11 Jul 2016
الفرق بين العلم النافع والعلم غير النافع
مما يجب على طلاب العلم معرفته وتبيّنه أنّ العلم منه نافع وغير نافع.
فأما العلم النافع فينقسم إلى قسمين:
1. علم ديني شرعي؛ وهو ما يتفقّه به العبد في دين الله عز وجلّ، ويعرف به هدى الله عزّ وجلّ في شؤونه كلها من الاعتقاد والعبادات والمعاملات وغيرها.
2. وعلم دنيوي، وهو
العلم الذي ينفع المرء في دنياه كالطب والهندسة والزراعة والتجارة
والصناعة وغيرها من العلوم الدنيوية التي ينتفع بها الناس في حياتهم
ومعايشهم.
ومرادنا في هذا المقام هو العلم الشرعي، وهو الذي تتعلق به نصوص فضل العلم، وبتحصيله يعدّ المرء من علماء الشريعة.
وأما العلم الدنيوي النافع فتحصيله داخل في جملة حثّ النبي صلى الله عليه
وسلم على تحصيل ما ينفع، كما في صحيح مسلم من حديث أبي هريرة رضي الله عنه
عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (احرص على ما ينفعك).
ومن العلوم الدنيوية النافعة ما هو فرض كفاية على المسلمين، وقد يتعيّن على
بعض أفرادهم في أحوال، ومن طلب علماً دنيوياً نافعاً بنيّة صالحة أثيب
على طلبه لذلك العلم، وأثيب على نَفْعِهِ المسلمين بعلمه.
التحذير من العلم الذي لا ينفع
- وقد صحّ عن النبي صلى الله عليه وسلم أنّه استعاذ من علمٍ لا ينفعْ، وهذه الاستعاذة دليل على أنّ فيه شرّا يجب التحرّز منه:
- فعن زيد بن علقمة رضي الله عنه قال: كان من دعاء النبيِّ صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِن عِلْمٍ لَا يَنْفَعُ، وَمِن قَلْبٍ لَا
يَخْشَعُ، وَمِنْ نَفْسٍ لَا تَشْبَعُ، وَمِنْ دَعْوَةٍ لَا يُسْتَجَابُ
لَهَا)) رواه مسلم.
- وعن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((سَلُوا اللَّهَ عِلْمًا نَافِعًا، وَتَعَوَّذُوا بِاللَّهِ مِنْ عِلْمٍ لا يَنْفَعُ )) رواه ابن ماجه.
وقد فُسِّرَ العلمُ الذي لا ينفع بتفسيرين:
أحدهما: العلوم التي تضرّ متعلّمها.
والآخر: عدم الانتفاع بالعلوم النافعة في أصلها لسببٍ أفضى بالعبد إلى الحرمان من بركة العلم.
• فمن العلوم الضارة؛
السحرُ والتنجيمُ والكهانةُ وعلم الكلامِ والفلسفةُ وغيرها من العلوم
التي تخالف هُدَىٰ الشريعة، وفيها انتهاكٌ لحرماتِ الله عز وجل، وقولٌ على
الله بغير علم، واعتداءٌ على شرعه، واعتداءٌ على عباده، فكل ذلك من
العلوم الضارة التي لا تنفع.
والعلوم التي لا تنفع كثيرة قد افتتن بها كثير من الناس، وتتجدد في كلّ زمان بأسماء مختلفة، ومظاهر متعدّدة.
ومن أبرز علاماتها:
مخالفة مؤداها لهدي الكتاب والسنة؛ فكل علمٍ تجده يصدُّ عن طاعة الله، أو
يُزيِّن معصية الله، أو يؤُول إلى تحسين ما جاءت الشريعة بتقبيحه، أو
تقبيح ما جاءت الشريعة بتحسينه، أو يشكّك في صحّة ما ثبت من النصوص؛ أو
يخالف سبيل المؤمنين؛ فهو علمٌ غير نافع، وإن زخرفه أصحابه بما استطاعوا
من زُخرُف القول، وإن ادّعَوا فيه ما ادّعَوا من المزاعم والادّعاءات، فكل
علمٍ تكون فيه هذه العلامات فهو علمٌ غير نافع.
والفضول قد يدفع المتعلم إلى القراءة فيما لا ينفع، فيعرّض نفسه للافتتان به، وهو ضعيف الآلة في العلم، وقد قال الله تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وقد افتتن بعض المتعلمين بعلم الكلام بعد أن كانوا في عافيةٍ منه حتى صعب
عليهم التخلّص منه، وسبب ذلك مخالفتهم لهُدَىٰ الله تعالى، واتباعهم غير
سبيل المؤمنين.
وكم من طالب علم كان يأمن على نفسه الفتنة، ويغترّ بما حصّله من علم، ودفعه
الفضول وضعف الإيمان إلى الاجتراء على ما حذّر النبيّ صلى الله عليه وسلم
منه، وبيّن لأمّته خطره من العلوم التي لا تنفع؛ فافتتن بها، وغرّه ما
زُيّن له فيها؛ حتى ضلّ بسببها، فمنهم من مات على ضلاله، ومنهم من أدركته
التوبة في آخر حياته، وأخذته الندامة على ما ضيّع من عمره في العلم الذي
نُهي عنه.
1. فهذا أبو معشر جعفر بن محمد البلخي (ت:272هـ) كان
في أوَّل أمره من أهل الحديث، وهو معاصرٌ للإمام أحمد والبخاري ومسلم
وأبي داوود والترمذي وابن ماجه وغيرهم من الأئمة الكبار، لكنّه فُتِنَ
ببعض العلوم غير النافعة؛ وانحرف عن طلب الحديث؛ فاشتغل بالحساب والهندسة،
ومنها إلى علم الفلك والتنجيم، وأوغل في التنجيم والسحر والتكهّن، وتقرب
بذلك إلى بعض الكبراء وأعطوه على ما يخبرهم الجوائز والأعطيات، حتى صار
رئيس المنجمين زمن الخليفة العباسي المعتز بالله، وأكثر من الاشتغال
بالتنجيم والتأليف فيه وفي السحر وطرقه وأوقاته، وله كتاب (مصحف القمر)
قال فيه شيخ الإسلام ابن تيمية: (ذكر فيه من الكفريات والسحريات ما يناسب
الاستعاذة منه).
وقد ذكر الذهبيّ أنّه تعاطى التنجيم بعدما بلغ الأربعين، وعُمِّر
حتى جاوز المائة؛ فيكون مولده قريباً من مولد الإمام أحمد، ولو أنّه ثبت
على طريقة أهل العلم، ولم يزغ عنها، لرجي له أن يعدّ مع هؤلاء الأئمة
الكبار.
2. وهذا أبو المعالي الجويني واسمه عبد الملك
بن عبد الله (ت: 478هـ) كان قد أقبل على علم الكلام مع معرفته بنهي العلماء
عنه، وتحذيرهم منه، وأوغل فيه حتى بلغ طبقة كبار المتكلمين الذين استولت
عليهم الحيرة وأخذهم الشك؛ وتبيّن له أنّ هذا العلم لا يهدي للحقّ، ولا
يورث اليقين، وإنما يثير الشكّ، ويجلب الحيرة، ويهدم الدين.
نقل شيخ الإسلام ابن تيمية عن الحسن بن العباس الرستمي أنه قال: (حكى لنا
الإمام أبو الفتح محمد بن علي الطبري الفقيه قال: دخلنا على الإمام أبي
المعالي الجويني نعوده في مرضه الذي مات فيه بنيسابور، فأُقْعِدَ؛ فقال
لنا: "اشهدوا علي أني رجعت عن كل مقالة قلتها أخالف فيها ما قال السلف
الصالح، وأني أموت على ما يموت عليه عجائز نيسابور").
وقال ابن تيمية أيضاً: (روى عنه ابن طاهر أنه قال وقت الموت: لقد خضت البحر
الخضم وخليت أهل الإسلام وعلومهم ودخلت في الذي نهوني عنه، والآن إن لم
يدركني ربي برحمته فالويل لابن الجويني، وها أنا أموت على عقيدة أمّي).
3. وهذا محمّد بن عمر الرازي (ت:606هـ) صاحب المؤلفات الكثيرة،
ومنها التفسير الكبير الذي حشاه بالشبهات والأسئلة والاعتراضات، كان قد
توغّل في علم الكلام حتى صار من كبار المتكلّمين، وأضاع أكثر عمره في البحث
والأسئلة وجمع أقوال المتكلمين وإيراد الشبّهات وتكثيرها، والتعمّق في
بحث مسائل الاعتقاد على الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية حتى أدركته
الندامة في آخر حياته لمّا تبيّن له أن تلك الطرق إنما تنتهي بصاحبها إلى
الحيرة والشكّ، وأنشد في ذلك:
نهاية إقدام العقول عِقَالُ ... وأكثر سَعْي العالمين ضلال
وأرواحنا في وحشة من جسومنا ... وحاصل دنيانا أذى ووبال
ولم نستفد من بحثنا طول عمرنا ... سوى أن جمعنا فيه قيل وقالوا
وقال: (لقد تأملت الطرق الكلامية والمناهج الفلسفية؛ فما رأيتها تشفي
عليلا، ولا تروي غليلا، ورأيت أقرب الطرق طريقة القرآن؛ أقرأ في الإثبات:
{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى}، {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ
الطَّيِّبُ} ، واقرأ في النفي {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} {وَلا يُحِيطُونَ
بِهِ عِلْماً}، ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي).
قال ابن القيم: (فليتأمل اللبيب ما في كلام هذا الفاضل من العِبَر؛ فإنه لم
يأت في المتأخرين مَن حصَّل منَ العلوم العقلية ما حصَّله، ووقف على
نهايات أقدام العقلاء، وغايات مباحث الفضلاء، وضرب بعضها ببعض، ومخضها
أشدَّ المخض؛ فما رآها تشفي عِلَّةَ داءِ الجهالة، ولا تروي غُلَّة ظمأ
الشوق والطلب).
وذكر الذهبي عن ابن الصلاح أنه قال: (حدثني القطب الطوغاني مرتين أنه سمع الفخر الرازي يقول: ليتني لم أشتغل بالكلام، وبكى).
4. وقال محمد بن عبد الكريم الشهرستاني بعد أن اطّلع على مقالات المتكلمين وأفنى شطراً من عمره في تتبع أقوالهم وجمعها وتصنيفها:
لعمري لقد طفت المعاهد كلها ... وسيرت طرفي بين تلك المعالم
فلم أر إلا واضعاً كف حائر ... على ذقن أو قارعاً سن نادم
5. وقال أبو حامد الغزالي: (أكثر الناس شكاً عند الموت أهل الكلام).
فيجب على طلاب العلم أن يحذروا من العلم غير النافع؛ فإن
فيه من الشرّ والفتنة ما لو تبيّنه طالب العلم لاستعاذ بالله منه، كما
استعاذ منه النبي صلى الله عليه وسلم، ولأيقن أن السلامة في حفظ وقته وقلبه
ودينه مما يضرّه ولا ينفعه.
والمقصود
من بيان نهايات الذين اشتغلوا بما لا ينفع من العلوم نصيحة طلاب العلم
حتى لا يغترّوا بما يجدون في بعض العلوم من الفتنة فينحرفوا إليها ويتركوا
العلم النافع المتلقّى من مشكاة النبوة يرويه العلماء خلفاً عن سلف،
ويتعلمونه على منهاجٍ بيّن قائم على تصديق الخبر الصحيح، واتّباع الهدى
المستقيم.