28 Jun 2011
الدرس الخامس عشر: مرتبة الإحسان (2/2)
قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:
اقتباس:
(وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى﴾ [لقمان:22].
- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل:128].
- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق:3].
- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ (220) ﴾ [الشعراء:217-220].
- وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا
تَكُونُ فِي شَأنٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ
تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيكُمْ شُهُوداً إِذْ
تُفِيضُونَ فِيهِ﴾الآية [يونس:61]).
عناصر الدرس:
· طرق معرفة الإحسان
- بيان القرآن لمعنى الإحسان
- بيان السنّة لمعنى الإحسان
- معرفة هدي أئمة المحسنين
· أبواب الإحسان
· الإحسان يكون بالقلب واللسان والجوارح
· معاني لفظ الإحسان في النصوص
· دوام حاجة العبد إلى الاستعانة بالله على الإحسان
· سمات المحسنين
· تيسير الإحسان
طرق معرفة الإحسان
أبواب الإحسان
واعلم أن أبواب الإحسان
كثيرة، ومن شأن المحسنين أن يتحروا الإحسان في العبادات والمعاملات على
الوجه الذي يحبه الله عز وجل ويرضاه مخلصين لله عز وجل، متبعين لهدي النبي
صلى الله عليه وسلم الذي هديه أحسن الهدي في كل شيء ، فلا إحسان إلا
باتباع هديه، ولا إحسان أحسن من هديه، بل من جاوز هديه فهو غالٍ غير محسن
كما أن من فرَّط في اتباع هديه فهو جافٍ غير محسن.
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن أحسن الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه و سلم).
فمدار الإحسان على تكميل الإخلاص والمتابعة.
والتفقه في هدي النبي صلى الله عليه وسلم لنتعلم منه أوجه الإحسان في العبادات والمعاملات هو سبيل معرفة الإحسان.
وذلك أن هدي النبي صلى
الله عليه وسلم ، فطهوره أحسن الطهور، وصلاته أحسن الصلاة، وإنفاقه أحسن
الإنفاق، وصيامه أحسن الصيام، وحجه أحسن الحج، ومعاملته للناس أحسن
المعاملة وهكذا في كبير الأمور وصغيرها.
ثم أصحابه من بعده هم أحسن الناس هدياً بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم ، وأقربهم منه منزلة وأفقههم في دين الله عز وجل.
وأولاهم بالاتباع من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان وأمر باتباع سنتهم وهديهم كالخلفاء الراشدين الذين قال فيهم:((فعليكم
بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسَّكوا بها وعضوا عليها
بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة )). رواه أحمد وأبو داوود.
ومن أئمة المحسنين الذين
ورد في شأن إحسانهم أحاديث وآثار : معاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود، وسعد
بن أبي وقاص وفاطمة بنت محمد صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين وعمرو
بن الأسود وعمر بن عبد العزيز وآخرون رضي الله عنهم أجمعين.
ومعرفة سير المحسنين
والتعرف على هديهم وأخبارهم وآثارهم مما يعين على فهم معنى الإحسان،
والاتساء بهم فيما أحسنوا فيه، وقد بوَّب البخاري باباً في صحيحه في كتاب
الأدب سماه: (باب في الهَدي الصالح).
ومن تحرَّى الإحسان وحرص عليه وسأل الله تعالى الإعانة عليه رُجي له أن يوفق للإحسان، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلّم، ومن يتحرَّى الخيرَ يُعْطَه، ومن يتوقَّى الشر يُوقه).
وأبواب الإحسان كثيرة ، ففي صحيح مسلم من حديث شداد بن أوس بن ثابت رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:((إنَّ
الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء؛ فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلة، وإذا
ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وَلْيحدَّ أحدُكُم شَفْرَتَهُ وَلْيُرِح
ذبيحَته)).
فالإحسان مكتوب على كل
شيء، وإحسان كل شيء بحسبه، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هنا الإحسان
في الذبح، فمن خالف هديه فلم يحدّ السكين ولم يرح ذبيحته فليس بمحسن في
ذبحه.
وهذا مما يبيّن أهمية
الفقه في الدين فإنه به يعرف طالب الإحسان هدي النبي صلى الله عليه وسلم في
العبادات والمعاملات؛ فيعرف هديه في الوضوء والصلاة والصدقة والصيام
والحج والجهاد والبيوع والطعام والشراب والنوم والنكاح والمعاشرة والبر ّ
والصلة ومعاملة الناس على اختلاف أصنافهم ، وهكذا في سائر الأمور.
وبيان النبي صلى الله عليه وسلم لهديه على ثلاثة أنواع:
النوع الأول: أن يبين ذلك بفعله، وينقل عنه، كما قال:(صَلٌّوا كما رأيتموني أصلي) وقال: (خُذوا عني مناسككم)
فما فعله النبي صلى الله عليه وسلم فهو أحسن الهدي لنا ما لم يكن ذلك
مختصَّا به، لا يحق لأحد أن يفعل مثله، كالزواج بأكثر من أربع نساء.
النوع الثاني: ما بيَّنه بقوله.
النوع الثالث: ما بيَّنه بإقراره.
الإحسان يكون بالقلب واللسان والجوارح
1: فأما إحسان القلب فهو أصل إحسان سائر العبادات ، فالعبادات القلبية الحسنة يظهر أثرها على اللسان والجوارح.
ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن تعبد الله كأنك تراه)) وهذا عمل قلبي.
ومتى تحقق العبد بهذا الوصف وقام بحقه أحسن العبادات الباطنة والظاهرة.
فلذلك كان الأصل في مرتبة الإحسان العبادات القلبية من المحبة والخوف والرجاء والتوكل والاستعانة والخشية والإنابة والتوبة وغيرها.
وهذه العبادات من أحسنها أفلح وفاز فوزاً عظيماً
والإحسان فيها على درجتين:
الدرجة الأول: الإحسان الواجب، وهو ما تصح به هذه العبادات وتسلم به من الشرك والبدعة والغلو والتفريط.
الدرجة الثانية: الكمال المستحب، وهو المراد هنا، وهو مضمار تسابق أولياء الله المحسنين، وتفاضلهم فيه كبير عظيم وهم فيه على درجات { هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ }
ومما يدل على أن هذه
العبادات القلبية منها واجب ومستحب ما رواه مسلم وأبو داوود النسائي وغيرهم
عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة أتت رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا؛ فقالت: يا نبي الله أصبتُ حداً
فأقِمْهُ عليَّ؛ فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليَّها فقال: (( أحسن إليها؛ فإذا وَضَعَت فأتنِي بها )).
ففعل: فأمر بها نبي الله
فشُدَّتْ عليها ثيابها، ثم أَمَرَ بها فرُجِمَت؛ ثم صلَّى عليها؛ فقال له
عمر: (تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟!)
قال: (( لقد تابت توبة ً لو قُسِّمَت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم!، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل؟!)).
والتوبة من الزنا واجبة، وهذه الصحابية رضي الله عنها تابت توبة تزيد على التوبة الواجبة بسبعين ضعفاً !
فهي قد أحسنت التوبة
بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وكان يجزئها من توبتها جزء من سبعين
جزءاً؛ فكان ما زاد على ذلك قربة لها ونافلة مستحبة متقبلة.
والتوبة الحسنة التي يحبها الله هي التوبة النصوح التي أمر الله عز وجل بها في قوله: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا }.
والتوبة النصوح هي الصادقة
الخالصة لله عز وجل التي يتوبها العبد خوفاً وطمعاً، خوفاً من عقاب الله
وطمعاً في مغفرته وثوابه، ويلزم لصحتها الندم على فعل الذنب، والاعتراف
به، والإقلاع عنه لله جل وعلا، والعزم الصادق على أن لا يعود إليه أبداً.
فمن فعل ذلك فقد أحسن التوبة.
فتبيَّن أن التوبة النصوح تقوم على أمور يتفاضل التائبون في تحقيقها تفاضلاً عظيماً، {والله يحب التوابين} ؛ فاللهم إنا نسألك توبة نصوحاً.
وتفاضل العبادات القلبية يكون في أمرين:
الأمر الأول: قوة الاحتساب والإتيان بالعبادات القلبية ، كما يتفاضلون في المحبة والخوف والرجاء وغيرها من العبادات.
الأمر الثاني:
تعدد المقاصد الحسنة في الأعمال التي يعملها العبد، حتى إن من بركات
الإحسان أن يعمل العبد العمل الواحد يكون له فيه مقاصد حسنة متعددة فيثاب
عليها جميعاً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.
2: وأما الإحسان بالقول فهو أن يتحرى العبد القول الحسن الطيب الذي يحبه الله في كل شؤونه.
فإذا ذكر الله بلسانه أحسن
الذكر، وإذا وعظ أحسن الموعظة، وإذا دعا أحسن الدعوة، وإذا علَّم أحسن
التعليم، وإذا نصح أحسن النصيحة، وإذا تحدث مع الناس أحسن الحديث إليهم،
كما قال الله تعالى: {وقولوا للناس حسناً} ، وقال: {وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن إن الشيطان ينزغ بينهم}.
وكل أمر من هذه الأمور تجدون في القرآن العظيم وهدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم بيان خصال الإحسان فيها.
فالمحسنَ مَهديٌّ للقول
الطيب الحسن الذي يحبه الله، فيوطن نفسه ألا يتكلم إلا بخير ، وألا يقول
إلا قولاً حسناً، وهو أولى الناس باتباع وصية النبي صلى الله عليه وسلم في
قوله: (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت )).
ومن ثمرات هذا الإحسان
وبركاته أن يكون المحسن محبوباً لدى الناس، مقبول القول لديهم، وما ذلك إلا
لاتباعه هدى الله في معاملة الناس والتحدث إليهم، فلا يقول إلا ما يحبه
الله من القول الحسن، ومن كان حاله كذلك فهو محسن إلى الناس كافّ أذاه
عنهم، قاطع على الشيطان عمله في الإفساد والنزغ بينه وبين من يحدثهم.
وبهذا تعلم أن من يؤذي
الناس بلسانه فهو من أبعد الناس عن الإحسان، كما روى الإمام أحمد والبخاري
في الأدب المفرد والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه قال:قيل
للنبي صلى الله عليه و سلم: يا رسول الله إنَّ فلانة تقوم الليل وتصوم
النهار وتفعل وتصدَّق وتؤذي جيرانها بلسانها!
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (( لا خير فيها هي من أهل النار )).
قالوا: وفلانة تصلى المكتوبة وتصدق بأثوار ولا تؤذي أحداً.
فقال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (( هي من أهل الجنة )).
الأثوار جمع ثور وهو قطعة من الأَقِط ، وفي رواية الحاكم: (وتتصدق بأثوار من أَقِط).
وفي سنن الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال : (( ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذي)).
والإساءة في القول نقيض
للإحسان ، وأنواع الإساءة في القول كثيرة، منها: قول الزور والبهتان والكذب
والغيبة والنميمة والإيذاء والفحش والبذاءة واللغو والإلحاف في السؤال.
فالذي يقع في هذه المساوئ غير محسن، والإساءة في القول ترجمان لسوء في القلب.
وليعلم أن الغلظة في القول في مواضعها ليست من الإساءة، بل هي من الإحسان الذي يحبه الله.
والأقوال الحسنة متفاضلة، وأحسنُ القول وَصَفَه الله تعالى بقوله: { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}.
فالداعي إلى الله الذي يعمل الصالحات ويعلن انتسابه للإسلام ويعتز به من أهل الإحسان في القول.
وبه تعلم أن الداعي إلى الضلالة والصد عن سبيل الله أسوأ الناس قولاً، والذي يخالف عملُه قولَه غير محسن، بل هو مسيء بمخالفته.
ومن سمات المحسنين حرصهم
على القول الحسن في مواضع تأكده وجوباً أو استحباباً، كأن يترتب على القول
الحسن نصرة حق في موقف يحتاج فيه إلى كلمة حق ناصرة، أو دفاع عن مظلوم
فينصره بكلمة حق، أو ذبٍّ عن عرض مسلم، أوإصلاحٍ بين الناس، أوصَدِّ فساد
عن المسلمين، أوغير ذلك من المواقف التي ربما تكون كلمة حسنة تقال فيها
سبباً لسعادة العبد وفلاحه ، كما قال الله تعالى عن الذين عرفوا الحق
وشهدوا به : { وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ
إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا
عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ
الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا
مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ
الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي
مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ
الْمُحْسِنِينَ}.
وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن
العبد ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله بها
درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي
بها في نار جهنم )).
والمقصود أن إحسان القول على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى:
تجنب القول السيء الذي يبغضه الله عز وجل وأسوؤه قول الشرك بالله عز وجل
والصد عن سبيله وقول الزور والغيبة والنميمة والفحش والبذاءة وغيرها.
وقول الفُحْشِ في اللغة يعمّ قول الخنا المستقذر والسباب المقذع
قال النابغة يمدح امرأة:
بيضاء كالشمس وافت يـوم أسعدهـا.......لم تؤذ أهلاً ولـم تُفْحِـش علـى جـار
وإنك يا عام بن فارس قرز.......لمعيد على قيل الخنا والهواجر
معاني لفظ الإحسان في النصوص
لفظ الإحسان يطلق في النصوص على معان :
المعنى الأول: إحسان العمل وإتقانه، فمن أتى بالعمل على وجه حسن فهو محسن.
المعنى الثاني: فعل الحسنات، كما قال الله تعالى: {ومن أحسن ديناً ممن أسلم وجهه إلى الله وهو محسن} فالإحسان الأول غير الإحسان الثاني.
وقال تعالى: {من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها} والذي يجيء بالحسنة محسن، ودرجته في الإحسان بحسب استكثاره من الحسنات.
وقال تعالى:
{وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ
إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى
لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ
الْمُحْسِنِينَ}
المعنى الثالث: البر والإنعام إلى المخلوقين في كل مقام بحسبه قال تعالى: {وبالوالدين إحسانا} ، و{وقولوا للناس حسنا} ، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره )).
ويكثر -عند إرادة هذا المعنى – أن يعدَّى لفظ الإحسان بالباء أو اللام إو إلى، كما في الأمثلة السابقة.
وهو يصدق على الإحسان بالمال والجاه والعلم والبدن وغيرها من أوجه الإحسان.
وقوله تعالى: {وقد أحسن بي} لفظ الإحسان فيه متضمن لمعنى العناية، ولذلك عدي بحرف الباء .
ويطلق لفظ الإحسان ويراد به ما يشمل هذه المعاني كلها كما في قوله تعالى: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} ، وقوله: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان} وقوله: {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم}.
دوام حاجة العبد إلى الاستعانة بالله على الإحسان
سمات المحسنين
مما
يعين على بلوغ مرتبة الإحسان أن يتعرف طالب هذه المرتبة على سمات
المحسنين وهديهم ودلّهم، ألا ترى أن طالب كل صنعة ينظر إلى أربابها
المبرزين فيها فيرتسم طرائقهم ويحذو حذوهم حتى يعدَّ منهم.
فكذلك طالب الإحسان ينبغي
له أن يتعرف على سمات المحسنين ويصحبهم أحياء وأمواتاً فأما المحسنون
الأحياء فهم من أندر الموجود بل هم كالشعرة البيضاء في جلد الثور الأسود ،
وحيثما وجد فصحبته غنيمة لأنه قدوة صالحة يتمثل بها.
وكم قد سمعنا من بعض
مشايخنا مواقف رأوها في صحبتهم لمشايخهم ولبعض الصالحين كان لها أثر بالغ
في نفوسهم، حتى إن منهم من إذا ذكر بعض أؤلئك لا يكاد يتمالك نفسه لقوة ما
أثرت فيه تلك المواقف، وكانت أبلغ من دروس نظرية كثيرة يتلقاها العبد
وقلبه غافل عن عقل معانيها كما ينبغي.
وأما الأموات فسير كثير منهم محفوظة مسطرة من تأملها وفقه آثارهم ومآثرهم تجلَّت له بعض معاني الإحسان بمفهومه العام الواسع الذي يشمل جميع شوؤن العبد في عباداته ومعاملاته ويجمعه ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في كلمته الجامعة الماتعة : ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك )).
وقد تأملت سمات المحسنين الجامعة لهم فوجدت أن أهمها وأظهرها:
1: الصدق والإخلاص.
2: النصيحة لله ولرسوله ولكتابه وللمؤمنين.
3: السكينة.
4: البعد عن التكلف.
5: تركهم ما لا يعنيهم .
وقد طويت شرحها اختصاراً.
تيسير الإحسان
واعلم
– أحسن الله إليك – أن بلوغ مرتبة الإحسان يسير لمن يسَّره الله له ،
والموفَّق لها من وفَّقه الله، ومن أدلة ذلك أن الله تعالى أمر بالإحسان
فقال: {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين}
ورغَّب في الإحسان وحثَّ
عليه، وما جعل الله في الدين من حرج، وما كان الله ليعسِّر على عباده ما
يرغبهم فيه، حتى يكونوا هم الذين يأتون من أسباب الخذلان ما يحرمون بسبه
التوفيق لبعض أعمال الإحسان.
ومن أعظم أسباب التوفيق لها: تعظيم أوامر الله، وشكر نعمه، وكثرة ذكره، والمجاهدة.
فأما تعظيم أوامر الله عز وجل فإنه علامة على تقوى القلب كما قال الله تعالى: {ذَٰلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ}.
وأما شكر النعمة فإن الله
تعالى يحب الشاكرين ويوفقهم لما يحبه لهم، ولمَّا اعترض المشركون على
هداية ضعفاء المؤمنين قال الله تعالى : {أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ}.
وأما كثرة الذكر فتجلي
القلب، وتطرد الشيطان، وتزيد محبة الرب جل وعلا في قلب العبد، ومحبة الرب
جل وعلا لعبده، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره، فلا يزال يذكر الله بقلبه
ولسانه حتى يوفق للإحسان.
ولذلك لما وصى النبي صلى
الله عليه وسلم معاذ بن جبل وأحب له مرتبة الإحسان وأخبره بمحبته له كما
في سنن النسائي من حديث أبي عبد الرحمن الحبلي عن الصنابحيّ عن معاذ بن
جبل قال: أخذ بيدي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال: ((إني لأحبكّ يا معاذ)).
فقلت: ( وأنا أحبك يا رسول الله ).
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( فلا تدع أن تقول في كل صلاة ربّ أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك )).
والذكر والشكر عبادتان، لكن قدما لأنهما من أسباب التوفيق لحسن العبادة.
ومن جاهد لبلوغ هذه المرتبة وتحراها فحري أن ينالها وقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)}.
وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه وهو من الأربعة الذين أوصى معاذ بن جبل عند موته بالتماس العلم عندهم : (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه)، وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ورجح الحفاظ وقفه على أبي الدرداء رضي الله عنه.
وليس من شرط بلوغ مرتبة
الإحسان أن يكون العبد مكثراً من الأعمال، وإنما المطلوب إحسان العمل بأداء
الفرائض والتقرب بما يتيسر من النوافل بلا تنطع ولا تفريط.
ولا يستطيع العبد إحصاء
الأعمال الصالحة كلها والإتيان بها، كما في مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجة
من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء الا مؤمن)).
وقد نقل عن جماعة من السلف في بيان فضل بعض المحسنين أنهم لم يسبقوا بكثر صلاة ولا صيام وإنما بشيء وقر في قلوبهم.
وليس من شرط المحسن أن تكون جميع أعماله حسنة ، بل إذا كان الغالب على شأنه الإحسان ومقاربته فهو من أهل الإحسان إن شاء الله تعالى .
وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:(( سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يُدْخِل أحداً الجنةَ عملُه )).
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قال: ((ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرة ٍ ورحمة)).
فالسداد هو الإحسان، والمقاربة هي مقاربة الإحسان.
بل ليس من شرط المحسن أن
يكون معصوماً من الذنوب ، فقد يقع في الذنب كثير من المحسنين لكنهم منيبون
توَّابون إذا عملوا سيئة أتبعوها حسنة فمحتها السر بالسر والعلانية
بالعلانية ، كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه
بذلك في الحديث المتقدم ذكره، وفي الحديث الآخر:((اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)). رواه أحمد والترمذي وغيرهما.
والتوبة من العمل غير
الحسن مشروعة متقبلة ولذلك يشرع للعبد أن يستغفر الله تعالى بعد أداء
العبادة كما ورد في الصلاة والحج وغيرها لما قد يقع في عبادته من التقصير
في إحسانها، فالاستغفار ونوافل العبادات مما يجبر به تقصير العبد في
عبادته.
والإحسان أعلى مراتب الدين ، والمحسنون فيه متفاضلون وأعلاهم مرتبة الصديقون.
وقد زعم بعض الصوفية أن
فوق مرتبة الإحسان مرتبة وهي مرتبة الفَناء وله تفسيرات وأنواع عندهم منها
ما هو مقبول إذا فسّر تفسيراً صحيحاً، ولا يجاوز في حقيقته مرتبة
الإحسان، ومنها ما هو ضلال مبين.
قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ
تَعَالَى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى} [لقمان:22].
- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ} [النحل:128].
- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ} [الطلاق:3].
-
وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217)
الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ
(219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} [الشعراء:217-220].
-
وَقَوْلُهُ: {وَمَا تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ
وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيكُمْ شُهُوداً إِذْ
تُفِيضُونَ فِيهِ} الآية [يونس:61] ).
هذه أدلة من القرآن الكريم لبيان معنى الإحسان وفضله.
فأما قوله تعالى: {وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى}.
الوثقى أي التي لا أوثق منها.
فتبيّن
أن الإحسان هو أفضل العمل، وأنه لا يكون إلا بإسلام الوجه إلى الله
تعالى، أي يكون قصد العبد خالصاً لله تعالى ويكون منقاداً لأوامره جل وعلا
مطيعاً له.
- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ}.
- فيه
بيان فضل المحسنين وأنهم فائزون بمعية الله تعالى الخاصة التي تقتضي
محبته ونصره وتأييده هدايته وحفظه وغير ذلك من المعاني الجليلة العظيمة
التي جعلها الله تعالى لأهل معيته الخاصة.
- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: {ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}.
التوكل من أجل العبادات ، والذي يحقق التوكل من المحسنين في توكلهم فهو متوكل على الله مؤمن بأن الله يراه ويعلم حاله.
فتحقق فيه وصف الإحسان.
- ومما يوضح هذا المعنى قوله تعالى: {وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ}.
وَقَوْلُهُ: {وَمَا
تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ
مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} الآية [يونس:61] ).
تفيضون فيه أي: تأخذون فيه.
ومن آمن بأن الله تعالى شهيد على جميع أعماله وقام بحق هذا الإيمان من إحسان العبادة فهو من أهل مرتبة الإحسان.
قوله: (
وَالدَّلِيلُ مِنَ السُّنَّةِ: حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ
السَّلامُ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (بَيْنَما نَحْنُ
جُلُوسٌ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ
طَلَعَ عَلَيْنَا رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ
الشَّعَرِ، لاَ يُرَى عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَر، وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا
أَحَدٌ، فَجَلَسَ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ،
فَأَسْنَدَ رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى
فَخِذَيْهِ.
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَمِ؟
فَقَالَ: ((أَنْ
تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً رَسُولُ
اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِيَ الزّكَاةَ، وَتَصُومَ
رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)).
فَقَالَ: صَدَقْتَ، فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ.
قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ؟
قَالَ: ((أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَبِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).
قَالَ: صَدَقْتَ.
قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ؟
قَالَ: ((أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
قَالَ: صَدَقْتَ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ؟
قاَلَ: ((مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ)).
قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا؟
قَالَ: ((أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ في البُنْيَانِ)).
قَالَ: فَمَضَى فَلَبِثْنَا مَلِياًّ.
فَقَالَ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((يَا عُمَرُ؛ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ))؟
قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: ((هذَا جبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ)). )
هذا
الحديث يسمى حديث جبريل، وهو من أجلّ الأحاديث النبوية ، وفيه بيان مراتب
الدين، وبعض أشراط الساعة، وذكر فيه أركان الإسلام وأركان الإيمان ومعنى
الإحسان وقد سبق شرح ذلك ولله الحمد.
وسبق بيان سبب تحديث ابن عمر رضي الله عنهما بهذا الحديث عن أبيه.
وسيأتي شرح هذا الحديث بالتفصيل المناسب إن شاء الله تعالى عند شرح الأربعين النووية.
هذا ، والله تعالى أعلم ، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
(خلاصة الدرس الخامس عشر)
طرق معرفة الإحسان بيضاء كالشمس وافت يوم أسعدها ... لم تؤذ أهلاً ولم تُفْحِش على جار وإنك يا عام بن فارس قُرْزُلٍ ... معيد على قيل الخنا والهواجر هذا، والله تعالى أعلم، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
· يعرف الإحسان بأمور:
- الأمر الأول:بيان القرآن الكريم لمعنى الإحسان العام والإحسان في الأمور التي بيَّنها الله عز وجل في كتابه.
- الأمر الثاني: بيان النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى الإحسان بهديه العملي والقولي والإقراري.
- الأمر الثالث: تأمل سير أئمة المحسنين، والاهتداء بهديهم فيما أحسنوا فيه.
بيان القرآن لمعنى الإحسان
· ورد بيان معنى الإحسان في القرآن الكريم والسنة النبوية وهدي السلف الصالح.
- فأما بيان القرآن لمعنى الإحسان
· أمّا إحسان الدعاء ففي قوله تعالى: ﴿ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55)
وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا
وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 55، 56]؛ فالدعاء هنا يشمل دعاء المسألة ودعاء العبادة، ومن قام بهذه الأمور التي أمر الله عز وجل بها فهو من أهل الإحسان.
· قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: (وقوله:﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56]
فيه تنبيهٌ ظاهرٌ على أنَّ فِعْلَ هذا المأمور هو الإحسان المطلوب منكم،
ومطلوبكم أنتم من الله رحمته، ورحمته قريبٌ من المحسنين الذين فعلوا ما
أمروا به من دعائه تضرعًا وخفيةً وخوفًا وطمعًا؛ فَقَدْرُ مطلوبكم منه -
وهو الرحمة - بحسب أدائكم لمطلوبه، وإن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم).
· قال: (وقوله تعالى: ﴿إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الأعراف: 56] له دلالةٌ بمنطوقه ودلالةٌ بإيمائه وتعليله ودلالةٌ بمفهومه:
-فدلالته بمنطوقه على قرب الرحمة من أهل الإحسان.
-ودلالته بإيمائه وتعليله على أن هذا القرب مستحق بالإحسان، وهو السبب في قرب الرحمة منهم.
-ودلالته بمفهومه على بعده من غير المحسنين.
فهذه
ثلاث دلالات لهذه الجملة؛ وإنما اختص أهل الإحسان بقرب الرحمة لأنها
إحسانٌ من الله عز وجل أرحم الراحمين وإحسانه تبارك وتعالى إنما يكون لأهل
الإحسان؛ لأن الجزاء من جنس العمل وكلما أحسنوا بأعمالهم أحسن إليهم
برحمته.
وأما
من لم يكن من أهل الإحسان؛ فإنه لما بعد عن الإحسان بعدت عنه الرحمة،
بُعْدٌ ببُعْدٍ وَقُرْبٌ بقُرْب؛ فمن تقرب إليه بالإحسان تقرب الله إليه
برحمته، ومن تباعد عن الإحسان تباعد الله عنه برحمته.
والله سبحانه يحب المحسنين، ويبغض من ليس من المحسنين، ومن أحبه الله فرحمته أقرب شيءٍ منه، ومن أبغضه الله فرحمته أبعد شيءٍ منه.
والإحسان
هاهنا هو فعل المأمور به سواءٌ كان إحسانًا إلى الناس أو إلى نفسه؛ فأعظم
الإحسان: الإيمان والتوحيد والإنابة إلى الله تعالى والإقبال إليه
والتوكل عليه وأن يعبد الله كأنه يراه إجلالًا ومهابةً وحياءً ومحبةً
وخشيةً؛ فهذا هو مقام الإحسان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم - وقد
سأله جبريل عليه السلام عن الإحسان -؛ فقال: (( أن تعبد الله كأنك تراه )).
فإذا
كان هذا هو الإحسان فرحمته قريبٌ من صاحبه؛ وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان
يعني هل جزاء من أحسن عبادة ربه إلا أن يحسن ربه إليه).ا.هـ، وهو من نفيس
ما كتب رحمه الله، وهو من رسالة له في تفسير هاتين الآيتين، وما تضمنتاه
من آداب الدعاء بنوعيه.
- فهاتان الآيتان من سورة الأعراف في بيان معنى الإحسان في العبادة عموماً.
· وقد تقدّم بيان القرآن لمعنى الإحسان في الجهاد في سبيل الله لمن يطيق القتال ومن لا يطيقه ومن يجد النفقة ومن لا يجدها.
· وجاء بيان معنى الإحسان في الابتلاء بأنه يكون بالصبر والتقوى كما قال يوسف عليه السلام: ﴿قَالُواْ
أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ
مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ
لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾[يوسف: 90]؛ فالإحسان عند البلوى، يكون بالصبر والتقوى.
· وورد في القرآن الكريم بيان معنى الإحسان في ذبح الهدي وتوزيعه فقال تعالى: ﴿وَالْبُدْنَ
جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ
فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا
فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ
سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ
التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ
عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37) ﴾ [الحج: 36، 37].
· والإحسان عند سماع
خبر الله عز وجل وخبر رسوله صلى الله عليه وسلم هو التصديق والتسليم وأن لا
يكون في صدر المؤمن حرج من ذلك كما قال تعالى: ﴿وَالَّذِي
جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33)
لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ [الزمر: 33، 34]؛ فهؤلاء قد أحسنوا في تصديقهم.
· وهذا الباب لو تأمله من يتدبر القرآن الكريم لعرف به أبواباً من الإحسان، وعرف في كل باب خصال الإحسان التي يحبها الله عز وجل.
· قال تعالى: ﴿الله نزّل أحسن الحديث﴾[الزمر: 23]، وقال: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾[الإسراء: 9]، وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن أحسن الحديث كتاب الله تعالى وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم).
· وأما بيان سنّة النبي صلى الله عليه وسلم لمعنى الإحسان؛ فيكفي في الإرشاد إليه قول الله تعالى: ﴿لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة﴾ [الأحزاب: 21].
· فالتفقه في هدي النبي صلى الله عليه وسلم في العبادات والمعاملات يُعرف به أوجه الإحسان، وبه يُنال الاتساء الحسن.
· وذلك أن هدي النبي
صلى الله عليه وسلم أحسن الهدي؛ فطهوره أحسن الطهور، وصلاته أحسن الصلاة،
وإنفاقه أحسن الإنفاق، وصيامه أحسن الصيام، وحجه أحسن الحج، ومعاملته للناس
أحسن المعاملة، وهكذا في كبير الأمور وصغيرها؛ وسبيل معرفة ذلك هو التفقه
في مسائل الدين.
· ثم أصحابه من بعده هم أحسن الناس هدياً بعد نبيهم صلى الله عليه وسلم، وأقربهم منه منزلة وأفقههم في دين الله عز وجل.
· وأولاهم بالاتباع من شهد لهم النبي صلى الله عليه وسلم بالإحسان وأمر باتباع سنتهم وهديهم كالخلفاء الراشدين الذين قال فيهم: ((
فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين تمسَّكوا بها وعضوا عليها
بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة)). رواه أحمد وأبو داوود.
· ومن أئمة المحسنين
الذين ورد في شأن إحسانهم أحاديث وآثار: الخلفاء الأربعة وفاطمة بنت محمد
صلى الله عليه وسلم وأمهات المؤمنين ومعاذ بن جبل وعبد الله بن مسعود، وسعد
بن أبي وقاص، وعبادة بن الصامت، وأبو أيوب الأنصاري، وغيرهم.
· ومن التابعين: أويس القرني وعمرو بن الأسود والربيع بن خثيم وعمر بن عبد العزيز وآخرون.
· ومعرفة سير المحسنين
والتعرف على هديهم وأخبارهم وآثارهم مما يعين على فهم معنى الإحسان،
والاتساء بهم فيما أحسنوا فيه، وقد بوَّب البخاري باباً في صحيحه في كتاب
الأدب سماه: (باب في الهَدي الصالح).
· ومن تحرَّى الإحسان وحرص عليه وسأل الله تعالى الإعانة عليه؛ رُجي له أن يوفق للإحسان، قال أبو الدرداء رضي الله عنه: (إنما العلم بالتعلم والحلم بالتحلّم، ومن يتحرَّى الخيرَ يُعْطَه، ومن يتوقَّى الشر يُوقه).
أبواب الإحسان
· أبواب الإحسان كثيرة، ففي صحيح مسلم من حديث شداد بن أوس بن ثابت رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((
إنَّ الله كتبَ الإحسانَ على كلِّ شيء؛ فإذا قتلتم فأحسِنوا القِتلة،
وإذا ذبحتم فأحسنوا الذِّبحة، وَلْيحدَّ أحدُكُم شَفْرَتَهُ وَلْيُرِح
ذبيحَته)).
· فالإحسان مكتوب على
كل شيء، وإحسان كل شيء بحسبه، وقد بيّن النبي صلى الله عليه وسلم هنا
الإحسان في الذبح، فمن خالف هديه فلم يحدّ السكين ولم يرح ذبيحته فليس
بمحسن في ذبحه.
· وهذا مما يبيّن
أهمية الفقه في الدين فإنه به يعرف طالب الإحسان هدي النبي صلى الله عليه
وسلم في العبادات والمعاملات؛ فيعرف هديه في الوضوء والصلاة والصدقة
والصيام والحج والجهاد والبيوع والطعام والشراب والنوم والنكاح والمعاشرة
والبر ّوالصلة ومعاملة الناس على اختلاف أصنافهم، وهكذا في سائر الأمور.
· والمؤمن في جميع
أحواله لا يخلو من حالة تختص ببعض خصال الإحسان الذي يحبه الله حتى في أكله
وشربه ونومه ومعاشرته ومزاحه وبيعه وشرائه وقضائه لشؤونه.
الإحسان يكون بالقلب واللسان والجوارح:
· 1: فأما إحسان القلب
فهو لُبّ الإحسان وأصله، وأول ذلك أن يحرص على تحقيق الإحسان في أعمال
القلوب من المحبة والخوف والرجاء وغيرها.
· فالعبادات القلبية الحسنة يظهر أثرها على اللسان والجوارح؛ ويدل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم: (( أن تعبد الله كأنك تراه)) وهذا عمل قلبي؛ ومتى تحقق العبد بهذا الوصف وقام بحقه أحسن العبادات الباطنة والظاهرة.
· فلذلك كان الأصل في
مرتبة الإحسان العبادات القلبية من المحبة والخوف والرجاء والتوكل
والاستعانة والخشية والإنابة والتوبة وغيرها، وهذه العبادات من أحسنها أفلح وفاز فوزاً عظيماً، والإحسان فيها على درجتين:
- الدرجة الأول: الإحسان الواجب، وهو ما تصح به هذه العبادات وتسلم به من الشرك والبدعة والغلو والتفريط.
- الدرجة الثانية: الكمال المستحب، وهو المراد هنا، وهو مضمار تسابق أولياء الله المحسنين، وتفاضلهم فيه كبير عظيم وهم فيه على درجات ﴿هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ﴾ [آل عمران: 163].
· ومما يدل على أن هذه
العبادات القلبية منها واجب ومستحب ما رواه مسلم وأبو داوود النسائي
وغيرهم عن عمران بن الحصين رضي الله عنهما أن امرأة من جهينة أتت رسول الله
صلى الله عليه وسلم وهي حبلى من الزنا؛ فقالت: يا نبي الله أصبتُ حداً
فأقِمْهُ عليَّ؛ فدعا نبي الله صلى الله عليه وسلم وليَّها فقال:(( أحسن إليها؛ فإذا وَضَعَت فأتنِي بها)).
ففعل:
فأمر بها نبي الله فشُدَّتْ عليها ثيابها، ثم أَمَرَ بها فرُجِمَت؛ ثم
صلَّى عليها؛ فقال له عمر: (تصلي عليها يا رسول الله وقد زنت؟!)
قال:(( لقد تابت توبة ً لو قُسِّمَت بين سبعين من أهل المدينة لوسعتهم!، وهل وجدت أفضل من أن جادت بنفسها لله عز وجل؟!)).
· والتوبة من الزنا واجبة، وهذه الصحابية رضي الله عنها تابت توبة تزيد على التوبة الواجبة بسبعين ضعفاً!
· فهي قد أحسنت التوبة
بشهادة النبي صلى الله عليه وسلم لها، وكان يجزئها من توبتها جزء من
سبعين جزءاً؛ فكان ما زاد على ذلك قربة لها ونافلة مستحبة متقبلة.
· والتوبة الحسنة التي يحبها الله هي التوبة النصوح التي أمر الله عز وجل بها في قوله: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا﴾ [التحريم: 8].
· والتوبة النصوح هي
الصادقة الخالصة لله عز وجل التي يتوبها العبد خوفاً وطمعاً، خوفاً من عقاب
الله وطمعاً في مغفرته وثوابه، ويلزم لصحتها الندم على فعل الذنب،
والاعتراف به، والإقلاع عنه لله جل وعلا، والعزم الصادق على أن لا يعود
إليه أبداً؛ فمن فعل ذلك فقد أحسن التوبة.
· فتبيَّن أن التوبة النصوح تقوم على أمور يتفاضل التائبون في تحقيقها تفاضلاً عظيماً، ﴿إن الله يحب التوابين﴾ [البقرة: 222]؛ فاللهم إنا نسألك توبة نصوحاً.
· وتفاضل العبادات القلبية يكون في أمرين:
- الأمر الأول:قوة الاحتساب والإتيان بالعبادات القلبية، كما يتفاضلون في المحبة والخوف والرجاء وغيرها من العبادات.
- الأمر الثاني: تعدد
المقاصد الحسنة في الأعمال التي يعملها العبد، حتى إن من بركات الإحسان أن
يعمل العبدُ العملَ الواحد يكون له فيه مقاصد حسنة متعددة؛ فيثاب عليها
جميعاً، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله واسع عليم.
· 2: وأما الإحسان
بالقول فهو أن يتحرى العبد القول الحسن الطيب الذي يحبه الله في كل شؤونه؛
فإذا ذكر الله بلسانه أحسن الذكر، وإذا وعظ أحسن الموعظة، وإذا دعا أحسن
الدعوة، وإذا علَّم أحسن التعليم، وإذا نصح أحسن النصيحة، وإذا تحدث مع
الناس أحسن الحديث إليهم، كما قال الله تعالى: ﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ [البقرة: 83]، وقال: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ﴾ [الإسراء: 53].
- وكل أمر من هذه الأمور مُبيَّنٌ في القرآن العظيم وهدي النبي الكريم صلى الله عليه وسلم خصالَ الإحسان فيه.
- فالمحسنَ يهديه الله
للقول الطيب الحسن الذي يحبه ويرضاه، فيوطّن نفسه ألا يتكلم إلا بخير،
وألا يقول إلا قولاً حسناً، وهو أولى الناس باتباع وصية النبي صلى الله
عليه وسلم في قوله:(( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيراً أو ليصمت)).
- ومن ثمرات هذا الإحسان وبركاته
أن يكون المحسن محبوباً لدى الناس، مقبول القول لديهم، وما ذلك إلا
لاتباعه هدى الله في معاملة الناس والتحدث إليهم، فلا يقول إلا ما يحبه
الله من القول الحسن، ومن كان حاله كذلك فهو محسن إلى الناس كافّ أذاه
عنهم، قاطع على الشيطان عمله في الإفساد والنزغ بينه وبين من يحدثهم.
- وبهذا تعلم أن من
يؤذي الناس بلسانه فهو من أبعد الناس عن الإحسان، كما روى الإمام أحمد
والبخاري في الأدب المفرد والحاكم في المستدرك عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال:قيل للنبي صلى الله عليه وسلم: يا رسول الله إنَّ فلانة تقوم الليل
وتصوم النهار وتفعل وتصدَّق وتؤذي جيرانها بلسانها!
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( لا خير فيها هي من أهل النار )).
قالوا: وفلانة تصلى المكتوبة وتصدق بأثوار ولا تؤذي أحداً.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (( هي من أهل الجنة )).
الأثوار جمع ثور وهو قطعة من الأَقِط، وفي رواية الحاكم: (وتتصدق بأثوار من أَقِط).
- وفي سنن الترمذي عن أبي الدرداء رضي الله عنه أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: (( ما من شيء أثقل في ميزان العبد المؤمن يوم القيامة من حسن الخلق، وإن الله يبغض الفاحش البذي)).
- والإساءة في القول
نقيض للإحسان، وأنواع الإساءة في القول كثيرة، منها: قول الزور والبهتان
والكذب والغيبة والنميمة والإيذاء والفحش والبذاءة واللغو والإلحاف في
السؤال.
- فالذي يقع في هذه المساوئ غير محسن، والإساءة في القول ترجمان لسوء في القلب.
- وليُعلم أن الغلظة في القول في مواضعها ليست من الإساءة، بل هي من الإحسان الذي يحبه الله.
· والأقوال الحسنة متفاضلة، وأحسنُ القول وَصَفَه الله تعالى بقوله: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾ [فصلت: 33]؛ فالداعي إلى الله الذي يعمل الصالحات ويعلن انتسابه للإسلام ويعتز به من أهل الإحسان في القول.
- وبه تعلم أن الداعي إلى الضلالة والصد عن سبيل الله أسوأ الناس قولاً، والذي يخالف عملُه قولَه غير محسن، بل هو مسيء بمخالفته.
- ومن سمات المحسنين
حرصهم على القول الحسن في مواضع تأكده وجوباً أو استحباباً، كأن يترتب على
القول الحسن نصرة حق في موقف يحتاج فيه إلى كلمة حق ناصرة، أو دفاع عن
مظلوم فينصره بكلمة حق، أو ذبٍّ عن عرض مسلم، أو إصلاحٍ بين الناس، أو
صَدِّ فساد عن المسلمين، أو غير ذلك من المواقف التي ربما تكون كلمة واحدة
حسنة تقال فيها سبباً لسعادة العبد وفلاحه، كما قال الله تعالى عن الذين
عرفوا الحق وشهدوا به: ﴿وَإِذَا
سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ
الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا
فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ
وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ
الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا
جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ
جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ﴾ [المائدة: 83-85].
· وفي الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((
إن العبد ليتكلَّم بالكلمة من رضوان الله لا يلقي لها بالاً يرفعه الله
بها درجات، وإن العبد ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يلقي لها بالاً يهوي
بها في نار جهنم)).
· والمقصود أن إحسان القول على ثلاث درجات:
- الدرجة الأولى:
تجنّب القول السيئ الذي يبغضه الله عز وجل وأسوؤه قول الشرك بالله عز وجل
والصد عن سبيله وقول الزور والغيبة والنميمة والفحش والبذاءة وغيرها.
- وقول الفُحْشِ في اللغة يعمّ قول الخنا المستقذر والسباب المقذع، قال النابغة يمدح امرأة:
- والشاهد قوله: (معيد
على قيل الخنا والهواجر) الهواجر من القول هو السباب المقذع، والخنا هو
القول الماجن، وكلا النوعين من فاحش القول.
- الدرجة الثانية:
الإتيان بالقول الحسن الواجب، في حق الله عز وجل وفي حق الناس، فأما القول
الحسن في حق الله عز وجل فأحسنه وأوجبه كلمة التوحيد، ثم ما يجب عليه من
الأذكار الحسنة والأدعية الواجبة في الصلاة وفي غيرها، وما يجب عليه من
الأقوال الحسنة في حق الناس، وأحق الناس بالقول الحسن الوالدان كما أمر
الله تعالى بقوله: ﴿وقل لهما قولاً كريماً﴾ [الإسراء: 23] أي طيباً حسناً.
- ومما يجب من القول
الحسن: رد السلام، وبيان الحق عند وجوب بيانه، ونصرة الحق، والذب عن عرض
المسلم، وغيرها من المواطن التي يجب فيها القول الحسن مع الاستطاعة.
- الدرجة الثالثة:
القول الحسن المستحب، وهذه الدرجة مترتبة على الدرجتين السابقتين، وهي تشمل
نوافل الأقوال الحسنة من التلاوة والذكر والدعاء والدعوة إلى الله تعالى،
وما يندب إليه من الإحسان إلى الناس كتعزية المصاب بقول حسن، وتثبيت
المبتلى، وإعانة المستعين، ومكافأة صانع المعروف، وغيرها من الأقوال الحسنة
المستحبة التي من أداها مع ما قبلها فهو من أهل الإحسان في القول.
· 3: وأما إحسان العمل فهو من أثر إحسان عمل القلب وإحسان القول.
- والأعمال الحسنة على نوعين:
- النوع الأول:
العبادات العملية فهذه أداؤها على وجه حسن بإخلاص واتباع بلا غلو ولا تفريط
هو الإحسان المطلوب؛ فمن كان هذا دأبه في عباداته فهو من أهل الإحسان
فيها، ويتفاضل المحسنون في هذه المرتبة تفاضلاً عظيماً.
- النوع الثاني: معاملة الناس، والإحسان في معاملة الناس علىثلاث درجات:
الدرجة الأولى: كف
الأذى، فالذي لا يكف أذاه عن الناس فليس بمحسن، بل هو من أبعد الناس عن
الإحسان، والمسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده.
الدرجة الثانية: أداء
الحقوق الواجبة، وأخصها حق الوالدين وحق الأرحام والجار، ومن بينه وبينه
معاملة تقتضي حقاً خاصاً كالشركاء من حق بعضهم على بعض الصدق والبيان، وحق
المؤتمِن على المؤتمَن أداء الأمانة، وحق المشتري على البائع أن لا يغبنه
في سعرها وأن يبيّن له عيبها إن كان فيها عيب، ونحو ذلك من الحقوق
الواجبة، التي من لم يؤدها فهو مسيء غير محسن.
- فالعاقّ والقاطع والغاشّ والمخادع والخائن والمختلس والسارق مسيؤون غير محسنين.
- فمن كف أذاه عن الناس وأدى الحقوق الواجبة فهو محسن الإحسان الواجب.
- الدرجة الثالثة:
الإحسان المستحب، وهو أنواع ويجمعه أنه ما زاد على القدر الواجب من وجوه
الإحسان وهي كثيرة متنوعة فالصدقة إحسان، والكلمة الطيبة إحسان، وتبسمك في
وجه أخيك إحسان إليه، وتوسعة المجلس له إحسان، وكل هذه الأعمال الحسنة
يثاب عليها العبد إذا احتسب فيها نية صالحة.
معاني لفظ الإحسان في النصوص:
· لفظ الإحسان يطلق في النصوص على معان:
- المعنى الأول: إحسان العمل وإتقانه، فمن أتى بالعمل على وجه حسن فهو محسن.
- المعنى الثاني: فعل الحسنات، كما قال الله تعالى: ﴿وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِّمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ﴾ [النساء: 125] فالإحسان الأول غير الإحسان الثاني.
وقال تعالى: ﴿مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا﴾ [الأنعام: 160] والذي يجيء بالحسنة محسن، ودرجته في الإحسان بحسب استكثاره من الحسنات.
وقال تعالى: ﴿وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ
الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [هود: 114، 115].
- المعنى الثالث: البر والإفضال إلى المخلوقين في كل مقام بحسبه قال تعالى: ﴿وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا﴾ [الإسراء: 23]، و﴿وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً﴾ [البقرة: 83]، وفي صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليحسن إلى جاره)).
- ويكثر -عند إرادة هذا المعنى – أن يُعَدَّى لفظ الإحسان بالباء أو اللام أو إلى، كما في الأمثلة السابقة.
- وهو يصدق على الإحسان بالمال والجاه والعلم والبدن وغيرها من أوجه الإحسان.
- وقوله تعالى: ﴿وَقَدْ أَحْسَنَ بَي﴾ [يوسف: 100] لفظ الإحسان فيه متضمن لمعنى العناية، ولذلك عدي بحرف الباء.
· ويطلق لفظ الإحسان ويراد به ما يشمل هذه المعاني كلها كما في قوله تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾[البقرة: 195]، وقوله: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾[النحل: 90] وقوله: ﴿إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ﴾ [الإسراء: 7].
حاجة العبد إلى الاستعانة بالله على الإحسان
· حاجة العبد إلى سؤال
الله تعالى الإعانة على الإحسان لازمة دائمة، كما دلَّ على ذلك حديث معاذ
بن جبل رضي الله عنه أَنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخذ بيدهِ،
وقال: (( يا مُعَاذُ، واللهِ إِني لأُحِبُّكَ)).
فقال: (( أُوصيكَ يا معاذُ، لا تَدَعنَّ في كلِّ صلاةٍ أَنْ تَقُولَ: اللهمَّ أَعِنِّي على ذِكْرِكَ وشُكْرِكَ وحُسنِ عِبَادَتِكَ )). رواه أحمد وأبو داوود والنسائي، وفي رواية النسائي: قال مُعَاذٌ: (وَأَنَا أُحِبُّكَ).
· هذا الحديث يدل على أن العبد لا يستغني عن سؤال الله الإحسان أبداً، فمن فقه ذلك أيقن بافتقاره إلى الله تعالى في كل وقت.
· ومعاذ بن جبل رضي
الله عنه من أئمة المحسنين ومما وصاه به النبي صلى الله عليه وسلم ما رواه
هنَّاد بن السري في الزهد وابن أبي شيبة في مصنفه والطبراني في الكبير
وغيرهم عن محمد بن عمرو بن علقمة قال: حدثنا أبو سلمة قال: قال معاذ بن
جبل: يا رسول الله أوصني. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((
اعبد الله كأنك تراه، واعدد نفسك مع الموتى، واذكر الله عند كل حجر وشجر،
وإذا عملت السيئة فاعمل بجنبها حسنة، السر بالسر والعلانية بالعلانية)).
(( وأخبرك بما هو أملك بك من ذلك؟ )).
قال: يا رسول الله وما هو؟
قال: (( هذا )) وأشار إلى لسانه.
قال معاذ: يا رسول الله هو ذا وأشار إلى لسانه
قال:(( وهل يكبُّ الناس على مناخرهم في النار إلا هذا )).
- وأبو سلمة هو عبد
الله بن عبد الرحمن بن عوف لم يدرك معاذ بن جبل، فالإسناد فيه انقطاع
لكنه له شواهد يحسَّن بها، وقد حسنه الألباني، وأورده في السلسلة الصحيحة.
· وأخرج البيهقي في
شعب الإيمان عن معاذ بن جبل قال: كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة
تبوك، فأصاب الناس ريح فتقطعوا، فضربت ببصري فإذا أنا أقرب الناس من رسول
الله صلى الله عليه وسلم، فقلت: لأغتنمن خلوته اليوم، فدنوت منه فقلت: يا رسول الله أخبرني بعمل يقربني - أو قال - يدخلني الجنة، ويباعدني من النار؟
قال: ((
لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه، تعبد الله ولا تشرك
به شيئاً، وتقيم الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتحج البيت،
وتصوم رمضان، وإن شئت أنبأتك بأبواب الخير )).
قلت: أجل يا رسول الله.
قال: (( الصوم جنة، والصدقة تكفر الخطيئة، وقيام العبد في جوف الليل يبتغي به وجه الله ))، ثم قرأ الآية ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ﴾ [السجدة: 16].
ثم قال: (( إن شئت أنبأتك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه )).
قلت: أجل يا رسول الله.
قال:(( أما رأس الأمر فالإسلام، وأما عموده فالصلاة، وأما ذروة سنامه فالجهاد، وإن شئت أنبأتك بأملك الناس من ذلك كله )).
قلت: ما هو يا رسول الله؟
فأشار بإصبعه إلى فيه.
فقلت: وإنا لَنُؤَاخَذَ بكل ما نتكلم به؟!
فقال:(( ثكلتك أمك يا معاذ، وهل يُكِبُّ الناسَ على مناخرهم في جهنم إلا حصائد ألسنتهم، وهل تتكلم إلا ما عليك أو لك؟! )).
هذه
رواية البيهقي، والحديث رواه أبو داوود الطيالسي وعبد الرزاق وأحمد وابن
أبي شيبة والترمذي وابن ماجه وغيرهم من طرق وبألفاظ متقاربة، إلا أن سياق
البيهقي من أتمها.
· قال يونس بن عبيد: (لا
تجد من البرّ شيئاً واحداً يتبعه البرُّ كلُّه غير اللسان؛ فإنَّك تجد
الرجل يكثر الصيام ويفطر على الحرام، ويقوم الليل ويشهد بالزور بالنهار
-وذكر أشياء نحو هذا -ولكن لا تجده لا يتكلم إلا بحق؛ فيخالف ذلك عمله
أبدا).
سمات المحسنين:
· مما يعين على بلوغ
مرتبة الإحسان أن يتعرف طالب هذه المرتبة على سمات المحسنين وهديهم
ودلِّهم، ألا ترى أن طالب كل صنعة ينظر إلى أربابها المبرزين فيها فيرتسم
طرائقهم ويحذو حذوهم حتى يعدَّ منهم.
· فكذلك طالب الإحسان
ينبغي له أن يتعرف على سمات المحسنين ويصحبهم أحياء وأمواتاً فأما
المحسنون الأحياء فهم من أندر الموجود بل هم كالشعرة البيضاء في جلد الثور
الأسود، وحيثما وُجِد واحد منهم فصحبته غنيمة عظيمة لأنه قدوة صالحة
يتمثل بها.
· وكم قد سمعنا من بعض
مشايخنا مواقف رأوها في صحبتهم لمشايخهم ولبعض الصالحين كان لها أثر بالغ
في نفوسهم، حتى إن منهم من إذا ذكر بعض أولئك لا يكاد يتمالك نفسه من
البكاء لقوة ما أثرت فيه تلك المواقف، وكانت أبلغ من دروس نظرية كثيرة
يتلقاها العبد وقلبه غافل عن عقل معانيها كما ينبغي.
· وأما الأموات فسير
كثير منهم محفوظة مسطرة من تأملها وفقه آثارهم ومآثرهم تجلَّت له بعض معاني
الإحسان بمفهومه العام الواسع الذي يشمل جميع شؤون العبد في عباداته
ومعاملاته ويجمعه ما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم في كلمته الجامعة
الماتعة: (( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك)).
· وقد تأملت سمات المحسنين الجامعة لهم فوجدت أهمها وأظهرها: الصدق والإخلاص، والنصيحة لله ولرسوله ولكتابه وللمؤمنين، والسكينة، والبعد عن التكلف، وترْكهم ما لا يعنيهم، وقد طويت شرحها اختصاراً.
تيسير الإحسان:
· واعلم – أحسن الله
إليك – أن بلوغ مرتبة الإحسان أمر عظيم، وهو يسير لمن يسَّره الله له، كما
قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ رضي الله عنه: (( لقد سألت عن عظيم، وإنه ليسير على من يسره الله عليه )).
· ومن أدلة ذلك أن الله تعالى أمر بالإحسان ورغَّب فيه؛ فقال تعالى: ﴿وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ [البقرة: 195]، وقال: ﴿إن الله يأمر بالعدل ولإحسان﴾ [النحل: 90]،وليس في الشريعة تكليف بما لا يُطاق، ولا ترغيب فيما لا ينال.
· لا يرغّب الله في
أمر ثم يعسّره على عباده إلا أن يأتوا من أسباب الخذلان ما يُحرَمون بسببه
التوفيق له، وأما الصادق المجتهد فحريّ بالفوز بمطلوبه.
· ومن أعظم أسباب التوفيق للإحسان: تعظيم أوامر الله، وشكر نعمه، وكثرة ذكره، والمجاهدة فيه.
· فأما تعظيم أوامر الله عز وجل فإنه علامة على تقوى القلب كما قال الله تعالى: ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج: 32].
· وأما شكر النعمة فإن
الله تعالى يحب الشاكرين ويوفقهم لما يحبه لهم، ولمَّا اعترض المشركون
على هداية ضعفاء المؤمنين قال الله تعالى: ﴿أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ﴾ [الأنعام: 53].
· وأما كثرة الذكر
فتجلي القلب، وتطرد الشيطان، وتزيد محبة الرب جل وعلا في قلب العبد، ومحبة
الرب جل وعلا لعبده، ومن أحب شيئاً أكثر من ذكره، فلا يزال العبد يذكر
الله بقلبه ولسانه حتى يوفق للإحسان.
· وقد قال الله تعالى: ﴿
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ
يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ [الأحزاب: 21].
· ولذلك
وصَّى النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل بكثرة الذكر؛ كما في سنن
النسائي من حديث أبي عبد الرحمن الحبلي عن الصنابحيّ عن معاذ بن جبل قال: أخذ بيدي رسولُ الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال:(( إني لأحبكّ يا معاذ))؛ فقلت: (وأنا أحبك يا رسول الله)؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:(( فلا تدع أن تقول في كل صلاة ربّ أعني على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك)).
- الذكر والشكر عبادتان وتقديمها لأهميتهما ولأنهما من أسباب التوفيق لحسن العبادة.
· ومن جاهد لبلوغ هذه المرتبة وتحراها فحري أن ينالها وقد قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)﴾ [العنكبوت: 69].
· وقد قال أبو الدرداء رضي الله عنه وهو من الأربعة الذين أوصى معاذ بن جبل عند موته بالتماس العلم عندهم: (إنما العلم بالتعلم، وإنما الحلم بالتحلم، ومن يتحرى الخير يعطه، ومن يتوق الشر يوقه)، وقد روي هذا عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً، ورجّح الحفاظ وقفه على أبي الدرداء رضي الله عنه.
· وليس من شرط بلوغ
مرتبة الإحسان أن يكون العبد مكثراً من الأعمال، وإنما المطلوب إحسان العمل
بأداء الفرائض والتقرب بما يتيسر من النوافل بلا تنطع ولا تفريط.
· ولا يستطيع العبد
إحصاء الأعمال الصالحة كلها والإتيان بها، كما في مسند الإمام أحمد وسنن
ابن ماجة من حديث ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:
((استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤمن)).
· وقد نُقِلَ عن جماعة من السلف في بيان فضل بعض المحسنين أنهم لم يَسْبِقوا بكثرة صلاة ولا صيام وإنما بشيء وقر في قلوبهم.
· وليس من شرط المحسن
أن تكون جميع أعماله حسنة، بل إذا كان الغالب على شأنه الإحسان ومقاربته
فهو من أهل الإحسان إن شاء الله تعالى.
· وفي الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (( سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لن يُدْخِل أحداً الجنةَ عملُه)).
قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟
قال: (( ولا أنا إلا أن يتغمدني الله منه بمغفرة ٍ ورحمة )).
· فالسداد هو الإحسان، والمقاربة هي مقاربة الإحسان.
· بل ليس من شرط
المحسن أن يكون معصوماً من الذنوب، فقد يقع في الذنب كثير من المحسنين
لكنهم منيبون توَّابون إذا عملوا سيئة أتبعوها حسنة فمحتها، السرُّ بالسر
والعلانية بالعلانية، كما أرشد النبي صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي
الله عنه بذلك في الحديث المتقدم ذكره، وفي الحديث الآخر:(( اتق الله حيثما كنت، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن)).رواه أحمد والترمذي وغيرهما.
· والتوبة من العمل
غير الحسن مشروعة متقبلة ولذلك يشرع للعبد أن يستغفر الله تعالى بعد أداء
العبادة كما ورد في الصلاة والحج وغيرها لما قد يقع في عبادته من التقصير
في إحسانها، فالاستغفار ونوافل العبادات مما يجبر به تقصير العبد في
عبادته.
· والإحسان أعلى مراتب الدين، والمحسنون فيه متفاضلون وأعلاهم مرتبة الصديقون.
· وقد زعم بعض الصوفية
أن فوق مرتبة الإحسان مرتبة وهي مرتبة الفَناء، وله تفسيرات وأنواع
عندهم، منها ما هو مقبول إذا فسّر تفسيراً صحيحاً، ولا يجاوز في حقيقته
مرتبة الإحسان، ومنها ما هو ضلال مبين.
· واعلموا أن هذه
الكلمات وإن استطالها من استطالها فهي مختصرة ملخصة ذكرت فيها خلاصة ما
اطلعت عليه وما فتح الله به من تأصيل مسائل هذا الباب؛ فلا يستطل طالب
العلم هذه المباحث الملخصة، وقد جُمعَت له في موضع واحد لتختصر عليه كثيراً
من الوقت والجهد وتعينه على فقه مسائل هذا الباب.
· ووراء كل مسألة ما
وراءها من التفصيلات والأدلة والآثار والأخبار والأمثلة والقصص التي طويت
ذكرها اختصاراً، وإنما ذكرت ما أحسب أنه يفي بالغرض في هذا المقام.
قوله: (وَالدَّلِيلُ قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى﴾[لقمان:22].
- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾[النحل:128].
- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾[الطلاق:3].
- وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿وَتَوَكَّلْ
عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218)
وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ
الْعَلِيمُ﴾[الشعراء: 217-220].
- وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا
تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ
مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾ الآية [يونس:61]).
· هذه أدلة من القرآن الكريم لبيان معنى الإحسان وفضله.
· فأما قوله تعالى: ﴿وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الوُثْقَى﴾ [لقمان: 22]؛ الوثقى أي التي لا أوثق منها.
· فتبيّن أن الإحسان
هو أفضل العمل، وأنه لا يكون إلا بإسلام الوجه إلى الله تعالى، أي يكون قصد
العبد خالصاً لله تعالى ويكون منقاداً لأوامره جل وعلا مطيعاً له.
· وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ﴾ [النحل: 128]؛
فيه بيان فضل المحسنين وأنهم فائزون بمعية الله تعالى الخاصة التي تقتضي
محبته ونصره وتأييده وهدايته وحفظه وغير ذلك من المعاني الجليلة العظيمة
التي جعلها الله تعالى لأهل معيته الخاصة.
· وَقَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ومَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ [الطلاق: 3]؛ التوكل من أجل العبادات، والذي يحقق التوكل من المحسنين في توكلهم فهو متوكل على الله مؤمن بأن الله يراه ويعلم حاله؛ فتحقق فيه وصف الإحسان.
· ومما يوضح هذا المعنى قوله تعالى: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ﴾ [الشعراء: 217-220].
· وَقَوْلُهُ: ﴿وَمَا
تَكُونُ فِي شَانٍ وَمَا تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ
مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ﴾الآية [يونس:61]).
- تفيضون فيه أي: تأخذون فيه.
- ومن آمن بأن الله تعالى شهيد على جميع أعماله وقام بحق هذا الإيمان من إحسان العبادة فهو من أهل مرتبة الإحسان.
قوله: (وَالدَّلِيلُ مِنَ
السُّنَّةِ: حَدِيثُ جِبْرِيلَ الْمَشْهُورُ عَلَيْهِ السَّلامُ عَنْ
عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (بَيْنَما نَحْنُ جُلُوسٌ عِنْدَ
رَسُولِ اللَّهِ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِذْ طَلَعَ عَلَيْنَا
رَجُلٌ شَدِيدُ بَيَاضِ الثِّيَابِ، شَدِيدُ سَوَادِ الشَّعَرِ، لاَ يُرَى
عَلَيْهِ أَثَرُ السَّفَر، وَلاَ يَعْرِفُهُ مِنَّا أَحَدٌ، فَجَلَسَ
إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَسْنَدَ
رُكْبَتَيْهِ إِلَى رُكْبَتَيْهِ، وَوَضَعَ كَفَّيْهِ عَلَى فَخِذَيْهِ.
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ أَخْبِرْنِي عَنِ الإِسْلاَمِ؟
فَقَالَ: ((
أَنْ تَشْهَدَ أَنْ لاَ إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ، وَأَنَّ مُحَمَّداً
رَسُولُ اللَّهِ، وَتُقِيمَ الصَّلاَةَ، وَتُؤْتِيَ الزّكَاةَ، وَتَصُومَ
رَمَضَانَ، وَتَحُجَّ الْبَيْتَ إِنِ اسْتَطَعْتَ إِلَيْهِ سَبِيلاً)).
فَقَالَ: صَدَقْتَ، فَعَجِبْنَا لَهُ يَسْأَلُهُ وَيُصَدِّقُهُ.
قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِيمَانِ؟
قَالَ: (( أَنْ تُؤْمِنَ بِاللهِ، وَمَلاَئِكَتِهِ، وَكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، وَاليَوْمِ الآخِرِ، وَبِالقَدَرِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ)).
قَالَ: صَدَقْتَ.
قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنِ الإِحْسَانِ؟
قَالَ: (( أَنْ تَعْبُدَ اللهَ كَأَنَّكَ تَرَاهُ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ)).
قَالَ: صَدَقْتَ.
قَالَ: فَأَخْبِرْنِي عَنِ السَّاعَةِ؟
قاَلَ: (( مَا المَسْؤُولُ عَنْهَا بِأَعْلَمَ مِنَ السَّائِلِ)).
قَالَ: أَخْبِرْنِي عَنْ أَمَارَاتِهَا؟
قَالَ: (( أَنْ تَلِدَ الأَمَةُ رَبَّتَهَا، وَأَنْ تَرَى الحُفَاةَ العُرَاةَ العَالَةَ رِعَاءَ الشَّاءِ يَتَطَاوَلُونَ في البُنْيَانِ)).
قَالَ: فَمَضَى فَلَبِثْنَا مَلِياًّ.
فَقَالَ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( يَا عُمَرُ؛ أَتَدْرِي مَنِ السَّائِلُ))؟
قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ.
قَالَ: (( هذَا جبْرِيلُ أَتَاكُمْ يُعَلِّمُكُمْ أَمْرَ دِينِكُمْ)) ).
· هذا الحديث
يسمى حديث جبريل عليه السلام، وهو من أجلّ الأحاديث النبوية، وفيه بيان
مراتب الدين، وبعض أشراط الساعة، وذكر فيه أركان الإسلام وأركان الإيمان
ومعنى الإحسان وقد سبق شرح ذلك ولله الحمد.
· وسبق بيان سبب تحديث ابن عمر رضي الله عنهما بهذا الحديث عن أبيه.
· وسيأتي شرح هذا الحديث بالتفصيل المناسب إن شاء الله تعالى عند شرح الأربعين النووية.