الدروس
course cover
الدرس الرابع عشر: مرتبة الإحسان (1/2)
18 Jun 2011
18 Jun 2011

8509

0

0

course cover
شرح ثلاثة الأصول وأدلتها

القسم الثالث

الدرس الرابع عشر: مرتبة الإحسان (1/2)
18 Jun 2011
18 Jun 2011

18 Jun 2011

8509

0

0


0

0

0

0

0

الدرس الرابع عشر: مرتبة الإحسان (1/2)



قال شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب رحمه الله:


اقتباس:
(الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الإِحْسَانُ رُكْنٌ وَاحِدٌ؛ وَهُوَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).

عناصر الدرس:
· بيان معنى الإحسان
· ميزان الإحسان
· فضل الإحسان
· درجات الإحسان
· خصال الإحسان في العبادات
- إحسان الوضوء
- إحسان الصلاة
- إحسان النفقة
- إحسان الجهاد في سبيل الله

عبد العزيز بن داخل المطيري

#2

18 Jun 2011

بيان معنى الإحسان

قوله: (الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الإِحْسَانُ رُكْنٌ وَاحِدٌ؛ وَهُوَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).
المرتبة الثالثة من مراتب الدين هي مرتبة الإحسان، وفسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله: ((أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك))
فالإحسان المراد هنا هو الإحسان في عبادة الله تعالى ، وهو متضمن للإحسان إلى من أمر الله عز وجل بالإحسان إليهم أمر وجوب أو ندب، لأن الذي يفعله تقرباً إلى الله عز وجل فهو متعبد لله تعالى بهذا الإحسان.
فالإحسان في عبادة الله تعالى ينتظم جميع معاني الإحسان.
وهو أعلى مقامات العبادة وأجلها.
فالمقام الأول هو مقام الإسلام ، والمقام الثاني هو مقام الإيمان، والمقام الثالث هو مقام الإحسان.
والإحسان ضد الإساءة ويطلق هذا اللفظ في لسان العرب على معنيين:
المعنى الأول: الإتقان والإجادة.
والمعنى الثاني: التفضل والزيادة.
قال الله تعالى: {الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ} فالإحسان هنا يفسره قوله تعالى: {صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ} أتقن في تفاسير السلف بمعنى: أحكم وأحسن وسوى وأوثق وهي معان متقاربة.
وقوله: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّىٰ} وقوله: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ} والتقويم هنا التعديل وتسوية الخلق بإجماع المفسرين، كما في قوله تعالى: {الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ} قرئ في السبع بالتخفيف والتشديد {فعدَّلك}.
وقال الحارث بن جحدر الحضرمي يصف قطيعاً من الظباء

حِماشِ الشَوى نُجلِ العُيونِ سَوانِقٍ.......مِنَ البَقلِ حورٍ أَحسَنَ الخَلقَ خالِقُهْ

ويقال فلان أحسن صنعته إذا أتقنها وأجادها، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (قيمة كل امرئ ما يحسنه).
والذي يحسن العمل هو الذي يأتي به على وجه حسن، وهذا الوصف يصدق على المعنيين فيكون العمل متقناً ليس فيه إساءة ، ويكون فيه معنى التكميل والتتميم والزيادة على القدر الواجب.
فالذي يؤدي العبادة على القدر الواجب بحيث لا يكون مسيئاً فيها؛ فهو قد أحسنها، والذي يكمل آدابها ومستحباتها فهو محسن إحساناً أبلغ من الإحسان السابق.
وهذا يدلك على أن الإحسان يتفاضل فيه الناس ؛ فيكون عمل أحسن من عمل ، وعبادة أحسن من عبادة ؛ وقد قال الله تعالى : {الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}
وقال: {وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً} [11/7].
وقال: {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيَّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً}
وقال فضيل بن عياض: ( {أَحْسَنُ عَمَلاً}: أخلصه وأصوبه).

عبد العزيز بن داخل المطيري

#3

28 Jun 2011

ميزان الإحسان


وقال: (العمل لا يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا؛ الخالص: إذا كان لله، والصواب: إذا كان على السنة).
فأول درجات الإحسان الإخلاص والمتابعة ؛ لأن المشرك غير محسن ، والمبتدع غير محسن ، وبتكميل الإخلاص وتكميل المتابعة يحقق العبد مرتبة الإحسان.
والمتابعة تحفظ العبد من الغلو والتقصير
فأصبح من نواقض الإحسان في العبادة:
- الشرك.
- والبدعة.
- والغلو.
- والتفريط.
فالمشرك في عبادة الله تعالى شركاً أكبر أو أصغر غير محسن في عبادته بل هو مسيء غاية الإساءة.
والمبتدع غير محسن.
والغالي المتنطع غير محسن.
والمفرط المتساهل غير محسن.
فهؤلاء كلهم غير محسنين في أعمالهم.

واعلم أن المراد من العبد هو إحسان العمل، فكثرة العمل بلا إحسان من جهد البلاء، وقد قال الله تعالى في المشركين: {وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا}
وقال النبي صلى الله عليه وسلم في المبتدعة: ((من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
وقال في الغلاة: ((هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)) رواه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
وقال للمسيء صلاته ارجع فصلّ فإنك لم تصل.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#4

28 Jun 2011

فضل الإحسان


الإحسان أعلى مراتب الدين، وأسمى غايات السالكين، وثوابه أحسن الثواب في الدنيا والآخرة، وأهله أحبّ الناس إلى الله وأسعدهم برحمته وفضله وبركاته، وقد نُقِلَ عن جماعة من السلف في بيان فضل بعض المحسنين أنهم لم يَسْبِقوا بكثرة صلاة ولا صيام وإنما بشيء وقر في قلوبهم، ومن تدبّر القرآن علم أن الإحسان الغاية التي خلق الله الخلق لأجها، وهي غاية أخصّ من مطلق العبادة
قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً[هود: 7]، وقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيَّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً[الكهف: 7]، و
قال تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ[الملك: 2]
قال فضيل بن عياض: (﴿أَحْسَنُ عَمَلاً: أخلصه وأصوبه)، وقال: (العمل لا يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا؛ الخالص: إذا كان لله، والصواب: إذا كان على السنة)ا.هـ.
فالمراد من العبد هو إحسان العمل؛فكثرة العمل بلاإحسان من جهد البلاء، وقليلٌ حسنٌ يحبّه الله خير من كثير غير حسن.
· قال ابن القيم رحمه الله:

والله لا يرضى بكثرة فعلنا ... لكن بأحسنه مع الإيمان
فالعارفون مرادهم إحسانه ... والجاهلون عموا عن الإحسان

ومن أعظم فضائل الإحسان أن الله يحبّ المحسنين، وقد تكرر ذكر أن الله ﴿يحبّ المحسنين في خمسة مواضع في القرآن الكريم، وهو أكثر عملٍ تكرر ذكر محبة الله لأهله.
وذكر الله تعالى في خمسة مواضع أيضاً أنه لا يضيع أجر المحسنين.
ومن فضائله أيضاً: قول الله تعالى: ﴿إن رحمة الله قريب من المحسنين فجعل رحمته الخاصة قريبا من المحسنين؛ فكلما كان العبد أحسن عملاً كان نصيبه من الرحمة الخاصة أعظم، وقوله تعالى: ﴿هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [الرحمن: 60] وقوله: ﴿ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [النجم: 31] فيهما دلالة بيّنة على فضل إحسان العمل وترغيب الله في ذلك ووعده عليه بالجزاء الأحسن.
وقوله تعالى: ﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [يونس: 26] وقد فسّرت الزيادة برؤية الله جلّ وعلا، وهذه غاية الأماني وأحسن الثواب.

ومن عاجل ثواب المحسنين ما يثيبهم الله به في الدنيا كما قال الله تعالى في موضعين من كتابه الكريم ﴿للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#5

28 Jun 2011

درجات الإحسان


وهذا يبيّن أن الإحسان على درجتين من حيث حكمه:
الدرجة الأولى: الإحسان الواجب، وهو أداء العبادة على القدر الواجب بإخلاص واتباع بلا غلوّ ولا تفريط.
فمن أدى العبادة على هذا الوجه فهو محسن الإحسان الواجب فيها.
والذي لا يؤدي هذا الإحسان ظالم لنفسه كما قسم الله تعالى الناس إلى فريقين لا ثالث لهما، محسن وظالم لنفسه مبين، كما قال تعالى في خليله إبراهيم: {وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ}
وكل من المشرك والمبتدع والغالي والمفرّط قد وقعوا في ظلم أنفسهم.
الدرجة الثانية: الإحسان المستحب، وهو أداء العبادة بتكميل واجباتها ومستحباتها وتعظيم النية فيها لله جل وعلا، فيكون في العبادة قوة إخلاص ومتابعة فيؤديها كأنه يرى الله عز وجل، فمن أدى العبادة على هذا الوجه فهو محسن ، وهذا هو الإحسان المراد هنا.

واعلم أن الإحسان في كل عبادة يكون بحسبها ، ويجمع ذلك أمران:
الأمر الأول: الإخلاص لله تعالى، وهذا الأمر يتفاضل فيه المؤمنون تفاضلاً عظيماَ، فالإخلاص عمل من أعمال القلوب التي يتفاضل الناس فيها كالمحبة والخوف والرجاء وغيرها.
الأمر الثاني: اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تلك العبادة بأدائها بلا غلو ولا تفريط.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#6

28 Jun 2011

خصال الإحسان في العبادات

وهذا يكون في كل عبادة ومعاملة يراد بها وجه الله بحسبها.

1: فإحسان الوضوء يكون بإسباغه وتكميل فروضه وآدابه وعدم مجاوزة القدر المشروع في عدد الغسلات كما في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء؛ فأراه ثلاثا ثلاثا، ثم قال: ((هكذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم))

فالزائد على القدر المشروع غير محسن، والمقصر عنه غير محسن، والموسوس غير محسن.

2: وإحسان الصلاة يكون بإقامتها وأدائها في أول وقتها، وتكميل واجباتها وآدابها وأن يصليها كأنه يرى الله عز وجل.

فمن أخل بأركانها وواجباتها فليس بمحسن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته : ((ارجع فصلّ فإنك لم تصل)) متفق عليه.

والساهي عن الصلاة غير محسن، والذي لا يخشع في صلاته غير محسن.

وفي صحيح مسلم عن عمرو بن سعيد بن العاص قال: كنت عند عثمان فدعا بطَهور فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما من امرئٍ مسلمٍ يحضره صلاة ٌ مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة َ لما قبلها من الذنوب ما لم يُؤتَ كبيرة، وذلك الدهر كله)).

وعن نافع مولى ابن عمر قال: سمعت ابن عمر يقول: أتى رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله حدِّثني بحديث واجعله موجزًا.

فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: ((صلِّ صلاةَ مودِّع؛ فإنَّك إن كنت لا تراه فإنه يراك، وأيّس مما في أيدي الناس تكن غنيًّا، وإياك وما يعتذر منه)). رواه الطبراني والبيهقي في الزهد والخطيب البغدادي والضياء المقدسي وحسَّنه الألباني.

وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : ((صل صلاة مودع كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك))

قال بكرٌ المزنيُّ: (إذا أردت أنْ تنفعَك صلاتُك فقل : لعلِّي لا أُصلِّي غيرها).

وكان من فقه بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم يخففون الصلاة إذا خافوا الوسواس

كما روى الطحاوي في مشكل الآثار عن أبي رجاء العطاردي قال: قلت للزبير بن العوام رضي الله عنه: ما لي أراكم يا أصحاب محمد من أخف الناس صلاة؟

فقال: (نبادر الوسواس).

ويوضحه ما في الحلية لأبي نعيم عن أنس قال: كنَّا إذا صلَّينا خلفَ الزبير بن العوام فأخف الصلاة قلت: يا أصحاب محمد ما لي أراكم أخف الناس صلاة؟

قال: (إنا نبادر الوسواس، ولكنكم أهلَ العراق يطيل أحدكم الصلاة حتى يغيب في صلاته).

فالصلاة الموجزة التامة التي يحسنها صاحبها خير من الصلاة الطويلة التي لا يحسنها.

وبهذا تعلم أن المطلوب إحسان العمل لا كثرته

كما قال ابن القيم رحمه الله:

والله لا يرضى بكثرة فعلنـا........لكن بأحسنه مـع الإيمـان

فالعارفون مرادهم إحسانـه.......والجاهلون عموا عن الإحسان

فعمل قليل في إحسان خير من كثير غير حسن.

3: والإحسان في الإنفاق يكون بأدائه احتساباً لله عز وجل خوفاً وطمعاً لا يريد ممن أحسن إليه جزاء ولا شكوراً، ولا يُتْبِعُ نفقَتَه منًّا ولا أذى؛ ففي النفقة عملان عمل للقلب وعمل للجوارح؛ فعمل القلب ألا يريد بالنفقة إلا وجه الله تقرباً إليه خوفاً وطمعاً، لا يريد ممن أنفقه عليهم جزاء ولا شكوراً.


كما قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ}

وقال عن عباده الأبرار: {إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا * إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا * فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَٰلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا}

والإحسان إلى الناس خوفاً من الله عز وجل يطهر القلب من العجب والغرور والتعالي بالنفقة والمفاخرة والمباهاة بها؛ وبهذا تعلم أنه ليس كل منفق محسناً، بل من الناس من ينفق الأموال الكثيرة في وجوه الخير وتكون وبالاً عليه وعذاباً يعذَّب به، لفساد قصده ونيَّته، وفساد سلوكه في الإنفاق، وكل ذلك مخالف للإحسان.

فمما يفسد النية في الإنفاق: الرياء والفخر والعجب والتعالي.

ومما يبطل ثواب الصدقة : المنّ والأذى، والمنّ من الأذى لأن الذي يُمنّ عليه يتأذى بذلك، وفيه أيضاً سوء أدب مع الله عز وجل.

والأذى في الإنفاق أنواع:

- منه المنّ وهو أعظمها وهو من كبائر الذنوب، والذي ينظر إلى أن ماله منَّة مِنَ الله تعالى عليه، استخلفه فيه لينظر كيف يعمل في هذه الأمانة لا يمنّ بإنفاقه، وإنما يمنّ من غفل عن هذا الأمر العظيم .

قال الله تعالى: {آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ}

- ومن الأذى في الإنفاق: المماطلة فيه، والتعالي بالنفقة على المحتاج، والتعسير عليه في أخذها، حتى لا يكاد يأخذ المحتاج حقَّه إلا بشق الأنفس.

وقد قيل:

وأفضـلّ البـر مـا لا مـنَّ يتبـعـه.......ولا تقدَّمه شيء من المطَل

- ومن الأذى: أن يخرج ما تعافه نفسه من رديء ما يملك ، وقد أمر الله بالإنفاق من طيب المال، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ}

وقد وعد الله تعالى المحسنين في الإنفاق بالفضل العظيم كما قال تعالى: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)}

وهذا المثل من أبلغ الأمثلة وأعظمها عبرة، والعرب تشّبه قليل الخير والبركة من الناس بالصفا الأصلد الذي لا ينبت كلأً ولا يوري ناراً.

قال تأبط شراً:

وَلَستُ بجلبٍ جلبِ ريحٍ وقرَّةٍ.......وَلا بصَفاً صَلدِ عَنِ الخَيرِ معزلِ

الجِلْبُ: هو السَّحَاب المعترض كأنه جَبَل، يُرى عظيماً ولا ماءَ فيه ولانفع، وإنما يجلبُ الريح والبرْد، ويُضْرَبُ مثلاً للذي يَعِدُ الوعود العظيمة وهو في حقيقة الأمر يؤذي ولا ينفع.

كما قال نهشل الدارمي:

كَجِلبِ السوءِ يُعْجِبُ مَنْ رآهُ.......وَلا يَسْقِي الحَوَائِم مِن لَمَـاقِ

الحوائم: الطيور الحائمة، واللَّماق: المُذْقَة اليسيرة.

والشاهد قوله: (ولا بصفا صلد عن الخير معزلِ)

والصفا الصلد هو الحجر الكبير الصلب الأملس لا ينبت كلأ ولا يوري ناراً، تجعله العرب مثلاً للرجل الذي لا ينتفع به.

ومما يوضح هذا المعنى قول الحطيئة:

لا يُبعِدِ اللهُ مَن يُعطي الجزيلَ ومَن.......يَحبو الجَليلَ وما أَكْدَى وَلا نَكدا

وَمَن تُلاقيهِ بِالمَعـروفِ مُبتَهِجـاً.......إِذا اجرَهَدَّ صَفا المَذمُومِ أَو صَلَدا

وقال الأصمعي: (صَلَدَ الزّنادُ إذا صَوَّت ولم يخرج ناراً).

فقوله تعالى: {فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا}

أي إن مثل هذا المنفق المغترّ بنفقته، ويظنّ أنها تنفعه، وهو قد أبطلها بالمن والأذى كمثل صفوان صلد لا نفع فيه ولا خير، إذْ كان مافعله من الخير باطلاً، وإنما هو كتراب غطَّى الصفوان فلما أصابه المطر تبيَّنت حقيقته وبقي صلداً.

فهذا مثَل المسيء في نفقته، وأما مثل المحسن فكما قال الله تعالى: {وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}

نسأل الله من فضله.

وتأمَّل كيف شبَّه الله تعالى آياته ومواعظه بالماء الذي إذا نزل على مكان طيّب صالحٍ للنبات قد ثُبّت غرسه فإنه ينفعه ويثمره وينميه ، وأما الصفوان الأصلد الذي غطي بالتراب فإنه يكشفه على حقيقته ويعرّيه.

= فالمحسن في نفقته كالذي يغرس في جنة طيبة مباركة، قد ثبت غرسها تثبيتاً حتى استقر في تلك الأرض الطيبة فكان ما يصيبها من الماء نافعا لها منبتاً لغرسها حتى ينمو نباتها ويؤتي ثماره ضعفين.

= وأما المسيء في نفقته فمحلّ غرسه خبيث لا يستقر فيه الغرس وإنما هو كتراب على صفوان؛ يغترّ به صاحبه فإذا أصابه المطر تركه صلداً لا أثر فيه لنبات ولا غرس، ولا تُرجى منه ثمرة، ولا يقدر منه على شيء.

فانظر إلى اختلاف آثار آيات القرآن الكريم على قلوب العباد فمنتفع بها مبارك له فيها، ومحروم من بركتها معذَّب بها، والعياذ بالله.

4. وإحسان الجهاد قد جمع الله صفاته في قوله تعالى: {وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)}
فدلت هذه الآيات على أن المجاهد الذي تتحقق فيه هذه الأوصاف من المحسنين الذين يحبهم الله عز وجل.
فهؤلاء حملهم الصبر على عدم الوهن والضعف والاستكانة.
وحملهم اليقين على تحقيق الاستعانة بطلب التثبيت والنصر من الله، وقدموا الاستغفار ليقينهم بأنهم إن خذلوا فإنما خذلانهم من قبل أنفسهم بتفريطهم وتقصيرهم ومخالفتهم هدى الله فيما وصاهم به، فاستغفروا الله تعالى من الأسباب الموجبة للخذلان.
فمن قام بهذه الأمور فهو محسن في جهاده، وقد وعد الله من كان هذا حاله بثواب الدنيا والآخرة، وأخبره بأنه ممن يحبهم، وهذه المحبة لها لوازمها وآثارها وفضلها العظيم الذي لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، فيكفي تنبيهاً على فضلها العلم بها، وَسَرّح نظرك في معاني هذه المحبة وآثارها وفضائلها تجدها تجمع من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة ما لا يبلغه وصف واصف، ولا يحيط به خيال متخيّل.
وغاية مطالب السالكين وأشرف مقاماتهم أن يكونوا من المحسنين الذين يحبهم الله تبارك وتعالى.

فهؤلاء المجاهدون المحسنون الذين يطيقون الجهاد في سبيل الله عز وجل، وأما الذي لا يطيق الجهاد لضعف أو مرض أو قلة نفقة فإنه إذا كان ناصحاً لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم، أي جامعاً لمعنى الصدق والإخلاص: إخلاص القصد لله عز وجل، والصدق في محبة الله عز وجل ونصرة دينه وإعلاء كلمته، لا ينطوي قلبه على غش ولا تخاذل عن نصرة دين الله عز وجل متى استطاع إلى ذلك سبيلا، ولا يؤثر القعود وهو يستطيع، وعلم الله من قلبه ذلك فهو من المحسنين كما قال الله تعالى: {لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91)}
فإحسان هؤلاء هو النصيحة لله عز وجل، وهذه المرتبة من الإحسان ممكنة للمحسنين في كل وقت، ولا تكلفهم أكثر من إخلاص القصد وصدق العزيمة، وإنما يحرم خيرها وفضلها من حُرم.
= ويخطئ بعض من يستدلُّ بهذه الآية على أن المحسن هنا هو المنفِق؛ وأشنع منه خطأ من يستدل بها على أن كل منفق محسن، وهذه الآية نصٌّ في وصف الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون بأنهم محسنون بشرط النصيحة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم.

عبد العزيز بن داخل المطيري

#7

28 Jun 2011

(خلاصة الدرس الرابع عشر)


بيان معنى الإحسان

قوله: (الْمَرْتَبَةُ الثَّالِثَةُ: الإِحْسَانُ رُكْنٌ وَاحِدٌ؛ وَهُوَ: أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ كَأَنَّكَ تَرَاهُ فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاكَ).

· المرتبة الثالثة من مراتب الدين هي مرتبة الإحسان.

· فسر النبي صلى الله عليه وسلم الإحسان بقوله: (( أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك))

· جمع النبي صلى الله عليه وسلم في هذه العبارة الموجزة الغنية بلوازمها وآثارها ما يكفي اللبيب في معرفة معنى الإحسان الذي يحبه الله.

· قال النووي رحمه الله: (قوله صلى الله عليه وسلم: (( الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك))هذا من جوامع الكلم التي أوتيها صلى الله عليه وسلم، لأنا لو قدَّرنا أن أحدنا قام في عبادة، وهو يعاين ربه سبحانه وتعالى لم يترك شيئاً مما يقدر عليه من الخضوع والخشوع وحسن السمت واجتماعه بظاهره وباطنه على الاعتناء بتتميمها على أحسن وجوهها إلا أتى به؛ فقال صلى الله عليه وسلم: اعبد الله في جميع أحوالك كعبادتك في حال العيان؛ فإنَّ التتميم المذكور في حال العيان إنما كان لعلم العبد باطلاع الله سبحانه وتعالى عليه؛ فلا يقدم العبد على تقصيرٍ في هذا الحال للاطلاع عليه، وهذا المعنى موجود مع عدم رؤية العبد؛ فينبغى أن يعمل بمقتضاه؛ فمقصود الكلام الحثّ على الإخلاص في العبادة ومراقبة العبد ربه تبارك وتعالى في إتمام الخشوع والخضوع وغير ذلك، وقد ندب أهل الحقائق إلى مجالسة الصالحين ليكون ذلك مانعا من تلبسه بشيء من النقائص احتراما لهم واستحياء منهم؛ فكيف بمن لا يزال الله تعالى مطلعا عليه في سره وعلانيته)ا.هـ.

· الإحسان المراد هنا هو الإحسان في عبادة الله تعالى، وهو متضمن للإحسان إلى من أمر الله عز وجل بالإحسان إليهم أمر وجوب أو ندب، لأن الذي يفعله تقرباً إلى الله عز وجل فهو متعبد لله تعالى بهذا الإحسان.

· فالإحسان في عبادة الله تعالى ينتظم جميع معاني الإحسان، وهو أعلى مقامات العبادة وأجلها؛ فالمقام الأول هو مقام الإسلام، والمقام الثاني هو مقام الإيمان، والمقام الثالث هو مقام الإحسان.

· إذا أطلق الثناء على الإحسان فهو شامل لكلّ ما يُتعبد الله عزّ وجل بالإحسان فيه، فيكون الإحسان في العبادات القاصرة والمتعدية وفي معاملة الناس.

· والإحسان ضد الإساءة ويطلق هذا اللفظ في لسان العرب على معنيين:

- المعنى الأول: الإتقان والإجادة.

- والمعنى الثاني: التفضل والزيادة.

· قال الله تعالى: ﴿الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ [السجدة: 7] فالإحسان هنا يفسره قوله تعالى: ﴿صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ [النمل: 88] أتقن في تفاسير السلف بمعنى: أحكم وأحسن وسوى وأوثق وهي معان متقاربة.

· وقوله: ﴿الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى[الأعلى: 2] وقوله: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ[التين: 4] والتقويم هنا التعديل وتسوية الخلق بإجماع المفسرين، كما في قوله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ[الانفطار: 7] قرئ في السبع بالتخفيف والتشديد (فعدَّلك).

· وقال الحارث بن جحدر الحضرمي يصف قطيعاً من الظباء:

حِماشِ الشَوى نُجلِ العُيونِ سَوانِقٍ ... مِنَ البَقلِ حورٍ أَحسَنَ الخَلقَ خالِقُهْ

· ويقال: فلان أحسن صنعته إذا أتقنها وأجادها، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: (قيمة كل امرئ ما يحسنه).

· والذي يحسن العمل هو الذي يأتي به على وجه حسن، وهذا الوصف يصدق على المعنيين فيكون العمل متقناً ليس فيه إساءة، ويكون فيه معنى التكميل والتتميم والزيادة على القدر الواجب.

· فالذي يؤدي العبادة على القدر الواجب بحيث لا يكون مسيئاً فيها؛ فهو قد أحسنها، والذي يكمل آدابها ومستحباتها فهو محسن إحساناً أبلغ من الإحسان السابق.

· وهذا يدلك على أن الإحسان يتفاضل فيه الناس؛ فيكون عمل أحسن من عمل، وعبادة أحسن من عبادة.


ميزان الإحسان
· مدار الإحسان في كل عبادة على أمرين:
- الأمر الأول: الإخلاص لله تعالى بأن يؤديها كأنه يرى الله تعالى فإن لم يكن يراه فإن الله يراه.
- الأمر الثاني: اتباع هدي النبي صلى الله عليه وسلم في تلك العبادة بأدائها بلا غلو ولا تفريط.
· وهذا يكون في كل عبادة ومعاملة بحسبها.
· هدي النبي صلى الله عليه وسلم أحسن الهدي فمن جاوزه فهو غالٍ غير محسن، ومن من فرَّط فيه فهو جافٍ غير محسن؛ فالمتابعة تحفظ العبد من الغلو والتقصير.
· ونواقض الإحسان في العبادة: الشرك، والبدعة، والغلو، والتفريط.
· فالمشرك في عبادة الله تعالى شركاً أكبر أو أصغر غير محسن في عبادته بل هو مسيء غاية الإساءة، والمبتدع غير محسن، والغالي المتنطع غير محسن، والمفرط المتساهل غير محسن، فهؤلاء كلهم غير محسنين في أعمالهم.
- قال الله تعالى في المشركين: ﴿وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاء مَّنثُورًا [الفرقان: 23].
- وقال النبي صلى الله عليه وسلم في المبتدعة: (( من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد)) متفق عليه من حديث عائشة رضي الله عنها.
- وقال في الغلاة: (( هلك المتنطعون، هلك المتنطعون، هلك المتنطعون)) رواه مسلم من حديث ابن مسعود رضي الله عنه.
- وقال للمسيء صلاته: ارجع فصلّ فإنك لم تصل.
· يتفاضل المؤمنون في أعمال الإحسان لتفاضلهم في الإخلاص وتفاضلهم في إحسان المتابعة.


فضل الإحسان
· الإحسان أعلى مراتب الدين، وأسمى غايات السالكين، وثوابه أحسن الثواب فيالدنيا والآخرة، وأهله أحبّ الناس إلى الله وأسعدهم برحمته وفضله وبركاته.
· وقد نُقِلَ عن جماعة من السلف في بيان فضل بعض المحسنين أنهم لم يَسْبِقوا بكثرة صلاة ولا صيام وإنما بشيء وقر في قلوبهم.
· قال الله تعالى: ﴿الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ[الملك: 2]، وقال: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً[هود: 7]، وقال: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيَّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً[الكهف: 7].
- بيَّنَ الله تعالى أن الغاية من خلق الخلق ليبلونا أيّنا أحسن عملاً، وهي غاية أخصّ من مطلق العبادة.
· قال فضيل بن عياض: (﴿أَحْسَنُ عَمَلاً: أخلصه وأصوبه)، وقال: (العمل لا يقبل حتى يكون خالصًا صوابًا؛ الخالص: إذا كان لله، والصواب: إذا كان على السنة)ا.هـ.
· المراد من العبد هو إحسان العمل؛فكثرة العمل بلاإحسان من جهد البلاء، وقليلٌ حسنٌ يحبّه الله خير من كثير غير حسن.
· قال ابن القيم رحمه الله:

والله لا يرضى بكثرة فعلنا ... لكن بأحسنه مع الإيمان

فالعارفون مرادهم إحسانه ... والجاهلون عموا عن الإحسان

· من أعظم فضائل الإحسان أن الله يحبّ المحسنين، وقد تكرر ذكر أن الله ﴿يحبّ المحسنين في خمسة مواضع في القرآن الكريم، وهو أكثر عملٍ تكرر ذكر محبة الله لأهله.

· وذكر الله تعالى في خمسة مواضع أيضاً أنه لا يضيع أجر المحسنين.

· ومن فضائله قول الله تعالى: ﴿إن رحمة الله قريب من المحسنين [الأعراف: 56]، وقوله: ﴿هل جزاء الإحسان إلا الإحسان [الرحمن: 60] وقوله: ﴿ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى [النجم: 31] وقوله: ﴿للذين أحسنوا الحسنى وزيادة [يونس: 26] وقد فسّرت الزيادة برؤية الله جلّ وعلا، وهذه غاية الأماني وأحسن الثواب.

· من عاجل ثواب المحسنين ما يثيبهم به في الدنيا كما قال الله تعالى في موضعين من كتابه الكريم ﴿للذين أحسنوا في هذه الدنيا حسنة [النحل: 30].


درجات الإحسان

· الإحسان على درجتين من حيث حكمه:

· الدرجة الأولى: الإحسان الواجب، وهو أداء العبادة على القدر الواجب بإخلاص واتباع بلا غلوّ ولا تفريط؛ فمن أدى العبادة على هذا الوجه فهو محسن الإحسان الواجب فيها.

- والذي لا يؤدي هذا الإحسان ظالم لنفسه كما قسم الله تعالى الناس إلى فريقين لا ثالث لهما، محسن وظالم لنفسه مبين، كما قال تعالى في خليله إبراهيم: ﴿وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ[الصافات: 113]، وكل من المشرك والمبتدع والغالي والمفرّط قد وقعوا في ظلم أنفسهم.

· الدرجة الثانية: الإحسان المستحب، وهو أداء العبادة بتكميل واجباتها ومستحباتها وتعظيم النية فيها لله جل وعلا، فيكون في العبادة قوة إخلاص ومتابعة فيؤديها كأنه يرى الله عز وجل، فمن أدى العبادة على هذا الوجه فهو محسن، وهذا هو الإحسان المراد هنا.


خصال الإحسان في العبادات

إحسان الوضوء

· فإحسان الوضوء يكون بإسباغه وتكميل فروضه وآدابه وعدم مجاوزة القدر المشروع في عدد الغسلات.لما في مسند الإمام أحمد وسنن النسائي وابن ماجة من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال: جاء أعرابي إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن الوضوء؛ فأراه ثلاثا ثلاثا، ثم قال: (( هكذا الوضوء فمن زاد على هذا فقد أساء وتعدى وظلم)).

· الزائد على القدر المشروع غير محسن، والمقصر عنه غير محسن، والموسوس غير محسن.

إحسان الصلاة

· وإحسان الصلاة يكون بإقامتها وأدائها في أول وقتها، وتكميل واجباتها وآدابها وأن يصليها كأنه يرى الله عز وجل.

· من أخل بأركانها وواجباتها فليس بمحسن، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للمسيء صلاته: (( ارجع فصلّ فإنك لم تصل)) متفق عليه.

· والساهي عن الصلاة غير محسن، والذي لا يخشع في صلاته غير محسن.

· وفي صحيح مسلم عن عمرو بن سعيد بن العاص قال: كنت عند عثمان فدعا بطَهور فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (( ما من امرئٍ مسلمٍ يحضره صلاة ٌ مكتوبة فيحسن وضوءها وخشوعها وركوعها إلا كانت كفارة َ لما قبلها من الذنوب ما لم يُؤتَ كبيرة، وذلك الدهر كله)).

· وعن نافع مولى ابن عمر قال: سمعت ابن عمر يقول: أتى رجلٌ النبيَّ صلى الله عليه وسلم؛ فقال: يا رسول الله حدِّثني بحديث واجعله موجزًا؛ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (( صلِّ صلاةَ مودِّع؛ فإنَّك إن كنت لا تراه فإنه يراك، وأيّس مما في أيدي الناس تكن غنيًّا، وإياك وما يُعتذر منه)). رواه الطبراني والبيهقي في الزهد والخطيب البغدادي والضياء المقدسي وحسَّنه الألباني.

· وفي مسند الإمام أحمد وسنن ابن ماجه من حديث أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (( صل صلاة مودع كأنك تراه فإن كنت لا تراه فإنه يراك))

· قال بكرٌ المزنيُّ: (إذا أردت أنْ تنفعَك صلاتُك فقل: لعلِّي لا أُصلِّي غيرها).

· وكان من فقه بعض الصحابة رضي الله عنهم أنهم يخففون الصلاة إذا خافوا الوسواس؛ كما روى الطحاوي في مشكل الآثار عن أبي رجاء العطاردي قال: قلت للزبير بن العوام رضي الله عنه: ما لي أراكم يا أصحاب محمد من أخف الناس صلاة؟

فقال: (نبادر الوسواس).

· ويوضحه ما في الحلية لأبي نعيم عن أنس قال: كنَّا إذا صلَّينا خلفَ الزبير بن العوام فأخف الصلاة قلت: يا أصحاب محمد ما لي أراكم أخف الناس صلاة؟ قال: (إنا نبادر الوسواس، ولكنكم أهلَ العراق يطيل أحدكم الصلاة حتى يغيب في صلاته).

· فالصلاة الموجزة التامة التي يحسنها صاحبها خير من الصلاة الطويلة التي لا يحسنها.

إحسان النفقة

· الإحسان في الإنفاق يكون بأدائه احتساباً لله عز وجل خوفاً وطمعاً لا يريد ممن أحسن إليه جزاء ولا شكوراً، ولا يُتْبِعُ نفقَتَه منًّا ولا أذى.

· في النفقة عملان عمل للقلب وعمل للجوارح؛ فعمل القلب ألا يريد بالنفقة إلا وجه الله تقرباً إليه خوفاً وطمعاً، لا يريد ممن أنفقه عليهم جزاء ولا شكوراً.

- قال الله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ [المؤمنون: 60].

- وقال عن عباده الأبرار: ﴿إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) [الإنسان: 9-11].

· الإحسان إلى الناس خوفاً من الله عز وجل يطهر القلب من العجب والغرور والتعالي بالنفقة والمفاخرة والمباهاة بها.

· وبهذا تعلم أنه ليس كل منفق محسناً، بل من الناس من ينفق الأموال الكثيرة في وجوه الخير وتكون وبالاً عليه وعذاباً يعذَّب به، لفساد قصده ونيَّته، وفساد سلوكه في الإنفاق، وكل ذلك مخالف للإحسان.

· مما يفسد النية في الإنفاق:الرياء والفخر والعجب والتعالي.

· ومما يبطل ثواب الصدقة: المنّ والأذى، والمنّ من الأذى لأن الذي يُمنّ عليه يتأذى بذلك، وفيه أيضاً سوء أدب مع الله عز وجل.

· والأذى في الإنفاق وصف جامع لخصال كثيرة منها:

- المنّ وهو أعظمها وهو من كبائر الذنوب، والذي ينظر إلى أن ماله منَّة مِنَ الله تعالى عليه، استخلفه فيه لينظر كيف يعمل في هذه الأمانة لا يمنّ بإنفاقه، وإنما يمنّ من غفل عن هذا الأمر العظيم؛ قال الله تعالى: ﴿آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ [الحديد: 7].

- ومن الأذى في الإنفاق: المماطلة فيه، والتعالي بالنفقة على المحتاج، والتعسير عليه في أخذها، حتى لا يكاد يأخذ المحتاج حقَّه إلا بشق الأنفس.

وقد قيل:

وأفضلّ البرِّ ما لا مَنَّ يتبعه ... ولا تقدَّمه شيء من المطَل

- ومن الأذى: أن يخرج ما تعافه نفسه من رديء ما يملك، وقد أمر الله بالإنفاق من طيب المال، كما قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآَخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ[البقرة: 267].

· تعترض المنفق فتنتان عند إرادة الإنفاق: إحداهما: وسوسة من الشيطان ليكون إنفاقه لغير وجه الله تعالى، والأخرى: الشح والتردد؛ ومن وقع في إحداهما كان مسيئاً غير محسن.

· وقد وعد الله تعالى المحسنين في الإنفاق بالفضل العظيم كما قال تعالى: ﴿الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)[البقرة: 262-264].

- وهذا المثل من أبلغ الأمثلة وأعظمها عبرة، والعرب تشّبه قليل الخير والبركة من الناس بالصفا الأصلد الذي لا ينبت كلأً ولا يوري ناراً.

قال تأبط شراً: وَلَستُ بجلبٍ جلبِ ريحٍ وقرَّةٍوَلا بصَفاً صَلدِ عَنِ الخَيرِ معزلِ

- الجِلْبُ: هو السَّحَاب المعترض كأنه جَبَل، يُرى عظيماً ولا ماءَ فيه ولانفع، وإنما يجلبُ الريح والبرْد، ويُضْرَبُ مثلاً للذي يَعِدُ الوعود العظيمة وهو في حقيقة الأمر يؤذي ولا ينفع؛ كما قال نهشل الدارمي:

كَجِلبِ السوءِ يُعْجِبُ مَنْ رآهُ ... وَلا يَسْقِي الحَوَائِم مِن لَمَاقِ

الحوائم: الطيور الحائمة، واللَّماق: المُذْقَة اليسيرة.

- والشاهد قوله: (ولا بصفا صلد عن الخير معزلِ)

- والصفا الصلد هو: الحجر الكبير الصلب الأملس لا ينبت كلأ ولا يوري ناراً، تجعله العرب مثلاً للرجل الذي لا يُنتفع به.

- ومما يوضح هذا المعنى قول الحطيئة:

لا يُبعِدِ اللهُ مَن يُعطي الجزيلَ ومَن ... يَحبو الجَليلَ وما أَكْدَى وَلا نَكدا

وَمَن تُلاقيهِ بِالمَعروفِ مُبتَهِجاً ... إِذا اجرَهَدَّ صَفا المَذمُومِ أَو صَلَدا

- وقال الأصمعي: (صَلَدَ الزّنادُ إذا صَوَّت ولم يخرج ناراً).

- فقوله تعالى: ﴿فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا[البقرة: 264]؛ أي إن مثل هذا المنفق المغترّ بنفقته، وهو يظنّ أنها تنفعه -وقد أبطلها بالمن والأذى-كمثل صفوان صلد لا نفع فيه ولا خير، إذْ كان ما فعله من الخير باطلاً، وإنما هو كتراب غطَّى الصفوان فلما أصابه المطر تبيَّنت حقيقته وبقي صلداً؛ فهذا مثَل المسيء في نفقته.

- وأما مثل المحسن فكما قال الله تعالى: ﴿وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآَتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ [البقرة: 265]؛ نسأل الله من فضله.

- وتأمَّل كيف شبَّه الله تعالى آياته ومواعظه بالماء الذي إذا نزل على مكان طيّب صالحٍ للنبات قد ثُبّت غرسه فإنه ينفعه ويثمره وينميه، وأما الصفوان الأصلد الذي غطي بالتراب فإنه يكشفه على حقيقته ويعرّيه.

- فالمحسن في نفقته كالذي يغرس في جنة طيبة مباركة، قد ثبت غرسها تثبيتاً حتى استقر في تلك الأرض الطيبة فكان ما يصيبها من الماء نافعا لها منبتاً لغرسها حتى ينمو نباتها ويؤتي ثماره ضعفين.

- وأما المسيء في نفقته فمحلّ غرسه خبيث لا يستقر فيه الغرس وإنما هو كتراب على صفوان؛ يغترّ به صاحبه فإذا أصابه المطر تركه صلداً لا أثر فيه لنبات ولا غرس، ولا تُرجى منه ثمرة، ولا يقدر منه على شيء.

- فانظر إلى اختلاف آثار آيات القرآن الكريم على قلوب العباد فمنتفع بها مبارك له فيها، ومحروم من بركتها معذَّب بها، والعياذ بالله.

· من الإحسان في الإنفاق أن يكون المنفق مبادراً بنفقته فرب مال قليل يكون أعظم عند الله لأنه أُنفق في وقت حاجة شديدة فسبق به صاحب المال الكثير.

· من الإحسان في النفقة أن يكون المنفق في حال إنفاقه مستشعر الخوف من الله واليقين بالرجوع إليه، ويرجو بنفقته أن يصرف الله عنه عذابه ويمنَّ عليه بالقبول وتزكية النفس.

· قال تعالى: ﴿والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة[المؤمنون: 60] وقال: ﴿الذي يؤتي ماله يتزكى [الليل: 18] وقال: ﴿خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها [التوبة: 13] وقال: ﴿ويتخذ ما ينفق قربات عند الله..[التوبة: 99] الآية.


إحسان الجهاد في سبيل الله
· يُعرف إحسان عبادة الجهاد بما دلَّ عليه الكتاب العزيز، وما دلَّت عليه السنة النبوية الشريفة، وبما عرف من سير الأئمة الذين أحسنوا الجهاد في سبيل الله.
· الجهاد في سبيل الله ذروة سنام الإسلام، ومظهر عزته، ولا يخلو حال العبد المؤمن من حالة من حالات الجهاد؛ فهو بين استصحابها، واستصحاب حكمها.
· قال الله تعالى: ﴿وجاهدوا في الله حق جهاد هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج [الحج: 78] وقال تعالى: ﴿وجاهدوا في سبيل الله لعلكم تفلحون [المائدة: 35]، وقال تعالى: ﴿إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أؤلئك هم الصادقون [الحجرات: 15].
· في الجهاد ينقسم المؤمنون إلى مستطيع للجهاد بماله ونفسه، ومستطيع بأحدهما، ومن لا يستطيع بماله ولا بنفسه، وكل هؤلاء يمكنهم إدارك مرتبة الإحسان فيه.
· من رحمة الله عز وجل أن يسَّر السبيل لهؤلاء الأصناف الثلاثة لبلوغ مرتبة الإحسان، وعلى كل صنف أعمال إذا قاموا بها بلغوا بها مرتبة الإحسان في الجهاد.
· جمع الله خصال الإحسان في الجهاد بالنفس في قوله تعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآَتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآَخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148) [آل عمران: 146-148].
- ربيون أي جماعات كثيرة، وقيل: هم العلماء الأتقياء يقال لهم ربيون وربانيون.
· دلت هذه الآيات على أن المجاهد الذي يقوم بهذه الخصال من المحسنين الذين يحبهم الله عز وجل.
· صفات إحسان القتال المذكورة في الآية ترجع إلى تحقيق الصبر واليقين.
- الصبر يحمل على عدم الوهن والضعف والاستكانة.
- واليقين يحمل على تحقيق الاستعانة بالله واتباع هداه على نور وبصيرة.
· قدَّموا الاستغفار ليقينهم بأنهم إن خذلوا فإنما خذلانهم من قبل أنفسهم بتفريطهم وتقصيرهم ومخالفتهم هدى الله فيما وصَّاهم به، فاستغفروا الله تعالى من الأسباب الموجبة للخذلان، وسألوه الثبات والنصر على الكافرين لتكون كلمة الله هي العليا.
· القيام بهذه العبادات العظيمة يُذهب عن القلب العجب والغرور والرياء والسمعة وإرادة الدنيا بعمل الآخرة لأنه يعلم أنه متى وقع فيها كان على خطر من الخذلان والانتكاس.
· فمن قام بهذه الأمور فهو محسن في جهاده، وقد وعد الله من كان هذا حاله بثواب الدنيا والآخرة، وأخبره بأنه ممن يحبهم، وهذه المحبة لها لوازمها وآثارها وفضلها العظيم الذي لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، فيكفي تنبيهاً على فضلها العلم بها.
· وَسَرّح نظرك في معاني هذه المحبة وآثارها وفضائلها تجدها تجمع من أسباب السعادة في الدنيا والآخرة ما لا يبلغه وصف واصف، ولا يحيط به خيال متخيّل.
· وغاية مطالب السالكين وأشرف مقاماتهم أن يكونوا من المحسنين الذين يحبهم الله تبارك وتعالى؛ فهؤلاء المجاهدون المحسنون الذين يطيقون الجهاد في سبيل الله عز وجل.
· من حقق صفات الإحسان في الجهاد أصاب حقيقة الجهاد في سبيل الله؛ فأخلص لله واتبع هداه؛ وأورثه ذلك شجاعة عظيمة وإقداما عجيباً وكان ذلك فاتحة لكرامات عظيمة؛ فبين المجاهد في سبيل الله وبين ربّه عهود عظيمة في الدنيا والآخرة لا يخلفها الله أبداً، يراها من أحسن الجهاد ويؤمن بها، ويعمى عنها غيره.
· مما طمأن الله به المجاهدين ليقدموا ولا يخافوا أنهم لا يجدون من ألم القتل إلا كما يجد أحدنا ألم القَرصة، وهو ألم يسير محتمل، فمن آمن بذلك أقدم.
· عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( ما يجد الشهيد من ألم القتل إلا كما يجد أحدكم من ألم القَرْصَة)). رواه الدارمي وابن حبان وصححه الألباني.
· أخوف ما يخافه المجاهد أن يخذل بسبب ذنوبه، ﴿إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا [آل عمران: 155].
· القسم الثاني: الجهاد بالمال، وشأنه عظيم في الإسلام، وهو من علامات صدق الإيمان، قال الله تعالى: ﴿وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله[التوبة: 41]، وقال تعالى: ﴿وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا إن الله يحب المحسنين [البقرة: 195] فينبغي أن نتعلم كيف نحسن الإنفاق في سبيل الله.
· يكون الإحسان في الإنفاق بإحسان القصد، وإحسان الحال، وإحسان طريقة الإنفاق، ومنه قدر واجب يأثم المسيء فيه، ومنه مستحب لصاحبه فضل عظيم.
· إحسان القصد يكون بإنفاق المال ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من النفس؛ فبالأول يتحقق الإخلاص، وبالثاني يكون المنفق صادقاً موقناً غير متردد.
· وقد تقدّم الحديث عن إحسان حال الإنفاق وإحسان طريقته.
· وأما القسم الثالث: فهم الذين لا يطيقون الجهاد لضعف أو مرض أو قلة نفقة؛ وهولاء لم يحرمهم الله بلوغ مرتبة الإحسان في الجهاد.
· يبلغون مرتبة الإحسان بالنصيحة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم كما قال الله تعالى: ﴿لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ(91) [التوبة: 91].
· والنصيحة تجمع معنى الصدق والإخلاص: إخلاص القصد لله عز وجل، والصدق في محبة الله عز وجل ونصرة دينه وإعلاء كلمته، فلا ينطوي قلبُه على غشّ ولا تخاذل عن نصرة دين الله عز وجل متى استطاع إلى ذلك سبيلا، ولا يؤثر القعود وهو يستطيع، فمن علم الله ذلك من قلبه فهو من المحسنين كما قال الله تعالى: ﴿ما على المحسنين من سبيل [التوبة: 91].
· إذا نصح العبد لله ورسوله وصدقت عزيمته وإنما منعه العذر كتبت له نيَّته كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( إن بالمدينة أقواماً ما سرتم مسيرا ولا قطعتم واديا إلا كانوا معكم... حبسهم العذر)) رواه البخاري.
· فإحسان هؤلاء هو النصيحة لله عز وجل، وهذه المرتبة من الإحسان ممكنة للمحسنين في كل وقت، ولا تكلفهم أكثر من إخلاص القصد وصدق العزيمة، وإنما يحرم خيرها وفضلها من حُرم.
· يخطئ من يظنّ أن المراد بالمحسنين في هذه الآية المنفقون ومن يتطوَّع لعمل الخير مطلقاً؛ لأنَّ هذه الآية نصٌّ في وصف الضعفاء والمرضى والذين لا يجدون ما ينفقون بأنهم محسنون بشرط النصيحة لله عز وجل ولرسوله صلى الله عليه وسلم.
· قال الله تعالى: ﴿إنما السبيل على الذين يستأذنونك وهم أغنياء...[التوبة: 93] الآية؛ هؤلاء الأغنياء مسيئون غير محسنين وإن استأذنوا واعتذروا ببعض الأعذار.