22 Jul 2011
الدرس الثامن عشر: الهجرة
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
اقتباس:
(وَبَعْدَهَا أُمِرَ بِالهِجْرَةِ إِلى المَدِينَةِ. وَالهِجْرَةُ: الاِنْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ، وَالهِجْرَةُ: فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ. وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ في الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللهُ عَفُوَّاً غَفُورًا﴾ [النساء:97-99]. وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿يا عبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ [العنكبوت:56]. قَالَ البَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ في المُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِمَكَّةَ لَمْ يُهَاجِرُوا؛ نَادَاهُـمُ اللهُ باسْمِ الإِيمَانِ). وَالدَّلِيلُ عَلَى الهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: (( لا تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا )). فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِالمَدِينَةِ أُمِرَ فِيهَا بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسْلاَمِ؛ مِثْلِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالحَجِّ والأَذَانِ وَالجِهَادِ وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ المُنْكَرِ،وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلاَمِ. أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ، وَبَعْدَهَا تُوُفِّيَ- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ). |
عناصر الدرس:
- الهجرة في سبيل الله
... - معنى الهجرة
- أنواع الهجرة
- مقاصد الهجرة
- فضل الهجرة في سبيل الله تعالى
- متى تنقطع الهجرة؟
- هجرة البادي وهجرة الحاضر
- حكم الهجرة
- فرض بقيّة شرائع الإسلام بعد تقرير التوحيد
- تاريخ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
الهجرة في سبيل الله
معنى الهجرة
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على النبي الأمين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فهذا الدرس متضمن لمسائل
مهمة من مسائل الاعتقاد وأصول الدين ، وقد أجمل الشيخ رحمه الله أغلبها
بعبارات موجزة تقريباً لها وتيسيراً على العامة والمبتدئين، وبيَّنها
بأدلتها بما يكفي الطالب لمعرفة الحق بدليله في هذه المسائل العظيمة.
وهذه المسائل هي من المسائل الكبار في العقيدة ومن أصول الدين وقد سبق تناول بعضها وبقي في بعضها بعض التفصيل.
قوله: (
وَالهِجْرَةُ: الاِنْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلى بَلَدِ
الإِسْلاَمِ، وَالهِجْرَةُ: فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ
الشِّرْكِ إِلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلى أَنْ تَقُومَ
السَّاعَةُ.
وَالدِّلِيلُ
قَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلاَئِكَةُ
ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا
مُسْتَضْعَفِينَ في الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللهِ
وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولئِكَ مَأوَاهُمْ جَهَنَّمُ
وَسَاءَتْ مَصِيراً (97) إِلَّا المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ
وَالنِّسَاءِ وَالوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ
سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ
اللهُ عَفُوًّا غَفُورًا} [النساء:97-99].
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {يا عبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} [العنكبوت:56].
قَالَ
البَغَوِيُّ -رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى-: (سَبَبُ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ
في المُسْلِمِينَ الَّذِينَ بِمَكَّةَ لَمْ يُهَاجِرُوا؛ نَادَاهُـمُ
اللهُ باسْمِ الإِيمَانِ).
وَالدَّلِيلُ
عَلَى الهِجْرَةِ مِنَ السُّنَّةِ قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: ((لا
تَنْقَطِعُ الهِجْرَةُ حَتَّى تَنْقَطِعَ التَّوْبَةُ، وَلا تَنْقَطِعُ
التَّوْبَةُ حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ مِنْ مَغْرِبِهَا)).).
وقد تنوعت عبارات أئمة
اللغة في بيان معنى الهجرة، والاطلاع على أقوالهم يفيد طالب العلم ، إذ
يحصل بمجموع كلامهم فهم المعنى المقصود من أكثر من وجه.
= قال أبو منصور الأزهري: (كلُّ من فارقَ رِباعَه من بدويّ أو حَضَريّ وسكن بلداً آخر فهو مُهاجر، والاسم منه الهِجرة).
رِبَاعَه: أي محل إقامته.
= وقال ابن سيده في المحكم: (الهجرة: الخروج من أرض إلى أرض).
=
وقال الخليل بن أحمد: (الهَجْرُ والهجران تركُ ما يَلْزَمُك تَعَهُّدُهُ
ومنه اشتُقَّتْ هجرةُ المُهاجرينَ لأنَّهم هَجَروا عشائِرَهُمْ فتقطّعوهم
في الله قال الشاعر:
وأُكْثِرَ هَجْرَ البيتِ حتَّى كأنّني.......مَللْتُ وما بي من مَلالٍ ولا هَجْرِ ).
فتبيَّن أن الهجرة في اللغة لا بد فيها من مفارقة وانتقال .
فيفارق محل إقامته، وينتقل إلى بلد آخر يقيم فيه، وبذلك يكون مهاجراً.
أنواع الهجرة
والهجرة تنقسم إلى قسمين: هجرة معنوية وهجرة حسية.
* فأما الهجرة المعنوية
فهي: هَجْرُ كلِّ ما نهى الله عنه كما في صحيح البخاري من حديث عبد الله
بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هَجَرَ ما نهى الله عنه)).
وهذه الهجرة المعنوية شأنها عظيم بل هي أصل الهجرة الحسية، كما أن جهاد النفس أصل سائر أنواع الجهاد.
وهي واجبة في هَجْرِ ما نهى الله عنه نهي تحريم، ومستحبة في هجرِ ما نُهي عنه نَهْيَ كراهة دون نهي التحريم.
والمؤمن مأمور بأن يحقق الهجرة المعنوية وذلك بترك جميع ما نهى الله عنه نهي تحريم أو كراهة من قول أو فعل أو اعتقاد.
وهذه الهجرة تقتضي أن ينيب
العبدُ المهاجرُ بقلبه إلى الله عز وجل؛ فيهاجر من الظلمات إلى النور،
ومن الشرك إلى التوحيد، ومن البدعة إلى السنة، ومن المعصية إلى الطاعة،
ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الإساءة إلى الإحسان.
ومن تأمل أحوال هذه الهجرة وجدها تنتظم جميع أعمال العبد وحركاته وسكناته، ومن كان هذا دأبه كان من الأوَّابين المنيبين.
قال ابن القيم رحمه الله في الرسالة التبوكية: (الهجرة هجرتان :
الهجرة الأولى: هجرة بالجسم من بلد إلى بلد ، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها .
والهجرة الثانية: الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله ، وهذه هي المقصودة هنا . وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها .
وهي هجرة تتضمن ( من ) و (
إلى ) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته ، ومن عبودية غيره إلى
عبوديته ، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل
عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه
وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه
قال تعالى : {ففروا إلى الله }) ا.هـ.
وفي مسند الإمام أحمد
والتاريخ الكبير للبخاري وشعب الإيمان للبيهقي أن معاوية بن أبي سفيان وعبد
الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم قالوا: إن النبي
صلى الله عليه و سلم قال: ((إن الهجرة خصلتان:
إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله ورسوله، ولا تنقطع
الهجرة ما تُقُبِّلَتِ التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة حتى تطلع الشمس من
المغرب؛ فإذا طلعت طُبع على كلّ قلبٍ بما فيه وكُفِيَ الناسُ العمَلَ)).
وفي مسند الإمام أحمد
وغيره أن عمرو بن عبسة السلمي رضي الله عنه وهو من السابقين الأولين إلى
الإسلام سأل النبي صلى الله عليه وسلم : (أي الهجرةِ أفضل ؟ ).
قال: ((أن تهجر ما كره ربك)).
ورواه أبو داوود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو وعبد الله بن حبشي مع إبهام السائل، ولفظه: قيل : فأي الهجرة أفضل؟
قال: ((أن تهجر ما حرَّم الله)).
وهذه الهجرة المعنوية يتحدث عنها علماء السلوك والتزكية ويقسّمونها إلى هجرتين:
1:
هجرة إلى الله تعالى بالإخلاص ويفيضون في الحديث فيها عن مسائل الإخلاص
وتطهير القصد مما ينقض الإخلاص أو ينقصه من الشرك الأكبر والأصغر وإرادة
الدنيا بعمل الآخرة وسائر حظوظ النفس المحرمة وحيل الشيطان في صرف العبد عن
تحقيق الإخلاص.
2:
وهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحقيق المتابعة ويفيضون في
الحديث فيها عن اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات والمعاملات
ومعرفة تفاصيل ذلك وعلاماته ومراتبه.
وغاية ما يبلغه العبد من درجات الإحسان إنما يحصل له بتحقيق هاتين الهجرتين.
ومن أحسن ما أُلِّفَ في هذا الباب كتاب ابن القيم رحمه الله الموسوم بطريق الهجرتين وباب السعادتين.
يقصد بالهجرتين: الهجرة إلى الله تعالى، والهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم.
ويقصد بالسعادتين: سعادة الدنيا والآخرة.
نسأل الله تعالى أن نكون ممن حقق الهجرتين وكتبت له السعادتان والله الموفق.
وأما الهجرة المرادة هنا فهي التي عرَّفها المؤلف بقوله: (وَالهِجْرَةُ: الاِنْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ)
قوله من (بلد الشرك) أي البلد الذي يكون للمشركين فيه سلطان وحكم؛ بحيث يمنعون به بعض المسلمين من إقامة دينهم.
إلى (بلد الإسلام) أي إلى البلد الذي يكون الحكم فيه للمسلمين.
وهذه الهجرة واجبة وجوباً
مؤكداً في نصوص الكتاب والسنة، بل من تأمل النصوص وتعرف على مقاصد الهجرة
وفضائلها وأحكامها تبيَّن له أن للهجرة شأناً عظيماً في الإسلام ، وأنها
سبب عظيم لرفعة الدين وعزة المسلمين.
وهي واجبة على كل من لم
يستطع إظهار شعائر دينه بسبب تسلط الكافرين عليه لينتقل إلى البلاد التي لا
سلطان للكفار عليها، فيعبد الله عز وجل ويظهر شعائر دينه.
وهذا يدلك على أهمية سعي
المؤمنين في التخلص من تسلط الكافرين والمنافقين، وأنه لا يمكنهم إقامة
دينهم على الوجه المرضي ما داموا تحت تسلط الكافرين أعداء الدين ، فإن
هؤلاء الأعداء مجتهدون في محاربة دين الله عز وجل، ومحاربة عباده المؤمنين
لا يألونهم خبالاً ، ولا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة، ولا يمكّنونهم من إقامة
الدين على الوجه المرضي.
ومن تأمل أحوال المسلمين
اليوم ورأى اجتهاد الكفار وتآمرهم على المسلمين وسعيهم بكل سبيل إلى
التضييق على المؤمنين وإضعاف قوتهم واجتهادهم وتناذرهم على ألا تقوم لهم
قائمة، وتفننهم في أساليب غزوهم فكرياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً علم
مقدار ما يكنّه أولئك الكفار من العداوة الشديدة للمسلمين.
ولولا أنَّ الله تعالى قد
ضمن ألا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورين ظاهرين لا يضرهم من
خذلهم ولا من خالفهم لاندرست معالم الدين مِن عظم كيدهم ومكرهم {وإن كان مكرهم لتزول منه الجبال}
والمقصود أن الإقامة في سلطان الكفار فيها مفاسد كبيرة، وفتن عظيمة.
وقد شرع الله الهجرة لإخراج المؤمنين من الضيق إلى السعة ومن الذلة إلى العزة ووعدهم النصر كما قال تعالى: {أذن للذين يُقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير . الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله}
مقاصد الهجرة
فضل الهجرة في سبيل الله تعالى وقد
وعد الله المهاجرين في سبيله وعداً حسناً وفضلاً عظيماً؛ فمن كتبت له
الحياة نال من ثواب الدنيا ما تقرّ به عينه ومن اصطفاه الله فمات أو قتل
لقي من إكرام الله تعالى له ما لا يخطر له على بال. والذي
يدرك فضائل الهجرة إنما هو المخلص فيها الذي هاجر لله عز وجل ولم تكن
هجرته لأجل الدنيا كما في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إنما الأعمال
بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته
إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها فهجرته إلى
ما هاجر إليه)). ولك أن
تتفكر في نفسك : هل كانت تبلغ أماني من كان مستضعفاً في مكة والمسلمون
قليل عددهم ضعيفة عدتهم والمشركون في زهوهم وعتوّهم وطغيانهم يسومون عباد
الله المؤمنين سوء العذاب ، هل كانت أمانيه تبلغ أن يكون – بعد سنوات
قليلة -حاكماً على مصرٍ من الأمصار كانت تحكمه دولة من أعظم دول الأرض في
ذلك الوقت ؟!! والمقصود
أن من لا يستطيع إقامة شعائر دينه بسبب تسلط الكافرين ووجد سبيلاً
للهجرة فالهجرة عليه واجبة بإجماع العلماء ، ومن ترك هذه الهجرة الواجبة
وهو قادر عليها فقد عرض نفسه للوعيد الشديد والعذاب الأليم كما في قوله
تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ
الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا
كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ
اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ
جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ
الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً
وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ
يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ
يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا
وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)} وقال الشنقيطي في تفسير قول الله تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ}: (قوله تعالى: {وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ} .
كما دل على ذلك قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ
هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي
الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا
يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ
(42)}
وقوله: {وَالَّذِينَ
هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ
اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا
عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)}
* ومن فضائلها أنها تهدم ما كان قبلها من الذنوب والمعاصي كما في صحيح مسلم
من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: لمَّا جعلَ الله الإسلامَ
في قلبي أتيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم فقلتُ : ابسُطْ يمينكَ فَلأُبايعُك ، فبسط يمينَه فقبضْتُ يَدِي،
فقال : (( ما لكَ يا عمْرُو ؟ ))
- قلتُ: أردتُ أنْ أشْتَرِط.
- قال: (( تَشْتَرِط ماذا ؟ ))
- قلت: أنْ يُغْفَرَ لي.
- قال: ((أما علمت أنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله )).
- وهذا يدل عليه قوله تعالى: {ثُمَّ
إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ
جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
(110) }
* ومن فضائلها ما رواه ابن حبان في صحيحه والبزار في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((للمهاجرين منابر من ذهب يجلسون عليها يوم القيامة قد أمنوا من الفزع )). والحديث صححه الألباني رحمه الله.
وقد ذكر بعض أهل العلم أنه لعظم ثواب هذه الهجرة اكتفي بإعادة ذكرها في جواب الشرط ((فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ))؛ فكأنه قيل: لا تسأل عن ثوابها؛ فثوابها أعظم من يذكر .
وهذا القول له أصل في
اللغة فإن الإبهام يأتي في اللغة أحياناً للمبالغة ، وهذا كما أُبهم أجر
المهاجر، وجعله الله تعالى واجباً عليه في قوله تعالى: {ومن يخرج من بيته مهاجراً إلى الله ورسوله ثم يدركه الموت فقد وقع أجره على الله}
فهذا الذي خرج من بيته ولم يقل (من بلده)، وهو عازم على الهجرة ؛ فما بالك بمن تتمّ له هجرته وجهاده ؟ !!.
في الصحيحين من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: (هاجرنا
مع النبي صلى الله عليه وسلم نلتمس وجه الله؛ فوقع أجرنا على الله؛ فمنا
من مات لم يأكل من أجره شيئاً منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد وترك
نَمِرَةً؛ فكنا إذا غطينا رأسه بدت رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه؛
فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه
شيئاً من الإذخر، وَمِنَّا من أينعت له ثمرته فهو يَهْدِبُها).
ونظير هذا قول عتبة بن
غزوان رضي الله عنه وكان من المهاجرين الأولين لما ولاه عمر بن الخطاب
إمارة البصرة خطب في أهلها خطبة جليلة رواها الإمام أحمد في مسنده ومسلم في
صحيحه وغيرهما، قال فيها: (ولقد رأيتُني سابعَ
سبعة مع رسولِ الله صلى الله عليه وسلم ، ما لنا طعام إلا وَرقُ الشجر ،
حتى قَرِحَتْ أشْدَاقُنَا ، والتقطتُ بُرْدةً ، فشققتُها بيني وبين سعد
بن مالك – يقصد سعد بن أبي وقاص -،
فاتَّزَرْتُ بنصفها ،واتَّزرَ سَعد بنصفها ، فما أصبح اليومَ منا أحد إلا
أصْبَحَ أميراً على مِصر من الأَمصار ، فإني أعوذ باللَّه أن أكونَ في
نفسي عظيما، وأنا عند الله صغير ، وإنَّه لم تكن نُبُوَّة قَطُّ إلا
تَناسَخَت حتى تكونَ عاقِبَتُها مُلْكا ، وسَتَخْبُرون وتُجرِّبون
الأمراءَ بعدَنا).
فهؤلاء المهاجرون رضي الله
عنهم كانوا في ضيق ومحنة من تسلط الكفار عليهم ؛ فلما أمرهم الله
بالهجرة استجابوا لله تعالى وهاجروا ابتغاء مرضاته فصدقهم الله وعده فمن
مات منهم أو قتل رزقه الله من فضله العظيم ما لا تقوم له الدنيا
وأضعافها، ومن بقي منهم بوَّأه الله مبوَّأً حسناً ورزقه رزقاً كريما في
الدنيا وما أعده الله لهم في الآخرة أعظم .
ولكنهم آمنوا بالله وصدقوا بوعده فأنجز الله لهم ما وعدهم، ومن أوفى بوعده من الله.
قال ابن كثير رحمه الله:
(هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على
الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما
بالإجماع).
الظاهر أن معنى الآية: أن
الإنسان إذا كان في محل لا يتمكن فيه من إقامة دينه على الوجه المطلوب،
فعليه أن يهاجر منه، في مناكب أرض الله الواسعة، حتى يجد محلاً تمكنه فيه
إقامة دينه.
وقد أوضح تعالى هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى:
{إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ
قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ
قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا} . وقوله تعالى: {يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} ، ولا يخفى أن الترتيب بالفاء في قوله: {فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ} على قوله: {إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ} دليل واضح على ذلك).
متى تنقطع الهجرة؟
وهذه
الهجرة باقية إلى قيام الساعة؛ ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود
والنسائي وغيرها من حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول
الله صلى الله عليه وسلم: (( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة ، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)).
وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي من حديث عبد الله بن واقد السعدي رضي الله عنه قال: وفدت
إلى رسول الله صلى الله عليه و سلم في وفدٍ كلّنا يطلب حاجة وكنت آخرهم
دخولا على رسول الله صلى الله عليه و سلم؛ فقلت: يا رسول الله إني تركت
مَنْ خلفي وهم يزعمون أنَّ الهجرة قد انقطعت.
قال: (( لا تنقطعُ الهجرةُ ما قُوتل الكفار )).
فبين النبي صلى الله عليه
وسلم أن الهجرة باقية ما بقي في الناس كفارٌ يُقاتَلون ولهم بلاد؛ فمن
كان في بلادهم من المسلمين فالهجرة غير منقطعة عليه بل هي إما واجبة عليه
إذا كان لا يستطيع إقامة شعائر دينه، وإما مستحبة له إذا كان قادراً على
الإقامة ما لم تكن إقامته لمصلحة راجحة ويأمن الفتنة على نفسه.
هجرة البادي وهجرة الحاضر
وعن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((
الهجرة هجرتان: هجرة الحاضر وهجرة البادي؛ أما البادي فإنه يطيع إذا
أُمِرَ ويجيب إذا دُعِي، وأمَّا الحاضِرُ ، فهو أعظمهما بلية وأفضلهما
أجرا)). رواه أحمد والنسائي وابن حبان وصححه الألباني.
البادي الذي يقيم في البدو يحل ويرتحل، والحاضر من يسكن في القرى والمدن.
فهجرة البادي أن يطيع إذا
أمر ويجيب إذا دعي للجهاد في سبيل الله عز وجل، وأما الحاضر فهو أعظم
بلية لأن همة العدو تكون لغزو المدن والقرى فيكون الخطر على ساكنيها أعظم
من الخطر على أهل البوادي.
وأما ما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية )).
فالمراد بالهجرة التي
انقطعت هنا هي الهجرة إلى المدينة من مكة أو البلاد التي دخلت في دين الله
عز وجل في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فإن العرب لما دخلت في الإسلام
أصبحت بلاد العرب بلاد إسلام فلا معنى للهجرة منها.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد قال صلى الله عليه وسلم (( لا هجرة بعد الفتح ؛ ولكن جهادٌ ونيةٌ ؛ وإذا استنفرتم فانفروا )) وقال: (( لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو )) وكلاهما حق .
فالأول أراد
به الهجرة المعهودة في زمانه وهي الهجرة إلى المدينة من مكة وغيرها من
أرض العرب؛ فإن هذه الهجرة كانت مشروعةً لما كانت مكة وغيرها دار كفرٍ
وحربٍ وكان الإيمان بالمدينة؛ فكانت الهجرة من دار الكفر إلى دار الإسلام
واجبةً لمن قدر عليها؛ فلما فتحت مكة وصارت دار الإسلام ودخلت العرب في
الإسلام صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام فقال : (( لا هجرة بعد الفتح )) ).
وفي الصحيحين من حديث عطاء
بن أبي رباح قال: زُرْتُ عائشة مع عبيد بن عُمَير الليثي -وهي مجاورة
بثَبير - فسألتها عن الهجرة؛ فقالت: (لا هجرة اليوم ؛ كان المؤمنون يفِرّ
أحدُهم بدينه إِلى الله عز وجل وإِلى رسوله ، مخافة أَنْ يُفْتَن عنه ،
فأما اليوم فقد أظهر الله الإِسلام ، فالمؤمن يَعْبُدُ ربَّهُ حيث شاء ،
ولكن جهاد ونية).
وفي صحيح مسلم من حديث مجاشع بن مسعود السلمي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبايعه على الهجرة؛ فقال: (( إن الهجرة قد مضت لأهلها، ولكن على الإسلام والجهاد والخير)).
وذلك بعد فتح مكة.
وفي صحيح البخاري عن مجاهد بن جبر قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: ( إني أريد أن أهاجر إلى الشام).
قال: (لا هجرة ولكن جهاد؛ فانطلق فاعرض نفسك فإن وجدت شيئا وإلا رجعت).
فهذه هي الهجرة التي انقطعت.
وأما الهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين فباقية لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها.
حكم الهجرة قال ابن قدامة المقدسي في كتابه المغني: (الناس في الهجرة على ثلاثة أضربٍ: ومن لا
يمكنه الانتقال إلى بلاد المسلمين أو كان في الانتقال إليها مزيد أذى
عليه بسبب تسلط بعض الظلمة وجب عليه الانتقال إلى بلد يتمكن فيه من إقامة
شعائر دينه؛ لأن مقصود الهجرة إقامة الدين .
أحدها:
من تجب عليه ، وهو من يقدر عليها ، ولا يمكنه إظهار دينه ، ولا تمكنه
إقامة واجبات دينه مع المقام بين الكفار ، فهذا تجب عليه الهجرة ؛ لقول
الله تعالى : {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي
أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله
واسعةً فتهاجروا فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرًا} .
وهذا وعيدٌ شديدٌ يدل على الوجوب .
ولأن القيام بواجب دينه واجبٌ على من قدر عليه ، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ .
الثاني: من لا هجرة عليه .
وهو من يعجز عنها ، إما
لمرضٍ ، أو إكراهٍ على الإقامة ، أو ضعفٍ ؛ من النساء والولدان وشبههم ،
فهذا لا هجرة عليه ؛ لقول الله تعالى : {إلا
المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلةً ولا يهتدون
سبيلًا فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم وكان الله عفوا غفورًا } .
ولا توصف باستحبابٍ ؛ لأنها غير مقدورٍ عليها .
والثالث: من تُستحب له ، ولا تجب عليه .
وهو من يقدر عليها ، لكنه يتمكن من إظهار دينه ، وإقامته في دار الكفر ، فتستحب له ، ليتمكن من جهادهم).
كما انتقل من انتقل من
المؤمنين في الهجرة الأولى من مكة إلى الحبشة لمّا كانت تلك البلاد آمنة
يحكمها ملك عُرِف من شأنه إقامة العدل وكراهة الظلم ، قال محمد بن إسحاق
صاحب السيرة:حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام عن
أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت:
لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا
ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله
عليه وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في
مَنَعَةٍ من قومه وعمّه لا يصلُ إليه شيءٌ مما يكرَه مما ينال أصحابَه،
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن بأرض الحبشة مَلِكاً لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه )).
فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا، ولم نخش منه ظلماً). وهذا إسناد حسن.
ومن كان يجد في بعض بلاد
المسلمين من الظلم والتضييق ما يمنعه من إقامة دينه فإنه ينتقل إلى
الإقامة في البلاد التي يأمن فيها على دينه ونفسه وأهله، ولو كانت من
بلاد الكفار حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً.
فرض بقيّة شرائع الإسلام بعد تقرير التوحيد
قوله: (فَلَمَّا اسْتَقَرَّ بِالمَدِينَةِ أُمِرَ
فِيهَا بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ الإِسْلاَمِ؛ مِثْلِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ
وَالحَجِّ والأَذَانِ وَالجِهَادِ وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ
عَنِ المُنْكَرِ،وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلاَمِ).
أراد الشيخ رحمه الله أن
يبين بهذه الجملة أهمية التوحيد وأن الرسول صلى الله عليه وسلم كانت أكثر
دعوته بمكة إلى التوحيد ، فمكث فيها ثلاث عشرة سنة يدعو إلى التوحيد قبل أن
تفرض كثير من فرائض الإسلام ، بل إن الصلاة لم تفرض على هذه الفرض الخمسة
إلا بعد البعثة بزمن ، وهذا فيه دلالة بيّنة على أهمية التوحيد.
ثم لما هاجر النبي صلى
الله عليه وسلم إلى المدينة بدأ بتأسيس الدولة الإسلامية فكان أول ما شرع
فيه بناء المسجد ليكون مجتمعاً للمسلمين تقام فيه الصلاة ويخطب فيه في
الجمعة وفي النوائب التي تنوب المسلمين فيدعى (الصلاة جامعة) فيجتمع
المسلمون فيخطب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين لهم ما يريد بيانه
.
وشرعت فرائض الإسلام شيئاً
فشيئاً تخفيفاً من الله تعالى ورحمة بعباده ، وكان بعض تلك الفرائض
مأموراً به قبل الهجرة لكن ليس على التفصيل والمقادير المبينة بعد ذلك
فقد ورد الأمر بإيتاء
الزكاة في بعض السور المكية ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر بالزكاة
والعفاف والصلة وأعمال البر والإحسان كما دل على ذلك قول أبي سفيان لما
سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بم يأمركم؟
فقال: (يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف)
قال: (إن يك ما تقول حقاً فإنه نبي). وخبره مخرَّج في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
فالزكاة المأمور بها كانت
على وجه الإجمال ، ثم بعد الهجرة فصلت أحكام الزكاة الواجبة وبُيِّنَ ما
تجب فيه الزكاة وما لا زكاة فيه، والأنصباء والمقادير .
وكذلك الأمر بالعفاف كان
مأموراً به على وجه الإجمال ثم بيّن بعد الهجرة الأنكحة المحرمة كالجمع بين
الأختين ونكاح نساء الآباء ونكاح المرأة بلا وليّ ونكاح المتعة والشغار
وسائر الأنكحة المحرمة.
وكذلك الأذان للصلوات إنما شرع بعد الهجرة وبعد بناء المسجد كما دل على ذلك حديث عبد الله بن عمر وحديث عبد الله بن زيد.
وكذلك الصيام إنما فرض في السنة الثانية للهجرة.
وكذلك الحج فرض في السنة التاسعة وقيل العاشرة للهجرة.
وكذلك القتال لم يؤذن به إلا بعد الهجرة ، وبعد أن صار للإسلام حوزة وَمَنَعَة وقوَّة .
وأما الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأمرون
بالتوحيد وهو أعظم ما أمر الله به ويأمرون بالعدل والإحسان وأداء الأمانات
وأعمال البر ومكارم الأخلاق ، وينهون عن الشرك وهو أنكر المنكرات وينهون
عن الفساد في الأرض ومساوئ الأخلاق قبل الهجرة وبعدها .
لكن إقامة الحدود والتعزيرات إنما كانت بعد الهجرة بزمن .
تاريخ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ، وَبَعْدَهَا تُوُفِّيَ- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ).
أي أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي في المدينة بعد الهجرة عشر سنين كما دل عليه حديث ابن عباس المتقدم .
وهو في هذه العشر يبين
للناس ما نزل إليهم من شرائع دينهم ويجاهد في سبيل الله عز وجل ويأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر حتى توفي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول
من السنة الحادية عشرة للهجرة.
قال ابن عبد البر: (لا
خلاف أنه ولد يوم الاثنين بمكة في ربيع الأول عام الفيل ،وأن يوم الاثنين
أول يوم أوحى الله إليه فيه، وأنه قدم المدينة في ربيع الأول، قال ابن
إسحاق: (وهو ابن ثلاث وخمسين سنة)، وأنه توفي يوم الاثنين في شهر ربيع
الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة صلى الله عليه وسلم).
وقال النووي: (واتفقوا انه ولد يوم الإثنين في شهر ربيع الأول، وتوفي يوم الإثنين من شهر ربيع الأول).
وذكر ابن إسحاق والواقدي وغيرهما أنّه توفي يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأوّل وهذا القول له علّة يأتي بيانها.
- قال ابن كثير: (ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عفان عن سعيد بن مينا عن
جابر، وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل
يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى
السماء، وفيه هاجر، وفيه مات).
- قلت لم أجده في مصنف ابن أبي شيبة لكن أخرج الجورقاني في الأباطيل والمناكير من طريق أبي
بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عفان، عن سعيد بن مينا، عن جابر بن عبد الله
الأنصاري وعبد الله بن عباس، أنهما قالا: «ولد رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم الفيل، يوم الإثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث،
وفيه عرج إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات صلى الله عليه وسلم»، وهذا
الأثر أعلّه ابن كثير بالانقطاع، وإن كان ظاهره الاتصال، وزيادة "الثاني
عشر" معلولة، وقوله: (وفيه) مرجع الضمير فيه إلى يوم الإثنين لا إلى
التاريخ، وقد ضعَّف تعيين التاريخ السهيلي وابن حجر وابن سيّد الناس.
- وذهب
أبو عبيدة معمر بن المثنى إلى أنه توفي في الثاني من ربيع الأول، رواه
الحاكم في المستدرك، وذكر هذا القولَ ابنُ سيد الناس عن الطبراني، وقيل
غير ذلك.
·
وقال السهيلي في الروض الأنف وهو من أجلّ كتب السيرة: (واتفقوا أنه
توفي صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين إلا شيئًا ذكره ابن قتيبة في
المعارف "الأربعاء"؛ قالوا كلهم: "وفي ربيعٍ الأول"
غير أنهم قالوا أو قال أكثرهم: "في الثاني عشر من ربيعٍ" ولا يصحُّ أن
يكون توفي صلى الله عليه وسلم إلا في الثاني من الشهر أو الثالث عشر أو
الرابع عشر أو الخامس عشر لإجماع المسلمين على أن وقفة عرفة في حجة
الوداع كانت يوم الجمعة وهو التاسع من ذي الحجة فدخل ذو الحجة يوم
الخميس؛ فكان المحرم إما الجمعة وإما السبت:
- فإن كان الجمعة فقد كان صفرٌ إما السبت وإما الأحد.
- فإن كان السبت فقد كان ربيعٌ الأحد أو الاثنين.
وكيفما
دارت الحال على هذا الحساب فلم يكن الثاني عشر من ربيعٍ يوم الاثنين
بوجه ولا الأربعاء أيضًا كما قال القتبي وذكر الطبري عن ابن الكلبي وأبي
مخنفٍ أنه توفي في الثاني من ربيعٍ الأول وهذا القول وإن كان خلاف أهل
الجمهور فإنه لا يبعد إن كانت الثلاثة الأشهر التي قبله كلها من تسعةٍ
وعشرين فتدبره فإنه صحيحٌ ولم أر أحدًا تفطن له وقد رأيت للخوارزمي أنه
توفي عليه السلام في أول يومٍ من ربيعٍ الأول وهذا أقرب في القياس بما
ذكر الطبري عن ابن الكلبي وأبي مخنفٍ)ا.هـ.
·
قال ابن رجب في لطائف المعارف: (أجيب عن هذا بجواب حسن وهو أن ابن اسحاق
ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول
وهذا ممكن فإن العرب تؤرخ بالليالي دون الأيام ولكن لا تؤرخ إلا بليلة مضى
يومها فيكون اليوم تبعا لليلة وكل ليلة لم يمض يومها لم يعتد بها كذلك
إذا ذكروا الليالي في عدد فإنهم يريدون بها الليالي مع أيامها فإذا قالوا
عشر ليال فمرادهم بأيامها).
· ثم
قال: (وحينئذ فيوم الإثنين الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم كان:
ثالث عشر الشهر لكن لما لم يكن يومه قد مضى لم يؤرخ بليلته إنما أرخوا
بليلة الأحد ويومها وهو الثاني عشر فلذلك قال ابن إسحاق توفي لاثنتي عشرة
ليلة مضت من ربيع الأول والله أعلم)ا.هـ.
· قلت:
افتراض أن الأشهر الثلاثة كلها من تسعة وعشرين - على ما ذكره السهيلي -
بعيد، والأقرب منه أن تكون كلّها تامّة فيكون يوم الإثنين هو الثالث عشر
من ربيع الأول وهو بعد مضيّ اثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول، والخطأ في هذا
شأنه يسير، أو يكون هو الثاني من ربيع الأول فتصحّف على بعض الناس، والله
تعالى أعلم.
وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وعمره ثلاث وستون.
(خلاصة الدرس الثامن عشر)
معنى الهجرة:
قوله: (وَالهِجْرَةُ:
الاِنْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ،
وَالهِجْرَةُ: فَرِيضَةٌ عَلَى هَذِهِ الأُمَّةِ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ
إِلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ، وَهِيَ بَاقِيَةٌ إِلى أَنْ تَقُومَ السَّاعَةُ).
· الهجرة في اللغة هي الانتقال من بلد إلى بلد، وسمي فاعل ذلك مهاجراً، لأنه قد هجر بلدَه ومن فيه، وَرَغِبَ عن جوارهم.
· وقد تنوعت عبارات
أئمة اللغة في بيان معنى الهجرة، والاطلاع على أقوالهم مفيد طالب العلم، إذ
يحصل بمجموع كلامهم فهم المعنى المقصود من أكثر من وجه.
- قال أبو منصور الأزهري: (كلُّ من فارقَ رِباعَه من بدويّ أو حَضَريّ وسكن بلداً آخر فهو مُهاجر، والاسم منه الهِجرة).
رِبَاعَه: أي محل إقامته.
- وقال ابن سيده في المحكم: (الهجرة: الخروج من أرض إلى أرض).
- وقال الخليل بن
أحمد: (الهَجْرُ والهجران تركُ ما يَلْزَمُك تَعَهُّدُهُ ومنه اشتُقَّتْ
هجرةُ المُهاجرينَ لأنَّهم هَجَروا عشائِرَهُمْ فتقطّعوهم في الله قال
الشاعر:
وأُكْثِرَ هَجْرَ البيتِ حتَّى كأنّني ... مَللْتُ وما بي من مَلالٍ ولا هَجْرِ).
· فتبيَّن أن الهجرة
في اللغة لا بد فيها من مفارقة وانتقال؛ فيفارق محل إقامته، وينتقل إلى
بلد آخر يقيم فيه، وبذلك يكون مهاجراً.
أنواع الهجرة
· والهجرة تنقسم إلى قسمين: هجرة معنوية وهجرة حسية.
· فأما الهجرة
المعنوية فهي: هَجْرُ كلِّ ما نهى الله عنه كما في صحيح البخاري من حديث
عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم
قال: (( المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هَجَرَ ما نهى الله عنه)).
· وهذه الهجرة المعنوية شأنها عظيم بل هي أصل الهجرة الحسية، كما أن جهاد النفس أصل سائر أنواع الجهاد.
· وهي واجبة في هَجْرِ ما نهى الله عنه نهي تحريم، ومستحبة في هجرِ ما نُهي عنه نَهْيَ كراهة دون نهي التحريم.
· والمؤمن مأمور بأن يحقق الهجرة المعنوية وذلك بترك جميع ما نهى الله عنه نهي تحريم أو كراهة من قول أو فعل أو اعتقاد.
· وهذه الهجرة تقتضي
أن ينيب العبدُ المهاجرُ بقلبه إلى الله عز وجل؛ فيهاجر من الظلمات إلى
النور، ومن الشرك إلى التوحيد، ومن البدعة إلى السنة، ومن المعصية إلى
الطاعة، ومن الغفلة إلى الذكر، ومن الإساءة إلى الإحسان.
· ومن تأمل أحوال هذه الهجرة وجدها تنتظم جميع أعمال العبد وحركاته وسكناته، ومن كان هذا دأبه كان من الأوَّابين المنيبين.
· قال ابن القيم رحمه الله في الرسالة التبوكية: (الهجرة هجرتان:
- الهجرة الأولى:هجرة بالجسم من بلد إلى بلد، وهذه أحكامها معلومة وليس المراد الكلام فيها.
- والهجرة الثانية:الهجرة بالقلب إلى الله ورسوله، وهذه هي المقصودة هنا، وهذه الهجرة هي الهجرة الحقيقية، وهي الأصل، وهجرة الجسد تابعة لها.
· وهي هجرة تتضمن (من)
و(إلى) فيهاجر بقلبه من محبة غير الله إلى محبته، ومن عبودية غيره إلى
عبوديته، ومن خوف غيره ورجائه والتوكل عليه إلى خوف الله ورجائه والتوكل
عليه، ومن دعاء غيره وسؤاله والخضوع له والذل والاستكانة له إلى دعائه
وسؤاله والخضوع له والذل له والاستكانة له، وهذا بعينه معنى الفرار إليه
قال تعالى: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ [الذاريات: 50]) ا.هـ.
· وفي مسند الإمام
أحمد والتاريخ الكبير للبخاري وشعب الإيمان للبيهقي أن معاوية بن أبي سفيان
وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهم قالوا: إن
النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((
إن الهجرة خصلتان: إحداهما أن تهجر السيئات، والأخرى أن تهاجر إلى الله
ورسوله، ولا تنقطع الهجرة ما تُقُبِّلَتِ التوبة، ولا تزال التوبة مقبولة
حتى تطلع الشمس من المغرب؛ فإذا طلعت طُبع على كلّ قلبٍ بما فيه وكُفِيَ
الناسُ العمَلَ)).
· وفي مسند الإمام
أحمد وغيره من حديث عمرو بن عَبَسة السلمي رضي الله عنه وهو من السابقين
الأولين إلى الإسلام أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم: (أي الهجرةِ أفضل؟).
قال: (( أن تهجر ما كره ربك )).
· ورواه أبو داوود والنسائي من حديث عبد الله بن عمرو وعبد الله بن حبشي مع إبهام السائل، ولفظه: قيل: فأي الهجرة أفضل؟ قال: (( أن تهجر ما حرَّم الله)).
· والهجرة المعنوية يتحدث عنها علماء السلوك والتزكية ويقسّمونها إلى هجرتين:
- 1:
هجرة إلى الله تعالى بالإخلاص ويفيضون في الحديث فيها عن مسائل الإخلاص
وتطهير القصد مما ينقض الإخلاص أو ينقصه من الشرك الأكبر والأصغر وإرادة
الدنيا بعمل الآخرة وسائر حظوظ النفس المحرمة وحيل الشيطان في صرف العبد عن
تحقيق الإخلاص.
- 2:
وهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بتحقيق المتابعة ويفيضون في
الحديث فيها عن اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات والمعاملات
ومعرفة تفاصيل ذلك وعلاماته ومراتبه.
· وغاية ما يبلغه العبد من درجات الإحسان إنما يحصل له بتحقيق هاتين الهجرتين.
· ومن أحسن ما أُلِّفَ في هذا الباب كتاب ابن القيم رحمه الله الموسوم بطريق الهجرتين وباب السعادتين.
· يقصد بالهجرتين: الهجرة إلى الله تعالى، والهجرة إلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ويقصد بالسعادتين: سعادة الدنيا والآخرة.
· وأما الهجرة المرادة هنا فهي التي عرَّفها المؤلف بقوله: (وَالهِجْرَةُ: الاِنْتِقَالُ مِنْ بَلَدِ الشِّرْكِ إِلى بَلَدِ الإِسْلاَمِ)
· قوله: (من بلد الشرك) أي البلد الذي يكون للمشركين فيه سلطان وحكم؛ بحيث يمنعون به بعض المسلمين من إقامة دينهم.
· (إلى بلد الإسلام) أي إلى البلد الذي يكون الحكم فيه للمسلمين.
· وهذه الهجرة واجبة
وجوباً مؤكداً في نصوص الكتاب والسنة، بل من تأمل النصوص وتعرف على مقاصد
الهجرة وفضائلها وأحكامها تبيَّن له أن للهجرة شأناً عظيماً في الإسلام،
وأنها سبب عظيم لرفعة الدين وعزة المسلمين.
· وهي واجبة على كل من
لم يستطع إظهار شعائر دينه بسبب تسلط الكافرين عليه لينتقل إلى البلاد
التي لا سلطان للكفار عليها، فيعبد الله عز وجل ويظهر شعائر دينه.
· وهذا يدلك على أهمية
سعي المؤمنين في التخلص من تسلط الكافرين والمنافقين، وأنه لا يمكنهم
إقامة دينهم على الوجه المرضي ما داموا تحت تسلط الكافرين أعداء الدين.
· من شأن أعداء الدين
أنهم مجتهدون في محاربة دين الله عز وجل، ومحاربة عباده المؤمنين لا
يألونهم خبالاً، ولا يرقبون فيهم إلا ولا ذمة، ولا يمكّنونهم من إقامة
الدين على الوجه المرضي.
· ومن تأمل أحوال
المسلمين اليوم ورأى اجتهاد الكفار وتآمرهم على المسلمين وسعيهم بكل سبيل
إلى التضييق على المؤمنين وإضعاف قوتهم واجتهادهم وتناذرهم على ألا تقوم
لهم قائمة، وتفننهم في أساليب غزوهم فكرياً واقتصادياً وعسكرياً وإعلامياً
علم مقدار ما يكنّه أولئك الكفار من العداوة الشديدة للمسلمين.
· ولولا أنَّ الله
تعالى قد ضمن ألا تزال طائفة من هذه الأمة على الحق منصورين ظاهرين لا
يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم لاندرست معالم الدين مِن عظم كيدهم ومكرهم ﴿وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ﴾[إبراهيم: 46].
· والمقصود أن الإقامة في سلطان الكفار فيها مفاسد كبيرة، وفتن عظيمة.
· وقد شرع الله الهجرة لإخراج المؤمنين من الضيق إلى السعة ومن الذلة إلى العزة ووعدهم النصر كما قال تعالى: ﴿أُذِنَ
لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى
نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِن دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ
حَقٍّ إِلَّا أَن يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج: 39، 40].
مقاصد الهجرة
· للهجرة مقاصد عظيمة وحكم جليلة:
- منها: أنها سبب لحفظ المؤمنين من الفتنة في الدين.
- ومنها: أنها سبب لعزة المؤمنين ورفعتهم ومَنَعَتهم من ظلم الكفار وتسلطهم عليهم في أنفسهم وأعراضهم وأموالهم.
- ومنها: أن تميّز
المسلمين في بلادٍ لا يكون للكفار سلطان عليها سبب لإقامة الجهاد في سبيل
الله، ومقاتلة الكفار الذين لا يستجيبون لدعوة الحق ولا يسالمون المسلمين.
- ومنها: أنَّ مَن كان
يخفي إسلامه خوفاً من تسلط الكفار إذا علم بقيام بلد مسلم بأحكام الجهاد
وإيواء المهاجرين ونصرتهم هاجر إليه؛ فيكثر المهاجرون وتكون لهم شوكة
يدفعون بها عن أنفسهم ويقاتلون من يستحق القتال.
· وقد حقق شيخ الإسلام
محمد بن عبد الوهاب رحمه الله هذه الأمور في دعوته المباركة، وقد أحسن
بذكر هذه المسألة هنا في بيان أصول الدين، وهذا يعرّفك بخبرته رحمه الله
وحسن إعداده لهذه الرسالة وانتقائه لمباحثها.
· وقد تحالَف الشيخ
رحمه الله مع أمير الدرعية لإقامة دولة إسلامية لا سلطان للكفار عليها ولا
لمن والاهم من المنافقين والطغاة الذين كانوا في ذلك الزمان، واعتنى
بتعليم العقيدة الصحيحة ونشر الفقه في الدين، ولا سيما في مسائل التوحيد
وأصول الدين، ودعا المسلمين إلى الهجرة إليها وبين أنها واجبة من بلاد
الشرك إلى بلاد الإسلام حتى اجتمع له جيش وقوة.
· ثم بدأ بدعوة من
يليهم من البلدان التي يدين أهلها وحكَّامها بالشرك وإن كان فيهم من لا
يقرّ الشرك ولا يقدر على تغييره؛ فدعاهم إلى التوحيد؛ فمن استجاب دخل في
دولة التوحيد وأُقِرَّ على ما بيده من الولاية، وكان عوناً للمسلمين ومدداً
لهم، ومن أصرَّ على الشرك وأبى الاستجابة لدعوة التوحيد استعانوا بالله
على قتاله.
· وكانوا موفَّقين
منصورين في حروبهم على من عاداهم وناوأهم لمَّا كانت النية خالصة لنصرة دين
الله عز وجلَّ، وكان الشيخ معهم يعظهم وينصحهم ويحذرهم من أسباب الهزيمة
التي عرفها من أدلة الكتاب والسنة حتى أقيمت الدولة وكتب الله لها النصر
وتوحَّدت له البلاد بعد أن كانت إمارات متفرقة ينتشر فيها الشرك والبدعة
والخرافات ويسومها الطغاة سوء العذاب.
· وبقيت الدولة في
عزٍّ وهيبة حتَّى حصل ما حصل من التغيير بعد وفاة الشيخ رحمه الله بزمن
فكانت الهزيمة المؤسفة التي قضت على الدولة السعودية الأولى.
· قال الشيخ عبد
العزيز بن باز رحمه الله: (فلما حصل بعض التغيير في آخر الزمان بعد وفاة
الشيخ محمد بمدة طويلة، ووفاة كثير من أبنائه رحمة الله عليهم وكثير من
أنصاره حصل بعض التغيير فجاء الابتلاء وجاء الامتحان بالدولة التركية،
والدولة المصرية، مصداق قوله عز وجل: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد: 11])ا.هـ.
فضل الهجرة في سبيل الله تعالى
· وعد الله المهاجرين
في سبيله وعداً حسناً وفضلاً عظيماً؛ فمن كتبت له الحياة نال من ثواب
الدنيا ما تقرّ به عينه ومن اصطفاه الله فمات أو قتل لقي من إكرام الله
تعالى له ما لا يخطر له على بال.
· كما دل على ذلك قول الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ
فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآَخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ
يَتَوَكَّلُونَ (42) ﴾[النحل: 41، 42].
· وقوله: ﴿وَالَّذِينَ
هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا
لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ
الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ
اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا
عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ
لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60) ﴾ [الحج: 58-60].
· ومن فضائلها أنها تهدم ما كان قبلها من الذنوب والمعاصي كما في صحيح مسلم من حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه قال: لمَّا جعلَ الله الإسلامَ في قلبي أتيتُ النبيَّ صلَّى الله عليه وسلم فقلتُ:ابسُطْ يمينكَ فَلأُبايعُك، فبسط يمينَه فقبضْتُ يَدِي؛ فقال: (( ما لكَ يا عمْرُو؟)) قلتُ: أردتُ أنْ أشْتَرِط؛ قال:(( تَشْتَرِط ماذا؟))؛
قلت: أنْ يُغْفَرَ لي؛ قال: (( أما علمت أنَّ الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله)).
· وهذا يدل عليه قوله تعالى: ﴿ثُمَّ
إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ
جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) ﴾[النحل: 110].
· ومن فضائلها ما رواه ابن حبان في صحيحه والبزار في مسنده من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( للمهاجرين منابر من ذهب يجلسون عليها يوم القيامة قد أمنوا من الفزع)). والحديث صححه الألباني رحمه الله.
· والذي ينال فضائل
الهجرة إنما هو المخلص فيها، الذي هاجر لله عز وجل، ولم تكن هجرته لأجل
الدنيا كما في الصحيحين من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن النبي صلى
الله عليه وسلم قال:(( إنما
الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى؛ فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله
فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها
فهجرته إلى ما هاجر إليه)).
· وقد ذكر بعض أهل العلم أنه لعظم ثواب هذه الهجرة اكتفي بإعادة ذكرها في جواب الشرط (( فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله))؛ فكأنه قيل: لا تسأل عن ثوابها؛ فثوابها أعظم من يذكر.
· وهذا القول له أصل
في اللغة فإن الإبهام يأتي في اللغة أحياناً للمبالغة، وهذا كما أُبهم أجر
المهاجر، وجعله الله تعالى واجباً عليه في قوله تعالى: ﴿وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللّهِ﴾ [النساء: 100].
· فهذا الذي خرج من بيته ولم يقل (من بلده)، وهو عازم على الهجرة؛ فما بالك بمن تتمّ له هجرته وجهاده؟!!.
· في الصحيحين من حديث
خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: (هاجرنا مع النبي صلى الله عليه وسلم
نلتمس وجه الله؛ فوقع أجرنا على الله؛ فمنا من مات لم يأكل من أجره شيئاً
منهم مصعب بن عمير، قتل يوم أحد وترك نَمِرَةً؛ فكنا إذا غطينا رأسه بدت
رجلاه، وإذا غطينا رجليه بدا رأسه؛ فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن
نغطي رأسه، وأن نجعل على رجليه شيئاً من الإذخر، وَمِنَّا من أينعت له
ثمرته فهو يَهْدِبُها).
· ونظير هذا قول عتبة
بن غزوان رضي الله عنه وكان من المهاجرين الأولين لما ولاه عمر بن الخطاب
إمارة البصرة خطب في أهلها خطبة جليلة رواها الإمام أحمد في مسنده ومسلم
في صحيحه وغيرهما، قال فيها: (ولقد رأيتُني سابعَ سبعة مع رسولِ الله صلى
الله عليه وسلم، ما لنا طعام إلا وَرقُ الشجر، حتى قَرِحَتْ أشْدَاقُنَا،
والتقطتُ بُرْدةً، فشققتُها بيني وبين سعد بن مالك – يقصد سعد بن أبي وقاص
-، فاتَّزَرْتُ بنصفها،واتَّزرَ سَعد بنصفها، فما أصبح اليومَ منا أحد
إلا أصْبَحَ أميراً على مِصر من الأَمصار، فإني أعوذ باللَّه أن أكونَ في
نفسي عظيما، وأنا عند الله صغير، وإنَّه لم تكن نُبُوَّة قَطُّ إلا
تَناسَخَت حتى تكونَ عاقِبَتُها مُلْكا، وسَتَخْبُرون وتُجرِّبون الأمراءَ
بعدَنا).
· فهؤلاء المهاجرون
رضي الله عنهم كانوا في ضيق ومحنة من تسلط الكفار عليهم؛ فلما أمرهم الله
بالهجرة استجابوا لله تعالى وهاجروا ابتغاء مرضاته فصدقهم الله وعده فمن
مات منهم أو قتل رزقه الله من فضله العظيم ما لا تقوم له الدنيا وأضعافها،
ومن بقي منهم بوَّأه الله مبوَّأً حسناً ورزقه رزقاً كريما في الدنيا وما
أعده الله لهم في الآخرة أعظم.
· ولك أن تتفكر في
نفسك: هل كانت تبلغ أماني من كان مستضعفاً في مكة والمسلمون قليل عددهم
ضعيفة عدتهم والمشركون في زهوهم وعتوّهم وطغيانهم يسومون عباد الله
المؤمنين سوء العذاب، هل كانت أمانيه تبلغ أن يكون – بعد سنوات قليلة
-حاكماً على مصرٍ من الأمصار كانت تحكمه دولة من أعظم دول الأرض في ذلك
الوقت؟!!
· ولكنهم آمنوا بالله وصدّقوا بوعده فأنجز الله لهم ما وعدهم، ومن أوفى بوعده من الله.
· والمقصود أن من لا يستطيع إقامة شعائر دينه بسبب تسلط الكافرين ووجد سبيلاً للهجرة فالهجرة عليه واجبة بإجماع العلماء.
· ومن ترك هذه الهجرة الواجبة وهو قادر عليها فقد عرض نفسه للوعيد الشديد والعذاب الأليم كما في قوله تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا
فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99)
وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا
كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ
وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى
اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100) ﴾ [النساء: 97-100].
· قال ابن كثير رحمه
الله: (هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر
على الهجرة، وليس متمكنا من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراما
بالإجماع).
· وقال الشنقيطي في تفسير قول الله تعالى: ﴿وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ﴾: (قوله تعالى: ﴿وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ﴾:
الظاهر أن معنى الآية: أن الإنسان إذا كان في محل لا يتمكن فيه من إقامة
دينه على الوجه المطلوب، فعليه أن يهاجر منه، في مناكب أرض الله الواسعة،
حتى يجد محلاً تمكنه فيه إقامة دينه، وقد أوضح تعالى هذا المعنى في غير هذا الموضع، كقوله تعالى:﴿إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا
فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا﴾ [النساء: 97]. وقوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ [العنكبوت: 56]، ولا يخفى أن الترتيب بالفاء في قوله: ﴿فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ على قوله: ﴿إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ﴾ [العنكبوت: 56] دليل واضح على ذلك)ا.هـ.
متى تنقطع الهجرة
· وهذه الهجرة باقية
إلى قيام الساعة؛ ففي مسند الإمام أحمد وسنن أبي داوود والنسائي وغيرها من
حديث معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه
وسلم: (( لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها)).
· وفي مسند الإمام أحمد وسنن النسائي من حديث عبد الله بن واقد السعدي رضي الله عنه قال: وفدت
إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفدٍ كلّنا يطلب حاجة وكنت آخرهم
دخولا على رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقلت: يا رسول الله إني تركت مَنْ
خلفي وهم يزعمون أنَّ الهجرة قد انقطعت، قال: (( لا تنقطعُ الهجرةُ ما قُوتل الكفار)).
· فبين النبي صلى الله
عليه وسلم أن الهجرة باقية ما بقي في الناس كفارٌ يُقاتَلون ولهم بلاد؛
فمن كان في بلادهم من المسلمين فالهجرة غير منقطعة عليه بل هي إما واجبة
عليه إذا كان لا يستطيع إقامة شعائر دينه، وإما مستحبة له إذا كان قادراً
على إقامتها ما لم تكن إقامته لمصلحة راجحة ويأمن الفتنة على نفسه.
· وأما ما في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية)).
· فالمراد بالهجرة
التي انقطعت هنا هي الهجرة إلى المدينة من مكة أو البلاد التي دخلت في دين
الله عز وجل في زمان النبي صلى الله عليه وسلم، فإن العرب لما دخلت في
الإسلام أصبحت بلاد العرب بلاد إسلام فلا معنى للهجرة منها.
· قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (وقد قال صلى الله عليه وسلم: (( لا هجرة بعد الفتح؛ ولكن جهادٌ ونيةٌ؛ وإذا استنفرتم فانفروا))وقال: (( لا تنقطع الهجرة ما قوتل العدو))
وكلاهما حق؛ فالأول أراد به الهجرة المعهودة في زمانه، وهي الهجرة إلى
المدينة من مكة وغيرها من أرض العرب؛ فإن هذه الهجرة كانت مشروعةً لما كانت
مكة وغيرها دار كفرٍ وحربٍ وكان الإيمان بالمدينة؛ فكانت الهجرة من دار
الكفر إلى دار الإسلام واجبةً لمن قدر عليها؛ فلما فتحت مكة وصارت دار
الإسلام ودخلت العرب في الإسلام صارت هذه الأرض كلها دار الإسلام فقال: (( لا هجرة بعد الفتح)) )ا.هـ.
· وفي الصحيحين من
حديث عطاء بن أبي رباح قال: زُرْتُ عائشة مع عبيد بن عُمَير الليثي -وهي
مجاورة بثَبير - فسألتها عن الهجرة؛ فقالت: (لا
هجرة اليوم؛ كان المؤمنون يفِرّ أحدُهم بدينه إِلى الله عز وجل وإِلى
رسوله، مخافة أَنْ يُفْتَن عنه، فأما اليوم فقد أظهر الله الإِسلام،
فالمؤمن يَعْبُدُ ربَّهُ حيث شاء، ولكن جهاد ونية).
· وفي صحيح مسلم من حديث مجاشع بن مسعود السلمي رضي الله عنه قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم أبايعه على الهجرة؛ فقال: (( إن الهجرة قد مضت لأهلها، ولكن على الإسلام والجهاد والخير)). وذلك بعد فتح مكة.
· وفي صحيح البخاري عن مجاهد بن جبر قال: قلت لابن عمر رضي الله عنهما: (إني أريد أن أهاجر إلى الشام).
قال: (لا هجرة ولكن جهاد؛ فانطلق فاعرض نفسك فإن وجدت شيئا وإلا رجعت).
· فهذه هي الهجرة التي انقطعت، وأما الهجرة من بلاد الكفار إلى بلاد المسلمين فباقية لا تنقطع حتى تطلع الشمس من مغربها.
هجرة البادي وهجرة الحاضر
· عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((
الهجرة هجرتان: هجرة الحاضر وهجرة البادي؛ أما البادي فإنه يطيع إذا
أُمِرَ ويجيب إذا دُعِي، وأمَّا الحاضِرُ، فهو أعظمهما بلية وأفضلهما أجرا)). رواه أحمد والنسائي وابن حبان وصححه الألباني.
· البادي الذي يقيم في البدو يحل ويرتحل، والحاضر من يسكن في القرى والمدن.
· فهجرة البادي أن
يطيع إذا أُمِر ويجيب إذا دعي للجهاد في سبيل الله عز وجل، وأما الحاضر فهو
أعظم بلية؛ لأن همة العدو تكون لغزو المدن والقرى فيكون الخطر على
ساكنيها أعظم من الخطر على أهل البوادي.
حكم الهجرة
· قال ابن قدامة المقدسي في كتابه المغني: (الناس في الهجرة على ثلاثة أضربٍ:
- أحدها: من تجب عليه،
وهو من يقدر عليها، ولا يمكنه إظهار دينه، ولا تمكنه إقامة واجبات دينه
مع المقام بين الكفار، فهذا تجب عليه الهجرة؛ لقول الله تعالى: ﴿إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ
فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ
أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَئِكَ
مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيرًا﴾ [النساء: 97].
وهذا وعيدٌ شديدٌ يدل على الوجوب، ولأن القيام بواجب دينه واجبٌ على من قدر عليه، والهجرة من ضرورة الواجب وتتمته، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجبٌ.
- الثاني: من لا هجرة
عليه، وهو من يعجز عنها، إما لمرضٍ، أو إكراهٍ على الإقامة، أو ضعفٍ؛ من
النساء والولدان وشبههم، فهذا لا هجرة عليه؛ لقول الله تعالى:﴿إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاء وَالْوِلْدَانِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً﴾ [النساء: 98].
ولا توصف باستحبابٍ؛ لأنها غير مقدورٍ عليها.
- والثالث: من تُستحب
له، ولا تجب عليه، وهو من يقدر عليها، لكنه يتمكن من إظهار دينه، وإقامته
في دار الكفر، فتستحب له، ليتمكن من جهادهم)ا.هـ.
· ومن لا يمكنه
الانتقال إلى بلاد المسلمين أو كان في الانتقال إليها مزيد أذى عليه بسبب
تسلط بعض الظلمة وجب عليه الانتقال إلى بلد يتمكن فيه من إقامة شعائر دينه؛
لأن مقصود الهجرة إقامة الدين.
· وذلك كما انتقل من
انتقل من المؤمنين في الهجرة الأولى من مكة إلى الحبشة لمّا كانت تلك
البلاد آمنة يحكمها ملك عُرِف من شأنه إقامة العدل وكراهة الظلم، قال محمد
بن إسحاق صاحب السيرة:حدثني الزهري عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن
هشام عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت:
لما ضاقت علينا مكة وأوذي أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وفتنوا
ورأوا ما يصيبهم من البلاء والفتنة في دينهم، وأن رسول الله صلى الله عليه
وسلم لا يستطيع دفع ذلك عنهم، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في
مَنَعَةٍ من قومه وعمّه لا يصلُ إليه شيءٌ مما يكرَه مما ينال أصحابَه،
فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( إن بأرض الحبشة مَلِكاً لا يُظلم أحد عنده، فالحقوا ببلاده حتى يجعل الله لكم فرجاً ومخرجاً مما أنتم فيه)).
فخرجنا إليها أرسالاً حتى اجتمعنا بها فنزلنا بخير دار إلى خير جار، أمنا على ديننا، ولم نخش منه ظلماً). وهذا إسناد حسن.
· ومن كان يجد في بعض
بلاد المسلمين من الظلم والتضييق ما يمنعه من إقامة دينه فإنه ينتقل إلى
الإقامة في البلاد التي يأمن فيها على دينه ونفسه وأهله، ولو كانت من بلاد
الكفار حتى يجعل الله له فرجاً ومخرجاً.
· ومما يدرك به ثواب
الهجرة العمل الصالح في زمان الفتن وكثرة القتل لما في صحيح مسلم من حديث
معقل بن يسار رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((العبادة في الهرْج كهجرة إليّ))، ورواه أحمد بلفظ ((العمل في الهرج كهجرة إليّ)) والمراد به العمل الصالح، والمراد بالهرْج كثرة القتل كما فسّره النبي صلى الله عليه وسلم.
فرض بقيّة شرائع الإسلام بعد تقرير التوحيد
قوله: (فَلَمَّا
اسْتَقَرَّ بِالمَدِينَةِ أُمِرَ فِيهَا بِبَقِيَّةِ شَرَائِعِ
الإِسْلاَمِ؛ مِثْلِ الزَّكَاةِ وَالصَّوْمِ وَالحَجِّ والأَذَانِ
وَالجِهَادِ وَالأَمْرِ بِالمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنِ
المُنْكَرِ،وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ شَرَائِعِ الإِسْلاَمِ).
· أراد
الشيخ رحمه الله أن يبين بهذه الجملة أهمية التوحيد وأن الرسول صلى الله
عليه وسلم كانت أكثر دعوته بمكة إلى التوحيد، فمكث فيها ثلاث عشرة سنة يدعو
إلى التوحيد قبل أن تفرض كثير من فرائض الإسلام، بل إن الصلاة لم تفرض
على هذه الفروض الخمسة إلا بعد البعثة بزمن، وهذا فيه دلالة بيّنة على
أهمية التوحيد.
· ثم لما هاجر النبي
صلى الله عليه وسلم إلى المدينة بدأ بتأسيس الدولة الإسلامية فكان أول ما
شرع فيه بناء المسجد ليكون مجتمعاً للمسلمين تقام فيه الصلاة ويخطب فيه في
الجمعة وفي النوائب التي تنوب المسلمين فيدعى (الصلاة جامعة) فيجتمع
المسلمون فيخطب فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين لهم ما يريد
بيانه.
· وشرعت فرائض الإسلام
شيئاً فشيئاً تخفيفاً من الله تعالى ورحمة بعباده، وكان بعض تلك الفرائض
مأموراً به قبل الهجرة لكن ليس على التفصيل والمقادير المبينة بعد ذلك.
- فقد ورد الأمر
بإيتاء الزكاة في بعض السور المكية، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يأمر
بالزكاة والعفاف والصلة وأعمال البر والإحسان كما دل على ذلك قول أبي سفيان
لما سأله هرقل عن النبي صلى الله عليه وسلم بم يأمركم؟ فقال: (يأمرنا بالصلاة والزكاة والصلة والعفاف)؛ قال: (إن يك ما تقول حقاً فإنه نبي). وخبره مخرَّج في الصحيحين من حديث ابن عباس رضي الله عنهما.
- فالزكاة المأمور بها
كانت على وجه الإجمال، ثم بعد الهجرة فصلت أحكام الزكاة الواجبة وبُيِّنَ
ما تجب فيه الزكاة وما لا زكاة فيه، والأنصباء والمقادير.
- وكذلك الأمر بالعفاف
كان مأموراً به على وجه الإجمال ثم بيّن بعد الهجرة الأنكحة المحرمة
كالجمع بين الأختين ونكاح نساء الآباء ونكاح المرأة بلا وليّ ونكاح المتعة
والشغار وسائر الأنكحة المحرمة.
- وكذلك الأذان للصلوات إنما شرع بعد الهجرة وبعد بناء المسجد كما دل على ذلك حديث عبد الله بن عمر وحديث عبد الله بن زيد.
- وكذلك الصيام إنما فرض في السنة الثانية للهجرة.
- وكذلك الحج فرض في السنة التاسعة وقيل العاشرة للهجرة.
- وكذلك القتال لم يؤذن به إلا بعد الهجرة، لمّا صار للإسلام حوزة وَمَنَعَة وقوَّة.
· وأما الأمر بالمعروف
والنهي عن المنكر فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأمرون
بالتوحيد وهو أعظم ما أمر الله به ويأمرون بالعدل والإحسان وأداء الأمانات
وأعمال البر ومكارم الأخلاق، وينهون عن الشرك وهو أنكر المنكرات وينهون عن
الفساد في الأرض ومساوئ الأخلاق قبل الهجرة وبعدها.
· لكن إقامة الحدود والتعزيرات إنما كانت بعد الهجرة بزمن.
تاريخ وفاة النبي صلى الله عليه وسلم
قوله: (أَخَذَ عَلَى هَذَا عَشْرَ سِنِينَ، وَبَعْدَهَا تُوُفِّيَ- صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلاَمُهُ عَلَيْهِ).
· أي أن النبي صلى الله عليه وسلم بقي في المدينة بعد الهجرة عشر سنين كما دل عليه حديث ابن عباس المتقدم.
· وهو في هذه العشر
يبين للناس ما نزل إليهم من شرائع دينهم ويجاهد في سبيل الله عز وجل ويأمر
بالمعروف وينهى عن المنكر حتى توفي صلى الله عليه وسلم في شهر ربيع الأول
من السنة الحادية عشرة للهجرة.
· قال ابن عبد البر:
(لا خلاف أنه ولد يوم الاثنين بمكة في ربيع الأول عام الفيل، وأن يوم
الاثنين أول يوم أوحى الله إليه فيه، وأنه قدم المدينة في ربيع الأول، قال
ابن إسحاق: "وهو ابن ثلاث وخمسين سنة"، وأنه توفي يوم الاثنين في شهر ربيع
الأول سنة إحدى عشرة من الهجرة صلى الله عليه وسلم)ا.هـ.
· وقال النووي: (واتفقوا انه ولد يوم الإثنين في شهر ربيع الأول، وتوفي يوم الإثنين من شهر ربيع الأول)ا.هـ.
* ذكر ابن إسحاق والواقدي وغيرهما أنّه توفي يوم الإثنين الثاني عشر من ربيع الأوّل وهذا القول له علّة يأتي بيانها.
- قال ابن كثير: (ورواه ابن أبي شيبة في مصنفه عن عفان عن سعيد بن مينا عن
جابر، وابن عباس أنهما قالا: ولد رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفيل
يوم الاثنين الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث، وفيه عرج به إلى
السماء، وفيه هاجر، وفيه مات).
- قلت لم أجده في مصنف ابن أبي شيبة لكن أخرج الجورقاني في الأباطيل والمناكير من طريق أبي
بكر بن أبي شيبة قال: حدثنا عفان، عن سعيد بن مينا، عن جابر بن عبد الله
الأنصاري وعبد الله بن عباس، أنهما قالا: «ولد رسول الله صلى الله عليه
وسلم يوم الفيل، يوم الإثنين، الثاني عشر من شهر ربيع الأول، وفيه بعث،
وفيه عرج إلى السماء، وفيه هاجر، وفيه مات صلى الله عليه وسلم»، وهذا
الأثر أعلّه ابن كثير بالانقطاع، وإن كان ظاهره الاتصال، وزيادة "الثاني
عشر" معلولة، وقوله: (وفيه) مرجع الضمير فيه إلى يوم الإثنين لا إلى
التاريخ، وقد ضعَّف تعيين التاريخ السهيلي وابن حجر وابن سيّد الناس.
- وذهب
أبو عبيدة معمر بن المثنى إلى أنه توفي في الثاني من ربيع الأول، رواه
الحاكم في المستدرك، وذكر هذا القولَ ابنُ سيد الناس عن الطبراني، وقيل
غير ذلك.
·
وقال السهيلي في الروض الأنف وهو من أجلّ كتب السيرة: (واتفقوا أنه توفي
صلى الله عليه وسلم يوم الإثنين إلا شيئًا ذكره ابن قتيبة في المعارف
"الأربعاء"؛ قالوا كلهم: "وفي ربيعٍ الأول" غير أنهم
قالوا أو قال أكثرهم: "في الثاني عشر من ربيعٍ" ولا يصحُّ أن يكون توفي
صلى الله عليه وسلم إلا في الثاني من الشهر أو الثالث عشر أو الرابع عشر
أو الخامس عشر لإجماع المسلمين على أن وقفة عرفة في حجة الوداع كانت يوم
الجمعة وهو التاسع من ذي الحجة فدخل ذو الحجة يوم الخميس؛ فكان المحرم إما
الجمعة وإما السبت:
- فإن كان الجمعة فقد كان صفرٌ إما السبت وإما الأحد.
- فإن كان السبت فقد كان ربيعٌ الأحد أو الاثنين.
وكيفما
دارت الحال على هذا الحساب فلم يكن الثاني عشر من ربيعٍ يوم الاثنين بوجه
ولا الأربعاء أيضًا كما قال القتبي وذكر الطبري عن ابن الكلبي وأبي مخنفٍ
أنه توفي في الثاني من ربيعٍ الأول وهذا القول وإن كان خلاف أهل الجمهور
فإنه لا يبعد إن كانت الثلاثة الأشهر التي قبله كلها من تسعةٍ وعشرين
فتدبره فإنه صحيحٌ ولم أر أحدًا تفطن له وقد رأيت للخوارزمي أنه توفي عليه
السلام في أول يومٍ من ربيعٍ الأول وهذا أقرب في القياس بما ذكر الطبري عن
ابن الكلبي وأبي مخنفٍ)ا.هـ.
·
قال ابن رجب في لطائف المعارف: (أجيب عن هذا بجواب حسن وهو أن ابن اسحاق
ذكر أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي لاثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول
وهذا ممكن فإن العرب تؤرخ بالليالي دون الأيام ولكن لا تؤرخ إلا بليلة مضى
يومها فيكون اليوم تبعا لليلة وكل ليلة لم يمض يومها لم يعتد بها كذلك
إذا ذكروا الليالي في عدد فإنهم يريدون بها الليالي مع أيامها فإذا قالوا
عشر ليال فمرادهم بأيامها).
· ثم
قال: (وحينئذ فيوم الإثنين الذي توفي فيه النبي صلى الله عليه وسلم كان:
ثالث عشر الشهر لكن لما لم يكن يومه قد مضى لم يؤرخ بليلته إنما أرخوا
بليلة الأحد ويومها وهو الثاني عشر فلذلك قال ابن إسحاق توفي لاثنتي عشرة
ليلة مضت من ربيع الأول والله أعلم)ا.هـ.
· قلت:
افتراض أن الأشهر الثلاثة كلها من تسعة وعشرين - على ما ذكره السهيلي -
بعيد، والأقرب منه أن تكون كلّها تامّة فيكون يوم الإثنين هو الثالث عشر من
ربيع الأول وهو بعد مضيّ اثنتي عشرة ليلة من ربيع الأول، والخطأ في هذا
شأنه يسير، أو يكون هو الثاني من ربيع الأول فتصحّف على بعض الناس، والله
تعالى أعلم.
· وقد روى البخاري في صحيحه عن ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم توفي وعمره ثلاث وستون.