الدروس
course cover
الدرس التاسع عشر: كمال دين الإسلام
22 Jul 2011
22 Jul 2011

8150

0

0

course cover
شرح ثلاثة الأصول وأدلتها

القسم الرابع

الدرس التاسع عشر: كمال دين الإسلام
22 Jul 2011
22 Jul 2011

22 Jul 2011

8150

0

0


0

0

0

0

0

الدرس التاسع عشر: كمال دين الإسلام



قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:

اقتباس:

(وَدِينُهُ بَاقٍ، وَهَذَا دِينُهُ، لاخَيْرَ إِلاَّ دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلاَّ حَذَّرَهَا عَنْهُ.
وَالخَيْرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ: التَّوْحِيـدُ وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، وَالشَّرُّ الَّذِي حَذَّرَ عَنْهُ: الشِّرْكُ وَجَمِيعُ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ وَيَابَاهُ.
بَعَثَهُ اللهُ إِلى النَّاسِ كَافَّةً، وَافْتَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الجِنِّ وَالإِنْسِ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً[الأعراف:158].
وَأَكْمَلَ اللهُ لَهُ الدِّينَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً[المائدة:3].
وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ قوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ[الزمر:30-31].


عناصر الدرس:

· أصل بقاء الدين محفوظاً إلى قيام الساعة
· الاعتصام بالكتاب والسنة
· عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين
· أصل كمال دين الإسلام
· كمال الدين يستلزم كمال التبليغ
· موت النبي صلى الله عليه وسلم

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

22 Jul 2011

أصل بقاء الدين محفوظاً إلى قيام الساعة

قوله: (وَدِينُهُ بَاقٍ).
أي أن دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم باق إلى أن تقوم الساعة ؛ ومن أدلة ذلك قول الله تعالى: {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} وقوله: {ثم إن علينا بيانه}، وقوله : {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}
فضمن الله تعالى حفظ كتابه الكريم نصّاً وبياناً ، فلذلك لا يزال هذا القرآن الكريم محفوظاً ولا يزال ما يلزم لبيانه محفوظاً بحفظ الله تعالى لكتابه.
ويدل لذلك أيضاً ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس )) هذا لفظ حديث معاوية بن أبي سفيان في صحيح مسلم.
وقد روي هذا الحديث بألفاظ مقاربة في الصحيحين والمسند وغيرها من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم : منهم جابر بن عبد الله، والمغيرة بن شعبة، وثوبان بن بجدد ، وقرة بن إياس، وسلمة بن نفيل، وزيد بن أرقم، وعمران بن حصين، وأبو بكرة الثقفي، وأبو أمامة الباهلي ، وأبو هريرة، وعمر بن الخطاب وغيرهم.
فهو من الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
وهذا أصل مهم من أصول الدين وهو اعتقاد كمال الدين وحفظه إلى أن تقوم الساعة، وبهذا الأصل يجاب عن شبهات كثيرة يثيرها بعض أهل البدع والزنادقة والملحدين.
قال البخاري رحمه الله في صحيحه: (باب قول النبي صلى الله عليه و سلم: (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق )) وهم أهل العلم ).
وهذا تفسير من البخاري رحمه الله.
وقال علي بن المديني: (هم أصحاب الحديث).
والظهور يتناول أهل العلم والجهاد كما صُرِّحَ به في بعض الروايات كما في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة )).
وفي حديث أبي هريرة: ((لا تزال طائفة من أمتي قوَّامة على أمرِ الله لا يضرّها من خالفها تقاتلُ أعداءَ الله كلَّما ذهبت حربٌ نَشَبَتْ حَرْبُ قومٍ آخرين حتى تأتيهم الساعة )).
وتفسير البخاري رحمه الله صحيح لأنه لا يكون الجهاد إلا على دعوة ، ولا تكون الدعوة إلا على علم، فعُلِمَ بذلك أن ظهور العلم أصل ظهور الجهاد.
ولذلك كانت الدعوات الإصلاحية مبناها على العلم أولاً.

وهذه الأحاديث فيها ضمانات عظيمة وإشارات جليلة:
- فمنها أن الله تعالى قد تكفل بحفظ دينه وأوليائه .
- ومنها أن أهل الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
- ومنها أنهم يقاتلون على الحق؛ فمعهم سلاح العلم الذي يُعرف به الحق، ومعهم ما يمكّنهم من القتال الذي ينصرون به على أعدائهم.
- ومن الإشارات في هذه الأحاديث أنه يقع لمن قام بهذه الأمور من الدعوة والجهاد خذلان شديد ومخالفة يُبتلَون بها لكنَّ ذلك لا يضرهم .
فالخذلان يكون ممن يُتوقع منه النصر والمؤازرة، والمخالفة قد تكون منهم وقد تكون ممن يبدي العداوة والمناوأة.
- ومما دلَّ عليه مفهوم هذه الأحاديث أن هؤلاء الخاذلين والمخالفين غير منصورين ، وإن اغتروا ببعض وسائل العلو في الأرض؛ فإنما هو متاع إلى حين ثم تكون عاقبتهم سيئة.

فمن فقه هذه الأحاديث:
- أيقن أن الله تعالى ناصر دينه ولو كره الكافرون، وأن السعيد الموفَّق من جعله الله من أنصار دينه.
- وأيقن أن عليه أن يعرف الحق بدليله وأن يكون قوَّاماً بأمر الله عز وجل غير عابئ بمن يخذله أو يخالفه ممن أركسهم الله بما كسبوا من المنافقين والكافرين والعصاة المفتونين.
- وأيقن أن خذلانهم ومخالفتهم لا تضره بإذن الله.
- وأيقن أن فتنة هؤلاء الخاذلين والمخالفين إنما كانت بسبب مخالفتهم لهدى الله عز وجل وإعراضهم عن طلب الهدى واتباعهم الظنَّ وما تهوى الأنفس؛ فيشتد خوفه من الوقوع فيما وقعوا فيه.
فيدعوه ذلك إلى الاعتصام بالله عز وجل والرضى به والثقة به جل وعلا {وكفى بالله ولياً وكفى بالله نصيراً}
ويدعوه ذلك إلى أن يكون أكبر همّه أن يكون من الذين يعلمون الحق ويعملون به.

وقد ضمن الله تعالى لمن اعتصم به أن يهديه ، كما قال تعالى : {ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم}
وقال: { فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175) }
ثلاث بشارات عظيمة كل واحدة منها خير من الدنيا وما فيها.
وتأمل قول الله تعالى: {فسيدخلهم في رحمة منه وفضل} فكأن الرحمة والفضل يحيطان بهم من جميع جوانبهم يتقلبون فيهما كيف يشاؤون.
{ويهديهم إليه صراطاً مستقيماً} وهذه هداية خاصة تقربهم إلى الله تعالى وتدنيهم منه وتعرّفهم بما يحبه الله عز وجل ويرضاه وتعرّفهم بما لم يكونوا ليهتدوا إلى معرفته لولا فضل الله عز وجل من أسباب رحمته وتوفيقه وفضله العظيم في الدنيا والآخرة.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#3

22 Jul 2011

عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين


قوله: (بَعَثَهُ اللهُ إِلى النَّاسِ كَافَّةً، وَافْتَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الجِنِّ وَالإِنْسِ.
وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {قلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً} [الأعراف:158] ).

عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والإنس أصل مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة .
والأدلة على ذلك كثيرة معلومة منها:
قول الله تعالى: {قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً}
وقوله: {وما أرسلناك إلا كافة للناس بشيراً ونذيراً}
وقوله: {وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ}
وقوله: {وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ}
وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي:
-نصرت بالرعب مسيرة شهرٍ.
-وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل.
-وأُحِلَّت لي الغنائم ولم تحل لأحدٍ قبلي.
-وأعطيت الشفاعة.
-وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة)).
وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((فُضِّلْتُ على الأنبياء بستٍّ:
-أعطيتُ جوامع الكلم.
-ونُصِرْتُ بالرُّعب.
-وأُحِلَّتْ لي الغنائم.
-وجُعِلَتْ لي الأرض طهوراً ومسجداً.
-وأُرْسِلْتُ إلى الخلق كافةً.
-وخُتِمَ بي النبيون)).
وفي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمَّة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)).

قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: {وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ}
قال: (وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته، صَلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق، كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث).
ثم ذكر أدلة في عموم رسالته صلى الله عليه وسلم تقدم ذكر بعضها.

وهذا الأصل من أنكره فهو كافر لجحده معلوماً من الدين بالضرورة ولتكذيبه ما أخبر الله تعالى به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم.

والمخالفون في هذا الأصل على درجتين :
الأولى: الذين ينكرون نبوة النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً.
وهؤلاء كمشركي العرب وطوائف من اليهود والنصارى وغيرهم.
الدرجة الثانية: الذين يقرون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم يزعمون أنها خاصة للعرب فقط ، وأشهر من عرف عنه هذا القول طائفتان:

- فأما الطائفة الأولى: فطائفة يقال لها العيسوية من يهود أصبهان، نسبة إلى زعيم لهم يقال له أبو عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني.
قال ابن حجر في الفتح: (العيسوية طائفة من اليهود حدثت في آخر دولة بني أمية فاعترفوا بأنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه و سلم لكن إلى العرب فقط وهم منسوبون إلى رجل يقال له أبو عيسى أحدث لهم ذلك).
وقد نقل ابن حجر عن بعض فقهاء الشافعية أنهم قالوا: (من نطق بالتشهد في الأذان حُكِمَ بإسلامه إلا إذا كان عيسويا).
وهذا القول نقله الكيا الهراسي عن فقهاء الحنفية.
وقد ذكر الشهرستاني في الملل والنحل أن هذه الطائفة لما صارت لها شوكة بأصبهان خرجوا على أبي جعفر المنصور وأحدثوا فتنة وقتلوا خلقاً من المسلمين .
ومما ينبغي التنبه له أن لقب العيسوية يطلق على طوائف أخرى أيضاً.

- الطائفة الأخرى: طائفة من النصارى أقروا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم زعموا أنه رسول إلى العرب فقط ، وأنه لا يلزمهم اتباعه.

والرد على هؤلاء بيّن ظاهر ؛ فإن إقرارهم بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم يلزمهم بتصديقه فيما يخبر به، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله إلى الناس جميعاً وأنه لا يسمع به أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن به إلا كان من أصحاب النار.
فإن صدقوه فيما أخبر به لزمهم الإقرار بعموم رسالته، وإن كذَّبوه أو خطَّؤوه كانوا كفاراً لتكذيبهم إياه.

ومما ينبغي لطالب العلم في هذا العصر أن يتفطن له الدعاوى الكفرية الباطلة التي يروّج لها بعض المنتسبين للإسلام من تصحيح مذهب اليهود والنصارى وأن أصحاب الأديان السماوية غير كفار لأنهم يتبعون رسلاً أرسلهم الله إليهم .
وهذا القول كفر ظاهر فكل من لم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة ولم يصدقه فيما يخبر به فهو كافر.
فإقرارهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم تلزمهم تصديقه في جميع ما يخبر به، وقد تقدم ذكر الأدلة على عموم رسالته فمن أنكرها فقد كفر.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#4

22 Jul 2011

أصل كمال دين الإسلام


قوله: (وَأَكْمَلَ اللهُ لَهُ الدِّينَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً} [المائدة:3] ).
اعتقاد كمال دين الإسلام أصل مهم من أصول أهل السنة والجماعة، وبه أجاب جماعة من الأئمة في مناظراتهم لأهل البدع والأهواء؛ فإن المبتدع إنما حمله على بدعته ما قام في نفسه من عدم كمال الدين.
قوله تعالى: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}
{اليوم} المقصود به يوم عرفة من حجة الوداع ، وهو اليوم الذي أنزلت فيه هذه الآية.
كما في الصحيحين من حديث طارق بن شهاب قال : جاء رجلٌ من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين آيةٌ في كتابكم تقرءونها لو علينا -معشر اليهود - نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً.
قال: أي آية؟
قال: {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام ديناً }
فقال عمر: (قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو قائم بعرفة يوم جمعة).
فقد جمع الله لنزول هذه الآية خير الأيام من أيام الأسبوع، وخير الأيام من أيام السنة، وخير الأركان من أركان الحج، وأفضل جمع اجتمع من خير أمة أخرجت للناس، فامتنَّ الله تعالى على المسلمين في ذلك اليوم بإكمال الدين وإتمام النعمة وَرِضَاه لنا بدين الإسلام ديناً، والمقصود بالإسلام هنا الدين الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع العلماء.
قال ابن كثير: (وقوله: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} هذه أكبر نعم الله عز وجل على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف، كما قال تعالى: {وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا} أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي.
فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم؛ ولهذا قال {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا} أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه).
قوله : {وأتممت عليكم نعمتي} النعمة المرادة هنا هي النعمة الخاصة التي اختص الله بها أولياءه وهي نعمة الهداية.
فإن إنعام الله تعالى على عباده على نوعين:
النوع الأول: إنعام عام، وهو إنعام فتنة وابتلاء ، كما قال تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن} الآيتين.
وقال: {فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}
وهذا الإنعام عام للمؤمنين والكافرين كما قال تعالى: {كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا}
وهذا الإنعام حجة على العباد ودليل على المنعم جل وعلا ليخلصوا له العبادة ويشكروه على نِعَمِه كما بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ}
وقال: {وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ}
النوع الثاني: الإنعام الخاص، وهو إنعام منَّة واجتباء ، وهو الإنعام بالهداية إلى ما يحبه الله عز وجل ويرضاه من الأقوال والأعمال، وما يمنُّ به على بعض عباده من أسباب فضله ورحمته وبركاته
وهذا الإنعام هو المقصود هنا ، وفي قول الله تعالى في إرشاده لعباده في أم القرآن: {اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين}
وهو المقصود في قوله تعالى: {وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا}
وقوله: {أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا}
فقوله تعالى: {وأتممت عليكم نعمتي} أي نعمة بيان الهدى إلى ما يحبه الله عز وجل ويرضاه ؛ فهي نعمة تامة غير ناقصة ، شاملة جميع ما يحتاجه المسلمون أفراداً وجماعات في أي شأن من شؤونهم، كما قال الله تعالى: {إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم } حذف متعلق أفعل التفضيل لإرادة العموم ؛ أي أقوم في كل شيء يُحتاج إليه من أبواب الدين في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك والدعوة والسياسة وغيرها مما تتعلق به حاجة الفرد أو الأمة إلى الهداية إلى ما ينفع ويقرب إلى الله عز وجل، وتتحقق به النجاة والسلامة مما يخشى ضرره كما قال تعالى: {قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} .
وقال: {فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}، وقال: {فمن اتبع هداي فلا يضل ولا يشقى}
فدلت الآية على كمال الدين وتمام النعمة الخاصة التي اختص الله بها هذه الأمة، فمَنْ قَبِلَها وشكرها كان موعوداً بالخير والفضل العظيم في الدنيا والآخرة، ومن بدَّلها وكفرها كان متوعداً بالعذاب الشديد ، والخسران المبين، كما قال الله تعالى: { وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
وقال: { أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ}
فبيَّن الله تعالى في هذه الآيات غاية الكفر وغاية الشكر
* فغاية الكفر: هو تبديل النعمة بالكفر والتعرض لسخط الله عز وجل ومقته بالشرك به جل وعلا.
وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام فمن رفضه فقد بدَّل النعمة أقبح تبديل، وسمِّي ذلك تبديلاً للنعمة لأن من فعل أسباب سلب النعمة وإحلال النقمة محلها مبدِّل للنعمة
كما بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
فمن كان على فطرة الإسلام إذا فعل ما يستحق به سلب هذا النعمة فهو مبدّل لهذه النعمة، ومن أتاه البيان إلى ما يحبه الله ويرضاه وما يفوز به العبد في دنياه وأخراه ثم رفضه فهو مبدل للنعمة.
فإنه لما جاءته نعمة الهداية والبيان فردها وزاغ قلبه عنها قصداً وعمداً أزاغ الله قلبه جزاء وفاقاً {فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم والله لا يهدي القوم الفاسقين}
ومن كان على دين الإسلام ثم ارتد عنه فهو مبدّل للنعمة أقبح تبديل.
فهذا بيان أنواع غاية الكفر، وهو الكفر الذي يخرج به من الملة ويستحق به صاحبه الخلود في النار والعياذ بالله ، وهو الذي وصفه الله عز وجل بقوله: {وجعلوا لله أنداداً ليضلوا عن سبيله ...} الآية
* وأما غاية الشكر: فما أرشد الله تعالى إليه من إقامة الصلاة والإنفاق في سبيله سراً وجهراً خوفاً وطمعاً وهذا يستلزم تحقيق الإخلاص، ومن فعله فهو من أهل الإحسان في الإسلام.
وبين هاتين المرتبتين -غاية الشكر وغاية الكفر -درجات كثيرة ومنازل للناس يتفاوتون فيها كما سبق تقرير نظائره في مسائل كثيرة.
{ ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
{سميع} لما يقوله المؤمنون من حمده جل وعلا، ولما يقوله الكافرون من نسبة النعمة إلى غيره ظلماً وعلواً.
{عليم} بما في قلوبهم وما تعمله جوارحهم من الشكر أو الكفر.
فتبيَّن بهذا التقرير وبما تقدم من الأدلة أن الناس يتفاضلون في نصيبهم من هذه النعمة الخاصة على تفاضلهم في طاعة الله والرسول.
وتبيَّن أن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله هي الشكر الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه.
وتبيَّن أن كمال الدين لا يقتضي كمال جميع المنتسبين إليه، وذلك لتفاوتهم في الطاعة؛ فمن أتم الطاعة فقد استكمل دينه، ومن نقص نقص من دينه بقدره.
قوله تعالى: {ورضيت لكم الإسلام دينا}
-يدل بمنطوقه على أن ما رضيه الله تعالى لنا فهو خير لنا وأصلح وأقوم، لأنه رضا عن علم وحكمة ورحمة؛ فدين الإسلام خير الأديان وأصلحها وأفضلها لنا ، وهو دين قد رضيه الله ، والله تعالى لا يرضى بما فيه شرٌّ ومفسدة وظلم.
-ويدل بمفهومه على أن غير دين الإسلام لا يرضاه الله لنا.
فكل دين غير دين الإسلام فالله تعالى لا يرضاه، وما لا يرضاه الله فهو غير مقبول ولا نافع لمن اتبعه.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#5

22 Jul 2011

كمال الدين يستلزم كمال التبليغ


وكمال دين الإسلام يستلزم اعتقاد كمال بيان النبي صلى الله عليه وسلم لأمور الدين، وأن بيانه لأمور الدين أتم البيان وأحسنه.
وهذا أصل مهم يرد به على أهل البدع والأهواء.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: ({اليوم أكملت لكم دينكم} فلم يترك صلى الله عليه وسلم شيئا من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بيَّنه وبلَّغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة أنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال).
وقال أيضاً: (ومما جاء به الرسول: إخباره بأنه تعالى قد أكمل الدين بقوله سبحانه: { اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينًا } .
ومما جاء به الرسول: أمر الله له بالبلاغ المبين كما قال تعالى : {وما على الرسول إلا البلاغ المبين} وقال تعالى : {وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم}
وقال تعالى : {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس } .
ومعلومٌ أنه قد بلَّغ الرسالة كما أُمِر، ولم يكتم منها شيئًا ؛ فإنَّ كتمان ما أنزله الله إليه يناقض موجب الرسالة ؛ كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة .
ومن المعلوم من دين المسلمين أنه معصومٌ من الكتمان لشيء من الرسالة كما أنه معصومٌ من الكذب فيها .
والأمة تشهد له بأنه بلَّغ الرسالة كما أمره الله وبين ما أنزل إليه من ربه، وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين ؛ وإنما كَمُلَ بما بَلَّغه ؛ إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه؛ فعُلِمَ أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده كما قال صلى الله عليه وسلم: (( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالكٌ )).
وقال : (( ما تركت من شيءٍ يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، وما تركت من شيءٍ يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به)).
وقال أبو ذر : (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائرٌ يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا) ).

** وأنا أحبُّ أن أنبه طلاب العلم إلى أن هذه الأمور وإن كانت من أوضح الواضحات في دين الإسلام إلا أن تقريرها مهم جداً لطلاب العلم، ومن أحسن معرفة هذا الأصل والاستدلال له رد جميع البدع بإذن الله جل وعلا، وقد كان كثير من أئمة أهل السنة والجماعة في مناظراتهم لأهل البدع والأهواء يفحمونهم بهذا الأصل؛ لأنهم إن اعتقدوا كمال الدين خُصِموا، وإن اعتقدوا نقصانَه كفروا.
وقد كان من أعظم ما ذكر من الأسباب في رفع محنة القول بخلق القرآن في زمان الخليفة العباسي الواثق بالله مناظرة جرت على هذا الأصل العظيم بين شيخ من أهل السنة يقال له أبو عبد الرحمن الأذرمي وشيخ المعتزلة أحمد بن أبي دؤواد الذي دعا خلفاء بني العباس إلى القول بخلق القرآن وإلزام العلماء والناس بالقول به.
وهذه الحكاية ذكرها جماعة من أهل العلم منهم الآجري في كتاب الشريعة والخطيب البغدادي وابن قدامة في اللمعة وغيرهم.
وأجتزئ منها هذا المقدار وهو مما ذكره الآجري في كتاب الشريعة :
وقد جرت هذه المناظرة في مجلس الخليفة الواثق بالله:
فقال الشيخ مخاطباً أحمد بن أبي دؤاد عن مقالته المبتدعة.
قال: أخبرني يا أحمد عن مقالتك هذه ، أواجبة داخلة في عقد الدين ، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت ؟
قال : نعم
قال الشيخ : يا أحمد أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله تعالى إلى عباده ، هل سَتَر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أمر الله تعالى به في دينه ؟
قال : لا
قال الشيخ : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذه ؟
فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ : تكلم فسكت .
فالتفت الشيخ إلى الواثق؛ فقال : يا أمير المؤمنين ، واحدة.
فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد ، أخبرني عن الله تعالى حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا }
أكان الله تعالى الصادق في إكمال دينه ، أم أنت الصادق في نقصانه ، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بمقالتك هذه ؟
فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ : أجب يا أحمد ، فلم يجبه .
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين ، اثنتان فقال الواثق : اثنتان).
إلى آخر قصة المناظرة وهي طويلة.
لكن أردت نقل هذا المقدار منها ليتبيَّن طالب العلم أهمية هذا الأصل، وهو اعتقاد كمال دين الإسلام.
وأنه أصل مهم من أصول الدين يردُّ به على أصحاب البدع والأهواء وكل من يطعن في دين الإسلام أو شيء من أحكامه وحدوده أو ادعى عدم مناسبته لعصر من العصور أو لبلد من البلدان.

والمخالفون في هذا الأصل على درجتين:
الدرجة الأولى: الذين يعتقدون عدم كمال الدين ، وهؤلاء كفار لتكذيبهم خبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.
الدرجة الثانية: الذين يعتقدون كمال الدين لكنهم يخالفون ما يقتضيه كمال الدين من تجريد المتابعة ؛ فيحدثون في أمور الدين ما لم يأذن به الله لشُبهٍ عرضت لهم بسبب ضعف فقههم في الدين وجرأتهم على القول في الدين بلا علم، وهؤلاء هم أهل البدع والأهواء وهم مذمومون على هذه المخالفة متعرضون لخطر عظيم بسبب بدعهم .

وأما تكفيرهم في كثير من المسائل فيمنع منه ما عرض لهم من الشُبه ، وإلا لو صرحوا بأن الدين غير كامل لكانوا كفاراً بهذا الاعتقاد.

قال الشاطبي في الاعتصام: (الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان ، لأن الله تعالى قال فيها : {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا}.
وفي حديث العرباض بن سارية : (( وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب ، فقلنا : يا رسول الله ، إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا ؟ قال : تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها ، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك ، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الراشدين من بعدي ...)) الحديث .
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة .
فإذا كان كذلك ، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم ، وإنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها ، لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجهٍ لم يبتدع ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم .
قال ابن الماجشون : سمعت مالكا يقول : (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة ، لأن الله يقول : {اليوم أكملت لكم دينكم} فما لم يكن يومئذ ديناً ، فلا يكون اليوم ديناً) ).

عبد العزيز بن داخل المطيري

#6

22 Jul 2011

موت النبي صلى الله عليه وسلم


قوله: (وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ قوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ} [الزمر:30-31] ).
موت النبي صلى الله عليه وسلم قد حصل في السنة الحادية عشرة من الهجرة في شهر ربيع الأول، وهو أمر مجمع عليه.
وموته صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة كما في الصحيحين من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قُبَّة ٍ من أَدَمٍ فقال: (( اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتانٌ يأخذ بكم كقُعَاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يُعطَى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة ٌ لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة ٌ تكون بينكم وبين بنى الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً)).

وهذه الآية من الآيات التي تلاها أبو بكر رضي الله في خطبته لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف الناس في هذا الأمر الجلل كما في صحيح البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسُّنْحِ - يعني بالعالية - فقام عمر يقول: (والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم)
قالت: وقال عمر: ما كان يقع في نفسي إلا ذاك – (وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم)
فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَبَّلَه.
قال: (بأبي أنت طِبْتَ حيّاً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقنك الله الموتتين أبداً).
ثم خرج فقال: (أيها الحالف على رسلك)
فلما تكلم أبو بكر جلس عمر.
فحمد اللهَ أبو بكر وأثنى عليه وقال: (ألا من كان يعبد محمداً؛ فإنَّ محمداً قد مات، ومن كان يعبد اللهَ فإنَّ اللهَ حيٌّ لا يموت)، وقال: {إنك ميت وإنهم ميتون} وقال: {وما محمدٌ إلا رسولٌ قد خلت من قبله الرسل أفإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم ومن ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئاً وسيجزي الله الشاكرين}
قال: فنشج الناس يبكون.
وفي مصنف بن أبي شيبة أن عبد الله بن عمر قال: (فو الله الذي نفسي بيده لكأنما كانت على وجوهنا أغطية فكشفت).
وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله جل وعلا أنزل هذه الآية إلا حين تلاها أبو بكر؛ فتلقاها منه الناس كلهم؛ فلم تسمع بشرا إلا يتلوها).
وفي صحيح البخاري أيضاً: قال الزهري : وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال : (والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وأهويت إلى الأرض وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله صلى الله عليه و سلم قد مات)

قوله تعالى: {إنَّك ميّت} أي ستموت، والتعبير عن ذلك بصيغة الخبر المفرد لبيان تحتم وقوعه.
كما في قوله تعالى: {وإن منكم إلا واردها كان على ربك حتماً مقضيا}
أي: سيردها.
{وإنهم ميتون} أي جميع العباد. كما قال تعالى: {كل نفس ذائقة الموت}
{ثم إنكم يوم القيامة عند ربكم تختصمون}
الخصومة شاملة لجميع ما يختصم فيه من أمور الدين والدنيا ، كاختصام المؤمنين والكافرين، واختصام المظلومين والظالمين، واختصام الرعية والرعاة، وغيرهم.
قال ابن كثير رحمه الله: (ومعنى هذه الآية: ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله في الدار الآخرة، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عز وجل، فيفصل بينكم، ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم، فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين، ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين.
ثم إن هذه الآية -وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين، وذِكْر الخصومة بينهم في الدار الآخرة-فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة).

ومسألة موت النبي صلى الله عليه وسلم يخالف فيها بعض المتصوفة الذين يلبسون على بعض الجهلة ؛ فيعظمون أنفسهم ويزعمون أنهم أولياء وأنهم يلتقون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتحدثون معه، ويسمون ذلك اللقاء بالحضرة النبوية، ولهم في ذلك أساطير وأباطيل يغرّون بها السذج والعوام ويتصدرون بها المجالس، ويأكلون بها أموال الناس باطلاً.
ومنهم من إذا تحدث مع العوام ينكر ذلك ، وإذا تحدث مع خواصّه زعم أن للدين ظاهراً وباطناَ ، وأن للشريعة أسراراً لا يعرفها إلا أفراد قليلون ، ولهم في ذلك طرق متنوعة في الضلال، نسأل الله العافية.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

22 Jul 2011

(خلاصة الدرس التاسع عشر)

أصل بقاء الدين محفوظاً إلى قيام الساعة
قوله: (وَدِينُهُ بَاقٍ).
· أي أن دين الإسلام الذي بعث الله به نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم باق إلى أن تقوم الساعة؛ ومن أدلة ذلك قول الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ[الحجر: 9] وقوله:﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ [القيامة: 19]، وقوله: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ [النحل: 44].
· فضمن الله تعالى حفظ كتابه الكريم نصّاً وبياناً، فلذلك لا يزال هذا القرآن الكريم محفوظاً ولا يزال ما يلزم لبيانه محفوظاً بحفظ الله تعالى لكتابه.
· ويدل لذلك أيضاً ما تواتر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( لا تزال طائفة من أمتي قائمة بأمر الله لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس)) هذا لفظ حديث معاوية بن أبي سفيان في صحيح مسلم.
· وقد روي هذا الحديث بألفاظ مقاربة في الصحيحين والمسند وغيرها من حديث جماعة من الصحابة رضي الله عنهم: منهم جابر بن عبد الله، والمغيرة بن شعبة، وثوبان بن بجدد، وقرة بن إياس، وسلمة بن نفيل، وزيد بن أرقم، وعمران بن حصين، وأبو بكرة الثقفي، وأبو أمامة الباهلي، وأبو هريرة، وعمر بن الخطاب وغيرهم؛ فهو من الأحاديث المتواترة عن النبي صلى الله عليه وسلم.
· اعتقاد كمال الدين وحفظه إلى أن تقوم الساعة أصل مهم من أصول الدين.
· قال البخاري رحمه الله في صحيحه: (باب قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق)) وهم أهل العلم). وهذا تفسير من البخاري رحمه الله،
وقال علي بن المديني: (هم أصحاب الحديث).

· والظهور يتناول أهل العلم والجهاد كما صُرِّحَ به في بعض الروايات كما في صحيح مسلم من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لا تزال طائفة من أمتي يقاتلون على الحق ظاهرين إلى يوم القيامة)).
· وفي حديث أبي هريرة: (( لا تزال طائفة من أمتي قوَّامة على أمرِ الله لا يضرّها من خالفها تقاتلُ أعداءَ الله كلَّما ذهبت حربٌ نَشَبَتْ حَرْبُ قومٍ آخرين حتى تأتيهم الساعة)).
· وتفسير البخاري رحمه الله صحيح لأنه لا يكون الجهاد إلا على دعوة، ولا تكون الدعوة إلا على علم، فعُلِمَ بذلك أن ظهور العلم أصل ظهور الجهاد.
· ولذلك كانت الدعوات الإصلاحية مبناها على العلم أولاً.
· وهذه الأحاديث فيها ضمانات عظيمة وإشارات جليلة:
- فمنها أن الله تعالى قد تكفل بحفظ دينه وأوليائه.
- ومنها أن أهل الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم.
- ومنها أنهم يقاتلون على الحق؛ فمعهم سلاح العلم الذي يُعرف به الحق، ومعهم ما يمكّنهم من القتال الذي ينصرون به على أعدائهم.
- ومن الإشارات في هذه الأحاديث أنه يقع لمن قام بهذه الأمور من الدعوة والجهاد خذلان شديد ومخالفة يُبتلَون بها لكنَّ ذلك لا يضرهم.
- فالخذلان يكون ممن يُتوقع منه النصر والمؤازرة، والمخالفة قد تكون منهم وقد تكون ممن يبدي العداوة والمناوأة.
- ومما دلَّ عليه مفهوم هذه الأحاديث أن هؤلاء الخاذلين والمخالفين غير منصورين، وإن اغتروا ببعض وسائل العلو في الأرض؛ فإنما هو متاع إلى حين ثم تكون عاقبتهم سيئة.
· فمن فَقِهَ هذه الأحاديث:
- أيقن أن الله تعالى ناصر دينه ولو كره الكافرون، وأن السعيد الموفَّق من جعله الله من أنصار دينه.
- وأيقن أن عليه أن يعرف الحق بدليله وأن يكون قوَّاماً بأمر الله عز وجل غير عابئ بمن يخذله أو يخالفه ممن أركسهم الله بما كسبوا من المنافقين والكافرين والعصاة المفتونين.
- وأيقن أنه لا يضره خذلانهم ولا مخالفتهم بإذن الله.
- وأيقن أن فتنة هؤلاء الخاذلين والمخالفين إنما كانت بسبب مخالفتهم لهدى الله عز وجل وإعراضهم عن طلب الهدى واتباعهم الظنَّ وما تهوى الأنفس؛ فيشتد خوفه من الوقوع فيما وقعوا فيه:
فيدعوه ذلك إلى الاعتصام بالله عز وجل والرضى به والثقة به جل وعلا ﴿وَاللّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللّهِ نَصِيرًا[النساء: 45].
ويدعوه ذلك إلى أن يكون أكبر همّه أن يكون من الذين يعلمون الحق ويعملون به.
· وقد ضمن الله تعالى لمن اعتصم به أن يهديه، كما قال تعالى: ﴿وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ[آل عمران: 11].
· وقال: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)[النساء: 175]؛ ثلاث بشارات عظيمة كل واحدة منها خير من الدنيا وما فيها.
· وتأمل قول الله تعالى: ﴿فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ [النساء: 175] فكأن الرحمة والفضل يحيطان بهم من جميع جوانبهم يتقلبون فيهما كيف يشاؤون.
· ﴿وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا [النساء: 175] وهذه هداية خاصة تقربهم إلى الله تعالى وتدنيهم منه وتعرّفهم بما يحبه الله عز وجل ويرضاه وتعرّفهم بما لم يكونوا ليهتدوا إلى معرفته لولا فضل الله عز وجل من أسباب رحمته وتوفيقه وفضله العظيم في الدنيا والآخرة.

الاعتصام بالكتاب والسنة

· الاعتصام بالشيء اتخاذه عاصماً ومانعاً مما يخشى ضرره، وقد أمر الله تعالى بالاعتصام به، وفي ضمن ذلك وَعْدُه لمن اعتصم به أن يعصِمَه مما يخاف ضرره.
· وقد قال الله تعالى: ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة: 38]؛ فالاعتصام بالله يكون باتباع هدى الله عز وجل، في ما بينه في كتابه الكريم وفي ما بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم.
· كل ضرر يخشاه العبد في الدنيا والآخرة فإنّ الله تعالى قد بيَّن في كتابه وفي سنة نبيه أسباب العصمة منه؛ فمن فعل ما أُمر به وانتهى عما نُهِيَ عنه فقد أخذ بأسباب العصمة، ومن أعرض عن الكتاب والسنة أو وقع في مخالفة الأمر وارتكاب النهي لم يكن معتصماً.
· وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في خطبة الوداع: (( وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني؛ فما أنتم قائلون؟))
قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
وقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: (( اللهم اشهد، اللهم اشهد )) ثلاث مرات.
· وفي مستدرك الحاكم وسنن البيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله وسنتي ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)). صححه الألباني.
· والاعتصام بالكتاب والسنة أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة، وتنبني عليه مسائل كثيرة من مسائل الاعتقاد، وقد ضلَّت طوائف من أهل البدع بسبب ضعف اعتصامهم بالكتاب والسنة.
· بعض تلك الطوائف قدَّمت عقولها وأراءها على الكتاب والسنة، وبعضها قدمت أهواءها وأقوال معظميها على صريح دلالة الكتاب والسنة، ولذلك وقعت بعض تلك الطوائف في فتنة التأويل المذموم، ومنهم من وقع في فتنة التفويض، ومنهم من وقع في فتن أخرى.
· ولا عصمة لأحد من الضلال في اعتقاده إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة؛ فالمعتصم مهتدي، والمفرّط في الاعتصام عرضة للضلالة، وقد قال الله تعالى: ﴿ومن يعتصم بالله فقد هدي إلى صراط مستقيم [آل عمران: 11] ومفهوم المخالفة يدلّ على أنّ من لم يعتصم بالله فهو ضالّ هالك.
· وأمر الاعتصام بالكتاب والسنة ميسَّر ليس فيه عنت ولا مشقة، وما جعل الله علينا في الدين من حرج.

قوله: (وَهَذَا دِينُهُ، لا خَيْرَ إِلاَّ دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلاَّ حَذَّرَهَا عَنْهُ).

· الإشارة إلى دين الإسلام الذي بيَّن في هذه الرسالة معناه وأصوله.

قوله: (لا خَيْرَ إِلاَّ دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلاَّ حَذَّرَهَا عَنْهُ)
· الخير هو ما ينفع الإنسان في دينه أو دنياه.
· والشر هو ما يضره في دينه أو دنياه.
· فكل ما فيه مصلحة ومنفعة للمؤمن في دينه ودنياه فهو خير، وكل ما فيه مضرَّة ومفسدة فهو شرٌّ.

وقوله: (لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه)
· هذا يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( إنه لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم)).
· وهذا الخير إمَّا أن يكون مدلولاً عليه بعينه أو بوصفه، وكذلك الشر إما أن يكون منهياً عنه بعينه أو بوصفه.
· فالمأمور به بعينه أمرُهُ بيّن ظاهر لدلالة النصِّ عليه، وأما المأمور به بوصفه فهو مندرج تحت الأدلة العامة والقواعد الكلية للشريعة كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ [النحل: 90].
· والخير لا يخرج عن وصف العدل والإحسان؛ فكل خير فهو مأمور به أمر تكليف بالوجوب أو أمر استحباب أو أمر إباحة، وما خرج عن هذا الوصف فهو شرٌّ منهي عنه.
· وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو فعلت كذا وكذا ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل)). وقد تقدم شرح الحديث.
· وقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( احرص على ما ينفعك)) عامّ في كل ما ينفع المؤمن في دينه ودنياه؛ وما ينفع فهو خير؛ فدلَّ ذلك على أن كلَّ خير فقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
· ودل مفهومه على أن كل ما يضرّ فهو منهيٌّ عنه كما صرح به في الحديث الجامع: (( لا ضرر ولا ضرار)) رواه الإمام أحمد وبعض أصحاب السنن من طرق يقوي بعضها وبعضاً فروي من حديث أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وابن عباس وأبي هريرة، ولا تخلو كل طريق من ضعف، وقد صححه جماعة من أهل العلم بمجموع طرقه.

قوله: (وَالخَيْرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ: التَّوْحِيـدُ وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، وَالشَّرُّ الَّذِي حَذَّرَ عَنْهُ: الشِّرْكُ وَجَمِيعُ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ وَيَأبَاهُ)
· التوحيد رأس كل خير، قدَّمه المؤلِّف لأهميته ثم عطف عليه جميع ما يحبه الله ويرضاه؛ فيكون من باب عطف العام على الخاص.
· كلُّ ما أمر الله به فقد أحبَّه، وكل ما أحبه الله فهو خير.
· وكل ما حذَّر الله منه فإن الله يبغضه، وكل ما أبغضه الله فهو شرٌّ.
· والشرك هو أعظم ما حذَّر الله منه ونهى عنه، فهو رأس الشر، وأكبر الشر، والعياذ بالله من الشرك، فإنه أقبح الذنوب، وأعظم الأوزار، وعقاب فاعله شر العقاب.

عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين
قوله: (بَعَثَهُ اللهُ إِلى النَّاسِ كَافَّةً، وَافْتَرَضَ طَاعَتَهُ عَلَى جَمِيعِ الثَّقَلَيْنِ الجِنِّ وَالإِنْسِ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿قلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً﴾).
· عموم بعثة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الجن والإنس أصل مجمع عليه معلوم من الدين بالضرورة، والأدلة على ذلك كثيرة معلومة منها:
- قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا[الأعراف: 158].
- وقوله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ [سبأ: 28].
- وقوله: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ [آل عمران: 20].
- وقوله: ﴿وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ [الأحقاف: 29].
- وفي الصحيحين من حديث جابر بن عبد الله رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:(( أعطيت خمساً لم يعطهن أحدٌ من الأنبياء قبلي:
-نصرت بالرعب مسيرة شهرٍ.
-وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل.
-وأُحِلَّت لي الغنائم ولم تحل لأحدٍ قبلي.
-وأعطيت الشفاعة.
-وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة )).
- وفي الصحيحين أيضاً من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( فُضِّلْتُ على الأنبياء بستٍّ:
-أعطيتُ جوامع الكلم.
-ونُصِرْتُ بالرُّعب.
-وأُحِلَّتْ لي الغنائم.
-وجُعِلَتْ لي الأرض طهوراً ومسجداً.
-وأُرْسِلْتُ إلى الخلق كافةً.
-وخُتِمَ بي النبيون )).
- وفي مسند الإمام أحمد وصحيح مسلم وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (( والذي نفس محمد بيده لا يسمع بي أحدٌ من هذه الأمَّة يهوديٌّ ولا نصرانيٌّ يموت ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار)).
· قال ابن كثير رحمه الله في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالأمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ[آل عمران: 20]قال: (وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته، صَلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق، كما هو معلوم من دينه ضرورة، وكما دل عليه الكتاب والسنة في غير ما آية وحديث)ا.هـ
· ثم ذكر أدلة في عموم رسالته صلى الله عليه وسلم تقدم ذكر بعضها.
· وهذا الأصل من أنكره فهو كافر لجحده معلوماً من الدين بالضرورة ولتكذيبه ما
أخبر الله تعالى به وأخبر به رسوله صلى الله عليه وسلم.

· والمخالفون في هذا الأصل على درجتين:
- الأولى: الذين ينكرون نبوة النبي صلى الله عليه وسلم أصلاً، وهؤلاء كمشركي العرب وطوائف من اليهود والنصارى وغيرهم.
- الدرجة الثانية: الذين يقرّون برسالة النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم يزعمون أنها للعرب خاصة، وأشهر من عرف عنهم هذا القول طائفتان:
· فأما الطائفة الأولى: فطائفة يقال لها العيسوية من يهود أصبهان، نسبة إلى زعيم لهم يقال له أبو عيسى إسحاق بن يعقوب الأصفهاني.
· قال ابن حجر في الفتح: (العيسوية طائفة من اليهود حدثت في آخر دولة بني أمية فاعترفوا بأنَّ محمداً رسول الله صلى الله عليه وسلم لكن إلى العرب فقط وهم منسوبون إلى رجل يقال له أبو عيسى أحدث لهم ذلك).
· وقد نقل ابن حجر عن بعض فقهاء الشافعية أنهم قالوا: (من نطق بالتشهد في الأذان حُكِمَ بإسلامه إلا إذا كان عيسويا)، وهذا القول نقله الكيا الهراسي عن فقهاء الحنفية.
· وقد ذكر الشهرستاني في الملل والنحل أن هذه الطائفة لما صارت لها شوكة بأصبهان خرجوا على أبي جعفر المنصور وأحدثوا فتنة وقتلوا خلقاً من المسلمين.
· ومما ينبغي التنبه له أن لقب العيسوية يطلق على طوائف أخرى أيضاً.
· الطائفة الأخرى: طائفة من النصارى أقروا برسالة النبي صلى الله عليه وسلم لكنهم زعموا أنه رسول إلى العرب فقط، وأنه لا يلزمهم اتباعه.
· والرد على هؤلاء بيّن ظاهر؛ فإن إقرارهم بنبوة النبي صلى الله عليه وسلم يلزمهم بتصديقه فيما يخبر به، وقد أخبر النبي صلى الله عليه وسلم بأنه رسول الله إلى الناس جميعاً وأنه لا يسمع به أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم يموت ولم يؤمن به إلا كان من أصحاب النار.
· فإن صدقوه فيما أخبر به لزمهم الإقرار بعموم رسالته، وإن كذَّبوه أو خطَّؤوه كانوا كفاراً لتكذيبهم إياه.
· ومما ينبغي لطالب العلم في هذا العصر أن يتفطن له الدعاوى الكفرية الباطلة التي يروّج لها بعض المنتسبين للإسلام من تصحيح مذهب اليهود والنصارى وأن أصحاب الأديان السماوية غير كفار لأنهم يتبعون رسلاً أرسلهم الله إليهم، وهذا القول كفر ظاهر فكل من لم يشهد للنبي صلى الله عليه وسلم بالرسالة العامة ولم يصدقه فيما يخبر به فهو كافر.
· فإقرارهم برسالة النبي صلى الله عليه وسلم تلزمهم تصديقه في جميع ما يخبر به، وقد تقدم ذكر الأدلة على عموم رسالته فمن أنكرها فقد كفر.

أصل كمال دين الإسلام
قوله:(وَأَكْمَلَ اللهُ لَهُ الدِّينَ، وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِيناً﴾).
· اعتقاد كمال دين الإسلام أصل مهم من أصول أهل السنة والجماعة، وبهذا الأصل يجاب عن شبهات كثيرة يثيرها بعض أهل البدع والزنادقة والملحدين.
· بهذا الأصل أجاب جماعة من الأئمة في مناظراتهم لأهل البدع والأهواء؛ فإن المبتدع إنما حمله على بدعته ما قام في نفسه من عدم كمال الدين.
· قوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3].
· ﴿الْيَوْمَ المقصود به يوم عرفة من حجة الوداع، وهو اليوم الذي أنزلت فيه هذه الآية، كما في الصحيحين من حديث طارق بن شهاب قال: جاء رجلٌ من اليهود إلى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين آيةٌ في كتابكم تقرءونها لو علينا -معشر اليهود - نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً.
قال: أي آية؟
قال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا[المائدة: 3].
فقال عمر: (قد عرفنا ذلك اليوم والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة).
· فقد جمع الله لنزول هذه الآية خير الأيام من أيام الأسبوع، وخير الأيام من أيام السنة، وخير الأركان من أركان الحج، وأفضل جمع اجتمع من خير أمة أخرجت للناس، فامتنَّ الله تعالى على المسلمين في ذلك اليوم بإكمال الدين وإتمام النعمة وَرِضَاه لنا بدين الإسلام ديناً.
· والمقصود بالإسلام هنا الدين الذي أنزله الله على محمد صلى الله عليه وسلم بإجماع العلماء.
· قال ابن كثير: (وقوله: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا[المائدة: 3]، هذه أكبر نعم الله عز وجل على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم، فلا يحتاجون إلى دين غيره، ولا إلى نبي غير نبيهم، صلوات الله وسلامه عليه؛ ولهذا جعله الله خاتم الأنبياء، وبعثه إلى الإنس والجن، فلا حلال إلا ما أحله، ولا حرام إلا ما حرمه، ولا دين إلا ما شرعه، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خُلْف، كما قال تعالى: ﴿وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلا [الأنعام: 115] أي: صدقاً في الأخبار، وعدلاً في الأوامر والنواهي.
فلما أكمل الدين لهم تمت النعمة عليهم؛ ولهذا قال ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسْلامَ دِينًا[المائدة: 3] أي: فارضوه أنتم لأنفسكم، فإنه الدين الذي رضيه الله وأحبه وبعث به أفضل رسله الكرام، وأنزل به أشرف كتبه)ا.هـ.
· قوله: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] النعمة المرادة هنا هي النعمة الخاصة التي اختص الله بها أولياءه وهي نعمة الهداية.
· فإن إنعام الله تعالى على عباده على نوعين:
- النوع الأول: إنعام عام، وهو إنعام فتنة وابتلاء، كما قال تعالى: ﴿فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ... [الفجر: 15، 16] الآيتين، وقال: ﴿فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ[الزمر: 49].
وهذا الإنعام عام للمؤمنين والكافرين كما قال تعالى: ﴿كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا[الإسراء: 20].
وهذا الإنعام حجة على العباد ودليل على المنعم جل وعلا ليخلصوا له العبادة ويشكروه على نِعَمِه كما بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ[فاطر: 3].
وقال: ﴿وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آَتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ[النحل: 51-55].
- والنوع الثاني: الإنعام الخاص، وهو إنعام منَّة واجتباء، وهو الإنعام بالهداية إلى ما يحبه الله عز وجل ويرضاه من الأقوال والأعمال، وما يمنُّ به على بعض عباده من أسباب فضله ورحمته وبركاته.
· والإنعام المقصود هنا هو الإنعام الخاص بالهداية، وهو المقصود في قول الله تعالى في إرشاده لعباده في أم القرآن: ﴿اهدِنَا الصِّرَاطَ المُستَقِيمَ (6) صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ (7) [الفاتحة: 6، 7]، وهو المقصود في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا [النساء: 69، 70]، وقوله: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آَدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا[مريم: 58].
· فقوله تعالى: ﴿وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي [المائدة: 3] أي نعمة بيان الهدى إلى ما يحبه الله عز وجل ويرضاه؛ فهي نعمة تامة غير ناقصة، شاملة جميع ما يحتاجه المسلمون أفراداً وجماعات في أي شأن من شؤونهم.
· وهذا كما في قول الله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ [الإسراء: 9] حُذِفَ متعلَّق أفعل التفضيل لإرادة العموم؛ أي أقوم في كل شيء يُحتاج إليه من أبواب الدين في العقائد والعبادات والمعاملات والأخلاق والسلوك والدعوة والسياسة وغيرها مما تتعلق به حاجة الفرد أو الأمة إلى الهداية إلى ما ينفع ويقرب إلى الله عز وجل، وتتحقق به النجاة والسلامة مما يخشى ضرره.
· قال تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [المائدة: 15، 16].
· وقال: ﴿فَمَن تَبِعَ هُدَايَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ[البقرة: 38]، وقال: ﴿فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى[طه: 123].
· فدلت الآية على كمال الدين وتمام النعمة الخاصة التي اختص الله بها هذه الأمة، فمَنْ قَبِلَها وشكرها كان موعوداً بالخير والفضل العظيم في الدنيا والآخرة، ومن بدَّلها وكفرها كان متوعداً بالعذاب الشديد، والخسران المبين، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [البقرة: 211]، وقال: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ[إبراهيم: 28-31]
· بيَّن الله تعالى في هذه الآيات غاية الكفر وغاية الشكر
· فغاية الكفر: هو تبديل النعمة بالكفر والتعرض لسخط الله عز وجل ومقته بالشرك به جل وعلا،وأعظم هذه النعم نعمة الإسلام فمن رفضه فقد بدَّل النعمة أقبح تبديل، وسمِّي ذلك تبديلاً للنعمة لأن من فعل أسباب سلب النعمة وإحلال النقمة محلها مبدِّل للنعمة، كما بيَّن الله تعالى ذلك بقوله: ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[الأنفال: 53].
- فمن كان على فطرة الإسلام إذا فعل ما يستحق به سلب هذا النعمة فهو مبدّل لهذه النعمة، ومن أتاه البيان إلى ما يحبه الله ويرضاه وما يفوز به العبد في دنياه وأخراه ثم رفضه فهو مبدل للنعمة؛ فإنه لما جاءته نعمة الهداية والبيان فردها وزاغ قلبه عنها قصداً وعمداً أزاغ الله قلبه جزاء وفاقاً ﴿فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ[الصف: 5].
- ومن كان على دين الإسلام ثم ارتد عنه فهو مبدّل للنعمة أقبح تبديل.
- فهذا بيان أنواع غاية الكفر، وهو الكفر الذي يخرج به من الملة ويستحق به صاحبه الخلود في النار والعياذ بالله، وهو الذي وصفه الله عز وجل بقوله: ﴿وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَادًا لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ [إبراهيم: 30].
· وأما غاية الشكر: فما أرشد الله تعالى إليه من إقامة الصلاة والإنفاق في سبيله سراً وجهراً خوفاً وطمعاً وهذا يستلزم تحقيق الإخلاص، ومن فعله فهو من أهل الإحسان في الإسلام.
· وبين هاتين المرتبتين -غاية الشكر وغاية الكفر -درجات كثيرة ومنازل للناس يتفاوتون فيها كما سبق تقرير نظائره في مسائل كثيرة.
· ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[الأنفال: 53].
- ﴿سَمِيعٌ لما يقوله المؤمنون من حمده جل وعلا، ولما يقوله الكافرون من نسبة النعمة إلى غيره ظلماً وعلواً.
- ﴿عَلِيمٌ بما في قلوبهم وما تعمله جوارحهم من الشكر أو الكفر.
· فتبيَّن بهذا التقرير وبما تقدم من الأدلة أن الناس يتفاضلون في نصيبهم من هذه النعمة الخاصة على تفاضلهم في طاعة الله والرسول.
· وتبيَّن أن طاعة الله تعالى وطاعة رسوله هي الشكر الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه.
· وتبيَّن أن كمال الدين لا يقتضي كمال جميع المنتسبين إليه، وذلك لتفاوتهم في الطاعة؛ فمن أتم الطاعة فقد استكمل دينه، ومن نقص نقص من دينه بقدره.

قوله تعالى: ﴿وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا﴾ يدلّ بمنطوقه على أن ما رضيه الله تعالى لنا فهو خير لنا وأصلح وأقوم، لأنه رضا عن علم وحكمة ورحمة؛ فدين الإسلام خير الأديان وأصلحها وأفضلها لنا، وهو دين قد
رضيه الله، والله تعالى لا يرضى بما فيه شرٌّ ومفسدة وظلم.

· ويدل بمفهومه على أن غير دين الإسلام لا يرضاه الله لنا.
· فكل دين غير دين الإسلام فالله تعالى لا يرضاه، وما لا يرضاه الله فهو غير مقبول ولا نافع لمن اتبعه.
كمال الدين يستلزم كمال التبليغ
· وكمال دين الإسلام يستلزم اعتقاد كمال بيان النبي صلى الله عليه وسلم لأمور الدين، وأن بيانه لأمور الدين أتم البيان وأحسنه، وهذا أصل مهم يرد به على أهل البدع والأهواء.
· قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (﴿اليوم أكملت لكم دينكم [المائدة: 3] فلم يترك صلى الله عليه وسلم شيئا من أمور الدين وقواعده وأصوله وشرائعه وفصوله إلا بيَّنه وبلَّغه على كماله وتمامه ولم يؤخر بيانه عن وقت الحاجة إليه، إذ لا خلاف بين فرق الأمة أنَّ تأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز بحال).
· وقال أيضاً: (ومما جاء به الرسول: إخباره بأنه تعالى قد أكمل الدين بقوله سبحانه: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا[المائدة: 3].
ومما جاء به الرسول: أمر الله له بالبلاغ المبين كما قال تعالى: ﴿وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ[النحل: 35] وقال تعالى: ﴿وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ[النحل: 44].
وقال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ [المائدة: 67].
ومعلومٌ أنه قد بلَّغ الرسالة كما أُمِر، ولم يكتم منها شيئًا؛ فإنَّ كتمان ما أنزله الله إليه يناقض موجب الرسالة؛ كما أن الكذب يناقض موجب الرسالة.
ومن المعلوم من دين المسلمين أنه معصومٌ من الكتمان لشيء من الرسالة كما أنه معصومٌ من الكذب فيها.
والأمة تشهد له بأنه بلَّغ الرسالة كما أمره الله وبين ما أنزل إليه من ربه، وقد أخبر الله بأنه قد أكمل الدين؛ وإنما كَمُلَ بما بَلَّغه؛ إذ الدين لم يعرف إلا بتبليغه؛ فعُلِمَ أنه بلغ جميع الدين الذي شرعه الله لعباده كما قال صلى الله عليه وسلم: (( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها بعدي إلا هالكٌ )).
وقال: (( ما تركت من شيءٍ يقربكم إلى الجنة إلا وقد حدثتكم به، وما تركت من شيءٍ يبعدكم عن النار إلا وقد حدثتكم به )).
وقال أبو ذر: (لقد توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وما طائرٌ يقلب جناحيه في السماء إلا ذكر لنا منه علمًا) )ا.هـ.
· والرسول صلى الله عليه وسلم هو أعظم الرسل بياناً وأفصحهم لساناً وأحسنهم هدياً.
· اعتقاد أن النبي صلى الله عليه وسلم قد بلّغ البلاغ المبين الكافي الذي يحبه الله ويرضاه، والذي تقوم به الحجة أصل عظيم من أصول الدين.
· والبلاغ المبين يقتضي ثلاثة أمور متلازمة:
- الأمر الأول: العلم التام بكل ما يلزم بيانه.
- الأمر الثاني: النصح والأمانة.
- الأمر الثالث: الفصاحة في المنطق وحسن تبليغ الرسالة لمن أرسله الله إليهم.
· فمن قدح في أمرٍ من هذه الأمور الثلاثة فقد قدح في بيان النبي صلى الله عليه وسلم.
· ولو فَقِهَ أصحاب الأهواء هذا الأمر حق الفقه لسَلِمُوا من شر عظيم، وسلَّموا للنبي صلى الله عليه وسلم بحسن بيانه وكمال نصحه وفصاحته، ولم يدخلوا في حديثه متأولين محرفين زاعمين أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يرد ظاهر ما يدل عليه كلامُه من أمورٍ كَبُرَ عليهم اعتقادها، حتى صرح بعضهم أن ظواهر النصوص غير مرادة، وأنه إذا تعارض العقل والنقل قدم العقل، فارتكبوا بسبب ما زينه لهم الشيطان بدعاً عظيمة شنيعة، ولولا ما عَرَضَ لبعضهم من الشبه وما يعذر به بعضهم من الجهل في بعض المسائل لخرجوا من الدين بهذا الاعتقاد والعياذ بالله.
· تنبيه: ينبغي أن يتنبّه طالب العلم إلى أن هذه الأمور وإن كانت من أوضح الواضحات في دين الإسلام إلا أن تقريرها مهم جداً، ومَن أحسن معرفة هذا الأصل والاستدلال له رد جميع البدع بإذن الله جل وعلا.
· وقد كان كثير من أئمة أهل السنة والجماعة في مناظراتهم لأهل البدع والأهواء يفحمونهم بهذا الأصل؛ لأنهم إن اعتقدوا كمال الدين وكمال البلاغ خُصِموا، وإن اعتقدوا نقصانَه كفروا.
· وقد كان من أعظم ما ذُكِرَ من الأسباب في رفع محنة القول بخلق القرآن في زمان الخليفة العباسي الواثق بالله مناظرةٌ جرت على هذا الأصل العظيم بين شيخ من أهل السنة يقال له أبو عبد الرحمن الأذرمي، وشيخ المعتزلة أحمد بن أبي دؤاد الذي دعا خلفاء بني العباس إلى القول بخلق القرآن وإلزام العلماء والناس بالقول به.
· وهذه الحكاية ذكرها جماعة من أهل العلم منهم الآجري في كتاب الشريعة والخطيب البغدادي وابن قدامة في اللمعة وغيرهم، وقد جرت هذه المناظرة في مجلس الخليفة الواثق بالله.
· وأجتزئ منها هذا القَدْرَ وهو مما ذكره الآجري في كتاب الشريعة:
· (قال: فقال الشيخ مخاطباً أحمد بن أبي دؤاد عن مقالته المبتدَعَة.
قال: أخبرني يا أحمد عن مقالتك هذه، أواجبة داخلة في عقد الدين، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه ما قلت؟
قال: نعم
قال الشيخ: يا أحمد أخبرني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه الله تعالى إلى عباده، هل سَتَر رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا مما أمر الله تعالى به في دينه؟
قال: لا.
قال الشيخ: فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الأمة إلى مقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: تكلم فسكت.
فالتفت الشيخ إلى الواثق؛ فقال: يا أمير المؤمنين، واحدة.
فقال الواثق: واحدة.
فقال الشيخ: يا أحمد، أخبرني عن الله تعالى حين أنزل القرآن على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا[المائدة: 3].
أكان الله تعالى الصادق في إكمال دينه، أم أنت الصادق في نقصانه، فلا يكون الدين كاملا حتى يقال فيه بمقالتك هذه؟
فسكت ابن أبي دؤاد.
فقال الشيخ: أجب يا أحمد، فلم يجبه.
فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين، اثنتان فقال الواثق: اثنتان). إلى آخر قصة المناظرة وهي طويلة.
· المقصود من نقل هذا القدر من تلك المناظرة أن يتبيَّن طالب العلم أهمية هذا الأصل، وهو اعتقاد كمال دين الإسلام، وأنه أصل مهم من أصول الدين يردُّ به على أصحاب البدع والأهواء وكلِّ من يطعن في دين الإسلام أو شيء من أحكامه وحدوده أو ادعى عدم مناسبته لعصر من العصور أو لبلد من البلدان.
· والمخالفون في هذا الأصل على درجتين:
- الدرجة الأولى: الذين يعتقدون عدم كمال الدين، وهؤلاء كفار لتكذيبهم خبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم.
- الدرجة الثانية: الذين يعتقدون كمال الدين لكنهم يخالفون ما يقتضيه كمال الدين من تجريد المتابعة؛ فيُحْدِثُون في أمور الدين ما لم يأذن به الله لشُبَهٍ عرضت لهم بسبب ضعف فقههم في الدين وجرأتهم على القول في الدين بلا علم، وهؤلاء هم أهل البدع والأهواء.
· وأهل البدع مذمومون على بِدَعِهم ومخالفاتهم متعرضون لخطر عظيم بسبب ما أحدثوا في الدين ما لم يأذن به الله، وأما تكفيرهم في كثير من المسائل فيمنع منه ما عرض لهم من الشُبَّه، وإلا لو صرحوا بأن الدين غير كامل لكانوا كفاراً بهذا الاعتقاد.
· قال الشاطبي في الاعتصام: (الشريعة جاءت كاملة لا تحتمل الزيادة ولا النقصان؛ لأن الله تعالى قال فيها: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا [المائدة: 3]، وفي حديث العرباض بن سارية: (وعظنا رسول الله صلى الله عليه وسلم موعظة ذرفت منها الأعين ووجلت منها القلوب، فقلنا: يا رسول الله، إن هذه موعظة مودع فما تعهد إلينا؟ قال:(( تركتكم على البيضاء ليلها كنهارها، ولا يزيغ عنها بعدي إلا هالك، ومن يعش منكم فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بما عرفتم من سنتي وسنة الراشدين من بعدي...))الحديث.
وثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى أتى ببيان جميع ما يحتاج إليه في أمر الدين والدنيا، وهذا لا مخالف عليه من أهل السنة.
فإذا كان كذلك، فالمبتدع إنما محصول قوله بلسان حاله أو مقاله: إن الشريعة لم تتم، وإنه بقي منها أشياء يجب أو يستحب استدراكها، لأنه لو كان معتقداً لكمالها وتمامها من كل وجهٍ لم يبتدع ولا استدرك عليها، وقائل هذا ضال عن الصراط المستقيم.
قال ابن الماجشون: سمعت مالكا يقول: (من ابتدع في الإسلام بدعة يراها حسنة فقد زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم خان الرسالة، لأن الله يقول: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ[المائدة: 3] فما لم يكن يومئذ ديناً، فلا يكون اليوم ديناً) )ا.هـ.
موت النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: (وَالدَّلِيلُ عَلَى مَوْتِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ قوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ﴾).
· موت النبي صلى الله عليه وسلم قد حصل في السنة الحادية عشرة من الهجرة في شهر ربيع الأول، وهو أمر مجمع عليه.
· وموته صلى الله عليه وسلم من علامات الساعة كما في الصحيحين من حديث عوف بن مالك رضي الله عنه قال: قال أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وهو في قُبَّة ٍ من أَدَمٍ فقال: (( اعدد ستاً بين يدي الساعة: موتي، ثم فتح بيت المقدس، ثم موتانٌ يأخذ بكم كقُعَاص الغنم، ثم استفاضة المال حتى يُعطَى الرجل مائة دينار فيظل ساخطاً، ثم فتنة ٌ لا يبقى بيت من العرب إلا دخلته، ثم هدنة ٌ تكون بينكم وبين بنى الأصفر فيغدرون فيأتونكم تحت ثمانين غاية تحت كل غاية اثنا عشر ألفاً)).
· وهذه الآية من الآيات التي تلاها أبو بكر رضي الله في خطبته لما توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم واختلف الناس في هذا الأمر الجلل كما في صحيح البخاري من حديث هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مات وأبو بكر بالسُّنْحِ - يعني بالعالية - فقام عمر يقول: (والله ما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم)
قالت: وقال عمر: ما كان يقع في نفسي إلا ذاك – (وليبعثنه الله فليقطعن أيدي رجال وأرجلهم)؛ فجاء أبو بكر فكشف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقَبََّلَه، قال: (بأبي أنت طِبْتَ حيّاً وميتاً، والذي نفسي بيده لا يذيقنك الله الموتتين أبداًثم خرج فقال: (أيها الحالف على رسلك)؛ فلما تكلم أبو بكر جلس عمر؛ فحمد اللهَ أبو بكر وأثنى عليه وقال: (ألا من كان يعبد محمداً؛ فإنَّ محمداً قد مات، ومن كان يعبد اللهَ فإنَّ اللهَ حيٌّ لا يموت)، وقال:﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ[الزمر: 30]وقال: ﴿وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ[آل عمران: 144].
قال: فنشج الناس يبكون.
· وفي مصنف بن أبي شيبة أن عبد الله بن عمر قال: (فو الله الذي نفسي بيده لكأنما كانت على وجوهنا أغطية فكشفت).
· وفي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال: (والله لكأن الناس لم يكونوا يعلمون أن الله جل وعلا أنزل هذه الآية إلا حين تلاها أبو بكر؛ فتلقاها منه الناس كلهم؛ فلم تسمع بشرا إلا يتلوها).
· وفي صحيح البخاري أيضاً: قال الزهري: وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر بن الخطاب قال: (والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعقرت حتى ما تقلني رجلاي وأهويت إلى الأرض وعرفت حين سمعته تلاها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد مات)
· قوله تعالى: ﴿إِنَّكَ مَيِّتٌ أي ستموت، والتعبير عن ذلك بصيغة الخبر المفرد لبيان تحتم وقوعه، كما في قوله تعالى: ﴿وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا[مريم: 71]أي: سيَرِدها.
· ﴿وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ أي جميع العباد. كما قال تعالى: ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ[الأنبياء: 35].
· ﴿ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ[الزمر: 31]: الخصومة شاملة لجميع ما يختصم فيه من أمور الدين والدنيا، كاختصام المؤمنين والكافرين، واختصام المظلومين والظالمين، واختصام الرعية والرعاة، وغيرهم.
· قال ابن كثير رحمه الله: (ومعنى هذه الآية: ستنقلون من هذه الدار لا محالة وستجتمعون عند الله في الدار الآخرة، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدنيا من التوحيد والشرك بين يدي الله عز وجل، فيفصل بينكم، ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم، فينجي المؤمنين المخلصين الموحدين، ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين؛ ثم إن هذه الآية -وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين، وذِكْر الخصومة بينهم في الدار الآخرة- فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة)ا.هـ.
· ومسألة موت النبي صلى الله عليه وسلم يخالف في بعض تفاصيلها بعض المتصوفة الذين يلبسون على بعض الجهلة؛ فيعظمون أنفسهم ويزعمون أنهم أولياء وأنهم يلتقون بالنبي صلى الله عليه وسلم ويتحدثون معه، ويسمون ذلك اللقاء بالحضرة النبوية، ولهم في ذلك أساطير وأباطيل يغرّون بها السذج والعوام ويتصدرون بها المجالس، ويأكلون بها أموال الناس باطلاً.
· ومنهم من إذا تحدث مع العوام ينكر ذلك، وإذا تحدث مع خواصّه زعم أن للدين ظاهراً وباطناً، وأن للشريعة أسراراً لا يعرفها إلا أفراد قليلون، ولهم في ذلك طرق متنوعة في الضلال، نسأل الله العافية.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#8

22 Jul 2012

الاعتصام بالكتاب والسنة


والاعتصام بالشيء اتخاذه عاصماً ومانعاً مما يخشى ضرره، وقد أمر الله تعالى بالاعتصام به، وفي ضمن ذلك وَعْدُه لمن اعتصم به أن يعصِمَه مما يخاف ضرره.
وقد قال الله تعالى: {فمن اتبع هداي فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون}
فالاعتصام بالله يكون باتباع هدى الله عز وجل، في ما بينه في كتابه الكريم وفي ما بيَّنه الرسول صلى الله عليه وسلم، لأن الضرر الذي يخشى في الدنيا والآخرة قد بيَّن الله تعالى في كتابه وفي سنة نبيه أسباب العصمة منه؛ فمن فعل ما أُمر به وانتهى عما نُهِيَ عنه فقد أخذ بأسباب العصمة، ومن أعرض عن الكتاب والسنة أو وقع في مخالفة الأمر وارتكاب النهي لم يكن معتصماً.
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه في خطبة الوداع: (( وقد تركت فيكم ما لن تضلوا بعده إن اعتصمتم به كتاب الله وأنتم تسألون عني؛ فما أنتم قائلون؟ ))
قالوا: نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت.
وقال بإصبعه السبابة يرفعها إلى السماء وينكتها إلى الناس: (( اللهم اشهد، اللهم اشهد)) ثلاث مرات.
وفي مستدرك الحاكم وسنن البيهقي وغيرهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما : كتاب الله و سنتي و لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)). صححه الألباني.

والاعتصام بالكتاب والسنة أصل عظيم من أصول أهل السنة والجماعة ، وتنبني عليه مسائل كثيرة من مسائل الاعتقاد، وقد ضلَّت طوائف من أهل البدع بسبب ضعف اعتصامهم بالكتاب والسنة، بل من الطوائف من قدمت عقولها وأراءها على الكتاب والسنة، ومنها من قدمت أهواءها وأقوال معظميها على صريح دلالة الكتاب والسنة، ومنهم من وقع بسبب ذلك في فتنة التأويل المذموم، ومنهم من وقع في فتنة التفويض.
ومنهم من وقع في فتن أخرى.
ولا عصمة لأحد في اعتقاده إلا بالاعتصام بالكتاب والسنة؛ فالمعتصم مهتدي، والمفرّط في الاعتصام عرضة للضلالة، والعياذ بالله.
وأمر الاعتصام بالكتاب والسنة ميسَّر ليس فيه عنت ولا مشقة، وما جعل الله علينا في الدين من حرج.

قوله: (وَهَذَا دِينُهُ، لاخَيْرَ إِلاَّ دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلاَّ حَذَّرَهَا عَنْهُ).
الإشارة إلى دين الإسلام الذي بيَّن في هذه الرسالة معناه وأصوله.

قوله: (لاخَيْرَ إِلاَّ دَلَّ الأُمَّةَ عَلَيْهِ، وَلا شَرَّ إِلاَّ حَذَّرَهَا عَنْهُ)
الخير هو ما ينفع الإنسان في دينه أو دنياه.
والشر هو ما يضره في دينه أو دنياه.
فكل ما فيه مصلحة ومنفعة للمؤمن في دينه ودنياه فهو خير.
وكل ما فيه مضرَّة ومفسدة فهو شرٌّ.

وقوله: (لا خير إلا دل الأمة عليه، ولا شر إلا حذرها منه)
هذا يدل عليه حديث عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما في صحيح مسلم ومسند الإمام أحمد وغيرهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنه لم يكن نبيٌّ قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدلَّ أمته على خير ما يعلمه لهم، وينذرهم شر ما يعلمه لهم )).
وهذا الخير إمَّا أن يكون مدلولاً عليه بعينه أو بوصفه
وكذلك الشر إما أن يكون منهياً عنه بعينه أو بوصفه
فالمأمور به بعينه أمرُهُ بيّن ظاهر لدلالة النصِّ عليه، وأما المأمور به بوصفه فهو مندرج تحت الأدلة العامة والقواعد الكلية للشريعة كما في قوله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}
والخير لا يخرج عن وصف العدل والإحسان فكل خير فهو مأمور به أمر تكليف بالوجوب أو أمر استحباب أو أمر إباحة.
وما خرج عن هذا الوصف فهو شرٌّ منهي عنه.
وفي صحيح مسلم وغيره من حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير، احرص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجز فإن أصابك شيء فلا تقل لو فعلت كذا وكذا ولكن قل قدَّر الله وما شاء فعل )) . وقد تقدم شرح الحديث.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم : (( احرص على ما ينفعك )) عامّ في كل ما ينفع المؤمن في دينه ودنياه ؛ وما ينفع فهو خير ؛ فدلَّ ذلك على أن كلَّ خير فقد أمر به النبي صلى الله عليه وسلم.
ودل مفهومه على أن كل ما يضرّ فهو منهيٌّ عنه كما صرح به في الحديث الجامع: (( لا ضرر ولا ضرار )) رواه الإمام أحمد وبعض أصحاب السنن من طرق يقوي بعضها وبعضاً فروي من حديث أبي سعيد الخدري وعبادة بن الصامت وابن عباس وأبي هريرة ، ولا تخلو كل طريق من ضعف ، وقد صححه جماعة من أهل العلم بمجموع طرقه.

قوله: (وَالخَيْرُ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ: التَّوْحِيـدُ وَجَمِيعُ مَا يُحِبُّهُ اللهُ وَيَرْضَاهُ، وَالشَّرُّ الَّذِي حَذَّرَ عَنْهُ: الشِّرْكُ وَجَمِيعُ مَا يَكْرَهُهُ اللهُ وَيَأبَاهُ)
التوحيد رأس كل خير، قدَّمه المؤلِّف لأهميته ثم عطف عليه جميع ما يحبه الله ويرضاه؛ فيكون من باب عطف العام على الخاص.
والله تعالى لا يحب إلا ما هو خير، وكل ما أمر الله به فقد أحبَّه، وكل ما أحبه الله فهو خير.
وكل ما حذَّر الله منه فإن الله يبغضه، وكل ما أبغضه الله فهو شرٌّ.
والشرك هو أعظم ما حذَّر الله منه ونهى عنه، فهو رأس الشر، وأكبر الشر، والعياذ بالله من الشرك، فإنه أقبح الذنوب، وأعظم الأوزار، وعقاب فاعله شر العقاب.