10 Dec 2008
الدرس الخامس عشر: بركة العلم
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (31- اللجوءُ إلى اللهِ تعالى في الطَّلَبِ والتحصيلِ :
لا
تَفْزَعْ إذا لم يُفْتَحْ لك في علْمٍ من العلومِ ؛ فقد تَعاصَتْ بعضُ
العُلومِ على بعضِ الأعلامِ المشاهيرِ ، ومنهم مَن صَرَّحَ بذلك كما
يُعْلَمُ من تَرَاجِمِهم، ومنهم : الأَصْمَعِيُّ في عِلْمِ العَروضِ
والرُّهاويُّ المحدِّثُ في الْخَطِّ ، وابنُ صالحٍ في الْمَنْطِقِ ، وأبو
مسلِمٍ النحويُّ في عِلْمِ التصريفِ والسيوطيُّ في الْحِسابِ ، وأبو
عُبيدةَ ، ومحمَّدُ بنُ عبدِ الباقي الأنصاريُّ ، وأبو الحسَنِ القَطيعيُّ ،
وأبو زَكَرِيَّا يَحْيَى بنُ زِيادٍ الفَرّاءُ ، وأبو حامدٍ الغزاليُّ ،
خَمْسَتُهُم لم يُفْتَحْ لهم بالنحوِ .
فيا أيُّها الطالِبُ ! ضاعِف الرَّغبةَ ، وافْزَعْ إلى اللهِ في الدعاءِ واللجوءِ إليه والانكسارِ بينَ يَدَيْهِ .وكانَ
شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى ، كثيرًا ما يَقولُ في
دعائِه إذا اسْتَعْصَى عليه تفسيرُ آيةٍ من كتابِ اللهِ تعالى : (
اللَّهُمَّ يَا مُعَلِّمَ آدَمَ وإبراهيمَ عَلِّمْنِي ، ويا مُفَهِّمَ
سليمانَ فَهِّمْنِي. فيَجِدُ الْفَتْحَ في ذلك ) .
32- الأمانةُ العلْمِيَّةُ :
يَجِبُ على طالبِ العلْمِ ، فائِقُ التحَلِّي بالأمانةِ العِلْمِيَّةِ ، في الطلَبِ والتحَمُّلِ والعمَلِ والبلاغِ ، والأداءِ :
( فإنَّ
فَلاحَ الأُمَّةِ في صَلاحِ أعمالِها ، وصلاحَ أعمالِها في صِحَّةِ
عُلُومِها ، وصِحَّةَ عُلومِها في أن يكونَ رجالُها أُمناءَ فيما يَرْوُونَ
أو يَصِفُونَ، فمَن تَحَدَّثَ في العِلْمِ بغيرِ أمانةٍ ؛ فقد مَسَّ
العلْمَ بقُرحةٍ ووَضَعَ في سبيلِ فَلاحِ الأُمَّةِ حَجَرَ عَثْرَةٍ ) .
لا
تَخلُو الطوائفُ المنتمِيَةُ إلى العلومِ من أشخاصٍ لا يَطلبونَ العِلْمَ
ليَتَحَلَّوْا بأَسْنَى فضِيلَةٍ ، أو ليَنْفَعُوا الناسَ بما عَرَفُوا من
حِكمةٍ ، وأمثالُ هؤلاءِ لا تَجِدُ الأمانةُ في نفوسِهم مُسْتَقَرًّا ، فلا
يَتَحَرَّجُون أن يَرْوُوا ما لم يَسْمَعُوا أو يَصِفُوا ما لم يَعْلَمُوا
، وهذا ما كان يَدْعُو جهابذةَ أهلِ العلْمِ إلى نَقْدِ الرجالِ ،
وتَمييزِ مَن يُسْرِفُ في القوْلِ مِمَّنْ يَصوغُه على قَدْرِ ما يَعْلَمُ ،
حتى أَصْبَحَ طُلَّابُ العِلْمِ على بَصيرةٍ من قِيمةِ ما يَقرؤونَه ، فلا
تَخْفى عليهم مَنْزِلَتُه ، من القطْعِ بصِدقِه أو كَذِبِه ، أو رُجحانِ
أحدِهما على الآخَرِ ، أو احتمالِهما على سواءٍ ) اهـ .
33- الصِّدْقُ :
صِدْقُ
اللهجةِ : عُنوانُ الوَقارِ وشَرَفُ النفْسِ ، ونقاءُ السَّريرةِ وسُمُوُّ
الْهِمَّةِ ورُجحانُ العَقْلِ ، ورسولُ الْمَوَدَّةِ من الْخَلْقِ ،
وسعادةُ الجماعةِ وصِيانةُ الديانةِ ، ولهذا كان فَرْضُ عينٍ ، فيا
خَيْبَةَ مَن فَرَّطَ فيه ، ومَن فَعَلَ فقد مَسَّ نفسَه وعِلْمَهُ بأَذًى .
قالَ الأوزاعيُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( تَعَلَّمِ الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العِلْمَ ) .
وقالَ وَكيعٌ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( هذه الصَّنْعَةُ لا يَرتفِعُ فيها إلا صادقٌ ) .
فتَعَلَّمْ
– رَحِمَكَ اللهُ – الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العلْمَ ، والصدْقُ :
إلقاءُ الكلامِ على وَجْهٍ مُطابِقٍ للواقِعِ والاعتقادِ ، فالصدْقُ من
طريقٍ واحدٍ ، أمَّا نقيضُه الكَذِبُ فضُروبٌ وألوانٌ ومَسالِكُ وأَوديةٌ ،
يَجْمَعُها ثلاثةٌ :
كَذِبُ
الْمُتَمَلِّقِ : وهو ما يُخالِفُ الواقِعَ والاعتقادَ ، كمن يَتَمَلَّقُ
لِمَنْ يَعْرِفُه فاسقًا أو مُبْتَدِعًا فيَصِفُه بالاستقامةِ .
وكَذِبُ المنافِقِ : وهو ما يُخالِفُ الاعتقادَ ويطابِقُ الواقعَ كالمنافِقِ يَنْطِقُ بما يقولُه أهلُ السُّنَّةِ والهدايةِ .
وكَذِبُ الغَبِيِّ : بما يُخالِفُ الواقِعَ ويُطابِقُ الاعتقادَ ، كمَن يَعتقِدُ صلاحَ صُوفِيٍّ مبتدِعٍ فيَصِفُه بالوَلايةِ .
فالْزَم
الْجَادَّةَ ( الصدْقَ ) ، فلا تَضْغَطْ على عَكَدِ اللسانِ ، ولا تَضُمَّ
شَفَتَيْكَ ، ولا تَفتَحْ فاكَ ناطقًا إلا على حُروفٍ تُعَبِّرُ عن
إحساسِك الصادِقِ في الباطِنِ ؛ كالحُبِّ والبُغْضِ ، أو إحساسِك في
الظاهِرِ ؛ كالذي تُدْرِكُه الحواسُّ الخمْسُ : السمْعُ، البَصَرُ ، الشمُّ
، الذَّوْقُ ، اللمْسُ .فالصادقُ لا يقولُ : ( أَحْبَبْتُكَ ) وهو مُبْغِضٌ ، ولا يقولُ : ( سَمِعْتُ ) وهو لم يَسْمَعْ ، وهكذا .
واحْذَرْ أن تَحومَ حولَك الظنونُ ، فتَخونَك العزيمةُ في صِدْقِ اللهجةِ ، فتُسَجَّلَ في قائمةِ الكذابينَ .وطريقُ
الضَّمانةِ لهذا – إذا نَازَعَتْكَ نفسُك بكلامٍ غيرِ صادقٍ فيه - : أن
تَقْهَرَهَا بذِكْرِ مَنزِلَةِ الصدْقِ وشَرَفِه ورَذيلةِ الكَذِبِ
ودَرَكِه ، وأنَّ الكَاذِبَ عن قريبٍ يَنْكَشِفُ .
واستَعِنْ باللهِ ولا تَعْجِزَنَّ .ولا تَفْتَحْ لنفسِك سابلةَ الْمَعارِيضِ في غيرِ ما حَصَرَه الشرْعُ .
فيا
طالبَ العلْمِ ! احْذَرْ أن تَمْرُقَ من الصدْقِ إلى الْمَعارِيضِ
فالْكَذِبِ ، وأَسوأُ مَرَامِي هذا الْمُروقِ ( الكَذِبُ في العلمِ ) ؛
لداءِ مُنافَسَةِ الأقرانِ وطَيَرانِ السُّمعةِ في الآفاقِ .
ومَن
تَطَلَّعَ إلى سُمْعَةٍ فوقَ مَنْزِلَتِه ؛ فلْيَعْلَمْ أنَّ في
الْمِرصادِ رِجالًا يَحْمِلون بصائرَ نافذةً ، وأقلامًا ناقدةً ،
فيَزِنُونَ السُّمعةَ بالأَثَرِ ، فتَتِمُّ تَعريتُك عن ثلاثةِ معانٍ :
فَقْدُ الثقةِ من القلوبِ .
ذَهابُ عِلْمِكَ وانحسارُ القَبولِ .
أن لا تُصَدَّقَ ولو صَدَقْتَ .
وبالجملةِ ؛ فمَن يَحترِفْ زُخرُفَ القولِ ؛ فهو أَخُو الساحرِ ، ولا يُفْلِحُ الساحرُ حيث أَتَى، واللهُ أَعْلَمُ .
34-جُنَّةُ طالِبِ العلْمِ :
جُنَّةُ العالِمِ ( لا أَدْرِي ) ويَهْتِكُ حِجابَه الاستنكافُ منها ، وقولُه: يُقالُ .....
وعليه ؛ فإن كان نِصْفُ العلْمِ ( لا أَدْرِي ) ؛ فنِصْفُ الجهْلِ ( يُقالُ ) و( أَظُنُّ ) .
35- المحافَظَةُ على رأسِ مالِك ( ساعاتِ عُمُرِك) :
الوقتَ الوقتَ للتحصيلِ ، فكن حِلْفَ عمَلٍ لا حِلْفَ بَطالةٍ وبَطَرٍ ، وحِلْسَ مَعْمَلٍ لا حِلْسَ تَلَهٍّ وسَمَرٍ ، فالْحِفْظُ على الوَقْتِ ؛ بالجِدِّ والاجتهادِ ومُلازَمَةِ الطلبِّ ، ومُثافَنَةِ الأشياخِ ، والاشتغالِ بالعلْمِ قراءةً وإقراءً ومطالَعَةً وتَدَبُّرًا وحِفْظًا وبَحْثًا ، لا سِيَّمَا في أوقاتِ شرْخِ الشبابِ ، ومُقْتَبَلِ العُمْرِ ، ومَعْدِنِ العافيةِ ، فاغْتَنِمْ هذه الفرصةَ الغاليةَ ، لتنالَ رُتَبَ العلْمِ العاليةَ ؛ فإنها ( وقتُ جَمْعِ القلبِ ، واجتماعِ الفِكْرِ ) ؛ لقِلَّةِ الشواغِلِ والصوارِفِ عن التزاماتِ الحياةِ والتَّرَؤُّسِ ، ولِخِفَّةِ الظَّهْرِ والعِيالِ :
ما للمُعيلِ وللعوالِي إنمـا ... يَسْعَى إليهنَّ الفريدُ الفارِدُ
وإيَّاك وتأميرَ التسويفِ على نفسِك ؛ فلا تُسَوِّفْ لنفسِكَ بعدَ الفراغِ من كذا ؛ وبعدَ ( التقاعُدِ ) من العَمَلِ هذا ... وهكذا ، بل البِدارَ قبلَ أن يَصْدُقَ عليك قولُ أبي الطَّحَّانِ القَيْنيِّ :
حَنَتْنِي حانياتُ الدهْرِ حَتَّـى ... كأني خَاتِـلٌ أَدْنُـو لصَيْـدٍ
قصيرُ الْخَطْوِ يَحْسَبُ مَن رآنِي ... ولسْتُ مُقَيَّـدًا أنِّـي بِقَيْـدِ
وقال أُسامةُ بنُ مُنْقِذٍ:
مع الثمانينَ عاثَ الضعْفُ في جَسَدِي ... وساءني ضَعْفُ رِجْلِي واضطرابُ يَدِي
إذا كَتَبْتُ فخَطِّي خـطُّ مُضْطَـرِبٍ ... كخـطِّ مُرْتَعِـشِ الكَفَّيْـنِ مُرْتَعِـدِ
فاعْجَبْ لضَعْفِ يَدِي عن حَمْلِها قَلَمًا ... من بعدِ حَمْلِ الْقَنَا في لَبَّـةِ الأسَـدِ
فقلْ لِمَـن يَتَمَنَّـى طُـولَ مُدَّتِـهِ ... هذي عَواقِبُ طُولِ العُمُـرِ والْمُـدَدِ
فإن أَعْمَلْتَ البِدارَ فهذا شاهدٌ منك على أنك تَحْمِلُ ( كِبَرَ الهمَّةِ في العِلْمِ ) .
اللجوءُ إلى اللهِ تعالى في الطَّلَبِ والتحصيلِ
المتن:
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (لا
تَفْزَعْ إذا لم يُفْتَحْ لك في علْمٍ من العلومِ ؛ فقد تَعاصَتْ بعضُ
العُلومِ على بعضِ الأعلامِ المشاهيرِ ، ومنهم مَن صَرَّحَ بذلك كما
يُعْلَمُ من تَرَاجِمِهم، ومنهم : الأَصْمَعِيُّ في عِلْمِ العَروضِ
والرُّهاويُّ المحدِّثُ في الْخَطِّ ، وابنُ صالحٍ في الْمَنْطِقِ ، وأبو
مسلِمٍ النحويُّ في عِلْمِ التصريفِ والسيوطيُّ في الْحِسابِ ، وأبو
عُبيدةَ ، ومحمَّدُ بنُ عبدِ الباقي الأنصاريُّ ، وأبو الحسَنِ القَطيعيُّ ،
وأبو زَكَرِيَّا يَحْيَى بنُ زِيادٍ الفَرّاءُ ، وأبو حامدٍ الغزاليُّ ،
خَمْسَتُهُم لم يُفْتَحْ لهم بالنحوِ .
فيا أيُّها الطالِبُ ! ضاعِف الرَّغبةَ ، وافْزَعْ إلى اللهِ في الدعاءِ واللجوءِ إليه والانكسارِ بينَ يَدَيْهِ .وكانَ
شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى ، كثيرًا ما يَقولُ في
دعائِه إذا اسْتَعْصَى عليه تفسيرُ آيةٍ من كتابِ اللهِ تعالى : (
اللَّهُمَّ يَا مُعَلِّمَ آدَمَ وإبراهيمَ عَلِّمْنِي ، ويا مُفَهِّمَ
سليمانَ فَهِّمْنِي. فيَجِدُ الْفَتْحَ في ذلك ) .
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
31- اللجوء إلى الله تعالى في الطلب والتحصيل:
لا
تفزع إذا لم يفتح لك في علم من العلوم، فقد تعاصت بعض العلوم على بعض
الأعلام المشاهير، ومنهم من صرح بذلك كما يعلم من تراجمهم، ومنهم: الأصمعي
في علم العروض، والرهاوي المحدث في الخط، وابن الصلاح في المنطق، وأبو مسلم
النحوي في علم التصريف، والسيوطي في الحساب، وأبو عبيدة، ومحمد بن عبد
الباقي الأنصاري، وأبو الحسن القطيعي، وأبو زكريا يحيي بن زياد الفراء،
وأبو حامد الغزالي، خمستهم لم يفتح لهم بالنحو.
لكن هذا لا يضر... ما دمنا نطلب الفقه لا
يضرنا أن نتكلم بكلام أو ألا نعرف النحو. لكن لا شك إذا تكلم بكلام مطابق
للغة العربية فإن كلامه يكون مقبولا محبوبا للنفس، والإنسان الذي يعرف
العربية أكره ما يسمع أن يتكلم الإنسان ويلحن يكره الكلام من هذا الرجل
كراهية عظيمة.
فإن عجزت عن فن فالجأ إلى الله عز وجل،
ومر علينا في خلاف الأدباء أن أحد أئمة النحو- إذا لم يكن الكسائي- فهو
مثله، طلب النحو وعجز عن إدراكه في يوم من الأيام رأى نملة تريد أن تصعد
بطعم لها من الجدار فكلما صعدت سقطت ثم تأخذ هذا الطعم وتمشي ثم تسقط ثم
تصعد وربما كل مرة تقول: أرفع قليلا حتى اقتحمت العقبة وتجاوزته، فقال: إذا
كانت هذه تحاول وتفشل عدة مرات ولكنها استمرت حتى انتهى أمرها، فرجع إلى
علم النحو وتعلمه حتى صار من أئمته.
فأنت تحاول لا تقول عجزت هذه المرة، تعجز هذه المرة، لكن المرة الثانية يقرب لك الأمر.
فيا أيها الطالب! ضاعف
الرغبة، وافزع إلى الله في الدعاء واللجوء إليه والانكسار بين يديه. وكان
شيخ الإسلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- كثيرا ما يقول في دعائه إذا
استعصى عليه تفسير آية من كتاب الله تعالى:«اللهم يا معلم آدم وإبراهيم
علمني، ويا مفهم سليمان فهمني». فيجد الفتح في ذلك.
وهذا من باب التوسل بأفعال الله، والتوسل بأفعال الله جائز، لأن التوسل جائز وممنوع، وإن شئت فقل: مشروع وغير مشروع.
التوسل إلى الله بأسماءه وصفاته وأفعاله
من المشروع، وكذلك التوسل إلى الله تعالى بذكر شكوى الحال وأنه مفتقر إليه،
والتوسل إلى الله بالإيمان به، والتوسل إلى الله تعالى بالعمل الصالح،
والتوسل إلى الله تعالى بدعاء من يرجي استجابة دعاءه.كل هذا مشروع.
تم التهذيب بواسطة زمزم
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله
القارئ: (قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
31- اللجوءُ إلى اللهِ تعالى في الطَّلَبِ و التحصيلِ :
لاتَفْزَعْ
إذا لم يُفْتَحْ لك في علْمٍ من العلومِ ؛ فقد تَعاصَتْ بعضُ العُلومِ على
بعضِ الأعلامِ المشاهيرِ ، ومنهم مَن صَرَّحَ بذلك كما يُعْلَمُ من
تَرَاجِمِهم ، ومنهم : الأَصْمَعِيُّ في عِلْمِ العَروضِ والرُّهاويُّ
المحدِّثُ في الْخَطِّ ، وابنُ صالحٍ في الْمَنْطِقِ ، وأبو مسلِمٍ
النحويُّ في عِلْمِ التصريفِ والسيوطيُّ في الْحِسابِ ، وأبو عُبيدةَ ،
ومحمَّدُ بنُ عبدِ الباقي الأنصاريُّ ، وأبو الحسَنِ القَطيعيُّ ، وأبو
زَكَرِيَّا يَحْيَى بنُ زِيادٍ الفَرّاءُ ، وأبو حامدٍ الغزاليُّ ،
خَمْسَتُهُم لم يُفْتَحْ لهم بالنحوِ .
فياأيُّها
الطالِبُ ! ضاعِف الرَّغبةَ ، وافْزَعْ إلى اللهِ في الدعاءِ واللجوءِ
إليه والانكسارِ بينَ يَدَيْهِ .وكانَ شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه
اللهُ تعالى ، كثيرًا ما يَقولُ في دعائِه إذا اسْتَعْصَى عليه تفسيرُ آيةٍ
من كتابِ اللهِ تعالى : (اللَّهُمَّ يَا مُعَلِّمَ آدَمَ وإبراهيمَ
عَلِّمْنِي ، ويا مُفَهِّمَ سليمانَ فَهِّمْنِي. فيَجِدُ الْفَتْحَ في ذلك)
.
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (هذا الأدب متعلق بصعوبة بعض المسائل أو بعض الفنون ، هل تكون عائقا لطالب العلم عن مواصلة العلم ، نقول : لا، لماذا؟
لأنه أولا : طلب العلم لله ، فمقصوده الأساسي هو الأجر والثواب ، وهذا حاصل على كل حال ولو لم يفهم العلم.
ثانيا :
كيف نعالج ، أو ثانيا نقول : العلم مسائل متعددة ، وفنون مختلفة ، فإذا
استعصى عليك فن وفهمت غيره ، أو استعصت عليك مسألة وفهمت غيرها ، فحينئذ
أنت قد حصّلت ولا لوم عليك في ذلك.
ماذا نفعل عند استعصاء بعض العلوم والفنون؟
أولا :
نواصل العلم والتعلم في بقية العلوم وبقية المسائل ، وهذه المسألة التي
استشكلت علينا نتركها ، حتى يأتي وقت فهمها ، فكونك تريد فهم مسألة ،
فتعيقك عن فهم بقية المسائل ، ليس من العقل في شيء ، فاتركها حتى يأتي سبيل
فهمها.
الثاني : الاتصال بالعلماء الفاهمين الناصحين ، فهم سيشرحون لك هذه المسألة ، ويبيّنونها لك.
الثالث :
مراجعة كتب أهل العلم الأخرى ، فإنها تسهّل لك الفهم ، إذ قد يُعبّر
الإنسان ، وقد يتكلم الإنسان بجملة غير مفهومة في موطن ، ويتكلم إنسان آخر
عن هذا المعنى في كتاب آخر بأسلوب واضح سهل.
الأمر الرابع :
التوكل على الله وحسن اللجوء إليه ، بأن يعلمك ويفهمك ، والله قد وعد
بإجابة الداعين ، ومما يتعلّق بهذا طلب العبد من ربّه جل وعلا أن يزيده من
العلم ، كما قال تعالى : {وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا}
قال المؤلف : (لا تفزع) يعني لا تحزن ولا يصدّنك عن طلب العلم كونك لم تفهم علما من العلوم ، مالم تفهمه تجاوزه إلى غيره.
ولهذا نجد بعض الأئمة
عَسُر عليه فهم بعض العلوم ، فلم يصدّهم ذلك عن التعلم ، بل أصبحوا أئمة
علماء مشهورين في فنون أخرى غير الفنون التي استعصت عليهم ، وقد ذكر المؤلف
نماذج لهذا ، وحينئذ على طالب العلم أن يتقرّب إلى الله بالسؤال والتضرع
بين يديه أن يفهّمه ما استشكل عليه ، وكان من الأدعية : "اللهم إني أسألك
فهم النبيين وحفظ المرسلين والملائكة المقربين" وكم من إمام عرضت لهم مثل
هذه المسائل ، وعرضت عليهم إشكالات فلجؤوا إلى الله ، وإلى الصلاة ، فسهّل
لهم ما استعصى عليهم.
وقد قال ابن عمر: مكثت سنين في حفظ سورة البقرة ، لم ينقص هذا من مكانته بل هم من علماء الأمة.
وقال الإمام أحمد : جلست تسع سنوات أدرس وأبحث.
وماذاك إلا أنه استعصى عليهم العلم فقلّبوا النظر فيه وكرّروه وأعادوه حتى فهموه ، نعم.
الأمانةُ العلْمِيَّةُ
المتن:
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (يَجِبُ على طالبِ العلْمِ ، فائِقُ التحَلِّي بالأمانةِ العِلْمِيَّةِ ، في الطلَبِ والتحَمُّلِ والعمَلِ والبلاغِ ، والأداءِ :
( فإنَّ
فَلاحَ الأُمَّةِ في صَلاحِ أعمالِها ، وصلاحَ أعمالِها في صِحَّةِ
عُلُومِها ، وصِحَّةَ عُلومِها في أن يكونَ رجالُها أُمناءَ فيما يَرْوُونَ
أو يَصِفُونَ، فمَن تَحَدَّثَ في العِلْمِ بغيرِ أمانةٍ ؛ فقد مَسَّ
العلْمَ بقُرحةٍ ووَضَعَ في سبيلِ فَلاحِ الأُمَّةِ حَجَرَ عَثْرَةٍ ) .
لا
تَخلُو الطوائفُ المنتمِيَةُ إلى العلومِ من أشخاصٍ لا يَطلبونَ العِلْمَ
ليَتَحَلَّوْا بأَسْنَى فضِيلَةٍ ، أو ليَنْفَعُوا الناسَ بما عَرَفُوا من
حِكمةٍ ، وأمثالُ هؤلاءِ لا تَجِدُ الأمانةُ في نفوسِهم مُسْتَقَرًّا ، فلا
يَتَحَرَّجُون أن يَرْوُوا ما لم يَسْمَعُوا أو يَصِفُوا ما لم يَعْلَمُوا
، وهذا ما كان يَدْعُو جهابذةَ أهلِ العلْمِ إلى نَقْدِ الرجالِ ،
وتَمييزِ مَن يُسْرِفُ في القوْلِ مِمَّنْ يَصوغُه على قَدْرِ ما يَعْلَمُ ،
حتى أَصْبَحَ طُلَّابُ العِلْمِ على بَصيرةٍ من قِيمةِ ما يَقرؤونَه ، فلا
تَخْفى عليهم مَنْزِلَتُه ، من القطْعِ بصِدقِه أو كَذِبِه ، أو رُجحانِ
أحدِهما على الآخَرِ ، أو احتمالِهما على سواءٍ ) اهـ .
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
القارئ: (الأمر الثاني والثلاثون - الأمانةُ العلْمِيَّةُ :
يَجِبُ على طالبِ العلْمِ ، فائِقُ التحَلِّي بالأمانةِ العِلْمِيَّةِ ، في الطلَبِ والتحَمُّلِ والعمَلِ والبلاغِ ، والأداءِ :
(
فإنَّ فَلاحَ الأُمَّةِ في صَلاحِ أعمالِها ، وصلاحَ أعمالِها في صِحَّةِ
عُلُومِها ، وصِحَّةَ عُلومِها في أن يكونَ رجالُها أُمناءَ فيما يَرْوُونَ
أو يَصِفُونَ، فمَن تَحَدَّثَ في العِلْمِ بغيرِ أمانةٍ ؛ فقد مَسَّ
العلْمَ بقُرحةٍ ووَضَعَ في سبيلِ فَلاحِ الأُمَّةِ حَجَرَ عَثْرَةٍ ) .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (هذا أيضا من أهم ما يكون
في طالب العلم أن يكون أمينا في علمه، فيكون أمينا في نقله، وأمينا في
وصفه. إذا وصف الحال فليكن أمينا لا يزيد ولا ينقص، وإذا نقل فليكن أمينا
في النقل لا يزيد ولا ينقص وكثير من الناس تنقصه هذه الأمانة، فتجده يصف من
الأحوال ما يناسب رأيه ويحذف الباقي، وينقل من أقوال أهل العلم، بل ومن
النصوص ما يوافق رأيه ويحذف الباقي فيكون كالذي قال:
ما قال ربك ويل للأولى سكروا = بل قال ربك ويل للمصلينا
نعوذ بالله وحذف (الذين هم عن صلاتهم ساهون)
. وهذا لا شك أنه حجر عثرة وأنه تدليس على العلم، لأن الواجب النقل بأمانة
والوصف بأمانة، وما يضرك إذا كان الدليل على خلاف ما تقول، فإنه يجب عليك
أن تتبع الدليل وأن تنقله للأمة حتى يكونوا على بصيرة من الأمر.
ومثل هذه الحال- أعني عدم الأمانة- يوجب أن يكون الإنسان فاسقا لا يوثق له بخبر ولا يقبل له نقل لأنه مدلس.
القارئ: (لا
تَخلُو الطوائفُ المنتمِيَةُ إلى العلومِ من أشخاصٍ لا يَطلبونَ العِلْمَ
ليَتَحَلَّوْا بأَسْنَى فضِيلَةٍ ، أو ليَنْفَعُوا الناسَ بما عَرَفُوا من
حِكمةٍ ، وأمثالُ هؤلاءِ لا تَجِدُ الأمانةُ في نفوسِهم مُسْتَقَرًّا ، فلا
يَتَحَرَّجُون أن يَرْوُوا ما لم يَسْمَعُوا أو يَصِفُوا ما لم يَعْلَمُوا
، وهذا ما كان يَدْعُو جهابذةَ أهلِ العلْمِ إلى نَقْدِ الرجالِ .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (يقول: (لا تَخلُو الطوائفُ المنتمِيَةُ إلى العلومِ من أشخاصٍ لا يَطلبونَ العِلْمَ ليَتَحَلَّوْا بأَسْنَى فضِيلَةٍ ) لأن طلب العلم يؤدي إلى التحلي بأسنى فضيلة، أي: بأعلاها، (أو ليَنْفَعُوا الناسَ بما عَرَفُوا من حِكمةٍ) ،
وإنما يطلبون العلم من أجل نصر آرائهم فتجده يبحث في بطون الكتب ليجد شيئا
يقوي به رأيه، سواء كان خطأ أم صوابا، وهذا والعياذ بالله هو المراء
والجدال المنهي عنه، أما من يقلب بطون الكتب من أجل أن يعرف الحق فيصل
إليه، فلا شك أن هذا هو الأمين المنصف.
القارئ: (وهذا ما كان يَدْعُو جهابذةَ أهلِ العلْمِ إلى نَقْدِ الرجالِ
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (يعني هذا هو الذي يدعو جهابذة أهل العلم إلى نقد الرجال ليبينوا أحوالهم وأنه رجل يتبع الهوى ولا يريد الهدى.
القارئ: (وتَمييزِ
مَن يُسْرِفُ في القوْلِ مِمَّنْ يَصوغُه على قَدْرِ ما يَعْلَمُ ، حتى
أَصْبَحَ طُلَّابُ العِلْمِ على بَصيرةٍ من قِيمةِ ما يَقرؤونَه ، فلا
تَخْفى عليهم مَنْزِلَتُه ، من القطْعِ بصِدقِه أو كَذِبِه ، أو رُجحانِ
أحدِهما على الآخَرِ ، أو احتمالِهما على سواءٍ ) اهـ .
تمت المقابلة الصوتية بواسطة: محمد أبو زيد
تم التهذيب بواسطة زمزم
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله
القارئ: (قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
32- الأمانةُ العلْمِيَّةُ :
يَجِبُ على طالبِ العلْمِ ، فائِقُ التحَلِّي بالأمانةِ العِلْمِيَّةِ ، في الطلَبِ والتحَمُّلِ والعمَلِ والبلاغِ ، والأداءِ :
(فإنَّ فَلاحَ الأُمَّةِ في صَلاحِ
أعمالِها ، وصلاحَ أعمالِها في صِحَّةِ عُلُومِها ، وصِحَّةَ عُلومِها في
أن يكونَ رجالُها أُمناءَ فيما يَرْوُونَ أو يَصِفُونَ ، فمَن تَحَدَّثَ في
العِلْمِ بغيرِ أمانةٍ ؛ فقد مَسَّ العلْمَ بقُرحةٍ ووَضَعَ في سبيلِ
فَلاحِ الأُمَّةِ حَجَرَ عَثْرَةٍ)
لاتَخلُو الطوائفُ المنتمِيَةُ إلى
العلومِ من أشخاصٍ لايَطلبونَ العِلْمَ ليَتَحَلَّوْا بأَسْنَى فضِيلَةٍ ،
أو ليَنْفَعُوا الناسَ بماعَرَفُوا من حِكمةٍ ، وأمثالُ هؤلاءِ لا تَجِدُ
الأمانةُ في نفوسِهم مُسْتَقَرًّا ، فلا يَتَحَرَّجُون أن يَرْوُوا ما لم
يَسْمَعُوا أو يَصِفُوا ما لم يَعْلَمُوا ، وهذا ما كان يَدْعُو جهابذةَ
أهلِ العلْمِ إلى نَقْدِ الرجالِ ، وتَمييزِ مَن يُسْرِفُ في القوْلِ
مِمَّنْ يَصوغُه على قَدْرِ ما يَعْلَمُ ، حتى أَصْبَحَ طُلَّابُ العِلْمِ
على بَصيرةٍ من قِيمةِ ما يَقرؤونَه ، فلا تَخْفى عليهم مَنْزِلَتُه ، من
القطْعِ بصِدقِه أو كَذِبِه ، أو رُجحانِ أحدِهما على الآخَرِ ، أو
احتمالِهما على سواءٍ ) اهـ .
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (الصفة الثانية والثلاثون من صفات طالب العلم :
الأمانة العلمية ، بحيث لا يكون كاذباً بنسبة شيء إلى نفسه وهو من كلام
غيره ، ولا يكون كذلك خائناً فيما يتعلق بعلمه ، فلا يُعطي ولا يتكلم إلا
بما يظنه هو الصواب والصحيح ، فلأمانة العلمية في النقل ، والأمانة العلمية
في الحديث والتكلم.
وقد جاءت النصوص بالترغيب في الأمانة وفي حفظها ، قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} ، وحذرت الشريعة من الخيانة ، فمن خصال المنافق أنه إذا عاهد غدر ، وإذا اؤتمن خان.
ونهت الشريعة عن الخيانة ، في الحديث : أنّ أهل الخيانة ينصب لهم ألوية يوم القيامة على أستائهم يقولون : هذه غدرة فلان بن فلان.
إذا تقرر هذا ، فإنّ الأمانه تكون في الطلب وتكون في وقت التحمل والحفظ ، وتكون وقت العمل ، وتكون أثناء الدعوة والبلاغ.
قال المؤلف : (من تحدث في العلم بغير أمانه ، فقد مسّ العلم بقرحة)
القرحة مرض باطني يكون في المعدة ، يصيبها فيجعلها لا تتمكن من هضم الطعام
، فمن تحدث في العلم بغير أمانة ، فإنه سيشوّش على الناس ، (ووضع في سبيل فلاح الأمة حجر عثرة).
ثم قال المؤلف هناك طوائف يتعلمون العلم لأهداف غير
مقبولة ، هم لا يتعلمون العلم ليتحلّوا بالفضائل ويتخلقوا بها ، وهم لا
يتعلمون العلم لنفع الناس وتعليمهم ، فحينئذ لم توجد أمانة علمية.
بعض الناس يحاول أن يمدح نفسه في نسبة أفعال جميلة للآخرين إليه ، وفي الحديث :" المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور"
وهذا هو الذي جعل بعض الأئمة يتكلم في بعض الرواة قدحاً ، فكلما وجدوا
شخصاً ألَّف أو روى تكلموا فيه ، ببيان مواطن خطأه ، ومواطن تعثره ، ليصبح
الطلاب على بصيرة من قيمة هذه المقروءات والمسموعات.
والأولى عدم ذكر الشخص باسمه ليكون ذلك أدعى لنهي التعصب ، ولعله يهدي الله عز وجل ذلك الشخص ، نعم.
الصِّدْقُ
المتن:
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (صِدْقُ
اللهجةِ : عُنوانُ الوَقارِ وشَرَفُ النفْسِ ، ونقاءُ السَّريرةِ وسُمُوُّ
الْهِمَّةِ ورُجحانُ العَقْلِ ، ورسولُ الْمَوَدَّةِ من الْخَلْقِ ،
وسعادةُ الجماعةِ وصِيانةُ الديانةِ ، ولهذا كان فَرْضُ عينٍ ، فيا
خَيْبَةَ مَن فَرَّطَ فيه ، ومَن فَعَلَ فقد مَسَّ نفسَه وعِلْمَهُ بأَذًى .
قالَ الأوزاعيُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( تَعَلَّمِ الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العِلْمَ ) .
وقالَ وَكيعٌ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( هذه الصَّنْعَةُ لا يَرتفِعُ فيها إلا صادقٌ ) .
فتَعَلَّمْ
– رَحِمَكَ اللهُ – الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العلْمَ ، والصدْقُ :
إلقاءُ الكلامِ على وَجْهٍ مُطابِقٍ للواقِعِ والاعتقادِ ، فالصدْقُ من
طريقٍ واحدٍ ، أمَّا نقيضُه الكَذِبُ فضُروبٌ وألوانٌ ومَسالِكُ وأَوديةٌ ،
يَجْمَعُها ثلاثةٌ :
كَذِبُ
الْمُتَمَلِّقِ : وهو ما يُخالِفُ الواقِعَ والاعتقادَ ، كمن يَتَمَلَّقُ
لِمَنْ يَعْرِفُه فاسقًا أو مُبْتَدِعًا فيَصِفُه بالاستقامةِ .
وكَذِبُ المنافِقِ : وهو ما يُخالِفُ الاعتقادَ ويطابِقُ الواقعَ كالمنافِقِ يَنْطِقُ بما يقولُه أهلُ السُّنَّةِ والهدايةِ .
وكَذِبُ الغَبِيِّ : بما يُخالِفُ الواقِعَ ويُطابِقُ الاعتقادَ ، كمَن يَعتقِدُ صلاحَ صُوفِيٍّ مبتدِعٍ فيَصِفُه بالوَلايةِ .
فالْزَم
الْجَادَّةَ ( الصدْقَ ) ، فلا تَضْغَطْ على عَكَدِ اللسانِ ، ولا تَضُمَّ
شَفَتَيْكَ ، ولا تَفتَحْ فاكَ ناطقًا إلا على حُروفٍ تُعَبِّرُ عن
إحساسِك الصادِقِ في الباطِنِ ؛ كالحُبِّ والبُغْضِ ، أو إحساسِك في
الظاهِرِ ؛ كالذي تُدْرِكُه الحواسُّ الخمْسُ : السمْعُ، البَصَرُ ، الشمُّ
، الذَّوْقُ ، اللمْسُ .فالصادقُ لا يقولُ : ( أَحْبَبْتُكَ ) وهو مُبْغِضٌ ، ولا يقولُ : ( سَمِعْتُ ) وهو لم يَسْمَعْ ، وهكذا .
واحْذَرْ أن تَحومَ حولَك الظنونُ ، فتَخونَك العزيمةُ في صِدْقِ اللهجةِ ، فتُسَجَّلَ في قائمةِ الكذابينَ .وطريقُ
الضَّمانةِ لهذا – إذا نَازَعَتْكَ نفسُك بكلامٍ غيرِ صادقٍ فيه - : أن
تَقْهَرَهَا بذِكْرِ مَنزِلَةِ الصدْقِ وشَرَفِه ورَذيلةِ الكَذِبِ
ودَرَكِه ، وأنَّ الكَاذِبَ عن قريبٍ يَنْكَشِفُ .
واستَعِنْ باللهِ ولا تَعْجِزَنَّ .ولا تَفْتَحْ لنفسِك سابلةَ الْمَعارِيضِ في غيرِ ما حَصَرَه الشرْعُ .
فيا
طالبَ العلْمِ ! احْذَرْ أن تَمْرُقَ من الصدْقِ إلى الْمَعارِيضِ
فالْكَذِبِ ، وأَسوأُ مَرَامِي هذا الْمُروقِ ( الكَذِبُ في العلمِ ) ؛
لداءِ مُنافَسَةِ الأقرانِ وطَيَرانِ السُّمعةِ في الآفاقِ .
ومَن
تَطَلَّعَ إلى سُمْعَةٍ فوقَ مَنْزِلَتِه ؛ فلْيَعْلَمْ أنَّ في
الْمِرصادِ رِجالًا يَحْمِلون بصائرَ نافذةً ، وأقلامًا ناقدةً ،
فيَزِنُونَ السُّمعةَ بالأَثَرِ ، فتَتِمُّ تَعريتُك عن ثلاثةِ معانٍ :
فَقْدُ الثقةِ من القلوبِ .
ذَهابُ عِلْمِكَ وانحسارُ القَبولِ .
أن لا تُصَدَّقَ ولو صَدَقْتَ .
وبالجملةِ ؛ فمَن يَحترِفْ زُخرُفَ القولِ ؛ فهو أَخُو الساحرِ ، ولا يُفْلِحُ الساحرُ حيث أَتَى، واللهُ أَعْلَمُ .
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
33- الصدق:
صدق
اللهجة: عنوان الوقار، وشرف النفس، ونقاء السريرة، وسمو الهمة، ورجحان
العقل، ورسول المودة مع الخلق، وسعادة الجماعة، وصيانة الديانة، ولهذا كان
فرض عين، فيا خيبة من فرط فيه، ومن فعل فقد مس نفسه وعلمه بأذى.
الصدق هنا قريب من مسألة
الأمانة العلمية، لأن الأمانة العلمية تكون بالصدق، والصدق كما قال: عنوان
الوقار، وشرف النفس، ونقاء السريرة وإذا كان الكذب ينجي، فإن الصدق أنجى
وأنجى. وإن كان الكذب أيضا لا يدوم، لأنه سرعان ما يتبين الكذب ويفتضح
الكاذب.
لكن الصدق عاقبته حميدة.
فعليك بالصدق، ولو كنت تتخيل أنه يضرك فاصبر، فإن الصدق يهدي إلى البر وإن
البر يهدي إلى الجنة ولا يزال الرجل يصدق ويتحرى الصدق حتى يكتب عند الله
صديقا.
وإني لأذكر رجلا من عامة
الناس شهر بالصدق، فكان الناس يتناقلون أخباره في المجالس على التلذذ بها
أكثر مما يذكرون أخبار العلماء الذين في وقته لأن الصدق يرفع الله به من
اتصف به، لا سيما في مسائل العلم.
فلا تقل إن الله حرم هذا وهو لم يحرمه، ولا أوجب هذا وهو لم يوجبه، ولا قال فلان كذا وهو لم يقله. بل تجنب هذا كله.
وكان الإمام أحمد – رحمه
الله – وغيره من الأئمة لا يصرحون بالتحريم إلا ما جاءت النصوص به، وإلا
فإنك تجد الإمام أحمد يقول: أكره كذا، لا يعجبني ، لا تفعل . وما أشبه ذلك.
وقول الشيخ بكر – وفقه
الله- «ولهذا كان فرض عين»، يعني الصدق فرض عين، لا فرض كفاية، فلا يقول:
أنا أكذب، والثاني يصدق.. لا ... لا يجوز أن تكذب.
استثنى بعض العلماء ما جاء
عن طريق التورية، ولكن لا حاجة للاستثناء، لأن التورية صدق باعتبار ما في
نفس القائل، كمثل قول إبراهيم عليه السلام للملك الجبار هذه أختي.
وهذا ليس بالكذب، وإن كان
إبراهيم اعتذر عن الشفاعة بأنه كذب ثلاث كذبات، لكنه كذب من وجه وهو
التلبيس على الظالم المعتدي، ولكنه صدق باعتبار ما في نفس القائل.
استثنى بعض العلماء أيضا
ما جاء في الحديث أنه لا يجوز الكذب إلا في ثلاث: في الحرب، والإصلاح بين
الناس، وحديث المرأة لزوجها وحديث الرجل لزوجته.
ولكن بعض العلماء يقول: إن
هذا محمول على التورية، وليس على الحقيقة، فالحرب خدعة، بأن تري عدوك أنك
تريد جهة ما، وأنت تريد الجهة الأخرى، أو تري عدوك أن عندك جنود كثيرة بحيث
أن تجعل الجيش يتراسم، كما فعل القعقاع بن عمرو في أحدى غزواته، قسم الجيش
وهم عدد قليل، لكن العدو يظنه عددا كثيرا.
كذلك الإصلاح بين الناس ... لا تكذب، ولكن تأل. إذا قال لك فلان: يقول في كذا وكذا. تقول: لا لم يقل فيك شيئا.
كذلك حديث المرأة زوجها
وحديث الرجل زوجته، يعني: على سبيل التورية لا التصريح وهذا القول ليس
ببعيد، لأن الكذب كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم يهدي إلى الفجور، لا
يهدي إلى الخير. ثم إن الإنسان إذا اعتاد هذا- لاسيما مع الزوجة وصار كلما
حدثها بحديث وبحثت عنه وجدته كذبا لم تثق فيه بعد ذلك، وربما يكون سببا
لفقدها إياه وللفراق التام.
وعند العامة يستثني كذبا
أكثر من ذلك يقولون: الكذب الحرام ما كان فيه أكل للمال بالباطل، وأما ما
سواه فهو كذب أبيض ويقسمون الكذب إلى قسمين: كذب أبيض وكذب أسود. والأبيض
حلال، والأسود حرام. والأسود ما فيه أكل المال بالباطل، والأبيض ما ليس
كذلك، ولكن هذا هو دين العامة وليس شريعة محمد صلى الله عليه وسلم
قال الأوزاعي- رحمه الله تعالي-:«تعلم الصدق قبل أن تتعلم العلم».
وقال وكيع- رحمه الله تعالى-:«هذه الصنعة لا يرتفع فيها إلا صادق».
فتعلم-
رحمك الله- الصدق قبل أن تتعلم العلم، والصدق: إلقاء الكلام على وجه مطابق
للواقع والاعتقاد، فالصدق من طريق واحد، أما نقيضه الكذب فضروب وألوان
ومسالك وأودية، يجمعها ثلاثة:
1- كذب المتملق: وهو ما يخالف الواقع والاعتقاد، كمن يتملق لمن يعرفه فاسقا أو مبتدعا فيصفه بالاستقامة.
2- وكذب المنافق: وهو ما يخالف الاعتقاد ويطابق الواقع، كالمنافق ينطق بما يقوله أهل السنة والهداية.
3- وكذب الغبي: بما يخالف الواقع ويطابق الاعتقاد، كمن يعتقد صلاح صوفي مبتدع فيصفه بالولاية.
الصدق لا شك أنه سبيل واحد، والكذب سبل، وهكذا الهداية والضلالة.
الهداية سبيلها واحد، والضلالة سبل متفرقة. قال الله تعالى: (وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله) (سورة الأنعام:153). وأما قوله: (يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام)(سورة
المائدة:16). فقد جمعها باعتبار تنوع الشرائع... صلاة، زكاة، صيام، حج،
بر، صلة، صدقة- وما أشبه ذلك فجمعها باعتبار وتوحيدها باعتبار آخر.
أما الكذب فضروب وألوان متعددة، ويتعدد بتعدد أغراضه فهو يجمعها ثلاثة. يقول:
1- «كذب المتملق: وهو ما يخالف الواقع والاعتقاد، كمن يتملق لمن يعرفه فاسقا أو مبتدعا فيصفه بالاستقامة».
تعرف أن هذا الرجل فاسق ثم
تأتي إليه وتقول: ما شاء الله أنت رجل مستقيم، مستقيم الأخلاق، مستقيم
الدين، مستقيم المنهج. وأنت تعرف أنه أفسق عباد الله.
هذا ماذا يقال له؟ يقال له
متملق وهذا أكثر ما يكون عند الملوك والأمراء، تجد الرجل يتملق إلى الأمير
أو الملك ويقول: أنت فيك كذا وأنت فيك كذا، وهذا من النفاق العلمي: إذا
حدث كذب والعياذ بالله.
2- «كذب المنافق: وهو ما يخالف الاعتقاد ويطابق الواقع» ومنه قوله تعالي (إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله). وكونه رسول الله مطابق للواقع. ما الدليل؟ قوله: (والله يعلم إنك لرسوله) . لكن شهادتهم هذه مخالفة لاعتقادهم، لأن الله قال: (والله يشهد إن المنافقين لكاذبون) (سورة المنافقون:1).
أي في قولهم نشهد إنك لرسول الله لا في قولهم إنه لرسول الله. هذا يخالف الاعتقاد ويطابق الواقع.
وهذا باعتبار قول المنافق في غيره، أما باعتبار قوله في نفسه مثلا أنه صالح، فهو يخالف الاعتقاد، ويخالف الواقع إلا ظاهرا.
3- «كذب الغبي: بما يخالف
الواقع ويطابق الاعتقاد». وهو أن يقول الشيء ما ليس فيه لغباءه، فيقول مثلا
عن أهل الكلام أنهم هم العقلاء، وأنهم أهل العلم والحكمة، أما أهل السنة
فهم أغبياء يفوضون النصوص ولا يعرفون لها معنى.
نقول: هذا غبي، ولهذا عبر
شيخ الإسلام- رحمه الله- في كتابه الفتوى الحموية، عبر بهذا الوصف
فقال:«قال بعض الأغبياء: طريقة السلف أسلم وطريقة الخلف أعلم وأحكم».
وكذلك من يشاهد الصوفية وتصنعهم وعباداتهم، فيقول: إنهم أهل الصلاح وأهل الولاية.
نقول: أنت غبي لا تعرف حقيقتهم فلا تحكم عليهم بالصلاح حتى تعرف الحقيقة، وإلا كنت غبيا.
فهذا كاذب، فهل يعذر
بكذبه؟ نقول: إذا أفرط في البحث فلا بعذر وإن كان هذا منتهي علمه، فإنه
يعذر لأنه جاهل. أما الأول فهو متملق، والثاني فهو منافق فلا عذر لهم في
ذلك.
فالزم
الجادة(الصدق)، فلا تضغط على عكد اللسان، ولا تضم شفتيك، ولا تفتح فاك
ناطقا إلا على حروف تعبر عن إحساسك الصادق في الباطن، كالحب والبغض، أو
إحساسك في الظاهر، كالذي تدركه الحواس الخمس: السمع، البصر، الشم، الذوق،
اللمس. فالصادق لا يقول:«أحببتك» وهو مبغض، ولا يقول: «سمعت» وهو لم يسمع،
وهكذا... واحذر أن تحوم حولك الظنون، فتخونك العزيمة في صدق اللهجة، فتسجل
في قائمة الكذابين. وطريق الضمانة لهذا- إذا نازعتك نفسك بكلام غير صادق
فيه: أن تقهرها بذكر منزلة الصدق وشرفه، ورذيلة الكذب ودركه، وأن الكاذب عن
قريب ينكشف. واستعن بالله ولا تعجزن.
ولا
تفتح لنفسك سابلة المعاريض في غير ما حصره الشرع. فيا طالب العلم! احذر أن
تمرق من الصدق إلى المعاريض فالكذب، وأسوأ مرامي هذا المروق (الكذب في
العلم)، لداء منافسة الأقران، وطيران السمعة في الآفاق.
هنا إضافة مهمة جدا، هو أن
بعض الناس يتسرع في الرقي إلى العلو بما يلفقه ويوهم الناس به من أنه عنده
علم واسع، وأنه عبقري، وأنه في كل فن له يد وما أشبه ذلك. وهذا لا شك أنه
غلط عظيم، فهو مع جمعه الكذب، فيه خيانة الناس وإيهامهم بخلاف الواقع. وفيه
أيضا التغرير بالنفس، أن الإنسان يزهو بنفسه حتى يحجمها ويكبرها وهي دون
ذلك، وكم من إنسان هلك بمثل هذا سواء في طريق العلم أو في طريق العبادة،
ولكن سرعان ما ينكشف، سرعان ما يرد عليه شيء يعجز عنه وحينئذ إما أن يقول
ما هو معلوم كذبه فينكشف، وإما أن يتذبذب ويفتضح أمره.
ولهذا كان مما قاله عبد الله بن مسعود:«إن من العلم أن تقول لما لا تعلم لا أعلم».
وذكر بعضهم أن قول
القائل:«لا أعلم» هي نصف العلم، ولكن في الواقع: العلم كله، والإنسان إذا
عرف بالتحري وأنه يقول بما لا يعلم«لا أعلم» وثق الناس بقوله، أما إذا كان
يجيب على كل ما يسأل حتى لو كان لا يعرف شيئا فيما سئل فيه، فإنه سوف ينكشف
أمره وسوف لا يثق الناس بقوله حتى ولو كان حقا. ولكن ما الذي يحمل الإنسان
على أن يقول مثل هذا؟
يحمله طلب العلو، أن يكون فائقا على الأقران، أو طلب الصيت والشهرة بحيث يقال العلامة، الفهامة، البحر الزاخر وما أشبه ذلك.
وهذه لا شك أنها من مكائد
الشيطان، فالواجب عليك أن تعرف قدر نفسك وأن لا تنزلها فوق منزلتها، ثم إن
القول في مسائل الدين أخطر ما يكون لأنه قول على الله بلا علم، وقد قال
الله عز وجل (قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما
بطن والإثم والبغي بغير الحق وأن تشركوا بالله ما لم ينزل به سلطانا وأن
تقولوا على الله ما لا تعلمون) (سورة الأعراف: 33).
بعض الناس إذا عثر على خطأه قال: سبحان الله، سبحان الذي لا ينسى نعم.... لكن أنت لم تنس، بل أنت جاهل من أصله.
ومن
تطلع إلى سمعة فوق منزلته فليعلم أن في المرصاد رجالا يحملون بصائر نافذة،
وأقلاما ناقدة، فيزنون السمعة بالأثر، فتتم تعريتك عن ثلاثة معان:
1- فقد الثقة في القلوب.
2- ذهاب علمك وانحسار القبول.
3- أن لا تصدق ولو صدقت.
وبالجملة، فمن يحترف زخرف القول، فهو أخو الساحر، ولا يفلح الساحر حيث أتى (1). والله أعلم.
هذا صحيح.. الإنسان إذا
تطلع إلى السمعة فقط ونزل فوق منزلته فسرعان ما ينكشف،ثم إن النية في طلب
العلم يجب فيها الإخلاص لله عز وجل، ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم
:«أن من طلب علما وهو مما يبتغي به وجه الله لا يريد
إلا أن ينال عرضا من الدنيا لم يرح رائحة الجنة. وأن من طلب العلم ليماري
به السفهاء أو ليجاري به العلماء فليتبوء مقعده من النار» . فالمسألة خطيرة، ولا سيما العلوم الشرعية. وذكر ثلاث مضار.
أولا- فقد الثقة في القلوب، متى تفقد؟ إذا تبين أنه قال عن جهل؛ ما يثقون به وينصرفون إلى غيره.
ثانيا- ذهاب علمك وانحسار
القبول: لأنه إذا فقدت الثقة لم يقبله الناس فإذا كان يقبله مثلا (10)،
فإنهم إذا فقدوا الثقة انحسروا إلى (5) أو إلى (4).
ثالثا- أن لا تصدق ولو صدقت: حتى لو حدثتهم بحديث يعرفونه. قالوا: هذا رمية من غير رام.
فالحاصل أن الإنسان يجب أن يعرف مقدار نفسه وأن يحترم العلم، وأن لا يجعله به وسيلة للرقي الخادع.
تم التهذيب بواسطة زمزم
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله
القارئ: (قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
33- الصِّدْقُ :
صِدْقُ
اللهجةِ : عُنوانُ الوَقارِ وشَرَفُ النفْسِ ، ونقاءُ السَّريرةِ وسُمُوُّ
الْهِمَّةِ ورُجحانُ العَقْلِ ، ورسولُ الْمَوَدَّةِ من الْخَلْقِ ،
وسعادةُ الجماعةِ وصِيانةُ الديانةِ ، ولهذا كان فَرْضُ عينٍ ، فياخَيْبَةَ
مَن فَرَّطَ فيه ، ومَن فَعَلَ فقد مَسَّ نفسَه وعِلْمَهُ بأَذًى .
قالَ الأوزاعيُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( تَعَلَّمِ الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العِلْمَ) .
وقالَ وَكيعٌ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( هذه الصَّنْعَةُ لا يَرتفِعُ فيها إلاصادقٌ) .
فتَعَلَّمْ
– رَحِمَكَ اللهُ – الصدْقَ قبلَ أن تَتَعَلَّمَ العلْمَ ، والصدْقُ :
إلقاءُ الكلامِ على وَجْهٍ مُطابِقٍ للواقِعِ والاعتقادِ ، فالصدْقُ من
طريقٍ واحدٍ ، أمَّا نقيضُه الكَذِبُ فضُروبٌ وألوانٌ ومَسالِكُ وأَوديةٌ ،
يَجْمَعُها ثلاثةٌ :
كَذِبُ الْمُتَمَلِّقِ : وهو ما يُخالِفُ الواقِعَ والاعتقادَ ، كمن يَتَمَلَّقُ لِمَنْ يَعْرِفُه فاسقًا أو مُبْتَدِعًا فيَصِفُه بالاستقامةِ .
وكَذِبُ المنافِقِ : وهو ما يُخالِفُ الاعتقادَ ويطابِقُ الواقعَ كالمنافِقِ يَنْطِقُ بما يقولُه أهلُ السُّنَّةِ والهدايةِ .
وكَذِبُ الغَبِيِّ : بما يُخالِفُ الواقِعَ ويُطابِقُ الاعتقادَ ، كمَن يَعتقِدُ صلاحَ صُوفِيٍّ مبتدِعٍ فيَصِفُه بالوَلايةِ .
فالْزَم
الْجَادَّةَ ( الصدْقَ ) ، فلا تَضْغَطْ على عَكَدِ اللسانِ ، ولا تَضُمَّ
شَفَتَيْكَ ، ولا تَفتَحْ فاكَ ناطقًا إلا على حُروفٍ تُعَبِّرُ عن
إحساسِك الصادِقِ في الباطِنِ ؛ كالحُبِّ والبُغْضِ ، أو إحساسِك في
الظاهِرِ ؛ كالذي تُدْرِكُه الحواسُّ الخمْسُ : السمْعُ، البَصَرُ ، الشمُّ
، الذَّوْقُ ، اللمْسُ .فالصادقُ لا يقولُ : ( أَحْبَبْتُكَ ) وهو
مُبْغِضٌ ، ولا يقولُ : ( سَمِعْتُ ) وهو لم يَسْمَعْ ، وهكذا .
واحْذَرْ
أن تَحومَ حولَك الظنونُ ، فتَخونَك العزيمةُ في صِدْقِ اللهجةِ ،
فتُسَجَّلَ في قائمةِ الكذابينَ .وطريقُ الضَّمانةِ لهذا – إذا نَازَعَتْكَ
نفسُك بكلامٍ غيرِ صادقٍ فيه - : أن تَقْهَرَهَا بذِكْرِ مَنزِلَةِ
الصدْقِ وشَرَفِه ورَذيلةِ الكَذِبِ ودَرَكِه ، وأنَّ الكَاذِبَ عن قريبٍ
يَنْكَشِفُ .
واستَعِنْ باللهِ ولا تَعْجِزَنَّ .ولاتَفْتَحْ لنفسِك سابلةَ الْمَعارِيضِ في غيرِ ما حَصَرَه الشرْعُ .
فيا
طالبَ العلْمِ ! احْذَرْ أن تَمْرُقَ من الصدْقِ إلى الْمَعارِيضِ
فالْكَذِبِ ، وأَسوأُ مَرَامِي هذا الْمُروقِ ( الكَذِبُ في العلمِ ) ؛
لداءِ مُنافَسَةِ الأقرانِ وطَيَرانِ السُّمعةِ في الآفاقِ .
ومَن
تَطَلَّعَ إلى سُمْعَةٍ فوقَ مَنْزِلَتِه ؛ فلْيَعْلَمْ أنَّ في
الْمِرصادِ رِجالًا يَحْمِلون بصائرَ نافذةً ، وأقلامًا ناقدةً ،
فيَزِنُونَ السُّمعةَ بالأَثَرِ ، فتَتِمُّ تَعريتُك عن ثلاثةِ معانٍ:
فَقْدُ الثقةِ من القلوبِ .
ذَهابُ عِلْمِكَ وانحسارُ القَبولِ .
أن لا تُصَدَّقَ ولوصَدَقْتَ .
وبالجملةِ ؛ فمَن يَحترِفْ زُخرُفَ القولِ ؛ فهو أَخُو الساحرِ ، ولا يُفْلِحُ الساحرُ حيث أَتَى ، واللهُ أَعْلَمُ .
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (هذا هو الأدب الثالث والثلاثون من آداب طالب العلم : الصدق ، قد قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم :"
عليكم بالصدق ، فإنّ الصدق يهدي إلى البر ، وإنّ البر يهدي إلى الجنة ،
وإياكم والكذب ، فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور ، وإنّ الفجور يهدي إلى النار".
ويقول صلى الله عليه وسلم :" الصدق طمأنينة ، والكذب ريبة"
والصدق له صلة بالأمانة ، فإنّ غير الأمين غير صادق ، ونضرب لهذا مثلاً :
من قال أنّ الفقيه الفلاني يقول : بكذا وهو لم يتأكد أو يعرف خلافه ، فحينئذ ليس بصادق ولا بأمين.
وصدق اللهجة ينتج عن أمور :
أولها : رضا رب العزة والجلال وتحصيل التقوى.
وثانيها : أنّ الصدق سبب لتوقير الخلق بالإنسان وقبولهم ما جاء به.
وثالثها : أنّ الصدق يحصل به الشرف وطمأنينة النفس ، ونقاء السريرة ، وسمو الهمة.
الصدق يحصل به رجحان العقل ، ويحصل به محبة الخلق ويحصل به (صيانة الديانة) ، (قال الأوزاعي :" تعلم الصدق قبل العلم").
(قال وكيع :" هذه الصنعة لا يرتفع بها إلا الصادق") يعني لا يحُصِّل فيها العلم إلا صادق.
ومن هنا يقّدم تعويد النفس على الصدق على طلب العلم ، والصدق يكون بأمرين : موافقة الواقع ، وموافقة الاعتقاد.
أنا أظن أنّ زيد ليس
وراء الجدار ، وقلت : زيد وراء الجدار ، فصار حقيقةً زيد وراء الجدار ،
حينئذ هذا يخالف الاعتقاد لكنه لا يخالف الواقع.
مثال هذا : رأى أخته
حاملاً ، قال في بطنها ولد ذكر ، ولدت وأصبح ولداً ذكراً ، نقول هنا : هذا
كلام كاذب وهو وإن وافق الواقع لكنه يخالف الاعتقاد وبالتالي يكون كلاماً
كذباً.
ومن هنا قسم المؤلف الناس ثلاثة أقسام :
كذب المتملق : وهو الذي يعتقد أنّ كلامه باطل ، ويكون كلامه مخالفاً للواقع.
أبو محمد قابله شخص بينه وبينه عداوة ، فقال له : إني أحبك.
وهو لا يحبه ولا شيء ،
ويعاديه ، حينئذ ؛ هل هو موافق للواقع ، هل هو موافق للاعتقاد ، مخالف
للواقع ومخالف للاعتقاد ، هذا إذاً متملق ، هذا إيش يصير؟ متملق.
الثاني كذب المنافق :
المنافق يقول : أنا أحب المؤمنين ، وأحب أهل التقوى وهو يكذب ، يقول :
الدعاةُ صادقون ، لكن في نفسه يقول : ما لهم فائدة في المجتمع ، فهو يقول
الدعاة صادقون نافعون للأمة بلسانه ، لكن في قلبه يقول : ضيّقوا على الناس ،
حينئذ نقول : هذا منافق ، لأنه تكلم بكلام يوافق الواقع لكنه يخالف
اعتقاده.
النوع الثالث كذب الغبي : بما يخالف الواقع ، قال : يظن أنّ محمد خلف الجدار فقال : محمد خلف الجدار ، لكنه لم يكن خلف الجدار.
كذلك من اعتقد أنّ
الصوفي صالح ، وهو مبتدع ، ووصفه بالولاية ، هذا يخالف الواقع ، لأنّ شرط
الولاية الإيمان والتقوى ، كما في قوله سبحانه :" أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ"
إذا جاءك صوفي يقول : تُطرح التكاليف ، فحينئذ نقول : هذا ، هل هو مخالف
للواقع؟ نعم ، مخالف للواقع ، لكنه يطابق اعتقاده ، فيكون هذا من كذب
الغبي.
قال : (فلا تضغط على عكد اللسان) جزء من الزائد من اللسان ، يعني بالكذب.
(ولا تضم شفتيك ولا تفتح فاك –يعني الفم- ناطقا) ولاتتكلم إلا بالصدق.
(بحروف تعبر عن إحساسك الصادق في الباطن ، كالحب والبغض ، وإحساسك في الظاهر ، سواء أدركته بالحواس الخمس) أو أدركته بواسطة الاستدلال.
قال : ( فالصادق لايقول "أحببتك" وهو مبغضك) هذا من أي أنواع الكذبة ، المتملق ، مخالف الواقع والاعتقاد.
(ولا يقول "سمعت" وهو لم يسمع ، واحذر أن تحوم حولك الظنون) فيتهموك بالكذب ، وحينئذ لا يقبل منك ، وبالتالي تصبح من الكذبة.
قد يقول قائل : كيف أدرّب نفسي على الصدق وترك الكذب؟ هذا بأمور :
أولاً : استحضار أنّ الله أمرك بذلك.
ثانياً : بمعرفة رذيلة الكذب وفائدة الصدق.
وثالثاً : بالنظر في أحوال الصدقة والكذبة ، أهل الصدق نصرهم الله وأيّدهم ، وأهل الكذب خذلهم الله.
قال المؤلف عن المعاريض ؛ المعاريض : أن تتكلم بكلام له معنيان ، أحدهما صدق وواقع وتريد غيرك يطلع عليه ، والثاني خفي قد تُكَذّب فيه.
جاء في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم :" إنّ في المعاريض لمندوحةً عن الكذب"
، نمثل للمعاريض : هذا أخوك؟ لـمّا سألته : هذا أخوك ، وهو ليس ابن أبيه
ولا أمه ، قال : نعم ، وأراد أخوة الإسلام ، ظاهر مني لـمّا سألت : هل هذا
أخوك أريد الأخوة من النسب ، فلما قال : نعم ، حينئذ أوهمني بأن المراد
الأخوة النسبية ، وكان مراده الأخوة الإيمانية.
هكذا أيضاً ، ما حكم المعاريض ، المعاريض على أربعة أنواع :
النوع الأول : إذا كان يتوصل بها إلى إبطال الحقوق وأكل أموال الناس فهي حرام.
قال : أشهد بالله أنّ
ماله عند زيد شيء ، ظاهر هذه العبارة أنّ ما نافية ، أليس كذلك ؛ تنفي وجود
الحق ، لكن لما عدنا إليه وسألناه ، قال: أنا أقصد ما الموصولة ، ما له
يعني : الذي له على زيد شيء ، هذا إيش؟ من المعاريض ، وتوصّلنا به إلى
إبطال الحق ، فيكون محرماً.
كذلك المعاريض في الأيمان ماتجوز ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم :" يمينك على مايصدقك به صاحبك"
المعاريض التي يتوصل بها إلى إحقاق حق أو إصلاح بين اثنين ، أو إبطال خصومه ، هذه مشروعة.
ويؤجر إن شاء الله الإنسان عليها.
بعض الناس يكذب في
المسائل العلمية ليهزّ الناس ، ويكون له مكانة ومنزلة ، قال : أنا وجدت في
الكتاب الفلاني ، وما قرأ ولا اطّلع عليه ، هذا كذب ، لا يبارك له في
كلامه.
قال المؤلف : ( فمن تطلع إلى سمعة فوق منزلته) فإنّ الله سيعاقبه ، وما طار طيرٌ وارتفع إلا كما طار وقع.
والكذب يورث عدم الثقة
في الكاذب ، إذا كذب أول مرة احتمال أن يكذب عليك مرة ثانية ، وذهاب بركة
علمه ، بل قد يؤدي إلى زوال علمه بالكلية ، والثالث : عدم قبول الناس وعدم
تصديق الناس لكلامه.
الساحر يُظهر للناس أمور مخالفة للحق وللواقع ، فحينئذ كان فيه شبه من الكاذب ، ولذلك قارن المؤلف بينهما ، نعم.
جُنَّةُ طالِبِ العلْمِ
المتن:
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (جُنَّةُ العالِمِ ( لا أَدْرِي ) ويَهْتِكُ حِجابَه الاستنكافُ منها ، وقولُه: يُقالُ .....
وعليه ؛ فإن كان نِصْفُ العلْمِ ( لا أَدْرِي ) ؛ فنِصْفُ الجهْلِ ( يُقالُ ) و( أَظُنُّ ) .
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
القارئ: (الأمر الرابع والثلاثون-جُنَّةُ طالِبِ العلْمِ :
جُنَّةُ العالِمِ ( لا أَدْرِي ) ويَهْتِكُ حِجابَه الاستنكافُ منها ، وقولُه: يُقالُ ..... وعليه ؛ فإن كان نِصْفُ العلْمِ ( لا أَدْرِي ) ؛ فنِصْفُ الجهْلِ ( يُقالُ ) و( أَظُنُّ ) .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (نعم صحيح. هذا تتميم لما قبله، أن الإنسان يجب عليه إذا لم يعلم أن يقول: لا أعلم ولا يضره هذا، بل يزيده ثقة بقوله.
وأما قوله :«نصف الجهل أظن
أو يقال » هذا صحيح. بعض العوام تسأله هل هذا حرام أم حلال ؟ يقول أظنه
حرام. هذا عامي، يقول أظنه حرام. أو يقولون: إنه حرام، بدل يقال ، هذا أيضا
نصف الجهل في الواقع، ولكن هل أثق بقول العامي أظن كذا؟! لا يجوز، ولهذا
كم من أناس أفتاهم العوام بفتاوي خاطئة ولا سيما في أيام الحج. سبحان الله
العظيم أيام الحج يكثر العلماء تجد كل عمود خيمة تحته عالمان كل واحد منهما
يفتي ، حتى إنه قيل لي: إن أحد الناس قال: إن الذي يطوف في السطح أو في
الدور الثاني يكفيه عن سبعة أشواط ثلاثة أشواط ونصف . لماذا؟ لاتساع
الدائرة ، وكأنه قاس الأشواط بالخطوات، وعلى قياس قوله أن الذي يطوف في
أطراف الصحن يكفيه كم؟ خمسة ، لأنه ليس كالذي عند الكعبة ن لأن عند الكعبة
أقل، إلا أن يقال: مشقة هذا الذي عند الكعبة، تقابل كثرة خطوات هذا فيمتنع
القياس ، على كل حال أنا أقول: إنه لا يجوز الاعتماد على فتوى العامي
أبداً، لا تستفتي إلا إنسانا تثق في علمه وأمانته.
تمت المقابلة الصوتية بواسطة محمد أبو زيد
تم التهذيب بواسطة زمزم
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله
القارئ: (قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
34- جُنَّةُ طالِبِ العلْمِ :
جُنَّةُ العالِمِ ( لا أَدْرِي ) ويَهْتِكُ حِجابَه الاستنكافُ منها ، وقولُه : يُقالُ .....
وعليه ؛ فإن كان نِصْفُ العلْمِ ( لا أَدْرِي ) ؛ فنِصْفُ الجهْلِ ( يُقالُ ) و( أَظُنُّ ) .
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (جُنة طالب العلم ، هذا هو الأدب الرابع والثلاثون ، والجُنّة : الوقاية.
إذا كان على بدنك حديد يحميك في المعارك يسمونها واقية الرصاص ، هذا الجُنّة مثل واقية الرصاص.
ما هي التي تقي طالب العلم من الشرور ، كلمة (لا أدري) ، فإذا سئل عن مسألة وهو لا يعرفها قال : (لا أدري)
كان الأئمة يحرصون على هذا ، قال قائلهم : من أخطأ (لا أدري) أصيبت مقاتله ، كأنه أصيب في المحل الذي يموت منه غالباً.
سئل الإمام مالك : عن ست وثلاثين مسألة ، فقال في ثنتين وثلاثين منها : لا أدري ، وأجاب في أربع.
قيل للإمام مالك في
مسألة ، فقال : لا أدري ، قال : أتيت إليك من مصر ، وقد سأل أهلها عن هذه
المسألة ، قال : أخبر من وراءك أنّ مالكاً لا يدري، هل أنقص من درجة
الإمام مالك ، هل قلل من قيمته وإمامته ، لا والله ، بل زاده إمامة و رفعة .
ومن هنا لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم جبريل عن وقت الساعة قال :" ما المسئول .." يعني لا أعلم.
فإذا النبي صلى الله
عليه وسلم كان يُسأل المسألة ما يجيب ، ينتظر الوحي ، فإذا كان من كان كذلك
يتوقف في الجواب عن مسائل ، فكيف بنا نحن.
ومن هنا ؛ ما يستحي
الواحد منا أن يقول : لا أدري ، ومثله الجملة الأخرى التي تماثلها : هذه
المسألة تحتاج إلى بحث ولم أبحثها ، تحتاج إلى تقليب نظر.
إذا استنكف الإنسان عن
هذه الكلمة ، بمعنى أنه تركها تكبراً عليها وظناً أنها من أسباب التنقص ،
فحينئذٍ وقع في الجهل ، وخُشي عليه ممن يقول على الله بلا علم ، نعم.
المحافَظَةُ على رأسِ مالِك ( ساعاتِ عُمُرِك)
المتن:
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (الوقتَ الوقتَ للتحصيلِ ، فكن حِلْفَ عمَلٍ لا حِلْفَ بَطالةٍ وبَطَرٍ ، وحِلْسَ مَعْمَلٍ لا حِلْسَ تَلَهٍّ وسَمَرٍ ، فالْحِفْظُ على الوَقْتِ ؛ بالجِدِّ والاجتهادِ ومُلازَمَةِ الطلبِّ ، ومُثافَنَةِ الأشياخِ ، والاشتغالِ بالعلْمِ قراءةً وإقراءً ومطالَعَةً وتَدَبُّرًا وحِفْظًا وبَحْثًا ، لا سِيَّمَا في أوقاتِ شرْخِ الشبابِ ، ومُقْتَبَلِ العُمْرِ ، ومَعْدِنِ العافيةِ ، فاغْتَنِمْ هذه الفرصةَ الغاليةَ ، لتنالَ رُتَبَ العلْمِ العاليةَ ؛ فإنها ( وقتُ جَمْعِ القلبِ ، واجتماعِ الفِكْرِ ) ؛ لقِلَّةِ الشواغِلِ والصوارِفِ عن التزاماتِ الحياةِ والتَّرَؤُّسِ ، ولِخِفَّةِ الظَّهْرِ والعِيالِ :
ما للمُعيلِ وللعوالِي إنمـا ... يَسْعَى إليهنَّ الفريدُ الفارِدُ
وإيَّاك وتأميرَ التسويفِ على نفسِك ؛ فلا تُسَوِّفْ لنفسِكَ بعدَ الفراغِ من كذا ؛ وبعدَ ( التقاعُدِ ) من العَمَلِ هذا ... وهكذا ، بل البِدارَ قبلَ أن يَصْدُقَ عليك قولُ أبي الطَّحَّانِ القَيْنيِّ :
حَنَتْنِي حانياتُ الدهْرِ حَتَّـى ... كأني خَاتِـلٌ أَدْنُـو لصَيْـدٍ
قصيرُ الْخَطْوِ يَحْسَبُ مَن رآنِي ... ولسْتُ مُقَيَّـدًا أنِّـي بِقَيْـدِ
وقال أُسامةُ بنُ مُنْقِذٍ:
مع الثمانينَ عاثَ الضعْفُ في جَسَدِي ... وساءني ضَعْفُ رِجْلِي واضطرابُ يَدِي
إذا كَتَبْتُ فخَطِّي خـطُّ مُضْطَـرِبٍ ... كخـطِّ مُرْتَعِـشِ الكَفَّيْـنِ مُرْتَعِـدِ
فاعْجَبْ لضَعْفِ يَدِي عن حَمْلِها قَلَمًا ... من بعدِ حَمْلِ الْقَنَا في لَبَّـةِ الأسَـدِ
فقلْ لِمَـن يَتَمَنَّـى طُـولَ مُدَّتِـهِ ... هذي عَواقِبُ طُولِ العُمُـرِ والْمُـدَدِ
فإن أَعْمَلْتَ البِدارَ فهذا شاهدٌ منك على أنك تَحْمِلُ ( كِبَرَ الهمَّةِ في العِلْمِ ) .
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
35- المحافظة على رأس مال (ساعات عمرك):
الوقت
الوقت للتحصيل، فكن حلف عمل لا حلف بطالة بطر؛ وحلس معمل لا حلس تله وسمر،
فالحفظ على الوقت، بالجد والاجتهاد، وملازمة الطلب، ومثافنة الأشياخ،
والاشتغال بالعلم قراءة وإقراء، ومطالعة وتدبر وحفظا وبحثا، لا سيما في
أوقات شرخ الشباب، ومقتبل العمر، ومعدن العافية، فاغتنم هذه الفرصة
الغالية، لتنال رتب العلم العالية، فإنها «وقت جمع القلب، واجتماع الفكر»،
لقلة الشواغل والصوارف عن التزامات الحياة والترؤس، ولخفة الظهر والعيال:
ولهذا قال عمر رضي الله
عنه :«تفقهوا قبل أن تسودوا» وفي لفظ «تسودوا» لأن الإنسان إذا ساد كثرت
المشاكل، وكثرت أفكاره وتفرقت وتمزقت عزائمه، فبينما يعزم على شيء إذا
بحاجة نزلت به أشد إلحاحا مما عزم عليه... فيتفرق. ولذلك اجتهد ما دمت في
زمن الإمهال وانتبح، واعمل، وابحث، واجعل بطون الكتب هي مرئياتك حتى تعتاد
على هذا، واعلم أنك إذا اعتدت على هذا- يعني على الجد والاجتهاد- صار طبيعة
لك بحيث لو أنك إذا كسلت يوما من الأيام في الرحلة فإنك تستنكر هذا وتجد
الفراغ.
وليكن بحثك مركزا، بحيث لا
تقطف من كل زهرة جزءا، اجعل بحثك مركزا الأهم فالأهم، حتى يكون لك ملكة
تستطيع أن تخرج المسائل على القواعد والفروع على الأصول.
ما للمعيل وللعوالي إنما = يسعى إليهن الفريد الفارد
المعيل: كثير العيال.
والعوالي: جمع عالية- يعني المنازل العالية فإذا كثرت العيال وكثرت المشاغل
ألهتك لأن الإنسان بشر، والطاقة محدودة، فما دمت متفرغا فلتكن متفردا. ولا
تظن أن المؤلف يريد بهذا إلا تطلب العيال والنكاح، بل إن النكاح قد يكون
من أسباب الراحة إذا وافق الإنسان فيه ويسرت له امرأة صالحة.
وإياك
وتأمير التسويف على نفسك، فلا تسوف لنفسك بعد الفراغ من كذا، وبعد
(التقاعد) من العمل هذا... وهكذا، بل البدار قبل أن يصدق عليك قول أبي
الطحان القيني:
حنتني حانيات الدهر حتى = كأني خاتل أدنو لصيد
قصير الخطو يحسب من رآني = ولست مقيدا أني بقيد
خاتل أدنو لصيد: الرجل يكسر ظهره كأنه راكب يمشي ببطء على الأرض يخشى أن الطير يحس به فيطير.
«ولست مقيدا أني بقيد» وهذا صحيح، لأن الله عز وجل قال في كتابه (الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء وهو العليم القدير) (سورة الروم:54).
والإنسان في حالة شبابه يظن أنه لن يتعب ولن يسأم ولن يمل، لكن إذا كبر فكما قال عن زكريا :(رب إني وهن العظم مني واشتعل الرأس شيبا) (سورة مريم:4). لا بد أن يتعب، لا بد أن يمل، فكون الإنسان ينتهز الفرصة هذا أمر لا بد منه.
وقال أسامة بن منقذ:
مع الثمانين عاث الضعـف فـي جسـدي ... وساءني ضعف رجلي واضطـراب يـدي
إذا كتبـت فخطـي خـط مضـطـرب ... كخـط مرتعـش الكفـيـت مرتـعـد
فاعجب لضعف يدي عـن حملهـا قلمـا ... من بعـد حمـل القنـا فـي لبـة الأسـد
فقـل لمـن يتمـنـى طــول مـدتـه ... هـذي عواقـب طـول العمـر والمـدد
فإن أعملت البدار، فهذا شاهد منك على أنك تحمل «كبر الهمة في العلم».
هذه كلها أبيات تدل على الحكمة، أن الإنسان مآله إلى هذا. يقول: «مع الثمانين عاث الضعف في جسدي» أي: انتشر وشاع.
لكن المؤمن- والحمد لله-
ما دام عقله باقيا وقلبه ثابتا، فإن بلغ هذا المبلغ من العجز البدني،
فالقلب حاضر يستطيع أن يشغل وقته بذكر الله عز وجل والتفكير في آياته، لأن
هذا لا عجز عن مراده إلا الغفلة، والغفلة شيء مشكل.
على كل حال فالمؤلف- وفقه
الله- يدعونا إلى انتهاز الفرصة وألا نضيع الأوقات واعلم أنك إذا اعتدت على
تضييع الوقت، عجزت بعد ذلك عن الحرص عليه وعن الانتفاع به، لأنك تكون قد
اعتدت على الكسل. فإن قال قائل: أليس لنفسك عليك حقا؟
فالجواب: بلى، إن لنفسك
عليك حقا، ونحن لا نقول إذا تعبت أو مللت استمر. نقول: لا استرح، حتى إن
الإنسان الذي يصلي إذا أتاه النعاس مأمور أن يدع الصلاة وينام.
لكن ما دمت نشيطا فاحرص،
لأن هناك فرقا بين العجز والكسل. الكسل ضعف في الإرادة، والعجز ضعف في
البدن، وضعف البدن لا حيلة فيه. لكن الإرادة هي التي يستطيع الإنسان يعود
نفسه على الهمة العالية كي يستغل.
تم التهذيب بواسطة زمزم
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله
القارئ: (قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
35- المحافَظَةُ على رأسِ مالِك ( ساعاتِ عُمُرِك) :
الوقتَ
الوقتَ للتحصيلِ ، فكن حِلْفَ عمَلٍ لا حِلْفَ بَطالةٍ وبَطَرٍ ، وحِلْسَ
مَعْمَلٍ لا حِلْسَ تَلَهٍّ وسَمَرٍ ، فالْحِفْظُ على الوَقْتِ ؛ بالجِدِّ
والاجتهادِ ومُلازَمَةِ الطلبِّ ، ومُثافَنَةِ الأشياخِ ،والاشتغالِ
بالعلْمِ قراءةً وإقراءً ومطالَعَةً وتَدَبُّرًا وحِفْظًا وبَحْثًا ،
لاسِيَّمَا في أوقاتِ شرْخِ الشبابِ ، ومُقْتَبَلِ العُمْرِ ، ومَعْدِنِ
العافيةِ ، فاغْتَنِمْ هذه الفرصةَ الغاليةَ ، لتنالَ رُتَبَ العلْمِ
العاليةَ ؛ فإنها ( وقتُ جَمْعِ القلبِ ، واجتماعِ الفِكْرِ ) ؛ لقِلَّةِ
الشواغِلِ والصوارِفِ عن التزاماتِ الحياةِ والتَّرَؤُّسِ ، ولِخِفَّةِ
الظَّهْرِ والعِيالِ :
مـا للمُعيـلِ وللعوالِـي إنـمـا يَسْعَى إليهنَّ الفريدُ الفارِدُ
وإيَّاك
وتأميرَ التسويفِ على نفسِك ؛ فلا تُسَوِّفْ لنفسِكَ بعدَ الفراغِ من كذا ؛
وبعدَ ( التقاعُدِ ) من العَمَلِ هذا ... وهكذا ، بل البِدارَ قبلَ أن
يَصْدُقَ عليك قولُ أبي الطَّحَّانِ القَيْنيِّ :
حَنَـتْـنِـي حـانـيـاتُ الـدهْــرِ حَـتَّــى ... كـــأنـــي خَـــاتِـــلٌ أَدْنُـــــــو لــصَــيْـــدٍ
قصيرُ الْخَطْوِ يَحْسَبُ مَن رآنِي ... ولـــسْــــتُ مُــقَــيَّـــدًا أنِّـــــــي بِــقَــيْـــدِ
وقال أُسامةُ بنُ مُنْقِذٍ :
مع الثمانينَ عاثَ الضعْفُ في جَسَدِي ... وساءني ضَعْفُ رِجْلِي واضطرابُ يَـدِي
إذا كَـتَـبْــتُ فـخَــطِّــي خـــــطُّ مُـضْــطَــرِبٍ ... كــــخــــطِّ مُــرْتَـــعِـــشِ الــكَــفَّــيْــنِ مُـــرْتَـــعِـــدِ
فاعْجَبْ لضَعْفِ يَدِي عن حَمْلِها قَلَمًا ... مــن بـعـدِ حَـمْـلِ الْـقَـنَـا فـــي لَـبَّــةِ الأسَـــدِ
فـــقــــلْ
لِـــمَــــن يَـتَــمَــنَّــى طُــــــــولَ مُــــدَّتِــــهِ ... هـــذي
عَــواقِــبُ طُــــولِ الـعُـمُــرِ والْــمُــدَدِ
فإن أَعْمَلْتَ البِدارَ فهذا شاهدٌ منك على أنك تَحْمِلُ ( كِبَرَ الهمَّةِ في العِلْمِ).
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (الله جل وعلا خلقنا من أجل غاية وهي عبادته جل وعلا كما في قوله :{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ} ومن أعلى درجات العبادة ، طلب العلم.
ومن هنا فاستعمل حياتك
فيما خلقت له ، واستعمل جميع وقتك للهدف والغاية التي خلقت من أجلها ، ثم
إنك ستَرِد على رب العزة والجلال ، وسيسألك عن كل أعمالك وجميع أوقاتك ،
ماذا علمت بها فحينئذ استعمل هذا الوقت فيما إذا أَخْبرت عنه عند الله كان
سباباً لنجاحك وفلاحك.
ومن ثَمّ يترك الإنسان
تضييع الأوقات فيما لا يفيد ، كان بعض الأئمة يحرص على استعمال وقته فيما
يفيد ، ولا يترك منه شيئاً حتى أنّ المجد بن تيمية ، جد شيخ الإسلام كان
يُقرأ عليه العلم عند قضائه للحاجة ، لا يريد أن يفوت وقتاً ، وبعضهم كان
إذا جاءه الأضياف يحرص أن يشتغل ببري القلم عند أضيافه لئلا يضيع شيء من
وقته ، والشواهد في هذا كثيرة ، ومن هنا فاحفظ عمرك.
قال : ( كن حلف عمل لا حلف بطالة وبطر)
الحلف : وهو العقد الذي يعقده الإنسان ، فاعقد نفسك مع الأعمال ، حتى تنتج
وتثمر ، ولا تكون مع البطالة وهي ترك العمل ، والبطر الذي هو تضييع الوقت
وجحد هذه النعمة.
وحينئذ تكون(حلس معمل) الحلس هو المرابط.
لا تكن (حلس ثلة أو تلّهٍ وسمر) فالتلّهي ابتعد عنه ، والسمر الذي لا يفيدك : ابتعد عنه.
(فالحفظ على الوقت يكون بالجد والاجتهاد وملازمة الطلب ومثافنة الأشياخ) بملازمتهم حتى تكون قريباً منهم.
(والاشتغال بالعلم قراءة) يقرأ لنفسه (وإقراءًا) يقرأ لغيره ، أو يُقرأ عليه.
(ومطالعة وتدبراً –فهماً- وحفظاً وبحثاً ، وخصوصاً في أوقات شرخ الشباب) ووقت الشباب أدعى بأن تحفظه.
(ومقتبل العمر)
وبذلك إذا اغتنمت الوقت حَصَلت على رتب العلم العالية ، فإنّ وقت الشباب
هو وقت اجتماع القلب ، ما عندك مشغلات كثيرة تشغل قلبك ، تجعلك تنسى.
( ووقت الشباب هو وقت اجتماع الفكر لقلة الشواغل والصوارف) ماعنده عيال ولا عنده حوائج يُرسل فيها.
ولا يهتم بقضايا العامة
أوالخاصة ، ومن ثَمّ اجتنب التسويف : بعدين ، شغلي بسويه بكره ، لا ، ابدأ
، بادر ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "بادروا بالأعمال ، هل تنتظرون إلا مرضاً مفسداً ، أو كبراً مفنّداً ، ...." إلى آخر ما ذكر من السبع التي وردت في الحديث.
إذا بادر الإنسان على أعمال الطاعة ، ومنها طلب العلم فهذا شاهد وجود كبر الهمة لديه.
إجمامُ النفْسِ
المتن:
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (خُذْ
من وَقْتِك سُويعاتٍ تُجِمُّ بها نفسَك في رِياضِ العِلْمِ من كُتُبِ
المحاضراتِ ( الثقافةِ العامَّةِ ) ؛ فإنَّ القلوبَ يُرَوَّحُ عنها ساعةً
فساعةً .
وفي
المأثورِ عن أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ أنه
قالَ : ( أَجِمُّوا هذه القلوبَ ، وابْتَغُوا لها طرائفَ الْحِكمةِ ، فإنها
تَمَلُّ كما تَمَلُّ الأبدانُ ) .
وقالُ
شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى في حِكْمَةِ النهيِ عن
التَّطَوُّعِ في مُطْلَقِ الأوقاتِ :( بل في النهيِ عنه بعضَ الأوقاتِ
مصالِحُ أُخَرُ من إِجمامِ النفوسِ بعضَ الأوقاتِ ، من ثِقَلِ العِبادةِ ؛
كما يُجَمُّ بالنوْمِ وغيرِه ، ولهذا قالَ مُعاذٌ : إني لأَحْتَسِبُ
نَوْمَتِي ، كما أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي ... )
وقالَ
: ( بل قد قيلَ : إنَّ من جُملةِ حِكمةِ النهيِ عن التَّطَوُّعِ المطلَقِ
في بعضِ الأوقاتِ : إجمامَ النفوسِ في وَقْتِ النهيِ لتَنْشَطَ للصلاةِ ؛
فإنها تَنْبَسِطُ إلى ما كانت مَمنوعةً منه ، وتَنْشَطُ للصلاةِ بعدَ
الراحةِ . واللهُ أَعْلَمُ ) اهـ .
ولهذا
كانت العُطَلُ الأسبوعيَّةُ للطُّلَّابِ مُنتشِرَةً منذُ أَمَدٍ بعيدٍ ،
وكان الأَغْلَبُ فيها يومَ الْجُمعةِ وعَصْرَ الخميسِ ، وعندَ بعضِهم يومَ
الثلاثاءِ ويومَ الاثنينِ ، وفي عِيدَي الفطْرِ والأَضْحَى من يومٍ إلى
ثلاثةِ أيَّامٍ وهكذا .
ونَجِدُ ذلك في كُتُبِ آدابِ التعليمِ ، وفي السِّيَرِ ، ومنه على سبيلِ الْمِثالِ : ( آدابُ المعَلِّمِينَ ) لسُحْنونٍ ( ص 104 ) ، ( والرسالةُ الْمُفَصَّلَةُ ) للقابسيِّ ( ص135-137 ) ، ( والشقائقُ النُّعْمانيَّةُ ) ( ص20) وعنه في : ( أَبْجَدِ العلومِ ) ( 1/195-196 ) ، وكتابِ ( أَلَيْسَ الصبْحُ بقريبٍ ) للطاهرِ ابنِ عاشورٍ ، ( وفتاوَى رَشيد رِضَا ) (1212) و( مُعْجَمِ البِلدانِ ) ( 3/102) و ( فتاوى شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ ) ( 25/318-320، 329)
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
القارئ: (الأمر السادس والثلاثون-إجمامُ النفْسِ :
خُذْ
من وَقْتِك سُويعاتٍ تُجِمُّ بها نفسَك في رِياضِ العِلْمِ من كُتُبِ
المحاضراتِ ( الثقافةِ العامَّةِ ) ؛ فإنَّ القلوبَ يُرَوَّحُ عنها ساعةً
فساعةً .
وفي
المأثورِ عن أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ أنه
قالَ : ( أَجِمُّوا هذه القلوبَ ، وابْتَغُوا لها طرائفَ الْحِكمةِ ، فإنها
تَمَلُّ كما تَمَلُّ الأبدانُ ) .
وقالُ
شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى في حِكْمَةِ النهيِ عن
التَّطَوُّعِ في مُطْلَقِ الأوقاتِ :( بل في النهيِ عنه بعضَ الأوقاتِ
مصالِحُ أُخَرُ من إِجمامِ النفوسِ بعضَ الأوقاتِ ، من ثِقَلِ العِبادةِ ؛
كما يُجَمُّ بالنوْمِ وغيرِه ، ولهذا قالَ مُعاذٌ : إني لأَحْتَسِبُ
نَوْمَتِي ، كما أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي ... )
وقالَ
: ( بل قد قيلَ : إنَّ من جُملةِ حِكمةِ النهيِ عن التَّطَوُّعِ المطلَقِ
في بعضِ الأوقاتِ : إجمامَ النفوسِ في وَقْتِ النهيِ لتَنْشَطَ للصلاةِ ؛
فإنها تَنْبَسِطُ إلى ما كانت مَمنوعةً منه ، وتَنْشَطُ للصلاةِ بعدَ
الراحةِ . واللهُ أَعْلَمُ ) اهـ .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (وهنا يجب أن نعلم أن إجمام
النفس وإعطاءها شيئا من الراحة حتى تنشط في المستقبل وحتى تستريح بعض
الراحة مما سبق أن هذا من الأمور الشرعية التي دل عليها قول النبي صلى الله
عليه وعلى آله وسلم : (إن لنفسك عليك حقا ولربك عليك حقا ولأهلك عليك حقا
ولزوجك عليك حقا فأعط كل ذي حق حقه). وهذا الحديث هو الميزان الحقيقي الذي
تطمئن إليه النفس لا ما روي عن عمر ولا عن علي وغيرهما، فلو أن المؤلف
استدل بهذا الحديث لكان أبين وأظهر، والنفس إذا جعلتها دائما في جد لا بد
أن تمل وتسأم، وأما ما قيل: إن من جملة حكمة النهي عن التطوع المطلق في بعض
الأوقات. فهذا من جملة الحكمة، وليس هو الحكمة، بل الحكمة الحقيقية ما
ذكره النبي عليه الصلاة والسلام: أن الشمس إذا طلعت فإنها تطلع بين قرني
شيطان وحينئذ يسجد لها الكفار وكذلك إذا غربت يسجدون لها. فهم يسجدون لها
استقبالا، ويسجدون لها وداعا.
أما وقت الزوال فإن الحكمة
فيه: أنه الوقت التي تسجر فيه جهنم فيلحق النفس من التعب في الحر لا سيما
في أيام الصيف ما ينهى أن يصلي الإنسان فيه. وليس هذا القيل الذي قيل
معارضا للحديث لكنه من جملة الحكمة، والله أعلم.
القارئ: (ولهذا
كانت العُطَلُ الأسبوعيَّةُ للطُّلَّابِ مُنتشِرَةً منذُ أَمَدٍ بعيدٍ ،
وكان الأَغْلَبُ فيها يومَ الْجُمعةِ وعَصْرَ الخميسِ ، وعندَ بعضِهم يومَ
الثلاثاءِ ويومَ الاثنينِ ، وفي عِيدَي الفطْرِ والأَضْحَى من يومٍ إلى
ثلاثةِ أيَّامٍ وهكذا .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (صحيح... العطل الأسبوعية
منتشرة منذ زمن، لكن بعضهم يقتصر على الجمعة فقط، وبعضهم يضيف إلى الجمعة
يوم الخميس، وبعضهم يجعل الجمعة ونصف الأسبوع، وكان شيخنا عبد الرحمن بن
سعدي –رحمه الله- يفعل هذا، يكون العطلة يوم الجمعة، ويوم الثلاثاء الذي هو
وسط الأسبوع لأجل ألا يتوالى يومان كلاهما عطلة، ولئلا يمل الإنسان، وهذا
يرجع على كل حال إلى أحوال الناس والأحوال تختلف، فيجعل من العطل ما يناسب.
القارئ: (ونَجِدُ ذلك في كُتُبِ آدابِ التعليمِ ، وفي السِّيَرِ ، ومنه على سبيلِ الْمِثالِ : ( آدابُ المعَلِّمِينَ ) لسُحْنونٍ ( ص 104
) ، ( والرسالةُ الْمُفَصَّلَةُ ) للقابسيِّ ، ( والشقائقُ
النُّعْمانيَّةُ ) وعنه في : ( أَبْجَدِ العلومِ ) ، وكتابِ ( أَلَيْسَ
الصبْحُ بقريبٍ ) للطاهرِ ابنِ عاشورٍ ، ( وفتاوَى رَشيد رِضَا ) و(
مُعْجَمِ البِلدانِ ) و ( فتاوى شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ ) .
تمت المقابلة الصوتية بواسطة: محمد أبو زيد
تم التهذيب بواسطة زمزم
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله
القارئ: (قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
36- إجمامُ النفْسِ :
خُذْ من
وَقْتِك سُويعاتٍ تُجِمُّ بها نفسَك في رِياضِ العِلْمِ من كُتُبِ
المحاضراتِ ( الثقافةِ العامَّةِ ) ؛ فإنَّ القلوبَ يُرَوَّحُ عنها ساعةً
فساعةً .
وفي
المأثورِ عن أميرِ المؤمنينَ عليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ أنه
قالَ : ( أَجِمُّوا هذه القلوبَ ، وابْتَغُوا لها طرائفَ الْحِكمةِ ، فإنها
تَمَلُّ كما تَمَلُّ الأبدانُ ) .
وقالُ
شيخُ الإسلامِ ابنُ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى في حِكْمَةِ النهيِ عن
التَّطَوُّعِ في مُطْلَقِ الأوقاتِ : ( بل في النهيِ عنه بعضَ الأوقاتِ
مصالِحُ أُخَرُ من إِجمامِ النفوسِ بعضَ الأوقاتِ ، من ثِقَلِ العِبادةِ ؛
كما يُجَمُّ بالنوْمِ وغيرِه ، ولهذا قالَ مُعاذٌ : إني لأَحْتَسِبُ
نَوْمَتِي ، كما أَحْتَسِبُ قَوْمَتِي ... )
وقالَ
: ( بل قد قيلَ : إنَّ من جُملةِ حِكمةِ النهيِ عن التَّطَوُّعِ المطلَقِ
في بعضِ الأوقاتِ : إجمامَ النفوسِ في وَقْتِ النهيِ لتَنْشَطَ للصلاةِ ؛
فإنها تَنْبَسِطُ إلى ما كانت مَمنوعةً منه ، وتَنْشَطُ للصلاةِ بعدَ
الراحةِ . واللهُ أَعْلَمُ ) اهـ .
ولهذاكانت
العُطَلُ الأسبوعيَّةُ للطُّلَّابِ مُنتشِرَةً منذُ أَمَدٍ بعيدٍ ، وكان
الأَغْلَبُ فيها يومَ الْجُمعةِ وعَصْرَ الخميسِ ، وعندَ بعضِهم يومَ
الثلاثاءِ ويومَ الاثنينِ، وفي عِيدَي الفطْرِ والأَضْحَى من يومٍ إلى
ثلاثةِ أيَّامٍ وهكذا .
ونَجِدُ
ذلك فيكُتُبِ آدابِ التعليمِ ، وفي السِّيَرِ ، ومنه على سبيلِ الْمِثالِ :
( آدابُ المعَلِّمِينَ ) لسُحْنونٍ ( ص 104 ) ، ( والرسالةُ
الْمُفَصَّلَةُ ) للقابسيِّ ( ص135-137 ) ، ( والشقائقُ النُّعْمانيَّةُ ) (
ص20) وعنه في : ( أَبْجَدِ العلومِ ) ( 1/195-196 ) ، وكتابِ ( أَلَيْسَ
الصبْحُ بقريبٍ ) للطاهرِ ابنِ عاشورٍ ، ( وفتاوَى رَشيد رِضَا ) (1212) و(
مُعْجَمِ البِلدانِ ) ( 3/102) و ( فتاوى شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ ) (
25/318-320، 329)
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (هذا هو الأدب السادس والثلاثون من آداب طالب العلم :
إجمام النفس ، بحيث لا يحملها على شيء في جميع الأوقات فتملّ منه ، وكذلك
لا يُذهب نفسه تعبا يجعلها تصبح لا تميّز العلوم ، من جعل نومه قليلا ، أقل
مما تحتاجه إليه نفسه ضعفت نفسه ، ولم يستطع التركيز والفهم ، وهكذا من لم
يطعم الطعام الذي يغذيه فإنّ نفسه تضعف ، وبالتالي يكلّ ولا يتمكن من
الفهم ومن مواصلة التعلم.
وشاهد هذا كثير في النصوص الشرعية ، يقول النبي صلى الله عليه وسلم : "المنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى" المنبت الذي يركب ناقته ويسير بها ويواصل بدون أن يرتاح.
فحينئذ يُتعب ناقته
فتعجز في نصف الطريق ، فيكون لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى ، وجاء في الحديث :
حديث النفر الثلاثة الذين قال قائلهم : أصوم ولا أفطر ، وقال الآخر: أقوم
ولا أنام ، وقال الثالث : لا أتزوج النساء ، فعتب عليهم النبي صلى الله
عليه وسلم وقال : "إني أخشاكم لله وأتقاكم له ، أما أني أقوم وأنام ، وأصوم ، وأفطر ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني"
وشاهدوا هذا أيضا في
منع المكلّف من العبادة في بعض الأوقات من أجل أن لا يتعب نفسه ، وانظر إلى
حديث عبدالله بن عمرو لما كان يصوم ولا يُفطر ، وكان يقوم حتى أثّر ذلك
على نفسه ، فجاء أبوه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن عبادته ، ثم
بعد ذلك أرشده إلى ترك مواصلة العبادة ، بحيث يجعل وقتا للراحة ، ولا يشق
على نفسه.
وانظر في حديث تلك المرأة التي كانت تضع حبلا في المسجد صفيّة ، حتى إذا تعبت استندت إلى الحبل ، فقال صلى الله عليه وسلم : "حلّوه –فكوا الحبل- ليصلّي أحدكم نشاطه ، فإذا فتر فليرقد ، فلعلّه يذهب يسأل ربه فيسب نفسه" حتى عاد ما ميّز في الكلام ، هكذا في طلب العلم ، يصبح ما عاد يميّز.
ومن ذلك المفاوتة بين
الفنون ، لو استمريت على فن واحد يمكن تمل نفسك منه ، فتنتقل من علم إلى
علم ، كداخل البستان ، مرة يأكل عنبا ، ومرة يأكل رمانا ، ومرة يأكل تينا ،
ومرة يأكل من غيره ، فيلتذّ ذلك ، أما لو أكل من صنف واحد فسيملّ منه.
ومن وسائل ذلك ، إعطاء النفس راحتها ، والقيام على النفس بشئونها ، سواء في نظافة الإنسان أو في مأكله أو في مشربه ، أو نحو ذلك.
وكذلك النظر في بعض
النكت والطرائف ، النكت : هي الأمور الغريبة ، حتى تنشط نفسك ، والطرائف :
هي التي تتحرّك لها النفس وتطرب ، ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم ربما
جاء منه المزاح.
(قال علي : أجمّوا هذه
القلوب ، وابتغوا لها طرائف الحكمة ، فإنها تملّ) ومن هذا حرص أهل العلم
على جعل إجازة وعطلة في الدراسة ، نعم.