِ وَغَيْرُهُ.
وكَرِهَ الإِمامُ أحمدُ رَفْعَ الفُسَّاقِ إلى السلطانِ بكلِّ حالٍ.
وإنَّما
كَرِهَهُ؛ لأِنَّهُم غَالِبًا لا يُقِيمُونَ الحدودَ على وَجْهِهَا؛ ولهذا
قالَ: إنْ عَلِمْتَ أنَّهُ يُقِيمُ عليهِ الحدَّ فَارْفَعْهُ، ثمَّ ذَكَرَ
أنَّهُم ضَرَبُوا رجلاً فَمَاتَ، يَعْنِي: لَمْ يَكُنْ قَتْلُهُ جَائِزًا.
ولوْ
تَابَ أحدٌ مِن الضَّرْبِ الأوَّلِ، كانَ الأفضلُ لهُ أنْ يَتُوبَ فيما
بَيْنَهُ وبينَ اللَّهِ تَعَالَى، وَيَسْتُرُ على نَفْسِهِ.
وأمَّا الضَّرْبُ الثاني،
فَقِيلَ: إنَّهُ كذلكَ، وقيلَ: بل الأَوْلَى لهُ أنْ يَأْتِيَ الإِمامَ،
وَيُقِرَّ على نفسِهِ بما يُوجِبُ الحَدَّ حتَّى يُطَهِّرَهُ.
(4) قولُهُ: ((وَاللَّهُ فِي عَوْنِ الْعَبْدِ مَا كَانَ الْعَبْدُ فِي عَوْنِ أَخِيهِ)).
وفي حديثِ ابنِ عمرَ: ((وَمَنْ كَانَ فِي حَاجَةِ أَخِيهِ كَانَ اللَّهُ فِي حَاجَتِهِ)).
وقدْ سَبَقَ في شرحِ الحديثِ الخامسِ والعشرينَ والسادسِ والعشرينَ فَضْلُ قضاءِ الحوائجِ والسَّعْيِ فيها.
وبَعَثَ الحسنُ البَصْرِيُّ قَوْمًا منْ أصحابِهِ في قضاءِ حاجةٍ لرجلٍ وقالَ لهم: مُرُّوا بِثَابِتٍ البُنَانِيِّ، فَخُذُوهُ مَعَكُمْ.
فَأَتَوْا ثَابِتًا، فَقَالَ: أَنَا مُعْتَكِفٌ.
فَرَجَعُوا
إِلَى الْحَسَنِ فَأَخْبَرُوهُ، فَقَالَ: قُولُوا لَهُ: يَا أَعْمَشُ،
أَمَا تَعْلَمُ أَنَّ مَشْيَكَ فِي حَاجَةِ أَخِيكَ الْمُسْلِمِ خَيْرٌ
لَكَ مِنْ حَجَّةٍ بَعْدَ حَجَّةٍ؟ فَرَجَعُوا إلَى ثَابِتٍ، فَتَرَكَ
اعْتِكَافَهُ وَذَهَبَ مَعَهُمْ.
فَلَمَّا قَدِمَ خَبَّابٌ حَلَبَها، فَعَادَ حِلابُهَا إلى ما كانَ.
وكانَ أبو بكرٍ الصدِّيقُ يَحْلِبُ لِلْحَيِّ أَغْنَامَهُم.
فلمَّا
اسْتُخْلِفَ قالَتْ جاريَةٌ منهم: الآنَ لا يَحْلِبُهَا، فقالَ أبو بكرٍ:
(بلَى، وَإِنِّي لأََرْجُو أنْ لا يُغَيِّرَنِي مَا دَخَلْتُ فيهِ عنْ شيءٍ
كُنْتُ أَفْعَلُهُ) أوْ كما قالَ.
وإنَّمَا
كَانُوا يَقُومُونَ بالحِلابِ؛ لأنَّ العربَ كانتْ لا تَحْلِبُ النِّسَاءُ
منهم، وَكَانُوا يَسْتَقْبِحُونَ ذلكَ، فكانَ الرجالُ إذا غَابُوا
احْتَاجَ النساءُ إلى مَنْ يَحْلِبُ لَهُنَّ.
وقدْ رُوِيَ عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ أنَّهُ قالَ لقَوْمٍ: ((لا تَسْقُونِي حَلَبَ امْرَأَةٍ)).
وكانَ عُمَرُ
يَتَعَاهَدُ الأراملَ فَيَسْتَقِي لَهُنَّ الماءَ باللَّيْلِ، وَرَآهُ
طَلْحَةُ باللَّيْلِ يَدْخُلُ بيتَ امْرَأَةٍ، فَدَخَلَ إليها طَلْحَةُ
نَهَارًا، فإذا هيَ عجوزٌ عَمْيَاءُ مُقْعَدَةٌ، فَسَأَلَهَا: مَا يَصْنَعُ
هذا الرَّجلُ عِنْدَكِ؟ قالَتْ: هذا لهُ مُنْذُ كذا وكذا، يَتَعَاهَدُنِي
يَأْتِينِي بِمَا يُصْلِحُنِي، وَيُخْرِجُ عَنِّي الأَذَى، فَقَالَ
طَلْحَةُ: ثَكِلَتْكَ أُمُّكَ طَلْحَةُ، عَثَرَاتِ عُمَرَ تَتَّبِعُ؟!
وكانَ أبو وائلٍ يَطُوفُ على نساءِ الحيِّ وَعَجَائِزِهِم كُلَّ يومٍ، فَيَشْتَرِي لهُنَّ حَوَائِجَهُنَّ وما يُصْلِحُهُنَّ.
وقالَ مجاهدٌ: صَحِبْتُ ابنَ عمرَ في السفرِ لأَِخْدُمَهُ، فكانَ يَخْدُمُنِي.
وصَحِبَ
رَجُلٌ قومًا في الجهادِ، فَاشْتَرَطَ عليهم أنْ يَخْدُمَهُم، فكانَ إذا
أَرَادَ أحدٌ منهُم أنْ يَغْسِلَ رَأْسَهُ أوْ ثوبَهُ قالَ: هذا مِنْ
شَرْطِي، فَيَفْعَلُهُ.
فَمَاتَ،
فَجَرَّدُوهُ للغُسْلِ، فَرَأَوْا على يدِهِ مَكْتُوبًا: منْ أَهْلِ
الجنَّةِ، فَنَظَرُوا، فإذا هيَ كتابةٌ بينَ الجلدِ واللَّحْمِ.
وفِي
(الصَّحِيحَيْنِ): عنْ أنسٍ قالَ: (كُنَّا مَعَ النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ فِي السَّفَرِ، فَمِنَّا الصَّائِمُ، وَمِنَّا
المُفْطِرُ، قَالَ: فَنَزَلْنَا مَنْزِلاً فِي يَوْمٍ حَارٍّ، أَكْثَرُنَا
ظِلاًّ صَاحِبُ الْكِسَاءِ، وَمِنَّا مَنْ يَتَّقِي الشَّمْسَ بِيَدِهِ،
قالَ: فَسَقَطَ الصُّوَّامُ، وَقَامَ الْمُفْطِرُونَ وَضَرَبُوا
الأَبْنِيَةَ، وَسَقَوا الرِّكَابَ) فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((ذَهَبَ الْمُفْطِرُونَ الْيَوْمَ بِالأَجْرِ)).
ويُرْوَى
عنْ رَجُلٍ منْ أَسْلَمَ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ
أُتِيَ بِطَعَامٍ في بَعْضِ أَسْفَارِهِ، فَأَكَلَ مِنْهُ وَأَكَلَ
أَصْحابُهُ، وَقَبَضَ الأَسْلَمِيُّ يَدَهُ، فقالَ لهُ رسولُ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ : ((مَا لَكَ؟)) قالَ: إِنِّي صَائِمٌ، قالَ: ((فَمَا حَمَلَكَ عَلَى ذَلِكَ؟))قالَ: مَعِي ابْنَايَ يَرْحَلانِ لِي وَيَخْدُمَانِي، فَقَالَ: ((مَا زَالَ لَهُمُ الْفَضْلُ عَلَيْكَ بَعْدُ)).
وفي (مَرَاسِيلِ
أَبِي دَاوُدَ): عنْ أبي قِلابَةَ، أَنَّ ناسًا منْ أصحابِ رسولِ اللَّهِ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قَدِمُوا يُثْنُونَ على صاحبٍ لهم
خَيْرًا، قَالُوا: ما رَأَيْنَا مِثْلَ فلانٍ قطُّ، ما كانَ في مَسِيرٍ إلا
كَانَ فِي قِرَاءَةٍ، وَلا نَزَلْنَا مَنْزِلاً إلا كانَ في صلاةٍ، قالَ: ((فَمَنْ كَانَ يَكْفِيهِ ضَيْعَتَهُ؟))، حتَّى ذَكَرَ: ((وَمَنْ كَانَ يَعْلِفُ جَمَلَهُ أَوْ دَابَّتَهُ؟)) قالُوا: نحنُ، قالَ: ((فَكُلُّكُمْ خَيْرٌ مِنْهُ)).
(5) قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَلْتَمِسُ فِيهِ عِلْمًا سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)).
وقدْ رَوَى هذا المعنَى أَيْضًا أبو الدَّرْدَاءِ عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.
وَسُلُوكُ
الطَّريقِ لالْتِمَاسِ العلمِ يَدْخُلُ فيهِ سلوكُ الطَّريقِ
الحَقِيقِيِّ، وَهوَ المَشْيُ بالأقدامِ إلى مجالسِ العلماءِ، وَيَدْخُلُ
فيهِ سلوكُ الطُّرُقِ المَعْنَوِيَّةِ المُؤَدِّيَةِ إلى حُصولِ العلمِ،
مثلَ حِفْظِهِ، وَدِرَاسَتِهِ، وَمُذَاكَرَتِهِ، وَمُطَالَعَتِهِ،
وَكِتَابَتِهِ، والتَّفَهُّمِ لهُ، ونحوِ ذلكَ مِن الطُّرُقِ المعنويَّةِ
التي يُتَوَصَّلُ بها إلى العلمِ.
وقولُهُ: ((سَهَّلَ اللَّهُ لَهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ)).
قالَ بعضُ السَّلَفِ: هَلْ مِنْ طالبِ عِلْمٍ فَيُعَانَ عليهِ؟
وقدْ يُرَادُ أَيْضًا:
أنَّ اللَّهَ يُيَسِّرُ لطالبِ العلمِ إذا قَصَدَ بِطَلَبِهِ وَجْهَ
اللَّهِ الانْتِفَاعَ بهِ والعملَ بِمُقْتَضَاهُ، فيكونُ سَبَبًا
لِهِدَايَتِهِ ولدخولِ الجنَّةِ بذلكَ.
وقدْ
يُيَسِّرُ اللَّهُ لطالبِ العلمِ عُلُومًا أُخَرَ يَنْتَفِعُ بها، وتكونُ
مُوصِلَةً لَهُ إلى الجنَّةِ، كما قِيلَ: مَنْ عَمِلَ بما عَلِمَ
أَوْرَثَهُ اللَّهُ عِلْمَ ما لمْ يَعْلَمْ، وكَمَا قِيلَ: ثوابُ
الْحَسَنَةِ الحَسَنَةُ بَعْدَهَا.
وقدْ دَلَّ على ذلكَ قولُهُ تَعَالَى: {وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى} [مَرْيَم: 76]، وقولُهُ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ} [مُحَمَّد: 17].
وقدْ
يَدْخُلُ في ذلكَ أيضًا تَسْهِيلُ طريقِ الجنَّةِ الحِسِّيِّ يومَ القيامةِ
-وهوَ الصِّراطُ- وما قَبْلَهُ وما بَعْدَهُ من الأهوالِ، فَيُيَسِّرُ
ذلكَ على طالبِ العلمِ للانتفاعِ بهِ؛ فإنَّ العِلْمَ يَدُلُّ على اللَّهِ
مِنْ أقْرَبِ الطرقِ إليهِ.
فَمَنْ
سَلَكَ طريقَهُ، ولمْ يُعَرِّجْ عنْهُ، وَصَلَ إلى اللَّهِ وإلى الجنَّةِ
مِنْ أقربِ الطُّرقِ وَأَسْهَلِهَا، فَسَهُلَتْ عليهِ الطُّرُقُ
المُوَصِّلَةُ إلى الجنَّةِ كُلُّهَا في الدُّنْيَا والآخرةِ.
فلا
طَرِيقَ إلى معرفةِ اللَّهِ، وإلى الوصولِ إلى رِضْوَانِهِ، والفَوْزِ
بِقُرْبِهِ، وَمُجَاوَرَتِهِ في الآخرةِ إلا بالعلمِ النَّافعِ الذي بَعَثَ
اللَّهُ بهِ رُسُلَهُ، وَأَنْزَلَ بهِ كُتُبَهُ، فهوَ الدَّليلُ عليهِ،
وبهِ يُهْتَدَى في ظُلُمَاتِ الجهلِ والشُّبَهِ والشُّكُوكِ.
ولهذا سَمَّى اللَّهُ كِتَابَهُ نُورًا؛ لأنَّهُ يُهْتَدَى بهِ في الظُّلُمَاتِ، قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {قَدْ
جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ
مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ
الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ
مُسْتَقِيمٍ} [المائدة:15ـ 16].
وَمَثَّلَ
النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حَمَلَةَ العلمِ الذي جَاءَ بهِ
بِالنُّجومِ التي يُهْتَدَى بها في الظُّلُمَاتِ، فَفِي (المُسْنَدِ): عنْ
أنسٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
مَثَلَ الْعُلَمَاءِ فِي الأَرْضِ كَمَثَلِ النُّجُومِ فِي السَّمَاءِ،
يُهْتَدَى بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ، فَإِذَا انْطَمَسَتِ
النُّجُومُ أَوْشَكَ أَنْ تَضِلَّ الْهُدَاةُ)).
وما
دَامَ الْعِلْمُ بَاقِيًا في الأرضِ فالنَّاسُ في هُدًى، وَبَقَاءُ العلمِ
بَقَاءُ حَمَلَتِهِ، فإذا ذَهَبَ حَمَلَتُهُ وَمَنْ يَقُومُ بهِ وَقَعَ
النَّاسُ في الضلالِ، كما في (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ:
((إِنَّ اللَّهَ لا يَقْبِضُ الْعِلْمَ انْتِزَاعًا يَنْتَزِعُهُ مِنْ
صُدُورِ النَّاسِ، وَلَكِنْ يَقْبِضُهُ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ، فَإِذَا
لَمْ يَبْقَ عَالِمٌ اتَّخَذَ النَّاسُ رُؤَسَاءَ جُهَّالاً، فَسُئِلُوا
فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ، فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا)).
وذَكَرَ
النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا رَفْعَ العلمِ، فقيلَ
لهُ: كَيْفَ يَذْهَبُ العِلْمُ وَقَدْ قَرَأْنَا القُرْآنَ وَأَقْرَأْنَاهُ
نِساءَنا وَأَبناءَنا؟ فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ:
((هَذِهِ التَّوْرَاةُ وَالإِنْجِيلُ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، فَمَاذَا تُغْنِي عَنْهُمْ؟))
فَسُئِلَ عُبَادَةُ بنُ الصَّامِتِ عنْ هذا الحديثِ، فقالَ: لوْ شِئْتُ لأََخْبَرْتُكَ بأوَّلِ عِلْمٍ يُرْفَعُ مِن النَّاسِ: الخُشُوعُ.
وإنَّمَا قالَ عُبَادَةُ هذا؛ لأنَّ العلمَ قِسْمَانِ:
أحدُهما:
ما كانَ ثَمَرَتُهُ في قلبِ الإِنسانِ، وهوَ العلمُ باللَّهِ تَعَالَى،
وأسمائِهِ، وصفاتِهِ، وأفعالِهِ المُقْتَضِيَةِ لِخَشْيَتِهِ،
وَمَهَابَتِهِ، وَإِجْلالِهِ، والخضوعِ لهُ، وَلِمَحَبَّتِهِ، وَرَجَائِهِ،
ودُعَائِهِ، والتَّوَكُّلِ عليهِ، ونحوِ ذلكَ.
وقالَ الحَسَنُ: (العلمُ عِلْمَانِ: عِلْمٌ على اللسانِ، فذاكَ حُجَّةُ اللَّهِ على ابنِ آدمَ، وعِلْمٌ في القلبِ، فذاكَ العلمُ النافعُ)
والقسمُ الثاني: العلمُ الذي على اللِّسانِ، وهوَ حُجَّةُ اللَّهِ كما في الحديثِ: ((الْقُرْآنُ حُجَّةٌ لَكَ أَوْ عَلَيْكَ)).
فأوَّلُ ما يُرْفَعُ مِن العلمِ: العلمُ النَّافِعُ، وهوَ العلمُ الباطنُ الَّذي يُخالِطُ القلوبَ ويُصْلِحُهَا.
وَيَبْقَى عِلْمُ اللِّسانِ حُجَّةً، فَيَتَهَاوَنُ الناسُ بهِ، ولا يَعْمَلُونَ بِمُقْتَضَاهُ، لا حَمَلَتُهُ ولا غيرُهُم.
ثمَّ
يُسْرَى بهِ في آخِرِ الزمانِ، فلا يَبْقَى في المصاحفِ ولا في القُلوبِ
منهُ شيءٌ بِالْكُلِّيَّةِ، وبعدَ ذلكَ تَقُومُ السَّاعةُ، كما قالَ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلا عَلَى شِرَارِ النَّاسِ))، وقالَ: ((لا تَقُومُ السَّاعَةُ وَفِي الأَرْضِ أَحَدٌ يَقُولُ: اللَّهُ اللَّهُ)).
قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَا
جَلَسَ قَوْمٌ فِي بَيْتٍ مِنْ بُيُوتِ اللَّهِ، يَتْلُونَ كِتَابَ
اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ بَيْنَهُمْ، إِلا نَزَلَتْ عَلَيْهِمُ
السَّكِينَةُ، وَغَشِيَتْهُمُ الرَّحْمَةُ، وَحَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ،
وَذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِيمَنْ عِنْدَهُ)).
هذا يَدُلُّ على اسْتِحْبَابِ الجلوسِ في المساجدِ؛ لتلاوةِ القرآنِ وَمُدَارَسَتِهِ.
وهذا إنْ حُمِلَ على تَعَلُّمِ القرآنِ وَتَعْلِيمِهِ فلا خِلافَ في اسْتِحْبَابِهِ.
قالَ أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيُّ: فذاكَ الذي أَقْعَدَنِي مَقْعَدِي هذا.
وكانَ قدْ عَلَّمَ القرآنَ في زمنِ عُثْمَانَ بنِ عَفَّانَ حتَّى بَلَغَ الحَجَّاجَ بنَ يُوسُفَ.
وإنْ حُمِلَ على ما هوَ أَعَمُّ مِنْ ذلكَ دَخَلَ فيهِ الاجتماعُ في المساجدِ على دراسةِ القرآنِ مُطْلَقًا.
وكانَ عُمَرُ
يَأْمُرُ مَنْ يَقْرَأُ عليهِ وعلى أصحابِهِ وهُمْ يَسْمَعُونَ، فَتَارَةً
يَأْمُرُ أَبَا مُوسَى، وَتَارَةً يَأْمُرُ عُقْبَةَ بنَ عَامِرٍ.
وَسُئِلَ
ابنُ عَبَّاسٍ: أيُّ الْعَمَلِ أَفْضَلُ؟ قالَ: ذِكْرُ اللَّهِ، وَمَا
جَلَسَ قَوْمٌ في بيتٍ منْ بيوتِ اللَّهِ يَتَعَاطَوْنَ فيهِ كتابَ اللَّهِ
فيما بَيْنَهُمْ وَيَتَدَارَسُونَهُ، إلا أَظَلَّتْهُم الملائكةُ
بِأَجْنِحَتِهَا، وكانوا أَضْيَافَ اللَّهِ ما دَامُوا على ذلكَ، حتَّى
يُفِيضُوا في حديثٍ غَيْرِهِ.
ورُوِيَ مَرْفُوعًا، والموقوفُ أَصَحُّ.
ورَوَى عَطِيَّةُ عنْ أبي سعيدٍ الْخُدْرِيِّ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((مَا
مِنْ قَوْمٍ صَلَّوْا صَلاةَ الْغَدَاةِ، ثُمَّ قَعَدُوا في مُصَلاهُمْ
يَتَعَاطَوْنَ كِتَابَ اللَّهِ وَيَتَدَارَسُونَهُ، إِلا وَكَّلَ اللَّهُ
بِهِم مَلائِكَةً يَسْتَغْفِرُونَ لَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ
غَيْرِهِ)).
وهذا يَدُلُّ على اسْتِحْبَابِ الاجتماعِ بعدَ صلاةِ الغداةِ لِمُدَارَسَةِ القرآنِ. ولكنْ عَطِيَّةُ فيهِ ضَعْفٌ.
وقدْ
رَوَى حَرْبٌ الكِرْمَانِيُّ بإسنادِهِ عن الأَوْزَاعِيِّ، أنَّهُ سُئِلَ
عن الدِّراسةِ بعدَ صلاةِ الصُّبحِ، فقالَ: أَخْبَرَنِي حَسَّانُ بنُ
عَطِيَّةَ، أنَّ أوَّلَ مَنْ أَحْدَثَهَا في مسجدِ دِمَشْقَ هِشَامُ بنُ
إِسْمَاعِيلَ المَخْزُومِيُّ في خلافةِ عبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوَانَ،
فَأَخَذَ النَّاسُ بِذَلِكَ.
وبإسنادِهِ
عنْ سعيدِ بنِ عبدِ العزيزِ وإبراهيمَ بنِ سُلَيْمَانَ، أنَّهُمَا كَانَا
يَدْرُسَانِ القرآنَ بعدَ صلاةِ الصبحِ بِبَيْرُوتَ، وَالأَوْزَاعِيُّ في
المسجدِ لا يُغَيِّرُ عَلَيْهِم.
قالَ حَرْبٌ: وكُلُّ ذلكَ حَسَنٌ جميلٌ.
وقدْ أَنْكَرَ ذلكَ مَالِكٌ على أهلِ الشامِ.
قالَ
زيدُ بنُ عُبَيْدٍ الدِّمَشْقِيُّ: قالَ لي مالِكُ بنُ أنسٍ: بَلَغَنِي
أنَّكُمْ تَجْلِسُونَ حِلَقًا تَقْرَءُونَ، فَأَخْبَرْتُهُ بِمَا كَانَ
يَفْعَلُ أَصْحَابُنَا، فَقَالَ مَالِكٌ: عِنْدَنا كانَ المُهَاجِرُونَ
والأنصارُ ما نَعْرِفُ هذا.
قالَ: فَقُلْتُ: هذا طَرِيفٌ؟ قالَ: وَطَرِيفٌ رَجُلٌ يَقْرَأُ وَيَجْتَمِعُ الناسُ حَوْلَهُ، فقالَ: هذا عَنْ غَيْرِ رَأْيِنَا.
قالَ
أبو مُصْعَبٍ وإسحاقُ بنُ مُحَمَّدٍ الفَرْوِيُّ: سَمِعْنَا مالكَ بنَ
أَنَسٍ يَقُولُ: الاجتماعُ بُكْرَةً بعدَ صلاةِ الفَجْرِ لقراءةِ القرآنِ
بِدْعَةٌ، ما كانَ أصحابُ رسولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ،
ولا العلماءُ بَعْدَهُم على هذا، كانُوا إذا صَلَّوْا يَخْلُو كلٌّ
بنفسِهِ وَيَقْرَأُ، وَيَذْكُرُ اللَّهَ عزَّ وجلَّ، ثُمَّ يَنْصَرِفُونَ
منْ غيرِ أنْ يُكَلِّمَ بَعْضُهُم بَعْضًا؛ اشْتِغَالاً بِذِكْرِ اللَّهِ،
فهذهِ كُلُّهَا مُحْدَثَةٌ.
وقالَ
ابنُ وَهْبٍ: سَمِعْتُ مَالِكًا يقولُ: لمْ تَكُن القراءةُ في المسجدِ
مِنْ أمْرِ النَّاسِ القديمِ، وَأَوَّلُ مَنْ أَحْدَثَ ذلكَ في المسجدِ
الحَجَّاجُ بنُ يُوسُفَ.
قالَ مالكٌ: (وأنَا أَكْرَهُ ذَلِكَ الذي يَقْرَأُ في المسجدِ في المصحفِ).
وقدْ رَوَى هذا كُلَّهُ أبو بكرٍ النَّيْسَابُورِيُّ في كتابِ (مَنَاقِبِ مَالِكٍ)رَحِمَهُ اللَّهُ.
واسْتَدَلَّ
الأَكْثَرُونَ على استحبابِ الاجتماعِ لمُدَارسةِ القرآنِ في الجُملةِ
بالأحاديثِ الدَّالَّةِ على استحبابِ الاجتماعِ للذِّكْرِ، والقرآنُ
أَفْضَلُ أنواعِ الذِّكْرِ، ففي (الصَّحِيحَيْنِ)، عنْ أبي هريرةَ، عن
النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
لِلَّهِ مَلائِكَةً يَطُوفُونَ فِي الطُّرُقِ، يَلْتَمِسُونَ أَهْلَ
الذِّكْرِ، فَإِذَا وَجَدُوا قَوْمًا يَذْكُرُونَ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ
تَنَادَوْا: هَلُمُّوا إِلَى حَاجَتِكُمْ. فَيَحُفُّونَهُمْ
بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْأَلُهُمْ رَبُّهُمْ،
وَهُوَ أَعْلَمُ بِهِمْ: مَا يَقُولُ عِبَادِي؟ قَالَ: يَقُولُونَ:
يُسَبِّحُونَكَ، وَيُكَبِّرُونَكَ، وَيَحْمَدُونَكَ، وَيُمَجِّدُونَكَ،
فَيَقُولُ: هَلْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ مَا رَأَوْكَ،
فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْنِي؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ رَأَوْكَ كَانُوا
أَشَدَّ لَكَ عِبَادَةً، وَأَشَدَّ لَكَ تَمْجِيدًا وَتَحْمِيدًا،
وَأَكْثَرَ لَكَ تَسْبِيحًا، فَيَقولُ: فَمَا يَسْأَلُونِي؟ قَالُوا:
يَسْأَلُونَكَ الْجَنَّةَ، فَيَقُولُ: وَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لا
وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا رَأَوْهَا، فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ أَنَّهُمْ
رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ
عَلَيْهَا حِرْصًا، وَأَشَدَّ لَهَا طَلَبًا، وَأَشَدَّ فِيهَا رَغْبَةً،
قَالَ: فَمِمَّ يَتَعَوَّذُونَ؟ فَيَقُولُونَ: مِنَ النَّارِ. قالَ:
يَقُولُ: فَهَلْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لا وَاللَّهِ يَا رَبِّ، مَا
رَأَوْهَا، فَيَقُولُ: كَيْفَ لَوْ رَأَوْهَا؟ فَيَقُولُونَ: لَوْ
أَنَّهُمْ رَأَوْهَا كَانُوا أَشَدَّ مِنْها فِرَارًا، وَأَشَدَّ لَهَا
مَخَافَةً. فَيَقُولُ اللَّهُ تَعَالَى: أُشْهِدُكُمْ أَنِّي قَدْ غَفَرْتُ
لَهُمْ. فَيَقُولُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلائِكَةِ: فِيهِمْ فُلانٌ لَيْسَ
مِنْهُمْ، إِنَّمَا جَاءَ لِحَاجَتِهِ. قَالَ: هُمُ الْجُلَسَاءُ لا
يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ)).
وفي (صَحِيحِ
مُسْلِمٍ): عنْ مُعاويَةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ خَرَجَ عَلَى حَلْقَةٍ مِنْ أَصْحَابِهِ فقالَ: ((مَا يُجْلِسُكُمْ))؟ قالُوا: جَلَسْنا نَذْكُرُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ، وَنَحْمَدُهُ لِمَا هَدَانَا لِلإِسْلامِ وَمَنَّ عَلَيْنَا بِهِ، فقالَ: ((آللَّهِ مَا أَجْلَسَكُمْ إِلا ذَلِكَ؟)) قالُوا: آللَّهِ مَا أَجْلَسَنَا إِلا ذَلِكَ، قالَ: ((أَمَا
إِنِّي لَمْ أَسْتَحْلِفْكُمْ لِتُهْمَةٍ لَكُمْ، إِنَّهُ أَتَانِي
جِبْرِيلُ فَأَخْبَرَنِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يُبَاهِي بِكُمُ
الْمَلائِكَةَ)).
وَخَرَّجَ
الحَاكِمُ منْ حديثِ معاويَةَ قالَ: كُنْتُ مَعَ النبيِّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ يَوْمًا، فَدَخَلَ المَسْجِدَ، فَإِذا هُوَ بِقَوْمٍ فِي
المسْجِدِ قُعودٍ، فقالَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أَقْعَدَكُمْ؟))
فقالُوا: صَلَّيْنَا الصَّلاةَ الْمَكْتُوبَةَ، ثُمَّ قَعَدْنَا
نَتَذَاكَرُ كِتَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَسُنَّةَ نَبِيِّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فقالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ
وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللَّهَ إِذَا ذَكَرَ شَيْئًا تَعَاظَمَ ذِكْرُهُ)).
وفي المَعْنَى أَحَادِيثُ أُخَرُ مُتَعَدِّدَةٌ.
أحدُها: تَنَزُّلُ
السَّكِينَةِ عليهم، وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عن البَرَاءِ بنِ عَازِبٍ
قالَ: كَانَ رَجُلٌ يَقْرَأُ سورةَ الكَهْفِ وِعِنْدَهُ فَرَسٌ،
فَتَغَشَّتْهُ سَحَابَةٌ، فَجَعَلَتْ تَدُورُ وَتَدْنُو، وَجَعَلَ فَرَسُهُ
يَنْفِرُ مِنْهَا.
فَلَمَّا أَصْبَحَ أَتَى النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ، فقالَ: ((تِلْكَ السَّكِينَةُ تَنَزَّلَتْ لِلْقُرْآنِ)).
وفيهما أَيْضًا: عنْ أبي
سعيدٍ، أنَّ أُسَيْدَ بنَ حُضَيْرٍ بَيْنَمَا هوَ لَيْلَةً يَقْرَأُ فِي
مِرْبَدِهِ، إذْ جَالَتْ فَرَسُهُ، فَقَرَأَ، ثمَّ جَالَتْ أُخْرَى،
فَقَرَأَ، ثمَّ جَالَتْ أَيْضًا.
فقالَ
أُسَيْدٌ: فَخَشِيتُ أنْ تَطَأَ يَحْيَى -يَعْنِي: ابْنَهُ- قالَ:
فَقُمْتُ إِلَيْهَا، فإذا مِثْلُ الظُّلَّةِ فَوْقَ رَأْسِي فيها أمْثَالُ
السُّرُجِ، عَرَجَتْ في الجَوِّ حتَّى ما أَرَاهَا، قالَ: فَغَدَا على
النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ، فَذَكَرَ ذلكَ لهُ، فقالَ
صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((تِلْكَ الْمَلائِكَةُ كَانَتْ تَسْتَمِعُ لَكَ، وَلَوْ قَرَأْتَ لأََصْبَحَتْ يَرَاهَا النَّاسُ مَا تَسْتَتِرُ مِنْهُمْ)). واللَّفْظُ لِمُسْلِمٍ فيهما.
ورَوَى
ابنُ الْمُبَارَكِ عنْ يحيى بنِ أَيُّوبَ، عنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بنِ
زَحْرٍ، عنْ سعدِ بنِ مَسْعُودٍ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ كانَ فِي مَجْلِسٍ، فَرَفَعَ بَصَرَهُ إِلى السَّماءِ،
ثُمَّ طَأْطَأَ بَصَرَهُ، ثُمَّ رَفَعَهُ، فَسُئِلَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ عَن ذَلِكَ، فَقَالَ: ((إِنَّ
هَؤُلاءِ الْقَوْمَ كَانُوا يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى -يَعْنِي:
أَهْلَ مَجْلِسٍ أَمَامَهُ- فَنَزَلَتْ عَلَيْهِمُ السَّكِينَةُ
تَحْمِلُهَا الْمَلائِكَةُ كَالْقُبَّةِ، فَلَمَّا دَنَتْ مِنْهُمْ
تَكَلَّمَ رَجُلٌ مِنْهُمْ بِبَاطِلٍ، فَرُفِعَتْ عَنْهُمْ)). وهذا مُرْسَلٌ.
وَخَرَّجَ
الحاكمُ منْ حديثِ سَلْمَانَ، أنَّهُ كانَ في عِصابةٍ يَذْكُرُونَ اللَّهَ
تَعَالَى، فَمَرَّ بهم رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ
فقالَ: ((مَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ؟ فَإِنِّي رَأَيْتُ الرَّحْمَةَ تَنْزِلُ عَلَيْكُمْ، فَأَرَدْتُ أَنْ أُشَارِكَكُمْ فِيهَا)).
وَخَرَّجَ البَزَّارُ منْ حديثِ أنسٍ، عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
لِلَّهِ سَيَّارَةً مِنَ الْمَلائِكَةِ، يَطْلُبُونَ حِلَقَ الذِّكْرِ،
فَإِذَا أَتَوْا عَلَيْهِمْ حَفُّوا بِهِمْ، ثُمَّ بَعَثُوا رَائِدَهُمْ
إِلَى السَّمَاءِ إِلَى رَبِّ الْعِزَّةِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى
فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا أَتَيْنَا عَلَى عِبَادٍ مِنْ عِبَادِكَ
يُعَظِّمُونَ آلاءَكَ، وَيَتْلُونَ كِتَابَكَ، وَيُصَلُّونَ عَلَى
نَبِيِّكَ، وَيَسْأَلُونَكَ لِآخِرَتِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَيَقُولُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى: غَشُّوهُمْ بِرَحْمَتِي، فَيَقُولُونَ: رَبَّنَا،
إِنَّ فِيهِمْ فُلانًا الْخَطَّاءَ، إِنَّمَا اعْتَنَقَهُمُ اعْتِنَاقًا،
فَيَقُولُ تَعَالَى: غَشُّوهُمْ بِرَحْمَتِي؛ [فَهُمُ الْجُلَسَاءُ لا
يَشْقَى بِهِمْ جَلِيسُهُمْ])).
وهذا مَذْكُورٌ في هذهِ الأحاديثِ التي ذَكَرْنَاهَا، وفي حديثِ أبي هُريرةَ المُتَقَدِّمِ: ((فَيَحُفُّونَهُمْ بِأَجْنِحَتِهِمْ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا)).
وفي روايَةٍ للإِمامِ أحمدَ: ((عَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ حَتَّى يَبْلُغُوا الْعَرْشَ)).
وقالَ خالدُ بنُ مَعْدَانَ، يَرْفَعُ الحديثَ: ((إِنَّ
لِلَّهِ مَلائِكَةً فِي الْهَوَاءِ، يَسِيحُونَ بَيْنَ السَّمَاءِ
وَالأَرْضِ، يَلْتَمِسُونَ الذِّكْرَ، فَإِذَا سَمِعُوا قَوْمًا
يَذْكُرُونَ اللَّهَ تَعَالَى قَالُوا: رُوَيْدًا، زَادَكُمُ اللَّهُ.
فَيَنْشُرُونَ أَجْنِحَتَهُمْ حَوْلَهُمْ حَتَّى يَصْعَدَ كَلامُهُمْ إِلَى
الْعَرْشِ)). خَرَّجَهُ الخَلالُ في كتابِ (السُّنَّةِ).
الرابعُ: أنَّ
اللَّهَ يَذْكُرُهُمْ فِيمَنْ عِنْدَهُ، وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ أبي
هريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((يَقُولُ
اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ
حِينَ يَذْكُرُنِي، فَإِنْ ذَكَرَنِي فِي نَفْسِهِ ذَكَرْتُهُ فِي نَفْسِي،
وَإِنْ ذَكَرَنِي فِي مَلأٍَ ذَكَرْتُهُ فِي مَلأٍَ خَيْرٍ مِنْهُمْ)).
وهذهِ الخِصَالُ الأربعُ لِكُلِّ مُجْتَمِعِينَ على ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى، كما في (صَحِيحِ مُسْلِمٍ): عنْ أبي هريرةَ وأبي سعيدٍ، كلاهُمَا عن النَّبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
لأَِهْلِ ذِكْرِ اللَّهِ تَعَالَى أَرْبَعًا: تَنْزِلُ عَلَيْهِمُ
السَّكِينَةُ، وَتَغْشَاهُمُ الرَّحْمَةُ، وَتَحُفُّ بِهِمُ الْمَلائِكَةُ،
وَيَذْكُرُهُمُ الرَّبُّ فِيمَنْ عِنْدَهُ)).
وَقَدْ قالَ اللَّهُ تَعَالَى: {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} [البقرة: 152].
وذِكْرُ اللَّهِ لعبدِهِ: هُوَ ثَنَاؤُهُ عليهِ في المَلأَِ الأَعْلَى بينَ مَلائِكَتِهِ، وَمُبَاهَاتُهُمْ بهِ، وَتَنْوِيهُهُ بِذِكْرِهِ.
قالَ
الرَّبِيعُ بنُ أَنَسٍ: إنَّ اللَّهَ ذَاكِرٌ مَنْ ذَكَرَهُ، وَزَائِدٌ
مَنْ شَكَرَهُ، وَمُعَذِّبٌ مَنْ كَفَرَهُ. وقالَ عزَّ وجلَّ: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
وَمَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ} [الأحزاب: 41 - 43].
كذا قالَ أبو العَالِيَةِ، ذَكَرَهُ البُخَارِيُّ في (صَحِيحِهِ).
وقالَ
رجلٌ لأَِبِي أُمَامَةَ: رَأَيْتُ في المَنَامِ كأنَّ المَلائِكَةَ
تُصَلِّي عَلَيْكَ كُلَّما دَخَلْتَ وكُلَّمَا خَرَجْتَ، وَكُلَّما قُمْتَ
وكُلَّما جَلَسْتَ.
فقالَ أبو أُمَامَةَ: وَأَنْتُم لوْ شِئْتُمْ صَلَّتْ عليكمُ الملائكةُ، ثمَّ قرأَ: {يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا
وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ
ومَلائِكَتُهُ}. خَرَّجَهُ الحَاكِمُ.
(6) قولُهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ: ((وَمَنْ بَطَّأَ بِهِ عَمَلُهُ لَمْ يُسْرِعْ بِهِ نَسَبُهُ))، مَعْنَاهُ أنَّ العملَ هوَ الذي يَبْلُغُ بالعبدِ درجاتِ الآخرةِ، كَمَا قالَ تَعَالَى: {وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا} [الأنعام: 132].
فَمَنْ أَبْطَأَ بهِ عَمَلُهُ أنْ يَبْلُغَ بهِ المَنَازِلَ العاليَةَ
عندَ اللَّهِ تَعَالَى، لم يُسْرِعْ بهِ نَسَبُهُ، فَيُبَلِّغُهُ تلكَ
الدَّرجاتِ؛ فإنَّ اللَّهَ تَعَالَى رَتَّبَ الْجَزَاءَ على الأعمالِ، لا
على الأنسابِ، كما قالَ تَعَالَى: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلا يَتَسَاءَلُونَ} [المُؤْمِنُونَ: 101]. وَقَدْ أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بالمسارعةِ إلى مغفرتِهِ ورحمتِهِ بالأعمالِ، كما قالَ: {وَسَارِعُوا
إِلَى مَغْفِرةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ
وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي
السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ} [آل عِمْرَانَ: 133 - 134] الآيتَيْنِ، وقالَ: {إنَّ
الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ وَالَّذِينَ هُمْ
بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا
يُشْرِكُونَ وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ
أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي
الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ} [المؤمنونَ: 57 - 61].
قالَ
ابنُ مَسْعُودٍ: (يَأْمُرُ اللَّهُ بِالصِّرَاطِ فَيُضْرَبُ على جَهَنَّمَ،
فَيَمُرُّ النَّاسُ على قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ زُمَرًا زُمَرًا،
أَوَائِلُهُم كَلَمْحِ البَرْقِ، ثمَّ كَمَرِّ الرِّيحِ، ثمَّ كَمَرِّ
الطَّيْرِ، ثمَّ كَمَرِّ البَهَائِمِ، حتَّى يَمُرَّ الرَّجُلُ سَعْيًا،
وَحَتَّى يَمُرَّ الرجلُ مَشْيًا، حتَّى يَمُرَّ آخِرُهُم يَتَلَبَّطُ على
بَطْنِهِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ، لِمَ بَطَّأْتَ بِي؟ فيقولُ: إنِّي لمْ
أُبَطِّئْ بِكَ، إِنَّما بَطَّأَ بِكَ عَمَلُكَ).
وفي (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ أبي هريرةَ قالَ: قالَ رسولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ حينَ أُنْزِلَ عليهِ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقرَبِينَ} [الشعراء: 214]: ((يَا
مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، اشْتَرُوا أَنْفُسَكُمْ مِنَ اللَّهِ، لا أُغْنِي
عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، لا أُغْنِي
عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا عَبَّاسُ بنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ، لا
أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا،يَا صَفِيَّةُ عَمَّةَ رَسُولِ
اللَّهِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ
مُحَمَّدٍ، سَلِينِي مَا شِئْتِ، لا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ
شَيْئًا)).
وفي روايَةٍ خارجَ (الصَّحِيحَيْنِ): ((إِنَّ
أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ، لا يَأْتِي النَّاسُ بِالأَعْمَالِ
وَتَأْتُونِي بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ،
فَتَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ: قَدْ بَلَّغْتُ)).
وَخَرَّجَ ابنُ أبي الدُّنيا منْ حديثِ أبي هريرةَ، عن النبيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ: ((إِنَّ
أَوْلِيَائِي الْمُتَّقُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَإِنْ كَانَ نَسَبٌ
أَقْرَبَ مِنْ نَسَبٍ، يَأْتِي النَّاسُ بِالأَعْمَالِ وَتَأْتُونَ
بِالدُّنْيَا تَحْمِلُونَهَا عَلَى رِقَابِكُمْ تَقُولُونَ: يَا مُحَمَّدُ،
يَا مُحَمَّدُ، فَأَقُولُ هَكَذَا وَهَكَذَا))، وَأَعْرَضَ فِي كِلا عِطْفَيْهِ.
وَخَرَّجَ البَزَّارُ منْ حديثِ رفاعةَ بنِ رافعٍ، أنَّ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ قالَ لِعُمَرَ: ((اجْمَعْ لِي قَوْمَكَ)) -يَعْنِي قُرَيْشًا- فَجَمَعَهُمْ، فَقَالَ: ((إِنَّ
أَوْلِيَائِي مِنْكُمُ الْمُتَّقُونَ، فَإِنْ كُنْتُمْ أُولَئِكَ فَذَاكَ،
وَإِلا فَانْظُرُوا، لا يَأْتِي النَّاسُ بِالأَعْمَالِ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ وَتَأْتُونَ بِالأَثْقَالِ، فَيُعْرَضَ عَنْكُمْ)). وَخَرَّجَهُ الحاكمُ مُخْتَصَرًا وَصَحَّحَهُ.
وفي
(المُسْنَدِ)، عنْ مُعَاذِ بنِ جبلٍ، أنَّ النَّبيَّ صَلَّى اللَّهُ
عَلَيهِ وَسَلَّمَ لَمَّا بَعَثَهُ إلى اليمنِ، خَرَجَ مَعَهُ يُوصِيهِ،
ثمَّ الْتَفَتَ فَأَقْبَلَ بِوَجْهِهِ إلى المدينةِ فقالَ: ((إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِيَ الْمُتَّقُونَ، مَنْ كَانُوا وَحَيْثُ كَانُوا)).
وَيَشْهَدُ
لهذا كُلِّهِ ما في (الصَّحِيحَيْنِ): عنْ عمرِو بنِ العَاصِ، أنَّهُ
سَمِعَ النبيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ يقولُ: ((إِنَّ آلَ أَبِي فُلانٍ لَيْسُوا لِي بِأَوْلِيَاءَ، وَإِنَّمَا وَلِيِّيَ اللَّهُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ)).
يُشِيرُ
إلى أنَّ ولايتَهُ لا تُنَالُ بالنسبِ وإنْ قَرُبَ، وَإنَّمَا تُنَالُ
بالإِيمانِ والعملِ الصالحِ، فمَنْ كانَ أَكْمَلَ إِيمَانًا وَعَمَلاً فهوَ
أَعْظَمُ وَلايَةً لهُ، سواءٌ كَانَ لهُ منهُ نَسَبٌ قريبٌ، أوْ لَمْ
يَكُنْ. وفي هذا المعنَى يَقُولُ بعضُهُم:
لَعَمرُكَ مَا الإِنْسَانُ إِلَّا بِدِينِهِ ** فَلا تَتْرُك التَّقْوَى اتِّكَالاً عَلَى النَّسَبِ
لَقَدْ رَفَعَ الإِسْلامُ سَلْمَانَ فَارِسٍ ** وَقَدْ وَضَعَ الشِّرْكُ الشَّقِيَّ أَبَا لَهَبِ
شرح معالي الشيخ : صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ(مفرغ)
قال الشيخ صالح بن عبد العزيز بن محمد آل الشيخ (م): (
القارئ:
وعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: ((من
نفس عن مؤمنٍ كُرْبةً من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كُرب يوم
القيامة، ومن يسَّر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر
مؤمناً ستره الله في الدنيا والآخرة، والله في عون العبد ما كان العبد في
عون أخيه، ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهل الله له به طريقاً إلى
الجنة، وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله، ويتدارسونه
بينهم؛ إلا نزلت عليهم السكينة، وغشيتهم الرحمة، وحفتهم الملائكة، وذكرهم
الله فيمن عنده، ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)) رواه مسلم.
الشيخ: قال عليه الصلاة والسلام: ((من نفَّسَ عن مؤمنٍ كربةً من كُرب الدنيا نفَّس الله عنه كربةً من كُرب يوم القيامة))،
(الكُربَة): ما يكون معه الضيق والضَّنك والشدة على المسلم: ولهذا ناسَب
معها التنفيس لأنها تستحكم من جميع الجوانب؛ من جهة نفس المؤمن وقلبه وما
يجول فيه، ومن جهة يده، ومن جهة ما حوله، فتستحكم عليه حتى تضيق به الأرض
الواسعة، فهنا إذا نُفس عنه فبقدر ذلك التنفيس يكون الثواب.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ((من نَفَّس عن مؤمن كُرْبةً)) وهذا
فيه إطلاق، يعني: أي كربة من كُرَبِ الدُّنيا، فيدخُل في ذلك الكُرب
النفسية، والكرب العملية، وما يدخل في تَنفيسه في الكلمة الطيبة، وما يدخل
تَنفيسه في المال، وما يدخل تَنفيسه في بذل الجاه، إلى آخره.. فتنفيسُ
الكُربة عامٌ، والكُرَب هنا أيضاً عامة، فمن نفس عن مؤمن كربة بأن يَسَّر
له السبيل إلى التخلص منها، أو خفَّف عليه من وْطأةِ الكُرْبة والشدَّة
والضيق الذي أصابه؛ كان جزاؤهُ عند الله -جلّ وعلا- من جنس عمله، لكن في
يومٍ هو أحوج إلى هذا التنفيس من الدنيا، ولهذا كان الثواب في الآخرة فقال
-عليه الصلاة والسلام-: ((نفَّس الله عنه كربةً من كُرب يوم القيامة))
قال: (ومن يَسَّر على معسِر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة) :
المعْسِر: هو الذي عليه حق لغيره لا يستطيع أداءهُ.
والتيسير
على المعسر يكون بأشياء منها: أن يُعطيه مالاً ليفُك به إعسارهُ، أو أن
يكون الحقُ له فيضعهُ عن المعسر فيخفف عنه، وقد قال جل وعلا: {وإن كان ذو عُسْرةٍ فنظرَةٌ إلى ميسرة} فالتيسير على المعْسِر من الأمور المستحبة ومن فضائل الأعمال ومن الصدقات العظيمة.
قال هنا -عليه الصلاة والسلام-: ((ومن يَسَّر على معسِر))
يعني: خفَّف عنه شأن إعساره بإعطائه مالاً، أو بإسقاط بعض المال الذي
عليه، أو بإسقاط المال كله، أو السعي له في التخلص من الإعسار، يَسَّر الله
عليه جزاءً وفاقاً على ما يسَّر، يسر الله عليه في الدنيا والآخرة، وهذا
من الثواب الذي جُعل في الدنيا والآخرة، فلا بأْس من أن يقصده المسلم؛ في
أن ييسر على إخوانه رغبةً فيما عند الله جل وعلا، ورغبةً في أن ييسر عليه
في الدنيا والآخرة؛ لأنَّ هذا -كما ذكرنا في شرح حديث إنما الأعمال
بالنيات- لا يُنافي الإخلاص فإن العمل إذا رُتِّب عليه الثواب في الدنيا،
أو في الدنيا والآخرة، وجاءت الشريعة بذلك فإن قصده مع ابتغاء وجه الله جل
وعلا والإخلاص له لا حَرَج فيهِ.
قال: ((ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)) : من ستر مسلماً: (مسلم)
هُنا أيضاً تَعم جميع المسلمين، سواءً أكانوا مطيعين صالحين، أم كانوا
فسقة، فإنَّ الستر على المسلم من فضائل الأعمال، بل جعلهُ طائفة من أهل
العلم واجباً، فإنَّ المسلم الذي ليس له ولاية في الأمر بالمعروف والنهي عن
المنكر يجب عليه أن يَسترَ أَخاهُ المسلم أو يتأكد عليه أن يستر، فإذا
عَلِم منه معصية كتمها، وإذا عَلِم منه قَبيحاً كتمه، وسعى في مناصحته
وتخليصه منه.
وأمَّا
أهل الحسْبَة؛ أهل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فإنَّهُم يجوز لهم أن
يعلموا هذا فيما بينهم، لكن لا يجوز لهم أن يتحدثوا بما قد يقترفه بعض
المسلمين من الذنوب والآثام والقاذورات والمعاصي لأنَّ هذا أيضاً داخلٌ في
عموم السَّتْر، ((من ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والأخرة))، لكن الحاجة إلى تأْديبه قائمة، فهؤلاء لهم أن يتداولوا أمره بحسب الحاجة الشرعية.
وهذا
ينبغي التنبيه عليه كثيراً فيمن يلي مثل هذه الأمور؛ في أنهم قد يتوسّعون
في الحديث عن أهل العصيان وعن من يقبضون عليه ممن يرتكب جرماً أو يرتكب
ذنباً أو معصية؛ لتأديبه رحمةً به فمثْلُ هؤلاء ينبغي لهم أن يكتموا
القضايا التي يتداولونها فيما بينهم، وألا يذكروا شيئاً منها إلا لمحتاج
إلى ذلك الحاجة الشرعية.
قال -عليه الصلاة والسلام-: ((والله في عون العبد ما كان العبد في عونِ أخيه)):
هذا
فيه حث على أن يعين المرءُ أخاهُ بأعظم حثٍّ، حيث جَعل أن العبد إذا أعان
أخاه فإنّ الله في عونه، فإذا كنت في حاجة أخيك كان الله في حاجتك، وإذا
أعنت إخوانك المسلمين واحتجت إلى الإعانة فإن الله يعينك، وهذا من أعظم
الفضل والثواب.
قال:((ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً سهَّل الله له به طريقاً إلى الجنَّة)): وهذا
فيه الحثُّ والترغيب على سلوك طريق العلم والرَّغَب فيه، فأيُّ طريق من
طُرق العلم سلكته فإنّ الله جل وعلا يسهل لك به طريقاً إلى الجنة، بشرط
إخلاصك في طلب العلم؛ لأنَّ العلم بابٌ من أبواب الجنة، والجنَّةُ لا تصلح
إلا لِمَن علم حقَّ الله -جل وعلا- فمن طَلبَ العلمَ ورغب فيه مخلصاً لله
جل وعلا سهل الله له به طريقاً إلى الجنَّة.
قال: ((وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله ويتدارسونه بينهم إلا نزلت عليهم السكينة..)) الحديث، قوله: (وما اجتمع قومٌ)
استُدِل به على أنَّ هذا لا يُخص به قوم من قوم، فيصلُح أن يكون هؤلاء
المجتمعون من العلماء، أو من طلبة العلم، أو من العامَّة، أو من العُبَّاد،
أو من غيرهم، فالمساجد تصْلُح للاجتماع فيها لتلاوة كتاب الله ولتدارسه،
فإذا اجتمع أي قومٍ؛ أي فئةٍ، لأجلِ تلاوةِ كتابِ الله وتدارسه فإنهم
يتعرَّضُون لهذا الفضْل العظيم.
قال: ((وما اجتمع قومٌ في بيت من بيوت الله)) والمراد بذلك المسجد، والمسجد -بيتُ الله- إضافة تشريف للمسجد؛ لأنهُ بيتُ يُطْلبُ فيه رضا الله -جل جلاله.
قال: ((يتلون كتاب الله)) هذا
حال أولئك؛ والمقصود بذلك أن يتلو واحدٌ منهم والبقية يسْمَعون كما كان
عليه هدْي السَّلف؛ أمَّا التلاوة الجماعية فهي محدثة ولا تُقَرُّ، وإنما
الذي كان عليه عمل الصحابة فمن بعدهم أنهم يجعلون قارئاً يقرأُ القرآن ثم
يستمعُ البَقية، وقد يتناوبون القراءة فيما بينهم، ويتدارسون كلام الله -جل
وعلا-.
قال: ((إلا نزلت عليهم السَّكينة)): والسَّكينة هذه هي الطمأْنينة والرَّوح والرَّحمة التي تكون من الله جل وعلا، (نزلت عليهم السكينة) نفهم من ذلك أنها من عند الله -جل وعلا- لأنَّه قال: (نزلت عليهم السكنية)، وهذا فيه تعظِيمٌ لها.
قال: ((وغشيتهم الرَّحمة)) وقوله
غشيتهم الرحمة: أنَّ الرَّحمة صارت لهم غشاءً، يعني أنَّها اكتنفت هؤلاء
من جميع جهاتهم، فلا يتسلطُ عليهم شيطان -يعني وهم على تلك الحال- بل
الرحمة اكتنفتهم من جميع الجهات، فصارت عليهم كالغشاء، وهذا من فَضل الله
-العَظِيم- عليهم، حيثُ تعرضوا للرحمة فصارت غشاءً عليهم لا ينفذُ إليهم
غيرها.
قال: ((وحفتهم الملائكة)): وأيضا كلمة حفتهم الملائكة يعني: أحْدقت بهم بتراصٍّ، حيثُ لا ينفذ إليهم من الخارج، وهذا كما قال جل وعلا: {وترى الملائكة حافين من حوْل العرْش يُسبِّحون بحمد ربِّهم}،
فَحفُّ الملائكة بالعرش أو بهؤلاء الذين يتلون يعني: أنهم أحدقوا بهم من
جميع الجهات، وتراصوا بحيثُ كانوا حافين بهم وهذا يدل على أن هؤلاء تعرضوا
لفضل عظيم، لا يتسلَّطُ عليهم وهم إذ ذاك شيطان، إلا ما كان من هوى أنفسهم
والقرين.
قال: ((وذكرهم الله فيمن عنده)): والذِّكر هنا معناهُ الثناء، يعني: أثنى الله عليهم فيمن عندهُ، ومن عنده هم الملائكة المُقرَّبون، كما قال جل وعلا: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبداً لله ولا الملائكة المقربون} فالملائكة المقربون هم الذين عند الله -جل وعلا-: {والذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون}.
وقال بعده: ((ومن بطأ به عمله لم يُسْرع به نسبُه)): فيه
أنَّ التفاخر بالأنساب، والظن أنه لأجل النَّسب يكون المرءُ محبوباً عند
الله -جل وعلا-، هذا جاءت الشريعةُ بإبطاله، والأمرُ على التقوى والعمل: {إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم} فالتقوى هي مدارُ التفضيلُ ومدار التفاضل بين الناس.
الكشاف التحليلي
حديث أبي هريرة رضي الله عنه -مرفوعاً-: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا...)
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
ذكر بعض الأحاديث في معنى هذا الحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا...)
بيان معنى (الكربة)
بيان معنى (التنفيس)
(كربة) نكرة في سياق الشرط فتعم
فضل الصدقة إذا وقعت موقعها
ذكر بعض كربات يوم القيامة
ما قيل في سبب جعل ثواب (التنفيس) في الحديث أخروي بخلاف (التيسير) و(الستر)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)
تعريف (المعسر)
صور التيسير على المعسر:
الصورة الأولى: إِنْظَارُه إلى مَيْسَرَة
الصورة الثانية: وضعُ الدين عنهُ
الصورة الثالثة: إعطاؤه ما يزول به إعساره
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة)
فضل ستر عورات المسلمين
وعيد من كشف عورة أخيه المسلم
أقسام الناس في وجوب الستر عليهم:
القسم الأول: مَنْ كانَ مَسْتُورًا لا يُعْرَفُ بشيءٍ مِن المعاصِي
لا يجوز كشف سترهم ولا التحدث بما اقترفوا لأنه غيبة لهم
الأفضلُ لهذا الضرب من الناس أنْ يَتُوبَ فيما بَيْنَهُ وبينَ اللَّهِ تَعَالَى وَيَسْتُر نَفْسه
القسم الثاني: مَنْ كانَ مُشْتَهِرًا بالمَعَاصِي مُعْلِنًا بها غير مبال بما ارتكب
حكم الستر على أصحاب القسم الثاني
كيف يتوب أصحاب القسم الثاني؟
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)
معنى (العون)
ذكر بعض صور (العون)
فضل السعي في عون المسلم
فضل خدمة الإخوان ومن هم بحاجة إلى خدمة
هدي السلف في خدمة المحتاجين
هدي السلف في خدمة إخوانهم
ذم الاستخدام لغير حاجة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً...)
معنيان لسلوك الطريق في طلب العلم:
المعنى الأول: سلوكُ الطَّريقِ الحَقِيقِيِّ، وَهوَ المَشْيُ بالأقدامِ إلى مجالسِ العلماءِ
المعنى الثاني: سلوكُ الطُّرُقِ المَعْنَوِيَّةِ المُؤَدِّيَةِ إلى حُصولِ العلمِ
قوله: (يلتمس) يدل على اعتبار القصد وإن لم يجد ما التمس
قوله: (علماً) نكرة في سياق الشرط فيعم كل علم يقرب إلى الله تعالى
أقسام العلم:
القسم الأول: العلم القلبي الذي خالط بشاشة القلب وأثمر استقامة الجوارح
أوَّلُ ما يُرْفَعُ مِن العلمِ: الخشوع
القسم الثاني: العلمُ المسموع، وهوَ حُجَّةٌ لصاحبه أو حجة عليه
الترغيب في طلب العلم
الترغيب في نشر العلم
واجب طالب العلم تجاه كتاب الله تعالى
واجب طالب العلم تجاه السنة النبوية
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)
كثرة طرق الجنة
ما قيل في معنى جواب الشرط:
1- أن الله تعالى يسهل له العلم الذي هو طريق موصل إلى الجنة
2- أن سلوكه طريق الطلب سبب للهداية التي هي طريق موصل إلى الجنة
3- أن الله تعالى ييسر له علوماً ينتفع بها تكون موصلة إلى الجنة
4- تسهيل طريق الجنة الحسي يوم القيامة وهو الصراط
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله...)
دلالة الحديث على اسْتِحْبَابِ الجلوسِ في المساجدِ
استحباب الاجتماعِ لمُدَارسةِ القرآن
الفرق بين التلاوة والمدارسة
فضل تدارس القرآن
هدي الصحابة في القراءة بعد الفجر
حكم قراءة الجماعة للقرآن بصوت واحد
فضل حلق الذكر
في الحديث أربعة أنواع من الثواب لمدارسة كتاب الله تعالى في المساجد:
1- تَنَزُّلُ السَّكِينَةِ عليهم
2- غِشْيَانُ الرَّحمةِ لهم
3- حف الملائكة بهم
4- ذكر الله تعالى لهم فيمن عنده
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)
أهمية العمل
السرعة والسلامة عند العبور على الصراط على حسب الأعمال
هدي السلف في استباق الخيرات
* من فوائد حديث أبي هريرة رضي الله عنه:
- الحثُّ على تَنْفِيسِ كُرُبَاتِ المؤمنِ
- أهمية بذل الأسباب
- الجزاءُ مِنْ جنسِ العمل
- فضل ستر المؤمن
- فضل التيسيرِ على المُعْسِر
- فضل طلبِ العلمِ
- فضل مجالس الذكر
- تسمية المساجد بيوت الله
- عظم شأن العمل
العناصر
حديث أبي هريرة رضي الله عنه -مرفوعاً-: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا...)
تخريج الحديث
موضوع الحديث
منزلة الحديث
المعنى الإجمالي للحديث
ذكر بعض الأحاديث في معنى هذا الحديث
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (من نفس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا...)
بيان معنى (الكربة)
بيان معنى (التنفيس)
ذكر بعض كربات يوم القيامة
ما قيل في سبب جعل ثواب (التنفيس) في الحديث أخروي بخلاف (التيسير) و(الستر)
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن يسر على معسر يسر الله عليه في الدنيا والآخرة)
تعريف (المعسر)
صور التيسير على المعسر
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن ستر على مسلم ستره الله في الدنيا والآخرة)
فضل ستر عورات المسلمين
وعيد من كشف عورة أخيه المسلم
أقسام الناس في وجوب الستر عليهم
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه)
معنى (العون)
ذكر بعض صور (العون)
فضل السعي في عون المسلم
فضل خدمة الإخوان ومن هم بحاجة إلى خدمة
هدي السلف في خدمة المحتاجين
هدي السلف في خدمة إخوانهم
ذم الاستخدام لغير حاجة
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن سلك طريقاً يلتمس فيه علماً...)
معنيان لسلوك الطريق في طلب العلم:
أقسام العلم
الترغيب في طلب العلم
الترغيب في نشر العلم
واجب طالب العلم تجاه كتاب الله تعالى
واجب طالب العلم تجاه السنة النبوية
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (سهل الله له به طريقاً إلى الجنة)
ما قيل في معنى جواب الشرط
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (وما جلس قوم في بيت من بيوت الله يتلون كتاب الله...)
دلالة الحديث على اسْتِحْبَابِ الجلوسِ في المساجدِ
استحباب الاجتماعِ لمُدَارسةِ القرآن
هدي الصحابة في القراءة بعد الفجر
حكم قراءة الجماعة للقرآن بصوت واحد
فضل حلق الذكر
في الحديث أربعة أنواع من الثواب لمدارسة كتاب الله تعالى في المساجد:
1- تَنَزُّلُ السَّكِينَةِ عليهم
2- غِشْيَانُ الرَّحمةِ لهم
3- حف الملائكة بهم
4- ذكر الله تعالى لهم فيمن عنده
شرح قوله صلى الله عليه وسلم: (ومن بطأ به عمله لم يسرع به نسبه)
أهمية العمل
من فوائد حديث أبي هريرة رضي الله عنه