11 Jul 2016
وجوب الإخلاص في طلب العلم
ومما ينبغي التذكير به والتأكيد عليه: وجوب الإخلاص لله تعالى في طلب
العلم، وبيان الوعيد الشديد لمن طلب العلم رياء وسمعة، أو لا يتعلّمه إلا
ليصيبَ به عرضًا من الدنيا، وقد ورد في ذلك أحاديث صحيحة منها:
- ما في صحيح الإمام مسلم وغيره من حديث أبي هُريرة -رضي الله عنه- عن
النبي صلى الله عليه وسلم في ذكر أول من تسعَّر بهم النار يوم القيامة،
ومنهم: ((رَجُلٌ تَعلَّمَ العلمَ وعَلَّمَهُ، وقَرأَ القرآنَ فأُتي به فعرَّفهُ نِعَمهُ فعرَفها؛ قال: فمَا عَمِلْتَ فِيهَا؟
قالَ: تعَلَّمْتُ الْعِلْمَ وَعَلَّمْتُهُ، وَقَرَأْتُ فِيكَ الْقُرْآنَ.
قالَ: كَذَبْتَ، ولكنَّكَ تَعَلَّمْتَ لِيُقَالَ عَالِمٌ، وَقَرَأْتَ
الْقُرْآنَ لِيُقَالَ هُوَ قَارِئٌ؛ فَقَدْ قِيلَ، ثُمَّ أُمِرَ بِهِ
فَسُحِبَ عَلَى وَجْهِهِ حَتَّى أُلْقِيَ فِي النَّارِ))
نعوذ بالله من غضبه وعقابه.
- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ
تَعَلَّمَ عِلْماً مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللهِ لا يَتَعَلَّمُهُ
إِلاَّ لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضاً مِنَ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ
الجَنَّةِ يَوْمَ القِيَامَةِ)) يَعْنِي: رِيحَهَا، رواه أَبُو داود بإسنادٍ صحيح.
- قال حماد بن سلمة: « من طلب الحديث لغير الله تعالى مكر به ».
وإخلاص النية لله تعالى في طلب العلم وفي سائر العبادات واجب عظيم، بل هو
شرط لقبول العمل ، ولذلك فإن أهم ما يجب على طالب العلم أن يعتني به تحقيق
الإخلاص لله تعالى، والتحرّز مما يقدح فيه، وهو أمر عظيم، لكنّه يسير على
من يسَّره الله له، ومفتاح تيسير هذا الأمر هو الالتجاء إلى الله تعالى
وتعظيمه وإجلاله، وصدق الرغبة في فضله وإحسانه، والخوف من غضبه وعقابه، وأن
تكون الآخرة هي أكبر همِّ المرء؛ فإن فساد النية لا يكون إلا بسبب تعظيم
الدنيا وإيثارها على الآخرة، ومن ذلك تفضيل مدح الناس وثنائهم العاجل على
ثناء الله على العبد في الملأ الأعلى، ومحبَّته له ومحبة الملائكة له
تبعاً لمحبة الله تعالى.
وهذا كله راجع إلى ضعف اليقين وإلا فمن أيقن أن الله تعالى يراه ويحصي
عمله، ورغب في فضل الله وحسن جزائه في الدنيا والآخرة: لم يلتفت إلى ثناء
الناس ومدحهم وطلب إعجابهم، بل يكون همُّه إحسانُ العملِ وإتقانه إرضاء لله
تعالى، وتقرباً إليه، وطلباً لمحبته وحسن ثوابه.
وقد بين الله تعالى هذا الأمر بياناً جلياً في آيات كثيرة وبينه النبي صلى
الله عليه وسلم في أحاديث كثيرة وألف العلماء في ذلك كتباً وأبواباً في
كتبهم
قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: {وتوكل على العزيز الرحيم الذي يراك حين تقوم وتقلبك في الساجدين إنه هو السميع العليم}
فيستغني العبد المؤمن برؤية الله تعالى له عن مراءاة غيره, وبثنائه جل وعلا عن طلب ثناء غيره.
ومتى حصل هذا اليقين للعبد اضمحلت عنه دواعي الرياء والسمعة وتلاشت، وحل
محلها عبودية الإحسان العظيمة فيعبد الله كأنه يراه. نسأل الله من فضله.
ثم إن من عرف الناس استراح فهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضراً إلا ما
شاء الله، فضلاً عن أن يملكوا لغيرهم شيئاً من ذلك، بل إنهم لا يملكون الحب
والبغض في قلوبهم التي في صدورهم حتى إن منهم من يحب ما يضره ويكره ما
ينفعه، وربما أحب من لا يحبه، وأبغض من يحبه، وكم من محب أراد نفعاً فأضر،
وكم من عدو أراد ضراً فنفع.
فمعرفة حقيقة الناس وما يملكون تقطع عن العبد دواعي التعلق بهم ومراءاتهم،
بل يرى أنه من السخف والسفه الاشتغال بهم عن طلب رضى الله عز وجل وتحقيق
عبودية الإخلاص له جل وعلا.
ولذلك كان من جزاء المؤمن المتقرب إلى الله بما يحب أن يحبه الله تعالى
ويضع له القبول والمحبة في قلوب عباده كما قال الله تعالى: {إن الذين آمنوا
وعملوا الصالحات سيجعل لهم الرحمن ودا}
قال ابن عباس: (محبة في الناس في الدنيا).
وقال مجاهد: (يحبهم ويحببهم إلى خلقه).
وقال قتادة: (ما أقبل عبد إلى الله إلا أقبل الله بقلوب العباد إليه، وزاده من عنده).
وقال ابن كثير رحمه الله: (يخبر تعالى أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين
يعملون الصالحات، وهي الأعمال التي ترضي الله عز وجل، لمتابعتها الشريعة
المحمدية -يغرس لهم في قلوب عباده الصالحين مودة، وهذا أمر لا بد منه ولا
محيد عنه. وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم
من غير وجه).
كما جاء في الحديث الصحيح الذي رواه مالك وأحمد والبخاري ومسلم وغيرهم من
طرق عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل؛ فقال: إني أحب فلاناً فأحبه.
قال: فيحبه جبريل ، ثم ينادي في السماء : إن الله يحب فلاناً فأحبوه فيحبه أهل السماء .
قال: ثم يوضع له القبول في الأرض.
وإذا أبغض عبداً ، دعا جبريل فيقول : إني أبغض فلاناً فأبغضه.
قال: فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء : إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه.
قال : فيبغضونه ، ثم توضع له البغضاء في الأرض)). هذا لفظ مسلم.
وفي صحيح ابن حبان من حديث محمد بن المنكدر عن عروة عن عائشة قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((
من التمس رضا الله بسخط الناس رضي الله تعالى عنه وأرضى الناس عنه، ومن
التمس رضا الناس بسخط الله سخط الله عليه وأسخط عليه الناس)) وقد رواه عبد الرزاق وابن أبي شيبة والترمذي وهناد وغيرهم بلفظ مقارب.
ولذلك فإن المرائي لما طلب رضا الناس وإعجابهم بسخط الله تعالى كان جزاؤه
سخط الله تعالى عليه وسخط الناس؛ فمن أبصر هذا حقيقةً انزجر عن الرياء،
وأيقن بعدم نفعه، بل بسوء عاقبته، وشناعة جرمه، وأن الناس لن يغنوا عنه من
الله شيئاً، فلا يعمل لأجلهم، ولا يدع العمل لأجلهم
ثوب الرياء يشفُّ عما تحته ... فإذا التحفت به فإنك عار