10 Dec 2008
الدرس الرابع عشر: التفقه بتخريج الفروع على الأصول
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (30 – التَّفَقُّهُ بتخريجِ الفروعِ على الأُصولِ :
من وراءِ الفِقْهِ : التَّفَقُّهُ ، ومُعْتَمِلُه هو الذي يُعَلِّقُ الأحكامَ بِمَدارِكِها الشرعيَّةِ .
وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ : أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ : ((
نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا ،
فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ
وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ )) .
قالَ ابنُ خَيْرٍ رَحِمَه اللهُ تعالى في فِقْهِ هذا الحديثِ : (
وفيه بيانُ أنَّ الفِقْهَ هو الاستنباطُ والاستدراكُ في معاني الكلامِ من
طريقِ التَّفَهُّمِ ، وفي ضِمْنِه بيانُ وُجوبِ التفَقُّهِ ، والبحْثُ على
معاني الحديثِ واستخراجُ الْمَكنونِ من سِرِّهِ ) اهـ .
وللشيخين
؛ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ وتِلميذِه ابنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ
رَحِمَهما اللهُ تعالى ، في ذلك القِدْحُ الْمُعَلَّى ، ومَن نَظَرَ في
كُتُبِ هذين الإمامينِ ؛ سَلَكَ به النَّظَرُ فيها إلى التَّفَقُّهِ
طَرِيقًا مُستَقِيمًا .
ومن
مَلِيحِ كلامِ ابنِ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى قولُه في مَجْلِسٍ
للتَّفَقُّهِ : ( أَمَّا بعدُ ؛ فقد كُنَّا في مَجلِسِ التَّفَقُّهِ في
الدِّينِ ، والنظَرِ في مَدارِكِ الأحكامِ المشروعةِ ؛ تَصويرًا ،
وتَقريرًا ، وتَأصيلًا ، وتَفصيلًا ، فوقَعَ الكلامُ في ... فأقولُ : لا
حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ ، هذا مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وفَصلَيْنِ ...)
واعْلَمْ
أَرْشَدَك اللهُ أنَّ بينَ يَدَي التَّفَقُّهِ : ( التَّفَكُّرَ ) فإنَّ
اللهَ - سبحانَه وتعالى – دعا عِبادَه في غيرِ ما آيةٍ من كتابِه إلى
التحَرُّكِ بإجالةِ النظَرِ العميقِ في ( التَّفَكُّرِ ) في مَلكوتِ
السماواتِ والأرضِ وإلى إن يُمْعِنَ المرءُ النظَرَ في نفسِه ، وما حولَه ؛
فَتْحًا للقُوَى العَقليَّةِ على مِصراعَيْهَا ، وحتى يَصِلَ إلى تَقويةِ
الإيمانِ ، وتَعميقِ الأحكامِ والانتصارِ العِلْمِيِّ : {
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } {
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ } . وعليه فإنَّ ( التفَقُّهَ ) أبعَدُ مَدًى من ( التفَكُّرِ ) ؛ إذ هو حَصيلتُه وإنتاجُه ؛ وإلا { فَمَال هؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} .
لكنَّ هذا التَّفَقُّهَ مَحجوزٌ بالبُرهانِ ، مَحجورٌ عن التَّشَهِّي والْهَوَى : { وَلِئْنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } .
فيا
أيُّها الطالبُ ! تَحَلَّ بالنظَرِ والتفَكُّرِ ، والفقْهِ والتفَقُّهِ ؛
لعلك أن تَتجاوَزَ من مَرحلةِ الفقيهِ إلى ( فقيهِ النفْسِ) كما يقولُ
الفُقهاءُ ، وهو الذي يُعَلِّقُ الأحكامَ بِمَدارِكِها الشرعيَّةِ ، أو (
فقيهِ البَدَنِ ) كما في اصطلاحِ الْمُحَدِّثِينَ .
فأَجْلِ النظَرَ عندَ الوارداتِ بتَخريجِ الفُروعِ على الأصولِ ، وتَمامِ العنايةِ بالقواعدِ والضوابطِ . وأَجْمِعْ
للنَّظَرِ في فَرْعٍ ما بينَ تَتَبُّعِه وإفراغِه في قالَبِ الشريعةِ
العامِّ من قواعدِها وأصولِها الْمُطَّرِدَةِ ؛ كقواعدِ المصالِحِ ، ودفْعِ
الضرَرِ والمشَقَّةِ وجَلْبِ التيسيرِ ، وسَدِّ بابِ الْحِيَلِ وسَدِّ
الذرائعِ .
وهكذا
هُدِيتَ لرُشْدِكَ أَبَدًا ؛ فإنَّ هذا يُسْعِفُكَ في مَواطِنِ
الْمَضايِقِ وعليك بالتَّفَقُّهِ – كما أَسْلَفْتُ – في نصوصِ الشرْعِ ،
والتبَصُّرِ فيما يَحُفُّ أحوالَ التشريعِ، والتأمُّلِ في مَقاصِدِ
الشريعةِ ، فإنْ خَلَا فَهْمُك من هذا ، أو نَبَا سَمْعُكَ ؛ فإنَّ
وَقْتَكَ ضائعٌ ، وإنَّ اسمَ الْجَهْلِ عليك لواقِعٌ وهذه الْخَلَّةُ
بالذاتِ هي التي تُعطيكَ التمييزَ الدقيقَ ، والْمِعيارَ الصحيحَ ، لِمَدَى
التحصيلِ والقُدرةِ على التخريجِ .
فالفقيهُ
هو مَن تَعْرِضُ له النازلةُ لا نَصَّ فيها فيَقْتَبِسُ لها حُكْمًا ،
والبَلاغِيُّ ليس من يَذْكُرُ لك أقسامَها وتَفريعاتِها ، لكنه مَن تَسْرِي
بَصيرتُه البلاغيَّةُ في كتابِ اللهِ ، مَثَلًا ، فيُخْرِجُ من مَكنونِ
عُلومِه وُجُوهَها وإن كَتَبَ أو خَطَبَ نَظَمَ لك عِقْدَها . وهكذا في العلومِ كافَّةً .
التَّفَقُّهُ بتخريجِ الفروعِ على الأُصولِ
المتن:
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (من وراءِ الفِقْهِ : التَّفَقُّهُ ، ومُعْتَمِلُه هو الذي يُعَلِّقُ الأحكامَ بِمَدارِكِها الشرعيَّةِ .
وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ : أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ : ((
نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا ،
فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ
وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ )) .
قالَ ابنُ خَيْرٍ رَحِمَه اللهُ تعالى في فِقْهِ هذا الحديثِ : (
وفيه بيانُ أنَّ الفِقْهَ هو الاستنباطُ والاستدراكُ في معاني الكلامِ من
طريقِ التَّفَهُّمِ ، وفي ضِمْنِه بيانُ وُجوبِ التفَقُّهِ ، والبحْثُ على
معاني الحديثِ واستخراجُ الْمَكنونِ من سِرِّهِ ) اهـ .
وللشيخين
؛ شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ وتِلميذِه ابنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ
رَحِمَهما اللهُ تعالى ، في ذلك القِدْحُ الْمُعَلَّى ، ومَن نَظَرَ في
كُتُبِ هذين الإمامينِ ؛ سَلَكَ به النَّظَرُ فيها إلى التَّفَقُّهِ
طَرِيقًا مُستَقِيمًا .
ومن
مَلِيحِ كلامِ ابنِ تَيميةَ رَحِمَه اللهُ تعالى قولُه في مَجْلِسٍ
للتَّفَقُّهِ : ( أَمَّا بعدُ ؛ فقد كُنَّا في مَجلِسِ التَّفَقُّهِ في
الدِّينِ ، والنظَرِ في مَدارِكِ الأحكامِ المشروعةِ ؛ تَصويرًا ،
وتَقريرًا ، وتَأصيلًا ، وتَفصيلًا ، فوقَعَ الكلامُ في ... فأقولُ : لا
حَوْلَ ولا قُوَّةَ إلا باللهِ ، هذا مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وفَصلَيْنِ ...)
واعْلَمْ
أَرْشَدَك اللهُ أنَّ بينَ يَدَي التَّفَقُّهِ : ( التَّفَكُّرَ ) فإنَّ
اللهَ - سبحانَه وتعالى – دعا عِبادَه في غيرِ ما آيةٍ من كتابِه إلى
التحَرُّكِ بإجالةِ النظَرِ العميقِ في ( التَّفَكُّرِ ) في مَلكوتِ
السماواتِ والأرضِ وإلى إن يُمْعِنَ المرءُ النظَرَ في نفسِه ، وما حولَه ؛
فَتْحًا للقُوَى العَقليَّةِ على مِصراعَيْهَا ، وحتى يَصِلَ إلى تَقويةِ
الإيمانِ ، وتَعميقِ الأحكامِ والانتصارِ العِلْمِيِّ : {
كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } {
قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ } . وعليه فإنَّ ( التفَقُّهَ ) أبعَدُ مَدًى من ( التفَكُّرِ ) ؛ إذ هو حَصيلتُه وإنتاجُه ؛ وإلا { فَمَال هؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} .
لكنَّ هذا التَّفَقُّهَ مَحجوزٌ بالبُرهانِ ، مَحجورٌ عن التَّشَهِّي والْهَوَى : { وَلِئْنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ } .
فيا
أيُّها الطالبُ ! تَحَلَّ بالنظَرِ والتفَكُّرِ ، والفقْهِ والتفَقُّهِ ؛
لعلك أن تَتجاوَزَ من مَرحلةِ الفقيهِ إلى ( فقيهِ النفْسِ) كما يقولُ
الفُقهاءُ ، وهو الذي يُعَلِّقُ الأحكامَ بِمَدارِكِها الشرعيَّةِ ، أو (
فقيهِ البَدَنِ ) كما في اصطلاحِ الْمُحَدِّثِينَ .
فأَجْلِ النظَرَ عندَ الوارداتِ بتَخريجِ الفُروعِ على الأصولِ ، وتَمامِ العنايةِ بالقواعدِ والضوابطِ . وأَجْمِعْ
للنَّظَرِ في فَرْعٍ ما بينَ تَتَبُّعِه وإفراغِه في قالَبِ الشريعةِ
العامِّ من قواعدِها وأصولِها الْمُطَّرِدَةِ ؛ كقواعدِ المصالِحِ ، ودفْعِ
الضرَرِ والمشَقَّةِ وجَلْبِ التيسيرِ ، وسَدِّ بابِ الْحِيَلِ وسَدِّ
الذرائعِ .
وهكذا
هُدِيتَ لرُشْدِكَ أَبَدًا ؛ فإنَّ هذا يُسْعِفُكَ في مَواطِنِ
الْمَضايِقِ وعليك بالتَّفَقُّهِ – كما أَسْلَفْتُ – في نصوصِ الشرْعِ ،
والتبَصُّرِ فيما يَحُفُّ أحوالَ التشريعِ، والتأمُّلِ في مَقاصِدِ
الشريعةِ ، فإنْ خَلَا فَهْمُك من هذا ، أو نَبَا سَمْعُكَ ؛ فإنَّ
وَقْتَكَ ضائعٌ ، وإنَّ اسمَ الْجَهْلِ عليك لواقِعٌ وهذه الْخَلَّةُ
بالذاتِ هي التي تُعطيكَ التمييزَ الدقيقَ ، والْمِعيارَ الصحيحَ ، لِمَدَى
التحصيلِ والقُدرةِ على التخريجِ .
فالفقيهُ
هو مَن تَعْرِضُ له النازلةُ لا نَصَّ فيها فيَقْتَبِسُ لها حُكْمًا ،
والبَلاغِيُّ ليس من يَذْكُرُ لك أقسامَها وتَفريعاتِها ، لكنه مَن تَسْرِي
بَصيرتُه البلاغيَّةُ في كتابِ اللهِ ، مَثَلًا ، فيُخْرِجُ من مَكنونِ
عُلومِه وُجُوهَها وإن كَتَبَ أو خَطَبَ نَظَمَ لك عِقْدَها . وهكذا في العلومِ كافَّةً .
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
30- التفقه بتخريج الفروع على الأصول:
من وراء الفقه: التفقه، ومعتمله هو الذي يعلق الأحكام بمداركها الشرعية.
وفي حديث ابن مسعود رضي الله عنه : أن رسول الله قال : «نضر الله امرؤ سمع مقالتي فحفظها، ووعاها، فأداها كما سمعها، فرب حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقه إلى من هو أفقه منه».
«التفقه» يعني طلب الفقه،
والفقه ليس العلم. بل هو إدراك أسرار الشريعة. وكم من إنسان عنده كثير
ولكنه ليس بفقيه، ولهذا حذر ابن مسعود رضي الله عنه من ذلك فقال: «كيف لكم
إذا كثر قراؤكم وقل فقهاؤكم».
الفقيه هو العالم بأسرار
الشريعة وغاياتها وحكمها حتى يستطيع أن يرد الفروع الشاردة إلى الأصول
الموجودة، ويتمكن من تطبيق الأشياء على أصولها، فيحصل له بذلك خير كثير.
قال: «نضر الله.. » نضر بمعنى: حسنه، ومنه قوله تعالى : (وجوه يومئذ ناضرة) (سورة القيامة: 22). أي: حسنه، وقوله تعالى : (فوقاهم الله شر ذلك اليوم ولقاهم نضرة وسرورا)
(سورة الإنسان: 11). نضرة: يعني حسنا في وجوههم، وسرورا في قلوبهم، فيجتمع
لهم حسن الظاهر والباطن. لأن الإنسان قد يغتم قلبه، ووجهه قد أعطاه الله
نضارة لكن سرعان ما تزول. ومن الناس من يكون قلبه مسرورا لكن لم يعطه الله
نضارة الوجه، ومن الناس من يحصل له الأمران: السرور في القلب ونضارة في
الوجه. وبذلك تتم النعمة.
قال
ابن خير.- رحمه الله تعالى- في فقه هذا الحديث :«وفيه بيان أن الفقه هو
الاستنباط والاستدراك في معاني الكلام من طريق التفهم، وفي ضمنه بيان وجوب
التفقه، والبحث على معاني الحديث، واستخراج المكنون من سره» أ هـ.
وللشيخين، شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم الجوزية رحمهما الله
تعالى، في ذلك القدح المعلي، ومن نظر في كتب هذبن الإمامين، سلك به النظر
فيها إلى التفقه طريقا مستقيما.
لا شك أن ما ذكره- وفقه
الله- هو الصواب؛ أن الفقه هو استنباط الأحكام الشرعية من الأدلة. لكن لا
ينبغي أن يقتصر على الحديث، بل نقول من الأدلة في القرآن والسنة ودلالات
القرآن أقوى من دلالات السنة وأثبت، لأنه لا يعتريه عيب النقل بالمعنى،
وأما السنة فهي تنقل بالمعنى. وعلى هذا فيقال: «بالبحث عن معاني القرآن
والحديث».
ومن أحسن من رأيت في
استخراج الأحكام من الآيات شيخنا- رحمه الله- عبد الرحمن بن سعدي، فإنه
يستخرج – أحيانا- من الآيات من الفقه ما لا تراه في كتاب آخر، وهذا الطريق-
أعني طريق استنباط الأحكام من القرآن والسنة- هو طريق الصحابة، فما كانوا
يتجاوزون عشر آيات حتى يتعلمونها، وما فيها من العلم والعمل. ثم أشار الشيخ
بكر إلى شيخ الإسلام وتلميذه ابن القيم- رحمهم الله- وبيان ما يتوصلان
إليه من الأحكام الكثيرة من الأدلة القليلة، وقد أعطاهما الله فهما عجيبا
في القرآن والسنة.
ونضرب مثلا لهذا- أعني التفقه-، أن العلماء اتخذوا الحكم بأن أقل مدة الحمل ستة أشهر من قوله تعالى :(وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) (سورة الأحقاف:15).
ومن قوله : (وفصاله في عامين) (سورة لقمان: 14). فإن ثلاثين شهرا، عامان وستة أشهر، فإذا كان حمله وفصاله (ثلاثون شهرا) وفي الآية الآخرى (في عامين) لزم أن يكون الحمل أقله ستة أشهر.
ومن
مليح كلام ابن تيمية- رحمه الله تعالى- قوله في مجلس للتفقه: «أما بعد، فقد
كنا في مجلس التفقه في الدين، والنظر في مدارك الأحكام المشروعة، تصويرا
وتقريرا، وتأصيلا، وتفصيلا، فوقع الكلام في ... فأقول: لا حول ولا قوة إلا
بالله، هذا مبني على أصل وفصلين..».
واعلم أرشدك الله أن بين
يدي التفقه : (التفكر). فإن الله سبحانه وتعالى دعا عباده في غير ما آية من
كتابه إلى التحرك بإجالة النظر العميق في (التفكر) في ملكوت السموات
والأرض، وإلى أن يمعن النظر في نفسه، وما حوله، فتحا للقوى العقلية على
مصراعيها، وحتى يصل إلى تقوية الإيمان، وتعميق الأحكام، والانتصار العلمي :
(كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون) (سورة البقرة: 219). ، (قل هل يستوي الأعمى والبصير أفلا تتفكرون) (سورة الأنعام: 50).
وعليه، فإن «التفقه» أبعد
مدى من (التفكر)، إذ هو حصيلته وإنتاجه، وإلا: (فمال هؤلاء القوم لا يكادون
يفقهون حديثا) (سورة النساء: 78). لكن هذا التفقه محجوز بالبرهان، محجوز
عن التشهي والهوى: (ولئن اتبعت أهواءهم بعد الذي جاءك من العلم ما لك من الله من ولي ولا نصير) (سورة البقرة: 12).
إذا نقول : المراتب، أولا-
العلم، ثم الفهم، ثم التفكير، ثم التفقه. لا بد من هذا، فمن لا علم عنده
كيف يتفقه؟ وكيف يعلم... من عنده علم وليس عنده فهم.. كيف يتفقه؟ حتى لو
حاول أن يتفقه وهو مما لا يفهم لا يمكن ذلك. بعد أن تفهم... تتفكر ما مدلول
هذه الآيات؟ وما مدلول هذا الحديث؟ وتتفكر أيضا في أنواع الدلالة، وأنواع
الدلالة ثلاثة:
دلالة المطابقة، ودلالة التضمن، ودلالة الالتزام.
فدلالة اللفظ على جميع معناه، دلالة مطابقة.
ودلالته على بعض معناه، دلالة تضمن.
ودلالته على لازم خارج، هذه دلالة التزام.
وهذا النوع الثالث من
الدلالة هو الذي يختلف فيه الناس اختلافا عظيما، إذ قد يلتزم بعض الناس من
الدليل ما لا يلزم، وقد يفوته ما يلزم. وبين ذلك تفاوت عظيم، فلا بد أن
يعمل هذه الدلالات حينئذ يصل إلى درجة التفقه واستنباط الأحكام من أدلتها.
ويذكر أن الشافعي رحمه
الله نزل ضيفا على الإمام أحمد بن حنبل- وأحمد تلميذ الشافعي وكان يثني
عليه عند أهله- فقدم له العشاء فأكله كله ورد الصحفة.
خالية، فتعجب أهل أحمد كيف يأكل الطعام كله، والسنة أن الإنسان يأكل قليلا.
«حسب ابن آدم لقيمات يقمن صلبه، فإن كان لا محالة، فثلث لطعامه وثلث لشرابه وثلث لنفسه»
. لكن الشافعي أكل كل الطعام. هذه واحدة ثم إن الإمام أحمد انصرف إلى أهله
ونام الشافعي فلما كان في آخر الليل قام يتهجد ولم يطلب ماء يتوضأ به، أو
أظنه أنه لم يقم يتهجد، ثم أذن الفجر فخرج إلى الصلاة ولم يطلب ماء للوضوء،
هذه اثنتان.
فلما أصبح قال أهل الإمام أحمد له كيف تقول في الشافعي ما تقول، والرجل أكل الطعام ونام وقام ولم يتوضأ كيف إذا؟
قال :«آتيكم بالخبر ..»
فسأله. قال: فأما الطعام فلا أجد أحل من طعام الإمام أحمد بن حنبل فأردت أن
أملأ بطني منه، أما كوني لم أتهجد فلأن التفكير في العلم أفضل من التهجد،
وأنا جعلت أتفكر في العلم واستنبط من قول الرسول صلى الله عليه وسلم : «يا أبا عمير ما فعل النغير» . كذا وكذا ما أدري قال: مائة، أو ألف.
أما كوني لم أطلب ماء وأن خارج لصلاة الفجر، فلم أشأ أن أطلب ماء وأنا على وضوء. فذكر ذلك لأهله. فقالوا: الآن !!
فهيا
أيها الطالب! تحل بالنظر والتفكر، والفقه والتفقه، لعلك أن تتجاوز من مرحلة
الفقيه إلى (فقيه النفس) كما يقول الفقهاء، وهو الذي يعلق الأحكام
بمداركها الشرعية، أو (فقيه البدن) كما في اصطلاح المحدثين.
هناك فقه ثالث ظهر، وهو فقه الواقع الذي علق عليه بعض الناس العلم.
وقالوا: من لم يكن فقيها
للواقع فليس بعالم، ونسوا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:«من يرد الله به
خيرا يفقهه في الدين». ثم غفلوا عن كون الإنسان يشتغل بفقه الواقع أن ذلك
يشغله عن فقه الدين، بل ربما يشغله عن الاشتغال بالتعبد الصحيح، عبادة الله
وحده وانصراف القلب إلى الله والتفكر في آياته الكونية والشرعية. والحقيقة
أن انشغال الشباب بفقه الواقع صد لهم عن الفقه في دين الله، لأن القلب إذا
امتلأ بشيء امتنع عن الآخر.
فانشغال الإنسان بالفقه في
الدين وتحقيق العبادة والدين والإخلاص خيرا له من البحث عن الواقع، وماذا
فعل فلان؟ وماذا فعل فلان، وربما يتلقون فقه الواقع من روايات ضعيفة أو
موضوعة في وسائل الإعلام المسموعة أو المقرؤة أو المرئية أو يبنون ما يظنون
فقه واقع على تقديرات وتخمينات يقدرها الإنسان، ثم يقول هذا فعل لهذا،
ويعلل بتعليلات قد تكون بعيدة من الواقع.
أو ينظر إلى أشياء خطط لها أعداؤنا من قبل على واقع معين، تغير الواقع وزال بالكلية فبقيت هذه الخطط لا شيء.
والمهم أن فقه النفس، الذي
هو صلاح القلب والعقيدة السليمة ومحبة الخير للمسلمين وما أشبه ذلك هذا
ينبني عليه فقد البدن: معرفة هذا القول حلال أم حرام. هذا الفعل حلال أم
حرام.
فأجل
النظر عند الواردات بتخريج الفروع على الأصول، وتمام العناية بالقواعد
والضوابط. وأجمع للنظر في فرع ما بين تتبعه وإفراغه في قالب الشريعة العام
من قواعدها وأصولها المطردة، كقواعد المصالح، ودفع الضرر والمشقة، وجلب
التيسير، وسد باب الحيل، وسد الذرائع.
لا بد لطالب العلم من أصول يرجع إليها، والأصول الثلاثة: الأدلة من القرآن والسنة والقواعد والضوابط المأخوذة من الكتاب والسنة.
والمهم أن يكون لدى الإنسان علم بالقواعد والضوابط حتى ينزل عليها الجزئيات.
والفرق بين القاعدة والضابط:
أن الضابط يكون لمسائل محصورة معينة.
والقاعدة أصل يتفرع عليه أشياء كثيرة.
فالضابط أقل رتبة من القاعدة، كما يدل ذلك اللفظ، الضابط يضبط الأشياء ويجمعها في قالب واحد. والقاعدة أصل تفرع عنه الجزيئات.
قوله:«فأجل النظر عند
الواردات بتخريج الفروع على الأصوال، وتمام العناية بالقواعد والضوابط» هذا
من أهم ما يكون، أن الإنسان يجعل نظره أي فكره يتجول بتخريج الفروع على
الأصول حتى يتمرن، لأن بعض الناس قد يحفظ القاعدة كما يحفظ الفاتحة ولكن لا
يعرف أن يخرج عليها. وهذا لا شك نقص في التفكير. فلا بد من أن يجتهد ويجيل
نظره بتخريج القواعد على الأصول.
قوله: «وأجمع للنظر في فرع
ما بين تتبعه وإفراغه في قالب الشريعة العام...» وهذا أيضا مهم عند أهل
الحديث. يأتي مثلا نص ظاهرة. الحكم بكذا لكن إذا تأملت في هذا النص وجدنه
مخالفا للقواعد العامة من الشريعة، فما موقفك؟
نقول: لا بد أن نرجع إلى
القواعد، ويحكم على هذا بما تقتضيه الحاجة. وكذلك قال العلماء فيما لو خالف
الإنسان الثقة الثبت من هو أرجح منه، فإن حديثه هذا- وإن كان من حيث النظر
إلى مجرد الطريق نحكم بصحته- نقول: إن هذا غير صحيح. لماذا؟ لأنه شاذ.
والذي أوجب لكثير من المبتدئين في طلب العلم أن يسلكوا مسلكا شاذا هو هذا.
أعني عدم النظر إلى القواعد والأصول الثابتة. وهذا أمر مهم، وذلك لأن
الشريعة إنما جاءت لجلب المصالح الدينية والدنيوية ولدرء المفاسد أو
تقليلها، سواء كانت المفاسد دينية أو دنيوية، ولهذا تجد أن الله عز وجل
يقدم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة شرعا وقدرا.
تنزل الأمطار على الأرض، وهذا رجل تم بنيانه قريبا. هل يضره المطر أو لا؟ نعم يضره، لكن لا عبرة. لأن العبرة بالعموم.
وكذلك تنزل وهذا الرجل قد
انتهي من السقي، والمعروف أن الزرع إذا أصابه الماء، مطرا كان أو سقي بعد
الانتهاء من سقيه أنه يضره لكن العبرة بالعموم.
فهذه مسائل ينبغي لطالب العلم أن ينتبه لها، ولهذا قال الشيخ بكر رحمه الله ووفقه الله«وأصولها المطردة كقواعد المصالح».
وهنا نقف لنبين أن بعض الأصوليين أتى بدليل خامس: هو المصالح المرسلة.
فقال: الأدلة هي القرآن والسنة والقياس الصحيح والمصالح المرسلة.
وهذا غلط لأن هذه المصالح
الذين يدعون أنها – مصالح مرسلة – إن كان الشرع قد شهد لها أنها مصالح
مرسلة فهي من الشرع داخلة في عموم الشرع: كتاب أو سنة قياس كان أو إجماع،
وإن لم تكن فيها مصالح شرعية فهي باطلة فاسدة الاعتبار، وحينئذ لا تؤصل
أصلا، دليلا ندين الله بالتعبد به بدون دليل من القرآن والسنة. لأن كونك
تؤصل أصلا يعني أنك تبني دينك على هذا.
وعلى هذا فتمسح أو فتنسخ
ذكر المصالح المرسلة من الأدلة. لماذا؟ لأننا نقول: إن شهد الشرع بهذه
المصلحة فهي ثابتة بالكتاب والسنة بعمومتها وقواعدها، وإن شهد ببطلانها فهي
باطلة.
الآن من أهل البدع من ركب
بدعته على هذا الدليل. قال: هذا من المصالح المرسلة. فالإنسان يحيي قلبه
ويحركه بماذا؟ ببدعة صوفية وما أشبه ذلك وقال: نحن نطمئن الآن إذا أتينا
بهذه الأذكار وعلى هذه الصفة ويضرب الأرض حتى تتغبر قدماه. قال: هذه مصلحة
عظيمة تحرك القلوب.
ماذا نقول: لو قلنا
باعتبار المصالح المرسلة كل واحد يدعي أن هذه المصلحة وأصل النزاع الذي أمر
الله فيه بالرد إلى الكتاب والسنة أصله أن كل واحد يرى أن كل ما عليه
مصلحة، وربما يماري ليكون قوله المقبول.
المهم أن قول الشيخ بكر
«كقواعد المصالح» مراده بذلك المصالح الشرعية، فإن كان هذا مراده فهو حق،
وإن كان يريد المصالح المرسلة فهو بعيد، لأنه قال بعد ذلك «ودفع الضرر
والمشقة»، إنا كان يشير إلى المصالح المرسلة فقد علمت فساد ما يجعلها دليلا
مستقلا.
وقوله :«ودفع الضرر» أين نجد من القرآن والسنة دفع الضرر؟ كثير، قال الله تعالى: (ولا تقتلوا أنفسكم)
(سورة النساء: 29). وهذه الآية تعم قتل النفس مباشرة بأن ينتحر الإنسان أو
فعل ما يكون سببا للهلاك، ولهذا استدل عمرو بن العاص رضي الله عنه بهذه
الآية على التيمم خوفا من البرد، مع أن البرد قد لا يميت الإنسان، ولكن قد
يكون سببا لموته، استدل بها، فأقره النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك وضحك.
هذا من القرآن. وأيضا من القرآن قوله تعالى : (وإن كنتم مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا) (سورة المائدة: 6). الشاهد قوله : (مرضى أو على سفر أو جاء أحد منكم من الغائط أو لامستم النساء فلم تجدوا ماء فتيمموا) لماذا يتيمم وهو مريض، يقدر أن يستعمل الماء؟ لكن لئلا يزاد مرضه أو يتأخر برأه.
ومن دفع المشقة أن
النبي صلى الله عليه وسلم رأى زحاما وهو في السفر، ورجلا قد ظلل عليه.
فقال: ما هذا؟ قالوا: صائم. قال:«ليس من البر الصيام في السفر» . مع
أن الرسول صلى الله عليه وسلم يصوم وهو مسافر، وهل يفعل غير البر ؟! لا
لكن إذا وصلت الحال من المشقة فإنه ليس من البر، وإذا انتفى أن يكون من
البر، فهو إما من الإثم وإما أن يكون من لا لك ولا عليك.
شكي إلى النبي صلى الله
عليه وسلم أن الناس عطاش وقد شق عليهم الصيام، لكنهم ينظرون متى، فدعا بماء
بعد صلاة العصر ووضعه على فخده الشريفة، وجعل الناس ينظرون إليه، فأخذه
وشرب، والناس ينظرون. ثم قيل له إن بعض الناس قد صام. فقال: «أولئك العصاة،
أولئك العصاة».
هل ورد نهي أن يبقوا على صيامهم؟ لا، ولكن العموم ( ولا تقتلوا أنفسكم) (سورة النساء: 29). ، (وما جعل عليكم في الدين من حرج) (سورة الحج: 78). إذا الشرع يراعي قواعد المصالح ودفع الضرر، دفع المشقة.
قوله :«وجلب التيسير» كل
الإسلام تيسير، لكن هل اليسر هوما تيسر على كل شخص بعينه أو باعتبار
العموم؟ باعتبار العموم. ومع ذلك إذا حصل للإنسان ما يقتضي التيسير وجد
الباب مفتوحا: «صل قائما..». إذا هذا تيسير، بل قال رسول الله صلى الله
عليه وسلم «إن الدين يسر ولا يشاد الدين أحدا إلا غلبه».
كل الدين يسر، وكان إذا بعث البعوث يقول: «يسروا لا وتعسروا، بشروا ولا تنفروا فإنما بعثتم ميسرين ولم تبعثوا معسرين».
فالحمد لله. هذا الدين
للإنسان دين يسر، وبناء على ذلك هل يتعمد الإنسان فعل العبادة على وجه يشق
عليه أو أن يفعلها على الوجه الأيسر. أيهما أقرب إلى مقاصد الشريعة؟
الثاني، ولهذا لو أن رجلا في البرد حانت صلاة الفجر وعنده ماء، أحدهما ساخن والآخر بارد.
فقال أنا أريد أن أتوضأ بالماء البارد حتى أنال أجر إسباغ الوضوء على المكاره.
وقال الثاني أنا أريد أن أتوضأ بالماء الساخن حتى أوافق مراد الله الشرعي، حيث قال: (يريد الله بكم اليسر)
(سورة البقرة: 185). أيهما أصوب؟ الثاني بالإجماع بلا شك هو الموافق
للشريعة، لأن إسباغ الوضوء على المكاره ليس المراد منه أن يقتصد الإنسان ما
يكره. المراد إذا لم يكن الوضوء إلا بمكروه.. يتوضأ هذا معناه.
وإلا لكان يقول أحجج البيت
على قدميك... سر من أفغانستان إلى مكة على قدميك، فإن لم تفعل فعلى سيارة
خربة، تمشي قليلا وتقف كثيرا لماذا؟ لأنها أشق.
فإن لم تستطع فعلى طيارة. ليس هذا بصحيح!! أيهما أفضل الطيارة لأنها أسهل وأيسر.
وأول ما خرجت الطيارات كنا نحدث ونحن صغار أن الحج على الطيارة ثمن الحج. وعلى السيارة نصف الحج.
والشاهد على كل حال: جلب
التيسير هو الموافق لروح الدين. من هنا نرى أنه إذا اختلف عالمان في رأي،
ولم يتبين لنا الأرجح من قولهما لا من حيث الدليل، ولا من حيث الاستدلال،
ولا من حيث المستدل.
وأحدهما أشد من الثاني،
فمن نتبع الأيسر أم الأشد؟ الأيسر. وقيل الأشد لأنه أحوط؟ لكن في هذا القول
لأننا نقول ما هو الأحوط؟ هل هو الأشد على بني آدم أم هو الموافق للشرع؟
الثاني.... ما كان أوفق للشرع.
ثم قال :«وسد الحيل وسد
الذرائع». إن هذه الأمة اتبعت سنن من كان قبلها في مسألة الحيل، وأشد الناس
حيلا ومكرا هم اليهود، وهذه الأمة فيها من تشبه باليهود وتحايلوا على
محارم الله.
والحيلة: أصلها حولة من حال يحول. هذا في اللغة.
أما في الشرع والاصطلاح: هي التوصل إلى إسقاط واجب أو انتهاك محرم بما ظاهره الإباحة .
مثال ذلك: رجل سافر في
نهار رمضان، قصده أن يفطر في رمضان وليس له قصد في السفر إلا أن يفطر. ظاهر
فعله أنه حلال، لكن أراد بذلك إلى إسقاط واجب وهو الصوم.
مثال آخر: رجل تزوج بمطلقة
صاحبه ثلاثا، ورآه محزونا عليها فذهب وتزوجها من أجل أن يحللها للزوج
الأول- الذي هو صاحبه- ليس له غرض في المرأة، وإنما يريد أن يجامعها ليلة
ثم يدعها.
نقول: هذا تحيل على محرم، لأن هذه المرأة لا تحل لزوجها الأول الذي طلقها ثلاثا وأراد أن يحللها له.
ولهذا جاء في الحديث بما
هو أهل له حيث سمي «التيس المستعار». ومن باب الحيل أيضا ما يفعله كثير من
الناس اليوم في مسائل الربا رجل باع سلعة ب، 10 آلاف إلى سنة، ثم اشتراها
نقدا بـ 8 آلاف. هذه حيلة على أن يعطي 8 آلاف ويأخذ 10 آلاف لأن هذا العقد
صوري. ولهذا قال فيه عبد الله بن مسعود أنه دراهم بدراهم دخلت بينهم حريرة،
يعني قطة قماش.
«سد الذرائع» الذرائع جمع
ذريعة، وهي الوسيلة. والفرق بينها وبين الحيلة: أن فاعل الحيلة قد قصد
التحيل. وفاعل الذريعة لم يقصد، ولكن فعله يكون ذريعة إلى الشر والفساد.
مثال ذلك: بعض النساء
اليوم صارت تلبس النقاب، تغطي وجهها بالنقاب، لكن هل إن المرأة بقيت على
هذا. بمعنى أنها لم تخرق فيه لتسر وجهها إلا مقدار العين؟... لا. إذا يمنع
النقاب لأنه ذريعة يتوصل به إلى شيء محرم؟
وهكذا هديت لرشدك أبدا،
فإن هذا يسعفك في مواطن المضايق. وعليك بالتفقه كما أسلفت في نصوص الشرع،
والتبصر فيما يحف أحوال التشريع، والتأمل في مقاصد الشريعة، فإن خلا فهمك
من هذا، أو نبا سمعك، فإن وقتك ضائع، وإن اسم الجهل عليك لواقع. وهذه الخلة
بالذات هي التي تعطيك التمييز الدقيق، والمعيار الصحيح، لمدى التحصيل
والقدرة على التخريج:
فالفقيه هو من تعرض له النازلة لا نص فيها فيقتبس لها حكما.
والبلاغي ليس من يذكر لك
أقسامها وتفريعاتها، لكنه من تسري بصيرته البلاغية في كتاب الله، مثلا،
فيخرج من مكنون علومه وجوهها، وإن كتب أو خطب، نظم لك عقدها. وهكذا في
العلوم كافة.
هذا صحيح .. الفقيه حقيقة هو الذي يستنبط الأحكام من النصوص وينزل الأحكام عليها، وليس من يقرأ النصوص.
من يقرأ النصوص فهو كنسخة
من الكتاب، لكن من يشقق النصوص وينزل الوقائع عليها، كالبلاغي... وهل
البلاغي هو من يبين لك البلاغة وأقسامها، والفصاحة وأقسامها؟ أم من يكون
كلامه بليغا؟... الثاني، من يكون كلامه بليغا فهو البلاغي، حتى ولو لم يكن
يعرف من البلاغة شيئا.
ولهذا ينبغي للإنسان أن
يطبق المعلومات على الواقع. بمعنى: أنه إذا نزلت نازلة يعرف كيف يتصرف في
النصوص حتى يعرف الحكم، وإذا عرف شيئا يمرن نفسه على أن يطبق هذا في حياته
القولية والفعلية.
تم التهذيب بواسطة زمزم
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين أما بعد :
نواصل ما بدأنا به من كتاب (حلية طالب العلم) للشيخ بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله تعالى.
القارئ: (بسم الله الرحمن الرحيم والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد
قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
30- التَّفَقُّهُ بتخريجِ الفروعِ على الأُصولِ :
من وراءِ الفِقْهِ : التَّفَقُّهُ ، ومُعْتَمِلُه هوالذي يُعَلِّقُ الأحكامَ بِمَدارِكِها الشرعيَّةِ .
وفي حديثِ ابنِ مسعودٍ رَضِي اللهُ عَنْهُ : أنَّ رسولَ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ : ((
نَضَّرَ اللهُ امْرَءًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَحَفِظَهَا وَوَعَاهَا ،
فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ
وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ )) .
قال َابنُ خَيْرٍ رَحِمَه اللهُ
تعالى في فِقْهِ هذا الحديثِ : ( وفيه بيانُ أنَّ الفِقْهَ هو الاستنباطُ
والاستدراكُ في معاني الكلامِ من طريقِ التَّفَهُّمِ ، وفي ضِمْنِه بيانُ
وُجوبِ التفَقُّهِ ، والبحْثُ على معاني الحديثِ واستخراجُ الْمَكنونِ من
سِرِّهِ ) اهـ .
وللشيخين شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميةَ
وتِلميذِه ابنِ قَيِّمِ الْجَوْزِيَّةِ رَحِمَهما اللهُ تعالى ، في ذلك
القِدْحُ الْمُعَلَّى ، ومَن نَظَرَ في كُتُبِ هذين الإمامينِ ؛ سَلَكَ به
النَّظَرُ فيها إلى التَّفَقُّهِ طَرِيقًا مُستَقِيمًا .
ومن مَلِيحِ كلامِ ابنِ تَيميةَ
رَحِمَه اللهُ تعالى قولُه في مَجْلِسٍ للتَّفَقُّهِ : ( أَمَّا بعدُ ؛ فقد
كُنَّا في مَجلِسِ التَّفَقُّهِ في الدِّينِ ، والنظَرِ في مَدارِكِ
الأحكامِ المشروعةِ ؛ تَصويرًا ،وتَقريرًا ، وتَأصيلًا ، وتَفصيلًا ،
فوقَعَ الكلامُ في ... فأقولُ : لا حَوْلَ ولاقُوَّةَ إلا باللهِ ، هذا
مَبْنِيٌّ على أَصْلٍ وفَصلَيْنِ ...)
واعْلَمْ أَرْشَدَك اللهُ أنَّ بينَ
يَدَي التَّفَقُّهِ : ( التَّفَكُّرَ ) فإنَّ اللهَ - سبحانَه وتعالى – دعا
عِبادَه في غيرِ ما آيةٍ من كتابِه إلى التحَرُّكِ بإجالةِ النظَرِ
العميقِ في ( التَّفَكُّرِ ) في مَلكوتِ السماواتِ والأرضِ وإلى إن
يُمْعِنَ المرءُ النظَرَ في نفسِه ، وما حولَه ؛ فَتْحًا للقُوَى
العَقليَّةِ على مِصراعَيْهَا ، وحتى يَصِلَ إلى تَقويةِ الإيمانِ ،
وتَعميقِ الأحكامِ والانتصارِ العِلْمِيِّ : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ}. وعليه فإنَّ ( التفَقُّهَ ) أبعَدُ مَدًى من ( التفَكُّرِ ) ؛ إذ هو حَصيلتُه وإنتاجُه ؛ وإلا{ فَمَا لِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا} .
لكنَّ هذا التَّفَقُّهَ مَحجوزٌ بالبُرهانِ ، مَحجورٌ عن التَّشَهِّي والْهَوَى : { وَلِئْنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَانَصِيرٍ}.
فياأيُّها الطالبُ ! تَحَلَّ
بالنظَرِ والتفَكُّرِ ، والفقْهِ والتفَقُّهِ ؛ لعلك أن تَتجاوَزَ من
مَرحلةِ الفقيهِ إلى ( فقيهِ النفْسِ) كما يقولُ الفُقهاءُ ، وهو الذي
يُعَلِّقُ الأحكامَ بِمَدارِكِها الشرعيَّةِ ، أو ( فقيهِ البَدَنِ ) كما
في اصطلاحِ الْمُحَدِّثِينَ .
فأَجْلِ النظَرَ عندَ الوارداتِ
بتَخريجِ الفُروعِ على الأصولِ ، وتَمامِ العنايةِ بالقواعدِ والضوابطِ .
وأَجْمِعْ للنَّظَرِ في فَرْعٍ ما بينَ تَتَبُّعِه وإفراغِه في قالَبِ
الشريعةِ العامِّ من قواعدِها وأصولِها الْمُطَّرِدَةِ ؛ كقواعدِ المصالِحِ
، ودفْعِ الضرَرِ والمشَقَّةِ وجَلْبِ التيسيرِ ، وسَدِّ بابِ الْحِيَلِ
وسَدِّ الذرائعِ .
وهكذا هُدِيتَ لرُشْدِكَ أَبَدًا ؛
فإنَّ هذايُسْعِفُكَ في مَواطِنِ الْمَضايِقِ وعليك بالتَّفَقُّهِ – كما
أَسْلَفْتُ – في نصوصِ الشرْعِ ، والتبَصُّرِ فيما يَحُفُّ أحوالَ التشريعِ
، والتأمُّلِ في مَقاصِدِالشريعةِ ، فإنْ خَلَا فَهْمُك من هذا ، أو نَبَا
سَمْعُكَ ؛ فإنَّ وَقْتَكَ ضائعٌ ، وإنَّ اسمَ الْجَهْلِ عليك لواقِعٌ
وهذه الْخَلَّةُ بالذاتِ هي التي تُعطيكَ التمييزَ الدقيقَ ، والْمِعيارَ
الصحيحَ ، لِمَدَى التحصيلِ والقُدرةِ على التخريجِ .
فالفقيهُ هو مَن تَعْرِضُ له
النازلةُ لا نَصَّ فيهافيَقْتَبِسُ لها حُكْمًا ، والبَلاغِيُّ ليس من
يَذْكُرُ لك أقسامَها وتَفريعاتِها ، لكنه مَن تَسْرِي بَصيرتُه
البلاغيَّةُ في كتابِ اللهِ مَثَلًا ، فيُخْرِجُ من مَكنونِ عُلومِه
وُجُوهَها وإن كَتَبَ أو خَطَبَ نَظَمَ لك عِقْدَها . وهكذافي العلومِ
كافَّةً .
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (الأدب الثلاثون من آداب طالب العلم : التفقه بتخريج الفروع على الأصول ، فالمراد بالفقه :
الفهم الدقيق الذي يمكّنك من استخراج الأحكام من الأدلة ، هذا هو الفقه ،
وهو من أجَلِّ العبادات ، وحاجة الأمة إليه من أعظم الحاجات ، وقد رغّب
الله عز وجل في ذلك في قوله سبحانه : {وَمَا كَانَ
الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ
فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا
قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ}
وأمر الله عز وجل بالرجوع إلى هذا الصنف ، وهم الفقهاء الذين يستنبطون الأحكام من الأدلة لقوله سبحانه : {وَإِذَا
جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ
رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ
الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } يعني يستخرجون الحكم من الأدلة ، وهذا هو الفقه.
قال المؤلف : (وجاء في الحديث أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : "من يرد الله به خيرا يفقهه في الدين") ولفظة الفقه تطلق على اصطلاحات متعددة :
أولها : الاصطلاح الشرعي ،
حيث يراد بالفقه ؛ معرفة الأحكام من الأدلة ، سواء كانت أحكاما عقديّة ، أو
أحكاما عمليّة ، بحيث يشمل العقيدة ، ويشمل علم الفروع ، ويشمل التفسير ،
ويشمل فهم الحديث ، كله يُسمّى فقها في الاصطلاح الشرعي.
الثاني من مسمّى الفقه : القدرة على استخراج الأحكام من الأدلة ، التي يسمّونها الملكة.
الثالث : إطلاق اسم الفقه على
الأحكام العملية ، وهذا هو الغالب في عمل المؤلفين ، إذا قالوا : كتب
الفقه ، فالمراد بها الأحكام العملية ، وهناك طائفة خصّوه بالأحكام
الاجتهاديّة ، غير ما يُعلم من الدين بالضرورة ، كما فعل الرازي وغيره.
لكن الاصطلاح المشهور هو الثالث ، أما الاصطلاح
والاستعمال الشرعي فهو الأول ، وهو الذي كان عليه علماء الشريعة في الزمان
الأول ، ولذلك كان الإمام أبوحنيفة يقول : الفقه هو معرفة النفس مالها وما
عليها.
قال المؤلف : (بتخريج الفروع على الأصول)
المراد بالفروع المسائل التي تُبنى على غيرها ، وتُعرف أحكامها من خلال
غيرها ، والفرع في اللغة هو الجزء المستخرج ، وبعضهم يقول : هو ما يُبنى
على غيره.
قال : والأصول جمع أصل ، والأصول قد يُراد بها أحد ثلاثة اصطلاحات :
الأول : الأدلة الشرعية :
فالقرآن والسنة هي أصول الأحكام ، وهي الأصل في تخريج الفروع على الأصول ،
وحينئذ نحتاج مع هذه الأصول إلى علم أصول الفقه ، الذي هو تخريج أو تفقه.
المعنى الثاني أن يُراد بالأصول : القواعد الفقهيّة فإنها قواعد يُحكم بها على فروع كثيرة ، وتشتمل على دليل المسألة ، وعلى مأخذها.
والثالث : أن يُراد بالأصول ؛
الضوابط الفقهية لكل باب ، وهذه الضوابط اعتنى العلماء في كتابتها في
مؤلفاتهم الفقهية وخصوصا المختصرات ، كزاد المستقنع ونحوه.
وحينئذ الناس الذين يستخرجون الأحكام على ثلاثة أنواع :
النوع الأول : من يقيس في المسائل الجديدة على المسائل التي تكلّم فيها الأئمّة ، و هؤلاء يُسمّوْن أهل التخريج.
الثاني : من إذا وردت إليه
مسألة عرف حكمها من القواعد الفقهية التي عنده ، ما أحكام ركوب الطائرات
ووجود الضيق فيها ، يستخرجه من قواعد المشقة والضرر ، المشقة تجلب التيسير ،
أو قول بعضهم : العسر سبب لليسر.
فهذه الرتبة أعلى من الرتبة السابقة ، لأنه يعتمد على العلل وعلى مآخذ الأدلة ، أما الأول فيعتمد على أقوال الفقهاء.
الثالث : من يعتمد على الأصول
الشرعية كتابا وسنة ، فكلما وردت إليه مسألة نظر في كتاب الله وفي سنة
نبيه صلى الله عليه وسلم بالقواعد الأصولية ، فاستخرج الحكم منها ، من
الكتاب والسنة.
وهؤلاء كالكبريت الأحمر ، ووجودهم في الأمة قليل نادر ، ولو يوجد في الزمان عشرة من هؤلاء لكفوا الأمة.
أسأل الله جل وعلا أن يكثر من هذا الصنف في أمة محمد صلى الله عليه وسلم إلى قيام الساعة ، وأن يجعلكم من هذا الصنف.
إذا تقرر هذا ؛ فإنّ الكتاب والسنة فيهما نص على جميع
المسائل إما بذكر المسألة باسمها أو بالإتيان بحكم عام يشمل مسائل متعددة
كثيرة ، ولذلك ما من مسألة إلا وفي كتاب الله حكمها ، قال تعالى : {وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ} ، لكن قد يخفى النص في بعض المواطن على بعض الفقهاء ، فيحتاج إلى إعمال القياس.
قال المؤلف : (من وراء الفقه التفقه)
بعد ذلك اعتنى أهل العلم بالتأليف في فن يسمّونه تخريج الفروع على الأصول ،
بحيث يُرجعون المسائل الفقهية الفرعية إلى القواعد الأصولية.
ولعلّ هذا ليس مراد المؤلف ، فالأصول عنده إمّا القواعد وإمّا النصوص ، إما القواعد الفقهيّة أو النصوص.
وألّف جماعات في تخريج الفروع على الأصول ، ممن ألّف الزنجاني المتوفى سنة 656هـ كتابه (تخريج الفروع على الأصول) ، وابن التلمساني في (مفتاح الأصول إلى علم الأصول) ، وممن ألّف أيضا ابن اللحام في كتابه (القواعد والفوائد الأصولية) ، وممن ألف في هذا التمرتاشي ، وألف جماعة في هذا الباب.
ولكن يلاحظ عليهم أمور :
أولها : أنّ المسألة الفقهية
تُبنى على أدلة كثيرة ، فعند حصر المسألة الفقهية في دليل واحد ، يكون ذلك
جوْرا على بعض الأدلة لصالح بعض ، عندنا مسألة فقهية انبنت على دليل من شرع
من قبلنا ، ودليل من الكتاب ، ودليل من السنة ، فعندما تحصر المسألة
الفقهية في شرع من قبلنا يكون كلامك خاطئا.
الأمر الثاني : أنّ كثيرا من
أهل العلم يُخرّج المسائل أو يُخرّج ألفاظ الناس على الكلام الفقهي ،
فعندك مثلا : إذا قال الزوج للزوجة : طالق ، فهم خرّجوها على مسألة المفرد
المضاف إلى معرفة ، هل يعم أو لا؟
حينئذ نقول : نحن لا نعتني بتخريج كلام الناس على الأصول ، وإنما نعتني بتخريج المسائل الفقهية الشرعية على الأصول.
الأمر الثالث : أنّ كثيرا
منهم يُخرّج المسألة على أصل التقعيد ، وإن كانت متفرّعة على بعض شروط
المسألة الأصولية ، مثال هذا : عندنا مسألة : الأمر هل يفيد الوجوب أو لا؟
يأتي الفقيه ويخرّج عليها مسألة الإشهاد بالبيع ، لقوله : {وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ}
في الحقيقة هذه لا تخرج على قاعدة : الأمر للوجوب ، وإنما تخرّج على قاعدة
: هل وجدت قرينة تصرف هذا الأمر عن أصله الذي هو الوجوب أو لا.
على كلٍ الأصل أن تخرّج المسائل الفقهيّة على النصوص ، فإن عجز الإنسان خرّجها على العلل والقواعد الفقهيّة.
قال المؤلف : (من وراء الفقه التفقه) فمنشأ حصول الفقه عندك هو التفقه ، والتفقه والفقه هو الذي يجعلك تعلّق الأحكام الشرعية بأدلّتها وبعللها، وهذا هو الفقه الذي هو تعليق الحكم بدليله ، هذا هو الفقه ، وهو الداخل في قول النبي صلى الله عليه وسلم : "رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".
فالفقه هو الاستنباط : يعني استخراج الحكم من الدليل ،
وهو الاستدراك في معاني الكلام من طريق فهم ، يعني استخراج الفوائد من
الكلام ، وفي ضمن هذا الحديث أنّ التفقه واجب للحاجة إليه ، والبحث على
معاني الحديث ، هذا مما يدخل في الحديث في التفقه.
فمن معاني التفقه : استنباط الفوائد واستنباط الأحكام من الأدلة.
(للشيخين في ذلك القِدح المعلى) ما هو القِدح؟ السهم ، فالسهم الذي يسبق ، أو يفوز ، أو يُدرك محل السبق.
وبعضهم يقول : هو الرِيَش التي تكون في السهم أو في مقدمته.
(ومن نظر في كتب هذين الإمامين) شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيّم ، فإنه يستنبط منهما فوائد ، يقول: كيف فتح الله عليهم هذه الفوائد.
(قال ابن تيمية : كنا في مجلس التفقه في الدين ، والنظر في مدارك الأحكام) المدارك التي هي العلل والمعاني التي يُربط الحكم بها.
(تصويرا) يعني معرفة صورة المسألة ، وهذا أول ما تبدأ به ، ثم بعد ذلك :
(تقريرا) تقرر هذه المسألة.
ثم (تأصيلا) معرفة الأصل الذي ترجع إليه.
(تفصيلا) معرفة كيف انبنت هذه المسألة على أصلها.
(وبين يدي التفقه التفكر) وهو
التأمل قبل أن تحصل لك رتبة الفقه ، لابد أن يسبقها التفكر ، والله جل
وعلا قد أمر عباده بالتفكر ، سواء التفكر في الآيات الشرعية كتابا وسنة ،
أو التفكر في الآيات الكونية.
{كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} آياته الشرعية هنا ، لأنّ البيان في الكتاب والسنة.
وحينئذ التفكر طريق للتفقه ، لكن التفقه أعمق ، فالتفكر وسيلة ، والتفقه نتيجة.
وقد عاب الله على المنافقين بأنهم لا يكادون يفقهون
حديثا ، ومن هنا فالتفقه مبني على الأدلة والبراهين ، لكنه إذا حصل هناك
هوى وتشهّي فإنّ الإنسان لن يفقه ، التشهّي والهوى يصد العقل عن التفقه.
(فيا أيها الطالب تحلّى بالنظر والتفكر والفقه والتفقه) وحينئذ تصل إلى مرحلة فقيه النفس ، والناظر في الأحكام الشرعية يجد أنّ الفقهاء على ثلاثة أنواع :
النوع الأول : الفقيه الذي ينظر في جزئيات المسائل ، ويتقنها ، فمثل هذا يُسمونه بالفقيه ، ولكنه لا يجوز له استنباط الأحكام من الأدلة.
والنوع الثاني : من يتجاوز
الجزئيات إلى الكلّيات ، فيُحصّل كُلّيات الشريعة ، فهذا يتمكّن من التخريج
والتفقه ، و لكن قد يُخطئ كثيرا ، لأنه يغفل عن جزئيات تُرتب عليها
كُلّيات.
الثالث : من أدرك الجزئيات والكليات ، هذا هو الفقيه ، هذا هو فقيه النفس.
قال المؤلف في تفسير التفكر : (هو التحرك بإجالة النظر –يعني تقليب النظر وجعله يجول- العميق في التفكر)
(فأجل النظر عند الواردات) يعني المسائل الجديدة ، بتخريج هذه الواردات على أصولها ، ومما يعينك على ذلك ، ضبطك للقواعد الفقهية والضوابط.
ذكر المؤلف شيئا من الكليات : (المصالح ، ودفع الضرر والمشقة ، جلب التيسير ، سد باب الحيل ، سد الذرائع)
هذه كلها إيش؟ من القواعد الكلية ، سبق أن ذكرنا أنّ الشرع ينقسم إلى
جزئيات و كليات ، من حصّل الجزئيات ولم يحصّل الكليات ، لا يجوز له أن
يجتهد ، ليس مؤهلا.
الثاني : من تجاوز الجزئيات
إلى معرفة الكليات، لكنه لم يحط بالجزئيات ، فهذا يجوز له الاجتهاد ، لكن
كثيرا ما يخطئ ، يعني يخفى عليه بعض الجزئيات التي تخالف تفصيله ، مثال هذا
:
ما هي المعاني في باب صلاة الجمعة ، اليوم صلينا الجمعة ، ما مقصود الشارع من هذا؟
قال : مقصد الشارع من هذا هو اجتماع الناس ، فقد يأتيك
فقيه فيقول : قد نؤخر صلاة الجمعة عن أول الوقت ، فالمستحب أن نؤخر صلاة
الجمعة عن أول الوقت إذا كان هناك عمل ، كان هناك شغل ، حينئذ نقول : هذا
اجتهاد جيد ، لكن مرّة قد يقول : الناس لا يتمكنون من الاجتماع يوم الجمعة
لانشغالهم بالوظائف في دول الغرب ، ويوم الإجازة هو يوم الأحد فمراعاةً
لمقصد الشريعة الكلّي في اجتماع الناس نجعل صلاة الجمعة يوم الأحد ، ماشي!
ليش؟ راعينا الكليات ، إذن هنا وقعنا في خطأ ، لماذا؟ لأننا راعينا الكليّ
ولم نلحظ الجزئي.
هكذا أيضا فيما يتعلّق بدفع الضرر أو بجلب التيسير ، أو بالحيل أو الذرائع ، لابد من ملاحظة الأمرين معا ، الكلي والجزئي.
إن لاحظنا الجزئي وقعنا في غلط ، وصادمنا كلّيات الشريعة
، وإن لاحظنا الكليَ وحده فيمشي على ضعف لأننا قد لا ننتبه إلى جزئي يلحظ
فيه كليٌ آخر ، لأننا لو جعلنا صلاة الجمعة يوم الأحد ، لأدّى ذلك إلى
تغيير مراسم الشرع ، وانطماس الشريعة بالكلية ، وكل ما جاءنا مسألة رحنا
نغير في الشرع من أجل هذه المسألة.
فحينئذ صحيح التفتنا إلى كلي لكن غفلنا عن كلي أهم منه وأولى منه ، وما ذاك إلا لأننا غفلنا عن الجزئيات.
دعا المؤلف إلى التفقه في نصوص الشرع وهذا أعلى من التفقه في القواعد ، وأعلى من التفقه في المقاصد والكليات الشرعية.
قال : (فإن خلا فهمك من هذا أو نبا سمعك –يعني انتقل وتركه- فإن وقتك ضائع)
(هذه الخلة) وهي تخريج الفروع على الأصول والتفقه هي التي تعطيك التمييز الدقيق ، يعني الفصل بين المسائل المختلفة لاختلاف عللها ومداركها.
وهو الذي يعطيك المعيار الصحيح الذي تحكم به على المسائل وعلى المتكلّمين في الحكم.
قال المؤلف : (فالفقيه هو الذي تعرض له النازلة لا نصّ فيها فيقتبس لها حكما من النصوص) هذا هو الفقيه ، لكن لابد أن يعرف الأصول أي النصوص الشرعية ، ويعرف قواعد الاستنباط ، ويتمكّن من تطبيقها.
قول المؤلف هنا : (لا نص لها) أو (لا نص فيها)
مراده : لم يعرف الناس النص بتلك المسألة وإلا ما من مسألة إلا وفيها نص ،
لكن في بعض المواطن تخفى النصوص على بعض الفقهاء ، فيحتاجون إلى إعمال
التخريج وإعمال القياس.
من حفظ القواعد الأصولية لكنه لا يتمكن من تطبيقها فليس
بأصولي ، هكذا الفقيه ، من حفظ الفروع الفقهية لكنه لا يتمكن من استخراجها ،
هذا ليس بفقيه وإنما هو فروعي ، إنما هذا فروعي.
حفظ المغني ، حفظ المنذر ، حفظ زاد المستقنع ، والروض ،
لكنه لا يعرف استخراج أحكام المسائل الجديدة من الأدلة ، هذا ليس بفقيه ،
هذا فروعي ، هكذا أيضا في البلاغي ، أو النحوي ، إنسان حفظ قواعد النحو ،
لكن ما يعرف يطبّقها ، ولا يعرف يستخرج الخطأ ، ولا يعرف يفهم من خلال
قواعد النحو كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم وكلام الناس ،
فحينئذ هذا ليس بنحوي ، مثله الفقيه الذي لا يعرف كيفية الاستنباط هذا ليس
بفقيه ، نعم.