10 Dec 2008
الدرس الرابع: التواضع والزهد والتحلي برونق العلم
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (خَفْضُ الْجَناحِ ونَبذُ الْخُيلاءِ والكِبرياءِ :
تَحَلَّ
بآدابِ النفْسِ من العَفافِ والحِلْمِ والصبرِ والتواضُعِ للحَقِّ وسكونِ
الطائرِ من الوَقارِ والرزانةِ وخَفْضِ الْجَناحِ مُتَحَمِّلًا ذُلَّ
التعلُّمِ لعِزَّةِ العِلْمِ ذَليلًا للحَقِّ .
وعليه : فاحْذَرْ نَواقِضَ هذه الآدابِ فإنَّها مع الإثْمِ تُقيمُ على
نَفْسِكَ شاهدًا على أنَّ في العَقْلِ عِلَّةً . وعلى حِرمانٍ من العلْمِ
والعملِ به ، فإيَّاكَ والْخُيلاءَ فإنه نِفاقٌ وكِبرياءُ وقد بَلَغَ من
شِدَّةِ التَّوَقِّي منه عندَ السلَفِ مَبْلَغًا : ومن دقيقِه ما أَسنَدَه
الذهبيُّ في تَرجمةِ عمرِو بنِ الأسودِ العَنْسِيِّ الْمُتَوَفَّى في
خِلافةِ عبدِ الْمَلِكِ بنِ مَرْوانَ رَحِمَه اللهُ تعالى : أنه كان إذا
خَرَجَ من المسجدِ قَبَضَ بيمينِه على شِمالِه فُسِئَل عن ذلك ؟ فقال :
مَخافةَ أن تُنافِقَ يَدِي .
قلتُ :يُمْسِكُها خَوفًا من أن يَخْطُرَ بيدِه في مِشيتِه ، فإنَّه من الْخُيلاءِ. اهـ .
وهذا العارِضُ عَرَضَ للعَنْسِيِّ رَحِمَه اللهُ تعالى .
واحْذَرْ داءَ الْجَبابِرَةِ ( الْكِبْرَ )؛ فإنَّ الكِبْرَ والحرْصَ
والحسَدَ أوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ به ، فتَطَاوُلُكَ على مُعَلِّمِكَ
كِبرياءُ، واستنكافُكَ عَمَّن يُفيدُك مِمَّنْ هو دونَك كِبرياءُ،
وتَقصيرُك عن العمَلِ بالعِلْمِ حَمْأَةُ كِبْرٍ وعُنوانُ حِرمانٍ .
العلْمُ حربٌ للفَتَى الْمُتَعَالِـي ... كالسيْلِ حرْبٌ للمكانِ الْعَالِي
فالْزَمْ
– رَحِمَك اللهُ – اللُّصُوقَ إلى الأرضِ والإزراءَ على نفسِك وهَضْمَها
ومُراغَمَتَها عندَ الاستشرافِ لكِبرياءَ أو غَطرسةٍ أو حُبِّ ظُهورٍ أو
عُجْبٍ ... ونحوِ ذلك من آفاتِ العِلْمِ القاتلةِ له الْمُذهِبَةِ
لِهَيْبَتِه الْمُطْفَئِةِ لنورِه وكُلَّمَا ازْدَدْتَ عِلْمًا أو رِفعةً
في وِلايةٍ فالزَمْ ذلك ، تُحْرِزْ سعادةً عُظْمَى ، ومَقامًا يَغْبِطُكَ
عليه الناسُ .
وعن عبدِ اللهِ بنِ الإمامِ الحُجَّةِ الراويةِ في الكتُبِ الستَّةِ بكرِ بنِ عبدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ رَحِمَهما اللهُ تعالى قالَ :
( سَمِعْتُ إنسانًا يُحَدِّثُ عن أبي ، أنه كان واقفًا بعَرَفَةَ فَرَقَّ ، فقالَ : لولا أَنِّي فيهم ، لقُلْتُ قد غُفِرَ لهم ) .
خَرَّجَه الذهبيُّ ثم قالَ : ( قلتُ : كذلك يَنبغِي للعبْدِ أن يُزْرِيَ على نفسِه ويَهْضِمَها ) اهـ .
القناعةُ والزَّهادةُ :
التَّحَلِّي بالقَناعةِ والزَّهادةِ ، وحقيقةُ الزهْدِ ( الزهْدُ بالحرامِ والابتعادُ عن حِمَاهُ ، بالكَفِّ عن الْمُشتَبِهَاتِ وعن التَّطَلُّعِ إلى ما في أيدي الناسِ ) .
ويُؤْثَرُ
عن الإمامِ الشافعيِّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( لو أَوْصَى إنسانٌ
لأَعْقَلِ الناسِ صُرِفَ إلى الزهَّادِ ) وعن مُحَمَّدِ بنِ الحسَنِ
الشيبانيِّ رَحِمَه اللهُ تعالى لَمَّا قِيلَ له : أَلَا تُصَنِّفُ كتابًا
في الزهْدِ ؟ قال : ( قد صَنَّفْتُ كِتابًا في البُيوعِ ) .
يعني:( الزاهدُ مَن يَتَحَرَّزُ عن الشُّبُهاتِ والمكروهاتِ في التجاراتِ وكذلك في سائرِ الْمُعاملاتِ والْحِرَفِ ) اهـ .
وعليه فليكنْ مُعْتَدِلًا في مَعاشِه بما لا يُشِينُه بحيثُ يَصونُ نفسَه ومَن يَعولُ ولا يَرِدُ مَواطِنَ الذلَّةِ والْهُونِ .
وقد كان شيخُنا مُحَمَّدٌ الأمينُ الشِّنقيطيُّ الْمُتَوَفَّى في 17/12/1393 هـ رَحِمَه اللهُ تعالى متَقَلِّلًا من الدنيا وقد شاهَدْتُه لا يَعرِفُ فِئاتِ العُملةِ الوَرَقِيَّةِ وقد شافَهَنِي بقولِه :
( لقد جِئْتُ من البلادِ – شِنقيطَ – ومعي كَنْزٌ قلَّ أن يُوجدَ عندَ أحدٍ وهو ( القَناعةُ )، ولوأرَدْتُ المناصِبَ لعَرَفْتُ الطريقَ إليها ولكني لا أُؤْثِرُ الدنيا على الآخِرةِ ولا أَبْذُلُ العلْمَ لنَيْلِ المآرِبِ الدُّنيويَّةِ ) فرَحِمَه اللهُ تَعَالَى رَحمةً واسعةً آمِينَ.
التَّحَلِّي برَوْنَقِ العِلْمِ :
التَّحَلِّي
بـ ( رَوْنَقِ العِلْمِ ) حُسْنِ السمْتِ ، والْهَدْيِ الصالحِ ، من
دَوامِ السكينةِ والوَقارِ والخشوعِ والتواضُعِ ولزومِ الْمَحَجَّةِ
بعِمارةِ الظاهِرِ والباطنِ والتَّخَلِّي عن نواقِضِها .
وعن ابنِ سيرينَ رَحِمَه اللهُ تعالى قالَ : ( كَانُوا يَتَعَلَّمُون الْهَدْيَ كما يَتَعَلَّمُون العِلْمَ ) وعن رجاءِ بنِ حَيْوَةَ رَحِمَه اللهُ تعالى أنه قالَ لرَجُلٍ : (حَدِّثْنَا ، ولا تُحَدِّثْنا عن مُتَمَاوِتٍ ولا طَعَّانٍ ) رواهما الخطيبُ في ( الجامِعِ ) وقالَ :(
يَجِبُ على طالبِ الحديثِ أن يَتَجَنَّبَ : اللعِبَ ، والعَبَثَ ،
والتبَذُّلَ في المجالِسِ بالسُّخْفِ والضحِكِ والقَهْقَهَةِ وكثرةِ
التنادُرِ وإدمانِ الْمِزاحِ والإكثارِ منه ، فإنما يُستجازُ من الْمِزاحِ
بيَسيرِه ونادِرِه وطَريفِه والذي لا يَخْرُجُ عن حدِّ الأَدَبِ وطَريقةِ
العلمِ ، فأمَّا متَّصِلُه وفاحِشُه وسخيفُه وما أَوْغَرَ منه الصدورَ
وجَلَبَ الشرَّ فإنه مَذمومٌ وكثرةُ الْمِزاحِ والضحِكِ يَضَعُ من القدْرِ
ويُزيلُ الْمُروءةَ ) اهـ .
وقد قيلَ : ( مَنْ أَكْثَرَ مِن شيءٍ عُرِفَ به ) فتَجَنَّبْ هاتِيكَ السقَطَاتِ في مُجالَسَتِكَ ومُحادَثَتِك .وبعضُ مَن يَجْهَلُ يَظُنُّ أنَّ التبَسُّطَ في هذا أَرْيَحِيَّةٌ .
وعن الأَحْنَفِ بنِ قَيْسٍ قالَ : ( جَنِّبُوا مَجالِسَنَا ذِكْرَ النساءِ والطعامِ ، إني أَبْغَضُ الرجلَ يكونُ وَصَّافًا لفَرْجِه وبَطْنِه ) وفي كتابِ المحدَّثِ الملْهَمِ أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُ في القَضاءِ : ( وَمَن تَزَيَّنَ بما ليس فيه ، شانَه اللهُ ) .وانْظُرْ شَرْحَه لابنِ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تعالى .
خَفْضُ الْجَناحِ ونَبذُ الْخُيلاءِ والكِبرياءِ
المتن:
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (تَحَلَّ
بآدابِ النفْسِ من العَفافِ والحِلْمِ والصبرِ والتواضُعِ للحَقِّ وسكونِ
الطائرِ من الوَقارِ والرزانةِ وخَفْضِ الْجَناحِ مُتَحَمِّلًا ذُلَّ
التعلُّمِ لعِزَّةِ العِلْمِ ذَليلًا للحَقِّ .
وعليه : فاحْذَرْ نَواقِضَ هذه الآدابِ فإنَّها مع الإثْمِ تُقيمُ على
نَفْسِكَ شاهدًا على أنَّ في العَقْلِ عِلَّةً . وعلى حِرمانٍ من العلْمِ
والعملِ به ، فإيَّاكَ والْخُيلاءَ فإنه نِفاقٌ وكِبرياءُ وقد بَلَغَ من
شِدَّةِ التَّوَقِّي منه عندَ السلَفِ مَبْلَغًا : ومن دقيقِه ما أَسنَدَه
الذهبيُّ في تَرجمةِ عمرِو بنِ الأسودِ العَنْسِيِّ الْمُتَوَفَّى في
خِلافةِ عبدِ الْمَلِكِ بنِ مَرْوانَ رَحِمَه اللهُ تعالى : أنه كان إذا
خَرَجَ من المسجدِ قَبَضَ بيمينِه على شِمالِه فُسِئَل عن ذلك ؟ فقال :
مَخافةَ أن تُنافِقَ يَدِي .
قلتُ :يُمْسِكُها خَوفًا من أن يَخْطُرَ بيدِه في مِشيتِه ، فإنَّه من الْخُيلاءِ. اهـ .
وهذا العارِضُ عَرَضَ للعَنْسِيِّ رَحِمَه اللهُ تعالى .
واحْذَرْ داءَ الْجَبابِرَةِ ( الْكِبْرَ )؛ فإنَّ الكِبْرَ والحرْصَ
والحسَدَ أوَّلُ ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ به ، فتَطَاوُلُكَ على مُعَلِّمِكَ
كِبرياءُ، واستنكافُكَ عَمَّن يُفيدُك مِمَّنْ هو دونَك كِبرياءُ،
وتَقصيرُك عن العمَلِ بالعِلْمِ حَمْأَةُ كِبْرٍ وعُنوانُ حِرمانٍ .
العلْمُ حربٌ للفَتَى الْمُتَعَالِـي ... كالسيْلِ حرْبٌ للمكانِ الْعَالِي
فالْزَمْ
– رَحِمَك اللهُ – اللُّصُوقَ إلى الأرضِ والإزراءَ على نفسِك وهَضْمَها
ومُراغَمَتَها عندَ الاستشرافِ لكِبرياءَ أو غَطرسةٍ أو حُبِّ ظُهورٍ أو
عُجْبٍ ... ونحوِ ذلك من آفاتِ العِلْمِ القاتلةِ له الْمُذهِبَةِ
لِهَيْبَتِه الْمُطْفَئِةِ لنورِه وكُلَّمَا ازْدَدْتَ عِلْمًا أو رِفعةً
في وِلايةٍ فالزَمْ ذلك ، تُحْرِزْ سعادةً عُظْمَى ، ومَقامًا يَغْبِطُكَ
عليه الناسُ .
وعن عبدِ اللهِ بنِ الإمامِ الحُجَّةِ الراويةِ في الكتُبِ الستَّةِ بكرِ بنِ عبدِ اللهِ الْمُزَنِيِّ رَحِمَهما اللهُ تعالى قالَ :
( سَمِعْتُ إنسانًا يُحَدِّثُ عن أبي ، أنه كان واقفًا بعَرَفَةَ فَرَقَّ ، فقالَ : لولا أَنِّي فيهم ، لقُلْتُ قد غُفِرَ لهم ) .
خَرَّجَه الذهبيُّ ثم قالَ : ( قلتُ : كذلك يَنبغِي للعبْدِ أن يُزْرِيَ على نفسِه ويَهْضِمَها ) اهـ .
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
القارئ: (بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله وصلى الله وسلم على رسول الله وبعد قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد في كتابه حلية طالب العلم .
الأمر الخامس من آداب الطالب في نفسه
خَفْضُ الْجَناحِ ونَبذُ الْخُيلاءِ والكِبرياءِ :
تَحَلَّ
بآدابِ النفْسِ من العَفافِ والحِلْمِ والصبرِ والتواضُعِ للحَقِّ وسكونِ
الطائرِ من الوَقارِ والرزانةِ وخَفْضِ الْجَناحِ مُتَحَمِّلًا ذُلَّ
التعلُّمِ لعِزَّةِ العِلْمِ ذَليلًا للحَقِّ .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (قوله:
(تحل بآداب النفس من العفاف والحلم والصبر والتواضع للحق) لأن المقام
يقتضي هكذا أن يكون عند طالب العلم عفة عما في أيدي الناس وعفة عما يتعلق
بالنظر المحرم وحلم لا يعاجل بالعقوبة إذا أساء إليه أحد وصبر على ما يحصل
من الأذى مما يسمعه إما من عامة الناس وإما من أقرانه وإما من معلمه فليصبر
وليحتسب، والتواضع للحق وكذلك للخلق، يتواضع للحق بمعنى أنه متى بان له
الحق خضع له، ولم يبغ بدله، نعم، ولم يبغ لسواه بديلا وكذلك للخلق فكم من
طالب فتح على معلمه أبوابا ليست على بال منه ولا تحقرن شيئا وقوله: سكون
الطائر من الوقار والرزانة وخفض الجناح هذه أيضا ينبغي لطالب العلم أن
يبتعد عن الخفة سواء كان في مشيته أو في تعامله مع الناس وألا يكثر من
القهقهة التي تميت القلب وتذهب الوقار بل يكون خافضا للجناح متأدبا بالآداب
التي تليق بطالب العلم وقوله : متحملا ذل التعلم لعزة العلم . هذا جيد
يعني : أنك لو أذللت نفسك للتعلم فإنما تطلب عزها بالعلم فيكون تذليلها
بالتعلم لأنه ينتج ثمرة طيبة.
القارئ: (وعليه :
فاحْذَرْ نَواقِضَ هذه الآدابِ فإنَّها مع الإثْمِ تُقيمُ على نَفْسِكَ
شاهدًا على أنَّ في العَقْلِ عِلَّةً . وعلى حِرمانٍ من العلْمِ والعملِ به
، فإيَّاكَ والْخُيلاءَ فإنه نِفاقٌ وكِبرياءُ وقد بَلَغَ من شِدَّةِ
التَّوَقِّي منه عندَ السلَفِ مَبْلَغًا.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (صحيح
الخيلاء هذه تحدث للإنسان طالب العلم وللإنسان كثير المال وللإنسان سديد
الرأي وكذلك في كل نعمة أنعم الله بها على العبد ربما يحصل عنده خيلاء
والخيلاء هي الإعجاب بالنفس مع ظهور ذلك على هيئة البدن كما جاء في الحديث
(( من جر ثوابه خيلاء )) فالإعجاب يكون بالقلب فقط فإن ظهرت آثاره فهو
خيلاء وقوله : (فإنه نفاق وكبرياء) أما كونه كبرياء فواضح وأما كونه نفاقا
فلأن الإنسان يظهر بمظهر أكبر من حجمه الحقيقي وهكذا المنافق يظهر بمظهر
المخلص الناصح وهو ليس كذلك.
القارئ: (ومن
دقيقِه ما أَسنَدَه الذهبيُّ في تَرجمةِ عمرِو بنِ الأسودِ العَنْسِيِّ
الْمُتَوَفَّى في خِلافةِ عبدِ الْمَلِكِ بنِ مَرْوانَ رَحِمَه اللهُ تعالى
: أنه كان إذا خَرَجَ من المسجدِ قَبَضَ بيمينِه على شِمالِه فُسِئَل عن
ذلك ؟ فقال : مَخافةَ أن تُنافِقَ يَدِي
قلتُ : يُمْسِكُها خَوفًا من أن يَخْطُرَ بيدِه في مِشيتِه ، فإنَّ ذلك من الْخُيلاءِ. اهـ .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (صحيح يخطر بيده يعني يحركها تحريكا معينا يدل على أنه عنده كبرياء وعنده خيلاء فيقبض بيمنه على شماله لئلا تتحرك .
القارئ: (وهذا العارِضُ عَرَضَ للعَنْسِيِّ رَحِمَه اللهُ تعالى .
واحْذَرْ
داءَ الْجَبابِرَةِ (الْكِبْرَ)؛ فإنَّ الكِبْرَ والحرْصَ والحسَدَ أوَّلُ
ذَنْبٍ عُصِيَ اللهُ به ، فتَطَاوُلُكَ على مُعَلِّمِكَ كِبرياءُ،
واستنكافُكَ عَمَّن يُفيدُك مِمَّنْ هو دونَك كِبرياءُ، وتَقصيرُك عن
العمَلِ بالعِلْمِ حَمْأَةُ كِبْرٍ وعُنوانُ حِرمانٍ .
العلْمُ حربٌ للفَتَى الْمُتَعَالِي = كالسيْلِ حرْبٌ للمكانِ الْعَالِي
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (احذر داء الجبابرة وهو الكبر وقد فسره النبي صلى الله عليه وسلم بأجمع التفسير وأبينه وأوضحه فقال: ((الكبر بطر الحق وغمط الناس)) .
وبطر الحق: هو ردُّ الحق، وغمط الناس: يعني احتقارهم وازدرائهم.
وقوله:
(إن الكبر والحرص والحسد أول ذنب عُصي الله به) يريد فيما نعلم لأننا نعلم
أن أول من عصى الله عز وجل هو الشيطان حين أمره الله تعالى أن يسجد لآدم
لكن منعه الكبرياء، {أبى واستكبر} وقال: { أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ
طِينًا} ، وقال: {هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ} وقال لما أمره ربه أن يسجد- قال: {أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ} ، فقوله: (إنه أول ذنب عُصي الله به) يعني باعتبار ما نعلم، وإلا فإن الله تعالى قال للملائكة:
{إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ
يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ
وَنُقَدِّسُ لَكَ} ، قال أهل العلم: إنما قال الملائكة ذلك لأنه كان على الأرض أمة من قبل آدم وبنيه، كانوا يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء. ثم
ذكر أمثلة، قال: (تطاولك على معلمك كبرياء) التطاول يكون باللسان ويكون
أيضاً بالانفعال، قد يمشي مع معلمه وهو يتبختر، ويقول فعلت وفعلت، وكذلك
أيضاً استنكافك عمن يفيدك من علومه كبرياء، وهذا أيضاً يقع لبعض الطلبة إذا
أخبره أحد بشيء وهو دونه في العلم يستنكف ولا يقبل.
(تقصيرك عن العمل بالعلم حمأة كبر، وعنوان حرمان) نسأل الله العافية، يعني هذا نوع من الكبر، ألاّ تعمل بالعلم.
وقوله:
(العلم حرب للفتى المتعالي) يعني أن الفتى المتعالي لا يمكن أن يُدرك
العلم، لأن العلم حرب له، (كالسيل حرب للمكان العالي)، صحيح؟ نعم، المكان
العالي ينفض عنه السيل يميناً وشمالاً ولا يستقر عليه.
القارئ: (فَالزَمْ
– رَحِمَكَ الله- اللُّصوقَ إِلى الأَرْضِ، وَالإِزْراءَ عَلى نَفْسِكَ،
وَهَضْمِها، وَمُراغَمَتِها عِنْدَ الاسْتِشْرافِ لِكِبْرياءٍ أَوْ
غَطْرَسَةٍ، أَوْ حُبِّ ظُهورٍ، أَوْ عُجُبٍ.. وَنَحْوِ ذلكَ مِنْ آفاتِ
الْعِلْمِ الْقاتِلَةِ لَهُ، الْمُذْهِبَةِ لِهَيْبَتِهِ، الْمُطْفِئَةِ
لنِورِهِ، وَكُلَّما ازْدَدَتْ عِلْماً أَوْ رِفْعَةً في وِلايَةٍ،
فَالزَمْ ذلكِ؛ تَحْرُزْ سَعادَةً عُظْمى، وَمَقاماً يُغْبِطُكَ عَلَيْهِ
النّاسُ، وَعَنْ عَبْدِ الله بن الإِمام الْحُجَّة الرّاوِيَةِ في
الْكُتُبِ السِّتَةِ بَكْرٍ بن عَبْدِ الله الْمُزْنّي- رَحِمَهُما الله
تَعالى- قال: سَمِعْتُ
إنْساناً يُحدِّث عَنْ أَبي، أَنَّهُ كانَ واقِفاً بِعَرَفَةَ، فَرَقَّ،
فَقال: (لَوْلا أَنّي فيهمْ؛ لَقُلْتُ: قَدْ غُفِرَ لَهُمْ)، خَرَّجَهُ
الذَّهْبِيِّ، ثُمَّ قال:
(قُلْتُ: كَذلِكَ يَنْبَغي لِلْعَبْدِ أَنْ يُزْري عَلى نَفْسِهِ وَيَهْضُمُها) اهـ.
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (وهذه
العبارات التي تطلق عن السلف، من مثل هذا يريدون به التواضع، وليسوا يريدون
أنهم يُغَلِّبون جانب سوء الظن بالله عزوجل أبداً، لكنهم إذا رأوا ما هم
عليه خافوا وحذروا وجرت منهم هذه الكلمات، وإلا فإن الأولى بالإنسان أن
يُحسن الظن بالله ولا سيما في هذا المقام، في مقام عرفة الذي هو مقام دعاء
وتضرع إلى الله عزوجل، ويقول مثلاً: إن الله لم ييسر لي الوصول إلى هذا
المكان إلا من أجل أن يغفر لي لأني أسأله المغفرة، والله تعالى يقول: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}، لكن تظهر مثل هذه العبارات من السلف من باب التواضع وسوء الظن بالنفس لا بالله عزَّ وجل.
تمت المقابلة الصوتية بواسطة: محمد أبو زيد
تم التهذيب بواسطة زمزم
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (نحمده سبحانه ونثني عليه
وأشهد أن لاإله إلا الله وحده لا شريك له وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى
عليه وعلى آله و أصحابه و أتباعه وسلم تسليما كثيرا أما بعد :
نواصل ما كنا ابتدأنا به من قراءة كتاب حلية طالب العلم للشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد رحمه الله تعالى
القارئ: (بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه
أجمعين أما بعد ، قال المؤلف رحمه الله تعالى :
خفض الجناح ونبذ الخيلاء والكبرياء
تحل
بآداب النفس، من العفاف، والحلم، والصبر، والتواضع للحق، وسكون الطائر، من
الوقار والرزانة، وخفض الجناح، متحملاً ذل التعلم لعزة العلم، ذليلا للحق.
وعليه،
فاحذر نواقض هذه الآداب، فإنها مع الإثم تقيم على نفسك شاهداً على أن في
العقل علة، وعلى حرمان من العلم والعمل به، فإياك والخيلاء، فإنه نفاق
وكبرياء، وقد بلغ من شدة التوقي منه عند السلف مبلغاً.ومن دقيقه ما أسنده
الذهبي في ترجمة عمرو بن الأسود العنسي المُتوفى في خلافة عبد الملك بن
مروان رحمه الله تعالى: أنه كان إذا خرج من المسجد قبض بيمينه على شماله،
فسئل عن ذلك؟ فقال: مخافة أن تنافق يدي.قلت: يمسكها خوفاً من أن يخطر بيده
في مشيته، فإن ذلك من الخيلاء اهـ. وهذا العارض عرض للعنسي رحمه الله
تعالى.
واحذر
داء الجبابرة: (الكبر) ، فإن الكبر والحرص والحسد أول ذنب عصى لله به ،
فتطاولك على معلمك كبرياء، واستنكافك عمن يفيدك ممن هو دونك كبرياء،
وتقصيرك عن العمل بالعلم حمأة كبر، وعنوان حرمان.
العلم حرب للفتى المعالي ... ... كالسيل حرب للمكان العالي
فالزم
- رحمك الله - اللصوق إلى الأرض، والإزراء على نفسك، وهضمها، ومراغمتها
عند الاستشراف لكبرياء أو غطرسة أو حب ظهور أو عجب.. ونحو ذلك من آفات
العلم القاتلة له، المذهبة لهيبته، المطفئة لنوره، وكلما ازددت علماً أو
رفعة في ولاية، فالزم ذلك، تحرز سعادة عظمى، ومقاماً يغبطك عليه الناس.
وعن عبد الله ابن الإمام الحجة الراوية في الكتب السنة بكر بن عبد الله المزني رحمهما الله تعالى، قال:
"سمعت إنساناً يحدث عن أبي، أنه كان واقفاً بعرفة، فرق، فقال: لولا أني فيهم، لقلت: قد غفر لهم".
خرجه الذهبي ، ثم قال: "قلت: كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها"اهـ. وانظر كلاماً نفيساً لشيخ الإسلام بن تيميه رحمه الله تعالى "مجموع الفتاوى" (14/160) ..
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (ذكر المؤلف رحمه الله تعالى أدباً خامساً من آداب طالب العلم ، وهو خَفض الجناح ونبذ الخيلاء والكبرياء ، والمراد بهذا التواضع ، فخفض الجناح
، بأن يكون المرء حَسُن التعامل ، ذليلا في تعامله مع غيره ، بحيث لا يرى
لنفسه فضلا ولا مكانة ولا يرى أنه أعلى من غيره ، هذا هو خفض الجناح ، بحيث
يكون بمثابة من يرى أنه والناس بمرتبةٍ واحدة ، ولا يرى له فضلا على أحد
من الناس ، ولا يرى أنه أرفع أو أعلى من أي أحد من الخلق مهما كانت منزلة
من يقابله.
وأما الخيلاء والكبرياء فالمُراد بها رؤية المرء للنفس حتى يُخيل للإنسان أنه أعلى من غيره وأرفع درجة منهم ، وأما الكبرياء
فقد فسَّرها النبي - صلى الله وسلم- بأنها جَحْد الحق واحتقار الخلق ، إذا
تقرر هذا فإنَّ الكِبْرَ والبَطْرَ من الأمور المحرمة في الشريعة ، يقول
النبي صلى الله عليه وسلم: ((إِنَّ اللَّهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَبْغِيَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ وَلَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ)) ، ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم- : ((لا يدخلُ الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من كبر ، قالوا يا رسول الله : إنَّ الرجل يحب أن يكون ثوبه حسنا ونعله حسنا ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "الكبرُ بطَرُ الحق ، وغَمْط الناس)).بطر الحق: يعني جحده ، وغمط الناس يعني احتقارهم.
والنصوص الواردة في النهي عن الخيلاء والكبرياء كثيرة ، جاء في حديث آخر أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )) ، قال المؤلف: (تحلى بآداب النفس من العفاف) ، المراد بالعفاف ترفع النفس عما لا يليق بها ، فعفتها عن الأمور والفواحش وترفُّعِها عنها يُعد عفافاً.
وأما (الحلم) فهو السكينة والأناة ، بحيث يصبر الإنسان على أذى الآخرين ، ويكون حسَن التعامل معهم ، وأما (الصبر) فيراد به الصبر على أذية الآخرين ، والصبر في طاعة الله ، والصبر عن معاصي الله ، قال : (والتواضع للحق) بحيث إذا جاءك الحق من أي أحد قبلته وعملت به مهما كان قائله. قال : (وسكون الطائر من الوقار) بحيث لا يكون الإنسان خفيفًا ولا سريعًا ، وإنما عليه السكينة ، قال : (والرزانة) بحيث لا يتصرف الإنسان تصرفات فيها تسرع ، أو فيها دلالة على طيش، قال: (وخفض الجناح) يعني : التواضع مع الآخرين متحملا ذل التعلم من أجل أن تنال عزة العلم ذليلا للحق.
قال المؤلف : (واحذر نواقض هذه الآداب)
فإنَّ المرء يكسب بهذه الآداب الأجر والثواب متى نوى التقرب بها لله ،
ويكسب أيضا محبة الناس له لكن إذا اتصف الإنسان بضد هذه الآداب ، فإنه أولا : يأثم ، وثانيًا : يمْقُتُه الله ، وثالثاً : يحتقره الناس ويعلمون أنَّ في عقله مرضًا وعلة ، ومن ثَمَّ يجتنبونه ، ورابعا : يكون سببا لحرمان العلم والعمل به.
قال المؤلف : (وقد بلغ من شدة التوقِّي منه)
، يعني : بلغ من شدة السلف للحذر من ذلك مبالغ عالية ، من ذلك أنَّ عمرو
بن الأسود يخشى إذا أطلق يديه ، وبدأ يرسلهما وهو يمشي ، أن تتحرك يمينا
وشمالا وأن تتقدم ، ثم بعد ذلك يصبح مظهرًا من مظاهر الخيلاء ، ولذلك كان
يمسك شماله بيمينه. وعلى كلٍّ ، هذا تطبيق للنصوص السابقة ، والنصوص
السابقة دلَّت على التحذير من الكِبر والخيلاء ورغَّبت في ضدهما من خفض
الجناح والوَقار والسكينة. وقد جاء في الحديث أنَّ النبي صلى الله عليه
وسلم قال : (( إذا مَشيتم إلى الصلاة فامشوا وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا))
، وأما تطبيقات هذا فإنه يختلف ما بين زمان وآخر ، قد نرى في زمن من
الأزمان أنَّ هذا التصرف فيه خيلاء وكبرياء لكنه يكون في زمان آخر تصرفا
معتادا لا يكون من الخيلاء في شيء ، وهكذا أيضا فيما يتعلق بأنواع الألبسة ،
فقد نلبَس لباسا في عصرنا الحاضر لكنَّ هذا اللباس ليس معتاداً في زمان
آخر ، عندك مثلا : كان أهل الزمان الأول يسيرون بهذه البشوت ، يلبسها
الصغير والكبير ، ويلبسها العامِي ، ولا يتركها أحد ، ففي ذلك الزمان لا
يعد لبسها من الخيلاء في شيء ، لكن في زماننا هذا اقتصر لبسها على
المناسبات العامة ، أو على العلماء ليعرفهم الناس ، فحينئذ يكون لبسها من
غيرهم نوع خيلاء.
قال المؤلف : (واحذر داء الجبابِرة وهو الكِبر ، فإنَّ الكبرَ والحرصَ) ، الحرص الإسراع بالنفس من أجل طمع ، (والحسد) والمراد بالحسد
تمني زوال النعم التي أنعمها الله على الغير ، هذه الأمور أول ذنب عُصي
الله به ، هكذا يقرره طائفة من العلماء. لأنَّ آدم حسده إبليس ، وتكبّر
إبليس ، كيف أسجد لمن خلقت طينا ، من كان مخلوقا من النار كيف يسجد لمخلوق
من الطين ، قال المؤلف : (فتطاولك) من أمثلة الكبرياء المذمومة شرعا التطاول على المعلم ، المراد بالتطاول الترفع عليه ومضادة كلامه ورفع الصوت عليه ونحو ذلك ، هذا يعد من الكبرياء قال ومن أمثلته : (استنكافُك عمن يفيدك ممن هو دونك) ، استنكافُك يعني
: ترفُّعك عمن يأتيك بفائدة ، إذا كان هذا ممن هو دونك فإنه من الكبرياء ،
فينبغي للإنسان أن يقبل الفائدة ولو كانت من أصغر صغير ، ولا يستنكف عن
ذلك .
صورة ثالثة من صور التكبر، (التقصير عن العمل بالعلم) فإنه من مظاهر التكبر، عندما يجد مجتمعاً من المجتمعات يجعل الإنسان لا يؤدي سنةً كان يعتادها ، هذا كبر.
قال ثم ذكر المؤلف هذا البيت: (الْعِلْمُ حَرْبٌ لِلْفَتى المُتَعالي = كَالسَّيْلِ حَرْبٌ للمَكانِ العالي)
المتعالي يعني
: المتكبر ،كالسيل حرب للمكان العالي ، المكان العالي لا يصله السيل إنما
السيل يجري في مكان منخفض ، وهكذا العلم ، العلم لا يناله كما ورد عن بعض
السلف ، العلم لا يناله مُستح ولا متكبِّر.
قال : (فالزم اللُّصوق إلى الأرض والإزراء على نفسك) ، يعني : التنقص منها.
وإذا جاءتك نفسك وخيلت
إليك أنك على منزلةٍ عالية ، وأنك قد استفدت علمًا كثيراً فكذِّبها ، وقل
يا نفس هذا ليس من صفاتِك ، لم تستفيدي من العلم إلا الشيء القليل ، وانظر
إلى قصة موسى عليه السلام مع الخضر ، لما سُئل موسى من أعلم من في الأرض ،
قال موسى : أنا ، فابتلاه الله وقال: بل عبدنا الخضر أعلم منك فسأل الرحلة
إليه ، لماذا؟ لأنه أدرى بالنفس بعد ذلك ، وطلب أن يذهب إلى من هو أعلم منه
وتَعرفون من قصتهم في سورة الكهف ما تَعرفون.
قال: (ومراقبة النفس عند الاستشراف بالكبرياء)
، إذا تطلعت نفسك إلى التكبر على الخلق ، قم بإمساك لجامها ، وقِدْها ،
ولا تجعلها تستشرف الكبرياء ، (أو الغطرسة أو حب الظهور أو الإعجاب بالنفس)
، فكل هذا من آفات النفس التي يجب علينا أن نُروِّض النفس من أجل مضادتها.
قال المؤلف في بيان الأدب الخامس من آداب طالب العلم خفض الجناح ونبذ الكبرياء والخُيلاء ، قال : (من آفات النفس الكبرياء ، والغطرسة ، وحب الظهور ، والإعجاب بالنفس)
، فإنَّ هذه الآفات تقتل النفس ، ولا تُمكنها من طلب العلم ، وكلما ازددت
علما أو رفعةً في ولاية فاحذر من التكبر ، والزم التواضع ، (تُحرز بذلك السعادة العظمى) ، فإنَّ المتكبر كالبعيد يراه الناس صغيراً ويرونه صغيرا ، المتكبر كالبعيد يراه الناس صغيراً و يراهم صغارا.
قال : ثم ذكر رواية (عن بكر بن عبد الله المزني قال كان أبي واقفا بعرفه فرقّ )
أي : رقَّت نفسُه وبدأت العبرة تخرج من عينه ثم بعد ذلك أزرى بنفسه
وتَنقَّصها فقال: أخشى أن لا يُغفر لهم بسببي. بكر بن عبد الله المزني إمام
، عالم ، حجة ، قد بثَّ من العلم ما بثَّ ومع ذلك يخشى أن لا يُقبل من
الحجيج ولا يُغفر لهم بسببه هو.
(قال الإمام الذهبي كذلك ينبغي للعبد أن يُزري على نفسه) ، يعني : أن ينتقص منها (وأن يهضمها)
يأخذ بعض ما يكون لها ، من أجل أن يكون ذلك سبباً لقبول الله له ، كلما
تواضع العبد لله كان ذلك سبباً لرفعة العبد عند الله - جل وعلا- ، وكلما
ترك الإنسان الكبرياء والعجب بالنفس كلما كان أدعى لقبول الأعمال ، وأدعى
إلى معية الله ، وأدعى لأن تكون معية الله مع العبد.نعم
القناعةُ والزَّهادةُ
المتن:
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (التَّحَلِّي بالقَناعةِ والزَّهادةِ ، وحقيقةُ الزهْدِ ( الزهْدُ بالحرامِ والابتعادُ عن حِمَاهُ ، بالكَفِّ عن الْمُشتَبِهَاتِ وعن التَّطَلُّعِ إلى ما في أيدي الناسِ ) .
ويُؤْثَرُ
عن الإمامِ الشافعيِّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( لو أَوْصَى إنسانٌ
لأَعْقَلِ الناسِ صُرِفَ إلى الزهَّادِ ) وعن مُحَمَّدِ بنِ الحسَنِ
الشيبانيِّ رَحِمَه اللهُ تعالى لَمَّا قِيلَ له : أَلَا تُصَنِّفُ كتابًا
في الزهْدِ ؟ قال : ( قد صَنَّفْتُ كِتابًا في البُيوعِ ) .
يعني:( الزاهدُ مَن يَتَحَرَّزُ عن الشُّبُهاتِ والمكروهاتِ في التجاراتِ وكذلك في سائرِ الْمُعاملاتِ والْحِرَفِ ) اهـ .
وعليه فليكنْ مُعْتَدِلًا في مَعاشِه بما لا يُشِينُه بحيثُ يَصونُ نفسَه ومَن يَعولُ ولا يَرِدُ مَواطِنَ الذلَّةِ والْهُونِ .
وقد كان شيخُنا مُحَمَّدٌ الأمينُ الشِّنقيطيُّ الْمُتَوَفَّى في 17/12/1393 هـ رَحِمَه اللهُ تعالى متَقَلِّلًا من الدنيا وقد شاهَدْتُه لا يَعرِفُ فِئاتِ العُملةِ الوَرَقِيَّةِ وقد شافَهَنِي بقولِه :
( لقد جِئْتُ من البلادِ – شِنقيطَ – ومعي كَنْزٌ قلَّ أن يُوجدَ عندَ أحدٍ وهو ( القَناعةُ )، ولوأرَدْتُ المناصِبَ لعَرَفْتُ الطريقَ إليها ولكني لا أُؤْثِرُ الدنيا على الآخِرةِ ولا أَبْذُلُ العلْمَ لنَيْلِ المآرِبِ الدُّنيويَّةِ ) فرَحِمَه اللهُ تَعَالَى رَحمةً واسعةً آمِينَ.
شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
القارئ: (الأمر السادس: القناعة والزهادة
التَّحَلِّي
بالقَناعةِ والزَّهادةِ ، وحقيقةُ الزهْدِ ( الزهْدُ بالحرامِ والابتعادُ
عن حِمَاهُ ، بالكَفِّ عن الْمُشتَبِهَاتِ وعن التَّطَلُّعِ إلى ما في أيدي
الناسِ )
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (التحلي بالقناعة من أهم
خصال طالب العلم يعني أن يقتنع بما أتاه الله عزوجل ولايطلب أن يكون في
مصاف الأغنياء والمترفين لأن بعض طلبة العلم وغيرهم تجده يريد أن يكون في
مصاف الأغنياء والمترفين فيتكلف النفقات في المأكل والمشرب والملبس والمفرش
ثم يثقل كاهله بالديون وهذا خطأ بل عليك بالقناعة فإنها خير زاد للمسلم .
وأما الزهادة فيقول حقيقة
الزهد : الزهد بالحرام والابتعاد عن حماه بالكف عن المشتبهات وكأنه أراد
بالزهد هنا الورع لأن هناك ورعاً وزهداً، والزهد أعلى مقاماً من الورع لأن
الورع ترك ما يضر في الآخرة والزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، وبينهما فرق
الفرق الذي بينهما المرتبة التي ليس فيها ضرر وليس فيها نفع فالورِع لا
يتحاشاها والزاهد يتحاشاها ويتركها لأنه لا يريد إلا ما ينفعه في الآخرة.
القارئ: (ويُؤْثَرُ عن الإمامِ الشافعيِّ رَحِمَه اللهُ تعالى : ( لو أَوْصَى إنسانٌ لأَعْقَلِ الناسِ صُرِفَ إلى الزهَّادِ )
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (الله أكبر يعني في الوصية
لو قال: أوصيت لأعقل الناس، يصرف إلى من؟ إلى الزهاد لأن الزهاد هم أعقل
الناس حيث تجنبوا ما لا ينفعهم في الآخرة, وهذا الذي قاله رحمه الله ليس
على إطلاق لأن الوصايا والأوقاف والهبات والرهون وغيرها ترجع إلى معناها في
العرف فإذا كان أعقل الناس في عرفنا هم الزهاد صرف لهم وإذا كان أعقل
الناس هم ذوو المروءة والوقار والكرم بالمال والنفس صرف إليهم .
القارئ: (وعن
مُحَمَّدِ بنِ الحسَنِ الشيبانيِّ رَحِمَه اللهُ تعالى لَمَّا قِيلَ له :
أَلَا تُصَنِّفُ كتابًا في الزهْدِ ؟ قال : ( قد صَنَّفْتُ كِتابًا في
البُيوعِ ) .
يعني: (الزاهدُ مَن يَتَحَرَّزُ عن الشُّبُهاتِ والمكروهاتِ في التجاراتِ وكذلك في سائرِ الْمُعاملاتِ والْحِرَفِ) اهـ .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (لما طُلب منه أن يصنف في
الزهد قال: قد صنفت كتاباً في البيوع لأن من عرف البيوع وأحكامها وتحرز من
الحرام واستحل الحلال فإن هذا هو الزاهد .
القارئ: (وعليه فليكنْ مُعْتَدِلًا في مَعاشِه بما لا يُشِينُه بحيثُ يَصونُ نفسَه ومَن يَعولُ ولا يَرِدُ مَواطِنَ الذلَّةِ والْهُونِ .
وقد
كان شيخُنا مُحَمَّدٌ الأمينُ الشِّنقيطيُّ الْمُتَوَفَّى في السابع عشر
من شهر ذي الحجة عام 1393هـ رَحِمَه اللهُ تعالى متَقَلِّلًا من الدنيا وقد
شاهَدْتُه لا يَعرِفُ فِئاتِ العُملةِ الوَرَقِيَّةِ وقد شافَهَنِي بقولِه
:
( لقد
جِئْتُ من البلادِ – شِنقيطَ – ومعي كَنْزٌ قلَّ أن يُوجدَ عندَ أحدٍ وهو (
القَناعةُ )، ولو أرَدْتُ المناصِبَ لعَرَفْتُ الطريقَ إليها ولكني لا
أُوثِرُ الدنيا على الآخِرةِ ولا أَبْذُلُ العلْمَ لنَيْلِ المآرِبِ
الدُّنيويَّةِ ) فرَحِمَه اللهُ تَعَالَى رَحمةً واسعةً آمِينَ .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (آمين . هذا الكلام من
الشيخ الشنقيطي وأشباهه من أهل العلم لا يريدون بذلك تزكية النفس إنما
يريدون بذلك نفع الخلق وأن يقتدي الناس بهم وأن يكونوا على هذا الطريق
لأننا نعلم هذا من أحوالهم يعني أحوال العلماء أنهم لا يريدون تزكية النفس
وهم أبعد الناس عن ذلك وهو رحمه الله كما ذكره الشيخ بكر من الزهاد إذا
رأيته لا تقول إلا أنه رجل من أهل البادية حتى العباءة تجد أن عليه عباءة
عادية وكذلك الثياب ولا تجده يهتم بهندمة نفسه وثيابه .
تمت المراجعة الصوتية بواسطة: محمد أبو زيد
تم التهذيب بواسطة زمزم
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله
القارئ: (القناعة والزهادة:
التحلي بالقناعة والزهادة، وحقيقة الزهد : "الزهد بالحرام، والابتعاد عن حماه، بالكف عن المشتهات وعن التطلع إلى ما في أيدي الناس".
ويؤثر
عن الإمام الشافعي رحمه الله تعالى : "لو أوصى إنسان لأعقل الناس، صرف إلى
الزهاد". وعن محمد بن الحسن الشيباني رحمه الله تعالى لما قيل له: ألا
تصنف كتابا في الزهد؟ قال : "قد صنفت كتاباً في البيوع" .
يعنى: "الزاهد من يتحرز عن الشبهات، والمكروهات، في التجارات، وكذلك في سائر المعاملات والحرف" اهـ.
وعليه، فليكن معتدلاً في معاشه بما لا يشينه، بحيث يصون نفسه ومن يعول، ولا يرد مواطن الذلة والهون.
وقد
كان شيخنا محمد الأمين الشنقيطى المتوفى في 17/12/1393هـ رحمه الله تعالى
متقللاً من الدنيا، وقد شاهدته لا يعرف فئات العملة الورقية، وقد شافهني
بقوله : "لقد جئت من البلاد - شنقيط - ومعي كنز قل أن يوجد عند أحد، وهو
(القناعة) ، ولو أردت المناصب، لعرفت الطريق إليها، ولكني لا أوثر الدنيا
على الآخرة، ولا أبذل العلم لنيل المآرب الدنيوية". فرحمه الله تعالى رحمه
واسعة آمين.
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (هنا الأدب السادس من آداب طالب العلم ، وهو القناعة والزهادة ، أما القناعة
فالمراد بها عدم استشراف النفس بما لم يُعطه اللهُ للعبد ، القناعة عدم
استشراف النفس بما لم يُعطه اللهُ للعبد ، بحيث يكون راضيا بما رزقه الله -
جل وعلا - هذه هي القناعة ، أما الزهد فالمراد بالزهد ترك مالا ينفع في الآخرة ترك مالا ينفع في الآخرة ، وقال المؤلف : (الزهد بالحرام والابتعاد عن حماه بالكف عن المُشْتبهات) ، الزهد في الحرام هذا يقول له الفقهاء الورع ، فالمراد بالورع هو ترك الحرام ، والمراد بالزهد ترك مالا ينفع.
قال : (لو أوصى إنسانٌ لأعقل الناس ، قال الإمام الشافعي: فإنه يُصرف إلى الزهاد)
، لماذا؟ لأنهم انتفعوا بما لديهم ولم يُـقدِموا على مالا ينفعهم ، ليس
المراد بالزهد ترك الدنيا ، وإنما المراد بالزهد الاقتصار على ما ينفع ،
ولذلك نجد مثلاَ سليمان بن داوود ونجد أباه قد آتاهم الله من الدنيا ما
آتاهم ، لا يعد هذا مناقضا للزهد ، وإنما من جاءته الدنيا واستعملها فيما
ينفعه في الآخرة فإنه يُعد زاهدا ، قال تعالى:{
وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ
عِنْدَنَا زُلْفَىٰ إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ
لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ
} ، فدل هذا على أنَّ الأموال التي يعطيها الله جل وعلا للعبد إذا
استعملها في طاعة الله جل وعلا فإنه حينئذ يكون من الزهاد ، ولو كان عنده
من الأموال الشيء الكثير ، وأنَّ الله- جل وعلا - إذا لم يجعل العبد يصرف
ما أعطاه الله له في مراضيه فإنه ليس بزاهدٍ ولو لم يكن عنده من الدنيا إلا
الشيء القليل. قال المؤلف: (وعن محمد بن الحسن الشيباني لما قيل له ألا تصنف كتاباً في الزهد؟ قال: قد صنفت كتاباً في البيوع) ؛ لأنَّ من كان يترك من البيوع مالا ينفعه فإنه حينئذ سيكون زاهدا ، قال : (الزاهد من يتحرز عن الشبهات) والشبهات تشمل صورا :
الصورة الأولى : إذا كان هناك مسائل يختلف أهل العلم فيها وللخلاف محله ، فحينئذ هذه المسائل من الشبهات.
الصورة الثانية : مسائل فيها أدلة متعارِضة ، ولم يعرف كيفية الجمع بينها ، فهذه من المسائل المُشتبهات.
الصورة الثالثة :
أن يكون هناك مسائل لا ندري هل تدخل في تطبيق الحرام أو في تطبيق الحلال ،
فحينئذ هذه المسائل من المشتبهات ، والمشتبهات لها عشر صور ، هذه أبرز صور
المشتبهات.
قال : (وعليه فليكن معتدلاً في معاشه بما لا يشينه) ، يعني : يكون سببًا لورود مالا يُحمد عليه ، وبحيث لا يثنى عليه بسوء ، قال : (بحيث يصون نفسه ومن يعول) ، فهو يقتات ويعمل ولكن لا يكون ذلك العمل من المشتبهات أو مما يُخالف المروءات ، (ولا يرد مواطن الذلة والهَون)
، يعني : المَحال التي تكون سببًا من أسباب اعتقاد الناس أنَّ هذا يخالف
المروءة ، فالصنائع ، الأعمال التي تخالف المروءات عند الناس يجتبها طالب
العلم.
ثم ذكر المؤلف عن شيخه
الشيخ الأمين الشنقيطي وهو من علماء الأمة فضلا وعلمًا ، ومن سمِع أحاديثه
أو أشرطته ودروسه ، عَلم ما آتاه الله جل وعلا من العلم ، وتفسيره أضواء
البيان من الكتب النادرة العظيمة المشتملة على علم كثير مع كونه لا يتجاوز
تفسير الآيات التي يرد عليها. والشيخ الشنقيطي نموذج ، فالزهد ليس في حال
من أعرضت عنه الدنيا ، ولكن الزهد فيمن أقبلت عليه الدنيا ، إذا تقرر هذا
فإنَّ من آتاه الله المال الكثير فاستعمله في طاعة الله فهذا زاهد.. نعم.
التَّحَلِّي برَوْنَقِ العِلْمِ
المتن:
قال الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد (ت:1429هـ): (التَّحَلِّي بـ ( رَوْنَقِ العِلْمِ ) حُسْنِ السمْتِ ، والْهَدْيِ الصالحِ ، من دَوامِ السكينةِ والوَقارِ والخشوعِ والتواضُعِ ولزومِ الْمَحَجَّةِ بعِمارةِ الظاهِرِ والباطنِ والتَّخَلِّي عن نواقِضِها.شرح الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله
القارئ: (الأمر السابع
التَّحَلِّي برَوْنَقِ العِلْمِ :
التَّحَلِّي
بـ ( رَوْنَقِ العِلْمِ ) حُسْنِ السمْتِ ، والْهَدْيِ الصالحِ ، من
دَوامِ السكينةِ والوَقارِ والخشوعِ والتواضُعِ ولزومِ الْمَحَجَّةِ
بعِمارةِ الظاهِرِ والباطنِ والتَّخَلِّي عن نواقِضِها .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (هذا
قد يكون فرعا مما سبق؛ فإن حسن السمت، والهدي الصالح، من دوام السكينة،
والوقار، والخشوع، والتواضع، قد سبق الإشارة إليه وأنه ينبغي لطالب العلم
أن يكون أسوة صالحة في هذه الأمور .
القارئ: (وعن ابنِ سيرينَ رَحِمَه اللهُ تعالى أنه قالَ : ( كَانُوا يَتَعَلَّمُون الْهَدْيَ كما يَتَعَلَّمُون العِلْمَ ) وعن رجاءِ بنِ حَيْوَةَ رَحِمَه اللهُ تعالى أنه قالَ لرَجُلٍ : (حَدِّثْنَا ، ولا تُحَدِّثْنا عن مُتَمَاوِتٍ ولا طَعَّانٍ ) رواهما الخطيبُ في ( الجامِعِ ) وقالَ : (
يَجِبُ على طالبِ الحديثِ أن يَتَجَنَّبَ : اللعِبَ ، والعَبَثَ ،
والتبَذُّلَ في المجالِسِ بالسُّخْفِ والضحِكِ والقَهْقَهَةِ وكثرةِ
التنادُرِ وإدمانِ الْمِزاحِ والإكثارِ منه ، فإنما يُستجازُ من الْمِزاحِ
بيَسيرِه ونادِرِه وطَريفِه والذي لا يَخْرُجُ عن حدِّ الأَدَبِ وطَريقةِ
العلمِ ، فأمَّا متَّصِلُه وفاحِشُه وسخيفُه وما أَوْغَرَ منه الصدورَ
وجَلَبَ الشرَّ فإنه مَذمومٌ وكثرةُ الْمِزاحِ والضحِكِ يَضَعُ من القدْرِ
ويُزيلُ الْمُروءةَ ) اهـ .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (هذا من أحسن ما قيل في آداب طالب العلم , أن يتجنب اللعب والعبث , إلا ما جاءت به الشريعة , كاللعب برمحه وسيفه وفرسه , لأن ذلك يعينه على الجهاد في سبيل الله, وكذلك في الوقت الحاضر اللعب بالبنادق الصغيرة, هذا لا بأس به كذلك ، العبث هو أن يفعل فعلا لا داعي له , أو يقول قولا لا داعي له . كذلك التبذل في المجالس , بالسخف، والضحك، والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح والإكثار منه، لا سيما عند عامة الناس , أما عند أصحابك وأقرانك فالأمر أهون , لكن عند عامة الناس إياك أن تفتح باب الامتهان فإن ذلك يذهب الهيبة من قلوب الناس , فلا يهابونك ولا يهابون العلم الذي تأتي به .
القارئ: (تم التهذيب بواسطة زمزم
وقد قيلَ : ( مَنْ أَكْثَرَ مِن شيءٍ عُرِفَ به ) فتَجَنَّبْ هاتِيكَ السقَطَاتِ في مُجالَسَتِكَ ومُحادَثَتِك . وبعضُ مَن يَجْهَلُ يَظُنُّ أنَّ التبَسُّطَ في هذا أَرْيَحِيَّةٌ .قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (الله
المستعان , صحيح , لأن هذا يشغل عن طلب العلم , مثل أن يقول أكلت البارحة
أكلا حتى ملأت البطن , وما أشبه ذلك , من الأشياء التي لا داعي لها , أو
يتكلم بما يتعلق بالنساء .
أما أن يكون الرجل مع أهله ثم يصبح يحدث الناس بما فعل , فإن هذا من أشر الناس منزلة عند الله عز وجل .
القارئ: (وفي كتابِ المحدَّثِ الملْهَمِ أميرِ المؤمنينَ عمرَ بنِ الخطَّابِ رَضِي اللهُ عَنْهُ في القَضاءِ : ( وَمَن تَزَيَّنَ بما ليس فيه ، شانَه اللهُ ) . وانْظُرْ شَرْحَه لابنِ القَيِّمِ رَحِمَه اللهُ تعالى .
قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين (ت: 1421هـ): (يقول رحمه الله : وفي كتاب المحدث الملهم .
المحدَّث : يعني به عمر بن الخطاب رضي الله عنه , لأن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال : ((إن يكن فيكم محدثون فعمر))
والمراد الملهم : الذي يلهمه الله عز وجل . وكأنه يُحدَّث بالوحي .
وقد أشكل هذا على بعض العلماء , حيث قالوا أن هذا يقتضي أن عمر أفضل الصحابة, لأنه قال : ((إن يكن فيكم محدثون فعمر)) .
لكن أجاب عنه شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : بأن عمر إنما يتلقى الإصابة بواسطة , أما أبو بكر فيتلقاها بلا واسطة.
وعلى هذا فيكون أفضل من عمر , ومن رأى تصرف أبو بكر رضي الله عنه في مواقع الشدة , علم أنه أقرب إلى الصواب من عمر .
ففي
كتاب الصلح , الذي وقع بين النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم وقريش ,
وراجع عمر فيه رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وسلم , وأجابه , ثم راجع
أبا بكر , فأجابه بما أجابه به رسول الله صلى الله عليه وعلى آله سلم حرفا
بحرف .
وفي
قتال أهل الردة , وكذلك في تنفيذ جيش أسامة بن زيد , وكذلك في تثبيت الناس
يوم وفاة النبي صلى الله عليه وعلى آله سلم , كل هذا يدل على أن أبا بكر
أصوب رأيا من عمر .
لكن الذي أظهر عمر رضي الله عنه , هو طول خلافته , وتفرغه لأمور المسلمين العامة والخاصة , فكان مشتهرا بذلك رضي الله عنه .
ولهذا نحن نقول , أيما أكثر رواية للحديث أبو هريرة أو أبو بكر ؟
أبو هريرة , هل يعني ذلك أن أبا هريرة أكثر تلقيا للحديث من الرسول عليه الصلاة والسلام من أبي بكر ؟
لا ,
لكن أبو بكر لم يحدث بما روى عن الرسول , وإلا فأبو بكر صاحب الرسول صلى
الله عليه وعلى آله وسلم , صيفا وشتاء , ليلا ونهارا , سفرا وإقامة .
فهو
أكثر الناس تلقيا عنه , وأعلم الناس بأحواله , لكن لم يتفرغ ليجلس إلى
الناس ليحدثهم بما رواه عن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم .
الحاصل : أن بهذا يتبين الجواب عن الحديث (( إن يكن فيكم محدثون فعمر )).
يقول في الكتاب الذي كتبه إلى أبي موسى في القضاء :
من تزين بما ليس فيه شانه الله .
هذا
حقيقة , إذا تزين الإنسان بأنه طالب علم , وقام يضرب الجبلين بعضهما ببعض ,
وكلما أتته مسألة من مسائل العلم شمر عن أكمامه , وقال أنا صاحبها , هذا
حلال وهذا حرام وهذا واجب وهذا فرض كفاية وهذا فرض عين وهذا يشترط فيه كذا
وكذا وهذا ليس له شروط وقام يفصل ويجمل , ولكن يأتيه طالب علم صغير , ويقول
أخبرني عن كذا , فإذا بالله يفضحه ويبين أنه ليس بعالم .
وكذلك من تزين بعبادة وأظهر للناس أنه عابد , فلا بد أن يكشفه الله عز وجل لا بد أن ينكشف , أعاذنا الله وإياكم من الرياء .
ومهما تكن عند امرئ من خليقة = وإن خالها تخفى على الناس تعلم .
ومهما يكتم الناس فالله يعلمه , وسيفضح من لا يعمل لأجله .
فهذه العبارة من عمر زن بها جميع أعمالك , " من تزين بما ليس فيه شانه الله "
قال الشيخ بكر أبو زيد : وانظر شرحه لابن القيم رحمه الله .
شرحه
ابن القيم في كتاب : (إعلام الموقعين) . شرحا طويل طويلا, حتى تكاد أن
تقول: إن جميع الكتاب الذي هو ثلاث مجلدات كبار كان شرحا لهذا الحديث .
وإن لم يكن شرحا لألفاظه , لكنه شرح لألفاظه بوجه , وشرح لمعانيه وحكمه .
فلهذا أشار بكر أبو زيد إلى أن ننظر إلى هذا الشرح .
تمت المقابلة الصوتية بواسطة: محمد أبو زيد
تم التهذيب بواسطة زمزم
شرح الشيخ سعد بن ناصر الشثري حفظه الله
القارئ: (قال رحمه الله:
التحلي برونق العلم:
التحلي
بـ (رونق العلم) حسن السمت، والهدى الصالح، من دوام السكينة، والوقار،
والخشوع، والتواضع، ولزوم المحجة، بعمارة الظاهر والباطن، والتخلي عن
نواقضها.وعن ابن سيرين رحمه الله تعالى قال:"كانوا يتعلمون الهدى كما
يتعلمون العلم".
وعن رجاء بن حيوة رحمه الله تعالى أنه قال لرجل:"حدثنا، ولا تحدثنا عن متماوت ولا طعان".
رواهما الخطيب في "الجامع"، وقال :
"يجب
على طالب الحديث أن يتجنب: اللعب، والعبث، والتبذل في المجالس، بالسخف،
والضحك، والقهقهة، وكثرة التنادر، وإدمان المزاح والإكثار منه، فإنما
يستجاز من المزاح بيسيره ونادره وطريفة، والذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة
العلم، فأما متصله وفاحشه وسخيفه وما أوغر منه الصدور وجلب الشر، فإنه
مذموم، وكثرة المزاح والضحك يضع من القدر، ويزيل المروءة" اهـ.
وقد قيل: "من أكثر من شيء، عرف به". فتجنب هاتيك السقطات في مجالستك ومحادثتك.
وبعض من يجهل يظن أنَّ التبسط في هذا أريحية.
وعن الأحنف بن قيس قال:
"جنبوا
مجالسنا ذكر النساء والطعام، إني أبغض الرجل يكون وصَّافاً لفرجه وبطنه".
وفي كتاب المحدث الملهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضى الله عنه في
القضاء : "ومن تزين بما ليس فيه، شانه الله". وانظر شرحه لابن القيم رحمه
الله تعالى.
قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: (هذا هو الأدب السابع من آداب طالب العلم ، بحيث أن يكون ظاهر طالب العلم موافقًا للعلم الذي يطلبه بحيث يكون (حَسُنَ السمت)
، وحُسن السمت قلنا أنَّ السمت فيما سبق هو الصورة الظاهرة ، بحيث تكون
أخلاقه الظاهرة وكلامه وملبسه ، دالاً على كونه من طلبة العلم ، فيكون هديه
الظاهر موافقًا لهدي أهل الصلاح ، ومن ثَمَّ يلازم (السكينة) وهو طمأنينة النفس (والوقار) ، بحيث يكون ظاهره غيرَ مُنبِئٍ عن خلاف هذه ، وكذلك يتصف (بالخشوع) ، فليس متسرعًا ولا متبادراً لما لا ينبغي ، وليس متكلمًا بما لا يناسب حاله ، وكذلك يتصف بصفة (التواضع) ، وهو ينافي التكبر ، ويكون (ملازمًا للمَحجَّة) ، المراد بالمحجة :
وسط الطريق الموصل إلى المُراد بحيث لا يكون ممن يميل جهة اليمين ولا جهة
الشمال ، ويَعمُر ظاهره وباطنه بعبادة الله تعالى وذكره والتخلِّي عن نواقض
ذلك .
(قال ابن سيرين كانوا يتعلمون الهَدي - وهو الصفة الظاهرة - كما يتعلمون العلم) ، بحيث تكون ظواهرهم موافقة لبواطنهم ، ظواهرهم متحلية بالأوصاف الشرعية والأخلاق المَرعية.
(قال رجاء بن حيوة لرجلٍ : حدِّثنا ولا تحدِّثنا عن مُتماوِتٍ ولا طعَّان) ، والمتماوت: هو من كان متصفا بصفة موت القلب ، بحيث لا يكون باطنه معمورا لله جل وعلا ، ولا طعان : وهو الذي يبذل لسانه في القدح في الآخرين والسب منهم.
(قال الخطيب: يجب على طالب الحديث أن يَتجنب اللعب) ، ما المراد باللعب؟
العمل الذي ليس له ثمرة ، هذا هو اللعب ، من أمثلته: هذه الألعاب التي في
زماننا وعصرنا سواء في الانترنت أو في السوني أو في غيرها.
كذلك يتجنب (العبث) ، مثل أن يحرك يديه حركات لا فائدة منها ، كذلك يتجنب (التبذُل في المجالس) ، التبذل في المجالس الحديث في كل ما يقصد الناس الحديث فيه ، بحيث لا يوجد له ضوابط في حديثه ، ومن ثم تجده يتكلم (بالسُّخف) ، والمراد بالسخف الأمور التوافه ، التي لا قيمة لها ولا منزلة ، أو يتكلم بأمورٍ مضحِكة التي ينتج عنها القهقهة ، (وكثرة التَنَدُّر) ، والتنكيت على الآخرين ، وكذلك على طالب الحديث أن يتجنب (إدمان المزاح والإكثار منه)
، لو مزح مرةً جاز ولم يُنافي ذلك آداب طالب العلم ، لكن أن يكون ذلك
دأَبَه في كل حديثه وفي كل أموره ، فهذا ليس من شأن طالب العلم ، (إنما يُستجاز من المزاح الشيء اليسير النادر القليل والطريف ، الذي لا يخرج عن حد الأدب وطريقة العلم) ، أما أن يكون
كل حديثه وكل مجالسه على المزاح ، ويتكلم بالأمور الفاحشة في المزاح التي
تكون كبيرة ، وتكون عظيمة أن تصدر من إنسان ، أو يتكلم في الأمور السخيفة
التافهة التي لا قيمة لها ، أو يتكلم من المزاح بما يوغر الصدور ، بحيث
يُعلِّق على هذا ، ويُنكِّت على هذا ، فهذا يورد القطيعة ، ويورد غِل
القلوب ويجلب الشر ، هذا كله مذموم. وأصل كثرة المزاح حتى ولو لم تكن بهذه
الأمور؛ بالفاحش والسخيف والمورد للعداوة ، كثرة المزاح تضع من قدر الإنسان
وتُزيل صفة المروءة منه ، ما هي صفة المروءة؟
المروءة المراد بها اجتناب الإنسان مالا يُثنى عليه من الأوصاف عند الناس ،
وبعضهم يقول المروءة اجتناب الإنسان الصفات غير المرغوب فيها ، مثال هذا:
مما يُرغب فيه أن يكون الإنسان في مجتمعاتنا لابسًا للثياب ، فإذا لبس
البنطلونات لم يُعدَّ حينئذ ممن اتصف بصفات المروءة ؛ لأنَّ الناس لا
يُثنون على من ترك هذه الثياب المعتادة. وقد (قيل من أكثر من شيء) من مزاح أو ضحك ، (عُرف به) ، بحيث يكون موصوفًا به ، فلان المزاح ، (فتجنب هاتيك السقطات في مُجالستك ومٌحادثتك ، وبعض من يجهل يظن أنَّ التبسط في هذا أرِيحية)
، الأريحية يعني ما يكون مُنتجا لراحة النفس ، بعض الناس يعد الضحك
والتبذل وكثرة المزاح من الأريحية التي ترتاح لها النفوس ، وهذا ليس من ذلك
في شيء بل إنَّ الناس إذا وجدوا شخصا يُكثر من المزاح والتعليق على
الآخرين ، فإنه حينئذ تنفر منه نفوسهم ، ولذلك (قال الأحنف بن قيس : جنِّبوا مجالسنا ذكرَ النساء والطعام)
، وذلك لأنَّ هذه الأمور ليست من الأمور التي تَقصدها نفوس العقلاء ،
وترتفع نفوسهم بها ، وإنما ينبغي أن تكون مجالسنا فيها ذكر الآداب ، فيها
ذكر الأحكام الشرعية.
كذلك من الأمور التي تتعلق
بهذا أن لا يظهر الإنسان صفة ليس متصفًا بها حقيقة ، كأن يُظهر للآخرين
أنه يقوم الليل وليس كذلك ، أو يُظهر للآخرين أنه يقرأ القرآن أو يحفظ كتاب
الله ، وليس فيه تلك الصفة ، (قال عمر رضي الله عنه : من تزين بما ليس فيه شانه الله) ، ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ))
المُتَشبِّع بما لم يعط: الذي يقول أنا مُتصفٌ بالصفة الفلانية ، ومتصف
بالصفة الفلانية ومتصف بالصفة الفلانية ، هذا كلابس ثوبي زور ، الزور: هو الكذب وتمويه الحقائق ، وجَعَلَها كالثوبين لأنها أولاً : قد كذب عن نفسه بحيث يُظهر أنه مُتصف بهذه الصفة وليس كذلك ، وكذلك قد زوَّر صورته في نفوس الآخرين ، ولذلك جعله كلابس ثوبي زورٍ.نعم