10 Dec 2008
الدرس الثالث عشر: ضبط العلم ورعايته وتعاهده
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (
27-حفْظُ العلْمِ كتابةً :
ابْذُلْ
الْجَهْدَ في حِفْظِ العلْمِ ( حِفْظَ كتابٍ ) ؛ لأنَّ تقييدَ العلْمِ
بالكتابةِ أمانٌ من الضياعِ ، وقَصْرٌ لمسافةِ البحْثِ عندَ الاحتياجِ ، لا
سِيَّمَا في مسائلِ العِلْمِ التي تكونُ في غيرِ مَظَانِّها ، ومن أَجَلِّ
فوائدِه أنه عندَ كِبَرِ السنِّ وضَعْفِ الْقُوَى يكونُ لديكَ مادَّةٌ
تَسْتَجِرُّ منها مادَّةً تَكْتُبُ فيها بلا عَناءٍ في البَحْثِ
والتَّقَصِّي .
ولذا
؛ فاجْعَلْ لك ( كُناشًا ) أو ( مُذَكِّرَةً ) لتقييدِ الفوائدِ والفرائدِ
والأبحاثِ الْمَنثورةِ في غيرِ مَظَانِّها ، وإن اسْتَعْمَلْتَ غُلافَ
الكتابِ لتَقييدِ ما فيه من ذلك ؛ فحَسَنٌ ، ثم تَنْقُلُ ما يَجْتَمِعُ لك
بعدُ في مُذَكِّرَةٍ ؛ مُرَتِّبًا له على الموضوعاتِ مُقَيِّدًا رأسَ
المسألةِ ، واسمَ الكتابِ ، ورقْمَ الصفحةِ والمجلَّدِ ، ثم اكْتُبْ على ما
قَيَّدْتَه : ( نُقِلَ ) ؛ حتى لا يَخْتَلِطَ بما لم يُنْقَلْ كما تَكتُبُ
: ( بلَغَ صفحةَ كذا ) فيما وَصَلْتَ إليه من قراءةِ الكتابِ حتى لا
يَفُوتَك ما لم تَبْلُغْه قراءةً .
وللعلماءِ
مؤَلَّفَاتٌ عدَّةٌ في هذا ؛ منها : ( بدائعُ الفوائدِ ) لابنِ القَيَّمِ
و( خَبايَا الزوايا ) للزَّرْكَشيِّ ، ومنها : كتابُ ( الإغفالِ ) ، و(
بَقَايا الْخَبَايا ) وغيرُها ، وعليه فَقَيِّدِ العِلْمَ بالكتابِ لا
سِيَّمَا بدائعَ الفوائدِ في غيرِ مَظَانِّها ، وخَبَايَا الزوايا في غيرِ
مَسَاقِها ، ودُرَرًا مَنثورةً تَراهَا وتَسْمَعُها تَخْشَى فَوَاتَها …
وهكذا ؛ فإنَّ الْحِفْظَ يَضْعُفُ ، والنسيانَ يَعْرِضُ .قالَ الشعبيُّ : ( إذا سَمِعْتَ شيئًا ؛ فاكْتُبْهُ ولو في الحائطِ ) .رواه خَيثَمَةُ .
وإذا
اجْتَمَعَ لديك ما شاءَ اللهُ أن يَجْتَمِعَ ؛ فرَتِّبْهُ في ( تَذْكِرَةٍ )
أو ( كُناشٍ ) على الموضوعاتِ ؛ فإنه يُسْعِفُكَ في أَضْيَقِ الأوقاتِ
التي قد يَعْجِزُ عن الإدراكِ فيها كِبارُ الأثباتِ .
28- حِفْظُ الرِّعايةِ :
ابْذُل
الوُسْعَ في حِفْظِ العلْمِ ( حفْظَ رِعايةٍ ) بالعمَلِ والاتِّباعِ ؛
قالَ الْخَطيبُ البَغداديُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( يَجِبُ على طالِبِ
الحديثِ أن يُخْلِصَ نِيَّتَه في طَلَبِه ، ويكونَ قَصْدُه وَجْهَ اللهِ
سبحانَه ، ولْيَحْذَرْ أن يَجْعَلَه سَبيلًا إلى نَيْلِ الأعراضِ ) ،
وطريقًا إلى أَخْذِ الأعواضِ ؛ فقد جاءَ الوعيدُ لِمَن ابْتَغَى ذلك
بعِلْمِه .
ولْيَتَّقِّ
المفاخَرَةَ والْمُباهاةَ به ، وأن يكونَ قَصْدُه في طَلَبِ الحديثِ
نَيْلَ الرئاسةِ واتِّخاذَ الأتباعِ وعَقْدَ المجالِسِ ؛ فإنَّ الآفَةَ
الداخلةَ على العُلماءِ أَكْثَرُها من هذا الوجْهِ .
ولْيَجْعَلْ
حِفْظَه للحديثِ حِفْظَ رعايةٍ لا حِفْظَ روايةٍ ؛ فإنَّ رُواةَ العُلومِ
كثيرٌ ، ورُعاتَها قَليلٌ ، ورُبَّ حاضرٍ كالغائبِ ، وعالِمٍ كالجاهِلِ ،
وحاملٍ للحديثِ ليس معه منه شيءٌ إذ كان في اطِّرَاحِه لِحُكْمِهِ
بِمَنْزِلَةِ الذاهبِ عن مَعرفتِه وعِلْمِه .
ويَنبغِي
لطالِبِ الحديثِ أن يَتمَيَّزَ في عامَّةِ أمورِه عن طرائقِ العَوَامِّ
باستمعالِ آثارِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أَمْكَنَه
، وتوظيفِ السُّنَنِ على نفسِه ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } اهـ .
29 – تَعَاهُدُ المحفوظاتِ :
تَعاهَدْ عِلْمَك من وَقتٍ إلى آخَرَ ؛ فإنَّ عَدَمَ التعاهُدِ عُنوانُ الذهابِ للعِلْمِ مهما كان .
عن ابنِ عمرَ رَضِي اللهُ عنهما أنَّ رسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ :(( إِنَّمَا
مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعْقَلَةِ ، إن
عاهدَ عليها أَمْسَكَها وإن أَطْلَقَها ذَهَبَتْ )).رواه الشيخانِ ، ومالِكٌ في ( الْمُوَطَّأِ ) .
قالَ
الحافظُ ابنُ عبدِ البَرِّ رَحِمَه اللهُ : ( وفي هذا الحديثِ دليلٌ على
أنَّ مَن لم يَتَعَاهَدْ عِلْمَه ذَهَبَ عنه ، أيْ مَنْ كان ؛ لأنَّ
عِلْمَهم كان ذلك الوَقْتَ القرآنَ لا غيرَ ، وإذا كان القرآنُ
الْمُيَسَّرُ للذكْرِ يَذْهَبُ إن لم يُتَعَاهَدْ ؛ فما ظَنُّكَ بغيرِه من
العلومِ المعهودةِ ؟! وخيرُ العلومِ ما ضُبِطَ أَصْلُه ، واسْتُذْكِرَ
فَرْعُه ، وقادَ إلى اللهِ تعالى ودَلَّ على ما يَرضاهُ ) اهـ . وقالَ بعضُهم ( كلُّ عِزٍّ لم يُؤَكَّدْ بعِلْمٍ فإلى ذُلٍّ مَصيرُه ) اهـ .
حفْظُ العلْمِ كتابةً
المتن:
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (ابْذُلْ
الْجَهْدَ في حِفْظِ العلْمِ ( حِفْظَ كتابٍ ) ؛ لأنَّ تقييدَ العلْمِ
بالكتابةِ أمانٌ من الضياعِ ، وقَصْرٌ لمسافةِ البحْثِ عندَ الاحتياجِ ، لا
سِيَّمَا في مسائلِ العِلْمِ التي تكونُ في غيرِ مَظَانِّها ، ومن أَجَلِّ
فوائدِه أنه عندَ كِبَرِ السنِّ وضَعْفِ الْقُوَى يكونُ لديكَ مادَّةٌ
تَسْتَجِرُّ منها مادَّةً تَكْتُبُ فيها بلا عَناءٍ في البَحْثِ
والتَّقَصِّي .
ولذا
؛ فاجْعَلْ لك ( كُناشًا ) أو ( مُذَكِّرَةً ) لتقييدِ الفوائدِ والفرائدِ
والأبحاثِ الْمَنثورةِ في غيرِ مَظَانِّها ، وإن اسْتَعْمَلْتَ غُلافَ
الكتابِ لتَقييدِ ما فيه من ذلك ؛ فحَسَنٌ ، ثم تَنْقُلُ ما يَجْتَمِعُ لك
بعدُ في مُذَكِّرَةٍ ؛ مُرَتِّبًا له على الموضوعاتِ مُقَيِّدًا رأسَ
المسألةِ ، واسمَ الكتابِ ، ورقْمَ الصفحةِ والمجلَّدِ ، ثم اكْتُبْ على ما
قَيَّدْتَه : ( نُقِلَ ) ؛ حتى لا يَخْتَلِطَ بما لم يُنْقَلْ كما تَكتُبُ
: ( بلَغَ صفحةَ كذا ) فيما وَصَلْتَ إليه من قراءةِ الكتابِ حتى لا
يَفُوتَك ما لم تَبْلُغْه قراءةً .
وللعلماءِ
مؤَلَّفَاتٌ عدَّةٌ في هذا ؛ منها : ( بدائعُ الفوائدِ ) لابنِ القَيَّمِ
و( خَبايَا الزوايا ) للزَّرْكَشيِّ ، ومنها : كتابُ ( الإغفالِ ) ، و(
بَقَايا الْخَبَايا ) وغيرُها ، وعليه فَقَيِّدِ العِلْمَ بالكتابِ لا
سِيَّمَا بدائعَ الفوائدِ في غيرِ مَظَانِّها ، وخَبَايَا الزوايا في غيرِ
مَسَاقِها ، ودُرَرًا مَنثورةً تَراهَا وتَسْمَعُها تَخْشَى فَوَاتَها …
وهكذا ؛ فإنَّ الْحِفْظَ يَضْعُفُ ، والنسيانَ يَعْرِضُ .قالَ الشعبيُّ : ( إذا سَمِعْتَ شيئًا ؛ فاكْتُبْهُ ولو في الحائطِ ) .رواه خَيثَمَةُ .
وإذا
اجْتَمَعَ لديك ما شاءَ اللهُ أن يَجْتَمِعَ ؛ فرَتِّبْهُ في ( تَذْكِرَةٍ )
أو ( كُناشٍ ) على الموضوعاتِ ؛ فإنه يُسْعِفُكَ في أَضْيَقِ الأوقاتِ
التي قد يَعْجِزُ عن الإدراكِ فيها كِبارُ الأثباتِ .
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
27- حفظ العلم كتابة:
ابذل
الجهد في حفظ العلم (حفظ كتاب)، لأن تقييد العلم بالكتابة أمان من الضياع،
وقصر لمسافة البحث عند الاحتياج، لا سيما في مسائل العلم التي تكون في غير
مظانها، ومن أجل فوائده أنه عند كبر السن وضعف القوى يكون لديك مادة تستجر
منها مادة تكتب فيها بلا عناء في البحث والتقصي.
«ابذل» همزة وصل، لكن عند
الابتداء بها تكون همزة قطع. بذل الجهد في الكتابة مهم، لا سيما في نوادر
المسائل أو في التقسيمات التي لا تجدها في بعض الكتب.
كم من مسألة نادرة مهمة لا
يقيدها اعتمادا على أنه يقول: إن شاء الله لا أنساها. فإذا به ينساها
ويتمنى لو كتبها، ولكن احذر أن تكتب على كتابك على هامشه أو بين سطوره،
كتابة تطمس الأصل فإن بعض الناس يكتب على هامش الكتاب أو بين سطوره كتابة
تطمس الأصل، لكن يجب إذا أردت أن تكتب على كتابك أن تجعله على الهامش
البعيد من الأصل لئلا يلتبس هذا بهذا، فإن لم يتيسر هذا، كأن ما تريد
تعليقه أكثر من الهامش فلا ضير عليك أن تجعل ورقة بيضاء تلصقها بين الورقات
وتشير إلى موضعها من الأصل وتكتب ما شئت، وكان طلبة الشيخ عبد الرحمن بن
سعدي رحمه الله يحدثوننا أنهم يأخذون مذكرات صغيرة يجعلونها في الجيب كلما
ذكر الإنسان منهم مسألة قيدها، إما فائدة علم في خاطر، أو مسألة يسأل عنها
الشيخ فيقيدها، فاستفادوا بذلك كثيرا. ولذا، فاجعل لك (كناشا) أو (مذكرة)
لتقييد الفوائد والفرائد والأبحاث المنثورة في غير مظانها، وإن استعملت
غلاف الكتاب لتقييد ما فيه من ذلك، فحسن، ثم تنقل ما يجمع لك بعد في مذكرة،
مرتبا له على الموضوعات، مقيدا رأس المسألة، واسم الكتاب، ورقم الصفحة
والمجلد، ثم اكتب على ما قيدته :«نقل»، حتى لا يختلط بما لم ينقل، كما تكتب
:«بلغ صفحة كذا» فيما وصلت إليه من قراءة الكتاب حتى لا يفوتك ما لم تبلغه
قراءة.
وللعلماء
مؤلفات عدة في هذا، منها :«بدائع الفوائد»، لابن القيم، و«خبايا الزوايا»
للزركشي، ومنها: كتاب «الإغفال»، و«بقايا الخفايا»، وغيرها.
ومنها أيضا «صيد الخاطر»
لابن الجوزي، لكن أحسن ما رأيت «بدائع الفوائد» لأبن القيم أربعة أجزاء في
مجلدين، فيها من بدائع العلوم ما لا تكاد تجده في كتاب أخر لكل فن. كل ما
طرأ على باله قيده، لذلك تجد فيه من العقائد في التوحيد، في الفقه، في
النحو، في البلاغة، في التفسير، في كل شيء.
أحيانا يبحث في كلمة من
الكلمات اللغوية في صفحة تحليلا وتفريعا واشتقاقا وغير ذلك. بحث بحثا بالغا
في الفرق بين «المدح والحمد»، كتب كتابة فائقة في ذلك، وقال: كان شيخنا
إذا بحث في مثل هذا أتى بالعجب العجاب لكنه كما قيل:
تألق البرق نجديا فقلت له=إليك عني فإني عنك مشغولا
يعني
رحمه الله مشغول بما هو أهم من التحقق في اللغة العربية وإلا فهو- شيخ
الإسلام – رحمه الله آية في اللغة العربية، لما قدم مصر اجتمع بأبي حيان
المصري الشهير صاحب «البحر المحيط» في التفسير، وكان أبو حيان يثني على شيخ
الإسلام ثناء عطرا، ويمدحه بقصائد عصامية، ومن جملة ما يقول فيه:
قام ابن تيمية في نصر شريعتنا ... مقام سيد يتم إذ عصت مضر
يعني
أبي بكر يوم الردة. فلما قدم مصر شيخ الإسلام اجتمع بهذا الرجل- أبي حيان-
وتناظر معه في مسألة نحوية واحتج عليه أبو حيان بقول سيبويه في كتابه، قال
إن سيبويه في كتابه قال كذا وكذا. فكيف تخالفه؟.
فقال له شيخ الإسلام:«وهل
سيبويه نبي النحو؟!» يعني: حتى يجب علينا اتباعه، ثم قال:«لقد غلط في
الكتاب في أكثر من 80 موضعا لا تعلمها أنت ولا هو». سبحان الله !! هكذا
يقول لسيد النحاة.
يقال: إن أبا حيان بعد ذلك أخذ عليه وصار بنفسه فأنشأ قصيدة يهجوه فيها.
عفا الله عنا وعنهم جميعا. المهم أن كتاب «بدائع الفوائد» من أجمل الكتب، فيه فوائد لا تجدها في غيره.
وعليه، فقيد العلم
بالكتاب، لاسيما بدائع الفوائد في غير مظانها، وخبايا الزوايا في غير
مساقها، ودررا منثورة تراها وتسمعها تخشي فواتها...... وهكذا، فإن الحفظ
يضعف، والنسيان يعرض.
قوله:«لاسيما بدائع» الأفصح في هذا أن تكون مرفوعة بعد لاسيما، يجوز النصب ولكن الأحسن الرفع.
ومعني الكلام: أنه يحث على
كتابة هذه الأشياء، بدائع الفوائد التي تعرض للإنسان حتى لا ينساها وكذلك
أيضا ولاسيما إذا كانت في غير مظانها لأنك أحيانا تبحث عن مسألة تظنها مثلا
في باب الصيد وهي مذكورة في مكان آخر، فإذا ذكرت في مكان آخر فقيدها،
وكذلك أيضا«خبايا الزوايا في غير مساقها» وهي بمعني الجملة الأولي. و«درر
منثورة تراها» وتسمعها تخشي فواتها. وهذه أيضا مسائل تعرض لك أو تعرض في
كتب أهل العلم وهي منثورة، فهذه يجب أن تجمعها وتجعلها في كتاب.
قال الشعبي:«إذا سمعت شيئا، فاكتبه، ولو في الحائط». رواه خيثمة.
وإذا اجتمع لديك ما شاء
الله أن يجتمع، فرتبه في (تذكرة) أو (كناش) على الموضوعات، فإنه يسعفك في
أضيق الأوقات التي قد يعجز عن الإدراك فيها كبار الأثبات.
وهل الأولى أن ترتبها على
الموضوعات أو أن ترتبها على ألف وباء؟ نرى أنه على ألف باء أحسن، وذلك لأن
ترتيبها على الموضوعات تختلف فيه كتب العلماء، تجد مثلا: ترتيب الحنابلة
يفترق عن الشافعية لاسيما في المعاملات، بل إن نفس المذهب الواحد يختلف
ترتيبه. ترتيب المتقدمين منهم والمتأخرين.
تم التهذيب بواسطة زمزم
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله
القارئ: (قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
27- حفْظُ العلْمِ كتابةً :
ابْذُل
ْالْجَهْدَ في حِفْظِ العلْمِ ( حِفْظَ كتابٍ ) ؛ لأنَّ تقييدَ العلْمِ
بالكتابةِ أمانٌ من الضياعِ ، وقَصْرٌ لمسافةِ البحْثِ عندَ الاحتياجِ ، لا
سِيَّمَا في مسائلِ العِلْمِ التي تكونُ في غيرِ مَظَانِّها ، ومن أَجَلِّ
فوائدِه أنه عندَ كِبَرِ السنِّ وضَعْفِ الْقُوَى يكونُ لديكَ مادَّةٌ
تَسْتَجِرُّ منها مادَّةً تَكْتُبُ فيها بلا عَناءٍ في البَحْثِ
والتَّقَصِّي .
ولذا؛
فاجْعَلْلك ( كُناشًا ) أو ( مُذَكِّرَةً ) لتقييدِ الفوائدِ والفرائدِ
والأبحاثِ الْمَنثورةِ في غيرِ مَظَانِّها ، وإن اسْتَعْمَلْتَ غُلافَ
الكتابِ لتَقييدِ مافيه من ذلك ؛ فحَسَنٌ ، ثم تَنْقُلُ ما يَجْتَمِعُ لك
بعدُ في مُذَكِّرَةٍ ؛ مُرَتِّبًا له على الموضوعاتِ مُقَيِّدًا رأسَ
المسألةِ ، واسمَ الكتابِ ، ورقْمَ الصفحةِ والمجلَّدِ ، ثم اكْتُبْ على ما
قَيَّدْتَه : ( نُقِلَ ) ؛ حتى لايَخْتَلِطَ بما لم يُنْقَلْ كما تَكتُبُ :
( بلَغَ صفحةَ كذا ) فيما وَصَلْتَ إليه من قراءةِ الكتابِ حتى لا
يَفُوتَك ما لم تَبْلُغْه قراءةً .
وللعلماءِ
مؤَلَّفَاتٌ عدَّةٌ في هذا ؛ منها : ( بدائعُ الفوائدِ ) لابنِ القَيَّمِ
و( خَبايَا الزوايا ) للزَّرْكَشيِّ ، ومنها : كتابُ ( الإغفالِ ) ، و(
بَقَاياالْخَبَايا ) وغيرُها ، وعليه فَقَيِّدِ العِلْمَ بالكتابِ لا
سِيَّمَا بدائعَ الفوائدِ في غيرِ مَظَانِّها ، وخَبَايَا الزوايا في غيرِ
مَسَاقِها ، ودُرَرًا مَنثورةً تَراهَا وتَسْمَعُها تَخْشَى فَوَاتَها …
وهكذا ؛ فإنَّ الْحِفْظَ يَضْعُفُ ، والنسيانَ يَعْرِضُ .قال َالشعبيُّ : (
إذا سَمِعْتَ شيئًا ؛ فاكْتُبْهُ ولو في الحائطِ) .رواه خَيثَمَةُ .
وإذا
اجْتَمَعَ لديك ماشاءَ اللهُ أن يَجْتَمِعَ ؛ فرَتِّبْهُ في ( تَذْكِرَةٍ )
أو ( كُناشٍ ) على الموضوعاتِ ؛ فإنه يُسْعِفُكَ في أَضْيَقِ الأوقاتِ
التي قد يَعْجِزُ عن الإدراكِ فيها كِبارُ الأثباتِ .
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (هذه من آداب طالب العلم
؛ تقييد الفوائد الفرائد وكتابتها ، فإنّ الإنسان تمرّ به حال كتابته
مسائل في غير مظانّها ، وتمرّ به مسائل وفوائد لا يتوقع مرورها عليه في ذلك
الموطن ، وكذلك تمرّ على الإنسان معلومات غرائب بحيث تلفت ذهنه لفتا ،
وتجرّ نفسه إلى تذكرها ومعرفتها ، والإنسان ينسى ، فيحسن به أن يقيّد هذه
الفوائد سواء كانت غريبة عليه أو عجيبة لديه أو كانت في غير مواطن بحثها ،
بحيث يسهل عليه مراجعتها ، والكتابة للعلم جاءت به الشريعة فقد قال النبي
صلى الله عليه وسلم : "اكتبوا لأبي شاه" ، ويدل على هذا أنّ الله عز وجل قد كتب ما هو كائن إلى قيام الساعة ، ولم يكتف بذلك بكونه محفوظا.
وقال : جاء في الحديث: "أنّ الله عز وجل لما خلق الخلق كتب في كتاب فهو عنده ؛ أنّ رحمتي سبقت غضبي"
وقد أُثرت كتابة عدد من الأحاديث عن جماعة من صحابة النبي صلى الله عليه
وسلم في عهد النبوة بإقراره صلى الله عليه وسلم ، إذا تقرر هذا ، فإنّ
الكتابة تفيد إبعاد النسيان عن الإنسان ، وتذكيره بأدنى لفتة بما كان يعرفه
في الوقت السابق ، وتعينه حال كبره وفترة نسيانه ، فإنّ الإنسان عند كبر
سنه إذا كان قد وضع مادة علميّة تختصر له المعلومات ؛ فإنه بذلك يتمكّن من
مراجعة هذا الجزء فيكون حافظا لعلمه.
ومن هنا أمر المؤلف
بوضع مذكرة لتقييد الفوائد والفرائد والمسائل التي تُبحث في غير مظانّها ،
ومن أنواع ذلك أن يكتب الإنسان هذه الكتابة في أول الكتب التي تمر عليه ،
وينبغي فيه أن يُقيّد رأس المسألة في أول هذه الفائدة ثم ما نُقل منه من
كتاب ورقم صفحته وجزئه ، ثم بعد ذلك إذا نقل هذه المعلومات التي في أول
الكتاب وفي غلاف الكتاب إلى دفتره الأصلي ، بيّن أنها قد نُقلت إلى ذلك
الدفتر حتى لا تختلط ما نُقل مما لم يُنقل ، وقد ذكر المؤلف أنّ هذه
الطريقة استخدمها بعض أهل العلم فكانت سببا في شهرة كتبهم ، ومن ذلك كتاب
(بدائع الفوائد) لابن القيم ، و(خبايا الزوايا) للزركشي.
في (بدائع الفوائد) نقل المؤلف ابن القيم رحمه الله فوائد متنوعة ، بعضها بلاغية ، وبعضها حديثية ، وبعضها نحوية ، وبعضها عقدية في هذا الكتاب.
وفي (خبايا الزوايا) اعتنى الزركشي بالمسائل الفقهية التي تُبحث في غير مظانّها.
ذكر المؤلف كلام الشعبي قال: (إنّ الحفظ يضعف ، والنسيان يعرض ، قال الشعبي: "إذا سمعت شيئا فاكتبه ولو في الحائط") وكان الشعبي من أكثر الناس حفظا ، وكان له قوة غريبة في الحفظ ، ومع ذلك أمر بالكتابة ، نعم.
حِفْظُ الرِّعايةِ
المتن:
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (ابْذُل
الوُسْعَ في حِفْظِ العلْمِ ( حفْظَ رِعايةٍ ) بالعمَلِ والاتِّباعِ ؛
قالَ الْخَطيبُ البَغداديُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( يَجِبُ على طالِبِ
الحديثِ أن يُخْلِصَ نِيَّتَه في طَلَبِه ، ويكونَ قَصْدُه وَجْهَ اللهِ
سبحانَه ، ولْيَحْذَرْ أن يَجْعَلَه سَبيلًا إلى نَيْلِ الأعراضِ ) ،
وطريقًا إلى أَخْذِ الأعواضِ ؛ فقد جاءَ الوعيدُ لِمَن ابْتَغَى ذلك
بعِلْمِه .
ولْيَتَّقِّ
المفاخَرَةَ والْمُباهاةَ به ، وأن يكونَ قَصْدُه في طَلَبِ الحديثِ
نَيْلَ الرئاسةِ واتِّخاذَ الأتباعِ وعَقْدَ المجالِسِ ؛ فإنَّ الآفَةَ
الداخلةَ على العُلماءِ أَكْثَرُها من هذا الوجْهِ .
ولْيَجْعَلْ
حِفْظَه للحديثِ حِفْظَ رعايةٍ لا حِفْظَ روايةٍ ؛ فإنَّ رُواةَ العُلومِ
كثيرٌ ، ورُعاتَها قَليلٌ ، ورُبَّ حاضرٍ كالغائبِ ، وعالِمٍ كالجاهِلِ ،
وحاملٍ للحديثِ ليس معه منه شيءٌ إذ كان في اطِّرَاحِه لِحُكْمِهِ
بِمَنْزِلَةِ الذاهبِ عن مَعرفتِه وعِلْمِه .
ويَنبغِي
لطالِبِ الحديثِ أن يَتمَيَّزَ في عامَّةِ أمورِه عن طرائقِ العَوَامِّ
باستمعالِ آثارِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أَمْكَنَه
، وتوظيفِ السُّنَنِ على نفسِه ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } اهـ .
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
28- حفظ الرعاية:
ابذل
الوسع في حفظ العلم(حفظ رعاية) بالعمل والاتباع، قال الخطيب البغدادي رحمه
الله تعالى:«يجب على طالب الحديث أن يخلص نيته في طلبه، ويكون قصده وجه
الله سبحانه. وليحذر أن يجعله سبيلا إلى نيل الأعراض، وطريقا إلى أخذ
الأعواض، فقد جاء الوعيد لمن ابتغى ذلك بعلمه.
جاء الوعيد لمن طلب علما
وهو يبتغي به وجه الله لغير الله لم يجد عرف الجنة، أي ريحها، وما ذكره
الخطيب البغدادي- رحمه الله- حق أن يخلص الإنسان النية في طلب العلم بأن
ينوي امتثال أمر الله تعالى والوصول إلى ثواب طلب العلم وحماية الشريعة
والذب عنها ورفع الجهل عن نفسه ورفع الجهل عن غيره، كل هذه تدل على
الإخلاص، ولا يكون قصده نيل الأعراض كالجاه والرئاسة والمرتبة، أو طريقا
إلى أحد الأعواض كالمرتبات لا يريد هذا.
فإذا قال قائل: كل الذين
يطلبون العلم في الكليات إنما يقصدون الشهادة ولذلك نرى بعضهم يريد الوصول
إلى هذه الشهادات ولو بالباطل كالشهادات المزيفة والغش وما أشبه ذلك. فيقال
يمكن للإنسان أن يريد الشهادة في الكلية مع إخلاص النية وذلك أن يريد
الوصول إلى منفعة الخلق لأن من لم يحمل الشهادة لا يتمكن من أن يكون مدرسا
أو مديرا أو ما أشبه ذلك مما يتوقف على نيل الشهادة.
فإذا قال: أنا أريد أن
أنال الشهادة لأتمكن من التدريس في الكلية مثلا، ولولا هذه الشهادة ما
درست. أريد الشهادة لأن أكون داعية، لأننا في عصر لا يمكن أن يكون الإنسان
فيه داعيا إلى الله إلا بالشهادة.
فإذا كانت هذه نية الإنسان
فهي نية حسنة لا تضر إن شاء الله هذا في العلم الشرعي. أما في العلم
الدنيوي فانو فيه ما شئت مما أحله الله. لو تعلم الإنسان الهندسة وقال أريد
أن أكون مهندسا ليكون الراتب 10 آلاف ريال. فهل هذا حرام؟
لا.. لماذا؟ لأن هذا علم دنيوي، كالتاجر يتاجر من أجل أن يحصل على ربح.
وليتق
المفاخرة والمباهاة به، وأن يكون قصده في طلب الحديث نيل الرئاسة، واتخاذ
الأتباع، وعقد المجالس، فإن الآفة الداخلة على العلماء أكثرها من هذا
الوجه.
وقد جاء الوعيد فيمن طلب
ليجاري به العلماء أو ليماري به السفهاء. فأنت لا تقصد بعلمك المفاخرة
والمباهاة، وأن يكون قصدك أن تصرف وجوه الناس إليك وما أشبه ذلك. هذه نيات
سيئة، وهي ستحصل لك مع النية الصالحة إذا نويت نية صالحة، صرت إماما، صرت
رئيسا يشير الناس إليك وأخذوا بقولك.
وليجعل
حفظه للحديث حفظ رعاية لا حفظ رواية، فإن رواة العلوم كثير ورعاتها قليل،
ورب حاضر كالغائب، وعالم كالجاهل، وحامل للحديث ليس معه منه شيء إذا كان في
اطراحه لحكمة بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه.
ومعنى «رعاية» أن يفقه الحديث ويعمل به ويبينه للناس، لأن مجرد الحفظ بدون فقه للمعنى ناقص جدا، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم :«رب مبلغ أوعى من سامع» .
والمقصود بالأحاديث أو
القرآن الكريم هو فقه المعنى حتى يعمل به الإنسان ويدعو إليه، ولكن الله
سبحانه وتعالى بحكمته جعل الناس أصنافا، منهم راو فقط ولا يعرف من المعنى
شيئا إلا شيء واضح بين لا يحتاج الناس إلى مناقشته فيه، لكنه في الحفظ
والثبات قوي جدا، ومن الناس من أعطاه الله فهما وفقها لكنه ضعيف الحفظ إلا
أنه يفجر ينابيع العلم من النصوص إلا أنه ضعيف الحفظ، ومن الناس من يعطيه
الله الأمرين: قوة الحفظ وقوة الفقه، لكن هذا نادر، وقد ضرب النبي صلى الله
عليه وسلم مثلا لما أتاه الله تعالى من العلم والحكمة مطر أصاب أرضا فصارت
الأرض ثلاثة أقسام:
قسم: قيعان ابتلعت الماء ولم تنبت الكلأ، فهذا مثل من أتاه الله العلم والحكمة ولكنه لم يرفع به رأسا ولم ينتفع به ولم ينفع به غيره.
والقسم الثاني-
أرض أمسكت الماء ولكنها لم تنبت الكلأ. هؤلاء من الرواة، امسكوا الماء
فسقوا الناس واستقوا وزرعوا، لكن هم أنفسهم ليس عندهم إلا حفظ هذا الشيء.
والأرض الثالثة-
أرض رياض قبلت الماء فأنبتت العشب والكلأ فانتفع الناس وأكلوا وأكلت
مواشيهم. وهؤلاء الذين من الله عليهم بالعلم والفقه، فنفعوا الناس وانتفعوا
به.
وينبغي
لطالب الحديث أن يتميز في عامة أموره عن طرائق العوام باستعمال آثار رسول
الله صلى الله عليه وسلم ما أمكنه، وتوظيف السنن على نفسه، فإن الله تعالى
يقول :(لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (سورة الأحزاب: 21). اهـ.
«ينبغي» أحيانا يراد بها
الوجوب، لكن الشائع في استعمالها أنها للندب. وهذا في الأمور التعبدية
ظاهر. أنه ينبغي للإنسان أن يتميز باستعمال آثار رسول الله صلى الله عليه
وسلم في الأمور الاتفاقية التي وقعت اتفاقا من غير قصد هل يشرع أن يتبعها
الإنسان أم لا ؟
كان ابن عمر رضي الله عنه
وعن أبيه يتبع ذلك، حتى أنه يتحرى المكان الذي نزل فيه الرسول صلى الله
عليه وسلم وبال فيه، فنزل ويبول. وإن لم يكن محتاجا للبول.
كل هذا من شدة تحريه
لاتباع الرسول صلى الله عليه وسلم لكن هذا قد خالف أكثر الصحابة فيه ورأوا
أن ما وقع اتفاقا فليس بمشروع اتباعه للإنسان. ولهذا لو قال قائل: أيسن لنا
الآن ألا نقدم مكة في الحج إلا في اليوم الرابع لأن الرسول صلى الله عليه
وسلم قدم في اليوم الرابع؟
الصحيح أنه لا يشرع لأنه وقع اتفاقا لا قصدا.
ما وقع عادة فهل يشرع لنا أن نتبعه فيه؟ مثلا: العمامة والرداء والإزار. نقول: نعم يشرع أن نتبعه فيه.
لكن ما معنى الاتباع. هل
معناه اتباعه في عين ما لبس؟ أو اتباعه في جنس ما لبس؟ الجواب: الثاني.
لأنه لبس ما اعتاده الناس في ذلك الوقت.
وعلى ذلك نقول: السنة لبس
ما يعتاده الناس، ما لم يكن محرما، فإن كان محرما وجب اجتنابه ما وقع على
سبيل التشهي فهل نتبعه فيه. كان عليه الصلاة والسلام يحب الحلوى، يحب
العسل، يتتبع الدباء في الأكل. هل نتبعه في ذلك.
قال أنس رضي الله عنه: كان
النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع الدباء- يعني القرع- في الطعام، فمازلت
أتتبعها منذ رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتتبعها.
وعلى هذا فهل نقول من المشروع أنك تتبع الدباء، لأن النبي صلى الله عليه وسلم يتبعه أم لا؟
الظاهر أن هذا الاتباع فيه
أحرى من الاتباع فيما سبقه- وهو ما وقع اتفاقا- لأن هذا لم يقع اتفاقا،
حيث أننا نعلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم حين يتتبعها أنه يتتبعها قصدا
لا اتفاقا، ولا شك أن الإنسان إذا تتبع الدباء من على ظهر القصعة وهو يشعر
أنه يفعل كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم لا شك أن هذا يوجب له محبة
لرسول الله صلى الله عليه وسلم واتباع آثاره وحينئذ نقول: إذا تتبعت هذا
فإنك على الخير، وقد يكون في الدباء منفعة طبية، تسهل وتلين وتكون قدما
للطعام.
قوله «باستعمال آثار» هذه
العبارة فيها شيء من الركاكة، ولو قال «باتباع آثار» كما عبر بذلك شيخ
الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية قال: من أصول أهل السنة والجماعة
اتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا». وهذا هو اللفظ المطابق
للقرآن . (فاتبعوني يحببكم الله) (سورة آل
عمران: 31). أما استعمال الآثار فقد يتوهم واحد أن استعمال ثيابه وعمامته
وما أشبه ذلك. لكن إذا قلنا اتباع آثار كان ذلك أحسن وأوضح.
وقوله :«توظيف السنن على نفسه» يراد بذلك أن يطبق توظيفها، بمعنى تطبيق السنن على نفسه لأن الله يقول: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة) (سورة الأحزاب: 21).
ولو ذكر آخر الآية لكان أحسن ما هي (لمن كان يرجو الله واليوم الآخر) (سورة الأحزاب: 21).
تم التهذيب بواسطة زمزم
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله
القارئ: (قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا:
28- حِفْظُ الرِّعايةِ :
ابْذُل
الوُسْعَ في حِفْظِ العلْمِ ( حفْظَ رِعايةٍ ) بالعمَلِ والاتِّباعِ ؛
قالَ الْخَطيبُ البَغداديُّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( يَجِبُ على طالِبِ
الحديثِ أن يُخْلِصَ نِيَّتَه في طَلَبِه ، ويكونَ قَصْدُه وَجْهَ اللهِ
سبحانَه ، ولْيَحْذَرْ أن يَجْعَلَه سَبيلًا إلى نَيْلِ الأعراضِ ) ،
وطريقًا إلى أَخْذِ الأعواضِ ؛ فقد جاءَ الوعيدُ لِمَن ابْتَغَى ذلك
بعِلْمِه .
ولْيَتَّقِّ
المفاخَرَةَ والْمُباهاةَ به ، وأن يكونَ قَصْدُه فيطَلَبِ الحديثِ نَيْلَ
الرئاسةِ واتِّخاذَ الأتباعِ وعَقْدَ المجالِسِ ؛ فإنَّ الآفَةَ الداخلةَ
على العُلماءِ أَكْثَرُها من هذا الوجْهِ .
ولْيَجْعَلْ
حِفْظَه للحديثِ حِفْظَ رعايةٍ لا حِفْظَ روايةٍ ؛ فإنَّ رُواةَ العُلومِ
كثيرٌ ، ورُعاتَها قَليلٌ ، ورُبَّ حاضرٍ كالغائبِ ، وعالِمٍ كالجاهِلِ ،
وحاملٍ للحديثِ ليس معه منه شيءٌ إذ كان في اطِّرَاحِه لِحُكْمِهِ
بِمَنْزِلَةِ الذاهبِ عن مَعرفتِه وعِلْمِه .
ويَنبغِي
لطالِبِ الحديثِ أن يَتمَيَّزَ في عامَّةِ أمورِه عن طرائقِ العَوَامِّ
باستعمالِ آثارِ رسولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أَمْكَنَه
، وتوظيفِ السُّنَنِ على نفسِه ؛ فإنَّ اللهَ تعالى يقولُ : {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} اهـ .
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (الأدب الثامن والعشرون من آداب طالب العلم أن يحفظ الطالب العلم من خلال رعايته، ورعاية العلم على أنواع :
أولها:
أن يرعاه بالعمل ، بحيث كلما علم مسألة عمل بها ، وهذا يكون به قد عمل
بعلمه ، وترك العمل بالعلم من أسباب غضب الله تعالى كما في سورة الفاتحة ،
وقد جاء في الحديث أنّ رجلا كان يأمر الناس بالمعروف فألقي في نار جهنم على
أقتابه فقيل له في ذلك : ألم تكن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، قال :
كنت آمر بالمعروف ولا آتيه وأنهى عن المنكر وآتيه.
وكثير من أهل العلم قد حذّر من هذا ، وجاء في حديث في السنن أنّ من لم يعمل بعلمه يُعذّب قبل عابد الوثن.
الطريقة الثانية لرعاية العلم : أن يكون مقصد الإنسان وجه الله والدار الآخرة ، فإنك إذا قصدت ذلك ، بارك الله في علمك ، وجعلك تحفظه ويبقى في ذهنك.
أما من قصد الدنيا، فإن الدنيا زائلة ، وما عُمل لله يبقى ، وما كان لغيره يفنى.
الطريقة الثالثة :
الدعوة إلى ما لديك من العلم ، فإنّ هذا يُبقي العلم عندك ، فمتى كنت تدعو
الناس ، وتُدَرِّسُهم ، وتعلمهم ، بقي العلم لديك ، ومتى أهملت ما لديك من
العلم فلم تُراعي فيه ذلك ، ولم تدع إليه ، فإنه مع مرور الزمن ستنساه ،
ولن يبقى عندك.
الأمر الرابع مما تحصل به رعاية العلم وحفظه : حفظ العلم رعايةً له ، ترك المفاخرة به ، فإنّ من فاخر بالعلم عاقبه الله بزوال ذلك العلم منه.
وكثير من الناس فاخر
بما لديه من العلم فكان ذلك سببا من أسباب زوال العلم عنه ، لأنّ الله جل
وعلا جعل من سيمة العلماء التواضع ، فمن فاخر بالعلم وترفّع به وقال : علمي
أحسن من علم غيري ، وضعه الله جل وعلا، وانظر لقصة موسى عليه السلام لما
قيل له: هل على الأرض أحد أعلم منك؟ فقال : نعم ، قال الله عز وجل : بلى
عبدي الخضر أعلم منك.
الطريقة الخامسة من طرق حفظ العلم من جانب الرعاية : عدم الاستهزاء بالجهّال والضحك على تصرفاتهم ، فإنّ الإنسان متى استهزأ بالآخرين بكونهم لا يعلمون ، عاقبه الله بسلب العلم منه.
وقد جاء في الحديث : "لا تُظهر الشماتة بأخيك فيعافيه الله ويبتليك" ، كما ورد ذلك في سنن الترمذي.
كذلك من طرائق حفظ العلم ورعايته :
حفظ مكانة أهل العلم ، فإنك عندما تنتقص غيرك من العلماء فإن ذلك يكون
سببا لعدم تمكينك من تحصيل العلم ، فإنّ الله جل وعلا جعل حملة العلم لهم
مكانة وحرمة ، وجعل المعتدي لهم بالأذية يعاقب بالعقوبات الدنيوية
والأخروية ، كما جاء في الحديث : "من عادى لي وليّا فقد آذنته بالحرب" ، ولذلك يحفظ الإنسان سلا لسانه من الكلام في علماء الشريعة.
قال المؤلف: (وليتق المفاخرة والمباهاة به) يعني وصف النفس بالعلو لكونها قد اتصفت بالعلم.
(وأن يكون قصده في طلب الحديث نيل الرئاسة) وإنما ينوي بطلبه للحديث ، رضا رب العالمين ودخول الجنة.
قال : (وليجعل حفظه للحديث حفظ رعاية) وهذه وسيلة أخرى من وسائل حفظ العلم بالرعاية ، ألا وهي
: التأمل والتدبر والتفكر في العلم الذي تعلّمته ، لتستفيد منه وتستخرج
منه الفوائد ، فإنّ من يحفظ العلوم كُثر ، لكن من يستفيد منها ويأخذ منها
الفوائد قليل ، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم : "رب حامل فقه ليس بفقيه ، رب حامل فقه إلى من هو أفقه منه".
قال : (ورب) يعني يمكن أن يوجد حاضر يكون كالغائب ، بل قد يكون الغائب أكثر فهما وحفظا ومعرفة وإدراكا من الحاضر.
وفي مرّات يكون هناك
عالم يحفظ المرويّات وتكون منزلته بمنزلة الجاهل لا يستفيد من ذلك العلم ،
بل قد تكون منزلته أدنى من منزلة الجاهل.
قال : (ورب حامل للحديث ليس معه منه شيء ، إذا كان في اطراحه لحكمه) يعني ترك حكم الحديث.
(بمنزلة الذاهب عن معرفته وعلمه) يكون كالجاهل.
ونقول الصواب أنّ حامل
العلم الذي لا يعمل به ، أقل درجة من الشخص الذي لا يحمل ذلك العلم ، لأنه
إذا كان عندك عينان تتمكن من الإبصار بهما ، ثم بعد ذلك تغلق عينيك وتكون
ممن يضرب في الأعمدة والجدران ، حال من كان كذلك أقل من الأعمى الذي يضرب
في الأعمدة والجدران لعجزه عن الرؤية.
قال: (وينبغي
لطالب الحديث أن يتميّز في عامّة أموره عن طرائق العوام ، باستعمال آثار
رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أمكنه ، وتوظيف السنن على نفسه بالعمل ،
فإنّ الله تعالى يقول : {لَقَدْ كَانَ
لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو
اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا}) ، نعم.
تَعَاهُدُ المحفوظاتِ
المتن:
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (قالَ الحافظُ ابنُ عبدِ البَرِّ رَحِمَه اللهُ : ( وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ مَن لم يَتَعَاهَدْ عِلْمَه ذَهَبَ عنه ، أيْ مَنْ كان ؛ لأنَّ عِلْمَهم كان ذلك الوَقْتَ القرآنَ لا غيرَ ، وإذا كان القرآنُ الْمُيَسَّرُ للذكْرِ يَذْهَبُ إن لم يُتَعَاهَدْ ؛ فما ظَنُّكَ بغيرِه من العلومِ المعهودةِ ؟! وخيرُ العلومِ ما ضُبِطَ أَصْلُه ، واسْتُذْكِرَ فَرْعُه ، وقادَ إلى اللهِ تعالى ودَلَّ على ما يَرضاهُ ) اهـ . وقالَ بعضُهم ( كلُّ عِزٍّ لم يُؤَكَّدْ بعِلْمٍ فإلى ذُلٍّ مَصيرُه ) اهـ .
(تَعاهَدْ عِلْمَك من وَقتٍ إلى آخَرَ ؛ فإنَّ عَدَمَ التعاهُدِ عُنوانُ الذهابِ للعِلْمِ مهما كان .
عن ابنِ عمرَ رَضِي اللهُ عنهما أنَّ رسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ :(( إِنَّمَا
مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعْقَلَةِ ، إن
عاهدَ عليها أَمْسَكَها وإن أَطْلَقَها ذَهَبَتْ )).رواه الشيخانِ ، ومالِكٌ في ( الْمُوَطَّأِ ) .
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
القارئ: (29 – تَعَاهُدُ المحفوظاتِ :
تَعاهَدْ عِلْمَك من وَقتٍ إلى آخَرَ ؛ فإنَّ عَدَمَ التعاهُدِ عُنوانُ الذهابِ للعِلْمِ مهما كان .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (فإن عدم التعاهد عنوان الذهاب، يعني دليل الذهاب ، ولكن لو عبر بقوله :«فإن عدم التعاهد سبب الذهاب للعلم» لكان أولى لقول النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم : «تعاهدوا هذا القرآن فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها».
فيدل ذلك على أن عدم التعاهد سبب للنسيان، وليس عنوان الذهاب للعلم، لأن
عنوان الشيء يكون بعد الشيء. وسبب الشيء يكون قبل الشيء، وعدم التعاهد سابق
على عدم البقاء ، أي بقاء العلم، والخطب في هذا يسير إذا كان المعنى
مفهوما ، فالأمر يسير بالنسبة للألفاظ .
القارئ: (عن ابنِ عمرَ رَضِي اللهُ عنهما أنَّ رسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ :(( إِنَّمَا
مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعْقَلَةِ ، إن
عاهدَ عليها أَمْسَكَها وإن أَطْلَقَها ذَهَبَتْ )). رواه الشيخانِ ، ومالِكٌ في ( الْمُوَطَّأِ ) .
قالَ
الحافظُ ابنُ عبدِ البَرِّ رَحِمَه اللهُ : ( وفي هذا الحديثِ دليلٌ على
أنَّ مَن لم يَتَعَاهَدْ عِلْمَه ذَهَبَ عنه ، أيْ مَنْ كان ؛ لأنَّ
عِلْمَهم كان ذلك الوَقْتَ القرآنَ لا غيرَ ، وإذا كان القرآنُ
الْمُيَسَّرُ للذكْرِ يَذْهَبُ إن لم يُتَعَاهَدْ ؛ فما ظَنُّكَ بغيرِه من
العلومِ المعهودةِ ؟! وخيرُ العلومِ ما ضُبِطَ أَصْلُه ، واسْتُذْكِرَ
فَرْعُه ، وقادَ إلى اللهِ تعالى ودَلَّ على ما يَرضاهُ ) . قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): ( (وفي هذا الحديثِ دليلٌ على أنَّ مَن لم يَتَعَاهَدْ عِلْمَه ذَهَبَ عنه ) وهذا
واضح أن من لم يتعاهد حفظه نسي وكما أن هذا في المعقول فهو أيضا في
المحسوس فمن لم يتعاهد الشجرة بالماء تموت، أو تذبل ، وكذلك من لم يتعاهد
أغصانها بالشتل ، تتكاثر ويفسد بعضها بعضا فلا تستقيم وكذلك العلوم القارئ: (وقالَ بعضُهم ( كلُّ عِزٍّ لم يُؤَكَّدْ بعِلْمٍ فإلى ذُلٍّ مَصيرُه ) اهـ . تم التهذيب بواسطة زمزم
(خيرُ العلومِ ما ضُبِطَ أَصْلُه ، واسْتُذْكِرَ فَرْعُه )
يعني كأنه يرد على القواعد والأصول وأنا أحثكم دائما عليهما عليكم
بالقواعد والأصول لأن المسائل الفقهية المتفرعة كتلاقط الجراد من أرض صحراء
تضيع عليك لكن الذي عنده علم بالأصول هذا هو العالم من فاتته الأصول فاته
الوصول.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (يعني غالبا ، وإلا فقد يكون الإنسان
عزيزا بماله وإنفاقه ونفع الناس به فيبقى عزيزا إلى أن يموت ولكن في الغالب
أن العز الذي لم يأكد بالعلم أنه يزول.
تمت المقابلة الصوتية بواسطة: محمد أبوزيد
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله
القارئ: (قال المؤلف غفر الله له ولشيخنا :
29- تَعَاهُدُ المحفوظاتِ :
تَعاهَدْ عِلْمَك من وَقتٍ إلى آخَرَ ؛ فإنَّ عَدَمَ التعاهُدِ عُنوانُ الذهابِ للعِلْمِ مهما كان .
عن ابنِ عمرَ رَضِي اللهُ عنهما أنَّ رسولَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قالَ : (( إِنَّمَا مَثَلُ صَاحِبِ الْقُرْآنِ كَمَثَلِ صَاحِبِ الْإِبِلِ الْمُعْقَلَةِ
- قال الشيخ مصححا : الـمُعَقَّلَة كلاهما مشهور الـمُعَقَّلَة و
الْمُعْقَلَةِ والـمُعَقَّلَة أشهر يعني المربوطة أقدامها ، يقومون بربط
قدمي الإبل ، البعير من أجل ألا يتمكن من الهروب -، إن عاهدَ عليها أَمْسَكَها وإن أَطْلَقَها ذَهَبَتْ )).رواه الشيخانِ ، ومالِكٌ في ( الْمُوَطَّأِ) .
قال
َالحافظُ ابنُ عبدِ البَرِّ رَحِمَه اللهُ : ( وفي هذا الحديثِ دليلٌ على
أنَّ مَن لم يَتَعَاهَدْ عِلْمَه ذَهَبَ عنه ، أيْ مَنْ كان ؛ لأنَّ
عِلْمَهم كان ذلك الوَقْتَ القرآنَ لا غيرَ ، وإذا كان القرآنُ
الْمُيَسَّرُ للذكْرِ يَذْهَبُ إن لم يُتَعَاهَدْ ؛ فما ظَنُّكَ بغيرِه من
العلومِ المعهودةِ ؟! وخيرُ العلومِ ما ضُبِطَ أَصْلُه ، واسْتُذْكِرَ
فَرْعُه، وقادَ إلى اللهِ تعالى ودَلَّ على ما يَرضاهُ ) اهـ . وقالَ
بعضُهم ( كلُّ عِزٍّ لم يُؤَكَّدْ بعِلْمٍ فإلى ذُلٍّ مَصيرُه ) اهـ.
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (هذا هو الأدب التاسع والعشرون من آداب طالب العلم ؛ تعاهد المحفوظات :
بحيث يكرر الإنسان ما
يحفظه من وقت لآخر ، سواء كان هذا المحفوظ من كتاب الله عز وجل الذي ينبغي
لطالب العلم أن يجعل له وردا يوميا من كتاب الله ، ولا ينبغي أن يقل ورده
عن جزء في اليوم ليختم في كل شهر.
وهكذا يتعاهد ما يحفظه
من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ليكون بذلك قد تمكن من حفظ هذه
الأحاديث وتمكن بذلك من أن يكون داعيا إلى الله منطلقا في دعوته من النصوص
الشرعية كتابا وسنة.
وهكذا يتعاهد ما يحفظه
من فنون أهل العلم ومتونهم ، فإنك إذا لم تتعاهد هذه المحفوظات فإنها ستذهب
، فإذا كان القرآن مع عظمه ومع كونه ميسرا للذكر ، كما قال تعالى : ( وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ) إلا أنه مع ذلك إذا لم يتعاهده المرء فإنه يفوت ويُنسى.
فإنّ الله جل وعلا يغار على قلب العبد ، فإذا صرف العبد قلبه في تذكر محفوظاته ، ومن أولاها :
كتاب الله ، فإنه حينئذ يبقى هذا المحفوظ ، وإذا كان القلب لا يشتغل بذكر
الله ولا بقراءة كتابه ، غار الله على كتابه فلم يجعله باقيا في قلب ذلك
العبد ، دلّ على هذا قول النبي صلى الله عليه وسلم : "تعاهدوا القرآن فلهو أشد تفلتا من الإبل في عقلها"
وحديث ابن عمر : "إنما مثل صاحب القرآن –يعني حافظ القرآن- كمثل صاحب الإبل الـمُعَقّلَة –يعني المربوطة بالأقدام- إن عاهد عليها –يعني تفقّد هذا الرباط تمكن من إمساكها- وإن أطلقها .." ولم يربطها ولم يعقلها فإنّ هذه الإبل ستذهب وستكون من الإبل الشوارد.
ونقل المؤلف كلام الحافظ ابن عبد البر وهو هو مكانة ومنزلة علما وفضلا :
(قال: "وفي هذا الحديث دليل على أنّ من لم يتعاهد علمه) يعني لم يكرره ، ولم يعده مرة بعد أخرى ، سواء كانت الإعادة بقراءته أو بتكرار تدريسه أو بقراءة الناس عليه ذلك العلم.
(فإنّ من لم يتعاهد علمه ذهب عنه أي من كان ، لأنّ علمهم كان ذلك الوقت القرآن لا غير)
لأنه هو أساس العلوم ، ويبدو أنّ السنة أيضا كانت كذلك، لكن السنة قد
يعتبرها بعضهم تابعة أو مفسّرة، وقد يعتبرها بعضهم دليلا مستقلا.
(وإذا كان القرآن الميسّر للذكر يذهب إن لم يُتعاهد فما ظنّك بغيره من العلوم المعهودة)
والعلوم لها أصول ، متى ضبطت الأصل ، ضبطت ما يترتب عليه من الفروع ،
فاضبط الأصل واحفظه حفظا كاملا ، وبذلك تكون قد عرفت تلك الفروع وعرفت
الرابط بينها ، ومن ضبط الأصل واستذكر الفرع ، بنية التقرب لله حصل حينئذ
على رضا رب العالمين.
ثم ذكر قول بعضهم :
(كل عز لم يؤكد بعلم ، فإلى ذل مصيره)
وذلك أنّ أيّ عز إذا لم يكن معه علم يقيد تصرفات صاحب ذلك العز بقيود
الشريعة ، فإنّ الله جل وعلا سيعاقبه بسلب تلك النعمة ، لأنّ الله تعالى
يقول : (لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ)
فمثلا : عز المال ، من كان عنده مال عزّ به ، فإن سار فيه على موجب
الشريعة ، وعلى طرائقها فإنه حينئذ ستستمر تلك النعمة ، وسيبقى عزّه ، أما
إذا لم يؤكد هذه بعلم وأصبح يتصرف فيها خبط عشواء فإنه حينئذ عمّا قريب في
الدنيا سيزول عنه ذلك المال ، مهما كان صاحبه.
المثال الثاني : من كان
عنده عز متعلق بمكانة وجاه ، فإن كان يصرفها ويصرفها في علم بقيت هذه
النعمة ، وإن لم يكن له علم فإنها ستسلب منه هذه النعمة ، وسيصير إلى الذل ،
وهكذا أيضا في بقية الأسباب المؤديّة إلى العز ، فإذا لم تؤكد بعلم ستئول
بالإنسان إلى ذل ، وأنتم تشاهدون هذا في زمانكم ، تأملوا وتجدوه واضحا
جليا.
انظر من كان عنده مال فعمل فيه بالشرع وأنفق منه في الخير بارك الله له في ماله ، وأبقى عزّه.
ومن أفسده ماله ثم أصبح
يخبط بها خبط عشواء ، فإنه عما قريب سيفتقر ، وكم من إنسان شاهدتموه كان
صاحب مال وعز ومكانة ثم بعد ذلك افتقر ، وشاهِدُ ذلك في كتاب الله قصة
قارون.
وهكذا أيضا من كان عزه
بوظيفة أو بعمل أو بجاه أو بمكانة أو بمنزلة أو بغير ذلك من الأسباب التي
يعزّ الإنسان بها ، إذا لم يؤكّد ذلك العز بعلم ، فإنه عمّا قريب سيصير إلى
ذلّ.
لعلنا نقف على هذا.
نسأل الله جل وعلا أن
يرزقنا وإيّاكم العلم النّافع والعمل الصالح اللهم أدبنا بآداب طلاب العلم
اللهم أكسبنا العلم واجعلنا ممن يعمل به اللهم ياحي يا قيوم بارك لنا في
علمنا وفي فهمنا وفي قدراتنا وفي حواسنا وفي أموالنا وفي أولادنا وفي
أزواجنا وفي سائر أمورنا اللهم أصلح حال الأمة وردهم إليك ردا جميلا اللهم
وفق ولاة أمور المسلمين لما تحب وترضى اللهم وفق ولاة أمورنا لكل خير و
اجعلهم من أسباب الهدى والتقى والصلاح والسعادة هذا والله أعلم وصلى الله
على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
سؤال : أحسن الله إليكم ....
الشيخ :
من فضل الله عز وجل على العباد أن يسر لهم سبل طلب العلم ، وإذا كان العبد
في زماننا لا يجد في قريته من يتصف بهذه الصفات أمكنه أن ينتقل ولو
انتقالا مؤقتا ، خصوصا في زماننا هذا الذي توفرت فيه وسائل الإنتقال هذه
السيارات ، وهذه طائرات ، وهذه المركوبات ، وهذه وسائل اتصال حديثة تمكن
الإنسان بالإتصال بالعلماء ، وبإمكان الإنسان أن يستفيد رفقة صالحة بهذه
الوسائل الحديثة للاتصال ، كم من صديقين تواصيا على طلب العلم من خلال هاتف
أو من خلال انترنت أو غيرها .
سؤال : أحسن الله إليكم ...
الشيخ : من المعلوم أنّ المرأة لا يجوز لها أن تسافر بدون محرم لقول النبي صلى الله عليه وسلم : (لا تسافر امرأة إلا مع ذي محرم)
وسفر النساء مع محارمهن وارد من عهد النبوة ، و كان النبي صلى الله عليه
وسلم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه ، وكذلك كما تقدم في وسائل الإتصال
الحديثة ما يتمكن به النساء من التقرب لله عز وجل بطلب العلم من خلاله.
سؤال : أحسن الله إليكم ...
الشيخ :
بعض الناس يقصر في حق المتأخرين ويقول إنهم لن يتمكنوا أن يأتوا بفائدة
جديدة ويقولون ما ترك الأول للآخر ، يعني أنّ الأوائل قد استنفدوا جميع
الفوائد وهذا كلام خاطئ ، بل هناك فوائد كثيرة يلهمها الله جل وعلا لمن جاء
في الزمان المتأخر.
سؤال : أحسن الله إليكم ...
الشيخ :
المقصود بهذا بأنّ من كان عنده همة عالية فإنّ الهمة العالية ستحركه إلى
المقاصد والأهداف العالية ، ومن فقدت منه الهمة العالية فسيكون ذلك سالبا
للمنافع والعلوم والمراتب النافعة والعالية.
نسأل الله جل وعلا أن يوفقنا وإياكم لخيري الدنيا والآخرة هذا والله أعلم وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.